العلامة الأرخدياقون نعمة الله دنو
لقيته لأول مرة سنة 1949م أثناء قداس احتفالي في كاتدرائية مار توما في الموصل الحدباء وكنت يومئذ في السادسة عشرة من عمري طالباً في معهد مار أفرام الكهنوتي. كنت في سمعت الكثير عن الأرخدياقون نعمة الله دنو، ولكن لم تكن فيني في اكتحلت بمنظره الوسيم، ولم تشنف أذناي بسماع صوته الرخيم، ولئن كانت شهرته قد طبقت الخافقين فقد كان أشهر من نار على علم، وخاصة في الأوساط الدينية، وعلى الأخص في معهدنا الكهنوتي حيث كنا كثيراً ما نستعرض قائمة أسماء العلماء السريان في الماضي والحاضر ونصنفهم حسب تخصصهم وبقدر ما كان لنا من معرفة، وكنا نضع الأرخدياقون دنو في المرتبة الأولى بعد المثلث الرحمة العلامة البطريرك أفرام الأول برصوم والمثلث الرحمة العلامة المطران يوحنا دولباني خاصة ونحن نعلم أن أستاذينا الراهبين بولس بهنام (مطران الموصل ثم بغداد بعدئذ) وعبدالأحد توما (البطريرك يعقوب الثالث بعدئذ) كانا يستشيرانه في مسائل لغوية سريانية وتاريخية ولاهوتية عويصة، وكنا قد قرأنا له في العربية مقالات عديدة وكتباً جدلية شتى ودرسنا مبادئ اللغة السريانية في سلسلة كتب القراءة التي ألفها بأسلوب شائق وطريقة تربوية ناجحة للصفوف الابتدائية وحتى الصفوف العالية، وزينها بالرسوم الجميلة وأكثر فيها من القصائد البديعة التي يسهل على الطالب حفظها عن ظهر قلب لعباراتها الموسيقية كما عرب الكلمات الصعبة ودونها في الهوامش، وهو في نثره وشعره ينفح في القارئ والدارس روح الحماسة بمحبة الكنيسة والوطن والتغني بأمجادها والاقتداء بالآباء الميامين، لذلك أحببنا الأرخدياقون دنو من خلال دراسة كتبه السريانية ومطالعة مقالاته العربية اللاهوتية والتاريخية والأدبية وخاصة الجدلية، وكنا نتحمس معه للذود عن حياض الكنيسة والدفاع عن حقها المقدس، ونحن نشعر بأننا نشاركه مسؤولية منازلة الخصوم في ميدان الجهاد، ونرى فيه داود يظفر بجليات باسم الرب الإله، فلا تستغربن أيها القارئ الكريم الفرحة العارمة التي شملتني وزملائي بلقائنا المفاجئ الأرخدياقون نعمة اللـه دنو واقفاً في مذبح كاتدرائية مار توما في الموصل، وكانت تلك المرة الأولى التي يشاهد أغلبنا «أرخدياقوناً» يخدم في مذبح الرب بحلته الأنيقة الجميلة التي تشبه حلة الكاهن ما خلا بدلة القداس. فكنا نرنو إليه شاخصين ومراقبين حركاته وسكناته، فرأينا وجهه وكأنه وجه ملاك، لهدوئه وخشوعه ودعته وتواضعه وهو يسكب نفسه بالصلاة أمام اللـه تعالى.
وفي اليوم التالي زارنا الأرخدياقون دنو في المعهد الكهنوتي، فكان لنا ذلك اليوم عيداً سعيداً، واستمعنا إليه بشوق ورغبة وهو يلقي علينا محاضرته في موضوع (التركيخ والتقشية) وكان كالبحر الزاخر الهادر يتدفق علماً ومعرفة، وأعجبنا بأسلوبه السهل الممتنع في تقريب الحقائق إلى ذهن السامع وخاصة في شرح موضوع شائك في اللغة السريانية كموضوع «التركيخ والتقشية» ولكن الأرخدياقون كان ابن بجدتها وقد ملك ناصية اللغة وسبر غورها وعرف سرها وتعمق في قواعدها وبلاغتها، وبيانها وبديعها، ثم ألقى علينا كلمة توجيهية قيمة حثنا فيها على التمسك بالقيم الروحية، والاهتمام بدراستنا.
منذ ذلك التاريخ وصورة الأرخدياقون دنو عالقة في ذهني، وكلماته الطيبة راسخة في قلبي، ولقيته بعدئذ أكثر من مرة، وكنت في كل مرة ألتقيه أزداد إعجاباً به، فقد كان المصلح الصالح وأحد الرواد القليلين للنهضة الروحية والاجتماعية والعلمية لكنيستنا في القرن العشرين.
ولد نعمة اللـه دنو في الموصل سنة 1884م وكان أبوه عبد الكريم دنو شماساً ووكيلاً في كنيستي مار توما والطاهرة الخارجية، فنشأ نعمة اللـه محباً للكنيسة، شغوفاً بتحصيل العلوم الدينية والمدنية، فبعد أن درس في مدرسة مار توما مبادئ اللغتين السريانية والعربية والطقوس الدينية، انكب على المطالعة سواد ليله وبياض نهاره، فهو عصامي تعلم واتخذ خير الكتب أساتذة له كما راسل العلماء الأفاضل من رجال الدين والعلم والمعرفة فصار عالماً مثلهم.
رسم شماساً قارئاً سنة 1896 وأفودياقوناً (دون الشماس) سنة 1913 وإنجيلياً وأرخدياقوناً سنة 1941 وكان قد تزوج ورزق أبناء وبنات فكان نعم الزوج ونعم الأب.
مارس المترجم مهنة التجارة في الموصل بلدته ونجح فيها واشتهر بين أقرانه باستقامته، وصدق كلامه، وتقواه. ومما يذكر عنه أنه كان حريصاً على حفظ يوم الرب فلم يستلم أو يسلم بضاعة أو مالاً أو دراهم في يوم الأحد.
وكان في وقت فراغه في متجره أو داره يتكب على درس المخطوطات السريانية وغيرها من الكتب وينشىء المقالات والأبحاث القيمة فهو دؤوب على القراءة والكتابة لا يعتريه في ذلك ملل ولا كلل، وقد أولع بجمع الكتب المخطوطة منها والمطبوعة السريانية والعربية والأجنبية فأفاد منها كثيراً. وقد تكونت لديه خزانة كتب قيمة جداً في موضوعات شتى، ففيها التاريخية، واللاهوتية، واللغوية، والفلسلفية والأدبية وغيرها، وغذى مكتبته بما اشتراه من مجلدات من اوروبا أثناء زيارتيه لها سنتي 1924 و1925 وقد أهدى ذووه مكتبته هذه إلى معهد مار أفرام الكهنوتي بعد انتقال الأرخدياقون إلى جوار ربه، بناء على وصيته.
كان المترجم عفيف النفس، يتجنب الربح القبيح ، ولم يكن من ذوي اليسار ولم يكتنز الأموال الطائلة على الرغم من ذكائه في مهنة التجارة، ذلك أنه كان يقضي أوقاتاً طويلة في خدمة الكنيسة والملة مجاناً. فكان يعظ في الكنائس في الأعياد السيدية، والمناسبات الاجتماعية، وكان واعظاً ناجحاً قولاً وعملاً، يعظ الناس بسيرته قبل وعظهم بكلامه.
وكان عضواً في المجلس الملي في الموصل ثم في بغداد، وعضواً في لجنة مدرسة دير مار متى الكهنوتية من سنة 1929 وحتى سنة 1935، وكان يدرس السريانية لطلاب مدرسة مار توما من سنة 1909 وإلى سنة 1918 ويدرس طلاب وطالبات المدارس المتوسطة والثانوية علوم الدين والسريانية حتى انتقاله إلى بغداد سنة 1942 وكل خدماته هذه كان يقدمها مجاناً لوجهه تعالى.
كما أنه كان في مقدمة مؤسسي جمعية الإحسان في الموصل سنة 1926 ولهذه الجمعية تاريخ حافل بالمكارم، فقد سدت حاجة الفقير، وآوت الغريب وساعدت اليتيم والأرملة، بل عضدت العديد من الطلاب النبهاء الفقراء وساعدتهم على إكمال دراساتهم العليا، ومما يسجل بالفخر لهذه الجمعية ولمؤسسيها وفي طليعتهم المرحوم الأرخدياقون نعمة اللـه دنو، أنها اهتمت بإيواء المهاجرين السريان الذين جاؤوا إلى الموصل لا يملكون شروى نقير، فسدت حاجتهم وهيأت لهم دوراً وأسكنتهم ومما هو جدير بالذكر في هذا المقام أن أبرشية الموصل كانت تملك الشيء الكثير من الأواني الكنسية الذهبية والفضية فباعت القسم الكبير منها وصرفت المال على المهاجرين.
جاء في رسالة كتبها المرحوم الأرخدياقون دنو في 30 نيسان 1926 من الموصل إلى الأديب الكبير المرحوم روفائيل بطي في بغداد ما يأتي: «شغلتنا نكبة إخواننا في آزخ وقضاء نصيبين في هذه الأيام فأولئك المنكودو الحظ لم يكف ما نالهم من الضيم والجور في السنوات الماضية حتى صب عليهم الأتراك في أوائل الشهر الماضي كأس الانتقام الأخير فقد استاقوا رجال آزخ وشبانها إلى جهات مجهولة، وأطلقوا الجنود في القرية فأمعنوا فيها سلباً ونهباً، وغادروا النساء والأطفال والعجزة تحت رحمة الجوع والسبي، وعذبوا مطرانهم الشيخ مار يوليوس تعذيباً قاسياً، وفي قضاء نصيبين حين ذهبت الجنود للاقتصاص من (حاجه) الزعيم الكردي عمدوا إلى عدة قرى مأهولة بالسريان فأحرقوها ونسفوا ديري مار ملكي ومار دودو المشهورين وأماتوا رهبانهما رمياً بالرصاص لأنه عزَّ عليهم أن يغادروا ديريهم، ولقي المطران الشيخ مار صموئيل حتفه لشدة الأمطار التي هطلت عليهم وهو يهرب مع المصطهدين، وقد لجأ إلى الموصل نحو خمسمائة نسمة من الذين تمكنوا اجتياز المسافة هرباً وهم حفاة عراة في أشد حالات البؤس والشقاء، وجمعيتنا (الإحسان) تسعى لإيوائهم وتخفيف ويلاتهم، ويصل في كل يوم عدد من اللاجئين المظلومين، وسترفع الجمعية نداءها إلى الجهات القريبة والبعيدة لتمد يد المساعدة والغوث إلى هؤلاء المنكوبين لأن القيام بتدبيرهم وإسكانهم يحتاج إلى نفقات طائلة، إذا رأيتم مناسباً فانشروا شيئاً، في جريدة العراق على أن لا تجرحوا احساسات الحكومة التركية رأفة بالسريان المطمئنين الآن في ديار بكر وماردين وقضاء مذيات لئلا تعمد الحكومة التركية إلى إيذائهم عمداً متى رأت الجرائد العراقية تندد بفظائعهم».
من مطالعتنا لهذه الرسالة وغيرها نلمس الحكمة التي أنعم اللـه بها على الأرخدياقون دنو، فقد كان حقاً كمار اسطيفانوس رئيس الشمامسة، «مشهوداً له بالفضل ومملوءاً من الروح القدس والحكمة»(أع6: 3) يكمل وصية الرب «كنت غريباً فآويتمنوني» وفي الوقت نفسه يلهمه الروح أن يتصرف بحكمة حتى في ميدان الدفاع عن الحق المهضوم وحماية المضطهدين المشردين والتفكير بإخوة لهم آمنين لئلا ينالوا من الضيم والظلم ما نالوه هم.
نشر المترجم مقالات شتى بالعربية والسريانية في مجالات عديدة منها الحكمة والبطريركية في القدس، والنشرة السريانية في حلب والمشرق ولسان المشرق في الموصل وجريدة لسان الأمة في بيروت والصحف المحلية وله قصائد سريانية تظهر فيها عبقريته وصدق شعوره وتمكنه من اللغة وقد طرق موضوعات عديدة تاريخية ولاهوتية وطقسية وأدبية وغيرها وله خطب ورسائل، ويمتاز أدبه في العربية بجمال العبارة والوضوح وتتجلى في كتبه الجدلية خاصة مقدرته العلمية واللاهوتية والتاريخية، وغيرته الشديدة وتمسكه بالعقيدة الأرثوذكسية بعروة وثقى دون تعصب كما تظهر فيها أخلاقه العالية فهو يقارع الحجة بالحجة ويفحم الخصم بأسلوب مؤدب، وعبارات لطيفة دون أن تصدر منه كلمة بذيئة.
أهم مؤلفاته:
1ـ الأصول الإيمانية، 2ـ الترنيمات الروحية، 3ـ رتبة طقس القداس للشمامسة جزءان، 4ـ تعليم القراءة السريانية ثلاثة أجزاء، 5ـ في أحكام اللغة السريانية، 6ـ كراسة شعانين الأطفال، 7ـ الردعة لدحض مزاعم رجعة القس اسحق أرملة، 8ـ التحفة في تفنيد اللمعة رداً على رسالة المطران يوحنا معمار باشي، 9ـ اقامة الدليل على استمرار الاسم الأصيل واستنكار النعت الدخيل، 10ـ حقائق تاريخية رداً على القس يوسف كوكي، 11ـ جلاء الاخفاق في تاريخ نصارى العراق. وله رسائل شخصية لها قيمتها الأدبية، أهداها إلينا ذووه.
أصيب المترجم في أيامه الأخيرة بمرض عضال، وعولج في بغداد ولندن، ولكن دون جدوى، واحتمل صابراً صبر القديسين آلام المرض المبرحة، وأكمل الفرائض الدينية، ولما زاره الكاهن ـ المرحوم الأب أفرام الخوري ـ ليمنحه الزوادة الأخيرة، طلب إليه الأرخدياقون أن يرتل معه بالسريانية ما قاله مار يعقوب السروجي: «لقد مال النهار إلى المغيب، وأحاقت بي ظلال الموت فكن لي يا ربنا شمساً في المساء لأسير بنورك» وهكذا فاضت روحه الطاهرة إلى السماء في الساعة الثالثة وعشرين دقيقة من بعد ظهر نهار الجمعة المصادف الثامن عشر من شهر أيار سنة 1951 ونقل جثمانه الطاهر من بغداد إلى الموصل حيث ووري الثرى في فناء كاتدرائية مار توما مأسوفاً على علمه وفضيلته فبكته الكنيسة السريانية الأرثوذكسية في كل مكان في العالم، وأقامت الصلوات لراحة نفسه، وسجل اسمه بأحرف من نور في أنصع صفحات التاريخ الكنسي رحمه اللـه.