مواعظ القيامة
لنيافة الحبر الجليل مار غريغوريوس يوحنا إبراهيم
متروبوليت حلب وتوابعها
من سنة 1998 – 2011
1998
ܒܫܡ ܐܒܐ ܘܒܪܐ ܘܪܘܚܐ ܚܝܐ ܩܕܝܫܐ ܚܕ ܐܠܗܐ ܫܪܝܪܐ .. ܐܡܝܢ
المسيح قام . . . حقاً قام
المسيح قام . . . حقاً قام
المسيح قام . . . حقاً قام
” وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء يسوعَ ابنَ يوسف الذي من الناصرة ”
أيها الأحباء…
هذه الشهادة من فيلبس الذي دعاه الرب عندما خرج إلى الجليل قائلاً له اتبعني، وقبل أن يرى فيلبس أعمال الرب العجائبيـة وقبل أن يسمع أقواله المحييّة ويتعرّف عليه عن كَثب ويربط بين مجيئه ونبوات العهد القديم ويدرك أن مسيرة التجسّد قد حصلت فعلاً، وجد نثنائيل وقال له:” وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء ..”
تأمّلوا أيها الأحباء كيف أن يوحنا الرائي في الفصل الأول من إنجيله المقدس يقرّب إلى أذهاننا هذا الموضوع الخطير الذي يبدأ بتجسّد ابن الله وينتهي بحلول الروح القدس مروراً بالقيامة المظفرة التي نعيّد لها اليوم.
افتتاحية إنجيله ” في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله .. وفيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس ..” ليست فقط استعلان يسوع المسيح في الأزلية بصفته الكلمة، ولكنه استعلان يسوع المسيح الكلمة المتجسّد أيضاً. وعلاقة الحيـاة بالنور فيها إشارةٌ واضحة إلى قيامته من بين الأموات. فمَن مِن الأموات يستطيع أن يعطيَ حياةً للأموات، خاصةً وأن يوحنا يتحدّث عن كائنٍ حيّ لا يموت، فيه الحياة كينبوع، ويقول في رؤياه ” أنا هو الألف والياء، البداية والنهاية، أنا أعطي العطشان من ينبوع ماء الحياة مجاناً ” (رؤيا 21:6)
ففي الفصل الأول من إنجيله ننتقل بصورةٍ تدريجية من الميلاد الأزليّ الذي كان قبل كلّ الدهور إلى ولادته بالجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء، إلى شهادة يوحنا المعمدان حين أرسل اليهود من أورشليم كهنةً ولاويين يسألونه ” مَن أنت ” وبعد أن نفى وأنكر وأقرّ أنّه ليس هو المسـيح ولا إيليا ولا ذلك النبي الذي أشار إليه موسى في نبوءةٍ واضحةٍ عن السيد المسيح، أجاب بصريح العبارة ” ولكن في وسطكم قائمٌ الذي لسـتم تعرفونه، هو الذي يأتي بعدي، الذي صار قدامي، الذي لست بمسـتحقٍّ أن أحلّ سيور حذائه ..”
ثم في الغد نظر يسوع مُقبِلاً إليه فقال: ” هوذا حمل الله الذي يرفع خطيّة العالم ”
بعد هذا المشهد وبعد أن اختار يسوع أندراوس وأخاه بطرس نرى أنّ في قول أندراوس لأخيه سمعان ” قد وجدنا ماسيّا ” شبهاً لما قاله فيلبّس عندما وجد نثنائيل ” وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء ”
كلّ هذه لم تكن مجرّد صدفةٍ، وإنّما كانت تعبيراً حقيقياً لرسالة المسيح التي من أجلها تجسّد عندما ” بلغ ملء الزمان وصار إنساناً، وصلب عوضاً عنّا في عهد بيلاطس البنطي، وتألم ومات، ودفن وقام في اليوم الثالث كما شاء ”
إن الفكرة الحقيقية وراء كلِّ هذا العرض في الفصل الأول من الإنجيل المقدس هي أن يؤكّد يوحنا بأن يسوع المسيح هو نور الحياة، والنور الذي جاء إلى العالم ” والنور يضيء في الظلمة والظلمة لم تدركه “.
هذا النور ليس نوراً مخلوقـاً، إنّه النور الخالق الذي هو الحياة. لهذا يشدّد يوحنا الرسول بأن يسوع المسيح هو الحياة التي أصبحت نوراً للناس، والناس كانوا يعيشون في الظلمة. الظلمة التي تعني غياب النور حتى ولو لم يكن لهذا الظلام كياناً، ولكن بغياب النور يصبح كياناً بحدِّ ذاته.
الظلام هنا يعني اللامحبة التي خَلَقَت جوّاً من الحقد والكراهية والحسـد والقتل والنميمة وكلّ أنواع الخطايا والآثام التي عرفها الإنسان عبر تاريخه.
إذاً الظلام أصبح الفجوة بين هذا الإنسان الذي خُلِق في حالة الظلام وبين النور الخالق الذي جاء من أجل الإنسان لكي يُعِيدَهُ إلى مجده الأول.
لم يخطئ أندراوس عندما قال لبطرس إذاً ” قد وجدنا ماسيّا ” الذي تفسيره المسيح، وعرف حقاً فيلبس أنّ في عبارة ” وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء يسوعَ ابنَ يوسف الذي من الناصرة ” أنّ هذا الذي وجدناه هو الرّابط بين العهدين : العهد القديم والعهد الجديد.
العهد القديم الذي كتب فيه موسى والأنبياء، والعهد الجديد الذي كان بيسوع المسيح.
إذاً أيها الأخوة والأخوات…
أندراوس وجد الماسيّا، وفيلبس وجد ” الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء ” ويوحنا يعترف ولا ينكر بأنه ليس المسيح، وليس أيضاً إيليا ولا النبي. وكلّ ذلك لأن اليهود كانوا يقرأون في ملاخي ” هاأنا أرسل لكم إيليا النبي قبل مجيء يوم الرب العظيم المخوف. فيردّ قلب الآباء على الأبناء وقلب الأبناء على آبائهم لئلاّ آتي وأضرب الأرض بلعنٍ “.
ويوحنا عندما سألوه ” إن كنت لست المسيح ولست إيليا ولست النبي مَن أنتَ إذاً ؟” أجابهم : ” أنا صوتٌ صارخٌ في البرية، قوّموا طريق الرب ” وهذه نبوّةٌ وردت على لسان إشعيا الذي عاش قبل المسيح بستمائة سنةٍ إذ قال ” صوتٌ صارخٌ في البرية قوّموا في القفر سبيلاً لإلهنا، كلُّ وَطَئٍ يرتفع وكلُّ جبلٍ وأكَمَةٍ ينخفض، ويصير المعوجّ مستقيماً والعراقيب سـهلاً، فيُعلَن مجدُ الرب ويراه كلّ بشرٍ معاً لأن فم الرب تكلّم ” (إشعيا 40: 1ـ5).
كلّ هذا أيها الأحباء لكي نبيّن بأن يوحنا المعمدان قبل أن يقول أندراوس لأخيه ” وجدنا الماسيّا “، وقبل أن يُحَدِّث فيلبس نثنائيل بأنه قد ” وجد الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء ” نرى يوحنا المعمدان يتحدث عن حمل الله الرافع خطيّة العالم.
تصَوَّر يسوع وهو معلَّقٌ على خشبة، تصوّر ابن الله وهو مصلوبٌ بين لصّين، ومن الطرف الآخر تراءت له خطيئة العالم عظيمةٌ بدءاً من أبينا آدم مروراً بكل الأجيال، قبل وبعد الأنبياء، وانتهاءً بأيامه.
نعم، يسوعَ المسيح جاء بالجسد ليكون المخلّص. صار مثلنا ليفدينا بدمه الكريم. سار على الأرض ليدعو الناس إلى التوبة، وليبني علاقةً جديدة بين الإنسـان المخلوق والله الخالق. كلُّ الذين سـبقوا يسوع من أنبياء وعظماء وصُلحاء وآباء كانوا عبيداً لله. أما يسوع المسيح فهو الوحيد الذي دُعِي حملاً، وعن هذا الحمل قال اشعياء ” كمثل الحمل اقتيد إلى الذبح ” وهو غير الحمل الناموسي الذي كانت توضع على رأسه خطايا الشعب.
فيسوع المسيح لم يحمل خطيئة فئةٍ من الشعب أو مجموعةٍ من الناس بل حمل على عاتقه خطايا العالم.
ذلك الحمل الناموسي كان بريئاً من العيوب والعاهات ولهذا كان يذبح بدلاً من الشعب، والمسيح الحمل الإلهي البريء من كلّ دنسٍ وخطيئة تألم ومات، عوَّضَنا موت الصليب لكي يتحمّل آلام وأوجاع البشرية.
إذاً أندراوس وفيليبّس أرادا أن يعبّرا بعبارة ” وجدنا الماسيّا “، ” وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء ” ليس لليهود فقط بل للعالم بأسره بأن آلام المسيح والإهانات التي أصابته، وحمله الصليب ثمّ صلبه على الصليب كان ليبـيِّـن بأن نهاية صفحةِ الخروف الفصحيّ قد تحقّقت، وكلّ الرموز والإشارات والنبوءات قد تجسّدت في مجيء “يسوع المسيح ابن الله الوحيد الذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسّد من الروح القدس ومن مريم العذراء. تألم ومات ودفن وقام من القبر بعد ثلاثة أيام “.
أيها الأخوة والأخوات…
هكذا عرفنا يسوع المسيح الناهض من بين الأموات. الذين وجدوه مثل فيلبّس وأندراوس، ومَن سمع منهُما وعرفوه بأنّه هو الذي حقّق النبوات والرموز والإشارات في العهد القديم وقدّموه للناس كمخلّص وفادي، ولم يأتِ لفئةٍ معيّـنة من الناس بل جاء لكلّ إنسانٍ آمن به وبرسالته وأعماله العجائبية، وتَبِعَهُ وكرّس حياته ليعيش مع إنجيله ليكون من أبناء وبنات الفضيلة والعمل الصالح والسيرة اللائقة ببشرى الخلاص.
ونحن اليوم على مشارف نهاية قرنٍ، ونستعدّ لاستقبال الألف الثالث للمسيح نؤكّد بأن إيماننا بيسوع المسيح القائم من بين الأموات هو هو كما جاء في الإنجيل المقدّس، وبه ومعه ومن أجله نعيش وسنبقى أمناء على تقديم هذه الشهادة في المجتمع، ومن أجله سنحمل رسالة العمل الصالح بين الناس ليرى أولئك أعمالنا الصالحة ويمجّدوا أبانا الذي في السموات.
أيها الأخوة و الأخوات…
لقد احتفل قطرنا العربي السوري بمناسباتٍ دينية ووطنية في الأسـابيع المنصرمة، أُولاها كان عيد الأضحى المبارك الذي مرّ على اخوتنا المسلمين في كلّ أنحاء العالم. وقد استمعنا إلى الخُطَب في الجوامع والمراكز الدينيـة وتبيّـن لنا بأن ما يجمعنا مع أخوتنا المسـلمين في العمل الصالح، والدعوة إلى الفضيـلة وخدمة الناس والوقوف إلى جانب الفقير والمِعوزّ والمحتاج والمُسنّ والعاجز هو أكثر بكثير مما يفرّقنا.
لهذا نوجّه التحية إليهم جميعاً ونعَيّدهم ونتمنّى أن نبقى في صفٍّ واحدٍ من أجل الدفاع عن القيم والأخلاق والفضائل لينعم العالم بالسـلام والأمن والطمأنينة، ونعيش كلّنا دون تمييز أو تفرقة لأننا بالتالي جميعاً أبناء الله، والله تعالى هو خالق الكلّ.
ثمّ جاءت مناسبة 7 نيسان، عيد حزب البعث العربي الاشتراكي. وقد توجّهنا بالتحية إلى كلّ العاملين في السلطة والحزب في تلك المناسبـة، وصلّينا إلى الله لكي يكون مع القادة والمسؤولين الذين يتحسّسون معنى المسؤولية ويعملون من أجل ازدهار هذا الوطن العزيز وتقدّمه في كلّ المجالات.
ولا ننسى أنّ في هذا البلد الآمن المستقر الداعي إلى السلام الشامل والعادل قيادةٌ حكيمة تتمثّـل في شخص الرئيس الفذّ حافظ الأسد.
وفي 17 نيسان، عيد تحرير هذا الوطن من كلّ أشكال الاستعمار، عيد استقلال الإنسان السوري، عيد الكرامة والعزّة والتلاحم الوطني، عيد كلّ أحرار سوريا، عيد كلّ محبّي تراب هذا الوطن الغالي العزيز. أيضاً توجّهنا إلى الله لكي يمتّع سوريا بالسلام الدائم، ويؤَيِّد رئيسنا حافظ الأسد بقوةٍ منه ويكون معه ليبقى على رأس هذه القيادة الحكيمة بموفور الصحة والعافية ليكمّل مسيرة العمل المتواصل والجهاد والنضال من أجل مواطني هذا البلد الآمن الذي يعمل أيضاً للسلام العادل والشامل في كلّ المنطقة.
ففي هذه المناسبـات فَرِحنا ونفرح لأننا نشعر بأننا جزءٌ من هذا الكلّ، وأعيادهم هي أعيادنا ومناسباتهم هي مناسباتنا.
وبقيت مناسبةٌ أخرى وهي عيد الفصح لدى أخوتنا من الكنائس الكاثوليكية الغربية والشرقية والكنائس الإنجيلية. ونحن سعداء اليوم لأنه تُعَـيِّـدُ معنا مجموعةٌ تمثّل مؤسسة برو أورينتي بقيادة المونسـنيور هانون كوت، ومجموعة شبابٍ من كنيسة المينونايت، ومن مجلس الكنائس العالمي الدكتورة داغمار هيللر.
ولهم ولكم نقول بأن فرحتنا لا توصف في موضوع توحيد عيد الفصح عالمياً.
فورقة العمـل التي أنجزها بعض الخبراء واللاهوتيين من كبار رجال الدين والعلماء المسيحيين من العالم في مطرانيتنا في آذار السنة الماضية، والتي دعت إلى توحيد عيد الفصح عالمياً أصبحت خطّةً، وهي الآن تستقطب دعماً كبيراً من جميع الكنائس.
فبعد اختلاف التـاريخين نتيجة عدم اتفاق على التقويم المُصَحَّح من قبل البابا غريغـوريوس الثالث عشر منذ أربعمائة سنة، تعود كنائس المسـيح من البروتستانت والكاثوليك والأرثوذكس، ومن خلال هذا الجو المسكوني الرائع الذي فيه انفتحت الكنائس المسيحية على بعضها ثم على بقية الأديان، تعمل من أجل تاريخٍ مشتركٍ لعيد الفصح. وهذه بشرى نأمل أن تتحقق قبل أن نعبُر إلى الألف الثالث للميلاد.
نرحّب بضيوفنا من مؤسسة برو أورينتي ومجلس الكنائس العالمي وكنيسة المينونايت من أمريكا ونُعَيِّـدكم جميعاً أنتم الذين اشتركتم معنا في هذه الكاتدرائية، والذين يسمعون إلينا عبر إذاعة حلب التي لها شُكرنا.
وهي مناسبة أيضاً أن نرفع من بعيد حبّـنا وتقديرنا واحترامنا لراعي رعاة كنيستنا قداسة بطريركنا المعظّم مار اغناطيوس زكّا الأول عيواص الذي يزور أهلنا وأهله، الكنائس المسيحية والأبرشيّات السريانية، في العراق البلد الجار والحبيب.
لقداسته نقول كلّ عيد وأنتم بخير، وللعراق الحبيب نسأل أن يعمّ فيه السلام ويعود إليه الاستقرار ويبقى بلداً آمناً مستقِلاً مُوَحَّداً مُعَزَّزاً مُكَرّماً.
وكلّ عيد وجميعكم بخير
عيد القيامة
1998
1999
ܒܫܡ ܐܒܐ ܘܒܪܐ ܘܪܘܚܐ ܚܝܐ ܩܕܝܫܐ ܚܕ ܐܠܗܐ ܫܪܝܪܐ .. ܐܡܝܢ
ܩܡ ܐܠܗܐ ܡܢ ܩܒܪܐ .. ܒܬܫܒܘܚܬܐ ܘܚܝܠܐ ܪܒܐ
المسيح قام . . . حقاً قام
أيها الأحبة…
بهذه العبارة : ” المسـيح قام، حقـاً قام ” كان المسيحيون الأوائل يتبادلون السلام والتحية في الكنائس والمنازل والشوارع والأزقة، معلنين عن إيمان الكنيسة كلها من مشـارق الأرض إلى مغاربها، بذلك الحدث الهام الذي وقع قبل عشرين قرناً في مدينة أورشليم ـ القدس، مدينة السلام، كما يحدّثنا الإنجيل المقدس.
” المسـيح قام، حقـاً قام ”
هي العبارة التي تعبّر باختصار عن ذلك الدرب الطويل الذي نهجه السيد المسـيح ابن الله الحي لمجيئه إلى الأرض بالجـسد، وبحيـاته كإلهٍ تام وإنسانٍ تام مع الناس إلى أيام وصوله إلى الصليب، والآلام، فالقيامة المظفرة.
” المسـيح قام، حقـاً قام ”
هذه العبارة القصيرة والغنية بمعانيها تصوّر لنا ما جاء على لسان الأنبياء في العهد القديم من نبوّات ورموز وإشارات أكّدت مجيء المسـيا على أساس مفهوم القيامة. هي العبارة التي تشـرح لنا كـلام السـيد المسـيح لتلاميذ يوحنا المعمـدان : ” اذهبا وأخبرا يوحنـا بما تسـمعان وتنـظران، العمي يُبصرون والعرج يمشـون والبرص يُطهـَّرون والصُّم يسمعون والموتى يقومون والمساكين يبشِّرون، وطوبى لمن لا يعثـر فيّ ” (متى 11: 2ـ6).
” المسـيح قام، حقـاً قام ”
هي العبارة التي تؤكّد حقيقة ما سمعته النسوة عندما أتينَ إلى القبر حاملاتٍ الحنوط الذي أعدَدْنَـهُ، ومعهُنَّ أناسٌ، بدءاً من لحظة رؤيتِهِنَّ للحجر مدحرجاً عن القبـر، ومروراً بدخولِهِنَّ إلى القبر ولم يجدن جسد الرب يسوع، وانتهـاءً بموقف الحيرة والدهشة من هذا المنظر، وبالرجلين اللذين وقفا بهنّ بثيـابٍ برّاقة يقولان لهن: ” لماذا تطلُبْن الحيَّ بين الأموات، ليس هو ههنا، لكنه قام “.
” المسـيح قام، حقـاً قام ”
العبارة التحية، كانت دائماً محور كتابات الآباء والمعلمين والملافنة عبر الأجيال. كما كانت وراء هذا التقليد الكنـسي الذي هو صدى لتعاليم المجامع المسكونية خاصةً. كل هذا التراث الآبائي كان لكي ينتقل هذا الحدث الأهم إلى الشعوب والأمم فتحصل الكرازة وتكمُل البشارة بقيامة ربنا يسوع المسيح من بين الأموات. هذا الحدث الذي غيـّر المفاهيم والمعاني، خاصةً في العلاقة التي تربط الإنسـان بأخيه الإنسان، والإنسان بالله تعالى خالق السموات والأرض.
أيها الأحبة، أنقلكم إلى فكر أحد الآباء الذين تحدّثوا عن القيـامة بأسلوب مميـّز، إنه الملفان مار يعقوب السـروجي، أحد شعراء الكنيسة السريانية الأرثوذكسية في القرن الخامس للميلاد. لقد شرح حدث القيامة كما يلي : ” ومضت جمعة الآلام وسبت الراحة عن الصليب، فأشرق أحد القيامة، وأفزعنا بجماله الخلاب وهو متّـشـح ضياءً ولابـسٌ شـعاعاً ومغطى بالنور كالثوب. وضع على هامته إكليل انبعاث، ويحمل بشارة القيامة ليصد خطوات الموت عن الخليقة. وصرخ واجتمع التلاميذ وغُـلبوا بالبشـرى. وتبـدّد الصالـبون كلُّهم. بدل النهار المضيء، الأحـزان التي حدثـت في الليل المدلهم “.
وعندما يأتي على ذكر قول القديس مار بولـس الرسول : ” أين غلبتك يا موت، أين شوكتك يا هـاوية ؟ ” يتصوّر مار يعقوب السـروجي كيف أن الحياة تستخف بالموت، وكيف أن القبر الذي ضم جسـد يسوع المسـيح ثلاثة أيام قد أصبح خدراً للعريس. صحيح أن باب الهاوية قد أغلق ولكن باب المعمودية قد فتح. والصليب المقدس الذي سُـمر عليه يسـوع قد أصبح مجـرى ينبـوع ارتوت منه الأجيـال من هذا القطيع الناطق المؤمن بالقيامة.
مار يعقوب السروجي عندما يريد أن يختم قوله عن القيـامة يقول : ” في هذا العيد البهيـج بهذا المقدار، والغني والسعيد بالتسابيح و الألبسة الفاخرة، نسينا كل فقرنا، ونعـتبر أنفسنا كأننا لم نعرف العوز، ونحسب أنفسنا غنيةً بمجد يسوع إلهنا كأننا في عدن فردوس الله “.
أيها الأحبة…
دعونا نتأمل في الأحداث التي وقعت بعد حدث القيامة بأيام، لأنه من المهم جداً أن نتطـلّع إلى حالة الرسل في أسبوع الآلام خاصةً عند الإهانات التي تلقاها يسوع المسيح من صالبيه وساعة صلبه على الجلجلـة محاطاً بلصّين الواحد عن اليمين والآخر عن اليسار، ثم دفنه في قبرٍ جديد.
ولنتساءل أنه لو لم يكن المسيح قد قام، كيف كان من الممكن أن نتصوّر شكل الكنيسة. لقد استطاع القديس بولس الرسول أن يواجه بل يتحدّى الذين لم يؤمنوا بالقيامة بعد أن شاهد يسوع يتكلم معه في طريقه إلى دمشق حاملاً رسائل لاضطهاد المسـيحيين الأوائل. وجاءت كلماته إلى أهل كورنثوس الأولى شـهادة حق في حدث القيامة. يقول : ” إن لم تكن قيامة أموات فلا يكون المسيح قد قام، وإن لم يكن المسـيح قد قام، فباطلةٌ كرازتنا وباطلً أيضاً إيمانكم، ونوجد نحن أيضاً شـهود زورٍ لله “.
وبعد أن يعلِّـل هذا الإيمـان الذي أصبح أساساً لعقـائد الكنيسة وأسرارها وتقاليدها. يقول بولس الرسول : ” إن كان لنا في هذه الحيـاة فقط رجاءٌ في المسيح فإننا أشـقى جميع الناس، ولكن الآن قد قام المسيح من الأموات وصار باكـورة الراقـدين ” (1كو15: 13ـ20).
أيها الأخوة والأخوات…
أهم الأحداث التي وقعت بعد القيامة كانت الظهورات. فظهور يسـوع المسيح الناهض من بين الأموات لمريم المجدلية أولاً، كما كان يخبرنا مرقس البشير قائلاً : ” وبعدها قام يسوع في صباح الأحـد، ظَهَرَ أولاً لمريم المجـدلية التي أخرج منها سبعة شـياطين، فذهبت وأخبرت تلاميذه، وكانوا ينوحـون ويبكـون، فما صدّقوها عندما سـمعوا أنه حيّ وأنها رأته ” (مر16: 9ـ11).
ثم ظهوره الثاني للنساء وتوالت الظهورات لبطرس وللعشرة ثم الأحد عشر فللسبعة ثم للخمسمائة فليعقوب وأخيراً للرسل أجمعين، وبعد صعوده إلى السماء وحلول الروح القدس على تلاميذه في العلية حيث كانوا مجتمعين بنفسٍ واحدة وقلبٍ واحد، ظهوره لبولس رسول الأمم وفيلسوف النصرانية الذي ترك الفريسية وتبع يسوع وصار له عبداً ورسولاً وكاروزاً ومبشراً.
كل هذه الظهورات كما نلاحظ كانت للمؤمنين بيسوع المسيح سواءً كانوا نساءً أم رجالاً مرةً منفردين ومرةً مجتمعين.
هذه الظهورات بقيت من الشواهد الحية على أن قيامته كانت حقيقة وواقع. كلامه معهم، وعوده لهم، خاصةً وعده بإرسال المعزي ـ الروح القدس ـ أزال الشك من قلوبهم وقوّى الإيمان في نفوسهم، فانقلب فيهم الضعف إلى قوة، والخجل إلى جرأة، والهروب إلى عزيمة. لهذا تركوا كل شيء : الأهل، العشيرة الممتلكات وحتى التقاليد الموسوية التي كانت تسـيطر على عقولهم، وتبعوا يسـوع الذي أعدّهم ليكونوا تلاميذ حقيقيين ورسلاً أطهاراً أبراراً يحملون الإنجيل وينقلون البشارة إلى الأقطار الأربعة في المسكونة.
كيف أثّرت هذه الظهورات على التلاميذ ؟
لنأخذ الظهور الثالث مثلاً، ونحلله لنرى كيف تغيّرت أفكار التلاميذ، وتبدّلت، وانقلبوا من رجالٍ ضعفـاء إلى أبطالٍ أشـاوس، لا يخافون ولا يهابون لا من السلطات الزمنية ولا من الفريسسيين والكتبـة والصدّوقيين، الذين كان لهم نفوذٌ وتأثيرٌ كبيرين على البسطاء من الشعب.
يخبرنا القديس لوقا أنه في اليوم الأول للقيامة كان اثنان من التلاميذ في طريقهما إلى قرية عماوس على مسافة سبعة أميال من أورشليم، وكانا منهمكين في الحديث عمل جرى ليسوع المسيح في أسبوع الآلام. وعلى حدّ تعبير القديس لوقا : “ كانا يتحدّثان ويتجادلان ” وفجأةً دنا منهما يسـوع نفسه ومشى معهما وهما في الطريق إلى تلك القرية. ويقول أيضاً الإنجيـلي : ” إنّ أعينهـما عمـيَت عن معرفتـه “. فقال لهما : ” بماذا تتحدّثان وأنتما ماشيان، فوقفا حزينين. ثم أجابه أحدهما : أأنت وحدك غريبٌ في أورشـليم، ألا تعرف ما حدث فيها هذه الأيام ؟ فسأله يسوع ماذا حدث؟ فحدّثاه عن يسوع الناصري الذي بحسب معرفتهما كان نبيـّاً قديراً في القول والعمل عند الله والشعب كله، ثم كيف أسلمه رؤساؤهم الكهنة وزعماؤهم ليُحكَم عليه بالموت، ويُصلَب على صليب العار “.
بعد هذا الحديث القصير بيّـنا له أنهم في اليوم الثالث لتلك الأحداث، وأن بعض النساء زرن القبر عند الفجر فما وجدْنَ جسـده، فرجعْـنَ وقلْـنَ إنّهنّ شـاهدْنَ ملائكةً ظهروا لهنّ وأخبرْهنَّ بأنه حيّ. فذهب بعض رفقائهم إلى القبر، فوجدوا الحالة على ما قالت النساء، وأما هو فما رأوه.
هذا مشهدٌ حي من مشاهد الظهورات التي جعلت المؤمنين بيسوع المسيح أن يرددوا تلك العبارة ” المسـيح قام، حقـاً قام ” لأنهم تيقّـنوا من أن يسوع الذي حُكِم عليه بالموت وصُلِب وقُبر، قام في اليوم الثالث من بين الأموات.
الإنجيلي لوقا لا يتوقف في الظهور الثالث عند هذه الكلمة، ولكنه يرسم صورةً رائعة لعملية انفتـاح أعينهم. فبعد أن شرح لهم ما كان يجب على المسيح أن يعاني من الآلام ليدخل إلى مجده، وما جاء عنه في جميع الكتب المقدسة من موسى والأنبيـاء، دخل معهما إلى القرية. ولما جلسوا للطعام، أخذ يسوع الناهض من بين الأموات خبزاً وبارك وكسره وناولهما، فانفتحت أعينهما، وعرفاه ولكنه توارى عن أنظارهما.
وكما وقع مع الآخرين قاما في الحال، ورجعا إلى أورشليم فوجدا الرسل الأحدَ عشر وكانوا يقولون: ” قام الرب حقاً وظهر لسمعان ” أي كأنهم كانوا يرددون : “ المسـيح قام، حقـاً قام “.
هذه ليست رواية أو قصة تتحدث عن شخصيات تقوم بأدوار التمثيل، فخاتمة الحدث تبيّـن بأن التلميذين عرفا يسـوع عند كسر الخبز، وانتقلا مباشرةً بعد معرفتهما ليسوع إلى أورشليم القدس، ليحتفلا مع أخوتهما بالرؤيا الحقيقية.
انظروا أيها الأحبة، كيف أن لوقا البشير يبيّن أن يسوع لا يدع التلميذين يعرفانه من أول لحظة. ليس هذا فقط، بل نرى أن يسوع يفسح لهما المجال ليعبّرا عن شعورهما طويلاً، ولنتصور كيف أنهما عاشا أياماً حاسمةً كان رجاؤهما خائباً. ربما كانا يفكران في أمر تحرير بلادهما من الاستعمار الروماني، ولظنهما أن يسوع الذي عرفوه سيداً في القول والفعل سيحقق هذا الحلم. ولكن تغيّر الأمر عندما عُلِّق على الصليب.
الصورة الأخرى، أنهما كانا يعرفان يسوع حقَّ المعرفـة، فهمـا يلخصـان حيـاته تلخيصـاً بارعـاً. ومع كل ذلك هذا هما لا يعرفاه. ثم بعد الشرح المسـتفيض لرسـالة الخـلاص، بدءاً من موسـى وانتهـاءً بجميع الأنبيـاء شـرحاً وتفسـيراً لما ورد في جميع الكـتب، وبعد كـسر الإفخـارسـتيا أي عند كسر الخبز، عرفاه وتيقّـنا أنه النـاهض من بين الأمـوات، لأن حضور يسـوع الحي جعلهما أن يدركا معنى الفصـح.
إذاً عندما عادوا إلى الرسل ووجدوا الأحد عشر ورفاقهم مجتمعين وكانوا يقولون : ” قام الـرب حقاً ” ردد التلميذان : ” حقاً قام “.
أيها الأحباء…
لقد تأكّد التلامـيذ بصورةٍ قاطعـة وثابتـة جـداً من ظهور المسـيح وحديثـه معهم، وأن الناهض من بين الأموات يسـوع المسـيح هو حيّ، وسـيبقى حيـاً إلى الأبد، وأنه سـيُكَمِّـل وجوده معهم امتـداداً لوجوده السـابق تماماً، مع صورة أكثر فاعلية من قبل.
لهذا فقيامته أصبحت الركيزة التي عليها تأسست هذه الكنيسة المقدسة.
بولس الرسول يعبّر عن عقيدة القيامة ومفهومه لعبارة ” المسـيح قام، حقـاً قام ” بحديثه عن الموت والحياة مع المسيح قائلاً : ” فدُفنّـا معه في المعمودية، وشـاركناه في موته، حتى كما أقـامه الآب بقدرته المـجيدة من بين الأموات، نسلك نحن أيضاً في حياةٍ جديدة. فإذا كنا اتّحدنا به في موتٍ يشـبه موته، فكذلك نتّحد به في قيامته. ”
ثم يصل إلى نتيجة بحثه في الموت والحيـاة مع المسـيح بقوله لنا : ” فاحسبوا أنتم أيضاً أنكم أموات عن الخطيئـة، أحياء لله في المسـيح يسـوع ربنـا. نحن المؤمـنين بقيـامة ربنـا يسـوع المسيح من بين الأموات، نعلم أن الذي مات وقام هو عن يمـين الله يشـفع لنا. فمن يفصـلنا عن محبـة المسـيح أشدّةٌ أم ضـيقٌ أم اضطهـادٌ أم جـوعٌ أم عريٌ أم خطرٌ أم سـيفٌ. فلا الحيـاة ولا المـوت ولا المـلائكة ولا رؤسـاء المـلائكة ولا الحاضر والمسـتقبل، لا قوى الأرض ولا قوى السـماء، ولا شـيء في الخليقـة يستطيع أن يفصـلنا عن محبـة الله بالمسيح يسـوع ربنـا النـاهض من بين الأمـوات. ”
هذا هو رجاؤنا وهذا هو إيماننا وهذه هي عقيدتنا عندما نردد في هذا العيد المبارك ” المسـيح قام، حقـاً قام “.
أيها الأخوة…
في هذه الأيام التي احتفل قطرنا بأعيادٍ ومناسباتٍ عديدة : أولها فرحة شـعبنا بالمبايعـة لولايةٍ دستوريةٍ خامسة لرئيـس بلادنا القائد المناضل حافـظ الأسد، وعيد الأضحى المبـارك، وعيد تأسيس حزب البعث العربي الاشـتراكي، ثم عيد الفصح بحسب التقويم الغربي، واليوم عيد الفصح بحسب التقويم الشرقي، وبعد أيامٍ بعـيد الجلاء.
كل هذه المناسبات تدفعنا لأن نشكر الله على ما وفّره لنا من أمنٍ وسلامٍ وطمأنينةٍ، ومودّةٍ جمعت بين أبناء الشعب الواحد، الذي ينتمي إلى أديانٍ ومذاهبَ مختلفة.
إننا نرحّب بضيوفنا الأعزاء وفد مجلس الكنائس في أمريكا، الذي شاء أن يحتفل معنا بعيد الفصح المجيد والقيامة المظفرة في مدينة حلب.
نقول لهم أهلاً وسهلاً بكم في سورية بلد الحضارات ومهد الديانـات، وإن المناخ الأخـوي الذي تعيشـه سورية بمختـلف أديانها ومذاهبها في ظل القيـادة الحكـيمة لرئيسـنا المناضل حافـظ الأسد، هو حقيقة وواقع. وأنتم تشـهدون كيف أننا نعمل بيـدٍ واحدة كأبناء أسـرةٍ واحـدة من خلال تعاليمنا المقدسـة لنبقَ دائماً جنوداً أوفيـاء لوطننـا العزيز، نعمل من أجل تقدّم سورية وازدهـارها ونمـوّها في كل المجـالات.
نرجو أن تنقلوا إلى كنائسـكم في الولايـات المتحـدة الأمريكيـة تحياتنـا ومحبتنـا، وتؤكّـدوا لهم بأن العيـس المشـترك في سـورية قائمٌ بين مختلف الأديان والمذاهب، وأن شـعبنا هنا يعمل بتوجيهـات رئيسـه المناضل حافـظ الأسـد من أجل السلام العادل والشامل في كل المنطقة.
إلى الله نتوجه بصلواتنـا وأدعيتِـنـا في هذه الليـلة المباركة، لكي يكون مع سورية رئيساً وحكومةً وجيشـاً وشـعباً، ولترفرف رايـات المحبـة والوئـام في كل مكان، ولتبـقَ سـورية صامـدة في وجه التحديات التي تعمل على النيـل من كرامتـها وعزّتـها.
نهنئـكم مرةً أخرى، أنتم الحـاضرون معنـا في هذا القـداس، والسـامعون إلينـا، ونقـول لجميعـكم : كل عيد ونحنُ وبلـدُنا بألـف خيـر.
We are very pleased to welcome … in St. Ephrem Cathedral this evening.
Until now, we are celebrating this day according to two different calendars. Here in this Cathedral, the representatives of different calendars churches met and produces a document on : “Towards A Common Date For Easter”; which was distributed in all over the world in different languages. I know that this document was appreciated by the Vatican City and Lambeth Conference, as well as, by the World Council of Churches in the last assembly in Harare.
In Syria, all churches participate in the process of a just and comprehensive peace, through our prayers. We all believe that peace should be established in the area, so that Christians and Muslims can maintain their good relations as they are today, and continue their efforts for better circumstances in the future.
I will see you in the afternoon; but, I wanted to welcome you in front of my congregation who is very happy to have you among us in this Blessed Evening.
I ask you to convey our blessings, greetings and love to your churches in the United States.
We wish you a pleasant stay in Syria.
عيد القيامة
1999
2000
ܒܫܡ ܐܒܐ ܘܒܪܐ ܘܪܘܚܐ ܚܝܐ ܩܕܝܫܐ ܚܕ ܐܠܗܐ ܫܪܝܪܐ .. ܐܡܝܢ
ܩܡ ܐܠܗܐ ܡܢ ܩܒܪܐ .. ܒܬܫܒܘܚܬܐ ܘܚܝܠܐ ܪܒܐ
المسيح قام . . . حقاً قام
أيها الأحبة ـ أيها السامعون الكرام…
” لماذا تطلبن الحي بين الأموات . ليس هو ههنا لكنه قد قام “
يرسم لنا القديس لوقا البشير صورة مشهد القيامة كما سـمعه من الرسل. يتوقف أولاً عند زمن القيامة ليؤكد بأنه حصل في ” أول الأسبوع أول الفجر ” وهكذا جاء على لسان القديس متى الذي يقول : ” وبعد السبت عند فجر أول الأسبوع “. والقديس مرقس الذي يصرّح : ” وبعدما قام باكراً في أول الأسبوع “. والقديس يوحنا الذي كتب قائلاً : ” وفي أول الأسبوع“. فلا خلاف إذاً على زمن قيامة السيد المسيح.
أما حدث القيامة، فعبارات الإنجيل واضحةٌ جداً، والإنجيليون يؤكدون لنا بأن شهود القيامة كانوا من اليهود الحاقدين والصالبين والرافضين لرسالة السيد المسيح. ومتى الرسول يؤكد بأن زلزلةً عظيمةً قد حدثت عندما نزل ملاك الرب من السماء ودحرج الحجر عن باب القبر، وجلس فوقها، وأن الحراس ارتعدوا وصاروا كالأموات. والحوار القصير الذي حدث بين الملاك والنسوة كان لكي يبعد الخوف أولاً عنهن، وهذا أمرٌ طبيعي في حدثٍ خطيرٍ مثل هذا الحدث، لأن الخوف كان قد سيطر على الجميع: الحراس، النسوة، التلاميذ، ومن كان يتابع أخبار آلام المسيح وصلبه وموته.
تُرى لماذا سيطر الخوف بدل الأمل والرجاء والفرح على كل هؤلاء؟ الجواب هو لأن اليهود غير المؤمنين شكّوا في ظهور يسوع المسيح بالجسد، الذي اختلف عن ظهور من سبقه من الأنبيـاء في العهد القديم. فكل الأنبياء الصغار والكبار تحدثوا عن هذا اليوم وأشاروا إلى كل الأحداث التي رافقت مجيء يسوع المسيح بالجسد. ثم قبل بشارة الملاك وأثناءها، قبل الميلاد وبعده.
الإنجيل المقدس يخبرنا أنه عندما بدأ يسوع المسيح رسالته الخلاصية من خلال أقواله وكلماته ومعجزاته وأعماله الباهرة، لم يسمع اليهود بأنه كان لأحد آخر من بين هؤلاء الأنبياء سلطانٌ على الأرواح والأجساد والرياح والطبيعة مثل يسوع المسيح، لهذا الخوف كان أولاً من الرافضين لتحقيق النبوة الذين سخّروا كل إمكاناتهم في سبيل إبطال حقيقة نبوة الأنبياء في شخص يسوع المسيح.
لقد نسى، أو تناسوا، اليهود نبوات أنبيائهم بل تنكّروا لما جاءت به كتبهم. هذا اشـعياء مثلاً، نراه يشير إلى تعطّش الأمم كلها لخلاص المسيح يقول : ” ويكون في ذلك اليوم أن أصل يسّى القائم رايةً للشـعوب إياه تطلب الأمم ويكون محلّه مجداً ” (اشعيا 11: 10)
لم يخطر على بالهم ما حدث نحو الساعة السادسة من ظلمةٍ على الأرض كلها إلى الساعة التاسعة أن يتأملوا في نبوة اشـعياء القائلة : ” ويخجل القمر وتُخزى الشـمس لأن رب الجنود قد ملك في جبل صهيون وفي أورشليم وقدام شيوخه مجده ” (اشعيا ).
كان يسوع المسيح يكثر من اقتباساته لنبوات العهد القديم، ليبين لليهود أنه المسيح المنتظر. عنه قال دانيال ” هو يكشف العمـائق والأسرار ليعلموا ما هو في الظلمة وعنده يسكن النور ” (دانيال 2: 22) وقد يطول بنا الوقت إذا أردنا أن نسرد جميع النبوات الواردة في العهد القديم عن مجيء السيد المسيح بالجسد وحياته التمهيدية فالعملية فالختامية.
ونحن اليوم نحتفل بعيد قيامته المظفرة من بين الأموات نستشهد بنبوات الأنبياء في العهد القديم، نسمع النبي ميخا عن قيامة المسيح والاعتزاز بقيادته للكنيسة يقول ميخا : ” قد صعد الفاتك أمامهم يقتحمون ويعبرون من الباب ويخرجون منه ويجتاز ملكهم أمامهم والرب في رأسهم ” (ميخا 2: 13).
بعد كل هذا الرابط بين العهدين من خلال نبوات العهد القديم، لماذا زاد خوف اليهود من مجيء المسيح ؟ لماذا انتشر الخوف في قلوب الآخرين أيضاً مثلاً؛ الرسل الذين مشوا مع المسيح، وعاينوا عجائبه وآياته، وعاشوا معه، وعرفوه عن كثب، وكانت لهم أكثر من وقفةٍ، تأكدوا من خلالها أنه هو هو المنتظر، عندما سمعوا بحدث القيامة لم يصدقوا بل استهزأؤا بهذا الخبر، وتوما، أحد الاثني عشر، شاهدٌ على هذا الكلام. فكان على الملاك قبل أن يعلن خبر القيامة أن يزيل الخوف من قلوب النسوة والتلاميذ أولاً، ثم من قلوب بقية اليهود الذين آمنوا بالمسيح، وانتموا إلى حظيرته، وأصبحوا أعضاء في جسمه الحي.
بعد أن أزال الملاك الخوف من قلوب النسوة والتلاميذ والذين كانوا ينتـظرون مجيء المسيح المنتظر، أكد بان المطلوب من قِبَلِهم ليس موجوداً في القبر، وبيـّن السبب بشكل صريحٌٍ وواضحٌ، وهو أنه قام، قـام من بين الأموات، بعد أن رآه الجميع متألماً، مصلوباً، ميتاً ومدفوناً، والناهض من بين الأموات، هو هو ذاك الذي شاهدوه بأم أعينهم يسير في درب الآلام.
فالملاك ببشارته للنسوة والتلاميذ، ربط بين الخوف من الموت وقيامة المسيح. الخوف من الموت يعني العودة إلى ما اقترفه الإنسان من الخطايا، وبكلامٍ آخر يعني كل الأحداث التي مرّت في تاريخ الإنسان من حدث وقوعه في الخطيئة في جنة عدن إلى حدث الموت. وهكذا يقف الخوف من الموت مساوياً لإنكار القيامة، إن لم يكن بالفم، فبجزع القلب، وصغر النفس وانهزام الإرادة. لهذا عندما نحتفـل بعيد القيامة نشعر بأن علاقات التحرر من إحساس الموت تنمو وتزداد في حياتنا.
ونصرخ مع بولس الرسول في وجه الموت والهاوية قائلين : ” أين شوكتكَ يا موت، أين غلبتكِ يا هاوية؟ أما شوكة الموت فهي الخطيئة وقوة الخطيئة هي الناموس، ولكن شكراً لله الذي يعطينا الغلبة بيسوع المسيح ” (1كو 15: 56-57).
أين هي الغلبة التي يتحدّث عنها بولس الرسول ؟
قبل أن ندخل في آلام المسيح، احتفلنا في طقسنا السرياني الأنطاكي بإحياء ذكرى إقامة لعازر، ونتذكر كلام يسوع المسيح لمرتا ” قالت له : يا رب لو كنت ههنا لم يمت أخي، فقال لها يسوع: سيقوم أخوكِ، فقالت له مرتا : أنا أعلم أنه سيقوم في القيامة في اليوم الأخير. فقال لها يسوع: أنا القيامة والحياة، من آمن بي وإن مات فسيحيا، وكل من كان حياً وآمن بي، لن يموت إلى الأبد. أتؤمنين بهذا ” ( ).
أليست هذه غلبة في أن يمنحنا يسوع المسيح حياةً جديدةً بعد أن كنا في عداد الأموات. حقاً إن المسيح أبطل الموت عن نفس الإنسان، وأحلّ محله روح القيامة، وروح القيامة هو الذي سيقيم جسدنا أيضاً من بعد فساد، ويجعله على صورة النفس في البهاء والمجد كالمسيح، وقول بولس الرسول واضحٌ جداً ” الذي سيغير شكل جسد تواضعنا، ليكون على صورة جسد مجده ” (فيليبي3: 21).
أيها الأحباء…
نحن في هذه السنة، وفي عيد القيامة، وفي هذا العيد بالذات، نطوي صفحةً من صفحات الزمن في حياة الإنسـان.
الآن نبدأ لندخل في الألف الثالث؛ فللمرة الأخيرة يحتفل إنسان الألف الثاني بعيد الناهض من بين الأموات، فنسأل أنفسنا كيف يمكن أن يكون شـكل عيد القيامة في الألف الثالث ؟ هل نعيش هذا العيد وغيرَه من الأعياد بالطريقة نفسِها، لذات الغاية، كما كنا نفعل في الماضي؟ أم يمكن أن نضع لأنفسنا هدفاً وأسلوباً آخر يتماشى وروح العصر والظروف المحيطة بنا في الألف الثالث ؟
إن غاية القيامة لا تتغير ولا تتبدل، لأن الخط الذي رسمه لنا ربنا من سر تجسده الإلهي كان يؤدي إلى خلاص الإنسان. ألا نردد دائماً في قانون الإيمان أنه ” من أجلنا ومن أجل خلاصنا، نزل من السماء وتجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء… وصار إنساناً ” إذاً خلاص الإنسان كان ومازال وسيبقى دائماً عنوان هذا الحدث الذي وقع قبل ألفي عام. الجديد هو كيف نستطيع أن نعيش هذا الحدث الإلـهي ونترجمه إلى واقع، ونكسب ونربح نِعم القيامة ؟
إن الأسرار المقدسة في الكنيسة هي دربٌ من دروب العيش مع حدث القيامة، وممارسة هذه الأسرار في الكنيسة، في العائلة، في المجتمع، هو الذي يفعّـل دور حدث القيامة في حياتنا. إزالة الخوف من قلوبنا عندما تحيط بنا ظروفٌ صعبة في الحياة، الخوف من الاضطهاد، الخوف من مشاركة الحياة مع الآخرين، الخوف من المستقبل الذي لا يستطيع أحد أن يتكهّن شكله أو لونه، وغيرُها من الأحاسيس التي تنتاب الإنسان البعيد عن البعد الروحي لحدث القيامة. إذا ما استطعنا أن نتخلص من هذا الشعور وهذه الأحاسيس نكون فعلاً قريبين من حدث القيامة.
في الألف الثالث، رسالتنا كمسيحيين، مؤمنين بقول الملاك ” لماذا تطلبن الحي بين الأموات . ليس هو ههنا لكنه قد قام “ هذه الرسـالة تكبر وتزداد. كيف علينا أن نعمل في مجال الكرازة بإنجيل يسوع المسيح الناهض من بين الأموات في مجتمعاتنا ؟ العائلة التي تُعرَف بالاسم مسيحية، الإنسان الذي لا يعرف من المسيحية إلا ظواهرها وشكلها الخارجي، المؤسسات التي أبعدَت عنها الروح وانغمسَت في الدنيـويات والأمور الحسية المادية، كل ما له علاقة بيسوع المسيح الناهض من بين الأموات، وإنجيلِهِ المقدس يجب أن يقدم شهادةً حقيقية مبنيةً على صفاء التعاليم الإنجيلية.
أعمالنا، علاقاتنا مع الآخرين، مشاريعنا، طموحاتنا، طروحاتنا، أفكارنا، إذا لم تكن متجهة نحو المسيح الناهض من بين الأموات، تبقى مثَلُها مثَلُ ما في هذا العالم من أمور تخدم الإنسان والمجتمع دون أن يكون لها ارتباطٌ بالمسيح والإنجيل. بعبارةٍ أخرى تفعيل الدور الروحي في حياة المسيحيين أمرٌ هامٌ جداً، والشهادة التي تقدّم في درب الكرازة في القيامة يبقى هو الأهم في درب الآلام.
هكذا نتصور عيد قيامة ربنا يسوع المسيح في الألف الثالث. وبذلك نكون قد قدّمنا شيئاً جديداً يتزامن مع ما في عصرنا من ابتكارات واختراعات في مجالاتٍ مختلفةٍ.
أيها الأحبة…
نرفع أكُفَّ الدعاء في هذه الليلة المباركة إلى ربنا وإلهنا جميعاً الذي خلق الإنسان على صورته ومثاله، وأظهر رحمته وعدالته في مسيرة دربه الطويلة، ليمتّعنا بأزمنة الخير ومواسم الأفراح والأعياد الدينية والوطنية. ونسأل الناهض من بين الأموات ليبارك سورية البطلة التي احتفلت في السابع عشر من نيسان بعيد جلاء آخر جنديٍّ مستعمر بأن يجعل سورية محررة من كل العقبات التي تقف في طريق الوحدة الوطنية والعيش المشترك والازدهار والتقدم في المجالات المختلفة.
إننا نعتز ونفتخر ببلدنا سورية الذي يؤمّن كرامةً لكل إنسانٍ وعزاً لكل مواطن ومكانةً لكل وفيٍّ مخلصٍ أبيّ، ونسأل الله أن يمدّ في عمر رئيسنا وقائد بلادنا المناضل حافظ الأسد الذي يرعى سورية وكل المواطنين فيها رعايةً أبوية صالحة، ويسهر على شـؤوننا، ويحقق آمالنا، ويجسد طموحاتنا في الوحدة والحرية والمساواة والعدالة، ونرى الأمل فيه وفي كل مَن يضع فيهم ثقته الغالية لينهجوا طريقه، ويسيروا في دربه لتبقى سورية دائماً حرةً مستقلةً مستعدةً لخدمة العرب أينما كانوا، وفي مواجهة العدو مهما كان لونه أو شكله.
نهنئ أخوتنا المسيحيين في كل أنحاء العالم بعيد القيامة، خاصةً الذين سبقونا باحتفالهم بعيد القيامة في الأحد الماضي. إن الاختلاف في الكلندارين هو سبب من أسباب خلافنا حتى اليوم؛ كلنا أملٌ ورجاء أنه في السنة القادمة وبعدها سـيرى قادة الكنائس المسيحية في كل أنحاء العالم حلاً لهذا المُشكل الذي طال عمره وطالما حصل تقدم في العلاقات من خلال الحركة المسكونية سيبارك ربنا جهود كل الكنائس من أجل توحيد العيد.
نحن ندعو إلى شيء جديد في الألف الثالث،وهذا بابٌ من أبواب تحقيق رغبة المؤمنين من مختلف الطوائف والمذاهب في توحيد العيد لتتوحد بعده الجهود والأفكار والأعمال لنشعر بأننا حقاً أبناء كنيسة واحدة جامعة مقدسة رسولية.
نهنئكم أيها السامعون الكرام، ونهنئ جميع المؤمنين، ونقول لكم كل عيد ومناسبة وأنتم بخير. والمسيح قام، حقاً قام.
عيد القيامة
2000
2001
المسيح قام … حقاً قام
ܒܫܡ ܐܒܐ ܘܒܪܐ ܘܪܘܚܐ ܚܝܐ ܩܕܝܫܐ ܚܕ ܐܠܗܐ ܫܪܝܪܐ .. ܐܡܝܢ
أيها الأحباء…
مساء نهار كل أحد وفي طقسنا الأنطاكي الأرثوذكسي نردد باللغة السريانية التي تباركت بفم ربنا يسوع المسيح وأمه الطوباوية مريم وتلاميذه الأطهار ونقول : رب ؤو مرن ومشبح رورباية. رب ؤو يومؤ دحد بشبا طوبوؤي لاينا دنطر لؤيمنوةا دبؤ قم مرن من قبرا . وآوديو عمًما بابا وببرا وروح قودشا ؤّ حد ءلؤا.
وترجمته : ” عظيمٌ وممجدٌ هو ربنا. عظيمٌ هو يوم الأحد وطوبى لمن يحفظه بإيمان، لأن فيه قام ربنا من القبر، وآمنت الشعوب بالإله الواحد في ثلاثة أقانيم “. كثيرة هي الأبيات الشعرية والأناشيد والتراتيل الواردة في كتبنا الليتورجية التي تتناول حدث القيامة بأسلوب بسيط، معظمها تدعو المؤمنين إلى ترسيخ حدث القيامة في أذهانهم واعتباره أساساً لهذا الإيمان في حياتهم. ولا غرو فبولس الرسول في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس يشدد على حدث القيامة ويعتبره الأهم بين كل الأحداث الإنجيلية، فيقول : ” فإنني سلمت إليكم قبل كل شئ ما قبلته أنا أيضاً أن المسيح مات من أجل خطايانا كما جاء في الكتب وأنه دُفن وقام في اليوم الثالث كما جاء في الكتب “ (1 كو15: 3 ـ 4).
وبعد أن يذكر الظهورات المهمة لبطرس، وللرسل الاثني عشر، ثم لأكثر من خمسمائة أخ معاً، يقول عنهم لا يزال معظمهم حياً وبعضهم مات، ثم ليعقوب ثم لجميع الرسل، يقول وأخيراً ظهر له وهو في طريقه إلى دمشق. ثم يعود إلى أهمية حدث القيامة في الكنيسة المقدسة فيوضح : ” ونوجد نحن أيضاً شهود زور لله لأننا شهدنا من جهة الله أنه أقام المسيح وهو لم يُقمه، إن كان الموتى لا يقومون. لأنه إن كان الموتى لا يقومون فلا يكون المسيح قد قام. وإن لم يكن المسيح قد قام فباطلٌ إيمانكم. أنتم بعد في خطاياكم ! إذاً الذين رقدوا في المسيح أيضاً هلكوا ! إن كان لنا في هذه الحياة فقط رجاءٌ في المسيح فإننا أشقى جميع الناس. ولكن الآن قد قام المسيح من الأموات وصار باكورة الراقدين “.(1كو 15: 15ـ20).
أيها الأحباء…
سأعود إلى مقطع إنجيلي تلوناه في أسبوع الآلام له علاقة بكلامنا عن حدث القيامة، نقرأ فيه عن معجزة الخمسة أرغفة والسمكتين وهي المعجزة التي أوردها الإنجيليون الأربعة، لأنه كان لها أثرٌ كبير في الجموع، وانفرد يوحنا في شرح هذا الأثر البعيد الذي تركته المعجزة في تلاميذ يسوع. ويقول الإنجيلي : ” عندما رفع يسوع عينيه رأى الجموع مقبلة إليه قال لفيليبس من أين نشتري الخبز لنطعمهم وبعد حوار قصير قال له أحد تلاميذه وهو اندراوس أخو سمعان بطرس: هنا صبيٌ معه خمسة أرغفة من شعير وسمكتان ولكن ما نفعها لمثل هذا الجمع، فأمر يسوع أن يجلسوا الناس وكان عدد الرجال نحو خمسة آلاف فأخذ يسوع الأرغفة وشكر ثم وزع على الحاضرين بمقدار ما أرادوا وهكذا فعل بالسمكتين. وبعد أن شبعوا جمع التلاميذ ما فضل من الكسر فملأوا اثنتي عشر قفة فضلت عن الآكلين من أرغفة الشعير الخمسة ” (يوحنا 6: 5 ـ 13). أما عن الأثر البعيد الذي تركته الآية في الجموع فيكتب : ” فلما رأى الناس الآية التي صنعها يسوع قالوا إن هذا هو بالحقيقة : النبي الآتي إلى العـالم “. وعرف يسوع أنهم يستعدون لاختطافه وجعله ملكاً فابتعد عنهم ورجع وحده إلى الجبل.
أيها الأحباء…
معجزة الخمسة أرغفة والسمكتين أصبحت مدخلاً إلى تعليم جديد أراده يسوع لتلاميذه إذ انتقل من الخبز العادي الذي نأكله كل يوم وهو الطعام البائد إلى خبز الحياة وهو الطعام الباقي. وبيَّـن بأنه هو خبز الحياة النازل من السماء، وعند هذا الحديث بدر سؤال استنكاري من اليهود الذين تذمروا على يسوع لأنه قال : ” أنا هو الخبز النازل من السماء “، لأنه بحسب ظنهم كانوا يعرفون أباه وأمه فإنه في نظرهم يسوع بن يوسف. ولهذا السبب انتقلـوا من حالة السؤال الاستنكاري إلى منازعة، إذ خاصم اليهود بعضهم بعضاً قائلين : كيف يقدر هذا أن يعطينا جسده لنأكل. ووصل التذمر بذروته إلى التلاميذ حتى قال كثيرون منهم لما سمعوه هذا كلامٌ صعب من يستطيع أن يسمعه. فقال لهم يسوع : أهذا يُعثركم ؟ كيف لو رأيتم ابن الإنسان يصعد إلى حيث كان أولاً؛ الروح هو الذي يُحيي وأما الجسد فلا يفيد شيئاً. والكلام الذي كلمتكم به هو روحٌ وحياة ولكن فيكم من لا يؤمنون. وهنا يعلق يوحنا الإنجيلي على هذا الكلام الصعب قائلاً : ” لأنه كان يعرف منذ البدء من هم الذين لا يؤمنون ومن هو الذي يسلمه ” (يوحنا 6: 65). الذي أريد أن أقوله لكم في هذه الليلة المباركة ونحن نحتفل بقيامة ربنا يسوع المسيح المظفرة، أيها الأحباء … إنه بعد معجزة الخمسة أرغفة والسمكتين، وحديث يسوع المسيح عن خبز الحياة سألوه قائلين : ” كيف نعمل ما يريده الله فأجابهم أن تؤمنوا بمن أرسله هذا ما يريده الله ” (يوحنا 6: 28).
ونحن أمام مشهد القيامة، وقد ودّعنا الألف الثاني واستقبلنا الألف الثالث، ألا يليق بنا أن نطرح هذا السؤال على أنفسنا.لقد عشنا مع المسيح لألفي سنة، واختبرنا حياتنا بقُربه، ونلنا نِعمه ومواهبه الغزيرة، ومرافقتنا له هيأت لنا ظروفاً أحيت فينا البعد الروحي للحياة، وانتشرت رسالته بين مختلف الأمم والشعوب واللغات والثقافات والحضارات.
وحتى هذه الأيام يبقى حدث القيامة أساساً لإيمان الكثيرين بيسوع المسيح، لأنه كما قال بولس إلى أهل كورنثـوس : ” إن لم يكن المسيح قد قام من بين الأموات فياطلة كرازتنا وباطل أيضاً إيمانكم ” (1كو 14:15). أمام هذه الحقيقة ماذا نفعل حتى نعمل أعمال الله : هذا السؤال المستمد من قول الرب الثابت جوابه : ” اعملوا لا للطعام البائد بل للطعام الباقي للحياة الأبدية “. الطعام البائد الذي هو لحساب الجسد الفاني ويدخل في دائرة العبودية، لما في العالم من شرور. والطعام الباقي هو لحساب الروح الذي يؤدي إلى الحياة الأبدية.
سؤال اليهود للمسيح ربما يبدو صحيحاً في مظهره لأول وهلةٍ، ولكن الحقيقة هي أن اليهود كانوا دائماً متمسكين بالحرف، بالتاريخ المرئي، بالعبادة المبنية على الطقوس والتقاليد، بالإنسان المنتفع من أخيه الإنسان، وجواب يسوع المسيح على هذا السؤال المحرج كان مصححاً للفكر اليهودي العام.
عمل الله، ما هو عمل الله ؟ هذا هو عمل الله أن تؤمنوا بالذي هو أرسله. انظروا القوة التي كانت وراء معجزة الأرغفة الخمسة والسمكتين، يسوع المسيح استخدم هذه المعجزات ليعيد إلى أذهان اليهود حقيقة رسـالة المسيح التي من أجلها جاء بالجسد إلى العالم.
أيها الأحباء…
مع قيامة ربنا يسوع المسيح، نعود نتذكر قوله عن نزوله من السماء وصيرورته خبز الحياة، فكل من يُـقبل إليه لا يجوع، ومن يؤمن به لن يعطش أبداً. نستوعب ما كان يقوله عن نفسه أنا هو خبز الحياة، أنا هو نور العالم، أنا هو الباب، أنا هو الطريق، أنا هو الراعي الصـالح أنا هو الكرمة الحقيقية، أنا هو القيامة، أنا هو الحياة وهل يمكن أن يكون التعريف بنفسه أكثر من هذا. لو فتش الناس عنه في الكتب لوجدوه أنه هو الحياة الأبدية ولأنه يجمع الأكل والشرب معاً فهو الطعام السماوي.
في عيد قيامته المظفرة، نتأمله في العلية وهو يؤسس هذا السر المقدس في بيت مرقس، عندما أخذ الخبز وأعطى تلاميذه قائلاً : ” خذوا كلوا منه هذا هو جسدي “ وكذلك الكأس قائلاً : ” اشربوا منها كلكم لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يُـسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا ” (متى 26: 26 ـ 28).
ولكن يسوع قبل آلامه فاتح رُسله بتأسيس هذا السر. فبعد معجزة إشـباع الخمسة آلاف رجل وبعد أن خاصم اليهود بعضهم بعضاً قائلين : ” كيف يقدر هذا أن يعطينا جسده لنأكل قال لهم يسوع الحق الحق أقول لكم إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه فليس لكم الحياة فيكم من يأكل جسدي ويشرب دمي فله الحياة الأبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير “ (يوحنا 6: 52 ـ 54).
هذا الرابط بين القيامة في اليوم الأخير وتناول جسد ابن الإنسان ودمه أساس لإيماننا، لأنه الدافع لعضويتنا في جسد المسيح السري فهو الذي علّمنا ” من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه “ (يوحنا 6: 56).
أيها الأحباء…
نعود إلى حدث القيامة الذي قلب حسابات اليهود رأساً على عقب، إنهم كانوا يخافون من أن تتحقق أقواله في قيامته، واحتاطوا للأمر بطريقتهم الخاصة. فعندما اجتمع رؤساء الكهنة والفريسيون إلى بيلاطس قالوا له : ” يا سيد قد تذكرنا أن ذلك المضل قال وهو حي، إني بعد ثلاثة أيام أقوم. فمُر بضبـط القبر إلى اليوم الثالث، لئلا يأتي تلاميذه ليلاً ويسرقوه ويقولوا للشعب أنه قام من الأموات فتكون الضلالة الأخيرة أشر من الأولى، فقال لهم بيلاطس : عندكم حراس اذهبوا واضبطوه كما تعلمون فمضوا وضبطوا القبر بالحراس وختموا الحجر (متى 27: 62 ـ 66).
ولكن بعد القيامة تغيّر كل شيء، وخوف النسوة والتلاميذ انقلب إلى شجاعة، خاصةً عندما سمعوا الملاك يقول : ” لماذا تطلبن الحي بين الأموات. ليس هو ههنا لكنه قام اذكرن كيف كلمـكنَّ وهو بعد في الجليل قائلاً : إنه ينبغي أن يُسلم ابن الإنسـان في أيدي خطـاة ويُصـلب وفي اليوم الثـالث يقوم “ (لو 24: 5 ـ 7). وبدأت الظهورات الواحدة تلو الأخرى، وكان من بينها ظهوره لتلميذين وهما في طريقهما إلى عماوس، قرية تبعد حوالي ثمانية أميال شمالي غربي أورشليم ويُـقال أن أحدهما كان لوقا الإنجيلي. وقصة هذين التلميذين جديرة بالاهتمام أولاً : عيشهما مع أحاديث الناس حول آلام المسيح وموته ثم قيامته من بين الأموات، ثانياً : رجاؤهما في يسوع المسيح ليكون هو المزمع أن يفدي إسرائيل. ثالثاً : خبر النسوة بعد زيارتهنَّ لقبره ولما لم يجدن جسده أتينا قائلات إنهنَّ رأين منظر ملائكة قالوا أنه حي. رابعاً وأخيراً : تأكيدهما هذا الخبر أو سردهما قصة قوم من الذين ذهبوا إلى القبر فوجدوا هكذا كما قالت أيضاً النساء، أما هو فلم يروه (لو 24: 20 ـ 24). وبعد هذا الحديث كله في الطريق، ويسوع الناهض من بين الأموات يمشي معهما اقتربا إلى القرية إلى عماوس. أما هو فتظاهر كأنه منطلق إلى مكان أبعد، فالزماه قائلين : امكث معنا لأنه نحو المساء وقد مال النهار. فدخل ليمكث معهما. يصف لنـا الإنجـيلي لوقـا ما حدث لهما بعد ذلك قائـلاً : ” فـلما اتكأ معهما أخذ خبزاً وبارك وكسر وناولهما فانفتحت أعينهما وعرفاه ثم اختفى عنهما “(لو26: 30). مرةً أخرى، ونحن في زمن ما بعد القيامة، نرى دور الخبز في فتح أعين الناس، وكأننا نتذكر ما كان يقوله عن نفسه أنه خبز الحياة، وأيضاً عندما أسس سر القربان المقدس في العلية، يوم أراد أن يأكل الفصح مع تلاميذه، وهنا نجد أنفسنا أمام طريقٍ جديدة لمعرفة يسوع على حقيقته. فعندما لا ترى العيون ولا تسمع الآذان لا يستطيع الإنسان أن يقترب من الله.
المسيح قام … حقاً قام
أيها الأحبة…
نهنئكم بعيد قيامة ربنا يسوع المسيح والله نسأل أن يمتعكم بالصحة التامة والعافية الكاملة والتوفيق الجليل. ويعيدَ عليكم كل أعيادنا المباركة ومواسمنا الروحية لسنين مديدة وأعوام عديدة. وإننا باسمكم نرفع التهاني القلبية لقداسة سيدنا البطريرك مار أغناطيوس زكا الأول الكلي الطوبى سائلين رب القيامة أن يمد في عمره ويحفظه ويقويه ليستمر في رسالة العطاء والخدمة من أجل خدمة الكنيسة.
بعد يومين في السابع عشر من نيسان نحتفل بالذكرى الخامسة والخمسين لعيد الجلاء الذي يذكرنا بصفحات النضال والكفاح من أجل الاستقلال والحرية والكرامة. لقد أشترك شعبنا بجميع شرائحه وأديانه وتياراته في معركة التحرير ليحقق نصراً لإرادة الصـمود من أجل نزع الاستقلال من أيدي المستعمر. ولهذا سيبقى السابع عشر من نيسان في كل سنة علامة ظفر وانتصار في حياة شعبنا ومعاني النضال والتضحيات والبطولة والكفاح التي رافقت مواكب شهداء قطرنا الأبرار من أجل الاستقلال والجلاء هي من العبر والدروس التي تدعونا لكي نلتف حول بعضنا البعض بإرادة قوية ونمد أيدينا إلى بعضنا البعض في العطاء والخدمة والتعاون، وكما كنا دائماً مع رئيسنا الراحل حافظ الأسد هكذا علينا أن نكون حول قيادة بلدنا الحبيب التي تتمثل اليوم بسيادة الرئيس الدكتور بشار الأسد حامل لواء التحرير من الذهنية القديمة وصاحب نهج التحديث والتطوير والعصرنة التي تعزز مكانة سورية في كل المجالات والميادين. إننا نسأل الله أن يقوي رئيسنا المحبوب الدكتور بشار الأسد الذي يعمل ليل نهار من اجل المزيد من الإنجازات على مختلف الصعد الثقافية والاجتماعية والفكرية والعلمية والعمرانية والصناعية والزراعية والاقتصادية. ومن اجل توحيد الكلمة في وطننا العربي الكبـير، ورفع رايات النصر والتقدم في سورية الحبيبة خاصة في موضوع استرجاع الجولان وتمكين الشعب الفلسطيني لاسترداد حقوقه المشروعة وبهذه المناسبة نتطلع إلى القدس وبقية الأراضي التي تدنست بأقدام الصهاينة الأوغاد، ونسأل الله ليوفق العرب لتحرير هذه الأراضي المقدسة ويعود السلام والأمن في كل شبر من الأرض المحتلة.
المسيح قام … حقاً قام.
عيد القيامة
2001
2002
المسيح قام … حقاً قام
ܒܫܡ ܐܒܐ ܘܒܪܐ ܘܪܘܚܐ ܚܝܐ ܩܕܝܫܐ ܚܕ ܐܠܗܐ ܫܪܝܪܐ .. ܐܡܝܢ
أيها الأخوة، أيها السامعون الكرام…
ننتقل في هذا المساء المبارك إلى زمن جديد يحمل في طياته رسالة جديدة للإنسان الذي هو الخلية في المجتمع الكبير، إنه زمن القيامة. ومشاهد هذا الزمن تختلف عن المشاهد التي عشناها في أسبوع الآلام، وقد ذكّرتنا بنبوات جاءت على لسان الأنبياء في العهد القديم، وأقوال ترددت على فم السيد المسيح أكَّدت بأن هذا الذي انتظروه طويلاً، قد جاء حقاً بالجسد، وأتمَّ رسالته على الأرض بمواقفه الصلبة تجاه قضايا مختلفة عاشها الإنسان وهو بعيد عن الله، وأقواله الروحية التي أصبحت رجاءً وأملاً للمأسورين، والحزانى والباكين، والمضطهدين والمُهمشين.
مشاهد الآلام بحد ذاتها أكَّدت على أن الحب في زمن القيامة أخذ مفهوماً جديداً في حياة الإنسان ” ليس لأحد حبٌ أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه “ (يو 51: 13).
فحمل الله الحامل خطايا العالم ظهر في بستان الزيتون وكأنه أمام مأساة لا توصف بكلمات أو عبارات. والقادر على كل شيء يعبّر أولاً عن الحزن والألم والأسى الذي أصابه في ليلة آلامه ” نفسي حزينة جداً حتى الموت ” (متى 26: 38)، ثم يطلب من الآب السماوي ” إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس ” (متى 26: 39)، ولكن يستطرد فيقول : ” ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت ” (متى 26: 39).
ومشهد القبض على يسوع يُـثير فينا مشاعر أليمة خاصة وأن الأسلوب كان خالياً من الإنسانية. فيسوع المسيح الذي حدَّث تلاميذه عن الدينونة يوم يجلس على كرسي مجده، وتجتمع أمامه جميع الشعوب فيميز بعضهم من بعض، كما يميز الراعي الخراف من الجداء (متى 25: 31 ـ 32). ويعد مكاناً للذين التفتوا في الحياة إلى الجائع، والعطشان، والغريب، والعريان، والمريض، والمحبوس، نرى أن واحد من التلاميذ الاثني عشر الذي يُدعى يهوذا الإسخريوطي يفاوض رؤساء الكهنة بمبلغ يقبضه ليُسلمه إليهم، وكانت العلامة ـ قبلة الخيانة. ثم تنتقل مشاهد الآلام، إلى دار قيافا، والجنود قد أوثقوا أسيرهم وقادوه باحتيـاط وهــم يضجون ويصخبون، كأنهم في موكب نصر.
والتلاميذ الذين عاينوا يسوع في أهم مراحل حياته بالجسد؛ جباراً يجترح المعجزات ويصنع الآيات، الواحدة أقوى من الأخرى، حتى أنه يُقيم الموتى ومن بينهم لعازر الذي أقامه بعد أربعة أيام، يشكّون في رب المجد وتتحقق نبوة زكريا ” أضرب الراعي فتتبدد خراف الرعية “ (متى 26: 31) (زكريا 13: 7).
وفي دار قيافا يأتي دور صياح الديك الذي ذكّر بطرس هامة الرسل بنبوة المسيح أنه ” في هذه الليلة قبل أن يصيح ديكٌ تنكرني ثلاث مرات “ (متى 26: 34). تصوروا بكاء بطرس بعد أن ” ابتدأ يلعن ويحلف إني لا أعرف الرجل “، لأنه تذكّر كلام يسوع !
ومشهد الحكم على يسوع بالموت يأتي في ختام محاكمة أشبه ما تكون بمسرحية هزلية؛ يسوع الصامت أدخل الرعب في قلوب الحكام والمتسلطين على رقاب الناس الذين وبخهم مرةً قائلاً : ” ويلٌ لكم لأنكم تغلقون ملكوت السموات قدام الناس فلا تدخلون ولا تدعون الداخلين يدخلون، ويلٌ لكم لأنكم تأكلون بيوت الآرامل، ويلٌ لكم لأنكم تطوفون البحر والبر لتكسبوا دخيلاً واحد ومتى حصل تجعلونه ابناً لجهنم، ويلٌ لكم أيها القادة العميان أيها الجهال أيها المراؤون “ (متى 23: 13 ـ 24). كلهم يخافون اليوم من صمت يسوع، ومع هذا يصدرون حكماً جائراً على يسوع، إنهم يريدونه أن يموت. وكأن بموته سينتصرون ! وهكذا ينقلنا مشهد الحكم على يسوع من رؤية بيلاطس إلى الجلادين، إلى انقسام المجتمع اليهودي بين مؤمن ومصدق برسالة يسوع وغير مؤمن وغير مصدق بها، فتنتهي المأساة على الصليب، ويسوع يترآى بين لصين ولكن الكتابة التي وضعت على رأسه أعادت الخوف إلى قلوب زعماء اليهود. فيسوع الناصري ملكٌ وهذه العلامة أرعبتهم وأرهبتهم، رغم أن يسوع غفر لهم وهو على الصليب قبل أن يستودع روحه في يد الآب السماوي قائلاً : ” يا أبتِ أغفر لهم لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون “ (متى 27). ربما استطاع أحد ملافنتنا السريان أن يعبِّر عن هذا المشهد بقوله : شوبؤرا دعدةا ؤنو دءلؤا مية بزقيفا… أن افتخار الكنيسة هو بأن الله مات مصلوباً.
أيها الأحبة…
رسالة القيامة إذاً تختلف في مشاهدها عن الصور التي تابعناها في درب الآلام. نحن أولاً أمام سؤال محير جاء على لسان مريم المجدلية، ومريم أم يعقوب، وسالومة ” من يدحرج لنا الحجر عن باب القبر. إذ أتين إلى القبر في أول الأسبوع عند طلوع الشمس “. فأهم ما ورد في فكر النسوة كان الحجر الموضوع على باب القبر، ومَن يدحرجها ولم يخطر على بالهنَّ بأن القبر مفتوح وفارغ، والمكان قفرٌ، وأن يسوع الناصري المصلوب قد قام ” ليس هو ها هنا هو في الموضع الذي وضعوه فيه “ (مر 16: 6). ” فخرجت النسوة من القبر فارات وهربن من القبر لأن الرعدة والحيرة أخذتاهنَّ ولم يقلن لأحد شيئاً لأنهن كنَّ خائفات ” (مر 16: 8). الكتبة والفريسيون والصديقيون وبيلاطس يخافون، والنسوة والتلاميذ والمقربون من يسوع يرتعدون، وكل من هؤلاء وأولئك ينظر بحيرة ودهشة ورعدة إلى هذا الحدث.
تُرى ما الخبر ؟ يسوع الناصري وُلد وأدهش العالم حوله بأحداث غير مألوفة عند الناس. بشارة الملاك لأمه مريم وهي مخطوبة، ولادته في بيت لحم، ظهور الملائكة في السماء، نشيد السلام، مجيء المجوس من المشرق، وغيرها. من الأحداث الإنجيلية إلى أن ظهر على نهر الأردن ثم تجواله بين المدن والقرى في اليهودية والسامرة وصور وصيدا، إلى أن دخل إلى مجد آلامه فتبدلت الصورة كلياً بعد القيامة. نحن في طقسنا السرياني عندما نصل إلى ختام الآلام نصلي في قداس سبت البشائر قائلين : ” أيها المسيح إلهنا، يا من بعدما أتممت أعمالك الخلاصية بالجسد من أجلنا واحتملت الآلام والصلب وانحدرت إلى مراقد الموتى لتخوِّل المائتين رجاءً وعزاءً، أظهرت هذا السر بأقنومك لتغفر به لكل من يؤمن بك، وتنقيه من درن الخطية وإياه وعدت وعداً جديداً، ليتنعم معك في ملكوتك “.
أذكّركم بما حصل في الأحد الماضي. كنا ندخل مع يسوع إلى أورشليم ونردد مع أطفال مدينة السلام : ” أوشعنا لابن داوود، مبارك الآتي باسم الرب “، وقد عرفنا أن يسوع دخل كملك إلى تلك المدينة، ولكن هذا الملك اتخذ من الصليب عرشاً لملكه ومن إكليل الشوك تاجاً له، ومن قصبة الخل صولجاناً يدير به مملكته، والأهم من هذا وذاك، جعل من مدينة أورشليم مدينة الحرب والدمار وإبادة الشعوب ـ مدينة السلام.
إذن، إذا كنا نعيد اليوم عيد القيامة ـ بعد كل المشاهد التي ذكرناها، نريد أن نعيد للسلام الذي أرساه يسوع المسيح بين الناس. فعيد القيامة بالنسبة إلينا هو عيد السلام، والسيد المسيح في كل مراحل سيرته بشَّر بالسلام وبنى تعليمه عليه وعمل من أجله، وبعد أن نهض من بين الأموات بالظفر لفت أنظار تلاميذه إلى رسالة السلام التي أصبحت عنواناً لتجسده. فعندما كان التلاميذ مجتمعين أول الأسبوع بعد القيامة المظفرة وكانت قلوبهم مضطربة وأغلقوا الأبواب خوفاً من اليهود، وقف يسوع في وسطهم وقال : ” السلام لكم “، وبعد ثمانية أيام جاء يسوع مرة أخرى إلى حيث كانوا مجتمعين وكان توما معهم، فوقف في الوسط وقال : ” سلام لكم “. إذاً، بانت مهمة السيد المسيح الأساسية التي من أجلها جاء بالجسد إلى الأرض؛ إنها إحلال السلام بين الله والناس، وبين الإنسان ونفسه، وبين الإنسان وقريبه. انظروا الرابط بين أقوال السيد المسيح وأنشودة الملائكة في ليلة الميلاد ” وعلى الأرض السلام “.
والإنجيلي يوحنا يضعنا في جو الوداع عندما يذكر على لسان السيد المسيح العلاقة بين محبتنا له وحفظنا لوصاياه، وبين هذا الذي سيحدث والمعزي الروح القدس، الذي سيرسله الآب باسمه، وهو يعلِّمنا كل شيء، ويذكرنا بكل ما قاله لنا (يو 14: 25). وفجأة يسمعنا صوته الشجي وإعلانه الرباني قائلاً : ” سلاماً أترك لكم، سلامي أعطيكم، ليس كما يعطي العالم أعطيكم “ (يو 14: 27).
هل ننسى التطويبات العشر التي من خلالها ننطلق في علاقاتنا مع بعضنا البعض كمؤمنين. وقوله لنا ولكل الناس ” طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يُدعون “. إذاً، أيها الأحباء، نحن في عيد القيامة المظفرة نعيد للسلام الذي نريده لنا ولكم، ونؤكد أنه من أجل إحلال هذا السلام بين الناس، وبين الله والإنسان، وبين الإنسان ونفسه جاء السيد المسيح بالجسد إلى الأرض، وصُلب ومات وقام.
أيها الأخوة السامعون، أيها المؤمنون، أيتها المؤمنات…
هذا السلام الذي حدثتكم عنه، نحن في منطقتنا أكثر من أي مكان آخر في العالم بحاجة إليه. فالقدس مدينة السلام، وبيت لحم مهد السيد المسيح، وكل الأراضي المقدسة في فلسطين الصامدة التي تتحداها تهديدات الإرهابيين وسلطات الاحتلال الصهيوني العنصري، تعيش حالة مأساوية فرضتها عليها قوات العدو، والصهيونية العالمية في كل تاريخها كانت تتوخى في مخططاتها وأحلامها تعميق الصراع، وبذر الشقاق والخلاف بين أبناء الديانات السماوية، وبخاصة بين المسيحيين والمسلمين الذين وقفوا جنباً إلى جنب عبر تاريخهم الواحد، وعملوا يداً بيد في كل معارك الاستقلال والكرامة ضد الاحتلالات، وأساليب الهيمنة التي أراد أن يفرضها الاستعمار على منطقتنا، والتاريخ يشهد بأنهم تعاونوا من أجل بناء الحضارة الإنسانية، وتثبيت دعائم السلام والعدالة، وتوفير المناخ الملائم للعيش معاً والوحدة الوطنية والإخاء الديني، الأمور التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من تاريخنا المشترك. كما أن الإعلام الصهيوني ساهم إلى حدٍّ كبير في نشر فكرة بُعد الإنسان في منطقتنا عن القيم الدينية والأخلاقية، وضرب الوجود الإسلامي في الغرب، وتغييب الحضور المسيحي في الشرق. ونحن من جهتنا كمسيحيين نُعلن للعالم أجمع أنه عشنا جنباً إلى جنب مع أخوتنا المسلمين في هذا الشرق الحبيب منذ الفتح الإسلامي وحتى هذه الأيام بمودةٍ ومحبةٍ وتعاون. وكما كنا في الماضي هكذا نحن في الحاضر وسنبقى في المستقبل، أبناء بررة لهذا الوطن العزيز، ومواطنين صالحين في هذه الأرض الطيبة التي تجمعنا تحت سماء واحدة ولنا إله واحد أحد، متمسكين بالثوابت الوطنية، وبعدم التفريط بذرةٍ من تراب الوطن، ومعلنين مع كل الشرفاء والمخلصين مشروعية المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الصهيوني، وإحقاق حقوق الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم وتقرير مصيرهم، وإقامة دولتهم ذات السيادة وعاصمتها القدس. ومستنكرين في الوقت ذاته حرب الإبادة وكل أساليب القمع، والاضطهاد، والاحتلال، والتشريد، والقتل، والغزو الاقتصادي والسياسي والثقافي. كما أننا نشجب كل أنواع الدعم الآتي من الغرب من أي طرف كان للكيان الصهيوني الوحشي الغاصب، وندعو إلى إنهاء حالة الحرب المجنونة والإبادة الشرسة، والانسحاب الكامل من الأراضي المحتلة، والاعتراف بحقوق إخوتنا الفلسطينيين بالوجود الآمن، وبإحلال السلام العادل والشامل في المنطقة.
ومع رئيس بلادنا وقائدنا الشاب الدكتور بشار الأسد نقول : العاصفة مهما استمرت سوف تنتهي. فالنصر قريبٌ وآتٍ إن شاء الله، والسلام والأمن سيعمان في كل منطقتنا، والعاصفة الهوجاء سيكون مصيرها الزوال.
إننا نناشدون أصحاب الضمائر الحية، والرأي العام العالمي، وكل الهيئات والمنظمات الدولية والإنسانية، وكل المؤسسات الدينية، لاتخاذ موقف حازم للضغط على الكيان الصهيوني، وإدانة سياسته. ونوجه التحية إلى أرواح الشهداء الأبرار الذين روت دماؤهم أرض فلسطين، فانبتت حياة في المقاومين الأشاوس، ونتضامن مع الأبطال الذين يدافعون عن كرامة الإنسان والوطن، وللقدس وكل الأراضي المقدسة وفلسطين الصامدة سلامٌ آتٍ.
نهنئكم أيها السامعون الكرام، ونهنئ أخوتنا في كل مكان ونقول لكم ولهم :
المسيح قام… حقاً قام
عيد القيامة
2002
2003
المسيح قام … حقاً قام
ܒܫܡ ܐܒܐ ܘܒܪܐ ܘܪܘܚܐ ܚܝܐ ܩܕܝܫܐ ܚܕ ܐܠܗܐ ܫܪܝܪܐ .. ܐܡܝܢ
” وفيما هم يتكلمون بهذا، وقف يسوع نفسُه في وَسَطِهم وقال لهم سلام لكم. فجَزِعوا وخافوا وظنُّوا أنهم نظروا روحاً، فقال لهم ما بالكم مضطربين، ولماذا تخطرُ أفكارٌ في قلوبكم. انظروا يديَّ ورجليَّ إِنِّي أنا هو. جُسُّوني وانظروا فإنَّ الروحَ ليس له لحمٌ وعظامٌ كما تَرَوْنَ لي. وحين قال هذا أراهم يديه ورجليه “ (لو 24: 36 ـ 40).
أيها الأحبة…
هكذا يصوّر لنا لوقا البشير مشهد القيامة بعبارات وجيزة واضحة لا تحتاج إلى برهان. ومع هذه الكلمات نتذكر ما حصل منذ الأحد الماضي حيث احتفلنا بدخول ربنا يسوع المسيح بمجدٍ إلى مدينة السلام. فمنذ ذلك التاريخ وحتى ساعة هذا الوصف الدقيق للقيامة، يَنقلنا الإنجيليون الأربعة من مشهدٍ إلى مشهد، ومن موقفٍ إلى موقف، كل ذلك ليؤكدوا لنا حقيقة واحدة، وهي أن مجيء يسوع المسيح بالجسد إلى الأرض كان بهدفٍ، طالما تحدث عن هذا الهدف الأنبياء في مراحل سابقة من تاريخ التجسد الإلهي. والذي يهمنا ونحن نبحث في موضوع القيامة في يوم احتفالنا بعيد الناهض من بين الأموات هو كيف كان يُريد يسوعُ نفسُه أن يقنع اليهود بأن العهد الذي قطعه الرب الإله مع شعبه قد انتهى، وهوذا عهد جديد يعقده الله ليس مع فرد، أو عائلةٍ واحدة، أو شريحةٍ معينة، أو بقعةٍ جغرافية محدودة، وإنما العهد مع كل إنسان بغض النظر عن دينه، أو لونه، أو فكره، أو منطقته. من هنا نتحقق بأن المسيحية جاءت لتكون دين انفتاح ومحبة، جاءت من أجل خلاص الإنسان. ودعونا نعود ونتأمل سؤالاً طرحه اليهود على السيد المسيح بعد أن عرفوه من خلال مواقفه من تاريخهم، ورؤيته لتعاليمهم بحسب ناموس موسى، وأفكاره المتعارضة لأفكارهم، وتصريحاته النارية التي هزَّ بها كيانهم، وأخيراً معجزاته التي لم يسبقَ لأحد من الأنبياء أو الآباء أن قام بها، وصفها الإنجيل كالتالي : ” العميُ يُبصرون والعُرجُ يمشون والبرصُ يُطهَّرون والصُم يسمعون والموتى يقومون والمساكينُ يبشرون “ (متى 11: 5).
هذا السؤال طرحه عليه رؤساء الكهنة والكتبة والشيوخ قائلين : ” بأيِّ سلطان تفعل هذا ومن أعطاك هذا السلطان حتى تفعل هذا “ (مر 11: 27 ـ 30). سؤالهم مبطَّن، هم يدركون بأن يسوع المسيح ليس كباقي الأنبياء، وهم يعلمون أن طبيعة رسالته تختلف كثيراً شكلاً ومضموناً عن طبيعة من سبقه من الآباء، ولكنهم أرادوا أن يتعرفوا على خفايا هذا السلطان الإلهي الذي يمارسه يسوع. فيسوع في نظر أصحاب السؤال ربما كان معلماً ومصلحاً، أو ثائراً على التقاليد والعادات، أو مفسراً لكتبهم بدليل أنه عندما كان في الهيكل وجداه يوسف ومريم ” جالساً فيما بين المعلمين يسمعهم ويسألهم وكان جميع الذين يسمعونه مندهشين من فهمه وأجوبته “ (لو 2: 46 ـ 47).
أما سلطان النبوة الذي كان يخيفهم فمن أين أتى إليه ؟ وردَّ السيد المسيح: وأنا أيضاً أسألكم، أجيبوني فأقول بأي سلطان أفعل هذا. معمودية يوحنا من السماء كانت أم من الناس ؟ هذا النقاش القصير بين السيد المسيح ورؤساء الكهنة والكتبة والشيوخ، كان يدور في فَلَك السلطان الإلهي، لأنه لو آمنوا به وتحققوا بأن يسوع المسيح هو المسيح ـ الماسيا المنتظر، هو النبي الذي أشار إليه موسى، لغيَّروا موقفهم.
كانوا وبقوا محتارين. وسؤال السيد المسيح لهم أوقعهم في ورطة، فلو قالوا أن سلطان يوحنا المعمدان كان من السماء يُحسبون في الحال أنهم يقاومون الله، لأنهم لم يؤمنوا به. وإذا قالوا العكس تعرضوا لاتهام الشعب، لأن يوحنا كان معروفاً لدى الجميع أنه نبي، فخوفهم من الشعب جعلهم أن يقولوا لا نعلم.
ويسوع قال لهم : ” وأنا لا أقول لكم بأيِّ سلطان أفعل هذا “، ولكن هل كان يحتاج الأمر إلى هذا النقاش القصير المبطن ليتأكدوا أن سلطان يسوع المسيح كان من الله ؟ ألم يحدثْهم عن قيامة الأموات أكثر من مرة ؟ ألم يذكّرْهم بما كتبه موسى في أمر العليقة، كيف كلّمه الله قائلاً : ” أنا إلهُ ابراهيم وإلهُ اسحق وإلهُ يعقوب، ليس هو إلهَ أموات بل إلهُ أحياء ” (مر 12: 26 ـ 27)، فلماذا حصل هذا الأمر بعد دخوله إلى مدينة السلام بالمجد.
في الإصحاح الرابع عشر من إنجيل مرقس، نرى كيف أن الأحداث تتسارع بدءاً من مؤامرة رؤساء الكهنة الذين كانوا يطلبون ” كيف يُمسكونه بمكر ويقتلونه ” (مرقس 14: 1). وجوابه للتلاميذ بعد أن جاءته الامرأة صاحبة الطيب الكثير الثمن؛ ” لأن الفقراء معكم في كل حين… وأما أنا فلست معكم في كل حين “ (مر 14: 6 ـ 8). ثم خيانة يهوذا الإسخريوطي واحد من الاثني عشر الذي مضى إلى رؤساء الكهنة ليسلمه إليهم، ولما سمعوا فرحوا ووعدوه أن يعطوه فضة وكان يطلب كيف يسلمه في فرصةٍ موافقةٍ (مر 14: 10 ـ 11)، وبعدها الاستعداد للفصح، ونبوته عن التسليم الأخير. هنا نقرأ في إنجيل مرقس أنه ” ولما كان المساء جاء مع الاثني عشر وفيما هم متكئون يأكلون قال يسوع الحق أقول لكم إن واحداً منكم يسلمني الآكل معي ” (مر 14: 17 ـ 18). تصوروا أنهم ابتدأوا يحزنون ويقولون له واحداً فواحداً هل أنا ؟ وآخر هل أنا؟
ثم جاء العشاء الأخير الذي فيه أسس سر القربان المقدس، ولكن بعد أن أخذ الكأس وشكر وأعطاهم فشربوا منه كلُّهم قال لهم : ” هذا هو دمي الذي للعهد الجديد “، قالها يسوع وهو مطمئنٌ أن الذين اختبروا بركات العهد القديم في سيناء، يُدركون قوة البركة بدم العهد الجديد، دمِ ابن الله. فعهد الدم هو جديد في حياة اليهود، ودم العهد الجديد لا يعود بمفهوم العهد القديم أنه علامة، بل علاقة ارتبطت برباط إلهي يحدث خلاله تبادل خطية ببر، وجهالةٍ بحكمة، وموتٍ بحياة، فيتسرب كل ما فينا من ضعفات ويحيل مكانها تقديس. فالرباط يتحول إلى اتحاد أي شراكة في ميراث الله وملكوته، كل هذه الأحداث التي تسارعت بعد دخول السيد المسيح بالمجد إلى مدينة السلام كان لكي يُعدَّهم للحدث الأهم وهو القيامة المظفرة، ولهذا قال لهم بعد أن سّبحوا وخرجوا إلى جبل الزيتون ” ولكن بعد قيامي أسبقكم إلى الجليل “ (مر 14: 28).
أيها الأحبة…
كيف يقوم السيد المسيح إن لم يمت، لهذا قوله: بعد قيامي فيه تأكيد على أنه سيموت، ويموت على الصليب، وهذا الموت سيسبقه آلام هي التي عشناها في هذا الأسبوع بعد دخوله على أصوات الأطفال والرضع ” أوشعنا لابن داود مبارك الآتي باسم الرب “. آلام، أوجاع، أحزان، صلاة لكي تعبر عنه الساعة إن أمكن، قُبلة الخائن، والقبض عليه، محاكمته أمام رؤساء الكهنة والشيوخ والكتبة، شهادات الزور، جوابه الصارخ عندما سألوه : ” أأنت المسيح ابن المبارك “، وقوله : ” أنا هو “، إنكار بطرس وصياح الديك، المحاكمة أمام بيلاطس، استهزاء العسكر به، صراخ اليهود: اصلبه، اصلبه، الضرب على رأسه بقصبة، البصاق عليه، نزع الأرجوان عنه، الطريق إلى الصليب، إعطاؤه خمراً ممزوجة بمر ليشرب، الاقتراع على ثيابه، صلبه مع لصين، الواحد عن يمينه والآخر عن يساره وعنوان علته مكتوباً : ملك اليهود، وأخيراً الثلاث ساعات الأخيرة، وكيف أن الظلمة غطت الأرض. وبعد أن أسلم الروح انشقاق حجاب الهيكل إلى اثنين من فوق إلى أسفل، واعتراف قائد المئة أنه حقاً كان هذا الإنسان ابن الله، الدفن بعد أن اشترى يوسف الذي من الرامة كتاناً وأنزله وكفنه بالكتان ووضعه في قبر كان منحوتاً في صخرة ودحرج حجراً على باب القبر. كل هذه المشاهد التي عشناها من خلال طقسنا السرياني الجميل كانت لتعطي الجواب لرؤساء الكهنة، والفريسيين، والكتبة ” من أين لك هذا السلطان، وبأي سلطان تفعل هذا “.
أيها الأحبة…
نهاية المطاف كان الوصف الرائع لحدث القيامة المظفرة. ” فباكراً جداً أتت مريم المجدلية ومريم أم يعقوب وسالومة إلى القبر، إذ طلعت الشمس ولما دخلن القبر رأين شاباً جالساً عن اليمين لابساً حُلةً بيضاء، فاندهشنَّ. فقال لهنَّ : لا تندهشنَّ، أنتنَّ تطلبْنَ يسوع الناصري المصلوب، قد قام. ليس هو ههنا هوذا الموضع الذي وضعوه فيه “ (مر 16: 2 ـ 6).
نتأمل كلمة: أندهشنَّ حالة ممزوجة بين الخوف والحيرة أدت إلى الاندهاش، هذه الحالة قد تراود كل إنسان في الحياة أمام جلائل الأعمال التي يريدها الله للإنسان في كثير من الأحيان، نراه يقف أمامها باندهاش. ماذا كنا ننتظر من النسوة عندما دخلن القبر ورأين ذلك الشاب يقول لهنَّ يسوع الناصري المصلوب قد قام. لوقا البشير في إعلانه عن القيامة قال : ” تطلبن الحيَّ بين الأموات، ليس هو هنا لكنه قد قام “. إذاً المسيح قام، وقيامته شرحت كل المراحل التي سبقت هذا الحدث العجائبي الكبير. بقي أن يؤمن الرسل أولاً بالقيامة، لأنهم عرفوه عن كثب، أكلوا وشربوا معه، عايشوه في كل حركة كان يقوم بها، سمعوه عن قرب، شاهدوا بأم أعينهم المعجزات والعجائب والآيات، وفوجئوا في الأسبوع الأخير رغم كل ما سبق وقاله لهم بما فعله اليهود به وعاشوا حتى ساعة الصلب حالةً غريبةً في حياتهم : جَزَع، ورعدةٌ، وخوفٌ، وحيرةٌ، انتقلت كلها إلى اندهاش ! تُرى ماذا بعد ؟
هذا المولود الذي حيَّر الناس قبل وبعد ولادته، هذا الذي قال عنه يوحنا المعمدان هوذا حامل خطايا العالم، وجُرِّب من إبليس بعد عماده، يخوض معركة جديدة في أكبر تجربةٍ مرت في حياته وهي آلامه وصلبه وموته ثم قيامته من بين الأموات. ولكي يؤمن الرسل ظهر لهم يسوع الناهض من بين الأموات، وزودهم بالسلاح الذي يحتاجونه للدفاع عن أنفسهم أمام تجارب الحياة الصعبة، فعندما ظهر في وسطهم حيّاهم قائلاً : سلام لكم، السلام الذي من أجله جاء إلى العالم.
السلام الذي جعله أداةً لنشر الإنجيل في كل مكان. السلام الذي ربط فيه الأرض بالسماء، والإنسان بالخالق. السلام الذي أصبح رمزاً لكنيسته المفتداة بدمه الطاهر. السلام الذي ابعد عنهم كل حالات الجزع والاضطراب وجعلهم يعيشون في مأمن، ويبتعدون عن الأفكار الغريبة التي تخطر في قلوبهم. ثم قال لهم : انظروا يديَّ ورجليَّ إني أنا هو. ذكّرهم بالسنوات الماضية التي عاشها معهم خطوة خطوة جسوني فإن الروح ليس لحم وعظام كما ترون، انظروا يديَّ ورجليَّ هذه كانت الخاتمة.
وهكذا قال ذلك الشاب للنسوة : ” اذهبنَّ وقلنَّ لتلاميذه ولبطرس، إنه يسبقكم إلى الجليل “. سبقهم وأراهم يديه وجنبه ودعا توما ليضع أصبعه في جنبه ويرى يديه. ومع تلميذي عماوس اللذين أمسكت أعينهما عن معرفته أولاً : ” لما اتكأ معهما أخذ خبزاً وبارك وكسر وناولهما. فانفتحت أعينهما وعرفاه “ (لو 24: 15 ـ 24).
فالقيامة فتحت أعين الجميع. جسُّوه وآمنوا به، وعرفوا حقاً أن رسالة الخلاص قد تحققت في هذا اليوم، لأن يسوع المسيح الناهض من بين الأموات أقامنا معه بالمجد لنعيش معه حياة جديدة تختلف عن الحياة في كل مراحلها الماضية.
على هذا الرجاء وهذا الإيمان نعيش كل هذه المواسم. وإلى الذي أصبح باكورة الراقدين فنوجه أنظارنا في هذا الوقت لكي يشملنا بمحبته الفائقة ويضمنا إلى مصاف الذين يعملون بحسب وصاياه. وأن يبارك سورية العزيزة ورئيسنا القائد الدكتور بشار الأسد ويكون معه في كل ما فيه ولخير البلاد والعباد، وأن يوطد الأمن في المعمورة والسلام في المسكونة ويبعد عنا وعنكم كل سوء ومكروه وكل عيد ومناسبة وأنتم بخير.
المسيح قام
عيد القيامة
2003
2004
المسيح قام … حقاً قام…
ܒܫܡ ܐܒܐ ܘܒܪܐ ܘܪܘܚܐ ܚܝܐ ܩܕܝܫܐ ܚܕ ܐܠܗܐ ܫܪܝܪܐ .. ܐܡܝܢ
أيها الأخوة، أيتها الأخوات…
أعيدكم في هذا المساء المبارك بعيد قيامة ربنا يسوع المسيح من بين الأموات، إذ بعد أن جاهدنا معاً جهاداً روحياً من خلال الصيام الأربعيني المقدس، وصلنا بسلام إلى فرح القيامة. فخلال الآحاد الستة السابقة لأحد الشعانين، توقفنا بحسب طقسنا السرياني الأنطاكي عند خمس معجزات: تحويل الماء إلى خمر في قانا الجليل، شفاء الأبرص، شفاء المخلّع، شفاء ابنة الكنعانية، شفاء الأعمى، وأيضاً تأملنا بتمعن كبير مَثل السامري الصالح.
هل أدركتم الغاية الأولى التي جمعت بين كل الآحاد من خلال الصلوات، والتراتيل، والأناشيد، وأقوال الآباء، والقراءات، لقد كنَّا نعيش معاً لندخل إلى مجد الرب يسوع المسيح، فمع المعجزات يتشدد إيماننا ويقوى، ومع سؤال ذلك الناموسي الذي قام ليجرب يسوع المسيح قائلاً : ” يا معلم ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية ” وختمه بسؤال : ” من هو قريبي ؟ “ (لوقا 10: 29)، أدركنا أن العلاقة التي يريدها الله منا الواحد تجاه الآخر يجب أن تكون مبنية على صنع الرحمة. والآن وبعد أن مجدنا يسوع المسيح وسبحناه عندما دخل إلى مدينة أورشليم قائلين : ” أوشعنا مبارك الآتي باسم الرب “ (يو 12: 13). والتلاميذ من حوله يُظهرون دهشة وعجباً ليس من هذا المنظر الغريب العجيب، وإنما من فكرة السماح لكل أولئك بأن يتمجد يسوع المسيح من الناس وهو صاحب القول الشهير : ” مملكتي ليست من هذا العالم ” (يو 18: 36).
في الحقيقة بعد هذه التظاهرة التمجيدية على أصوات أطفال أورشليم وزينة الشوارع والأزقة بسعف النخل وأغصان الزيتون دخل يسوع إلى مجد آلامه. تابعنا الخطوات واحدة فواحدة، فتوقفنا عند تأسيس سر القربان المقدس في تلك الليلة التي غسل قيها يسوع أقدام تلاميذه بتواضعٍ جمّ، وأعلمهم بعد أن أخذ الخبز وأعطاهم قائلاً : ” خذوا كلوا هذا جسدي “. والكأس وشكر وأعطاهم قائلاً : ” اشربوا منها كلكم لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا ” (متى 26: 28).
بعد هذا التأسيس الواضح لسر القربان المقدس أكَّد لهم بأنه : ” من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديداً في ملكوت أبي ” (متى 26: 29).
وفي جمعة الآلام وبعد كل الفصول الهزلية التي أبداها قادة اليهود تجاه المسيح وقفنا نحو الساعة التاسعة وكانت ظلمة على الأرض وسمعنا صراخ يسوع بصوت عظيم قائلاً : ” إيل، إيل لما شبقتني ” (مرقس 15: 34)، ثم دوى صراخه في كل مكان عندما أسلم الروح.
عن هذا المشهد الذي وصفه الإنجيليون كتب بولس الرسول في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس قائلاً : ” أن المسيح مات “ (1كو 15: 3)، فيجدر بنا أمام هذا الحدث الفريد من نوعه في كلّ التاريخ البشري، أي موت يسوع ثم قيامته من بين الأموات أن نقف متأملين في الذي حصل وعلاقة الأموات المؤمنين الراقدين على رجاء القيامة بهذا الحدث العجائبي.
يتساءل بولس الرسول وهو يتحدث إلى أهل كورنثوس قائلاً : ” إن كان المسيح يُكرز به أنه قام من الأموات، فكيف يقول قوم بينكم إنْ ليس قيامة أموات ؟ ” (1كو 15: 12)، سؤال مهم يطرح علينا حتى في هذه الأيام، لأن من ينكر قيامة الأموات ينكر أيضاً قيامة المسيح. ولكن بولس الرسول قبل أن يدخل في هذا النقاش اللاهوتي يذكّر أهل كورنثوس بموضوع قيامة الأموات فيقول : ” أعرفكم أيها الأخوة بالإنجيل الذي بشرتكم به وقبلتموه وتقومون فيه ” (1 كو 15: 1).
ثم يحكي ما تسلمه عن المسيح الذي مات من أجل خطايانا حسب الكتب، وأنه قام في اليوم الثالث حسب الكتب، وأنه ظهر لصفا ثم للأثني عشر وبعد ذلك ظهر دفعة واحدة لأكثر من خمسمئة أخ، وظهر ليعقوب ثم للرسل أجمعين، وأخيراً ظهر لبولس ذاته الذي يعترف بماضيه المناهض للكنيسة ورسالتها فيقول : ” أصغر الرسل أنا الذي لست أهلاً لأن أدعى رسولاً لأني اضطهدت كنيسة الله ” (1 كو 15: 9).
هذه المقدمة التي يوجز بها فكره قبل أن يدخل في النقاش اللاهوتي حول قيامة الأموات وربطها بقيامة المسيح كانت ضرورية جداً لا ليبرهن لأهل كورنثوس فحسب، بل للمسيحيين في كل زمان ومكان أن قيامة المسيح المرتبطة بقيامة الأموات أصبحت أسَّ الإيمان وأساس كل التعاليم والشروحات والتفاسير الواردة على لسان الآباء والمعلمين.
بولس المعلم الذي عَرَفَ يسوع المسيح بعد أن رآه هو في طريقه إلى دمشق بيَّن: أن يكون لنا في هذه الحياة فقط رجاء في المسيح، نكون أشقى الناس. أما أن يكون إيماننا مبنياً على قيامة المسيح من الأموات، فنحيا في المسيح.
أيها الأخوة أيتها الأخوات…
إذا أراد أحدنا أن يدرك كُنه القيامة عليه أن يعود إلى الينبوع الذي منه يستقي المعلومات. قيامة السيد المسيح من بين الأموات لم يكنْ تصديقها سهلاً حتى على الرسل. فعلامات الشك بانت منذ اللحظات الأولى حتى على الذين فهموا ما كان يقوله عن الآلام والموت، لأن كل ذلك تردد على لسان قادة اليهود وفريسييهم. فالرؤساء مع الشعب كانوا واقفين ينظرون ويسخرون به قائلين : ” خلّص آخرين فليخلص نفسه إن كان هو المسيح مختار الله ” (متى 27: 24). والجند أيضاً استهزاؤا به عندما كانوا يقدمون له خلاً قائلين : ” فلينزل الآن عن الصليب فنؤمن به ” (متى 27: 42)، وحتى أنّ واحداً من المذنبين المعلقين قال له : ” إن كنت أنت المسيح فخلص نفسك وإيانا ” (لوقا 23: 39).
بعد القيامة حاملات الحَنوط عندما وجدنَّ الحجر مدحرجاً عن القبر، ودخلن ولم يجدنَّ جسد يسوع، كنّ محتارات وخائفات ومنكِسات وجوههن إلى الأرض. وترآى كلامهن للرسل كالهذيان ولم يصدقوهن. والتلميذان اللذان كانا منطلقين إلى عمواس، وكانا يتكلمان ويتحاوران عن الآلام والصليب أحدهما الذي اسمه كليوباس، أخبرَ بأن بعض النساء حيّرن الرسل والتلاميذ لأنهن لم يجدن جسده في القبر. وبعد الذي حصل معهما عادا إلى أورشليم وأخبرا بما حدث في الطريق، وكيف عرفاه عند كسر الخبز.
ويسوع الناهض من بين الأموات نفسه فيما كان الرسل يتكلمون وقف في وسطهم وقال لهم : ” سلامٌ لكم فجزِعوا وخافوا وظنّوا أنهن نظروا روحاً فقال لهم : ما بالكم مضطربين ولماذا تخطر أفكار في قلوبكم انظروا يدي ورجلي إني أنا هو جسّوني وانظروا فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترونني. حين قال هذا أراهم يديه ورجليه ” (لوقا 24: 36 ـ 40).
فكل هذه الظهورات وغيرها من الحقائق التي رافقت قيامة السيد المسيح كانت لكي تزيد من إيمانهم بقيامة الفادي من بين الأموات، وتبني أساسات تعاليم الكنيسة على هذا الإيمان الثابت الراسخ.
الرسول بولس لا يكتفي في حديثه مع أهل كورنثوس عن قيامة المسيح المظفرة، بل يربطها بقيامتنا. فمن أنكر الأولى أنكر الثانية، ومن لا يقول بقيامة أموات، كأنه يقول بعدم قيامة المسيح. والأكثر من ذلك أن بولس الذي يتحدث بنفس آبائي رسولي عميق ينظر إلى البعيد فيرى أمامه قوافل الشهداء، والآباء، والمعلمين، وحاملي الكرازة، ومشاعل الإنجيل، كلهم يصبحون شهوداً للحق. لهذا يصرخ بأعلى صوته قائلاً : أن الذي ينكر قيامة المسيح ممن يدّعي أنه تلميذٌ للمسيح يكون قد بنى إيمانه على باطل، فإنكار قيامة المسيح تجعل كرازتنا أن تكون باطلة وكل الإيمان في الكنيسة باطلاً، ليس هذا فحسب بل شهادتهم وشهادتنا وشهادة كل المسيحيين المنكرين لقيامة المسيح تكون شهادة زور.
ففي هذا اليوم الذي نحن نحتفل فيه بعيد القيامة المظفرة، نعود إلى الوراء لنرى كيف أن الذين أنكروا القيامة أصبحوا غرباء عن جسم الكنيسة، إذ لا يمكن أن نجمع بين الإيمان وعدم الإيمان، أن نجمع بين الحق والباطل، أن نجمع بين النور والظلام، كما أننا لا نستطيع أن نعبد ربين الله والمال في الوقت ذاته، فإما أن نقول بأن المسيح قام حقاً، ويتردد صدى ذلك في حياتنا من خلال أعمالنا، ومواقفنا، وأفكارنا، وتوجهاتنا، وعلاقاتنا مع بعضنا البعض، أو لا نقول ذلك. بعبارة أخرى إما أن تكون القيامة بالممارسة والعمل أو لا تكون.
الذين ينكرون قيامة المسيح من غير المؤمنين هذا شأنهم ! أما أن ينكر قيامة المسيح من المؤمنين فهذا شأننا، أين هي شهادة هذا المسيحي في مجتمعه عندما ينكر قيامة المسيح ؟ يعتقد البعض أن عصر البدع والهرطقات قد انتهى، وأن لا هراطقة اليوم بيننا، الحقيقة أن تيارات الكفر، وعدم الإيمان، وعدم الأخذ بتعاليم الإنجيل، والآباء، وعدم الإقرار بحقيقة جوهر الإيمان المسيحي، هذه التيارات تتزايد وتتنامى في المجتمعات المسيحية في كل مكان. هل لأن أصحابها لم يقرأوا لبولس المعلم ما كتبه لأهل كورنثوس ؟ هل لأنهم لم يسمعوه وهو يقول : ” إذ الموت بإنسان أيضاً قيامة الأموات، لأنه كما في آدم يموت الجميع، هكذا في المسيح سيحيا الجميع ” (1 كو 15: 21 ـ 22). إذاً بولس الرسول وهو يذكر آدم وموت آدم، ويذكر المسيح وقيامة المسيح، يدلنا على معنى الحياة التي هي بعد الموت، في آدم مات الجميع، ولكن في المسيح ينال الكل الحياة.
من خلال هذه الأجواء الروحية نعيش حدث القيامة، وننطلق إلى الممارسات في الحياة، فعندما نطالب بالعمل الصالح المثمر الجاد، لا نستبعد دور الإيمان المهم في حياتنا، ولكن في الوقت نفسه نريد أن نقرن إيماننا بالقيامة بالأعمال. فالناهض من بين الأموات علّمنا قائلاً : ” ليروا أعمالكم الصالحة ويمجدوا أباكم الذي في السموات ” (متى 5: 16). ويعقوب الرسول يتساءل ” ما المنفعة يا أخوتي إن قال أحدٌ أن له إيماناً ولكن ليس له أعمال. هل يقدر الإيمان أن يخلصه ؟ إن كان أخٌ أو أختٌ عريانين ومعتازين للقوت اليومي. فقال لهما أحدكم أمضيا بسلام استدفئا واشبعا ولكن لم تعطوهما حاجات الجسد فما المنفعة ؟ هكذا الإيمان أيضاً إن لم يكن له أعمالٌ ميتٌ في ذاته. لكن يقول قائلٌ أنتَ لك إيمان وأنا لي أعمال. أرني إيمانك بدون أعمالك وأنا أريك بأعمالي إيماني. أنتَ تؤمن أن الله واحدٌ. حسناً تفعل. والشياطين يؤمنون ويقشعرون. ولكن هل تريد أن تعلم أيها الإنسان الباطل أن الإيمان بدون أعمال ميتٌ. ألم يتبرر ابراهيم أبونا بالأعمال إذ قدّم اسحق ابنه على المذبح ؟ “ (يعقوب 2: 14 ـ 21). هكذا نفهم سر القيامة، ليس فقط بالإعلان أو إعادة الذكرى إلى الأذهان، بل بالأعمال الصالحة، لأن الأعمال تؤكد على مفاعيل القيامة في حياتنا وهي الأهم في مسيرة الحياة الروحية.
أيها الأخوة، أيتها الأخوات…
إذا كنا نتحدث عن علاقة الإيمان بالأعمال ونحن نحتفل بعيد القيامة المظفرة لا نستطيع أن نتجاهل ما يدور حولنا من أحداث خطيرة تتفاعل يوماً بعد يومٍ. فمنطقتنا لأكثر من نصف قرنٍ تعيش هذه الأحداث الخطيرة، وَسَئِمَ إنسان هذه المنطقة الحروب الطاحنة بكل أشكالها وألوانها، وفي كل يومٍ تخرج علينا وكالات الأنباء خاصة المُغرِضة والموجّهة من جهات ذات أطماع وغايات استعمارية، تبث سموماً في الأفكار، وتخلق جواً متشائماً لمستقبل المنطقة والإنسان فيها، وتعمل ضمن توجهات خبيثة الغاية منها النيل من كرامة الإنسان، والسيطرة على خيرات الأرض وطاقاتها. ونحن لا ننسى في هذا المجال ما يجري في الأراضي المقدسة، في القدس مدينة السلام وما جاورها من المدن، التي عاش فيها السيد المسيح، ومن خلالها خاطب العالم رسالة السلام. وفي العراق الشقيق الذي دخل في نفق معتمٍ طويل. هذا غير التهديدات الموجهة إلى أكثر من بلد. فحيال كل هذه الأحداث، وبصفتنا نحمل رسالة الإيمان من هذه المنطقة إلى العالم، يهمنا أن نؤكد على وحدتنا الوطنية، وتلاحمنا مع بعضنا البعض كأخوة وأخوات، مواطنين ومواطنات، بإرادتنا واختيارنا راضين أن نعيش تحت سقف الوطن الواحد، ونعمل بيدٍ واحدةٍ متماسكةٍ لمصلحة هذه الأرض الطيبة، التي فيها ولدنا، وعليها نترعرع وننمو ونكبر، مستمدين من تعاليمنا المقدسة كل فكر صالحٍ ومن أجل كل عملٍ صالحٍ، لتظهر الأخوّة في أبهى صفحاتها، ومؤكدين بأننا لم نرضَ بأن توجه سهام الإهانة إلى وطننا العزيز، فنحن كنا وما زلنا متمسكين بمبادئ السلام والكرامة والحرية والاستقلال. وإيماننا راسخُ بأن القيادة الحكيمة لسورية العزيزة وعلى رأسها الدكتور بشار الأسد رئيس الجمهورية ستواصل خدمتها للإنسان، وعملها من أجل السلام، ووقوفها إلى جانب المستضعفين، ورسالتها الداعية إلى الإخاء الديني والعيش المشترك والوحدة الوطنية. ومن على هذا المِنبر نهنئ أخوتنا المسيحيين في كلِ العالم لأننا نحتفل بفرحٍ وسرورٍ في هذا العام معاً بعيد القيامة، وأملنا كبير بأن ربَّ الكنيسة ومؤسسسها سيكون دائماً معها، وفي وسطها، وستبقى رسالة الكنيسة الحقيقية الداعية دائماً إلى المحبة والخدمة والعطاء مستمرةً، وإليهم وإليكم وإلى كل السامعين الأعزاء نقول :
كل عيد وأنتم بخير . المسيح قام…
عيد القيامة
2004
2005
المسيح قام … حقاً قام…
ܒܫܡ ܐܒܐ ܘܒܪܐ ܘܪܘܚܐ ܚܝܐ ܩܕܝܫܐ ܚܕ ܐܠܗܐ ܫܪܝܪܐ .. ܐܡܝܢ
أيها الأحباء…
يسعدني أن أهنئكم في هذا المساء المبارك بعيد قيامة ربنا يسوع المسيح من بين الأموات. لقد عشنا مع بعضنا بعضاً في جهاد روحي خمسين يوماً، واستطعنا خلالها أن ننمي الإيمان الذي كان في قلوبنا من خلال الصلوات والتراتيل والمدائح، التي رتبها لنا آباؤنا الميامين بحسب طقس كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية. وكانت فرصة لنستعيد إلى أذهاننا من خلال قراءات الكتاب المقدس، والوقوف عند بعض الأحداث الإنجيلية، وتأمل أقوال ربنا يسوع المسيح التي تُشير إلى حدث القيامة التاريخي والروحي الهام الذي نعيشه في هذه الليلة.
نذكر أنفسنا أولاً بالمعجزات الخمس التي وقفنا عندها وتأملناها، واستخرجنا منها دروساً وعبراً أدخلتنا في دائرة الإيمان المبني على حدث القيامة. ففي قانا الجليل وعندما حوّل يسوع المسيح الماء إلى خمر جيدة بقي رئيس المتكأ، وكل الذين حضروا العرس معه في دهشة من أمر هذه الأعجوبة ! لأن الخمر الجيدة جاءت بعد أن سكر الحاضرون، بينما بحسب العادة الجارية في تلك الأيام، كان يجب أن توضع الخمر الجيدة قبل ذلك! جاءت دهشة رئيس المتكأ ومن معه لأنهم لم يسمعوا فيليبس قبل هنيهةٍ وهو يقول لنثنائيل : وجدنا الذي كتبَ عنهُ موسى في الناموسِ والأنبياءُ يسوعَ ابن يوسف الذي من الناصرةِ (يو 1: 45)، ودعاه قائلاً : تعالَ وانظر(يو 1: 46). لو تسنى لرئيس المتكأ ومن معه أن يأتوا وينظروا، لما تساءلوا أمام الخدم في أمر الخمر.
والأبرص ـ ولم يكن واحداً ـ إذ كان عدد المصابين بهذا المرض كبيراً، وكثيرون منهم نالوا الشفاء، أما هذا الذي ذكرناه في الأحد الثاني من الصيام الأربعيني، وورد ذكره في انجيل القديس مرقس، لم يخطر على باله يوماً من الأيام أن يعود ويعيش مع أهله كما كان قبل أن يصاب بالمرض، لقد كان منبوذاً من المجتمع، وخاصة من أهله وأقربائه وخلانه وأصدقائه، إذ اعتبره كلهم علامة خزي وعار لهم، فتنكروا وأداروا ظهرهم له، لهذا أصبح غريباً وعاش مهمّشاً في المجتمع. بكلمة واحدة أعاده هذا الناهض من بين الأموات إلى مكانته وذلك عندما مدَّ يده ولمسه قائلاً: أريدُ فأطهر (مرقس 1: 40-42)، لقد أتى الأبرص إلى يسوع جاثياً وقائلاً: إن أردتَ تقدر أن تُطهرني. فتحننَ عليه يسوعُ، ومدَّ يدهُ ولمسهُ، وللوقتِ طهرَ برصهُ أي أعيدت له كرامته الإنسانية، فعّد بين أولئك الذين خلقهم الله ليسبحوه ويمجدوه، ولم يطلب منه الناهض من بين الأموات، سوى أن لا يقول لأحد، بل يذهب ويرى الكاهن، ويقدم القربان الذي أمرَ به موسى شهادةً لهم.
ومن بين الذين نالوا الشفاء عدد من المخلعين والمفلوجين، ومنهم: ذلك الذي حمله رجال على فراش كانوا من أهله ومعارفه، وأرادوا أن يدخلوا ويضعوه أمام صانع المعجزات، ولما لم يجدوا من أين يدخلون به بسبب الجمع، صعدوا إلى السطح ودلَّوه مع الفراش من بين الآجر إلى الوسط قدام يسوع. وهنا لم يلتفت يسوع إلى الخلْع الجسدي، وإنما غاص في أعماق هذا الإنسان، وعرف أن مشكلته تكمن في داخله، في النفس الأمّارة بالسوء، فأطلق رسالته بالدعوة إلى مغفرة الخطايا قبل التفكير بأمراض الجسد. وهذه كانت فرصة جديدة ليبيِّن لليهود بأن سلطانه يمتد إلى أبعد مما يفكرون، لأنه لا أحد يستطيع أن يغفر خطايا إلا الله وحده. وعندما شعر يسوع بأفكارهم وهم يقولون : منَ هذا الذي يتكلمُ بتجاديفَ، بيّن لهم بأن لابن الإنسان سلطاناً على الأرض ليغفر الخطايا، كما له السلطان أن يعيد الحياة إلى الإنسان، لهذا دعا ذلك المخلع وقال له: لك أقول قم واحمل سريرك واذهب إلى بيتك (مرقس 2: 1-12).
مفاجأة أخرى جاءت للتلاميذ ولكل اليهود، عندما تخطى يسوع المسيح الحدود الجغرافية الموجودة في أذهان اليهود، وانتقل إلى نواحي صور وصيدا. وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك التخوم خرجت إليه قائلة: ارحمني يا سيد، يا ابن داود، ابنتي مجنونة جداً (متى 15: 22) كنعانية من تخوم صور وصيدا تطلب الشفاء من السيد المسيح. هذا الصراع الذي عاشه اليهود مع أنفسهم، من خلال تفكيرهم بأنهم شعب الله المختار وأن حنان الله، ورحمته، ومحبته، لا تستقر إلا عليهم، لأنهم أبناء ابراهيم واسحق ويعقوب، وكأن ابراهيم قد أصبح باباً وحيداً ليدخل به كل الناس إلى ملكوت الله. هذا الأفق الضيق في تفكيرهم، وهذه النظرة اللاإنسانية التي اتصفوا بها منذ خروجهم من أرض مصر، بل هذا الفكر المبني على التعصب والانغلاق، وعدم رؤية الآخر أو قبوله والحوار معه، بددّه يسوع الناهض من بين الأموات من رأسهم، عندما حاور الكنعانية باختصار، ثم أجاب إلى طلبها وقال لها: يا امرأة عظيم إيمانك، ليكن لك كما تريدين (متى 15: 28)، ولو كانت لهم آذان صاغية وسمعوا يوحنا المعمدان وهو يوبخهم ويسميهم أولاد الأفاعي (متى 3: 7)، ويؤكد لهم بأن مفهومهم الذي يقولوه في أنفسهم : لنا ابراهيم أباً (متى 3: 9) ليس صحيحاً، لأن دعوة الله لهم هي أن يصنعوا أثماراً تليق بالتوبة (متى 3: 8). وأن الله قادر أن يقيم من الحجارة أولاداً لابراهيم (متى 3: 9)، لو تأملوا بكل ذلك لما حاججوا يسوع وناقشوه في أمر انتمائهم إلى ابراهيم واسحق ويعقوب، لأن هذا الكلام يكفي ليتحققوا منه، بأن الله صالح ومحب للبشر. فشفاء ابنة الكنعانية أكدت على عالمية الكنيسة، وانطلاقها إلى العالم أجمع، للكرازة بالإنجيل، للخليقة كلها (مرقس 16: 15).
وإذا كان الرسل يعيشون في مفاجآت مع كل خطوة خطاها يسوع المسيح، فشفاء ذلك الأعمى منذ ولادته كان من المعجزات الكبيرة التي أدهشت الرسل واليهود معاً وأدخلتهم في عالم المفاجآت أيضاً، وهي التي خلقت جدلاً واسعاً بين اليهود، خاصةً عندما ظهر الأعمى وسأل التلاميذ الرب يسوع قائلين : يا معلمُ من أخطأ ؟ هذا أم أبواهُ حتى وُلدَ أعمى؟ (يوحنا 9: 2). ماذا كنّا نتوقع أن يكون جواب السيد المسيح ونحن أمام إنسان لم يعرف من الحياة لا الخير ولا الشر، وُلِد أعمى من أبوين كانا يعيشان في وسط الجماعة، واشتهرت العائلة كونها أعطت هذا الأعمى للمجتمع، ولا نعرف أي شيء عن خلفية هذه العائلة، ومكانتها، ودورها، وفعاليتها، ولا حتى عن انتمائها إلى واحد من الأسباط الاثني عشر الأمر الذي كان يفتخر به كل يهودي. ويسوع المسيح لم يدخل في تفاصيل كل ذلك وإنما جوابه كان واضحاً : لا هذا أخطأ ولا أبواهُ لكن لتظهرَ أعمالُ الله فيهِ (يوحنا 9: 3). ثم أكمل قوله بعبارة أخرى لم يفهمها في ذلك الوقت حتى تلاميذه والذين كانوا حوله: ينبغي أن أعملَ أعمالَ الذي أرسلني ما دامَ نهارٌ. يأتي ليلٌ حينَ لا يستطيعُ أحدٌ أن يعملَ، ما دمتُ في العالمِ فأنا نورُ العالمِ (يوحنا 9: 4-5). يا لها من أعجوبة باهرة !. ولكن في مكان آخر ومن خلال المعجزات التي صنعها يسوع أدخلت حتى الشياطين في حيرة من أمره. فعندما جاء يسوع إلى كورةِ الجرجسيينَ استقبلهُ مجنونانِ خارجانِ من القبورِ هائجانِ جداً حتى لم يكن أحدٌ يقدرُ أن يجتازَ من تلكَ الطريقِ. صرخا قائلين : ما لنا ولكَ يا يسوعُ ابن الله، أجئتَ إلى هنا قبلَ الوقتِ لتُعذبَّنا؟ ثم الشياطينُ طلبوا إليهِ قائلينَ: إن كنتَ تُخرجنا، فأذن لنا أن نذهبَ إلى قطيعِ الخنازيرِ، الذي اندفعَ بعدئذ من على الجُرْفِ إلى البحرِ وماتَ في المياهِ (متى 8: 28-34). إذاً موضوع الحيرة والدهشة من أمر يسوع المسيح لم يقتصر على التلاميذ والمحيطين بيسوع المسيح، وإنما تعداه إلى الشياطين! ولكنني أريد أن أعود مرة أخرى إلى ذلك الأعمى منذ ولادته لأنه بسبب شك اليهود بالمعجزة أدخلهم الأعمى في حوار طويل مع أنفسهم من جهة، ومع عارفيه من جهة أخرى. تأملوا يسوع المسيح الناهض من بين الأموات، وقد جاء بالجسد ليؤكد لهم بأن الخلاص قد تحقق، وأن شهادة يوحنا المعمدان إلى أنه : رافع خطايا العالم (يوحنا 1:29) وأن نبوات أنبيائهم والرموز والإشارات في أسفار العهد القديم كلها تحققت بميلاده بالجسد، مع كل ذلك قد ابتعدوا عن الحقيقة ودخلوا في عالم الضلال. من يستطيع أن يحوّل الماء إلى خمر ؟ وأن يعطي الشفاء للأبرص ؟ وأن يغفر خطايا المخلع ويقول له قم واحمل سريرك وامشِ ؟ وأن يستجيب إلى طلب امرأة كنعانية مهمّشة في المجتمع فيشفي ابنتها في البيت ؟ وأن يعيد البصر إلى أعمى منذ ولادته ؟ من له هذا السلطان العجيب إن لم يكن أعظم من جميع أنبيائهم الذين أرشدوهم وحدّثوهم عن هذا اليوم. ياللغرابة والعجب ! كيف أنهم لم يفهموا قوله لهم : أبوكم ابرهيمُ تهلَّلَ بأن يرى يومي فرأى وفرحَ (يوحنا 8: 56). أعادهم إلى ابراهيم الذي كان مصدر افتخارهم، وكم من مرة أشاروا إليه كأب عام لهم، علماً أن يوحنا المعمدان جرّدهم من صفة البنوة له، وسماهم أولاد الأفاعي قوله لهم : لا تفتكروا أن تقولوا في أنفسكم لنا ابراهيمُ أباً (متى 3: 9).
هل معجزة الأعمى منذ ولادته، والحوار الذي جرى حوله مكّن اليهود من معرفة حقيقة رسالة الخلاص التي من أجلها جاء ابن البشر ؟ هل فهم التلاميذ عبارة : مادمت في العالم فأنا نور العالم ؟ عندما تفل على الأرض وصنع من التُفل طيناً، وطلى بالطين عيني الأعمى، وأمره أن يذهب ويغتسل في بركة سلوام. فذهب واغتسل وأتى بصيراً ؟ هل ربط التلاميذ واليهود بين ما قاله يسوع المسيح بأنه نور العالم، والبصر الذي أعطاه لذلك الأعمى منذ ولادته ؟ في الحوار القصير الذي جرى بينه وبينهم، يظهر أن كل هذا لم يخطر على بال أحد. فالجيران والذين كانوا يرونه قبلاً أنه كان أعمى تساءلوا : أليس هذا هو الذي كان يجلس ويستعطي، وآخرون قالوا : هذا هو، وآخرون : إنه يشبهه. وعندما سأله الفريسيون : كيف أبصر ؟ قال لهم : وضع طيناً على عينيَّ واغتسلتُ، فأنا أبصر. وعلى الفور جاء جواب قوم من الفريسيين : أن هذا الإنسانُ ليسَ من الله. حكم ظالم أصدره هؤلاء الذين كانوا بعيدين عن روح الله، وعن معرفة ما جاء في الكتب المقدسة، لماذا ليس من الله ؟ لأنه لا يحفظ السبت (يوحنا 9: 16)، يا للغباء !
كلهم كانوا يعيشون ضمن دائرة الحرف، والحرف يقتل بينما الروح يُحيي (2 كورنثوس 3: 6). وكأن يسوع كان يعلم أن عقول اليهود ملتصقة بالسبت، ولهذا نراه في أكثر من مناسبة يريد أن يبعدهم عن التمسك بالحرف. ففي السبت ذهب مع تلاميذه بين الزروع، فجاع تلاميذه وابتدأوا يقطفون سنابل ويأكلون (متى 12: 8). وحصل جدال كانت نتيجته أن ابن الإنسان هو رب السبت. وعندما شفى الإنسان الذي كانت يده يابسة، سأل المعارضين له أي إنسانٍ منكم يكونُ لهُ خروفٌ واحدٌ، فإن سقطَ هذا في السبتِ في حفرةٍ أفما يُمسكهُ ويُنقذهُ؟ فالإنسانُ كم هو أفضلُ من الخروفِ (متى 12: 9-13). والكلام الفصل كان عندما أكَّد لهم: بأن السبت إنما جُعلَ لأجلِ الإنسانِ، لا الإنسانُ لأجلِ السبتِ (مرقس 2: 27). أنتم أيها العميان أمام معجزة باهرة، وهي أن هذا الأعمى منذ ولادته قد أبصر. بدل أن تؤمنوا بها، تخلقون قصة حوارية طويلة مملة ودون جدوى؟ أحد آباء كنيستنا السريانية تخيل حواراً آخر قصيراً بين اليهود والأعمى فكتب : قال اليهود للأعمى، ليس يسوع الذي شفاك بل المياه في بركة سلوام. فلأنك اغتسلت في تلك البركة، مياهها أعطتك البصر. فقال الأعمى البركة قائمة في مكانها وعندكم في أورشليم الكثير من العميان الذين يشبهونني. إذا ذهبوا واغتسلوا وحصلوا على البصر لا يكون يسوع قد شفاني، وإلا فليُحرم كل من يقول أن يسوع ليس هو الشافي.
كل تلك المعجزات التي ذكرناها في الآحاد السابقة لهذا العيد عيد القيامة، الذي فيه نحتفل بعيد قيامة ربنا يسوع المسيح من بين الأموات، كلها كانت تمهيداً لحدث القيامة، لكي نؤمن حقاً بأن القيامة حقيقة وواقعة، صحيح أن القيامة لا تحتاج إلى برهان، لأن كل الدلائل والإشارات والرموز سواءً تلك التي جاءت على لسان الأنبياء في أسفار العهد القديم، أو على لسان الرب يسوع المسيح ذاته، وشهادات التلاميذ الأبرار، ولكن علينا أن نؤمن بمضمونها، ونُعلن بأننا من أتباع يسوع الناهض من بين الأموات.
إن حدث القيامة كما سجله الإنجيليون الأربعة، يُشير إلى أن المعجزات قد رافقت هذا الحدث أيضاً. ففي إنجيل متى وبعد كل ما فعله اليهود، سمح بيلاطس أن يعطى الجسد لرجل غني من الرامة اسمه يوسف، فوضع في قبر جديد كان قد نحته في الصخرة، ثم دحرج حجراً كبيراً على باب القبر، وبعد أن أمر بيلاطس أن يضبط الحراس القبر ويختموه بالحجر يقول الإنجيلي : أنه عند فجر أول الأسبوع عندما جاءت مريم المجدلية ومريم الأخرى لتنظرا القبر، وإذا زلزلة عظيمة حدثت، لأن ملاك الرب نزل من السماء وجاء ودحرج الحجر على الباب، وجلس عليه، والحراس أيضاً جاؤوا إلى المدينة وأخبروا رؤساء الكهنة بكل ما كان (متى 27: 28). والإنجيلي مرقس لا يختلف عن الإنجيلي متى في سرد ما حصل بعد موت المسيح على الصليب، ولكن يؤكد أن النسوة رأين شاباً جالساً عن اليمين داخل القبر وهو الذي أعلن لهنَّ عن قيامة المسيح عندما قال : قد قام ! ليس هو ههنا (مرقس 16: 6). والإنجيلي لوقا وبعد أن يحدثنا عن يوسف الذي من الرامة وكيف طلب جسد يسوع من بيلاطس يؤكد على أن الحجر كان مدحرجاً عن القبر عندما جاءت النساء حاملات الحنوط وأن رجلين وقفا بهنَّ بثياب براقة وقالا لهنَّ : لماذا تطلبنَ الحيَّ بينَ الأمواتٍ ليسَ هو ههنا لكنهُ قامَ (لوقا 24: 5-6). ويبقى الإنجيلي الرائي يوحنا الأكثر تفصيلاً في حديثه عن القيامة لأنه كان شاهداً على كلام مريم المجدلية عندما جاءت إلى القبر باكراً، والظلام باقٍ فنظرت الحجر مرفوعاً عن القبر، وهو الذي انحنى فنظرَ الأكفانَ موضوعةً، ولكن المنديلَ الذي كان على رأسهِ لم يكن موضوعاً مع الأكفانِ، بل ملفوفاً في موضعٍ وحدهُ ورأى فآمن (يوحنا 20: 5-8).
إذاً ألا يحق بعد شهادة أولئك الرسل والإنجيليين، وبعد كل ما رافق حدث القيامة من معجزات باهرة، وأقوال إلهية، تُشير إلى هذا الحدث وردت أثناء زيارات يسوع المسيح إلى مدن وقرى في اليهودية وخارجها، وبعد الظهورات التي تتالت للنسوة والرسل والتلاميذ ألا يحق أن تأتي شهادة أخرى من الذي رآه وهو في طريقه إلى دمشق عندما أبرق حوله نورٌ من السماء فسقط على الأرض وسمع صوتاً: فقال من أنت يا سيد؟ فقال الرب : أنا يسوع الذي أنت تضطهده (أعمال الرسل 9: 3-5). ألا يحق للرسول بولس الذي تحول من اليهودية إلى المسيحية بأعجوبة باهرة، أن يكتب أيضاً في كل رسائله عن حدث القيامة، ويؤكد أنه : إنْ كان المسيحُ يُكرزُ به أنه قام من الأمواتِ، فكيفَ يقولُ قومٌ بينكم إنْ ليسَ قيامةُ أمواتٍ؟ فإن لم تكن قيامةُ أمواتٍ فلا يكونُ المسيحُ قد قامَ. وإن لم يكن المسيحُ قد قامَ، فباطلةٌ كِرازتُنا وباطلٌ أيضاً إيمانُكم (1كورنثوس 15: 12-14).
لقد بقيت قيامة يسوع المسيح من بين الأموات منذ بدء المسيحية هي الأساس لكل تعاليم الكنيسة وأبنائها، وعليه عندما تسبق المعجزات حدث القيامة خلال جهادنا الروحي في الصيام الأربعيني، وتقترن بأحداث إنجيلية تُعاد قراءتها على مسامع المؤمنين، تأتي كلها لتؤكد على أن القيامة حقيقية وواقعة. لهذا نحن مدعوون دائماً لكي نسمع كلام فيليبس لنثنائيل قائلاً : تعال وانظر! فعلينا أن نذهب وننظر لنتحقق ونؤمن.
مرة أخرى نهنئكم أيها الأخوة والأخوات ونهنئ كلّ السامعين الكرام وأبناء هذا الوطن العزيز، ونسأل الله القائم من بين الأموات أن يبارك سوريا البطلة رئيساً وجيشاً وشعباً، وأن يبعد عنّا كل تجارب الحياة، ويحقق السلام والأمن في كل العالم، وخاصة في منطقتنا العزيزة علينا، لكي تبقى رايات المحبة والإخاء والوحدة والحرية والعدالة مرفرفة على كل شبرٍ من أرض هذا الوطن الغالي وكل عام وأنتم بخير.
المسيح قام… حقاً قام
عيد القيامة
2005
2006
المسيح قام … حقاً قام…
ܒܫܡ ܐܒܐ ܘܒܪܐ ܘܪܘܚܐ ܚܝܐ ܩܕܝܫܐ ܚܕ ܐܠܗܐ ܫܪܝܪܐ .. ܐܡܝܢ
أيها الأحباء…
(1)
في كل مرة نرفع فيها الذبيحة الإلهية، نردد ما جاء في الكلام الجوهري على لسان السيد المسيح عندما أكل الفصح للمرة الأخيرة مع تلاميذه عندما أخذ الخبز بارك وكسّر وأعطى تلاميذه وقال: ” خذوا كلوا هذا هو جسدي “، وأخذ الكأس وشكر وأعطاهم قائلاً : ” اشربوا منها كلكم “، ونردد أيضاً وصيته لهم : ” اعملوا هذا لذكري “ (لوقا 22 : 19). ولقد تمم الآباء هذا القول بعبارة أخرى يرددها الكاهن: وهي ” كلما اشتركتم في هذا السر متذكرين موتي وقيامتي حتى مجيء “. فيقول الشعب الحاضر في القداس : موتكَ يا ربُّ نحنُ ذاكرون، وبقيامَتِكَ مُعترفون، ولِمَجيِئكَ الثاني نحنُ مُنتظِرون، فلتكن مراحِمُكَ علينا أجمعين.
(2)
نحن إذاً أمام ثلاثة حقائق مهمة، الأولى : الموت، ونعني به موت السيد المسيح على الصليب، والثانية : القيامة، أي قيامته المظفرة بعد أن مات ودُفن بثلاثة أيام، والثالثة : مجيئه الثاني. فلا يمكن أن نفهم القيامة التي نحتفل بها اليوم دون أن نتيقن من موت المسيح. هكذا نقرأ مثلاً في إنجيل القديس يوحنا الذي قبل أن ينقلنا إلى أجواء القيامة يضعنا في جو الآلام، وهي صفحة مهمة من صفحات الخلاص الذي نحن كمسيحيين نؤمن به.
(3)
دعونا نعود إلى ما قاله يوحنا الانجيلي عن موت السيد المسيح، فبعد الوصف الدقيق لموقف بيلاطس البنطي من يسوع المسيح الذي يقول عنه يوحنا ذاته بأنه جلد يسوع، ومن ثم ضفر العسكر إكليلاً من شوك ووضعوه على رأسه وألبسوه ثوب أرجوان واستهزأوا به، لبى نداء رؤساء الكهنة والخدام الذين كانوا يصرخون ويقولون اصلبه اصلبه، ثم قال لهم : خذوه أنتم واصلبوه.
وإن كان بيلاطس قد تحقق بأنه لم يجد فيه علة، ولكن النتيجة كانت أن اليهود صلبوا يسوع في الموضع الذي يُقال له الجلجلة، وكتب بيلاطس ذاته عنواناً ووضعه على الصليب وكان مكتوباً يسوع الناصري ملك اليهود. وبينما كانت أم يسوع، وأخت مريم، ومريم المجدلية، والتلميذ الذي كان يحبه ورأى يسوع أن كل شيء قد كمل، فلما أخذ الخل، قال : ” قد أُكمِلَ. ونكَّسَ رأسهُ وأسلمَ الروحَ “ (يوحنا 19 : 30).
أي مات حقاً، وحقيقة موته لا تحتاج إلى برهان أو دليل، هذا إذا كنا نؤمن بما جاء به الإنجيل المقدس، فيوحنا الشاهد والرائي يقول عندما أتى العسكر ليكسروا ساقي يسوع لم يفعلوا ذلك، لأنهم رأوه قد مات، وهذه الشهادة يثبتها بقوله : ” والذي عاينَ شهِدَ وشهادتُهُ حقٌ وهو يعلمُ أنهُ يقولُ الحقَّ لتؤمنوا أنتم “ (يوحنا 19 : 35). ويستشهد شاهد الحق بنبوءتين وردتا في العهد القديم صريحتين واضحتين، الأولى : ” عظمٌ لا يُكسرُ منهُ “ (يوحنا 19 : 36)، ” لا يُبقوا منه شيئاً إلى الغَداةِ وعظماً لا يكسروا منهُ بحسب كلِّ رسومِ الفصحِ يصنعونهُ ” (عدد 9 : 12)، والثانية : ” سينظرونَ إلى الذي طعنُوهُ “ (يوحنا 19 : 37)، ” وأفيضُ على بيتِ داود وعلى سكانِ أورشليمَ روحَ النعمةِ والتضرعاتِ فينظرونَ إليَّ أنا الذي طعنوهُ وينوحُونَ عليه كما يُناحُ على الوحيدِ ويتفجعونَ عليه كما يُتفجعُ على البكرِ ” (زكريا 12 : 10).
(4)
ثم يوحنا نفسه يأتي بشاهد آخر كان تلميذاً ليسوع، ولكنه كان يخاف من اليهود، هذا كان يوسف الذي من الرامة، سأل بيلاطس خفية أن يأخذ جسد يسوع، فأذن بيلاطس وسمح له بأن يأخذ الجسد، ولكن يوسف الرامي استنجد بصديقٍ عرفناه فريسياً ورئيساً لليهود، هو الآخر جاء إلى يسوع ليلاً عندما سمع بأعماله وقوته، وأكَّد له بحسب معلوماته الكتابية أنه المعلم، وأنه الآتي من لدن الله معلماً ” لأن ليس أحدٌ يقدرُ أن يعملَ هذه الآياتِ التي أنتَ تعملُ إن لم يكن اللهُ معهُ “ (يوحنا 3 : 1-2). هذا الشاهد كان نيقوديموس الذي أنضم إلى يوسف الرامي : ” فأخذا جسد يسوع ولفاه بأكفان مع الأطياب. وفي قبر جديد لم يوضع فيه أحد قط وضعاه، لسبب استعداد اليهود لأن القبر كان قريباً “.
إذاً هذا الوصف الدقيق النابع من شهادة حق ينقلها لنا القديس يوحنا يؤكد على أن المسيح قد مات بالجسد، ولولا موته لما تسنى لمن شهادته هي حق أن يصف لنا حدث القيامة أيضاً بتفاصيل ! لأن الذين كانوا يتربصون لحدث الموت والقيامة كانوا منتشرين في كل مكان، والخُطط التي كان يضعها الكهنة ورؤساء الكهنة لإخفاء هذه الحقيقة التي عليها بُني كل ما في الكنيسة كانت جاهزة أيضاً، فرؤساء الكهنة والفريسيون اجتمعوا إلى بيلاطس وقالوا له : ” يا سيدُ قد تذكَّرنا أن ذلكَ المضلَّ قالَ وهو حيٌ إني بعدَ ثلاثةِ أيامٍ أقومُ. فَمُر بضبطِ القبرِ إلى اليومِ الثالثِ، لئلا يأتي تلاميذُهُ ليلاً ويسرقوهُ ويقولوا للشعبِ إنه قامَ منَ الأمواتِ. فتكونَ الضلالةُ الأخيرةُ أشرَّ من الأولى. فقال لهم بيلاطسُ عندكم حراسٌ اذهبوا واضبطوهُ كما تعلمونَ فمضوا ثم ضبطوا القبرَ بالحراسِ وختموا الحجرَ ” (متى 27 : 63-64).
(5)
ففكرة إنكار الحقيقة الأولى وهي موت السيد المسيح كانت قائمة، انطلاقاً من الخوف الذي كان في قلوب الفريسيين، والكتبة، والناموسيين، ورؤساء الكهنة، وخاصة من الصدوقيين الذين كانوا ينكرون قيامة الأجساد.
وما يقوله يوحنا الإنجيلي نسمعه في إنجيل متى الذي يصّرح قائلاً: ” فصرخَ يسوعُ أيضاً بصوتٍ عظيمٍ وأسلمَ الروحَ ” (متى 27 : 50). ويردده مرقس البشير بقوله : ” فصرخَ يسوعُ أيضاً بصوتٍ عظيمٍ وأسلمَ الروحَ ” (مرقس 15 : 37)، ويضيف ما جاء على لسان قائد المئة : ” ولما رأى قائدُ المئةِ الواقفُ مُقابلهُ أنهُ صرخَ هكذا وأسلمَ الروحَ قالَ حقاً كانَ هذا الإنسانُ ابنَ اللهِ “ (مرقس 15 : 39).
أما لوقا البشير فهو الآخر يصف حالة الكون ساعة موت السيد المسيح بقوله: وكان نحو الساعة السادسة فكانت ظلمة على الأرض كلها إلى الساعة التاسعة وأظلمت الشمس وانشق حجاب الهيكل من وسطه. (لوقا23: 44 ـ 45). وبعد كل هذا ” نادى يسوعُ بصوتٍ عظيمٍ وقالَ يا أبتاهُ في يديكَ استودعُ روحي. ولما قالَ هذا أسلمَ الروحَ “ (لوقا 23 : 46). فالإنجيليون الأربعة متفقون، وقد دخل إيمانهم بالموت الحقيقي للسيد المسيح في صلب عقيدة الكنيسة، ولهذا فكل المسيحيين يرددون في قانون الإيمان الذي وضعه آباء مجمع نيقية تألم ومات ودُفن، فالألم سبق الموت وتلاه الدفن.
(6)
أما الحقيقة الثانية فهي قيامته. وقيامة السيد المسيح هي أساس كل ايماننا نحن المسيحيين. نسمع بولس الرسول وهو يتحدث مع أهل كورنثوس عن هذه الحقيقة قائلاً: “ولكن إن كان المسيح يُكرز به أنه قام من الأموات فكيف يقول قوم بينكم إن ليس قيامة أموات. فإن لم تكن قيامة أموات فلا يكون المسيح قد قام، وإن لم يكن المسيح قد قام فباطلة كرازتنا وباطل أيضاً إيمانُكم، ونوجد نحن أيضاً شهود زور لله، لأننا شهدنا من جهة الله أنه أقام المسيح وهو لم يُقمه إن كان الموتى لا يقومون، لأنه إن كان الموتى لا يقومون فلا يكون المسيح قد قام، وإن لم المسيح قد قام فباطل إيمانكم أنتم بعد في خطاياكم” (1 كور 15: 12 ـ 17). عندما يسجل يوحنا الإنجيلي لنا حدث القيامة بقوله : ” وفي أول الأسبوع جاءت مريم المجدلية إلى القبر باكراً والظلام باقٍ فنظرت الحجر مرفوعاً عن القبر ” (يوحنا 20: 1).
(7)
فالإشارة الأولى إلى القيامة جاءت من خلال الحجر الذي كان مرفوعاً عن القبر، وعندما حضر الشاهدان سمعان بطرس، والتلميذ الآخر الذي كان يسوع يحبه، كان قرار مريم المجدلية أن مجهولين أخذوا السيد من القبر، ولا نعلم أين وضعوه. ويوحنا وهو الشاهد يقول : أنه أنحنى هو أولاً، ونظر الأكفان موضوعة ولم يدخل (يوحنا20: 5)، ثم جاء سمعان بطرس ودخل القبر ونظر الأكفان موضوعةً، أما المنديل الذي كان على رأسه فكان ملفوفاً في موضع وحده (يوحنا20: 6 و 7)، ولم تنجلِ الأمور إلا بعد أن ظهر ملاكان بثياب بيض كانا جالسين واحداً عند الرأس والآخر عند الرجلين حيث كان جسد يسوع موضوعاً، فقالا لها: يا امرأة لماذا تبكين ؟ فأجابت: إنهم أخذوا سيدي ولست أعلم أين وضعوه (يوحنا 20: 13). ولما التفتت إلى الوراء نظرت يسوع واقفاً ولم تعلم أنه يسوع، وعندما حدّثها عرفته فقالت له بالآرامية: رابولي أي يا معلم (يوحنا 20: 16)، وكان هذا الظهور الأول ليسوع المسيح بعد قيامته، ثم توالت الظهورات. وفي كل مرة نرى أن تأكيداً على قيامته يدخل في حياة الرسل. وخطابه الموجه إلى توما كان قوياً، لهذا نرى في جواب توما أيضاً تأكيداً على حقيقة القيامة إذ قال : ” ربي وإلهي. فقال له يسوع لأنك رأيتني يا توما آمنت. طوبى للذين آمنوا ولم يروا “(يوحنا20: 28 و29).
(8)
أما ظهوره بعد القيامة على بحر طبرية فكان له مدلول آخر، فبينما ” كان سمعان بطرس في البحر يتصيد ومعه التلاميذ ولم يُمسكوا شيئاً وقف يسوع على الشاطئ وقال لهم ألعل عندكم إداماً. فأجابوه: لا. فقال لهم: ألقوا الشبكة إلى جانب السفينة الأيمن فتجدوا. فألقوا ولم يعودوا يقدرون أن يجذبوها من كثرة السمك “ (يوحنا 21 : 3-6)، عندئذٍ عرف بطرس أنه المسيح الرب الناهض من بين الأموات. والجميل أنه بعد هذا الظهور الثالث كما يؤكد لنا يوحنا الإنجيلي، والحوار الذي جرى بينه وبين سمعان بطرس وسؤاله ثلاث مرات : ” يا سمعان بن يونا أتحبني أكثر من هؤلاء ” (يوحنا 21 : 15)، يختم يوحنا الإنجيلي أقواله بأن : ” هذا هو التلميذ الذي يشهد بهذا وكتب هذا. ونعلم أن شهادته حق “ (يوحنا 21 : 24).
(9)
وإذا عدنا إلى إنجيل متى لوجدنا أن الذي نقله عن قيامة السيد المسيح من بين الأموات لا يقل أهمية عن شهادة يوحنا الإنجيلي، أولاً يأتي على ذكر الزلزلة العظيمة التي حدثت فدحرجت الحجر، وثانياً : يؤكد ظهور الملاك للمرأتين، وقولهما: ليس هو ههنا لأنه قام، وثالثاً : يبين بأن مؤامرة الشيوخ ورؤساء الكهنة بمحاولة إخفاء القيامة بالفضة التي أعطوها للعسكر أولاً، وثانياً للخطة التي اعتقدوا أنها شاعت عند اليهود.
(10)
ومرقس الإنجيلي بعد أن تبين بأن يوسف قد دحرج حجراً على باب القبر، يؤكد بأن النسوة اللواتي ذهبن باكراً إلى القبر ” فتطلعن ورأين أن الحجر قد دحرج، ولما دخلن القبر رأينَ شاباً جالساً على اليمين لابساً حلة بيضاء فاندهشن. فقال لهنَّ: لا تندهشن أنتن تطلبن يسوع الناصري المصلوب قد قام. ليس هو ههنا “ (مرقس 16 : 4-6).
(11)
وإذا تأملنا ما صوره لنا البشير لوقا بريشته لوجدنا أنه هو الآخر يؤكد بأنه في أول الأسبوع أول الفجر أتين إلى القبر حاملات الحنوط الذي أعددنه ومعهن أناس فوجدن الحجر مدحرجاً عن القبر، فدخلن ولم يجدن جسد يسوع. وفيما هنَّ محتارات في ذلك إذا رجلان وقفا بهن وقالا لهنَّ : لماذا تطلبن الحي بين الأموات ليس هو ههنا، لكنه قام! (لوقا24: 1 ـ 6). ولوقا الإنجيلي يضعنا بعد حدث القيامة في جو الظهورات خاصة عندما ظهر لاثنين من التلاميذ اللذين كانا منطلقين في ذلك اليوم إلى قرية عماوس، اللذين أمسكت أعينهما عن معرفة يسوع بينما كانا يتكلمان ويتحاوران معه.
(12)
إذاً هنالك اتفاق على لسان الإنجيليين الأربعة بأن موت السيد المسيح كان حقيقة، وأن قيامته أيضاً هي حقيقة، ولهذا الكلام الوارد في الليتورجية : موتَك يا رب نحن ذاكرون، وبقيامتك معترفون، ليست مجرد كلمات، وإنما هي من جملة الحقائق التي دخلت في صلب عقيدة المسيحيين. وإذا عدنا مرة أخرى إلى قانون الإيمان النيقاوي لوجدنا أن عبارة وقام في اليوم الثالث كما شاء، كانت عبارة اعتراف كلي بحقيقة ما جرى بعد دفن السيد المسيح بثلاثة أيام أي القيامة من بين الأموات.
(13)
ونحن في المسيحية وبحسب ما نردد في قانون الإيمان، بعد قولنا : ” وصعد إلى السماء وجلس عن يمين الله الآب “ نقول : ” أيضاً سيأتي بمجد عظيم “، هذا المجيء الذي فيه ستكون الدينونة الكبرى للإنسان، فالسيد المسيح أكدّ مرة: “أن إله ابراهيم وإله اسحق وإله يعقوب ليس إله أموات بل إله أحياء” (لوقا20: 38)، ” وأنه ستأتي ساعة وهي الآن حين يسمع الأموات صوت ابن الله والسامعون يحيون “ (يو5 : 25) وأنه ستأتي ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته ” فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة، والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة “(يو5 : 29)، وهنا نذكر مَثَل ذلك الإنسان الغني الذي كان يلبس الأرجوان ويتنعّم كل يوم مترفهاً، أما المسكين لعازر فكان يشتهي أن يشبع من الفتات الساقط من مائدة الغني (لوقا16: 19 ـ 31). عندما مات لعازر المسكين حملته الملائكة إلى حضن ابراهيم، أما الغني فبعد أن دفن رفع عينيه في الهاوية وهو في العذاب ورأى ابراهيم من بعيد ولعازر في حضنه.
هذا المشهد وغيره من المشاهد الكتابية تؤكد على أن المجيء الثاني حقيقة أيضاً، كما أن موت المسيح هو حقيقة وأن قيامته هي حقيقة. نحن أيها الأخوة عندما نحتفل بعيد القيامة ونتوقف عند هذه الحقائق الثلاثة وهي من الثوابت المسيحية التي لا تتغير ولا تتبدل، لا نريد أن يتزعزع هذا الإيمان بقول جاء على لسان هذا، أو رواية كتبها ذلك، أو فيلماً يتناول حياة السيد المسيح وفيه تشويه واضح لسيرته التي دخلت في حياة الكنيسة لأكثر من عشرين قرناً. وليست المرة الأولى التي فيها نسمع أو نرى أو نقرأ من يريد أن يزعزع إيمان الكنيسة بثوابت سارت عليها قروناً طويلة. عيد القيامة اليوم يدعونا لكي نتمسك بتعاليم الإنجيل والآباء، ونعمل على ترسيخ هذا الإيمان في قلوبنا وقلوب الأجيال القادمة.
(14)
أيها الأخوة والأخوات…
حلب تحتفل في هذه السنة كعاصمة للثقافة الإسلامية، وهي مناسبة تدعونا لنشارك في كل نشاطات احتفالية مدينتنا الغالية والتي من خلالها يحتفل كل الوطن بمباهج هذه المناسبة الفريدة من نوعها. والثقافة الإسلامية التي بنيت على ثقافات سبقتها منها: الثقافة المسيحية وذلك قبل أن يأتي الإسلام إلى سورية، هي ثقافتنا، لقد اشتركنا نحن المسيحيين مع أخوتنا المسلمين في صناعتها، ونهلنا منها، ثم أعطيناها لمن شاء، وهذه الثقافة أصبحت جسراً لتجمع بين المسيحيين والمسلمين كمواطنين ليقفوا مع بعضهم بعضاً في كل الأزمنة والظروف التي عرفها وطننا الحبيب، والتاريخ يشهد بأن ما جرى في هذه المدينة من مودة، وإخاء، ووحدة وطنية، وعيش مشترك، هو من أهم سمات الحلبيين مسلمين ومسيحيين، لهذا فكل الندوات والنشاطات والفعاليات، خاصة التي تتناول موضوع الثقافة والحضارة وحوار الأديان، فيها تركيز على ما جرى في ماضي هذه المدينة أولاً، ودعوة للتواصل في كل هذه المجالات ثانياً.
وفي بحر الأسبوع الثاني من الشهر القادم أيار، وتزامناً مع هذه الاحتفالية يدعو مركز الدراسات والأبحاث المشرقية مع مجلس رؤساء الطوائف المسيحية في حلب إلى مؤتمر التراث السرياني الحادي عشر بعنوان : مار أفرام السرياني شاعر لأيامنا، بمناسبة مرور /1700/ سنة على ولادة شمس السريان وكنّارة الروح القدس مار أفرام السرياني، وكما ورد في رسالة الدعوة بما أن حلب هي جارة أنطاكية، والرها، ونصيبين، وعاصمة الثقافة الإسلامية، والموصولة بالحضارات المشرقية من أصفهان إلى طورعبدين لذلك أختيرت لتكون مكان هذا المؤتمر الذي سيتوقف عند مار أفرام السرياني شاعر المسيحية الأول في سيرته وأدبه وعلاقاته، وستغني مشاركات الباحثين والكتّاب الكبار هذا الموضوع الهام، وسيتعرف العالم على جوانب مهمة من عطاءات ملفاننا العظيم مار أفرام السرياني، وهكذا تكون الاحتفالية في حلب قد سجلت صفحة جديدة في العلاقات بين عطاءات المسيحيين والمسلمين المشتركة.
هذا مار أفرام السرياني يُسمعنا صوته في عيد القيامة بالذات ويقول: ها إن المسيح معلقٌ في ذروة الصليب يضرعُ عنا إلى أبيه، وأنت أيها التراب ابنُ الترابي مملوءٌ غضباً وسُخطاً وحقداً، فإن أبغضت قريبك، حتى صلاتك لا يسمعها الذي يسالم الكل، كلما حسدتَ قريبك وفرت راحة للأبالسة، وكلما اغتَبت الآخرين ورددت معائبهم في غيابهم، جُعِلت لسانك كنّارة لغناء النمّام لا تنّم على القوم لئلا تسمى نمّاماً، وإن حلَّ بعدوك نازلةٌ فلا تفرح لئلا تخطئ. كن دياناً لخطاياك ومحاسباً لآثامك.
أيها الأخوة أيتها الأخوات…
نهنئكم بعيد القيامة، ونهنئ وطننا العزيز بعيد الجلاء، ونهنئ حلب باختيارها عاصمة للثقافة الإسلامية. ونسأل الله أن يمنَّ بنعمه وبركاته على سورية العزيزة، ويحفظ رئيسنا الدكتور بشار الأسد بالصحة والعافية، وبمنحه القوة لكي يدير دفة سورية إلى شواطئ الأمان والسلامة، ويعيد عليكم وعلى السامعين هذه الأعياد بالأفراح والمسرات.
عيد القيامة
2006
2007
المسيح قام … حقاً قام…
ܒܫܡ ܐܒܐ ܘܒܪܐ ܘܪܘܚܐ ܚܝܐ ܩܕܝܫܐ ܚܕ ܐܠܗܐ ܫܪܝܪܐ .. ܐܡܝܢ
أيها الأحباء…
أيها المسيح إلهنا، يا من بعد أن أتممت أعمالك الخلاصية بالجسد من أجلنا، واحتملت الآلام والصلب، وانحدرت إلى مراقد الموتى لتخول المائتين رجاءً، أظهرت هذا السر بأقنومك لتغفر به لكل من يؤمن بك.
هذه صلاة وضعها لاهوتي كبير في كنيستنا الأنطاكية السريانية الأرثوذكسية، هو مار يعقوب ابن الصليبي، تتلى في قداس سبت النور، وخلال هذا القداس عادةً لا يتبادل المؤمنون السلام. أما في حوساي القداس الإلهي، فأحد آبائنا كتب الفروميون (المقدمة) يقول : صهيون التي صلبته بادت، والكنيسة التي قبلته سادت. أورشليم القاتلة دمّرت، وابنة الأمم التي آمنت به قامت وانتصرت. الأمة التي أساءت إليه تشردت، والأمم التي قبلته وآمنت به تجمعت والتفت.
والرابط بين الصلاتين يبقى السيد المسيح الذي مر في حالتين، الأولى : عندما مات على عود الصليب حقاً، ورتبت الكنيسة طقساً خاصاً لسجدة الصليب ليوم الجمعة المعروف بجمعة الصلبوت، وفيه يذكر أبناء الكنيسة كيف أن يسوع المسيح قد امتد على عود الصليب طوعاً وقرّب ذاته ذبيحةً حيةً ناطقةً في سبيل فداء الكائنات. والحالة الثانية هي : عندما قام حقاً من بين الأموات. وفي ذلك اليوم ترفع الكنيسة الحمد لغير المائت الذي مات بالجسد فأحيا المائتين. ووضع في القبر فبعث المدفونين، ورقد بين الأموات، فأيقظ الراقدين. وقام من بين الأموات، فأقام الساقطين. وانبعث بالمجد فأبهج التلاميذ. وصعد إلى العلاء فرفعنا معه، وحقق وعده وكمّل الناقصين.
هذه الجولة القصيرة في بعض كتبنا الليتورجية تلخص مسيرة التدبير الإلهي، التي خُتمت بآلام ربنا يسوع المسيح، وموته، ودفنه، وقيامته المظفرة بعد ثلاثة أيام. إن حدث القيامة لم يكن عادياً في نظر الجميع، ولهذا نرى أن اليهود من جهة قد احتاطوا للأمر، وذهب إلى بيلاطس رؤساء الكهنة والفريسيون قائلين : يا سيدُ قد تذكَّرنا أن ذلكَ المضلَّ قال وهو حيٌّ إني بعدَ ثلاثةِ أيامٍ أقومُ. فمُرْ بضبطِ القبرِ إلى اليومِ الثالثِ لئلا يأتي تلاميذهُ ليلاً يسرقوهُ ويقولوا للشعب إنه قامَ من الأمواتِ. فتكونَ الضلالةُ الأخيرةُ أشرَّ من الأولى (1).
وبقولهم ” تذكرنا ” شهدوا على أنفسهم أنهم كانوا على علمٍ بكل كلمة يرددها أمامهم ومطلبهم أن يضبط القبر لمدة ثلاثة أيام، ويحاط بالحراس كان إشارة واضحة لقلقهم وخوفهم، وحالة الاضطراب والتوتر التي كانوا يعيشونها.
أما الرسل الذين عاشوا معه وعاينوا معجزاته وسمعوا كلماته، فتركوه كلهم وهربوا، ربما لتتحقق نبؤة زكريا القائلة : استيقظْ يا سيفُ على راعيَّ وعلى رجُلِ رِْفقَتي يقولُ رب الجنود. اِضربِ الرّاعيَ فتتَشتَّتَ الغنمُ وأردُّ يدِي على الصغارِ (2).
ويبقى السؤال هل كان الرسل ينتظرون دلالات وإشارات ورموزاً، أكثر مما حصل بعد اختيارهم ليكونوا مرافقين له بل شهوداً على رسالته ؟ وهل كان اليهود يمرون في نفق معتم إلى درجة عدم فهمهم لكلمات يسوع، وأعماله الباهرة، وآياته ومعجزاته، التي كان يصنعها في وضح النهار. ولنأخذ حدثين من جملة الأحداث التي دلّت على أن النبؤات الواردة على لسان الأنبياء قد تحققت في شخص يسوع المسيح الإله المتجسد الذي جاء لخلاصنا، وتجسد من الروح القدس، ومن مريم العذراء، وصار إنساناً، وصُلب عوضاً عنا، وتألم ومات ودُفن وقام في اليوم الثالث بحسب إرادته. كما نردد نحن المؤمنين باسمه في قانون الإيمان الذي وضعه لنا آباء أول مجمع مسكوني عُقد في مدينة نيقية سنة /325/ للميلاد. فالرسل كان عليهم أن يتأملوا في دعوة فيليبس لنثنائيل، فبعد شهادة يوحنا المعمدان ابن زكريا الكاهن وأليصابات العاقر حين أرسل اليهود لأورشليم كهنة ولاويين ليسألوه من أنت ؟ اعترف ولم ينكر، وأقر : إني لست أنا المسيح… أنا أعمد بماء ولكن في وسطكم قائم الذي لستم تعرفونه هو الذي يأتي بعدي الذي صار قدامي الذي لست بمستحق أن أحل سيور حذائه… وفي الغد نظر يوحنا يسوع مقبلاً إليه فقال : هوذا حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم (3).
ثم يصف لنا الإنجيلي يوحنا اختيار يسوع المسيح لاثنين من تلاميذه كان الأول أندراوس أخو سمعان بطرس، وكان سابقاً واحداً من تلاميذ يوحنا المعمدان، فسمع معلمه يقول عن المسيح : هوذا حمل الله، فتبعه فالتفت يسوع ونظرهما فقال لهما : ماذا تطلبان ؟ فقالا : ربي أين تمكث، فقال : تعاليا وانظرا وكانت شهادة التلميذين مع شهادة سمعان بن يونا الذي سماه _____________
1- متى 27 : 63 ـ 64. 2- زكريا 13 : 7. 3- يوحنا 1 : 26 – 29.
يسوع بعد أن نظر إليه قائلاً : أنت تدعى صفا الذي تفسيره بطرس. تأتي شهادة من نوع آخر كانت تكفي لكل الرسل خاصة وأنها حصلت قبل أول معجزة صنعها يسوع في قانا الجليل، عندما حوّل الماء إلى الخمر. فدعونا نتوقف عند هذه الشهادة ونتأمل المعاني الروحية وراءها.
يقول يوحنا الرائي، أن يسوع أراد أن يخرج إلى الجليل، فوجد فيليبس وقال له : اتبعني، وكان فيليبس أيضاً من بيت صيدا من مدينة الأخوين أندراوس وبطرس. هذا فيليبس وجد نثنائيل واسمه بالآرامية يعني قد أعطى الله، وكان من بلدة قانا الجليل فدعاه بعد أن بشّره بأننا وجدنا حقاً الذي تنبأ عنه موسى، وباقي الأنبياء : يسوع ابن يوسف الذي من الناصرة. وهذا الكلام يعني أن فيليبس كان يعرف كُتب الناموس والأنبياء، وينتظر مثل غيره مجيء الذي كتب عنه موسى، هل هي خبرة شخصية لفيليبس، أراد أن يسبق فيها بقية الرسل فيُعلن هذه الشهادة حتى قبل أن يلمس بيديه ويرى بعينيه عجائب الرب وآياته، ونثنائيل بحسب ما ورد في إنجيل يوحنا لم يبدِ اهتماماً بهذا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء، ولا بشخص يسوع المسيح، كونه ابن يوسف كما جاء على لسان فيليبس، ولكن الذي لفت نظره أن يكون هذا الآتي من وراء التاريخ من مدينة الناصرة، فكان رد فعله سريعاً بقوله لفيليبس : أمن الناصرة يمكن أن يكون شيء صالح. لماذا يا نثنائيل تحكم حكماً جائراً وبسرعةٍ تفوق سرعة البرق على هذا الآتي من الناصرة، والذي سيعطي لقبه الناصري لكثيرين من أتباعه فيُعرفون بالنصارى والناصريين ؟ صحيح أن الناصرة لم تُذكر في أسفار العهد القديم، ولا في الوثائق المصرية، والآشورية، والحثية، والآرامية، والفينيقية السابقة للميلاد، ولم يأتِ على ذكرها يوسيفوس الشهير، ولكن بعد أن عاش فيها الناصري يسوع المسيح ذكرت تسع وعشرين مرة في العهد الجديد، ويحتفظ المسيحيون بذكريات وقعت في هذه المدينة منها أن الملاك ظهر لمريم وبشرها بالحبل الإلهي، وفي الشهرِ السادسِ أُرسلَ جبرائيلُ الملاكُ من الله إلى مدينةٍ من الجليلِ اسمها ناصرةُ (1)، وإليها عادت العائلة المقدسة من مصر. بعد أن هربت من وجه الطاغية هيرودس، وأتى وسكن في مدينة يُقال لها ناصرةُ. لكي يتمَّ ما قيل بالأنبياءِ إنهُ سيُدعى ناصرياً (2)، وفيها عاش يسوع طفولته، ولا نعرف كم مرة غادر الناصرة وعاد إليها مثل ما حصل معه عندما كان ابن اثنتي عشرة سنة، وعندما لقب بالناصري كان نسبة إلى مدينة الناصرة، وتلاميذه أيضاً عرفوا بالناصريين، ولكن هذه المدينة التي تحدث عنها نثنائيل رفضت يسوع الناصري مرتين، حتى أنه _____________
1- لوقا 1 : 26. 2- متى 2 : 23.
عندما جاء إليها. ويقول لوقا بشكل واضح : جاء حيث كان قد تربى فدخل المجمع وقرأ من سفر إشعياء النبي، فتعجبوا جميعاً وشهدوا له، ولكنهم تساءلوا أليس هذا ابن يوسف فعرف أفكارهم وقال لهم : الحق أقول لكم إنه ليسَ نبيٌ مقبولاً في وطنه (1). ولم يكتفِ أهل الناصرة بذلك، بل جميع الذين كانوا في المجمع يومئذٍ امتلأوا غضباً وأخرجوهُ خارجَ المدينةِ، وجاءوا بهِ إلى حافةِ الجبلِ الذي كانت مدينتهم مبنيةً عليهِ، وأرادوا أن يطرحوهُ إلى أسفلٍ أي أن يقتلوه (2). هل كان نثنائيل على حق عندما قال لفيليبس : أمن الناصرة يمكن أن يكون شيء صالح، وأن حكمه كان على مدينة الناصرة وأهلها وليس على السيد المسيح، وذلك بعد أن دعاه فيليبس بقوله : تعالَ وانظر ؟ الذي يهمنا اليوم هو ما بدا على نثنائيل من تغير كبير بعد أن اقترب من يسوع. فعندما رآه مقبلاً إليه قال عنه : هوذا إسرائيلي حقاً لا غش فيه. قال له نثنائيل : من أين تعرفني ؟ أجاب يسوع وقال له : قبل أن دعاك فيليبس وأنت تحت التينة رأيتك. أجاب نثنائيل وقالَ لهُ : يا معلمُ أنتَ ابنُ الله. أنتَ ملكُ إسرائيلَ. أجابَ يسوعُ وقالَ لهُ : هل آمنتَ لأني قُلتُ لكَ إني رأيتُكَ تحت التينةِ. سوف ترى أعظمَ من هذا (3).
أيها الأحبة…
هذا الحوار القصير بين يسوع المسيح الذي من الناصرة ونثنائيل الإسرائيلي الذي لا غش فيه جاء مباشرة بعد دعوة فيليبس له بقوله : تعال وانظر، هذه العبارة التي سمعناها أولاً من يسوع بالذات عندما التفت يسوع إلى الاثنين اللذين تبعا يسوع وسألاه : ربي أين تمكث. فقال لهما تعاليا وانظرا !! وها فيليبس يستعمل العبارة ذاتها، عندما أعلم نثنائيل أنه قد وجد الذي كتب عنه في الناموس والأنبياء. فبعد تساؤل نثنائيل الغريب قال له : تعال وانظر !! ماذا أعطى يسوع المسيح كجواب على هذا التساؤل ؟ قال لفيليبس : الحقَّ الحقَّ أقولُ لكم من الآنَ ترونَ السماءَ مفتوحةً، وملائكةَ الله يصعدونَ وينزلونَ على ابن الإنسانِ (4).
إذاً كان لقاء يسوع المسيح بنثنائيل هو الحدث الأول، الذين يدعونا لنذهب وننظر.
أما الحدث الثاني فوقع كتسلسل تاريخي قبل أن يدخل بالمجد إلى مدينة أورشليم صباح أوشعنا. فالقديس يوحنا يجعل من إقامة لعازر من بين الأموات ختاماً للمعجزات التي اجترحها قبل أن يدخل في آلامه. في جوابه على نثنائيل بعد أن آمن به أكد أن السماء ستكون مفتوحة ____________
- 1- لوقا 4 : 16 – 26. 2- لوقا 4 : 29. 3- يوحنا 1 : 47 – 50. 4- يوحنا 1 : 51.
وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن الإنسان. أما في آية إقامة لعازر من الموت، فهنالك إشارة واضحة على أن المسيح الذي هو الكلمة إذ ما سُمع حتى من الميت فيقوم من الأموات. وبعبارة أخرى أن هذا الكلمة : كان النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان آتياً إلى العالم، كان في العالم وكوّن العالم به، ولم يعرفه العالم.
لقد عرف القديس يوحنا أهمية إقامة لعازر فقد وضعها كختام لمعجزات يسوع، كان يريد أن يستجيب إلى كل تساؤلات اليهود وأسئلتهم حول ألوهة السيد المسيح، خاصة وأنه صاحب الافتتاحية اللاهوتية في إنجيله الشهير : فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ. هَذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللَّهِ. كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ. فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ (1).
فالرائي يوحنا في وصفه الرائع لاليعازر بعد قيامته، كان يريد أن يقول لليهود انظروا هذا الكلمة الذي كان في البدء والذي به كانت الحياة هو الذي يسمع الأموات صوته ويقومون، لأنه يعطيهم حياةً لأنه فيه كانت الحياة. لقد أرسلت الأختان رسالةً إلى يسوع عندما كان لعازر آخوهما مريضاً قائلتين : يا سيد هوذا الذي تحبه مريض، وعندما مات عرف يسوع أن حبيبه لعازر قد مات، لكنه قال لتلاميذه : لعازر حبيبنا قد نام، لكنّي أذهب لأوقظه. ومرتا التي كانت مضطربة بأمور كثيرة بحسب تعبير السيد المسيح في بيتها عندما رأت يسوع عاتبته عتاباً خفيفاً وقالت له : يا سيد لو كنت ها هنا لما مات أخي، حالة انفعالية ظهرت في مرتا وهي التي عرفت يسوع كصانع للمعجزات، وعرفت أن غير المستطاع عند الناس مستطاع عنده اعترافاً منها بلاهوته وهي متيقنة ومؤمنة أنّه لو كان حاضراً لما أدّى مرضه إلى موتٍ محتوم يدفن بعده. وتتقبل هي وأختها مريم التعازي من الأهل والجيران الذين جاءوا من كل مكان، ولكن مرتا أيضاً رغم العتاب الحقيقي كانت تحمل في قلبها إيماناً للسيد المسيح لا حدود له، لهذا قالت له : لكني الآن أعلم أن كل ما تطلب من الله يعطيك الله إياه. اسمعوا ماذا قال لها يسوع : أخوكِ سيقوم، المسيح هنا يتكلم عن القيامة وهذا إعلان جريء يبين فيه أن القيامة حقيقة وواقع، لسنا أمام درس فلسفي يناقش مفهوم الموت والقيامة. نحن أمام واقع عملي سيحصل وستكون قيامة المسيح الركن الأساس لإيمان الكنيسة التي افتداها بدمه الطاهر على عود الصليب.
____________
1- يوحنا 1 : 1 ـ 5
لقد عرف أتباع يسوع بأن القيامة هي الأساس، ولولاها كما يقول بولس الرسول في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس : وإن لم يكنِ المسيحُ قد قامَ فباطلةٌ كرازتُنا وباطلٌ أيضاً إيمانكم (1)، وقول السيد المسيح لمرتا : سيقوم إشارة واضحة لقيامة يسوع بالذات، لأن جواب مرتا الهادئ في هذه المرة أدّى إلى قول آخر عن سر القيامة، مرتا تقول : أنا أعلم أنه سيقوم في القيامة، لكن يسوع المسيح يفاجئها بقوله : أنا هو القيامة والحياة من آمن بي ولو مات فسيحيا، وكل من كان حياً وآمن بي فلن يموت إلى الأبد.
مسألة الموت والحياة كانت المحور والأساس في كل تعاليم يسوع المسيح في الإنجيل المقدس. ولو تأملنا قوله : أنا هو القيامة والحياة لوجدنا أنه لا يتحدث عن عمل خاص به وإنما عن طبيعة فيه. فهو يشهد لنفسه وشهادته حق، لأنه يصرّح ويؤكد بأنه مصدر القيامة ومصدر الحياة. بولس الرسول في رسالته إلى أهل كولوسي شرح هذا المفهوم الجديد بقوله : فإن كنتم قد قمتم مع المسيحِ فاطلبوا ما فوقُ حيثُ المسيحُ جالسٌ عن يمينِ الله، اهتموا بما فوقُ لا بما على الأرضِ (2). هل عرفنا في معجزة إحياء لعازر ولقاء المسيح مع مرتا والكلام الصريح الذي سمعناه جواباً على سؤالها : أنا هو القيامة والحياة، معنى قيامته من بين الأموات، فلأنه هو القيامة فمن يؤمن به، حتى ولو مات موت الجسد سيحيا ثانية في الوقت الحاضر أو في القيامة. ولأنه الحياة فمن كان حياً بالروح أي مؤمناً به لن يذوق الموت الروحي إلى الأبد.
وسأعود معكم إلى إنجيل يوحنا مرة أخرى ووصف الحالة بعد أن وصل يسوع إلى بيت عنيا. يقول يوحنا أن يسوع عندما رأى مريم وهي تبكي واليهود الذين جاءوا معها يبكون انزعج بالروح واضطرب وقال : أين وضعتموه. قالوا له : يا سيد تعال وانظر.
إذاً بين الحدثين لقاء فيليبس ونثنائيل وإحياء لعازر توجد عبارة واحدة وهي : تعال وانظر، وهي العبارة التي استخدمها يسوع مع التلميذين الأولين اللذين دعاهما للخدمة. إلى أين نذهب وإلى ماذا أنظر. هذا هو موضوع احتفالنا اليوم بعيد قيامة ربنا يسوع المسيح من بين الأموات. نحن مدعون أن نذهب إليه في كل مكان، في اليهودية، في الجليل، في أورشليم، في السامرة. أن نراه في مناسبات مثل : عيد المظال وعيد التجديد. وأن نذهب إليه وهو ينفرد ليصلي، وأن نذهب إليه وهو يصنع معجزات بدءاً من تحويل الماء إلى خمر في عرس قانا الجليل، ومروراً بشفاء البرص، وفتح عيون العميان، وإشباع الجموع. أن نذهب إليه ونسمع إلى ____________
1- 1 كو 15 : 14. 2- كولوسي 3 : 1 – 2.
أحاديثه مع نيقوديموس، والسامرية، والتلاميذ، والصدوقيين، والكتبة، والفريسيين. أن نذهب إليه ونسمع منه عن برنامج عمله الفدائي، كونه الراعي الصالح وباب الخراف ونور العالم، أن نذهب إليه ونراه وهو يريد أن تصل رسالته إلى كل الأعراق والشرائح والأطياف، ومن كل الثقافات والحضارات واللغات، وربما بصورة خاصة إلى المهمّشين في المجتمعات : الجياع، والعطاش، والغرباء، والعراة، المرضى، وسكّان السجون، ولكن لا نكتفي بالذهاب إليه بل أن ننظر إلى نهاية رسالته الخلاصية إلى القيامة التي أصبحت قاعدة للحياة الجديدة.
إن عيد قيامة ربنا يسوع المسيح، يدعونا في هذا المساء لنتشبه بالتلاميذ الأوائل، الذين عرفوا المسيح معرفة حقيقية، وآمنوا به وحملوا رسالته إلى العالم، ثم عندما قام من بين الأموات تحققوا من قول نثنائيل له : يا معلم أنت ابنُ الله، وأيضاً آمنوا بما قالته مرتا للسيد المسيح : لكني الآن أعلم أن كل ما تطلب من الله يعطيك الله إياه، وقول الناهض من بين الأموات لها : أنا هو القيامة والحياة من آمن بي ولو مات فسيحيا، فكلنا في هذا المساء مدعوون لنتأمل عبارة : تعال وانظر.
نهنئكم أيها الأحبة بعيد قيامة ربنا يسوع المسيح من بين الأموات، ونسأل الله أن يبارك وطننا الغالي رئيساً، وحكومةً، وجيشاً، وشعباً، وأن يمن أمنه وسلامه في كل المعمورة، وخاصة في منطقتنا، وبصورة أخص في سورية الحبيبة والغالية على قلوبنا، ويعود السلام إلى أرض السلام، إلى فلسطين الجريحة، وأيضاً إلى العراق البلد الشقيق، وأن يعيد عليكم هذه الأعياد حافلة بالنعم والبركات.
وكل عيد وأنتم بخير، المسيح قام.
عيد القيامة
2007
2008
المسيح قام … حقاً قام…
ܒܫܡ ܐܒܐ ܘܒܪܐ ܘܪܘܚܐ ܚܝܐ ܩܕܝܫܐ ܚܕ ܐܠܗܐ ܫܪܝܪܐ .. ܐܡܝܢ
أيها الأحباء…
(1)
تحتفل الكنيسة المقدسة بحسب التقويم الشرقي بعيد قيامة ربنا يسوع المسيح من بين الأموات، وذلك بعد أسبوع كامل مخصص للمرحلة الختامية لحياة يسوع المسيح على الأرض.
ونحن في كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية تبدأ عندنا صفحة الآلام مباشرة من زمن دخوله بظفر ومجد إلى أورشليم.والإنجيليون الذين وصفوا الجمهور الذي خرج إلى أحياء وأزقة وروابي أورشليم، وقد التهبت صدورهم بالحماسة، وانطلقت منها الأهازيج والهتافات، وبقيت أصداؤها تتردد في كل جيل ومكان، وهي تصيح أوشعنا أوشعنا لابن داود مبارك الآتي باسم الرب (متى 21 : 9)، يعتقد الإنجيليون أن ذلك الجمهور العرمرم لم يكن على صلة بما سيحدث ليسوع بعد أيام قريبة. ربما بعضهم عبر على آيات تتنبأ عن هذا المشهد. فالنبي زكريا تطلع من بعيد وشاهد الموكب الذي سار في مدينة السلام أورشليم، وكتب بعين الرؤية وهو يصف المشهد العجيب : ابتهجي جداً يا ابنة صهيون، اهتفي يا ابنة أورشليم، هوذا ملكك يأتي إليك، هو عادل ومنصور، وديع وراكب على حمار، وعلى جحشٍ ابن آتان (زكريا 9 : 9).
ولكن منظر هذا الموكب خلق نقمةً عند الذين أحسوا بأن عروشهم قد اهتزت، ومصالحهم قد اضطربت، لهذا نجد أن بعض الفريسيين من الجمع بادروا إلى يسوع الممجَّد من قبل سكان أورشليم، وقالوا له بغضب : يا معلم انتهر تلاميذك (لوقا 19 : 39)، فجاء الجواب : إن سكت هؤلاء فالحجارة تصرخ ! (لوقا 19 : 40).
أية حجارة تصرخ في وجه الناكرين لرسالة السماء، إنها الحجارة التي يستطيع الله أن يقيم منها أولاداً لابراهيم عوضاً عنهم (لوقا 3 : 8).
مشهد عجيب يمر للمرة الأولى على مدينة السلام، أولاد أورشليم يفرشون ثيابهم في الطريق، وعند منحدر جبل الزيتون، امتزج صراخ التلاميذ بصيحات المتحمسين، وأصوات الجمهور : سلام في السماء ومجد في الأعالي، مبارك الملك الآتي باسم الرب (لوقا 19 : 35). أما يسوع المسيح الآتي من ملء الزمان (غلاطية 4 : 4)، عندما اقترب من المدينة نظر إليها وبكى عليها (لوقا 19 : 41)، هذا البكاء له أكثر من دلالة، إنه يرى بأم العين ما سيحدث بعد سنين قلائل لمجد أمته، وقوة قومه، وعراقة مدينته.
(2)
كل هذا ونحن في الطريق إلى الآلام، وتأتي الساعة، وتبدأ المؤامرة، يقودها يهوذا الذي باع نفسه لإبليس، ينظر ولا يُبصر، يسمع ولا يفهم، يقول يسوع أمام التلاميذ بمنتهى الوضوح والصراحة : تعلمون أنه بعد يومين يكون الفصح، وابن البشر يُسلَّم للصليب. لماذا لا تسأل يا يهوذا نفسك، ومن هذا الذي يُسلمه للصليب، أنسيت مسيرة الخلاص، ألم تسمع ما قاله يسوع المخلص على الجبل عندما فتح فاه وعلَّم قائلاً : طوبى للمساكين بالروح… طوبى لأنقياء القلب… طوبى لصانعي السلام… (متى 5 : 3 – 12)، ألم تعرف أنه عندما أختارك لتكون أحد تلاميذته قد أصبحت من ملح الأرض، ولكن إن فسد الملح فبماذا يُملَّح، لا يصلح بعد لشيء إلا بأن يُطرح خارجاً ويداس من الناس (متى 5 : 13). لماذا سمحت للفساد أن يدخل فيك، فقريباً تُطرح خارجاً وتُداس من الناس.
(3)
ويوم الخميس يوم إعداد عدة العيد، اليوم الأول من أيام الفصح لم يفهم يهوذا قول السيد المسيح : شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم… الحق أقول لكم أني لا أشرب من نتاج الكرمة حتى يأتي ملكوت الله (لوقا 22 : 15 و 18). يهوذا كان بطيئاً جداً في فهمه لكلمات السيد المسيح. ففي أول العشاء قال يسوع لتلاميذه وهو يسمع : أنتم طاهرون ولكن ليس كلُّكم (يوحنا 13 : 10)، ثم أشار بعبارة أوضح قائلاً : هوذا يد الذي يسلمني هي معي على المائدة (لوقا 22 : 21)، إنها لحظات أليمة جداً، ويسوع لا يُخفي على تلاميذه ما يعرفه عن تلك الليلة، فعندما سأله التلميذ الذي اتكأ على صدره من هو الذي سيسلمه ؟ أجاب يسوع : هوذا الذي أغمس أنا اللقمة وأعطيه (يوحنا 13 : 26). فغمس اللقمة وأعطاها ليهوذا سمعان الإسخريوطي، فمضى يهوذا بعد سهرة الوداع ليُنجز ما في فكره، بعد أن دخل فيه الشيطان.
مضى يسوع في صفحة الآلام ومرت الساعات وهو ينتقل من مشهد إلى مشهد. نُذكّر هنا أنفسنا بواحدة منها وهي : مشهد يسوع أمام بيلاطس في دار الولاية، وهو يسأله قائلاً : أنت ملك اليهود ؟ يجيبه : أمن ذاتك تقول هذا أم آخرون قالوا لك عني (يوحنا 18: 33 و 34). ثم يُبيَّن له يسوع أن مملكتي ليست من هذا العالم، لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا أسلم إلى اليهود، ولكن الآن ليست مملكتي من هنا (يوحنا 18 : 36). فيسأل بيلاطس مرة ثانية : أفأنت إذاً ملك ؟ (يوحنا 18: 37)، أجاب يسوع : أنت تقول أني ملك، لهذا قد وُلدت أنا، ولهذا قد أتيت إلى العالم، لأشهد للحق، كل من هو من الحق يسمع صوتي (يوحنا 18 : 37). فيقول له بيلاطس : ما هو الحق (يوحنا 18 : 38).
(4)
بعد هذا الاستنطاق الذي دار كحوار هادئ، الحاكم يجلس كتلميذ يريد أن يتعلّم، والمتهم كمعلم يقدّم إرشادات رائعة للحاكم والسامعين، يذهب يسوع إلى عالم الآلام. فمرة بين يدي الجلاّدين، ومرة بين بيلاطس واليهود، وأخيراً إلى الجلجلة. وفي الطريق نساء أورشليم انتهزْن فرصة تسخير سمعان بالصليب، فاقتربْن من يسوع حزينات، باكيات، منتحبات، تُرى لماذا يظهر وفاء النساء أكثر من الرجال في هذه ساعة المحنة، أين بطرس ورفاقه ؟ أين الذين آمنوا بعد أن نالوا الشفاء. أين البُرص، والصُم، والعُرج، والعُميان الذين عادوا أصحاء إلى المجتمع ؟ (متى 11 : 4)، أين الموتى الذين قاموا ؟ كلهم غابوا عن الساحة ولم يبقَ سوى حفنة من النساء، يلطمْن وينحْنَ عليه. أما يسوع عندما التفت إليهنَّ قال لهنَّ : يا بنات أورشليم لا تبكين عليَّ، بل أبكين على أنفسكن وعلى أولادكن، لأنه هوذا تأتي أيام يقولون فيها طوبى للعواقر والبطون التي لم تلد، والثُّدي التي لم تُرِضع، حينئذٍ يبتدئون يقولون للجبال أسقطي علينا، وللآكام غطينا، لأنه إن كان بالعود الرطب يفعلون هذا فماذا يكون باليابس ؟ (لوقا 23 : 28 – 31)، أليس هذا جواباً على سؤال بيلاطس ليسوع المسيح : ما هو الحق ؟.
(5)
صفحة الآلام تستمر، ويسوع يُصلب بين لصين، وقبل أن يصرخ إلى أبيه السماوي قائلاً : ايلي ايلي لماذا شبقتني أي إلهي إلهي لماذا تركتني (متى 27 : 46)، لم ينسَ أمَّه الواقفة من بعيد وهي تستعيد كل حدث الخلاص، لقد كانت تحفظ جميع الأمور في قلبها (لوقا 2 : 51). إذاً أنت يا سمعان الشيخ، أيها البار التقي، يا من انتظرت تعزية شعبك وكان الروح القدس عليك، كنت على حق عندما قُلت لأم الطفل يسوع : وأنتِ أيضاً يجوز في نفسك سيف لتُعلن أفكار من قلوب كثيرة. (لوقا 2 : 35)، هوذا كلامك يتألق اليوم بخاصة عندما قُلت : أن هذا قد وضع لسقوط وقيام كثيرين… ولعلامة تُقاوم (لوقا 2 : 34). قم يا مار سمعان الشيخ، وانظر، كيف أنَّ هذا الطفل الذي حملته على ذراعيك في هيكل الرب، يهزُّ العالم كله بتعاليمه ومعجزاته، وأخيراً بآلامه وصلبه وموته، لقد أعطى العالم حياةً بعد أن امتد على الصليب الظاهر المُكلل بالمجد.
وجاء صباح الأحد فأصبح كل الكلام الذي قاله اليهود وزعماؤهم من ماضي الزمان، والعالم في صباح الأحد يرى نفسه أمام قبر فارغ : تعال يا يوسف الرامي أيها المُشير الرجل الصالح البار، أنت لم تكن موافقاً لرأي أبناء جنسك وعملهم، يا من كنت تنتظر ملكوت الله، تعال وأشهد كيف تقدمت بطلب إلى بيلاطس لتدفن جسد يسوع، وأنزلته بعد أن لُفَّ بكَتان، ووضعته في قبر منحوت، حيث لم يكن أحد وُضع قط (لوقا 23 : 50 – 53). تعال وأشهد للعالم أنك أنت ونيقوديموس تعترفان بموت السيد المسيح ودفنه، والآن ترى أن هذا القبر ذاته فارغ، تعال اسمع مريم المجدلية وقد جاءت إلى سمعان بطرس وإلى التلميذ الآخر الذي كان يسوع يحبه، وهي تتحدث : عن رجلين وقفا أمام القبر بثياب براقة، وقالا للنسوة : لماذا تطلبن الحي بين الأموات؟ ليس هو ههنا لكنه قام (لوقا 24 : 5 و 6). إنها رأت الحجر مدحرجاً، والقبر مفتوحاً فارغاً، والمكان قفراً، إذاً جاءت صفحة المجد، ويسوع المسيح قام من بين الأموات.
(6)
إن ظهورات السيد المسيح التي توالت أعطت قوةً جديدةً للرسل. الآن القيامة أصبحت حقيقة، وشهود القيامة عددهم يكبر، مريم المجدلية ومعها المريمات، بطرس، يوحنا، وغيرهما من الرسل. حتى إن قائد المئة والذين معه يحرسون أيضاً يشهدون بأن زلزلةً عظيمةً حدثت، وخافوا جداً وقالوا : حقاً كان هذا ابنَ الله (متى 27 : 54)، وأن ملاك الرب نزل من السماء وجاء ودحرج الحجر عن الباب، وجلس عليه وكان منظره كالبرق، ولباسه أبيض كالثلج، لقد ارتعد الحراس وصاروا كأموات، والظهورات أعادت الحياة إلى قلوب الرسل، خاصة عندما وقف يسوع نفسه في وسطهم وقال لهم : سلام لكم، وأراهم يديه ورجليه (يوحنا 20 : 19 و 20). والظهورات أعادت توما أحد الاثني عشر إلى الإيمان بعد أن قال للرسل : إن لم أبصر في يديه أثر المسامير وأضع إصبعي في أثر المسامير وأضع يدي في جنبه لا أؤمن (يوحنا 20 : 25)، فهذا الناهض من بين الأموات يدخل إلى العُليِّة بعد ثمانية أيام، والأبواب مغلَّقة وكان توما حاضراً مع التلاميذ، ويخاطبه قائلاً : هات إصبعك إلى هنا، وأبصر يدي، وهات يدك وضعها في جنبي، ولا تكن غير مؤمنٍ بل مؤمَناً (يوحنا 20 : 27). وسمعت الأجيال صدى صوت توما وقد أحنى هامته أمام الرب قائلاً : ربي وإلهي (يوحنا 20 : 28). ويُعلن يسوع الناهض من بين الأموات : طوبى للذين آمنوا ولم يروا (يوحنا 20 : 29).
(7)
ولكن دعونا في هذه الليلة نتوقف عند ظهور السيد المسيح لتلميذين كانا منطلقين في ذلك اليوم إلى قرية بعيدة عن أورشليم ستين غلّوة اسمها عمّاوس.
فالإنجيلي لوقا وهو الأبرز بين الإنجيليين في رسم لوحة القيامة بريشة فنية رائعة، فبعد أن وصف حاملات الحَنوط كيف ذهبْن في أول الأسبوع إلى القبر، ووجدْنَّ الحجر مدحرجاً عن القبر، ثم رجعْن وأخبرْن الأحد عشر وجميع الباقين بالخبر، وكيف حسب الرسل كلام مريم المجدَلية، ويونّا، ومريم أم يعقوب، والباقيات، كالهذيان، فقام بطرس وركض إلى القبر فانحنى ونظر الأكفان موضوعة وحدها، فمضى متعجباً من نفسه.
إن ما سرده لنا لوقا البشير عن حكاية الاثنين اللذين كانا منطلقين إلى قرية عمّاوس، وكانا يتكلمان بعضُهما مع بعض عن جميع هذه الحوادث، وكيف أنهما كانا يتكلمان ويتحاوران، وإذا فجأة يقترب منهما يسوع المسيح الناهض من بين الأموات دون أن يعلما، بل أن أعينهما أمسكت عن معرفته (لوقا 24 : 16). إن هذا الظهور وما رافقه أثّر كثيراً ليس فقط بتلميذي عماوس وإنما بالرسل جميعاً.
الملاحظة الأولى التي نلمسها في هذا الظهور هي أن أعينهما قد أُمسكت عن معرفته. فالتلميذان كانا متحمسَين في حديثهما عن يسوع وصفحة الآلام التي رافقت حياته الختامية، وعندما سألهما يسوع وما هي ؟ اختصرا مسيرة التجسد الإلهي وقال أحدهما الذي اسمه كليوباس بكل ما يختص بيسوع الناصري الذي كان إنساناً نبياً مقتدراً في الفعل والقول، أمام الله وجميع الشعب، كيف أسلمه رؤساء الكهنة والحكام لقضاء الموت وصلبوه (لوقا 24 : 19 و 20). كليوباس يتحدث عن هذه القدرة التي ظهرت جلياً في أعماله الباهرة، ومع هذا فرؤساء الكهنة والحكام قضَوا بالحكم عليه بالموت بعد أن صُلب على خشبة العار، ولكن كليوباس ختم بعبارة أخرى، وقال : نحن كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل (لوقا 24 : 21).
(8)
حيرة لفّت النساء والتلاميذ جميعاً لأنه بموت يسوع خابت آمالهم وسقطت أحلامهم، ولم يتحقق رجاؤهم، وكليوباس استطرد يقول : لكن مع هذا كله اليوم له ثلاثة أيام منذ حدث ذلك، بل بعض النسوة منا حيّرتنا إذ كنَّ باكراً عند القبر، ولما لم يجدن جسده أيقن قائلات أنهنَّ رأين منظر الملائكة قالوا أنه حي، ومضى قوم من الذين معنا إلى القبر فوجدوا هكذا، كما قالت أيضاً النساء وأما هو فلم يروه (لوقا 24 : 22 – 24).
إن خطأ التلاميذ والنساء وكل الذين رافقوا يسوع المسيح في حياته العملية، وكانوا شهوداً على صفحات الآلام، ثم الصلب، والموت، كان في عدم قراءة الكتب، فالأنبياء من موسى، ومن جاء بعده، أشاروا برموز وآيات، وأعلنوا بما لا يقبل الشك عن كل هذه الأمور التي حدثتْ فيها بهذه الأيام، قدرة يسوع في الفعل والقول، هي تلك القوة الخارقة التي كانت معه في كل خطوة حقق بواسطتها أحلام الإنسان الخاطئ فقط، لو فتشوا الكتب لعرفوا لماذا قال يسوع المسيح لذلك المخلّع : مغفورة لك خطاياك. حتى يوم دخوله لأورشليم لم يتذكّروا زكريا النبي وهو ينظر بعين الرؤيا إلى الملك العادل، والمنصور، والوديع الراكب على حمار وجحش ابن آتان. لو قرأوا الكتب لعرفوا لماذا أمر زكريا أورشليم لتخرج بشيبها وشبّانها، برجالها ونسائها، بصغارها وكبارها، بكل الطبقات والشرائح والانتماءات، وتفرح وتبتهج وتهتف في ذلك اليوم.
(9)
إذاً مشكلة الرسل والتلاميذ والنساء في يوم قيامة ربنا يسوع المسيح من بين الأموات كانت في عدم تفتيش الكتب، ولم يخطر على بالهم أن موسى والأنبياء تنبأوا جميعاً عن مجيء ابن الإنسان بالجسد، مرحلة منظورة بعد القيامة لتلميذي عمّاوس.
والحوار الذي جرى معهما أختصر كل مسيرة الأنبياء، وأعطى تحليلاً موجزاً لفكرهم عن الحوادث التي وقعت في تلك الأيام. لهذا نرى يسوع بعد أن استمع لكيليوباس، يقول لهما بشيء من العنف والتوبيخ، ويوجه بواسطتهما كلامه للآخرين : أيها الغبيان وبطيئا القلوب بالإيمان بجميع ما تكلم به الأنبياء، أما كان ينبغي أن المسيح يتألم ويدخل مجده (لوقا 24 : 25 و 26)، ثم ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب.
هذا الكلام الذي فيه كثير من العنف والتوبيخ للتلميذين والرسل والنساء وجميع الذين رافقوا يسوع المسيح في حياته العملية على الأرض، يُشير إلى أن قلة الفهم هي معضلة حقيقية تؤدي إلى انفصام في شخصية الإنسان. أنت مؤمن ؟ قدّم برهاناً على إيمانك من خلال قراءتك للكتب ! هل عرفت موسى والأنبياء ؟ هل رافقتهم في نبؤاتهم، وأقوالهم، وإشاراتهم، ورموزهم ؟ أم أنت الآن مثل توما تُعلن عن توبتك وندمك بعد أن دخل الشك دخل قلبك ؟ إن ظهور يسوع المسيح للتلميذين على الطريق إلى عمّاوس مهم جداً، لأنه كلّمهم عن المسيح المتألم الذي سيدخل إلى مجده، وخاتمة هذا الظهور كان عندما دخل ليمكث معهما، فلما اتكأ معهما أخذ خبزاً وبارك وكسر وناولهما (لوقا 24 : 30).
وهنا جاء دور الطاقات غير المتناهية لتدخل لنا النور السماوي ليمسح عن عيوننا الدموع على الماضي قبل دعوة الاثنين. لكن الطعام الذي قدّمه لهما على مائدة الحياة، كان سبب إِبعاد قلة الإيمان والفهم والغباء عن كل الذين أرادوا أن يعيشوا مع المسيح الناهض من بين الأموات. فعندما اتكأ معهما وأخذ خبزاً وكسّره وبارك وناولهما يقول إنجيل لوقا : انفتحت أعينهما، أي أن الذين كانوا ينظرون ولا يُبصرون عاد البصر إليهم، والذين كانوا يسمعون ولا يفهمون، عاد الفهم إلى حياتهم، وعندما تكون العيون مفتوحة يبدوا كل شيء جلياً، فيأتي الإنسان إلى عالم المعرفة، لهذا عندما انفتحت أعينهما عرفاه، وعند المعرفة كان عليهم أن يُفتشوا الكتب ويقرأوا فيها عن مسيرة الخلاص، ويتحققوا منه ما كتبه الأنبياء بدءاً من موسى، ومروراً بإشعياء، وأرميا، وحزقيال، ودانيال، ويونان، وميخا، وزكريا، وانتهاء بملاخي، لقد كتبوا عن فرح القيامة الذي دخل في قلوبهما. إنَّ التلميذين لم يشعرا بتعب مسيرة الوصول إلى عمّاوس بعد الظهور، لهذا قاما في تلك الساعة، ورجعا إلى أورشليم والفرح يغمرهما، وكانا يخبران بما حدث في الطريق معهما وكيف عرفاه عند كسر الخبز.
إنها نشوة الظفر، وإحساس غريب بالفرح من الداخل، لأن صفحة الآلام انقلبت رأساً على عقب، وابتدأت صفحة جديدة فيها كل معاني الإيمان الحقيقي لربنا يسوع المسيح القائم من بين الأموات.
(10)
يربط لوقا البشير حدث ظهور السيد المسيح للتلميذين المنطلقين لعمّاوس، بظهوره الأخير عندما وقف في وسط التلميذين حين قال لهم : سلام لكم. مرة أخرى نجد أن الفزع والخوف يدخلان إلى قلوبهم، وظنَّ التلاميذ أنهم نظروا روحاً، لكن الناهض من بين الأموات بدد كل معاني الشك في قلوبهم عندما كلّمهم : ما بالكم مضطربين لماذا تخطر أفكار في قلوبكم، انظروا يدي ورجلي، إني أنا هو، جسّوني وانظروا، فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي (لوقا 24 : 38).
وهنا مرة أخرى ذكّرهم بضرورة التفتيش في الكتب، وقراءة ما جاء فيه على لسان موسى والأنبياء، لأن هذا كان الدليل القاطع الذي يُشير إلى حقيقة ما حدث في تلك الأيام. قال للتلاميذ : لا بد أن يتم كل ما كتب عني في ناموس موسى والأنبياء والمزامير، حينئذ فتح ذهنهم ليفهموا الكتب (لوقا 24 : 44).
إن تلميذي عمّاوس بعد أن فتح أعينهما ليفهما الكتب، اختفى عنهما، فقال بعضهما لبعضٍ : ألم يكن قلبنا ملتهباً فينا إذ كان يكلمنا في الطريق ويوضح لنا الكتب (لوقا 24 : 32). وهنا أيضاً يفتح السيد المسيح ذهن التلاميذ ليفهموا الكتب وليقول لهم هذا هو ما كُتب عني، وهكذا سيكون المسيح المتألم والناهض من بين الأموات بعد ثلاثة أيام.
المهمة الأخيرة التي أعطاها السيد المسيح بعد ظهوراته لهم، كانت الشهادة. فقيامته من بين الأموات أعلن عنها الشهود ليس في أورشليم فحسب، وإنما في كل مكان. لهذا قال لهم : أنتم شهود، لذلك تمكّن الرسل والتلاميذ من تقديم شهادة حقيقية عن الناهض من بين الأموات يسوع المسيح، ولكن هذا حدث مباشرة بعد أن لبسوا قوة من الأعالي أي بعد حلول الروح القدس يوم الخمسين.
إذاً موضوع تفتيش الكتب كان ضرورياً جداً، وعلى هذا الأساس استطاع الرسل والتلاميذ أن يعلنوا بشارة الخلاص للعالم. وبطرس الرسل عندما وقف في وسط التلاميذ وكانوا نحو /120/، وألقى خطبته الأولى فهم معنى التفتيش في الكتب. فقال كان ينبغي أن يتم هذا المكتوب الذي سبق الروح القدس، فقاله بفم النبي داود. وبعد قليل يقول : لأنه مكتوب في سفر المزامير.
وفي يوم الخمسين يعود بطرس مرة أخرى ليذكِّر من جاء إلى أورشليم للعيد مع الساكنين في المدينة، وليبيّن أهمية تفتيش الكتب فاستشهد بقول يوئيل النبي أولاً، ثم بداود قلب الله، وبأقوال أخر كثيرة كان تشهد لهم.
لقد ورد في الأناجيل المقدسة، وفي أكثر من مناسبة موضوع ربط ما جاءت به كتب الأنبياء وحياة يسوع المسيح وأقواله ومعجزاته فعندما أُصعد يسوع بالروح إلى البرية ليُجّرب من إبليس، كان جواب يسوع للمجرّب دائماً مكتوب، أي عُد للكتاب المقدس (متى 4 : 4 و 7 و 10)، وكذلك الحال عندما دخل إلى هيكل الله وأخرج جميع الذين كانوا يبيعون ويشترون في الهيكل ذكرّهم بقول الكتاب : بيتي بيت صلاة يُدعى، وأنتم جعلتموه مغارة لصوص، وفي مثل الإنسان الذي غرس كرماً والكرّامون أخذوا الوارث وقتلوه، أيضاً أشار إلى قول الكتاب قائلاً : أما قرأتم قط في الكتب أن الحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأساً للزاوية (متى 21 : 13 و 42). وفي مثل عدم إيمان الصدّوقيين بالقيامة، أيضاً أشار عليهم ليقرأوا ما قيل لهم من قبل الله، ولكنه بعنف وبّخهم قائلاً : تَضِلون إذ لا تعرفون الكتب ولا قوة الله (متى 22 : 29).
حتى في شأن آلامه أشار إلى الذي يُسلمه قائلاً : إن ابن الإنسان ماض كما هو مكتوب عنه (متى 26 : 24).
ومرقس البشير يُشير إلى نبوة إشعيا الذي قال فيها عن اليهود وزعمائهم : أنتم المرائين كما هو مكتوب (مرقس 7 : 6).
ويكرر مرقس ما قاله متى الإنجيلي في موضوع الحجر الذي رفضه البناؤون، والقيامة التي لم يؤمن بها الصدوقيون.
ولوقا البشير في حديثه عن تلميذي عمّاوس، يكرر الإنجيلي كلام القديسيَن متى ومرقس.
أما يوحنا الرائي والإنجيلي فمن بدايات إنجيله يتحدث عن الكتاب والكتب والأنبياء وهو الذي أوصانا قائلاً : فتشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياةً أبديةً وهي التي تشهد لي (يوحنا 5 : 39)، وعندما يحدِّثنا عن الخلاف الذي وقع بين الفريسيين ونيقوديموس يُشير إلى أنهم قالوا له : فتش وانظر (يوحنا 7 : 52). ونقل عن يسوع عندما تناول اليهود حجارة ليرجموه قوله : أليس مكتوباً في ناموسكم (يوحنا 10 : 34)، وهكذا نرى في سفر أعمال الرسل، ورسائل بولس الرسول إشارات إلى أهمية العودة إلى كتب الأنبياء، لنتحقق من رسالة يسوع المسيح. ففي تسالونيكي الذين آمنوا بيسوع المسيح، وقبلوا الكلمة بكل نشاط، فاحصين الكتب كل يوم هل هذه الأمور هكذا ؟ (أعمال الرسل 17 : 11).
إن دعوة قيامة يسوع المسيح لنا اليوم، هي أن نفتش في الكتب، ونتيقن بإيمان ورجاء أن القيامة حقيقة وواقع، وأن نبقى شهوداً للناهض من بين الأموات في كل المجتمعات، ونحمل رسالة العمل الصالح، ليرى الناس أعمالنا الصالحة ويمجدوا أبانا الذي في السموات (متى 5 : 16).
نهنئكم أيها الأحبة، أيها السامعون الكرام، بعيد الفصح المجيد، والقيامة المظفرة، ونسأل الله أن يمنّ على وطننا العزيز بأوقات طيبة حافلة بالرفاه، والسعادة، والأمن، والأمان، والسلام، وأن يديم العافية، والصحة، والقوة، والحكمة على رئيسنا المحبوب والمبجل الدكتور بشار الأسد، ليقود دفة البلاد إلى ميناء الاطمئنان والهدوء، وينعم المواطنون بالخيرات والبركات، وليحقق على يديه أحلام العرب في الوحدة والحرية والمساواة، وأن يسدد خطى حكومتنا الرشيدة لتستمر في عطائها لخير المواطن في كل مجالات الحياة، وأن يبارك جيشنا الباسل ليكون دائماً يقظاً ومستعداً للدفاع عن كرامة الوطن، ورفع شأنه في كل الميادين، وأن يهنئ جميع مواطنيه بروح المحبة، والوحدة الوطنية، والإخاء الديني، والعيش المشترك، الأمور التي تنعم بها سورية وتفتخر، ونعتبر وطننا أنموذجاً يحتذى به، كما نتطلع إلى أن يكون الأمن والسلام في هذا الوطن العزيز، كذلك نرجو ونصلي من أجل أن يكون هذا السلام راسخاً، وهذا الأمن ثابتاً، في كل دول شرقنا الحبيب، بخاصة في العراق المصلوب منذ سنوات على خشبة الآلام والعذابات، والتغيرات التي تهدد كيانه، وتغير الكثير من المفاهيم في حياة أبنائه، نرجو أن يكون هذا العيد عيداً مباركاً على الجميع، وعيد سلام وأمان على كل الناس، وكل عيد وأنتم بخير.
عيد القيامة
2008
2009
المسيح قام … حقاً قام…
ܒܫܡ ܐܒܐ ܘܒܪܐ ܘܪܘܚܐ ܚܝܐ ܩܕܝܫܐ ܚܕ ܐܠܗܐ ܫܪܝܪܐ .. ܐܡܝܢ
أيها الأحبة…
بعد أن جاهدت الكنيسة الجهاد الحسن خلال الصيام الأربعيني، وصلنا إلى أسبوع الآلام، فعشناه مع بعضنا بعضاً خطوة خطوة، وذكّرتنا القراءات من الكتاب المقدس بمواقف السيد المسيح، وإنبائه بأن الآلام آتية، وابن الإنسان يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيراً، وَيُرْفَضَ مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ يَقُومُ. وَقَالَ الْقَوْلَ عَلاَنِيَةً 1.
وأكّد متّى الإنجيلي ما قاله مرقس، أن يسوع أظهر لتلاميذه أنه ينبغي أن يذهب إلى أورشليم 2، وعندما كان يشرح لتلاميذه قول الكتبة بأن إيليا ينبغي أن يأتي أولاً، بيّن بأن إيليا قد جاء ولم يعرفوه، بل عملوا به كل ما أرادوا، كذلك ابن الإنسان أيضاً سوف يتألّم منهم 3. وحتى بعد قيامته عندما مشى يسوع الناهض من بين الأموات مع التلميذين وكانا منطلقين إلى عمّاوس، وقد أُمسِكَت أعينهما عن معرفته، وبعد أن شرحا له ما وقع في أورشليم من أحداثٍ ليسوع الناصري الذي بحسب وصفهما : كان إنساناً نبياً مقتدراً في الفعل والقول أمام الله وجميع الشعب، وقد استغربا كيف أن رؤساء الكهنة وحكّامهم قد أسلموه لقضاء الموت، وصلبوه، كان جواب الرب لهما : أَيُّهَا الْغَبِيَّانِ وَالْبَطِيئَا الْقُلُوبِ فِي الإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الأَنْبِيَاءُ. أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ بِهَذَا وَيَدْخُلُ إِلَى مَجْدِهِ 4.
ثم تأتي شهادة لوقا البشير وابتدأ يفسّر لهما من موسى ومن جميع الأنبياء الأمور المختصة في جميع الكتب، وكأنه يؤكّد على أن الآلام التي تحمَّلها كانت محتَّمةً، وهذه شهادة صادقة تأتي من الأنبياء بدءاً من موسى، في حقيقة الآلام.
وأدّت هذه الآلام إلى أن يجثو يسوع على ركبتيه، ويصلّي في جبل جثسيماني صلاةً، عبّرت عن عمق هذا الألم قائلاً : يَا أَبَتَاهُ إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسَ 5. كان يتحدّث عن مرارة الكأس، أي عن المرحلة التي سبقت الموت، وكان يرسم حدود ذبيحة الصليب بدقةٍ لتبلغَ مواصفاتها كفديةٍ لدى الآب وَإِذْ كَانَ فِي جِهَادٍ كَانَ يُصَلِّي بِأَشَدِّ لَجَاجَةٍ وَصَارَ عَرَقُهُ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى الأَرْضِ 6. ورغم أن نفسه نازعته نِزاع الموت مرّاتٍ ومرّات، وقطرات الدمِ النازلةِ على الأرض كانت قمّة آلامِ الفداء، ولكن رغم كلِّ هذا سلّم كل شيءٍ إلى إرادةِ الآب، وَلَكِنْ لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ 7.
مرحلة الألم التي سبقت الصلب والموت لا تقلّ أهمّيةً عن المراحل الأخرى، وقد شرحها لنا معلّمنا بولس الرسول في رسالته إلى العبرانيين، إذ قال : الَّذِي، فِي أَيَّامِ جَسَدِهِ، إِذْ قَدَّمَ بِصُرَاخٍ شَدِيدٍ وَدُمُوعٍ طِلْبَاتٍ وَتَضَرُّعَاتٍ لِلْقَادِرِ أَنْ يُخَلِّصَهُ مِنَ الْمَوْتِ، وَسُمِعَ لَهُ مِنْ أَجْلِ تَقْوَاهُ. مَعَ كَوْنِهِ ابْناً تَعَلَّمَ الطَّاعَةَ مِمَّا تَأَلَّمَ بِهِ. وَإِذْ كُمِّلَ صَارَ لِجَمِيعِ الَّذِينَ يُطِيعُونَهُ سَبَبَ خَلاَصٍ أَبَدِيٍّ 8. هذه الصرخات التي اقترنت بالدموع، والطلبات، والتضرعات، هي في الحقيقة صرخاتنا ودموعنا، وتوسّلاتنا وطلباتنا وتضرّعاتنا، لأن يسوع المسيح عندما تجسّد أراد أن يحمل كل أوجاعنا وآلامنا، وعندما تألّم تألّم من أجلنا.
لقد تكلّلت الآلام بالصلب والإنجيليون الأربعة : متى ومرقس ولوقا ويوحنا يتحدثون عن صلب يسوع المسيح. الأول يقول : وَلَمَّا صَلَبُوهُ اقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ مُقْتَرِعِينَ عَلَيْهَا 9، إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللَّهِ فَانْزِلْ عَنِ الصَّلِيبِ… إِنْ كَانَ هُوَ مَلِكَ إِسْرَائِيلَ فَلْيَنْزِلِ الآنَ عَنِ الصَّلِيبِ فَنُؤْمِنَ بِهِ 10. أمّا الثاني فيكتب : وَلَمَّا صَلَبُوهُ اقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ مُقْتَرِعِينَ عَلَيْهَا مَاذَا يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ. وَكَانَتِ السَّاعَةُ الثَّالِثَةُ فَصَلَبُوهُ… وَصَلَبُوا مَعَهُ لِصَّيْنِ وَاحِداً عَنْ يَمِينِهِ وَآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ 11. أمّا لوقا البشير فيرسم صورة الصلب بريشة رائعة ويقول لنا، بينما كان اليهود يلجّون بأصوات عظيمة طالبين أن يُصلَب، مضوا به إلى الموضع الذي يدعى الجمجمة، صلبوه هناك مع المذنبين واحداً عن يمينهِ والآخر عن يساره 12. وأخيراً يتحدّث يوحنا الرّائي عن الموضع الذي يقال له موضع الجمجمة ويُقال له بالعبرانية الجلجثة : حَيْثُ صَلَبُوهُ وَصَلَبُوا اثْنَيْنِ آخَرَيْنِ مَعَهُ مِنْ هُنَا وَمِنْ هُنَا وَيَسُوعُ فِي الْوَسْطِ. وَكَتَبَ بِيلاَطُسُ عُنْوَاناً وَوَضَعَهُ عَلَى الصَّلِيبِ 13.
إذاً صفحة الآلام تلاها الصلب الذي شهد له الإنجيليون الأربعة، وكتبوا عنه رغم أن بيلاطس بذل قصارى جهده في سبيل إقناع الجمهور بعدم صلبه، ولكن جمهور اليهود منعوا الوالي عن التحلّي بضميره الطاهر والعمل بموجب إنسانيته، وكرّروا صراخهم : اصلبه، اصلبه، دمه علينا وعلى أولادنا. ولا نستغرب أن يكون وقتئذٍ بين من كان يصرخ مع الجمهور : اصلبه اصلبه، كان أيضاً يصرخ مع الجموع يوم الأحد ليسوع مع أطفال أورشليم : أوشعنا لابن داود. والمسيحيون يؤمنون بأن الرب يسوع فعلاً وحقيقةً هو الذي رُفِعَ على الصليب، كما أنه هو هو الذي تحمّل كل الآلام والإهانات من قِبل رؤساءِ الكهنة. وعملية الصلب كانت عادة فينيقية الأصل أدخلها الإسكندر الكبير إلى بلاد اليهود، لكنّهم لم يمارسوها إلاّ نادراً حتى أنّه يُروى أن هيرودس الكبير مع كل إجراءاته الوحشية أبَى استعمالها، أمّا الرومان فعاقبوا بها المحتقرين فقط كالأجانب والعبيد، أمّا نحن في المسيحية فقد تبعنا قسطنطين الكبير الذي ألغى هذا النوع من العقوبات.
وبعد الصلب يأتي الموت، ونحن المسيحيين نردّد في قانون الإيمان النيقاوي : وصار إنساناً، وصُلِبَ عوضاً عنّا في عهد بيلاطس البنطي، تألّم ومات. ويسوع كان يعلم أن كلّ شيء يمكن أن يفكّر به التلاميذ ما عدا أن يموت أمامهم، وهو الذي فتح عيون العميان، وجعل العرج يمشون، والبرص يطهرون، والصم يسمعون، والموتى يقومون، والمساكين يُبَشَّرُونَ 14.
لهذا نرى يسوع المسيح يُعدِّهم لتلك الساعة أي ساعة الموت، فبعد أن اعترف بطرس الرسول بأن يسوع المسيح هو المسيح ابن الله، قال لهم : أنّ ابن الإنسان بعد أن يتألّم يُقتََل. وهذا كان أوّل إنباءٍ بموته، والمرة الثانية كانت بعد التجلّي، عندما صعد بهم إلى جبلٍ عالٍ، وتغيَّرت هيئته قدّامهم وظهر لهم إيليا مع موسى، وكانا يتكلّمان مع يسوع. وفيما هم نازلون من الجبل أوصاهم ألاّ يحدّثوا أحّداً بما أبصروا إلاّ متى قام ابن الإنسان من الأموات، فحفظوا الكلمة لأنفسهم يتساءلون : ما هو القيام من بين الأموات 15، ومرة ثالثة أنبأهم يسوع بموته عندما تشاور رؤساء الكهنة والفريسيون في أمر هذا الإنسان الذي يعمل آيات كثيرة وجاءت الفكرة : أنّه خيرٌ لنا أن يموت إنسانٌ واحدٌ عن الشعب، ولا تهلك الأمة كلها. ولم يقل هذا من نفسه بل إذ كان رئيساً للكهنة في تلك السنة تنبّأ أن يسوع مزمع أن يموت عن الأمة. وفي السياق ذاته أشار يسوع إلى الاثني عشر عندما كان صاعداً إلى أورشليم، بأن كل ما هو مكتوب بالأنبياء عن ابن الإنسان سيتم، لأنه يُسلَّم إلى الأمم، ويُستهزأ به، ويُشتَم، ويُتفل عليه، ويجلدونه، ويقتلونه 16.
لقد تأكد خصومه أن موته كان حقيقة، فقائد المئة لما رأى يسوع وقد أسلم الروح مجّد الله قائلاً : بِالْحَقِيقَةِ كَانَ هَذَا الإِنْسَانُ بَارّاً 17. وجاء دور يوسف الرامي الذي لم يكن موافقاً لرأي اليهود وعملهم، وكان مشيراً ورجلاً صالحاً باراً، فذهب إلى بيلاطس وطلب جسد يسوع لأنه مات، وأنزله ولفّه بكتانٍ نقيٍّ، ووضعه في قبر منحوت جديد كان قد نحته في الصخرة، ثم دحرج حجراً كبيراً على باب القبر ومضى. وقد شهدت نساء كنَّ قد أتين معه من الجليل، ونظرن القبر وكيف وضع الجسد. إن رسل السيد المسيح وجدوا في موته أصعب أمرٍ عليهم، وكانوا يتمنّون أن ينكروا ذلك قائلين : أن سيدهم لم يمت، ثبت موته عندهم لدرجة جعلتهم لا يصدقون قيامته حتى بعد شهادات مكررة لا بل حتى بعدما وقف هو في وسطهم فظنّوه خيالاً، والبرهان الأقوى على موته ودفنه هو أنه في الغد الذي بعد الاستعداد اجتمع رؤساء الكهنة والفريسيون إلى بيلاطس قائلين : يَا سَيِّدُ قَدْ تَذَكَّرْنَا أَنَّ ذَلِكَ الْمُضِلَّ قَالَ وَهُوَ حَيٌّ. إِنِّي بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَقُومُ. فَمُرْ بِضَبْطِ الْقَبْرِ إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ لِئَلا يَأْتِيَ تَلاَمِيذُهُ لَيْلاً وَيَسْرِقُوهُ وَيَقُولُوا لِلشَّعْبِ إِنَّهُ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ فَتَكُونَ الضَّلاَلَةُ الأَخِيرَةُ أَشَرَّ مِنَ الأُولَى. فَقَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ : عِنْدَكُمْ حُرَّاسٌ. اذْهَبُوا وَاضْبُطُوهُ كَمَا تَعْلَمُونَ. فَمَضَوْا وَضَبَطُوا الْقَبْرَ بِالْحُرَّاسِ وَخَتَمُوا الْحَجَرَ 18. فكلّ هذه الأدلة تبيّن بأن المسيح حقاً تألّم ومات ودفن.
ويبقى موضوع القيامة أساس إيماننا، وهو المحور لكل الأحداث الإنجيلية التي نذكرها ونقف عندها. إنّ معلمنا بولس الرسول وقف عند القيامة في رسالته الأولى الموجّهة إلى أهل كورنثوس، عندما تحدّث عن الذين يعتمدون من أجل الأموات، فتساءل : إِنْ كَانَ الأَمْوَاتُ لاَ يَقُومُونَ الْبَتَّةَ فَلِمَاذَا يَعْتَمِدُونَ مِنْ أَجْلِ الأَمْوَاتِ. وَلِمَاذَا نُخَاطِرُ نَحْنُ كُلَّ سَاعَةٍ 19. وأمام هذا التساؤل شرح قيامة الأجساد بعد أن ميّز بين أجسام سماوية وأجسام أرضية، وأن مجد السماويات شيء ومجد الأرضيات آخر. هكذا أيضاً قيامة الأموات يُزرع في فسادٍ ويُقام بعدم فساد. يُزرع في هوانٍ ويُقام في مجدٍ، يُزرع في ضَعفٍ ويُقام في قوة، يزرع جسماً حيوانياً ويُقام جسماً روحانياً، إلى أن يقول : هُوَذَا سِرٌّ أَقُولُهُ لَكُمْ : لاَ نَرْقُدُ كُلُّنَا وَلَكِنَّنَا كُلَّنَا نَتَغَيَّر 20. وقد بلغ بولس الرسول إلى ذروة فكره المتألّق في سرّ القيامة عندما طرح سؤالاً نقلاً عن قومٍ بين أهل كورنثوس مفاده أن ليس قيامة أموات، فكانت عبارته الشهيرة : فَإِنْ لَمْ تَكُنْ قِيَامَةُ أَمْوَاتٍ فَلاَ يَكُونُ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ ! وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ فَبَاطِلَةٌ كِرَازَتُنَا وَبَاطِلٌ أَيْضاً إِيمَانُكُمْ 21. وبعد أن شرح لأهل كورنثوس في أن الذي لا يقول بقيامة المسيح يُعَد بين شهود زور لله. أكّد مرّة أخرى : لأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمَوْتَى لاَ يَقُومُونَ فَلاَ يَكُونُ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ فَبَاطِلٌ إِيمَانُكُمْ 22. وزاد على ذلك إذ قال : أَنْتُمْ بَعْدُ فِي خَطَايَاكُمْ ! 23، إشارةً إلى أن عدم الإيمان بالقيامة، هو إنكارُ للتجسّد الإلهي. إذاً قيامة السيد المسيح هي المحور، لهذا الكنيسة تردد في قانون الإيمان بأنّ المسيح تألّم ومات ودُفِن وقام في اليوم الثالث.
لقد حرص السيد المسيح أن يهيّئ تلاميذه لقيامته من بين الأموات، فعندما كان في نواحي قيصرية فيليبس وسأل تلاميذه ، قائلاً : مَنْ يَقُولُ النَّاسُ إِنِّي أَنَا ابْنُ الإِنْسَانِ 24، وبعد أن ردّد الرسل قول الناس بأن قوماً يقولون بأنّه يوحنا المعمدان، أو إيليا، أو إرميا، أو واحد من الأنبياء، أعلن بطرس أنّه المسيح ابن الله الحيّ. يقول الإنجيليون أنّه من ذلك الوقت ابتدأ يسوع يظهر لتلاميذه أنّه ينبغي أن يذهب لأورشليم وبعد أن يتألّم كثيراً ويُقتل سيقوم في اليوم الثالث 25. وبعد التجلّي وعندما صار صوتٌ من السحابة قائلاً : هذا ابني الحبيب له اسمعوا مرة أخرى، وَفِيمَا هُمْ نَازِلُونَ مِنَ الْجَبَلِ أَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يُحَدِّثُوا أَحَداً بِمَا أَبْصَرُوا إلاَّ مَتَى قَامَ ابْنُ الإِنْسَانِ مِنَ الأَمْوَاتِ 26.
وإذا عدنا إلى الإنجيل المقدّس لوجدنا يسوع المسيح وهو يقرّب إلى أذهان اليهود مفهوم القيامة من خلال شخصيات كتابية وردت في العهد القديم. فعندما سأله قومٌ من الكتبة والفريسيين قائلين : يَا مُعَلِّمُ نُرِيدُ أَنْ نَرَى مِنْكَ آيَةً، بعد أن وبّخهم بقوله : جِيلٌ شِرِّيرٌ وَفَاسِقٌ يَطْلُبُ آيَةً 27. ذكّرهم بيونان النبي الذي كان في بطن الحوت ثلاثة أيامٍ وثلاث ليالٍ، هكذا يكون ابنُ الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيامٍ وثلاث ليالٍ. ومرّّة أخرى عندما كان في أقدس مكان بالنسبة لليهود أي في هيكل سليمان، أيضاً طلب اليهود أن يروا آيةً، قال لهم : ﭐنْقُضُوا هَذَا الْهَيْكَلَ وَفِي ثلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ 28. ربّما للوهلة الأولى لم يفهموا معنى هذا الكلام، أو أرادوا أن يجعلوا أنفسهم في حالةٍِ شكٍّ من أمرِ قيامته، فقال اليهود : فِي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً بُنِيَ هَذَا الْهَيْكَلُ أَفَأَنْتَ فِي ثلاَثَةِ أَيَّامٍ تُقِيمُهُ 29. ولا نسمع جواباً على هذا القول، ولكن يوحنا الإنجيلي يبيّن أمرين : أولاً، أنّه لم يتكلّم عن هيكل سليمان، بل كان يقول عن هيكل جسده. وثانياً، أن تلاميذه تذكّروا هذا القول عندما قام من بين الأموات. ولكن رؤساء الكهنة والفريسيين لم ينسوا كلام يسوع المسيح، وكانوا يهدسون به، ويقفون عنده، ويخافون منه، والدليل على ذلك هو أنّه بعد موته بيومٍ واحدٍ، اجتمعوا إلى بيلاطس وقالوا له: يا سيد تذكرنا أن ذلك المضلّ قال وهو حيًّ إنّي بعد ثلاثة أيام أقوم، فلقد شغل موضوع القيامة بال الكثيرين من اليهود ورؤسائهم وقادتهم الدينيين. وكان يسوع المسيح في بشارته العلنية يؤكّد لهم بأن القيامة حقيقة وواقع، لا بدّ أن تأتي لأنّها محور الحياة، ولا يمكن لهذا الإله الذي يعبدونه ـ إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب ـ أن يكون إله أموات، بل هو إله أحياء. وعندما قال هذا من جهة قيامة الأموات أكّد أن الصدوقيين يضلون بفكرهم بإنكارهم القيامة لأنّهم لا يعرفون الكتب ولا قوة الله، وفي القيامة يكون الجميع كملائكة الله في السماء 30.
ولا ننسى في هذا السياق أستعلان قوة المسيح المحيية والمقيمة من الموت، فالإنجيليون مرقس ولوقا ويوحنا يصفون لنا ثلاث معجزاتٍ خارقات لقانون الطبيعة، فمرقس يتحدّث عن إقامة ابنة يائيروس، وهو واحدً من رؤساء المجمع وقد جاء إلى يسوع عندما كان عند البحر، وخرَّ عند قدميه، طالباً إليه قائلاً : ﭐبْنَتِي الصَّغِيرَةُ عَلَى آخِرِ نَسَمَةٍ. لَيْتَكَ تَأْتِي وَتَضَعُ يَدَكَ عَلَيْهَا لِتُشْفَى فَتَحْيَا 31. وعندما تأخّر في ذهابه إلى بيت يائيروس، جاء مَن يقول أنّ ابنة يائيروس قد ماتت، فلا حاجة أن يُتعب المعلم، ولكن يسوع أخذ معه تلاميذه بطرس ويوحنا ويعقوب. وذهب إلى بيت رئيس المجمع، ورأى ضجيجاً، الحاضرون يبكون ويولولون كثيراً، فدخل وقال لهم : لِمَاذَا تَضِجُّونَ وَتَبْكُونَ؟ لَمْ تَمُتِ الصَّبِيَّةُ لَكِنَّهَا نَائِمَةٌ 32، ولكنهم لم يفهموا كلامه، بل ضحكوا عليه، أمّا هو فأخذ أباها وأمّها ودخل حيث كانت الصبية مضطجعةً، وأمسك بيد الصبية وقال لها : طَلِيثَا قُومِي ! (ﭐلَّذِي تَفْسِيرُهُ : يَا صَبِيَّةُ لَكِ أَقُولُ قُومِي). وَلِلْوَقْتِ قَامَتِ الصَّبِيَّةُ وَمَشَتْ لأَنَّهَا كَانَتِ ابْنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً. فَبُهِتُوا بَهَتاً عَظِيماً 33.
وصف لنا الإنجيلي لوقا إقامة ابن أرملة نائين، كان المشهد حزيناً جداً عندما اقترب يسوع إلى باب مدينةِ نايين، وكان معه الكثير من تلاميذه وجمعٌ كبيرٌ، فإذَا مَيْتٌ مَحْمُولٌ ابْنٌ وَحِيدٌ لأُمِّهِ، وَهِيَ أَرْمَلَةٌ وَمَعَهَا جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الْمَدِينَةِ. فَلَمَّا رَآهَا الرَّبُّ تَحَنَّنَ عَلَيْهَا وَقَالَ لَهَا : لاَ تَبْكِي. فعندئذٍ لَمَسَ النَّعْشَ وتَوَقَّفَ الْحَامِلُونَ. وَقَالَ : أَيُّهَا الشَّابُّ لَكَ أَقُولُ قُمْ. فَجَلَسَ الشاب وَابْتَدَأَ يَتَكَلَّمُ فَدَفَعَهُ إِلَى أُمِّهِ 34.
أما الحدث الاعجازي الثالث فهو إقامة لعازر من الموت، وكان له أربعة أيامٍ في القبر، فعندما جاء إلى بيت عنيا، جاءت مرتا التي كانت معروفة بأنّها مهتمة ومضطربة بأمورٍ كثيرة إلى يسوع، وقالت له : يَا سَيِّدُ لَوْ كُنْتَ هَهُنَا لَمْ يَمُتْ أَخِي. لَكِنِّي الآنَ أَيْضاً أَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا تَطْلُبُ مِنَ اللَّهِ يُعْطِيكَ اللَّهُ إِيَّاهُ. وعندما قَالَ لَهَا يَسُوعُ : سَيَقُومُ أَخُوكِ. قَالَتْ لَهُ : أَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَقُومُ فِي الْقِيَامَةِ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ. ولكن يسوع كان واضحاً وصريحاً عندما أشار إلى نفسه بقوله : أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا إلى الأبد. وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيّاً وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى الأَبَدِ 35. وحقيقةً أقام يسوع المسيح لعازر عندما ناداه بصوتٍ عظيم : لِعَازَرُ هَلُمَّ خَارِجاًّ !
إن هذه المعجزات الكبيرة كانت باباً آخر لتوضيح مفهوم القيامة لتلاميذه وللمسيحيين من بعدهم. فعلى هذا الأساس تحيا الكنيسة وتعيّد قيامة ربّنا يسوع المسيح، ولهذا نحن نردّد في تعاليمنا بأن المسيح حقيقةً صُلِب… ومات… ودُفِن… وفي اليوم الثالث قام من بين الأموات. وتفرح الكنيسة عندما تعيّد قيامة الرب يسوع المسيح لأنّها تعتبر القيامة أساساً لإيمانها وكرازتها.
ما أجمل أن نختم عظتنا اليوم في حقيقة آلام، وموت، ودفن، وقيامة ربنا يسوع المسيح، بكلمات معبّرة جداً عن هذا السر العظيم، قالها القديس يوحنا الذهبي الفم، في عظة له عن قيامة المخلص : اليوم قام المسيح من بين الأموات لابساً الظفر، اليوم أشرقت للعالم مصابيح الخلود، اليوم أشعة الصليب أنارت الخليقة المظلمة، اليوم تمزّقت شبكة الموت التي نسجتها خطيئة آدم، اليوم توقّف سير الخطيئة وجفّت دموع حواء بواسطة مريم، وانقلب حزن الخليقة فرحاً، اليوم تحطمت القباب العاليات بقوة الصليب، سقط سلطان الثلاّب وتعرى من ملكه عدو البشر، والمسيح من بعد الصليب وهو يملك في السماء خلص الهالكين وحررهم بتدبيره وأعادهم إلى حالة البر الأولى.
نهنئكم أيها الأحبة، ونهنئ جميع السامعين، ونسأل الله أن يحفظكم ويحفظ وطننا العزيز رئيساً، وحكومةً، وجيشاً، وشعباً بالبركة والنعمة، ويجعل أمنه وسلامه دائماً بيننا.
المسيح قام… حقاً قام
المصادر :
1– مرقس 8 : 31 ـ 32 2- متى 16 : 21 3- متى 17 : 10 ـ 12
4- لوقا 24 : 13 ـ 26 5- لوقا 22 : 42 6- لوقا 22 : 44
7- لوقا 22 : 42 8- العبرانيين 5 : 7 ـ 9 9- متى 27: 35
10- متى 27: 40 و 42 11- مرقس 15 : 24 ـ 27
12- لوقا 23 : 23 و 33 13- يوحنا 19: 17 ـ 19 14- متى 11 : 5
15- مرقس 9 : 9 و 10 16- لوقا 17 : 31 و 32
17- لوقا 23: 47 17- متى 27: 62 ـ 66
18- متى 27 ¨62 ـ 66 19- 1 كورنثوس 15 : 29 ـ 30
20- 1 كورنثوس 15 : 15 21- 1 كورنثوس 15 : 13
22- 1 كورنثوس 15 : 16 و 17 23- 1 كورنثوس 15 : 17
24- متى 16 : 13 25- متى 16 : 13 ـ 21 26- مرقس 9 : 8 و 9
27- متى 12 : 38 و 39 28- يوحنا 2 : 18 29- يوحنا 2 : 20
30- متى 22 : 29 ـ 33 31- مرقس 5 : 21 ـ 24 32- مرقس 5 : 39
33- مرقس 5 : 35 ـ 42 34- لوقا 7 : 11 ـ 17 35- يوحنا 11 : 21 ـ 26
عيد القيامة
2009
2010
المسيح قام … حقاً قام…
ܒܫܡ ܐܒܐ ܘܒܪܐ ܘܪܘܚܐ ܚܝܐ ܩܕܝܫܐ ܚܕ ܐܠܗܐ ܫܪܝܪܐ .. ܐܡܝܢ
أيها الأحبة… أيها السامعون الكرام…
يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ
لا نجد وصفاً دقيقاً لحدث قيامة ربنا يسوع المسيح من بين الأموات وأبعادها الروحية، كما نقرأ ذلك في رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس. ففي الإصحاح الخامس عشر من هذه الرسالة يُعلن رسول الأمم أنه سلّمهم في الأول ما قبله هو، أي أَنَّ الْمَسِيحَ مَاتَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا حَسَبَ الْكُتُبِ، وَأَنَّهُ دُفِنَ، وَأَنَّهُ قَامَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ حَسَبَ الْكُتُبِ (1 كو 15 : 2).
ونحن نعلم أن بولس، الرسول الثالث عشر، لم يعرف السيد المسيح ولم يمشِ، أو يأكل معه، أو يسمعه كما كانت الحالة مع بقية الرسل. وتمت المعرفة فقط عندما حمل رسائل من رئيس الكهنة، إلى دمشق ليسوق المسيحيين الأوائل موثقين إلى أورشليم، إذ حدث أنه اقترب إلى دمشق، فبغتة أبرق حوله نور من السماء (أعمال 9 : 1 – 3)، إذاً بولس الرسول هو الآن وجهاً لوجه مع الناهض من بين الأموات، في الوقت الذي يضطهد تلاميذه، ويعذبهم بشتى الأنواع، ها هو يسمع صوته قائلاً له : شاول شاول لماذا تضطهدني ؟ وعندما تجرأ شاول وسأل، من أنت يا سيد ؟ قال صاحب الصوت : أنا يسوع المسيح الذي أنت تضطهده، لهذا نراه فخوراً جداً بهذه الرؤية. وعندما عدّد ظهورات السيد المسيح بعد القيامة المظفرة ذكر ظهوره لصفا أي بطرس، ثم للأثني عشر، وبعد ذلك ظهر دفعة واحدة لأكثر من خمسمائة أخ أكثرهم كان باقياً إلى أيامه، ولكن بعضهم قد رقدوا، ثم ليعقوب، ثم للرسل أجمعين، وآخر الكل كأنه للسِقطِ ظهر لي أنا، يقول بولس رسول الأمم، ويعلل ذلك بقوله : لأني أصغر الكل أنا الذي لست أهلاً لأن أدعى رسولاً، لأني اضطهدت كنيسة الله. هذا اعتراف صارخ من رسول فاق جميع الرسل بالتعب والخدمة، بعد أن آمن بالناهض من بين الأموات حتى أنه يقول : أَنَا تَعِبْتُ أَكْثَرَ مِنْهُمْ جَمِيعِهِمْ (1 كو 15 : 8 – 10).
ولهذا فالرسول بولس يشدد في رسالته، ويؤكد على حدث القيامة، وأنه واحد من الشهود الكبار لقيامة الرب يسوع المسيح، وكان من دواعي سروره أن يحاجج أهل كورنثوس، خاصةً من كان منهم يقول ليس قيامة أموات. ولا نجد رسولاً آخر يقاوم بقوة ناكري قيامة الأموات مثل بولس المعلم، فهو يبني فكره في موضوع القيامة على أن المسيح يُكرز به، أنه قام من بين الأموات، وبموضوعية يحاجج الرسول بولس ناكري القيامة، بقوله : إن لم تكن قيامة أموات فلا يكون المسيح قد قام. هذا افتراض ولكنه مرفوض، لأن الافتراض الآخر الذي يُعلن عنه بولس الرسول هو إن لم يكن المسيح قد قام، أي لو لم يكن حدث القيامة حقيقياً، فكل الأحداث التي تأتي بعد حدث القيامة إما أن تكون درباً من دروب الخيال، أو من الأحداث المزيفة، لا بل بحسب مفهوم بولس الرسول تكون الكرازة كلُّها باطلة، ويكون الإيمان كلُّه باطلاً، فعلامَ نبني شهادة الشهود، إنهم إذاً شهود زور لله، لأنهم يقولون ما لا يفعلون.
إذاً نحن في هذا اليوم الذي فيه نعيد قيامة ربنا يسوع المسيح من بين الأموات، نعتبر أنفسنا شهود حق، أولاً : لأننا لا ننكر قيامة الأموات، ففي كل حياتنا نرجو قيامة الموتى، وهكذا نُعلن ونردد كل يوم في قانون الإيمان، وثانياً : نحن نؤمن بقيامة الرب من بين الأموات. وهنا لا بد من الإشارة بأننا نَعلَم ونعلِّم أن إله ابراهيم، وإله اسحق، وإله يعقوب ليس إله أموات، بل هو إله أحياء (متى 22 : 32)، ونؤمن أيضاً بأن علينا أن نسهر لأننا لا نعلم في أية ساعة يأتي ربنا. ويوم يأتي ابن الإنسان يَكُونُ اثْنَانِ فِي الْحَقْلِ يُؤْخَذُ الْوَاحِدُ وَيُتْرَكُ الآخَرُ. وﭐِثْنَتَانِ تَطْحَنَانِ عَلَى الرَّحَى، تُؤْخَذُ الْوَاحِدَةُ وَتُتْرَكُ الأُخْرَى (متى 24 : 39 -41).
لقد أعلن يسوع المسيح في أكثر من مناسبة بأن تلك الساعة لا يعرفها أحد، وعندما نتأمل مثل الحكيمات الخمس نُدرك أن المصابيح تؤخذ مع الزيت كنايةً عن اليقظة والاستعداد، وأنه متى جاء ابن الإنسان في مجده مع جميع الملائكة القديسين معه فحينئذ يجلس على كرسي مجده ويقول للذين عن يمينه : تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ (متى 25 : 34)، أما الذين عن اليسار فسيقول لهم : اذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلاَعِينُ إِلَى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ، ولا نستطيع في الوقت ذاته أن ننسى مجيء السيد المسيح إلى قبر لعازر حيث قالت له أخت لعازر مريم بعتاب، بعد أن خرّت أمام قدميه : يا سيد لو كنت ها هنا لم يمت أخي، ولكن يسوع المسيح الذي قال: أنا هو الطريق والحق والحياة أمر بأن يرفعوا الحجر. وعندما قالت مرتا أخت مريم له، يا سيد قد أنتن لأن له أربعة أيام، قال يسوع المسيح لها : إن آمنت ترين مجد الله، فآمنت هي والذين معها، لهذا عندما صرخ يسوع المسيح بصوت عظيم : لِعَازَرُ هَلُمَّ خَارِجاً. فَخَرَجَ الْمَيْتُ وَيَدَاهُ وَرِجْلاَهُ مَرْبُوطَاتٌ بِأَقْمِطَةٍ وَوَجْهُهُ مَلْفُوفٌ بِمِنْدِيلٍ (يوحنا 11 : 43).
لا شك أن موت لعازر وإحياءه كان غريباً جداً في عيون الرسل والتلاميذ أولاً، ثم لكل مَن كان شاهداً على هذا الحدث غير العادي لا بل الخطير، حتى أن يوحنا الرسول يقول : فَعَلِمَ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الْيَهُودِ أَنَّهُ هُنَاكَ فَجَاءُوا لَيْسَ لأَجْلِ يَسُوعَ فَقَطْ، بَلْ لِيَنْظُرُوا أَيْضاً لِعَازَرَ الَّذِي أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ (يوحنا 12 : 9). ويهمنا دائماً أن نرى ما هو رد فعل رؤساء الكهنة وقادة الشعب من فريسيين، وكتبة، وناموسيين وغيرهم، فيوحنا الرسول يصف شعورهم بقوله : فَتَشَاوَرَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ لِيَقْتُلُوا لِعَازَرَ أَيْضاً (يوحنا 12 : 10). تُرى ما هو سبب حالة النقمة التي جاشت في صدور رؤساء الكهنة، فهم قبلاً عقدوا مجمعاً وتساءلوا فيه : مَاذَا نَصْنَعُ ؟ فَإِنَّ هَذَا الإِنْسَانَ يَعْمَلُ آيَاتٍ كَثِيرَةً. إِنْ تَرَكْنَاهُ هَكَذَا يُؤْمِنُ الْجَمِيعُ بِهِ فَيَأْتِي الرُّومَانِيُّونَ وَيَأْخُذُونَ مَوْضِعَنَا وَأُمَّتَنَا (يوحنا 11 : 47). وفي هذا المجمع قال قيافا رئيس الكهنة في تلك السنة : أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَ شَيْئاً، ثم قدّم لهم اقتراحاً مهماً، وهو : خَيْرٌ لَنَا أَنْ يَمُوتَ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ عَنِ الشَّعْبِ وَلاَ تَهْلِكَ الأُمَّةُ كُلُّهَا. فَمِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ تَشَاوَرُوا لِيَقْتُلُوهُ (يوحنا 11 : 49 ـ 53). فالذين جاءوا ليس لأجل يسوع فقط، بل لينظروا أيضاً لعازرٍ الذي أقامه من بين الأموات، كانوا سبباً ليَتَشَاوَرَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ لِيَقْتُلُوا لِعَازَرَ أَيْضاً (يوحنا 12 : 10).
إذاً نحن أمام عالمين، عالم يسوع المسيح إذ بعد ملء الزمان جاء بالجسد ليخلص الإنسان من أعدائه الألدّاء الثلاث : الموت، والخطيئة، والشيطان، جاء لينادي بملكوت الله على الأرض، انطلق في رسالته بعد أن صام أربعين نهاراً وأربعين ليلةً، وعندما جرّبه إبليس قائلاً له : إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللَّهِ فَقُلْ أَنْ تَصِيرَ هَذِهِ الْحِجَارَةُ خُبْزاً. فَأَجَابَ: مَكْتُوبٌ لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللَّهِ. ومرة ثانية قال لإبليس : لاَ تُجَرِّبِ الرَّبَّ إِلَهَكَ. ومرة ثالثة قال له : ﭐذْهَبْ يَا شَيْطَانُ ! لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ لِلرَّبِّ إِلَهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ (متى 4 : 1 – 10). فلو سمع اليهود هذا الحوار الذي دار بين السيد المسيح وإبليس، لعرفوا رب المجد، وأدركوا كنه رسالته، ولما فكروا بأن يوجهوا أية إساءة إليه، فعالم السيد المسيح كان عالم المساكين بالروح، والودعاء، والجياع والعطاش إلى البر، والرحماء، وأنقياء القلب، وصانعي السلام والمطرودين من أجل البر (متى 5 : 3 ـ 10)، عالم المحبة الحقيقية البعيدة عن الانتقام، والحقد، والضغينة، والكراهية، فهو الذي قال لتلاميذه ولنا : هَذِهِ هِيَ وَصِيَّتِي أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ. لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ (يوحنا 15 : 12 و 13) لا بل أعطانا مفهوماً جديداً في محبة أعدائنا، ومباركة لاعنينا، والإحسان إلى مبغضينا، والصلاة لأجل الذين يسيئون إلينا، ويطردوننا، فإذا فعلنا ذلك نكون أبناء أبينا الذي في السموات (متى 5 : 1 – 10 و 43 ـ 45).
مَن من الذين سبقوه في العهد القديم أشاروا إلى عدالة السماء على الأرض، العدالة التي لا تميز بين واحد وآخر مهما كانت الفوارق بينهما، لأن الله يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ (متى 5 : 45).
مَن من الذين سبقوه أوصى بأن نكون كاملين كما أن أبانا الذي في السموات هو كامل، والكمال لا يأتي إلا عندما تُبطل الحواجز بين الإنسان وأخيه الإنسان، مهما علت وارتفعت، هذا هو عالم السيد المسيح.
أما عالم قادة اليهود فلقد بيّنه يسوع في مناسبات كثيرة خاصة عندما أطلق الويل على اليهود وقادتهم، وقد وصفهم وصفاً دقيقاً إذ قال لهم : عَلَى كُرْسِيِّ مُوسَى جَلَسَ الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ. فَكُلُّ مَا قَالُوا لَكُمْ أَنْ تَحْفَظُوهُ فَاحْفَظُوهُ وَافْعَلُوهُ وَلَكِنْ حَسَبَ أَعْمَالِهِمْ لاَ تَعْمَلُوا لأَنَّهُمْ يَقُولُونَ وَلاَ يَفْعَلُونَ. فَإِنَّهُمْ يَحْزِمُونَ أَحْمَالاً ثَقِيلَةً عَسِرَةَ الْحَمْلِ وَيَضَعُونَهَا عَلَى أَكْتَافِ النَّاسِ وَهُمْ لاَ يُرِيدُونَ أَنْ يُحَرِّكُوهَا بِإِصْبِعِهِمْ. وَكُلَّ أَعْمَالِهِمْ يَعْمَلُونَهَا لِكَيْ تَنْظُرَهُمُ النَّاسُ فَيُعَرِّضُونَ عَصَائِبَهُمْ وَيُعَظِّمُونَ أَهْدَابَ ثِيَابِهِمْ. وَيُحِبُّونَ الْمُتَّكَأَ الأَوَّلَ فِي الْوَلاَئِمِ وَالْمَجَالِسَ الأُولَى فِي الْمَجَامِعِ. وَﭐلتَّحِيَّاتِ فِي الأَسْوَاقِ وَأَنْ يَدْعُوَهُمُ النَّاسُ: سَيِّدِي سَيِّدِي ! (متى 23 : 2 – 7).
وقد استخدم يسوع عبارات حادة جداً مع قادة اليهود، مرةً أطلق عليهم صفة العميان والجهّال، ومرة أخرى سماهم المرائيين، وبيَّن لهم بأنهم أبناء قتلة الأنبياء (لوقا 11 : 45)، ولكن عبارة أَيُّهَا الْحَيَّاتُ أَوْلاَدَ الأَفَاعِي كَيْفَ تَهْرُبُونَ مِنْ دَيْنُونَةِ جَهَنَّمَ (متى 23 : 33)، كانت الأقسى، كل هذا لأنهم حوّلوا هيكل الرب إلى مغارة لصوص.
في هذا اليوم ونحن نحتفل بعيد قيامة سيدنا يسوع المسيح من بين الأموات يهمنا أن نعرف ما وقع من أحداث قبل موت السيد المسيح على الصليب، وتحديداً عندما جاءوا باثنين آخرَين مذنبيَن ليُقتلا معه، يقول لوقا البشير : وَلَمَّا مَضَوْا بِهِ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُدْعَى جُمْجُمَةَ صَلَبُوهُ هُنَاكَ مَعَ الْمُذْنِبَيْنِ وَاحِداً عَنْ يَمِينِهِ وَالآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ (لوقا 23 : 32 ـ 33).
لقد شاهدنا هذا المنظر البارحة في طقس جمعة الصلبوت، يسوع كان مصلوباً على خشبة العار، كل ألحاننا والكلمات التي رددناها كانت تعبّر عن الحزن العميق الذي أصاب أمنا مريم العذراء والرسل والتلاميذ، وأيضاً من نال الشفاء من رب المجد، عندما كان ينتقل من مدينة إلى مدينة، ومن قرية إلى أخرى ومن الجبل إلى السهل فالبحر هذا المنظر الذي وصفه لنا لوقا في إنجيله الطاهر بقوله : وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ (لوقا 22 : 37). نقلاً عن السيد المسيح الذي أعلن : أنه ينبغي أن يتم فيَّ أيضاً هذا المكتوب ولم يفهمه وقتئذٍ الرسل، ولكنه عندما عُلِّق على الصليب مع لصين تذكّروا قوله، ولكن هذا المنظر الكئيب المليء بالحزن لم يغير في مبادئ السيد المسيح التي من أجلها جاء بالجسد، لهذا نراه يقول : يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ.
قبل أن نرى أبعاد هذا القول، نذهب إلى روايتين في الإنجيل عن اللصين. الأولى بحسب مرقس الإنجيلي الذي بيَّن بأن اللصين اللذين صُلبا مع يسوع كانا يعيرانه. أما في رواية لوقا البشير فنقرأ أن أحد اللصين المُعلَّقين كان يجدف عليه قائلاً : إِنْ كُنْتَ أَنْتَ مَلِكَ \لْيَهُودِ فَخَلِّصْ نَفْسَكَ (لوقا 23 : 37)، وهذا يعني أن هذا المذنب قد انحاز إلى معيري السيد المسيح وانضم إلى كل الذين يسخرون ويستهزئون به قائلين : خَلَّصَ آخَرِينَ فَلْيُخَلِّصْ نَفْسَهُ إِنْ كَانَ هُوَ الْمَسِيحَ مُخْتَارَ اللهِ (لوقا 23 : 35)، أما اللص الآخر بحسب رواية لوقا فانتهر صديقه المذنب قائلاً أَوَلاَ أنت تخاف الله، إذ أنت تحت الحكم بعينه، أما نحن فبعدل لأننا ننال استحقاق ما فعلنا، أما هذا فلم يفعل شيئاً ليس في محله. ما هذا التحول الغريب من هذا اللص المذنب المعتدي على الكثيرين وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، أنه اعتراف صارخ بإيمان صادق بيسوع المسيح المخلص والفادي، خاصة عندما استعمل عبارة أخرى أصبحت من المقولات الشهيرة في الكنيسة، بل هي الأنشودة المفضلة اليوم في طقس يوم جمعة الآلام، فعندما نقف أمام الصليب نردد بالسريانية:
ܣܳܓ̣ܕܺܝܢܰܢ ܠܰܨܠܺܝܒܳܐ ܕܒܶܗ ܗܽܘܐ ܦܽܘܪܩܳܢܳܐ ܠܢܰܦ̈ܫܳܬ̣ܰܢ
ܥܰܡ ܟܰܝܳܣܳܐ ܐܳܡܪܺܝܢܰܢ ܡܫܺܝܚܳܐ ܐܶܬܕܟ̣ܪܰܝܢ ܡܳܐ ܕܐܳܬ̣ܶܐ ܐܰܢ̱ܬ
أي : لنسجدنَّ للصليب الذي أصبح سبب خلاص لأنفسنا، ومع اللص نقول أيها المسيح اذكرنا متى جئت.
هذه هي مفاعيل القيامة شريحةٌ، تؤمن بالمسيح يسوع ورسالته الخلاصية، وأخرى ترفض بل تنكر ولا تريد أن تعيش نِعَم الخلاص، وهذا ما حصل في حياة الكنيسة منذ تأسيسها وحتى اليوم، وكان رد فعل السيد المسيح أمام توبة اللص الغفران الكامل والإنعام التام بقبوله في الفردوس، فقول السيد المسيح له : ﭐلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ (لوقا 23 : 43)، هو الغاية المرجوة من رسالة الخلاص، فقبل وقتٍ قصير من هذا المشهد، وعندما كان اليهود يتفننون في توجيه الاتهام إلى السيد المسيح، وتعذيبه بشتى أنواع العذابات والإهانات، أظهر يسوع المسيح المُعلَّق على الصليب هدف رسالة الخلاص، وجَّه نظره إلى الآب السماوي وبكل رفق وحنان ومحبة صادقة قال : يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ. لقد غفر أولاً لصالبيه، ثم منح الغفران للص اليمين، هذه هي رسالة الكنيسة لأبنائها بعيد قيامة ربنا من بين الأموات.
أن تعليم الكنيسة في موضوع الغفران والمسامحة مبني على موقف السيد المسيح من صالبيه، وقبل ذلك نقرأ في العهد الجديد أهمية الغفران بالنسبة لرسالة الخلاص، حتى أنّ زكريا الكاهن عندما تنبأ عن رسالة ابنه يوحنا المعمدان، ربط معرفة الخلاص بمغفرة الخطايا (لوقا 1 : 77)، والسيد المسيح علّمنا في الصلاة الربية أن نقول : أغفر لنا خطايانا، كما نحن نغفر لمن أخطأ وأساء إلينا (متى 6 : 12)، وفي تعليمه الذي سلّمه إلينا كان يجعل من غفران الخطايا درباً من دروب الولوج إلى الملكوت، فمع تعليمه بأن نكون رحماء كما أنّ أبانا أيضاً رحيم، علّمنا أنه عندما نغفر يُغفر لنا، لأن الذي يُغفر له قليل يحب قليلاً.
ومعالجة الأمراض بكل أنواعها عند السيد المسيح كانت تبدأ بغفران الخطايا، فمع التي دهنت قدمي يسوع بالطيب قال لها : مغفورةٌ لكِ خطاياكِ، وهكذا فعل مع المفلوج قبل أن يقول له : قُمِ احْمِلْ فِرَاشَكَ وَاذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ… فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ إِيمَانَهُمْ وهم يحملون اِلْمَفْلُوجَ قال له : ثِقْ يَا بُنَيَّ. مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ (متى 9 : 2 و 6)، فتعليم السيد المسيح عن الغفران نقلته الكنيسة إلى أبنائها، وجعلت منه سراً مقدساً وهو سر الاعتراف والتوبة، فعندما نقول : تاب الله على الإنسان، نقصد بأن الله عاد على الإنسان بالمغفرة. وكما نقول بالسريانية ةيبوةا Tyobuthoـ أي التوبة تعني العودة إلى الوضع السابق، لأنه في التوبة ينسحق القلب، ويندم على الخطايا السالفة، فعندما يبدأ الإنسان بنقد ذاته، ويعرف كم أن الخطيئة قد أثّرت على ما في داخله، ويقرر إصلاح ذاته، عندئذٍ يكون قد تاب، مثلاً رَبطُ السيد المسيح القربان أمام المذبح بالمصالحة له أهمية كبيرة في مسيرة الخلاص. يقول متى الرسول على لسان السيد المسيح : فَإِنْ قَدَّمْتَ قُرْبَانَكَ إِلَى الْمَذْبَحِ وَهُنَاكَ تَذَكَّرْتَ أَنَّ لأَخِيكَ شَيْئاً عَلَيْكَ. فَاتْرُكْ هُنَاكَ قُرْبَانَكَ قُدَّامَ الْمَذْبَحِ، وَاذْهَبْ أَوَّلاً اصْطَلِحْ مَعَ أَخِيكَ وَحِينَئِذٍ تَعَالَ وَقَدِّمْ قُرْبَانَكَ (متى 5 : 23 و 24). قمة المحبة، تظهر هنا على هيئة مصالحة قلبية، لأنك عندما تكون أمام المذبح، وتتذكر إساءتك لأخيك الإنسان تدرك أنك أخطأت في حق المحبة، فأنت لا تستطيع أن تُحِبُّ الرَّبَّ إِلَهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ… وأن تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ (متى 22 : 37 و 39) وأنت في حالة خصام مع أخيك.
بهذا نرى أن موضوع التوبة والغفران قد دخل في مسيرة الكنيسة من خلال تعليمها أولاً، ثم من الأسرار التي تتفاعل في حياة الإنسان. ويختلف مفهوم الاعتراف والتوبة والغفران كثيراً بين ما كان يجري في العهد القديم وما أصبح في العهد الجديد، فطقس المغفرة للخاطئ في العهد القديم كان مبنياً على ذبيحة تقدم أمام خيمة الاشتراع قدام خيمة الرب، وكان الدم هو الرمز إلى الغفران الذي يناله الإنسان، أما السيد المسيح فقد قدّم دمه فداء عنّا على خشبة الصليب، وقطرات دمه طهّرت قلوبنا وضمائرنا. وكل حركة في حياتنا من أعمالنا الميتة تُظهر أنَّ حامل خطايانا الذي ارتفع على خشبة الصليب، وأحصي مع الأثمة، وقدّم ذاته ذبيحةً حيةً دائمةً من أجلنا، لم ينتقم من صالبيه، ولم يحقد عليهم، ولا أراد أن يسيء إليهم، بل توجه برسالة الغفران إلى الآب السماوي وقال : يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ. كان يريد أن يعلّمنا معنى الغفران الحقيقي، وهذه هي قمة التعاليم المسيحية بعد القيامة المظفرة.
نحن في كنيسة أنطاكية السريانية، وفي أول يومٍ من أيام الصوم الكبير المقدس نفتتح صيامنا بطقس المسامحة، ونصلي قائلين : اجعل يا رب قلوبنا مخادع الأمن، ونوايانا موانئ السلام، وابذر في نفوسنا محبةً صادقةً لكَ ولبعضنا بعضاً، ووطد فينا مودةً، واتحاداً، وألفة، وتقوى، لنعطي السلام بعضنا لبعض بسلام، ونقتبله بصفاء. والذي يحتفل بهذا الطقس يسجد ثلاث مرات أمام المؤمنين ويردد : سامحوني لأجل المسيح، وهذا يعني أن الغفران والمسامحة واجب على الكبير والصغير. هذا هو تعليم الكنيسة منذ البدء، أي أن يقف الخاطئ أمام الله بخشوع وورع وفي حضور الكاهن يعترف بخطاياه. والاعتراف بالخطيئة يعني أن يسامح كل الذين أساءوا إليه، ويغفر لهم لكي ينال الغفران من الله، ويقول يوحنا الرسول : إِنِ اعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ. إِنْ قُلْنَا إِنَّنَا لَمْ نُخْطِئْ نَجْعَلْهُ كَاذِباً، وَكَلِمَتُهُ لَيْسَتْ فِينَا (1 يوحنا 1 : 9 – 10).
إن أنظارنا تتجه اليوم إلى الجلجلة، حيث صُلب ومات المسيح من أجلنا، إلى ذلك القبر المنحوت حيث لم يكن أحدٌ قد وضع قطُّ، فانزله فيه يوسف المُشير والرجل الصالح والبار بعد أن لفّه بكتان، وإلى ذات القبر حيث ذهبن حاملات الحنوط ومعهنّ أناس فوجدن الحجر مدحرجاً عن القبر، فدخلن ولم يجدن جسد الرب يسوع، وفيما هنّ محتارات وخائفات، قال رجلان وقفا بهنَّ بلباس أبيض لِمَاذَا تَطْلُبْنَ الْحَيَّ بَيْنَ الأَمْوَاتِ. لَيْسَ هُوَ هَهُنَا لَكِنَّهُ قَامَ (لوقا 24 : 5).
إلى الناهض من بين الأموات نتوجه في هذه الليلة ليبارك جمعنا، ويهنئ كل المحتفلين بعيده، ويبارك وطننا العزيز، ورئيس بلادنا سيادة الدكتور بشار الأسد، وجميع العاملين معه من المسؤولين في سبيل خدمة الإنسان، ويُعيد كل هذه الأعياد التي احتفلنا بها وأمثالها عليكم وعلى كل أخوتنا المواطنين في سورية الغالية وكل عيد وأنتم بخير.
عيد القيامة
2010
2011
المسيح قام … حقاً قام…
ܒܫܡ ܐܒܐ ܘܒܪܐ ܘܪܘܚܐ ܚܝܐ ܩܕܝܫܐ ܐܡܝܢ
أيها الأحبة… أيها السامعون الكرام…
وَأَمَّا أَنَّ الْمَوْتَى يَقُومُونَ فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ مُوسَى أَيْضاً فِي أَمْرِ الْعُلَّيْقَةِ كَمَا يَقُولُ : اَلرَّبُّ إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلَهُ إِسْحَاقَ وَإِلَهُ يَعْقُوبَ. وَلَيْسَ هُوَ إِلَهَ أَمْوَاتٍ بَلْ إِلَهُ أَحْيَاءٍ لأَنَّ الْجَمِيعَ عِنْدَهُ أَحْيَاءٌ (لوقا 20 : 37 ـ 38).
هذه العبارة التي وردت على لسان السيد المسيح، وجاءت كنتيجة لإعلان عقيدة القيامة التي أفصح عنها رب المجد في حياته العملية. وقوله على أن الرب إله ابراهيم، وإله اسحق، وإله يعقوب، هو ليس إله أموات بل إله أحياء، جاء كرد قوي على الصدّوقيين الذين كانوا يقاومون أمر القيامة، أي لا يؤمنون أن بعد الموت توجد حياة، وكأنهم يرددون مع اشعيا النبي : هُوَذَا بَهْجَةٌ وَفَرَحٌ، ذَبْحُ بَقَرٍ، وَنَحْرُ غَنَمٍ، أَكْلُ لَحْمٍ وَشُرْبُ خَمْرٍ، لِنَأْكُلْ وَنَشْرَبْ لأَنَّنَا غَداً نَمُوتُ (اشعيا 22 : 13). وربما كان الكثيرون من اليهود يمشون في ركاب الصدّوقيين، يقولون بالقيامة، ولكنهم لا يؤمنون بها، لأن أعمالهم كانت تدل على عدم قناعتهم بقيامة الأجساد. وفي ثنايا العهد الجديد، نقرأ ما يؤكد هذا الكلام، فهذا الناموسي مثلاً عندما جاء إلى يسوع ليجربه، وسأله يَا مُعَلِّمُ مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ، كان يعلم حقيقة أمر القيامة، ولكنه يتجاهل الدرب المؤدي إلى الفوز بالقيامة، وجواب السيد المسيح لسؤال الناموسي المجرّب، كان واضحاً جداً، أنت تريد أن ترث الحياة الأبدية، إذاً أعمل بما تأمر به الوصايا، وخاصة أن تُحِبَّ الرَّبَّ إِلَهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ وَقَرِيبَكَ مِثْلَ نَفْسِكَ (لوقا 10 : 25 ـ 37). لكن الناموسي جاء ليجرِّب ولا ليتعلّم، فدفع السؤال بالسؤال، وهو يريد أن يبرر نفسه، فقال : لكن من هو قريبي ؟ فضرب له السيد المسيح مثل السامري الصالح، ثم سأله، فأي هؤلاء الثلاثة ترى صار قريباً للذي وقع بين اللصوص ؟
فقال الناموسي المجرّب : الذي صنع معه الرحمة !
وهذا مثل من الأمثال الكثيرة التي شدد فيها يسوع المسيح بأن القيامة حقيقة وواقع، ولا تحتاج إلى برهان.
ونذكِّر بالمناسبة زيارته المفاجئة لبيت عنيا قبل آلامه، حيث أن لعازر شقيق مريم ومرتا كان مريضاً، وهَذَا الْمَرَضُ لَيْسَ لِلْمَوْتِ بَلْ لأَجْلِ مَجْدِ اللَّهِ، لِيَتَمَجَّدَ ابْنُ اللَّهِ بِهِ (يوحنا 11 : 4). حتى ذلك اليوم لم يميز التلاميذ، وهم يسمعون يسوع، بين رقاد النوم والموت، فعندما قال لتلاميذه : لِعَازَرُ حَبِيبُنَا قَدْ نَامَ. لَكِنِّي أَذْهَبُ لأوقِظَهُ. فَقَالَ تلاَمِيذُهُ : يَا سَيِّدُ إِنْ كَانَ قَدْ نَامَ فَهُوَ يَشْفَى ! وَكَانَ يَسُوعُ يَقُولُ عَنْ مَوْتِهِ، وَهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ يَقُولُ عَنْ رُقَادِ النَّوْمِ (يوحنا 11 : 11 ـ 13). ثم استخدم يسوع عبارة أخرى أيضاً لم يفهمها التلاميذ إذ قال : وَأَنَا أَفْرَحُ لأَجْلِكُمْ إِنِّي لَمْ أَكُنْ هُنَاكَ لِتُؤْمِنُوا (يوحنا 11 : 15).
وعندما جاءت مريم إلى يسوع وهي تبكي وخرّت عند رجليه قائلة : يَا سَيِّدُ لَوْ كُنْتَ هَهُنَا لَمْ يَمُتْ أَخِي (يوحنا 11 : 21). قال لها يسوع : سَيَقُومُ أَخُوكِ (يوحنا 11 : 23)، فقالت له مريم : ولأنها لم تكن من جماعة الصدّوقيين الذين ينكرون أمر القيامة، أَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَقُومُ فِي الْقِيَامَةِ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ (يوحنا 11 : 24).
إلى هنا نرى أن اليهود انقسموا إلى قسمين قسم آمن بالقيامة في اليوم الأخير، وقسم أنكر القيامة، وعندما كان يسوع المسيح في بيت عنيا كان قريباً من يوم آلامه وصلبه وقيامته، ولكن أطلق العبارة الشهيرة في ذلك اليوم عن حدث القيامة، وقال لمرتا : أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا. وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيّاً وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى الأَبَدِ. أَتُؤْمِنِينَ بِهَذَا ؟ قَالَتْ لَهُ : نَعَمْ يَا سَيِّدُ. أَنَا قَدْ آمَنْتُ أَنَّكَ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ الآتِي إِلَى الْعَالَمِ (يوحنا 11 : 25 ـ 27).
وقيامة لعازر كما قيامة الآخرين الذين جاء ذكرهم في الإنجيل المقدس بحسب متى، ومرقس، ولوقا، ويوحنا، كان مؤشراً على القيامة العامة، التي أصبحت الأس لعقيدة الكنيسة التي افتداها يسوع بدمه على خشبة العار، لهذا نرى أن كلمات يسوع المسيح بعد أن أفحم الصدّوقيين الذين جاءوا إليه ساخرين، وأطلقوا ذلك السؤال السخيف، عن امرأة تزوجها سبعة أخوة، ففي القيامة لمن منهم تكون زوجة ؟ قائلاً : الَّذِينَ حُسِبُوا أَهْلاً لِلْحُصُولِ عَلَى ذَلِكَ الدَّهْرِ، وَالْقِيَامَةِ مِنَ الأَمْوَاتِ لاَ يُزَوِّجُونَ وَلاَ يُزَوَّجُونَ. إِذْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَمُوتُوا أَيْضاً لأَنَّهُمْ مِثْلُ الْمَلاَئِكَةِ ؟ وَهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ، إِذْ هُمْ أَبْنَاءُ الْقِيَامَةِ (لوقا 20 : 36). ولماذا ختم هذا المشهد الإنجيلي بذكرى ابراهيم واسحق ويعقوب مثل غيرهم من المختارين في العهد القديم، كان السبب ليصل إلى قرار مفاده، أن أمثال ابراهيم واسحق ويعقوب وغيرهم هم عنده أحياء، ولا يمكن لإلهم أن يكون إله أموات بل إله أحياء.
نحن اليوم نجد أنفسنا بحاجة ماسة في أن نُذكِّر بعضنا بعضاً بحدث القيامة. فالإنجيليون الأربعة بدون استثناء يعطون تفاصيل لهذا الحدث الهام، وكل منهم يؤكد بأن يسوع لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُوداً تَحْتَ النَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ، لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ (غلاطية 4 : 4 ـ 5). وعاش الإله المتجسد يسوع المسيح مع الناس، وسمعهم، وعالج مشاكلهم، وشفى مرضاهم، ونفخ فيهم نسمة الأمل والرجاء، وهيأهم لا للمجد الزائل، بل للمجد الباقي، فمتّى الرسول بعد حدث القيامة يتحدث عن السلطان الذي أعطاه لتلاميذه : أن يذْهَبُوا وَيتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ، وَيعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآبِ وَالاِبْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ. وَيعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَاهمْ بِهِ. ثم يسلط الضوء على أن يسوع الناهض من بين الأموات، سيبقى معهم كُلَّ الأَيَّامِ، إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ (متى 28 : 16 ـ 20).
ويكتب مرقس البشير لنا عن حيرة مريم المجدلية، ومريم أم يعقوب، وسالومى اللتين اشترتا حنوطاً ليأتين ويدهنّه، وَكُنَّ يَقُلْنَ فِيمَا بَيْنَهُنَّ : مَنْ يُدَحْرِجُ لَنَا الْحَجَرَ عَنْ بَابِ الْقَبْرِ؟ فَتَطَلَّعْنَ وَرَأَيْنَ أَنَّ الْحَجَرَ قَدْ دُحْرِجَ ! لأَنَّهُ كَانَ عَظِيماً جِدّاً. وَلَمَّا دَخَلْنَ الْقَبْرَ رَأَيْنَ شَابّاً جَالِساً عَنِ الْيَمِينِ لاَبِساً حُلَّةً بَيْضَاءَ فَانْدَهَشْنَ. فَقَالَ لَهُنَّ : لاَ تَنْدَهِشْنَ ! أَنْتُنَّ تَطْلُبْنَ يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ الْمَصْلُوبَ. قَدْ قَامَ ! لَيْسَ هُوَ هَهُنَا. هُوَذَا الْمَوْضِعُ الَّذِي وَضَعُوهُ فِيهِ. لَكِنِ اذْهَبْنَ وَقُلْنَ لِتَلاَمِيذِهِ وَلِبُطْرُسَ إِنَّهُ يَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ. هُنَاكَ تَرَوْنَهُ كَمَا قَالَ لَكُمْ (مرقس 16: 3 ـ 7). ولكن البشير مرقس يكتب بأنهنَّ َخَرَجْنَ سَرِيعاً وَهَرَبْنَ مِنَ الْقَبْرِ، لأَنَّ الرِّعْدَةَ وَالْحَيْرَةَ أَخَذَتَاهُنَّ. وَلَمْ يَقُلْنَ لأَحَدٍ شَيْئاً لأَنَّهُنَّ كُنَّ خَائِفَاتٍ (مرقس 16: 8)، وبعد ذلك نقرأ عن الظهورات أولاً لمريم المجدلية التي كان قد أخرج منها الشياطين، ثم لاثنين من التلاميذ كانا يمشيان منطلقين إلى البرية، وأخيراً ظهر للأحد عشر ووبخ إيمانهم وقساوة قلوبهم، لأنهم لم يصدّقوا الذي نظروه قد قام.
والرسام الإنجيلي البارع لوقا هو الآخر، وبريشة المصوّر الفنان كتب عن القيامة، وفصّل اقتراب يسوع المسيح إلى التلميذين اللذين كانا منطلقين في ذلك اليوم إلى قرية بعيدة عن أورشليم /60 / غلوة، اسمها عِمَّاوس، وكيف أنهما لم يعرفا الذي كان يمشي معهما حتى عندما قال لهما : أَيُّهَا الْغَبِيَّانِ وَالْبَطِيئَا الْقُلُوبِ فِي الإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الأَنْبِيَاءُ. أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ بِهَذَا وَيَدْخُلُ إِلَى مَجْدِهِ ؟ (لوقا 24 : 25 و 26)، ولم تنفتح أعينهما كما يقول لوقا إلا بعد أن اتَّكَأَ مَعَهُمَا أَخَذَ خُبْزاً وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَنَاوَلَهُمَا. فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَرَفَاهُ ثُمَّ اخْتَفَى عَنْهُمَا (لوقا 24 : 30 و 31)
والإنجيلي الأخير يوحنا الرائي ينقلنا إلى جو آخر من أجواء القيامة وبالتحديد إلى توما أحد الاثني عشر رسولاً الذي يقال له التوأم، ولم يكن مع التلاميذ عندما ظهر لهم يسوع وقال لهم : سلاَمٌ لَكُمْ. وَلَمَّا قَالَ هَذَا أَرَاهُمْ يَدَيْهِ وَجَنْبَهُ (يوحنا 20 : 19 و 20)، ثم يكتب لنا أنه بعد ثمانية أيام كان تلاميذه كلهم داخلاً، وتوما معهم فظهر يسوع وقال : سلاَمٌ لَكُمْ (يوحنا 20 : 19)، ثم خاطب توما قائلاً :هَاتِ إِصْبِعَكَ إِلَى هُنَا وَأَبْصِرْ يَدَيَّ، وَهَاتِ يَدَكَ وَضَعْهَا فِي جَنْبِي، وَلاَ تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَلْ مُؤْمِناً. أَجَابَ تُومَا : رَبِّي وَإِلَهِي. قَالَ لَهُ يَسُوعُ : لأَنَّكَ رَأَيْتَنِي يَا تُومَا آمَنْتَ ! طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا (يوحنا 20 : 27 ـ 29).
فكل الإنجيليين اتفقوا على أن حدث القيامة هو الأهم في سلسلة الأحداث الإنجيلية، وبولس الرسول عرف كيف يجعل من قيامة السيد المسيح المحور في العقيدة المسيحية، لهذا عندما كان يخاطب أهل كورنثوس بيَّن لهم أن من ينكر قيامة أموات ينكر أيضاً قيامة المسيح، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ فَبَاطِلَةٌ كِرَازَتُنَا وَبَاطِلٌ أَيْضاً إِيمَانُكُمْ (1 كورنثوس 15 : 14ـ 19). لا يمكننا بعد أن نسمع بولس الرسول، وهو يربط بين قيامة أموات وقيامة السيد المسيح أن نحسب أنفسنا مع الصدّوقيين الذين كانوا ينكرون قيامة الأموات، وإنما نسعى بعملنا وسلوكنا في تجسيد الإيمان بالقيامة، أو كما نردد في قانون الإيمان : ونترجى قيامة الموتى والحياة الجديدة.
فبعد جهاد روحي، صامت خلاله الكنيسة صوماً حقيقياً، وعاشت في الآحاد السابقة لأحد القيامة، سلسلة أحداث إنجيلية منها : آيات ومعجزات اجترحها يسوع المسيح، كتحويل الماء إلى خمر في قانا الجليل (يوحنا 2 : 1 ـ 11). وشفاء الأبرص (متى 8 : 1 ـ 4)، وشفاء المخّلع (متى 9 : 1 ـ 8)، وشفاء ابنة الكنعانية (متى 15 : 21 ـ 31)، وفتح عيني الأعمى (متى 12 : 22 و 23)، وأخيراً مثل السامري الصالح (لوقا 10 : 25 ـ 37). اقتربنا من عيد القيامة بأحد دخول السيد المسيح إلى الهيكل المعروف بـ : أحد الشعانين، ثم عشنا معه الآلام، وغسل أقدام التلاميذ، والصلب، والدفن، وها نحن نحتفل اليوم بعيد القيامة المظفرة، ونتطلع إلى الناهض من بين الأموات، أن يبارك خطواتنا لما فيه الخير، ويقوّينا لنكمل جهادنا الروحي في الحياة، ويمنحنا النعمة لنستمر في الخدمة والعطاء، فنحمل رسالة يسوع الخلاصية إلى العالم، ونستحق كما وعد تلاميذه أن نكون من أولئك الذين أرسلهم ليَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَيعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآبِ وَالاِبْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ. وَيعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَاهمْ بِهِ (متى 28 : 19 و 20)، معتمدين بأن يسوع الناهض من بين الأموات سيبقى معنا إلى انقضاء الدهر.
في حدث القيامة توجد استحقاقات كما نقول في لغتنا اليوم، وبلغة الكنيسة هي تجليات منها : أن يسوع المسيح بعد قيامته المظفرة من بين الأموات، ركَّز حديثه على السلام، لهذا نراه في واحدة من ظهوراته يخاطب تلاميذه قائلاً : سلاَمٌ لَكُمْ (يوحنا 20 : 19). أي أعطاهم سلاماً داخلياً روحياً، كيف لا وهو يُدرك أن الظروف التي ستحيط بهم ستكون مغلَّفة بالجزع، والخوف، والاضطراب، لهذا فإن منحهم السلام كان ليخفف من جزعهم وخوفهم واضطرابهم، كأنه يقول بعد القيامة حاجز الخوف لا وجود له في حياتكم، فمن تجليات القيامة إذاً أن نركِّز على هذا السلام الذي أعطاه السيد المسيح لتلاميذه، ولكنه في الوقت ذاته أشار على أن هذا السلام ليس كالسلام الذي يعطيه العالم، فما هو هذا السلام الذي يعطيه العالم ؟
إن طريق العالم هو بكل تأكيد غير طريق السيد المسيح، العالم يخترع الظروف والمناسبات لكي يهاجم فيها الإنسان أخاه الإنسان ويقضي عليه، فما معنى هذه الحروب والصراعات التي نراها في كل مكان، ضحايا، وشهداء، قتلى، وجرحى، ومصابون بالعاهات، وعاطلون عن العمل، ودمار للبشرية، وفساد للبيئة، من جراء الأسلحة الفتاكة، وما معنى أن تنتشر الويلات والخراب، والدمار، في كل بقاع الأرض، والإنسان يعتدي بمعرفة وبغير معرفة، بإرادة وبغير إرادة على أخيه الإنسان، ويفرض هيمنته عليه، ولا يفكر بالمعاني الروحية لمفهوم السلام الذي دعت إليه رسالة السماء، فالسيد المسيح يعطينا سلاماً كنهر متزايد ملآناً أبداً، يعطينا نوراً كنور الشمس، يزداد لمعاناً إلى النهار الكامل، يعطينا فرحاً ليس فيه غمٌ، أو حزنٌ، وإنما طريقٌ يؤدي إلى ملكوت الله.
إذاً السلام الذي نحتاج إليه في هذه الأيام، خاصة في هذه الظروف الاستثنائية التي نعيشها في سورية، هي واحدة من تجليات عيد القيامة، ألا بارك الله سورية بكل أطيافها، وشرائحها، وأديانها، ومذاهبها، ونفخ فيهم جميعاً نفحة السلام ليكونوا رسل سلام في مجتمعنا المؤمن، بتعددية الثقافات، واللغات، والاثنيات، والتيارات، وحفظ رئيس البلاد الدكتور بشار الأسد، وأمده بالقوة، والعزم، والحكمة، ليواصل عمله في رسالة الخدمة للوطن والمواطن، وبارك كل الجهود التي يبذلها المعنيون والمسؤولون من أجل ترسيخ مفاهيم سمات آمنت بها سورية، كالوحدة الوطنية، والعيش المشترك، والإخاء الديني، وجعل الله سورية قدوة حسنة في العمل الصالح الذي يجمع بين أبناء وبنات هذا الوطن.
المسيح قام… حقاً قام
عيد القيامة
2011