نهدي البركة الرسولية والادعية الخيرية الى اصحاب النيافة الاخوة المطارنة الجزيل وقارهم,
وحضرات ابنائنا الوحيين نواب الابراشيات والخوارنة والرهبان والقسوس والشمامسة الموقرين,
ولفيف افراد شعبنا السرياني الارثوذكسي المكرمين.
شملتهم العانية الربانية بشفاعة السيدة العذراء والدة الآله وسائر الشهداء والقديسين آمين
بعد تفقد خواطركم العزيز نقول: تبارك الله الذي اصطفى امنّا العذراء قبل تكوين العالم خادمة لسر الفداء العظيم, وفضلّها على نساء العالمين, بل شرَّفها علة الملائك والانبياء والرسل والشهداء والمعترفين, جاعلاً إياها كنفاً وملاذاً للمؤمنين, منعماً بشفاعتها المقبولة لصنوف البركات والمعجزات على الوف المعوزين. فطوبتها جميع قبائل الأرض, كما رتبت لها الكنيسة أعياداً حافلة وأنشأت باسمها معابد جليلة, وما زالت تتلو كل يوم دعوات خاصة منثورة ومنظومة لمديحها والاستشفاع بها. ومن جملة اعيادها المجيدة عيداً انتقالها العجيب وزنارها الشريف في الخامس عشر والحادي والثلاثين من شهر آب.
لقد اجمع أثمة الدين شرقاً وغراباً على ان السيدة العذراء لما حانت ساعة مغادرتها هذا العالم: اوعز الروح القدس الى الرسل الأصفياء فاجتمعوا كلوا مع البروق الى اورشليم واحتاطوا بنعشها الكريم. كما حضرت اجناد السماء مع ارواح الانبياء والاولياء ونقلت روحها الى العلاء. بينما حمل الرسل جسدها المصون المتأرج بعبير القداسة الى الجسمانية حيث اودعوه. وفي اليوم الثالث من دقتها أمر ابنها جنود العلى فنقلوا جثمانها الطاهر الى الفردوس السماوي لتحظى بالمجد الأثيل.
وفي اللحظات وصل مار توما الرسول قادماً من بعض بلاد الهند, وطلب أن يعاين جسدها. فلما فتحوا قبراها لم يجدوا فيه إلا الكفن والأثواب فاعتقد آنذاك انتقلت نفساً وجسداً الى السماء.
وقد ذكرت المصادر الشرقية, السريانية واليونانية والقبطية والحبشية والارمنية, ان مار توما الرسول قبل وصوله الى اورشليم رأى ذلك المأتم العلوي المجيد والمشهد الخارق الذي يخطف العقول. العذراء مسجاة على ملاءة بيضاء تطير بها الملائكة الى السماء. ثم سمع صوتاً يناجيه قائلاً: تقدم يا توما وتبرك من أم ربك. فتردد حائراً, ثم التمس منها ذخيرة, فاذا بنطاقها المقدس يهبط من عَلٍ ويسقط بين يديه. فيستيقظ من اغفاءة الشك ويأخذه الى رفاقه مدللاً به على انتقالها الى العلاء نفساً وجسداً, ثم يعود الى الهند يشفي به المرضى وذوي العاهات ويبارك المؤمنين.
وللزنار الشريف صلة وثقى برفات هذا الرسول الذي نُقل سنة 394 من الهند الى الرها السريانية في عهد مطرانها القديس قورا. وظل الزنار في الراها حتى حوالي سنة 478 وفبها نُقل الى الكنيسة السيدة في حمص حيث اودع ذخيرة ثمينة للمؤمنين. ثم عيّدت له الكنيسة الشرقية في الحادي والثلاثين من شهر آب. وهنالك ثلاثة عشر تقويماً سريانياً حوت تذكار هذا الزنار من تقويم القديس يعقوب الرهاوي (708+). ولقربه من عيد انتقال العذراء ادمج فيه على تراخي السنين تخفيفاً على المؤمنين.
وكنيسة السيدة المشار اليها هي كنيسة حمص الأولى. شيدها السريان في السنة التاسعة والخمسين للميلاد في زمن البشير ميلاأ او ايليا أحد السبعين الذي بشّر في بعلبك وحمص والرستن وحماة ومات في شيزر. وكانت صغيرة بسيطة بشكل قبو تحت الارض بسبب شدة الوثنية على المسيحية. وفي سنة 478 كانت في حوزة وعيم سرياني اسمه بطرس بن يوسف. فقد ذكرت سيرة مار باسوس حل فيها حوالي تلك السنة وكان حاملاً بعض أعضاء باسوس الشريفة. وكانت زوجة الزعيم بطرس كليلية البصر وعاقراً, فسأله أن يصلي لأجلها, فاستشفع لها بالشهيد باسوس ولمس عينيها بذخيرته فشُفتيا. كما رُزقت بعد سنة توأماً ابناً وابنة فعندهما الراهب وسماها باسوس وسوسن, واودع الذخيرة المباركة كنيسة السيدة اجابة الى التماس الزعيم. والأرجح ان الاب دواد نفسه كان الذي اؤتمن على نقل الزنار الى حمص إذ خشى السريان الرهاويون أن يصاب بأذى من جراء الاضطهاد الذي ثار ضدهم, ودفنه مع ذخيرة وجدة باسوس العجائبية في هيكل هذه الكنيسة الوسط. ذلك ان هذه الذخيرة وجدت مربوطة باناء الزنار عند اكتشافه.
والزنار الشريف هو ذخيرة العذراء الوحيدة, وهو من نسجها, إذ كانت قد تعلمت مدة اقامتها في الهيكل غزل الصوف وحبك الكتان والحرير, بل كانت تنسج بيدها ثبات الكهنة وحلل الهيكل فضلاً عن ثباتها وثبات ابنها. وفدُوّن في كتبها الطقسية المخطوطة كما يبدو في ماصبر منها على طوارئ الزمان وطوارق الحدثان, وهو مصون فيها, ويرتقي الة القرن السادس عشر ومطلع السابع عشر.
وفي اواسط نيسان سنة 1953 اصاب سلفنا الطيب الذكر رسالة كبها سنة 1952 وجهاء ابراشية سوريا السريانية الى وجهاء مدينة ماردين المجاورة لدير الزعفران الكرسي البطريركي جاء فيها: “انهم حين هدموا كنيستهم المسماة باسم سيدتنا العذراء موضوعاً في وعاء وسط مائدة التقديس في المذبح, فتبركوا به ثم وضعوه في الهيكل الاوسط”. وقرأ هذا الخبر في بعض المذكرات المرحوم القس يوسف عسكر الحمصي (1916+). وفي صباح اليوم العشرين من شهر تموز كشف المائدة المقدسة بحضور رهط من الاكليروس والمؤمنين فوجد اولا رقمياً حجرياً مكتوباً عليه بالكرشوني تاريخ تأسيس هذه الكنيسة سنة 95 في ومن البشير ميلا المدعو ايضاً ايليا، وتاريخ تجديدها سنة 1852. واصاب تحته جرناً حجرياً مغطىً بصفحة نحاسية ودخله وعاء تكسر عند فتحه لعتقه, فظهر الزنار الشريف ملفوفاً بعضه على بعض. وكانت انبوبة نحاسية معلقة في طرف الوعائ الاعلى, ضمنها عظم من ساعد انسان, داخله قطعة من الرق. ثم اوفدت مديرية الآثار في دمشق لجنة درست الزنار الشريف وكل ما يتعلق به. وكتبت تقريراً في 16 آب 1953 جاء فيه ما خلاصته: “جرن من الحجر البركاني وقرص نحاس مزين بدوائر متحدة المركز يعودان الى العهد البيزانطي. وعلبة اسطوانية الشكل من المعدن المتأكسد لدرجة انه لم يبق من المعدن شيء وبقى قعرها لاصاقاً في حفرة الجرن. وضمنها زنار ملفوف طوله اربعة وسبعون سنتمتراً, وعرضه خمسة, وسمكه مليماً. لونه بيج فاتح. وهو مصنوع من خيوط صوفية طولانية في الداخل, ونُسج عليها خيوط من حرير, وطُرز بخيوط من الذهب على سطحه الخارجي. وقد تأكل من اطرافه, وطهرت عليه املاح, وتأثر بتأكسد العلبة المعدنية. وهو يعود الى العهد الروماني. ويظهر ان العلبة الآنفة الذكر كانت موضوعة في مذبح الكنيسة السابقة منذ السابقة منذ زمن بعيد, وربما يبدأ مع البيعة السابقة, كما يدل ذلك تأكسد العلبة الشديد الناتج حتماً عن وجودها في ارض رطبة مدة طويلة, وتأكل الزنار اثناء وجوده ضمن العلبة, وحالة العظمة والرق الموضوع ضمنها”.
ومنذ اكتشافه تبرك منه ألوف الزائرين على اختلاف مللهم ونحلهم أموا مدينة حمص من بلاد سوريا ولبنان والعراق وتركيا وغيرها. وما زالت وفود عديدة تتهافت الى الكنيسة أم الزنار لنيل البركات والاشفية من الزنار الشريف الذي هو تعزية للمؤمنين في هذه الحياة. وقد اشتهرت هذه الكنيسة بعجائبها الكثيرة التي لأجلها يؤمها الناس من مسيحيين ومسلمين منذ أمد بعيد للتبرك منها ومن ماء بئرها الشافي, ولا سيما في عيد انتقال العذراء.
ولمناسبة مرور 1900 سنة على تأسيس هذه الكنيسة العجائبية ندعو بمنشورنا هذا الرسولي جميع المؤمنين الى زيارتها في عيد انتقال العذراء يوم السبت الواقع في الخامس عشر من شهر آب للاستشفاع والاستشفاء, والاشتراك بالمراسيم البيعية التي ستقام فيها بهذه المناسبة السعيدة. فالسيدة العذراء ما زالت محجة النجاة وقريبة من تنهدات المؤمنين, ولن تنضب المعونات المتدفقة من ينبوعها العذب, فمن لجأ اليها بايمان قوي ورجاء وطيد: اصاب ولا شك الحماية والمعونة.
نجاكم الله من جميع الكصائب والنوائب, وأغدق عليكم خير العطايا والمواهب بشفاعتها آمين.
صدر عن قلايتنا البطريركية في حمص – الاقليم السوري في 1 آب سنة 1959 وهي السنة الثانية لبطريركيتنا