مار إغناطيوس أفرام الأول برصوم

رجل النهضة والإصلاح في كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية

في القرن العشرين للميلاد

مار إغناطيوس أفرام الأول برصوم (1957)

 


نبذة مختصرة في ترجمة حياته:

تعد ترجمة حياة هذا العلم صفحة مشرقة من صفحات تاريخ الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، التي كان رئيسها الأعلى في العالم أجمع، مدة ربع قرن من الزمان، ويعد أبا الإصلاح فيها. ولا مجال لنا في هذه العجالة أن نتناول بالدرس ما قام به من أعمال مجيدة في سبيل تقدمها وازدهارها، لذلك سنوجز القول في ملامح حياته، وأسماء أهم مؤلفاته المطبوعة منها والمخطوطة، ليطلع القارئ الكريم على مكانته العلمية العالية.

ـ ولد في الموصل عام 1887م. ودرس فيها مبادئ العلوم، وقد وهبه اللّـه ذكاء وقاداً، فأتقن اللغات: العربية، والسريانية، والتركية، والفرنسية.

ـ أكمل دراسته في مدرسة دير الزعفران بماردين الذائعة الصيت في رقيها وعزها، فتبحّر في التاريخين الديني والمدني، وعلم اللاهوت، والمنطق، وألمَّ باللغات الإنكليزية، واللاتينية، واليونانية.

ـ رسم راهباً عام 1907، وفي السنة التالية رقّي إلى درجة الكهنوت.

ـ رأس عام 1911 مطابع دير الزعفران، وطبع فيها مؤلفات قيمة له ولغيره من رجال الكنيسة.

ـ قام عام 1913 بجولته العلمية الأولى، للاطلاع على نفائس المخطوطات المحفوظة في خزائن الكتب في الأديار والكنائس في الشرق، وفي مكتبات أمهات مدن أوربا.

ـ انصرف إلى دراسة العلوم والفلسفة على أيدي أساتذة متضلعين.

ـ رسم عام 1918 مطراناً على سوريا باسم مار سويريوس أفرام، وأضيف إلى رئاسته الروحية، فيما بعد لبنان.

ـ قام عام 1919 بجولته العلمية الدينية الثانية في أوربا، موفداً من سلفه الطيب الذكر البطريرك الياس الثالث، فحضر مؤتمر باريس الأممي، وكانت له صولات في المطالبة بحقوق العرب، ونبذ كل شكل من أشكال الاستعمار. وكان لقوة عارضته وفصاحته في التعبير بالفرنسية، الأثر الطيب في المؤتمر، والامتنان من جانب زملائه ممثلي العرب.

قام عام 1927 بجولته العلمية الثالثة في أوربا، ثم سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية وكندا، بزيارة علمية دينية. وقد انتخب في أثناء ذلك عضواً في المعهد الشرقي بجامعة شيكاغو. وقد اطلع خلال رحلاته الثلاث على أغلب المخطوطات السريانية والعربية في مكتبات أوربا وأميركا، هذا فضلاً عما وقف عليه من خزائن الكتب العامة والخاصة في الشرق.

ـ انتخب عام 1932 عضواً في المجمع العلمي العربي في دمشق.

ـ انتخب عام 1933 ورسم بطريركاً (أي رئيساً أعلى على الكنيسة السريانية الأرثوذكسية في العالم أجمع) باسم مار إغناطيوس أفرام الأول برصوم بطريرك أنطاكية وسائر المشرق.

ـ أسس عام 1939 المدرسة الإكليريكية الأفرامية، بعد أن شيّد لها من ماله الخاص، صرحاً لائقاً في زحلة. ثم نقلها إلى الموصل عام 1945 وقد تخرّج فيها نخبة طيبة من الإكليروس.

ـ انتقل إلى جوار ربه في 23 حزيران عام 1957 ودفن في كنيسة أم الزنار بحمص.

 

أهم مؤلفاته المطبوعة:

1ـ كتاب «نزهة الأذهان في تاريخ دير الزعفران» طبع عام 1917 بمطابع دير الزعفران بماردين.

2ـ كتاب «الدرر النفيسة في مختصر تاريخ الكنيسة» طبع بحمص عام 1940 وأعيد طبعه مختصراً تحت اسم «المورد العذب» عام 1953.

3ـ كتاب «اللؤلؤ المنثور في تاريخ العلوم والآداب السريانية» طبع بحمص عام 1943، وأعيد طبعه في حلب عام 1956 بهمة مطرانها الجليل مار ديونيسيوس جرجس بهنام. وأشرفنا على الطبعة الثالثة منه في بغداد عام 1976 وقد نقله إلى الكنيسة ونشره بالطبع في القامشلي عام 1967 الطيب الذكر العلامة مار فيلكسينوس يوحنا دولباني مطران ماردين، ونقله إلى الفرنسية العلامة المستشرق جيرارد تروبو. ونقله إلى الإنكليزية الدكتور متى اسحق موسى.

4ـ كتاب «الألفاظ السريانية في المعاجم العربية» نشره تباعاً على صفحات مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق، ثم طبعه على حدة عام 1951 بدمشق.

5ـ كتاب «قيثارالقلوب» وهو مجموعة تتضمن ست عشرة خطبة وقصيدة بالعربية، طبع بحمص عام 1945.

6ـ كتاب تاريخ «طورعبدين» بالسريانية نقله إلى العربية، وطبعه مع النص، الطيب الذكر الملفان مار غريغوريوس بولس بهنام مطران بغداد والبصرة عام 1963.

7ـ الرسائل العامة بالسريانية والعربية وهي عظات قيمة كان يرسلها في مناسبات دينية إلى الكنائس السريانية الأرثوذكسية في العالم، نشر بالطبع نيافة مار ملاطيوس برنابا مطران حمص وحماه وتوابعها، القسم العربي منها عام 1964 بحمص.

8ـ «رسالة في أصول التعريب عن السريانية» نشرها بالطبع الأب جورج صليبا  مدير إكليريكية مار أفرام اللاهوتية في العطشانة ـ لبنان عام 1969 (نيافة مار ثاوفيلوس جورج صليبا مطران جبل لبنان الآن).

9ـ «المجلة البطريركية» التي كان يشرف على إصدارها في دير مار مرقس في القدس، ونشر فيها مقالات عديدة.

10ـ نبذ تاريخية ومقالات نشرها أولاً في مجلات شتى طبع أغلبها منفردة، وأهمها: شهداء الحميريين، مدرسة أنطاكية اللاهوتية، مدينة الرها، نوابغ السريان في العربية الفصحى، مزارع الجزيرة، تاريخ زنار السيدة العذراء بحمص.

 

أهم المؤلفات التي حققها ونشرها بالطبع:

1ـ كتاب «الإشحيم» وهو كتاب الصلوات الأسبوعية بالسريانية نقحه وطبعه عام 1913 في دير الزعفران. وأعاد طبعه عام 1936 في القدس.

2ـ كتاب «تهذيب الأخلاق» بالعربية ليحيى بن عدي الفيلسوف السرياني (893 ـ 974م) نشره عام 1928 في مجلة اللغات السامية وآدابها في شيكاغو.

3ـ «رسالة في علم النفس الإنسانية» بالعربية، للعلامة ابن العبري (1226 ـ 1286) نشره بالطبع بحمص عام 1940.

4ـ كتاب «حديث الحكمة» بالعربية، للعلامة ابن العبري (1226 ـ 1286) نشره بالطبع بحمص عام 1940.

أهم مؤلفاته المخطوطة:

1ـ فهرس المخطوطات السريانية الموجودة خاصة في مكتبات الشرق العامة والخاصة.

2ـ معجم عربي ـ سرياني.

3ـ ذيل لغوي سرياني.

4ـ تاريخ كنسي مختصر بالسريانية، يغطي نصف قرن من الزمن بدءاً من عام 1900م.

5 ـ تاريخ بطاركة أنطاكية ومشاهير الكنيسة السريانية بالعربية.

6ـ تاريخ الأبرشيات السريانية بالعربية، ويقع في عدة مجلدات.

7 ـ كتاب «الحديث» وأكثره يشتمل على أخبار المئة التاسعة عشرة للميلاد مما سمعه من شيوخ وأحبار وكهنة معاصرين له منذ سنة 1909 حتى 1954م، ونشرناه تباعاً على صفحات مجلتنا البطريركية، فهو يعتبر قمة في أدب المذكرات.

8ـ مجموعة خطب وقصائد عربية وسريانية وفرنسية، فقد كان ـ رحمه اللّـه ـ خطيباً مصقعاً، وشاعراً مفلقاً، وكاتباً قديراً، باللغات الثلاث المذكورة أعلاه.

نال المترجم شهرة عالمية في أوساط العلوم والآداب، واللغتين العربية والسريانية، فبالإضافة إلى تآليفه، كانت بعض الجامعات تنتدبه في مواسم خاصة، ليحاضر في مواضيع تاريخية ولغوية وغيرها. ناهيك عما كانت تلهج به الصحف والمجلات العلمية والأدبية، من إطراء مواهبه الفذة وآثاره النفيسة، فقد لقبه فيلسوف الفريكة أمين الريحاني، بفخر الشرق في زمانه. ولا غرو فهو مؤلف «اللؤلؤ المنثور» الذي يعد بحراً من أي النواحي جئته. سهل الغوص، ميسور الصيد من لآلئ الألفاظ الفصيحة، وفنون البيان، وضروب المعاني، والبديع المستملح السائغ، دون ما تكلف أو معاناة، فهو معجم بذاته فريد، ودائرة معارف سريانية زاخرة.

وبعد، فهذا غيض من فيض ترجمة حياة البطريرك أفرام الاول برصوم  الحافلة بالأمجاد، وبمناسبة مرور ثلاثين عاماً على انتقاله إلى الخدور العلوية احتفلنا بالقداس الإلهي في كاتدرائية أم الزنار بحمص صباح يوم الأحد المصادف لـ 22/11/1987 وارتجلنا الخطاب التالي:

«اذكروا مرشديكم الذين كلّموكم بكلمة اللّـه، انظروا إلى نهاية سيرتهم فتمثّلوا بإيمانهم» (عب 13: 7).

أعوام ثلاثون انصرمت وانقضت على انتقال سلفنا الأسبق المثلث الرحمات البطريرك العلامة مار إغناطيوس أفرام الأول برصوم إلى الخدور العلوية، وهو في السبعين من عمره.

وإحياء للذكرى المئوية لميلاده، والذكرى الثلاثين لانتهاء جهاده الروحي في الكنيسة المجاهدة على الأرض، وانضمامه إلى كنيسة الأبكار المكتوبة أسماؤهم في السماء، نحتفل بالقداس الإلهي في هذه الكاتدرائية التي تضمّ ضريحه الطاهر، كاتدرائية أم الزنار بحمص، التي أحبّها كثيراً، ورددت جوانبها صدى أنغامه الشجية يوم كان يرفع فيها إلى السماء صلواته المستجابة، عطر بخور طيب الرائحة، وينثر مواعظه البناءة، درراً غالية الثمن، فكانت كلمة اللّـه الحية تلج القلوب الواعية، فتنمو وتعطي الثمار الكثيرة. لقد كان صاحب الذكرى واعظاً بليغاً كيوحنا الذهبي الفم، مؤثراً في سامعيه كيوحنا المعمدان. يأتي بالابن الشاطر إلى بيت الآب السماوي، وبالخروف الضال إلى حظيرة الخراف. ويثبّت المؤمنين على التمسك بالعقيدة القويمة والفضائل المسيحية السامية التي كان هو ذاته يتحلّى بها.

فلنتأملن بنهاية سيرته الحميدة، ولنتمثّلن بإيمانه، إتماماً لوصية كاتب الرسالة إلى العبرانيين. فقد كان بطلاً من أبطال الإيمان، وأحد فطاحل السريان، وركناً متيناً من أركان الدين والعلم والوطن. خطّ بأحرف من نور أول صفحة مجيدة في سجل تاريخ الكنيسة الحديث، بعلمه الغزير وأعماله الراعوية الصالحة. وما تاريخ الكنيسة المجيد سوى سجل عمل الروح القدس في أناس يختارهم اللّـه تعالى، ويدعوهم، فيلبّون الدعوة، ثم يرسلون إلى العالم ليبلّغوه رسالته الإلهية. فهم أنبياء صادقون، وأحبار أجلاء، وكهنة أتقياء. أولئك قوم أنعم اللّـه عليهم بمواهبه الصالحة النازلة من السماء، ومنحهم سلطاناً على الأرض وبوّءهم كراسي في كنيسته على الأرض وفي السماء. وقال لهم الرب يسوع: «من يقبلكم يقبلني ومن يقبلني يقبل الذي أرسلني. من يقبل نبياً باسم نبي فأجر نبي يأخذ، ومن يقبل باراً باسم بار فأجر بار يأخذ» (مت 10: 40و41) ذلك أن هؤلاء قد حملوا صليب الرب، وتبعوه في طريق التضحية ونكران الذات، وأوصلوا إلى العالم نعمة الفداء فأتوا بالشعوب إلى عبادة اللّـه الحي بالروح والحق، وبهذا صنعوا التاريخ الكنسي المجيد. واللّـه تعالى هو وراء التاريخ، في كل أدواره وأحداثه، وقد برهن الرب على صدق وعده لكنيسته المقدسة أنه باق معها دائماً وإلى انقضاء الدهر، وأن «أبواب الجحيم لن تقوى عليها» (مت 16: 18) فالكنيسة ثابتة وقوية بالمسيح رأسها. ويقاس تقدمها بمقياس روحي سماوي، فهي ناجحة بالمسيح، وبقدر ما تقدم للعالم من أبطال الإيمان المملوئين من الروح القدس الذين يحيا المسيح فيهم، وعلى هذا المقياس نحدد الفترة الزمنية للعصر الذهبي لكنيستنا، كنيسة أنطاكية السريانية، فقد بدأ في القرن الرابع للميلاد، بظهور مار أفرام السرياني، وامتدّ عبر الدهور والأجيال ماراً بالسروجي، والبرادعي، والمنبجي، وسويريوس الكبير، والرهاوي وميخائيل الكبير وغيرهم، وانتهى في القرن الثالث عشر بانتقال ابن العبري إلى جوار ربه. وكنيسة أنطاكية السريانية في السراء والضراء كانت وما تزال تقدم لخدمة الإنسانية والدين، رجالاً ميامين، وهي تؤسس المدارس في الأديرة والكنائس، في المدن والقرى، لأن السريان طُبعوا  على التمسّك بالإيمان ومحبة العلم والمعرفة.

وفُرضت على كنيسة أنطاكية السريانية بعد ابن العبري ظروف قاسية، بفترات زمنية مظلمة اجتازتها بقوة اللّـه، الذي سند وعضد آباءها القديسين، وقيَّض اللّـه تعالى لها في أوائل هذا القرن الخالد الذكر البطريرك العلامة مار إغناطيوس أفرام الأول برصوم، الذي أزاح عنها كابوس السنين العجاف، وأنهضها من كبوتها، وانتشلها من وهدتها، وفتح عينيها على أمجادها التليدة. وهكذا برز كوكباً للسريان منيراً، ومصلحاً جباراً، أحدث في تاريخ الكنيسة منعطفاً كبيراً، وابتدأ عهداً جديداً في عهد يقظة ونهضة وإصلاح، لبناء حاضر زاهر، ومستقبل باهر.

هذا هو البطريرك أفرام برصوم الرجل العظيم الذي اختاره اللّـه منذ نعومة أظفاره ليحمل رسالة المسيح الإلهية إذ هيّأ له الجو الروحي الملائم «فكان يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند اللّـه والناس» (لو 2: 52) بل صار كزيتونة مباركة غرست في بيت إلهنا على ضفاف جداول المياء الحية، فأعطت ثمرها في حينه وورقها لم يذبل.

ولد أيوب، وهذا اسمه قبل رهبنته، من أبوين فاضلين، في مدينة نينوى التاريخية. وتربّى على محبة العلم، وانكبّ على تحصيله في سن مبكرة، فتلقى في مدرسة الكنيسة بحي القلعة، وفي مدرسة أخرى أجنبية مبادئ العلوم الدينية والمدنية وألمّ باللغات السريانية والعربية والتركية والفرنسية. وتاقت نفسه إلى الانخراط في سلك الرهبانية، فأرسل إلى دير الزعفران بقرب ماردين حيث ألبس الإسكيم الرهباني عام 1907 ودعي اسمه أفرام، وفي السنة التالية رقّي إلى درجة الكهنوت.

وأخذ يلقي الدروس الدينية والعلمية واللغوية في مدرسة الدير التي كان قد أسّسها المطران ديونيسيوس بهنام سمرجي مطران الموصل يوم كان قائمقاماً بطريركياً وكانت بإدارة الراهب توما عازر قصير (مار أثناسيوس توما مطران الموصل بعدئذ) وفي الوقت ذاته كان الراهب أفرام يتعمّق بدراسة اللغة السريانية وعلومها وآدابها وألمّ باللاتينية واليونانية وتبحّر في التاريخين الديني والمدني وعلم اللاهوت والمنطق.

وفي دير الزعفران ابتدأ الراهب أفرام برصوم وهو في شرخ شبابه بتأليف بعض الكتب المفيدة في مبادئ الإيمان والطقس البيعي، نشرها في مطبعة الدير، التي كان قد أسّسها في أواخر القرن التاسع عشر المثلث الرحمات البطريرك بطرس الرابع وترأسها الراهب أفرام عام 1911. كما اهتمّ الراهب أفرام بالدفاع عن حياض الكنيسة فكتب ونشر ردوداً دامغة على كل من سوّلت له نفسه الأمّارة بالسوء الطعن بالكنيسة السريانية. وكان بكتاباته معتدلاً، منصفاً، لطيف العبارة، شيّق الأسلوب.

وكان في حياته الرهبانية مثالاً للراهب التقي الورع العفيف والمطيع، أخذ طريقة الزهد والتقشف عن الرهبان السريان الذين كان يزورهم في قلاليهم وأديرتهم، ويجلس عند أقدامهم، ويستمع إلى أحاديثهم الروحية والتاريخية ويدوّنها. وما اقتبسه من أولئك الزهاد الأتقياء من الفضائل السامية، وما تعلّمه منهم من طرائق الزهد، والتقشّف، والصوم، والصلاة، والعفة، والوداعة، والتواضع، والمحبة والتسامح وسائر الفضائل السامية، تجلّى في سيرته حتى آخر نسمة من حياته.

وجال، الراهب أفرام، المدن والقرى، زار الأديرة والكنائس، وبعض المؤمنين، ينقب عن المخطوطات السريانية القديمة، ووضع لها فهارس تعد اليوم من التحف الثمينة النادرة خاصة وأن العديد من تلك المخطوطات قد عبثت بها يد الزمن وفقدت، أو أتلفت.

وقام بجولته الأولى في أوربا ليطّلع على ما حوته مكتباتها الشهيرة من كنوز المخطوطات السريانية، وكان في كل ذلك كمن يغوص في أعماق البحار ينقب عن الجواهر الثمينة، وقد حصل عليها وقدّم لنا بعدئذ كتابه «اللؤلؤ المنثور» في تاريخ العلوم والآداب السريانية وغيره من المؤلفات النفيسة المطبوعة والمخطوطة.

وعيّنه المثلث الرحمات البطريرك عبداللّـه كاتباً ثانياً له، فرافقه إلى القدس حيث انفتحت أمامه آفاق جديدة في العلم والمعرفة، وبدأ علائق مهمة مع بعض العلماء واللاهوتيين من سائر الملل والنحل ـ فاتسعت مجالات عطائه العلمي الغزير.

وفي عام 1917 على أثر انتقال البطريرك عبداللّـه إلى جوار ربه اشترك الراهب أفرام بانتخاب سلفه المثلث الرحمات البطريرك الياس الثالث بالنيابة عن أحد المطارنة. وعيّنه سلفه المذكور نائباً بطريركياً لأبرشية حمص التي استقبلته بترحاب، وعرف الراهب أفرام كيف يشارك أبرشيته تحمّل محن الزمن العصيب بصبر جميل، ومداواة الجراح المثخّنة التي تركتها الحرب العالمية الأولى في جسد الكنيسة، وما خلفته هذه الحرب المشؤومة من مصائب ومصاعب وكوارث. ثم انتخبته الأبرشية بالإجماع فرسم مطراناً عليها سنة 1918 باسم مار سويريوس أفرام. وأضيف إلى رئاسته الروحية فيما بعد لبنان.

في حمص برزت مواهب المطران سويريوس أفرام الدينية والعلمية. وتجلّت محبته للوطن العزيز. وكانت له في هذا الميدان مواقف مشرّفة، كما له دور فعال قام به في الاشتراك مع الذين ناضلوا في سبيل تحرير الوطن الحبيب من المستعمرين الطغاة، ويعدّ بحق قطباً من أقطاب الحركة الوطنية العربية السورية. وقد قام عام 1919 بجولته العلمية الدينية الثانية في أوربا، موفداً من سلفه الطيب الذكر البطريرك الياس الثالث فحضر مؤتمر باريس الأممي. «وكانت له صولات وجولات في المطالبة بحقوق العرب ونبذ كل شكل من أشكال الاستعمار. وكان لقوة عارضته وفصاحته في التعبير بالفرنسية الأثر الطيب في المؤتمر من جانب زملائه ممثلي العرب».

وأوفده سلفه المثلث الرحمات البطريرك الياس الثالث إلى أمريكا لتفقد الجاليات السريانية، وتنظيم شؤونها الروحية والاجتماعية، فقام بذلك خير قيام، وجال ثانية في أوربا يدرس المخطوطات السريانية في مكتباتها الشهيرة. ولمكانته العلمية انتخب عام 1932 عضواً في المجمع العلمي العربي في دمشق[1].

كان المطران سويريوس أفرام برصوم راعياً صالحاً، خدم أبرشية حمص بتضحية ونكران ذات، مشاركاً المؤمنين أفراحهم وأتراحهم، وكان يقضي أياماً عديدة في تفقّد القرى روحياً واجتماعياً، مرة في السنة على الأقل. ويلقي المحاضرات البليغة على أبنائه الشباب، شارحاً لهم عقائد كنيسة أنطاكية السريانية وتاريخها. وكان يشجعهم على تحصيل العلوم مؤرّخاً بطولاتهم بأناشيده الشعبية، مفتخراً بغيرتهم الدينية، وشهامتهم، وتمسّكهم بالعقيدة الإيمانية، ومحبتهم لوطنهم العزيز. فأحبوه كثيراً والتفّوا حوله كالسوار بالمعصم.

وفي الفترة الزمنية العصيبة التي مرّت على السريان في بعض البلدان المجاورة استقبل صاحب الذكرى المهجرين الوافدين إلى سوريا مهيئاً لهم المأوى والمأكل والمشرب، مع النصح والإرشاد.

ولما أعلن الناعي انتقال الخالد الذكر البطريرك الياس الثالث إلى جوار ربه في الهند، أجمعت الكنيسة بأشخاص أحبارها على انتخاب المطران مار سويريوس أفرام برصوم قائمقاماً بطريركياً فنظم شؤون الملة وهيّأ الجو الملائم للانتخاب البطريركي، وانتخب بطريركاً سنة 1933 وجرت حفلة تنصيبه في حمص التي اتخذها مقراً مؤقتاً للبطريركية.

وأول عمل قام به كبطريرك هو تنظيم قوانين الكنيسة وسن ما يصلح منها لذلك الزمن مستنداً بذلك على قرارات المجامع المقدسة، ثم شراؤه من ماله الخاص أرضاً في مدينة زحلة شيّد عليها مدرسة مار أفرام الكهنوتية التي أسسها عام 1939 ورعاها إلى آخر نسمة من حياته لتكون مصنعاً لإكليروس الكنيسة المؤمن والمثقّف المتمسّك بعقيدته والمفتخر بتراثه الثمين ولغته السريانية المقدسة.

وجاءت الحرب العالمية الثانية لتضاعف من الأعباء الجسيمة على كاهل البطريرك أفرام، ولكنه تمكّن من أن ينظّم الأبرشيات الجديدة التي تألفت من النازحين في عهد مطرنته وبطريركيته ويرعاهم رعاية صالحة بما منحه اللّـه من حكمة وحسن تصريف للأمور.

كان لنا الحظ السعيد في الانضواء تحت لوائه، والانضمام إلى حاشيته طيلة السنتين الأخيرتين من حياته، فصرنا موضع اهتمامه الأبوي ورعايته الرسولية، واعترافاً منا بالجميل، علينا أن نسبق الآخرين إلى الإقرار بفضله، فقد كان رحمه اللّـه أباً حنوناً وراعياً صالحاً، يشمل أولاده الروحيين بعنايته، ويتجاوز الهفوات بعد إسداء النصح والإرشاد، ويعالج الضعفات بحكمة ووداعة، لأنه أب محب ذو قلب كبير يختلج بمحبة الكنيسة، ماضيها وحاضرها، ويخفق أملاً ورجاء لمستقبل أفضل.

عاش سبعين عاماً كانت بمثابة سبعمائة عام عوّض خلالها للكنيسة، عما خسرته في الحقبة الزمنية الواقعة بين أواخر القرن الثالث عشر وأوائل القرن العشرين، أي منذ فقدت الكنيسة العلامة ابن العبري، وحتى ظهور صاحب الذكرى البطريرك أفرام الأول برصوم، الذي وهبه اللّـه ذكاء خارقاً، وجلداً على الدرس والتحصيل، فكان منكبّاً على ذلك بياض نهاره وسواد ليله، وكان خصب الإنتاج الأدبي والديني فمن اطّلع على ما تركه لنا من مؤلفات بلغات شتّى أقرّ بما كان عليه من عبقرية فذة، فهو حقاً وحيد دهره، وفريد زمانه، ونسيج وحده.

كان يجلّ آباء الكنيسة وعلماءها، وقد خلّد ذكرهم في كتاباته النفيسة. كما كان يتمسّك بتقاليد الكنيسة وأنظمتها.

حدث في ليلة عيد رأس السنة الجديدة لعام 1957، وهو أيضاً عيد آباء الكنيسة كافة، وبحسب تقليد كنيستنا يجتمع قداسة البطريرك بحاشيته ليلة العيد، ويمسك بيمناه الصليب المقدس، وبيسراه العصا الرعوية، وهو في صالة البطريركية، وبعد أن ترتل الحاشية الأناشيد الخاصة بتكريم الأحبار يمنح البطريرك بركته الرسولية للكنيسة كافة أحباراً وكهنة وشمامسة وشعباً. وهكذا جرى ليلة عيد رأس السنة الجديدة المذكورة، إذ شرع صاحب الذكرى يتكلّم، طلب إلى اللّـه تعالى أن يبارك الكنيسة ويبارك البلاد رئيساً وحكومة وشعباً، وينشر أمنه وسلامه في العالم، ثم توقّف لحظة وأردف قائلاً: لعلها المرة الأخيرة التي احتفل فيها بمثل هذه المناسبة. وبكى… وشاركناه البكاء… كانت نغمة حزن في سمفونية طرب. ولفظ عبارات أخرى كأنه سلّم بها الكنيسة إلى الرب يسوع رأسها… وما تزال هذه الصورة المؤلمة ماثلة أمامنا حتى الآن.

وفي صباح الأحد المصادف للثالث والعشرين من شهر حزيران من ذلك العام، وقبل الانتهاء من القداس الإلهي كان صاحب الذكرى قد لفظ أنفاسه الأخيرة في قلايته وهو راقد على فراشه بسلام. ولسان حاله يقول مع الرسول بولس: «قد جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي، حفظت الإيمان، وأخيراً قد وضع لي إكليل البر الذي يهبه لي في ذلك اليوم الرب الديان العادل، وليس لي فقط بل لجميع الذين يحبون ظهوره أيضاً» (2تي 4: 7و8).

واليوم ونحن نحتفل بالذكرى المئوية لميلاده وبمرور ثلاثين عاماً على انتقاله إلى السماء، نكرّمه بالاقتداء بسيرته الصالحة، بالتمسّك بالإيمان القويم، وبممارسة الفضائل السامية، وبمحبة الوطن العزيز، ومحبة الكنيسة المقدسة، وإنعاش لغتنا السريانية الحبيبة.

أما أنتم يا أبناء حمص الأعزاء وخاصة نيافة أخينا الحبر الجليل مار ملاطيوس برنابا مطران حمص وحماة وتلميذ البطريرك أفرام فهنيئاً لك بضريح البطريرك أفرام الطاهر. فكما يحجّ الناس إلى هذه الكاتدرائية المقدسة للتبرك من زنار القديسة العذراء مريم الذي اكتشفه صاحب الذكرى في هذه الكاتدرائية عام 1952، يحجون أيضاً إلى ضريحه الطاهر لتكريم العلامة الكبير،  والمؤرّخ الشهير، والأديب القدير، والشاعر المبدع، والراعي الصالح، أبي الإصلاح، البطريرك أفرام الأول برصوم، فليكن ذكره خالداً، فقد كان أميناً إلى الموت فليعطه الرب إكليل الحياة (رؤ 2: 10) آمين.

 

الهوامش

———————————

([1])ـ نشرنا نبذة مختصرة في ترجمة حياته وأسماء أهم مؤلفاته المطبوعة منها والمخطوطة في مقدمة الطبعة الثالثة لكتابه «اللؤلؤ المنثور في تاريخ العلوم والآداب السريانية» الذي نشرناه ضمن مطبوعات المجمع العلمي العراقي في بغداد عام 1967 وفي ما يأتي بعض ما قلناه فيه:

نال المترجم شهرة عالمية في أوساط العلوم والآداب، واللغتين العربية والسريانية، فبالاضافة إلى تآليفه، كانت بعض الجامعات تنتدبه في مواسم خاصة، ليحاضر في مواضيع تاريخية ولغوية وغيرها. ناهيك عما كانت تلهج به الصحف والمجلات العلمية والأدبية، من إطراء مواهبه الفذة وآثاره النفيسة، فقد لقبه فيلسوف الفريكة أمين الريحاني، بفخر الشرق في زمانه. ولا غرو فهو مؤلف «اللؤلؤ المنثور» الذي يعد بحراً من أي النواحي جئته. سهل الغوص، ميسور الصيد من لآلئ الألفاظ الفصيحة، وفنون البيان، وضروب المعاني، والبديع المستملح السائغ، دون ما تكلف أو معاناة، فهو معجم بذاته فريد، ودائرة معارف سريانية زاخرة. وبعد، فهذا غيض من فيض ترجمة حياة البطريرك أفرام الاول برصوم  الحافل بالأمجاد، رأينا أن ندرجها هنا لفائدة القارئ العزيز.

 

للأعلى