خطاب تأبيني لأحدى المؤمنات في مدينة البصرة

بأسم الآب والأبن والروح القدس الإله الواحد آمين

” ما أحب مساكنك يا رب الجنود تشتاق بل تتوق نفسي الى ديار الرب .

العصفور ايضاً وجد له عِشاً على مذابحك يا رب الجنود ” .

 

ما أعظم النفوس التقية المتعلقة بالله تعالى تعلقاً شديداً لا انفصال بعده ولا فراق . فالتقوى يضم بينها وبين ربها الذي هو الهدف الاسمى لجميعِ هذه النفوس . ونفس النبي داود بهذه الآية الكريمة مُتعلِقة بربها تعلقاً شديداً ، لذلك نسمعه يقول : ” ما أحب مساكنك يا رب الجنود تشتاق بل تتوق نفسي الى ديارِ الرب .” وهذا هو شأنُ المؤمنين ، شأنُ الأتقياء ، شأنُ الذين يتعلقون بالله تَعلُقاً شديداً . وفي هذا الصباح ونحنُ أمام اللهِ تعالى ، نحتفلُ بإقامةِ هذا القداس الإلهي لراحة مؤمنة فاضلة من بناتِ كنيستنا هذهِ ، ذهبت الى ربها بعد ان عاشت حياة التقوى في هذا العالم .وبعد ان كانت التقوى عميقةً في نفسِها وكأنني بها في كلِ أيامِ رُشدها ، كانت تنشد مع النبي داود هذه الآية الجميلة بقولها : ” ما احب مساكنك يارب الجنود ، تشتاقُ بل تتوقُ نفسي الى ديارِ الرب.” نعم هكذا كانت المؤمنة الفاضلة “البيرة ” ، المؤمنة التي تعلقت بربها تعلقاً شديداً واحبت بيته محبةً شديدة ، واضطرمت بحُبِ ديارهِ اضطراماً شديداً . ولا غرو ، فأنها أنشدت مع النبي داود هذه الكلمات لأنها متعلقة بربها شأن كل نفسٍ تقية ، نقية . وهكذا كانت في كُلِ يومٍ أحد ، وفي كل مناسبة روحية تقصد الكنيسة ، لكي تسكب قلبها امام الله مشتاقةً ، تواقةً الى ديارِ الربِ . مُطمئنةً بحُبِ الله ، رافعةً نفسها التقية الى الله تعالى، شأنَ جميع الاتقياء المباركين . فليس كثيراً عليها ان تُنشِد مع النبي داود آيتهِ الجميلة هذهِ وتقول : ” ما احبَ مساكنك يارب الجنود…”. أجل كانت مساكن رب الجنود محبوبةً لديها ومُفضلة لديها ، ومذابحُ الله كانت موضِع شوقها وحنينها ، ذلك لأن في نفسها تقوى ، وفي قلبها شوقٌ الى الله تعالى . والآن بعد ان ذهبت الى ربها ونحنُ أمام هذا القربان المقدس ، نُعيدُ ذكراها العاطرة في هذه البيعة التي أحبتها والتي تعبدت للهِ فيها . وأنني واثقٌ كل الثقة بالايمان ، ان روحها التقية تُشاركنا الآن الصلاة ، وحُضورها معنا امام الله ، هذا الحضور الروحي يجعلنا ان ننال قوةً من الايمان وان نُنشد معها انشودتها المفضلة العظيمة : ” ما احب مساكنك يارب الجنود..” نعم ان تلك الروح التقية لهي معنا الآن تُشاركنا الصلاة وتُشاركنا الأنكسار أمام اللهِ تعالى ، بالتقوى والفضيلة والروح . ذهبت الى ربها بعد ان جعلت ذكراها في كل قلبٍ عرفها . وفضائلها قدوةً صالحة لكلِ إنسانٍ خَبَرَ تلك الفضائل. لذلك فقدنا فيها شيئاً ثميناً جداً ، مؤمنةً صالحةً جداً . أُماً فاضِلةً جداً . وقد كانت في كُلِ مرة تجمع أولادها وتأتي بهم الى الكنيسة ، بعد أن أرضعتهم لبان التقوى من ثدييها ، وأعطتهم تعاليم الرب من انجيلهِ المقدس . هذهِ كانت فقيدتنا العزيزة ” البيرة ” ، وهي نادرةُ المثال في تقواها وفي خُلُقِها وفي تعلُقِها بالله تعالى . إذاً إذا كانت هذه تقواها فلِما يا احبائي نذرف الدموع عليها ؟ لماذا نذرفُ الدموع على فراقِها ونحنُ متأكدون إنها ذهبت بأعمالها الصالحة وجُعبتها المليئة بالفضائل الكثيرة وايمانها الحي ومحبتها الراسخة وتعلُقها بربها التعلق الشديد . نُقِضَ بيتُ خيمتها الأرضي ، فغادرت الى ذلك البيت الذي لم تصنعه الايدي البشرية . البيت الابدي الذي عَلمنا وكشف لنا سِرهُ رسول الامم بولس بقولهِ : ” إذا نُقِضَ بيتُ خيمتنا الأرضي هذا فلنا بيتٌ في السماءِ لم تصنعهُ أيدٍ أبديٌ ” .

أنتقلت ألبيرة الفاضلة الى ذلك البيت ، وتركت بيتها الارضي هذا يبلى تحت أطباق الثرى . البيت الذي صُنعَ ، والبيت الذي يبلى والبيت الذي يفنى ، تركتهُ الى البيت الذي لم يُصنع بايدٍ ، أبدي ، تركتهُ الى الخدر السموي الذي اعدهُ الله تعالى لها ، ولجميعِ الاتقياء . ما بالنا يا أحبائي نكتئبُ على فقدِها ونحنُ مؤمنون كل الايمان ” إنهُ يمسحُ الله تعالى كُل دمعةٍ من عيونهم ، بل يرفعُ كلَ ألمٍ من قلوبهم “. هذا ما علمنا كتابُ الله ، وهكذا نحنُ واقفون ومنتظرون . فالدمعةُ التي ذرفتها على فراقنا إنما نزعها الله تعالى بقوتِهِ ، والحسرات التي أصعدتها في الهواءِ وهي تشتاقُ الى مدينتها هذهِ والى أهلها والى اولادها والى اخوانها واخواتها ، بل الى جميعِ ابناءِ بيعتها إنما ذهبت الى الله لكي توضح ما كان في ذلك القلب الكبير من الايمان والرجاء والمحبة . أجل يا احبائي ان تلك الحالة التي اعترتها وهي تفارق هذه الحياة الارضية لا نستطيع ان نصفها الوصف الحقيقي . ونحنُ بأفكارِنا الباطلة لا نستطيع ان نتوصل ذروة الوحي الإلهي . غير اني واثقٌ ، كانت مطمئنةً لانها مؤمنة ، غير اني متاكدٌ كل التأكد انها كانت مشتاقة ان تترك هذا الجسد الذي بلته الآلام والذي برحت بهِ الأمراض والاوجاع ، كانت مشتاقة تواقة ان تذهب الى ربها هناك حيث لا مرض ، ولا ألم ، ولا فناء .

————————————–

مقطع من خطاب تأبيني أرتجله المثلث الرحمات العلامة مار غريغوريوس بولس بهنام في كنيسة السيدة العذراء في البصرة لدى صلاة التجنيز لأحدى المؤمنات .

هذا مقطع مجتزئ من التأبين فقط لأن الشريط التسجيلي الذي بحوزتنا ليس كاملا ، ولكننا رأينا انه من الضروري ان يضاف الى آرشيفه التابيني..

منقول من الموقع الرسمي لمحبي المطران بولس بهنام