القديس موسى الحبشي

القديس موسى الحبشي

 

كاتب القصة:

إن أول من دون قصة موسى الحبشي الملقب بالأسود هو بلاديوس أسقف هلينوبليس (425+) الذي كان معاصراً له وعرفه معرفة جيدة (يخبرنا أنه كان حبشياً ولذلك يلقب بالأسود).

وقد نقلت هذه القصة إلى السريانية، ذلك أن علماء قد نقلوا، في العصور الأولى من اليونانية إلى السريانية تاريخ نساك مصر المعروف بكتاب فردوس الآباء من تأليف بلاديوس[1] ومن جملة قصصه قصة موسى الحبشي.

 

نشأة موسى

ولد في الربع الأول من القرن الرابع[2] ويخبرنا بلاديوس[3] أنه كان حبشياً ولذلك لقب. ويظن غيره أنه كان من إحدى قبائل البربر[4]. وعبداً لكبير القروم فيهم. وكان هؤلاء يعبدون الشمس. ونشأ شرس الطباع، حاقداً على اسياده، مشاكساً يلتذ بالعنف ويرهبه الناس ويتجنبونه، حتى أن سيده طرده اتقاء شره، وبلغ درجة من القوة والشراسة بحيث صار رئيس عصابة، للسرقة، والنهب، والقتل، تتألف من سبعين رجلاً، ويقال انه عبر النيل ذات مرة سباحةً والسيف بين فكيه ليقتل راعياً للانتقام، كان موسى أكثر أفراد القبيلة شراً، جباراً متجبّراً ويفتخر بقوته الجسمية، واتصف خاصة بالشراهة حتى قيل إنه كان يأكل خروفاً كاملاً ويشرب زق خمر في وقعة واحدة، وكان متمرغاً في الشهوات الدنيئة، لا يخجل من أحد.

 

اهتداؤه إلى المسيح:

ما بين العنف والقوة بون شاسع. ومن الناس من يتلذذ بأذى غيره، فيقتل، ويدمر، ويعذب، ويظن أنه صار بذلك قوياً جباراً، هذا هو العنف، والعنف قوة، ولكن ليس في مكانها الطبيعي، كالقطار الذي يخرج عن القضبان الحديدية التي وجدت ليسير عليها، فيندفع بعنف من مساره الطبيعي المحدد له. هكذا الإنسان اذا سلك بالعنف يكون قد خرج عن شريعة اللّـه والنواميس التي سنها له اللّـه تعالى ليسلك بموجبها، وبخروج هذا الإنسان على شريعة الرب يتحول إلى آلة بيد الشر، فيدمر ويهلك ويهدم فينهدم.

هكذا كان موسى انساناً قوي البدن جباراً، مرعباً مخيفاً وهداماً. ولكن اللّـه لم يتركه يخبط خبط عشواء في بيداء الخطية بل أيقظ ضميره، وجعله يبحث عن الإله الحقيقي وهو يخاطب الشمس التي كانت قبيلته تعبدها: «هل أنت الإله الحقيقي» ؟! ويقال أنه رأى رؤيا فكانت على أثر ذلك توبة مفاجئة[5] وصادف مرة أحد المزارعين ففرش له دخيلة أمره، وكشف أمامه سره، فأرسله هذا إلى الأنبا ايسيذوروس في برية شيهيت ليدله على الإله الحقيقي، فتقلد موسى سيفه واتجه نحو البرية وصادف شيوخاً عديدين ورهباناً وعبَّاداً قد تركوا العالم وفرزوا أنفسهم لعبادة اللّـه في زهد ونسك شديدين، وقابل الأنبا ايسيذوروس وارتعب هذا منه إذ رآه على تلك الحال وقد سمع عن جرائم كثيرة. ولكن موسى هدأ من روعه وطمأنه بأنه قد جاء إلى البرية مفتشاً عن الإله الحقيقي، ومما قاله: «لما سمعت أن رهبان وادي حبيب يعرفون اللـه لذلك أتيت إليك لتخبرني وتسأل اللّـه عني حتى لا يغضب علي لأجل شر أعمالي ولا يهملني لأجل قبائحي غير المحدودة»، وكان يقول هذا وهو يبكي بكاءً غزيراً[6] ولما سمع الأنبا ايسيذوروس ذلك أيقن أن اللّـه أرسله اليهم فشرع يعلمه مبادئ الإيمان المسيحي، ويعظه بكلام الرب ويشرح له عن الخلاص بدم السيد المسيح، وعن عواقب الإنسان الثلاث: الموت والدينونة والسعادة الأبدية أو العذاب الأبدي. ثم أخذه إلى الأنبا مكاريوس الكبير[7] فوعظه هذا بدوره أيضاً فذاب قلب موسى كما يذوب الشمع أمام النار، لقد أخذ اللّـه منه القلب الحجري، وأعطاه قلباً إنسانياً رقيقاً، وانكشف أمامه سر الحياة الأبدية، واستوعب معنى نعمة الخلاص بدم المسيح حيث حلت هذه النعمة في قلبه فتجاوب معها ورحب بالخلاص فناله.

 

اعترافه العلني بخطاياه:

وأذ أشرق نور الرب على موسى ملأ قلبه ضياء واحساساً بشناعة الخطية فأبغضها، وندم كثيراً على ما اقترفته يداه من جرائم كبيرة وآثام لا تحصى. وتاب عنها، وحتم أن لا يعود إلى عيشة الشر، وزالت رغبة العنف من رأسه وقلبه، واعترف علانية أمام المؤمنين في الكنيسة معدداً جميع خطاياه السالفة معلناً ندامته الصادقة. وكان الأنبا أبو مقار أثناء الإعتراف يشاهد لوحاً عليه كتابة سوداء وكلما اعترف موسى بخطيئة مسحها الملاك حتى اذا انتهى من الأعتراف وجد أبو مقار اللوح أبيض ناصعاً.

واختبر الآباء، مدة كافية من الزمن، صدق توبة موسى، ثم عمده الأنبا ايسيذوروس[8]، وعملت نعمة اللّـه في قلبه فصار إنساناً جديداً «إذاً إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة. الأشياء العتيقة قد مضت. هوذا الكل قد صار جديداً» ( 2كو 5: 17) وهكذا ارتاح موسى من عناء الخطية إذ لبَّى نداء الرب القائل: «تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم احملوا نيري عليكم وتعلموا مني. لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم لأن نيري هيِّن وحملي خفيف» (مت 11: 28).

واكتشف موسى أن العنف ليس قوة وإنما القوة تكمن في انتصار الإنسان على أهوائه الشريرة، وأن الإنسان ولئن كان ضعيفاً إذا اتكل على المسيح يسوع، بإمكانه أن يحيا حياة البر والقداسة لأن الرب يقول: «قوتي في الضعف تكمل» ( 2كو 12: 9) وهكذا أيقن موسى أن المسيح هو الطريق والحق والحياة، فآمن به سالكاً طريقه متمسكاً بحقه، وكان يحيا في المسيح فصار في سلام مع اللـه، ومع نفسه، ومع القريب.

 

الباسه الأسكيم الرهباني:       

وطلب موسى من الأنبا ايسيذوروس أن يلبسه اسكيم الرهبانية، فنصحه هذا أن يرجع إلى المدينة ويعيش حياة نقية كسائر المؤمنين الصالحين فيها. لأن حياة الرهبانية والنسك في البرية قاسية جداً، ولا يمكنه أن يتحملها بالمقارنة مع ماضيه، كما أنه سيصير هزءاً وسخرية اذا بدأ ولم يتمكن من أن يكمل ويرجع حينذاك إلى عيشته السابقة. أما موسى فأصر على أن يحيا في البرية وتضرع إلى مرشده أن يلبسه الاسكيم الرهباني، ولما تأكد ايسيذوروس من صدق نيته وميله الشديد إلى حياة الزهد ألبسه الأسكيم الرهباني.

وأبدى موسى في حياته هذه الجديدة غيرة وقَّادة فكان يواصل الصلوات المقترنة بالسجود ليل نهار، مكثراً من الأصوام الصارمة، وإذا أكل فكان يكتفي بوجبة واحدة في اليوم يتناول فيها قليلاً من الخبز اليابس والماء، ساكباً الدموع السخينة والسخية التي وصفت بأنها كانت مثل الماء الصاقي. كما كان يسهر أحياناً طوال الليل وعيناه مفتوحتان من غير رقاد، ودون أن يجلس على الأرض لئلا تأخذه قوة النوم اغتصاباً. وكان يرعاه في البرية مرشدان روحيان خبيران في حياة الرهبنة وهما الأنبا مكاريوس الكبير، والأنبا ايسيذوروس، وكان يطيعهما خاضعاً لأوامرهما، فاستقرت قدماه على صخرة التوبة النصوح[9].

 

بعض التجارب التي طرأت عليه:

وحاربه ابليس عدو الخير حرباً ضروساً لا هوادة فيها، فكان يزيِّن له لذة أهواء الجسد، وضرورة اتباعها، فهو كبشر، لابد من أن يأكل ويشرب جيداً ليغذي جسده، كما كان بدأ الصراع الداخلي العنيف بين حياته الأولى المليئة بالأثام وبين الحياة الملائكية الطاهرة التي يحياها في البرية بسلام مع اللّـه. وأخذ ابليس يثير في قلبه رغبة العنف حتى في ميدان محاربته ابليس ذاته، وكان يتوق إلى العودة إلى حياته الأولى عندما كان يلتذ بإيذاء الناس. ولما اشتدت عليه وطأة الأفكار الشريرة، وأنهكه الجهاد المستمر ضدها لدرجة أنه صار على قاب قوسين أو أندنى من السقوط باليأس والعودة إلى حياة الخطيئة، هرع إلى مرشده الروحي الأنبا ايسيذوروس طالباً اليه أن يخلصه من هذا المأزق الحرج، ويصلي لأجله لئلا يفقد النعمة التي نالها من الرب. فكان هذا يعزيه ويصلي معه ولأجله ويرشده قائلاً: «لا تحزن هكذا وأنت ما زلت في بدء الصعوبات ولمدة طويلة سوف تأتي رياح التجارب وتقلق روحك فلا تخف ولا تجزع وأنت إذا ثابرت على الصوم والسهر واحتقار أباطيل هذا الدهر سوف تنتصر على شهوات الجسد»[10] وأمره بأن يعود  إلى قلايته ويلزم الهدوء والسكينة فيها، فعاد الراهب موسى إلى قلايته ولازمها بحياة انفراد صارمة، ملتجئاً إلى الرب يسوع. وهكذا غلب ابليس بعد جهاد روحي اقترن بالانسحاق أمام اللّـه والاتكال التام عليه تعالى. فتخلص الراهب موسى من الرذائل، وبدأ بممارسة الفضائل.

 

التواضع من ثمار التوبة:

وأكثر ما تمسك به الراهب موسى هو فضيلة التواضع، ومن طريف أساليبه في ممارستها أنه كان يمر ليلاً بقلالي الشيوخ في الدير ويحمل جرارهم إلى البئر التي كانت تبعد عن الدير مسافة طويلة، ويملأ الجرار ماء ويعيدها إلى مكانها دون أن يعلم الشيوخ من فعل ذلك. وبعد سنين كثيرة، حسده إبليس وأبغضه كثيراً والتقاه مرة على البئر وضربه ضرباً مبرحاً كاد يودي بحياته، وتركه بين حي وميت. فجاء بعض الأخوة وحملوه ومضوا به إلى الكنيسة حيث أقام ثلاثة أيام، تماثل بعدها للشفاء. فعاد يمارس فضيلة التواضع كما فعل سابقاً متحدياً ابليس وجنده. ومرة اخرى ضربه ابليس بقرحة في رجله أقعدته طريح الفراش مدة ليست بقصيرة. ولما اكتشف أنها نوع من أنواع محاربة الشيطان له ازداد نسكاً، وزهداً، وعبادة، حتى صار جسده كخشبة محروقة. ومنّ عليه الرب بالشفاء لتحمله التجربة بتواضع وذلة وصبر جميل دون تذمّر أو ضجر.

ولمس مرشده الأنبا ايسيذوروس قوة ايمانه بالرب وأتكاله عليه في محاربة ابليس فقال له مرة: «وأنا أؤمن أيضاً بسيدي يسوع المسيح وأقول لك: باسم يسوع المسيح من الآن فصاعداً سوف تبطل الشياطين محاربتك»، وقال له أيضاً: «امضِ إلى البيعة المقدسة وتناول من الأسرار الإلهية»، وكان يواظب على تناول القربان المقدس. ومن ذلك الوقت عاش الأنبا موسى في سلام نسبي، وازداد حكمة، ونما في الكمال المسيحي والنعمة.

 

كرمه وحسن ضيافته:

وطارت له شهرة في الأسقيط وفي نترا، وقصده زوار كثيرون، واتصف خاصة بمحبة الغرباء والإهتمام بهم وضيافتهم والأعتناء بخدمتهم بتواضع واستقبالهم ببشاشة، وفي هذا الميدان قيل ان رهبان الاسقيط فرضوا مرة أسبوعاً يصومونه جميعهم فاتفق في أثناء ذلك أن ضيوفاً نزلوا على الراهب موسى فجعل يطبخ لهم، فلما رأى الرهبان الدخان المتصاعد من قلايته شكوه لكبارهم وحاولوا تأنيبه أمامهم، ولكن هؤلاء أجابوهم أن محبة القريب أفضل من الصوم وقالوا لموسى: لقد عصيت أوامر الناس لكنك حفظت وصية اللّـه التي هي المحبة ( يوحنا 13: 34) بما يدعو للعجب[11].

 

رسامته كاهناً:

بعد سنين عديدة اجتمع لديه نحو خمسمائة أخ فصار مرشداً لهم في حياة الرهبنة والزهد، وانتخبوه ليرسم كاهناً. فأراد الأسقف أن يمتحنه، فقال للكهنة: «اذا جاء الراهب موسى إلى المذبح اطردوه لنسمع ما يقول»، فلما دخل انتهروه وطردوه قائلين له: «اخرج أيها الأسود إلى خارج الكنيسة» فأطاع موسى وخرج. وسمعه أحد الشمامسة وهو يناجي نفسه قائلاً: «لقد فعلوا بك ما تستحق فأنت لست بإنسان، وقد تجرأت على مخالطة الناس وأنت أسود اللون فلماذا تجلس معهم؟».

ويقال أن الأنبا ايسيذوروس أخذه بعد هذه التجربة إلى مدينة الاسكندرية وقدمه إلى البطريرك ثاوفيلوس فوضع عليه اليد ورسمه كاهناً. وقيل أيضاً أنهم لما دخلوا به أمام المذبح وهمَّ البطريرك بوضع اليد عليه سمعوا صوتاً أتى من أعلى قائلاً: مستحق مستحق مستحق[12].

وقيل له بعد أن لبس ثوب الخدمة الكهنوتية الأبيض: «ها إنك قد صرت كلك أبيض يا أنبا موسى!»، أما هو فأجاب في اتضاع وقال: «ليت هذا يكون من الداخل كما من الخارج».

 

هروبه من المجد الباطل وعدم إدانته أحداً:

اشتهر الأنبا موسى بهروبه من المجد الباطل، فكان يحب الجلوس في القلاية مدداً طويلة دون أن يخرج منها، وهو منهمك بالصلاة ونسج الخوص. وقد قال مرة لأحد الأخوة: «امضِ واجلس في قلايتك، والقلاية سوف تعلمك كل شيء صالح».

وكانت محبته للقريب فائقة جداً «والمحبة تتأنى وترفق. المحبة لا تحسد، المحبة لا تتفاخر ولا تنتفخ ولا تقبِّح ولا تطلب ما لنفسها ولا تحتد ولا تظن السوء ولا تفرح بالإثم بل تفرح بالحق وتحتمل كل شيء وتصدق كل شيء وتصبر على كل شيء» (1كو 13: 4 ـ 7 ) لذلك لم يدن موسى أحداً أبداً.

ويحكى أن أحد الأخوة في الإسقيط اخطأ مرة، فانعقد مجلس الآباء لمحاكمته، واستدعي الأنبا موسى ايضاً، فامتنع عن الحضور فجاءه أحد الآباء يكرر عليه الدعوة قائلاً: «إن الآباء كلهم ينتظرونك» فقام وحمل وراء ظهره كيساً مثقوباً ملأه رملاً وجاء ووقف في وسط المجلس. فلما رآه الآباء هكذا سألوه قائلين: ما هذا أيها الأب الموقر؟ فأجابهم قائلاً: إنها خطاياي الثقيلة وراء ظهري تجري دون أن أبصرها، وقد جئت اليوم لإدانة غيري. فلما سمعوا ذلك غفروا للأخ المذنب[13]. ومن أقواله: «إياك أن تسمع سقطة أحد أخوتك لئلا تدينه خفية»، وقال أيضاً: «إنه الأفضل للإنسان أن يقدم ذاته للموت من أن يدين قريبه ويعيب عليه في أي شيء».

 

استشهاده:

وقد وهبه اللـه مواهب عديدة منها طرد الشياطين باسم المسيح ربنا يسوع. ويقال أن الشياطين كانت كالذباب تهرب من أمام وجهه. وكان يصلي على المرضى فينالون الشفاء.

وكان مرة مع الشيوخ في زيارة الأنبا مكاريوس الكبير، فقال القديس مكاريوس: إني أرى واحداً له إكليل الشهادة. فأجابه الأنبا موسى متنبئاً عن نفسه قائلاً : لعلي أنا هو لأنه مكتوب: «الذين يأخذون بالسيف بالسيف يهلكون» (مت 26: 52) ولم يمض على هذه النبؤة مدة طويلة، حتى كررها الأنبا موسى بوضوح قائلاً للأخوة: «سوف يقبل البربر اليوم إلى البرية فأهربوا أنتم»،  قالوا له: «ألا تريد أنت الهرب يا أبانا؟» أجابهم قائلاً: «طوال هذه السنين وأنا أنتظر هذا اليوم»، قالوا: «نحن أيضاً لا نهرب ولكن نموت معك» فأجابهم قائلاً: «هذا ليس شأني إنما هي رغبتكم، ليهتك كل شخص بنفسه»، وكانوا سبعة أخوة. وبعد برهة من الزمن قال لهم: «هوذا البربر يقتربون إلى الباب، فدخل البربر وقتلوهم ولكن واحداً[14] منهم كان خائفاً فهرب واختبأ بين الحصر ورأى سبعة أكاليل نازلة من السماء توجت الستة وبقي السابع، فتقدم السابع أيضاً ونال معهم إكليل الشهادة، وكان ذلك حوالي سنة 408م وكان عمر القديس موسى نحو 75 سنة[15] وهو أول شهيد في آباء برية السقيط.

وكان البربر للمرة الأولى يهجمون على تلك البرية وقد سبب هجومهم تشتت الرهبان وظلت البرية خربة بعض الوقت ومهجورة.

وذكر الأنبا موسى في السنكسار القبطي هو في 24 بونه المصادف 18 حزيران، وتذكره الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في مجمع القديسين في القداس الإلهي وفي التسبحة. وجسده الأن في دير برموس في برية ( أبو مقار).

 

أقوال مأثورة للقديس الأنبا موسى الأسود:

–  خوف اللّـه يطرد جميع الرذائل، والضجر يطرد خوف اللّـه.

كما يفعل السوس في الخشب كذلك الرذيلة في النفس.

أربعة هي عون الراهب الشاب : الهذيذ في ناموس اللّـه كل ساعة، ومداومة السهر، والنشاط  في الصلاة، وألا يعتبر نفسه شيئاً.

–  أربعة مصدر ظلمة العقل: مقت الرفيق، الإزدراء به، وحسده، وسوء الظن به.

–  الحفظ من الفكر الرديء يأتي من: القراءة في كتب الوصايا، طرح الكسل، القيام في الليل للصلاة والإبتهال، التواضع دائماً[16].

الكحول الهدامة:

– لا تحب الخمرة لئلا تحرمك من رضى الرب[17].

العفة:

الذي يتهاون بعفة جسده يخجل في صلاته[18]

قهر الشهوة يدل على تمام الفضيلة، والإنهزام لها يدل على نقص المعرفة[19].

النوم:

– الشبع من النوم يثير الأفكار، وخلاص القلب هو السهر الدائم. النوم الكثير يولد الخيالات الكثيرة، والسهر بمعرفة يزهر العقل ويثمره. من ينام بمعرفة هو أفضل ممن يسهر في الكلام الباطل[20].

ضبط اللسان:

كمثل بيت لا باب له ولا أقفال، يدخل اليه كل من يقصده، كذلك الإنسان الذي لا يضبط لسانه.

من يهتم بضبط لسانه فهو محب الفضيلة، وعدم ضبط الانسان لسانه يدل على أن داخله خال من أي عمل صالح.

احفظ لسانك ليسكن في قلبك خوف اللّـه[21].

تعب الجسد:

اتعب جسدك لئلا تخزى في قيامة الصدّيقين.

اذا سكنت مع أخوة فلا تأمرهم بعمل ما. بل اتعب معهم لئلا يضيع أجرك.

لا تحب الراحة ما دمت في هذه الدنيا[22].

أعمل لأن البطالة مفسدة النفس:

– إياك والبطالة لئلا تحزن، أحرى بك ان تعمل بيديك ليصادف المسكين منك خبزة، لأن البطالة موت وسقطة للنفس[23].

الوحدة:

لا يكن لك رجاء في هذا العالم لئلا يضعف رداؤك في الرب.

أبغض كلام العالم كي تبصر اللّـه بقلبك لأن الذي يخلط حديثه بحديث أهل العالم يزعج قلبه[24].

الجهاد:

من يتحمل ظلماً من أجل الرب يعتبر شهيداً. ومن يتمسكن من أجل الرب يعوله الرب. ومن يصر جاهلاً من أجل الرب يحكمه الرب. وقد شرح الأنبا موسى أقواله هذه بالتفصيل في خطاب أرسله إلى الأنبا نومين[25].

اليقظة في الصلاة:

كن متيقظاً في صلاتك (أي اجمع عقلك وفكرك) لئلا تأكلك السباع الخفية.

لنقتن لأنفسنا الشوق إلى اللّـه. فإن الاشتياق اليه يحفظنا من الخطية.

ينبغي لنا أيها الحبيب أن نجتهد بقدر استطاعتنا بالدموع أمام ربنا ليرحمنا بتحننه. لأن الذين يزرعون بالدموع يحصدون بالفرح[26].

 

دير مار موسى الحبشي في النبك ـ سوريا:

يذكر التاريخ الكنسي شخصين باسم (مار موسى الحبشي) كان أحدهما رئيس عصابة لصوص وتاب وترهب في مصر وقد أوردنا سيرته بالتفصيل أنفاً.

أما الآخر فهو من قديسي أواخر القرن السادس وأوائل السابع للميلاد، وكان من سلالة ملوك الحبشة ترك البلاط الملك وزهد بالدنيا، ولبس السكيم الرهباني، وقصد سوريا وتنسك في دير سرياني أرثوذكسي شيد في أوائل القرن السادس بجوار النبك. وسمي باسمه بعدئذ. وذلك أنه نال اكليل الشهادة على يد هرقل أحد أباطرة بيزنطة ( 610 – 641) لتمسكه بالعقيدة الأرثوذكسية بعروة وثقى ورفضه مجمع خلقيدونية ومذهب الملك البيزنطي. فان هرقل هذا بعد عودته من حرب الفرس عرج على الدير الواقع في الجبل المسمى بالجبل المدخن قرب النبك، فقتل العديد من رهبانه من جملتهم الأب موسى الحبشي، وتشتت الآخرون لرفضهم المذهب الخلقيدوني[27] ويذكر لمار موسى الحبشي هذا عجائب لا تحصى.

وكانت أصبع القديس الشهيد محفوظة في ديره حتى سنة 1870 ثم نقلت إلى مكان مجهول.

وجدد بناء هذا الديرعام 1556 وصار كرسياً أسقفياً في أواخر القرن الرابع عشر وتخرج فيه بطركان وعشرون أسقفاً، وكان يحوي مكتبة عامرة، وجلس عليه أساقفة أفاضل كان آخرهم ايوانيس الياس بن يشوع الأصفر الموصلي من دير مار متى الذي رسم مطراناً لدير مار موسى الحبشي والنبك وعمَّر الدير من ماله الخاص وتوفي غريباً في قارة عام 1832 مغلوباً على أمره لرسامة خلفه ضده، وكان رئيساً للدير حتى 30 آب 1931 ثم  خلفه غريغوريوس متى نقار المكار الذي التحق بالباباوية واغتصب هذا الدير منا بنفوذ سياسي أجنبي[28] ومنذئذٍ صار دير مار موسى الحبشي بيد السريان الكاثوليك وأمسى خراباً.

واشتهر الدير باللوحات الفنية الجميلة التي نقشت على جدرانه وما زبر من صور وزخارف على أعمدة كنيسته.

 

 

 

الهوامش

———————————————————

(1)ـ الؤلؤ المنثور للبطريرك أفرام الأول برصوم طبعة بغداد ص 149 وللقصة بالسريانية نسخ عديدة أهمها مخطوطة دير الزعفران رقم 117.

(2)ـ كتاب القديس أنبا موسى الأسود طبعة مدارس الأحد لكنيسة السيدة العذراء بمحرم بك – مصر عام 1967 ص 17 وقد ذكر مكسيموس مظلوم في كتاب الكنز الثمين في أخبار القديسين أنه ولد حوالي سنة 340م وقال غيره بل عام 239م.

(3)ـ ذكر بعض المؤرخين أن الأنبا موسى كان حبشياً وقال غيرهم أنه كان من اهل النوبة والحقيقة أن لون بشرته كان أسود فظن بأنه حبشي. ومما يؤيد أنه لم يذكر اسمه في مجمع التسبحة أو القداس الإلهي وحتى في القراءات الكنسية الأخرى. أما سبب هذا الإلتباس فهو ان بعضهم قد خلطوا بين الشعوب المنتمية الى العرق الأسود فقد وردت في بعض ترجمات الكتاب المقدس عن الوزير الذي عمده الشماس فيليبس بأنه حبشي ووزير قنداقة ملكة الحبشة (أع 8: 27) والحقيقة أنها كانت ملكة سبأ أي اليمن التي عرفت بالتاريخ باسم بلاد الحميريين، كما يذكر ذلك مار أفرام في ميمره (الجوهرة) ومار يعقوب الرهاوي في رسالته الى يوحنا الاتابي، وابن الصليبي في مقدمة الفصول العشرة. من هنا نستنتج أن موسى الاسود ولئن دعي أحياناً حبشياً فهو قد يكون مصرياً من أحدى قبائل البربر ولسواد لون بشرته ظن بأنه حبشي.

(1)ـ قبائل البربر.

(1)ـ أديرة وادي النطرون – دكتور منير شكري عام 1962 ص 73.

(2)ـ مخطوطة المتحف القبطي رقم 496.

(3)ـ الأنبا مقار المصري المعروف أيضاً بمكاريوس ولد مسيحياً حوالي سنة 301م انضم الى رهبان وادي النطرون  تحت قيادة الأنبا امون حوالي 230 وقد أمضى فترةً كافية من الزمن في هذا الوادي أقام أثناءها للرهبان الذين التفوا حوله ديراً عرف باسم دير أبي مقار بلغ عدد الرهبان الذين انضموا اليه فيه نحو 1500 راهب.. ثم انتقل الى المنطقة المرتفعة الواقعة شمال شرقي هذا الوادي والتي لم تكن معروفة بأي اسم الى ذلك الحين ثم عرفت بعدئذ باسم شيهات أو برية الأسقيط من عبارة معناها الناسك وتبعه الى هناك بعض الرهبان الذين أقاموا قلالي شيدوها بأنفسهم. وكانوا يحصلون على ما يلزمهم من الماء من موارد تقع على مسافات بعيدة. وقد اشتغل الرهبان في أوقات فراغهم بصنع السلال ليضمنوا ببيعها قوتهم الضروري وكان جل وقتهم مشغولا بالعبادة…

وكان الأنبا مقار قد تتلمذ على الأنبا أنطونيوس الكبير الذي ألبسه اسكيم الرهبنة كما أنه رسم قساً حوالي سنة 340م ليقوم بتأدية الخدمة الكنسية وتقديم الأسرار المقدسة لجماعة رهبانه الذين التفوا حوله في برية شيهات(بوادي النطرون) فأقام لهم ديراً عرف أولاً باسم مكسيموس ودوماريدس وهما ابنا الامبراطور خالتس المسيحي ( 364- 378م) ثم أطلق عليه فيما بعد (دير البراموس) وقد بلغ عدد رهبان هذا الدير في وقت ما 1500 راهب وأما كلمة براموس هذه مشتقة من اللفظ القبطي (باروميوس).

وقد اتخذ الأنبا مقار الكبير أربعة مساكن مختلفة في الصحراء كان ينتقل بينها أحدها في منطقة شيهات الداخلية وآخر في جهة تدعى ليبوس وثالث بمنطقة القلالي ورابع على جبل نيتريا وكان بعضها لا يحتوي على أي منافذ كما كان أحدها من الضيق بحيث لا يتسع لمد رجله داخله. وكان أحدها معدّاً لمقابلة زواره ومريديه.

ففي سنة 357م سافر الى جزيرة فيلا باسوان فبشر أهلها بالمسيحية فاعتنقوها يتأثير المعجزات التي أجراها اللّـه على يديه. ثم صدرت الأوامر بعودة القديس الى مقره في برية شبهات حيث استأنف عمله في ارشاد وتثبيت رهبانه وتدبير شوؤنهم.

وكتب رسائل لاهوتية دحض فيها مزاعم الفلاسفة الوئنيين نقلت الى الفرنسية وطبعت في باريس.

وقد تنيح بسلام في حوالي سنة 391 وقد بلغ من العمر تسعين سنة.

(4)ـ مخطوط المتحف القبطي رقم 496.

(5)ـ كتاب القديس الأنبا موسى الأسود – مدارس أحد كنيسة السيدة العذراء ص 10.

(6)ـ بستان الرهبان لأباء الكنيسة القبطية بالعربية طبعة مطرانية بني سويف عام 1968م ص 64.

(7)ـ الخريدة النفيسة في تاريخ الكنيسة لايسيذوروس. طبعة مصر 1923 مج 1 ص 569.

(8)ـ عن مخطوطة المتحف القبطي.

(9)ـ بستان الرهبان ص 68 وبلاديوس ص 122.

(10)ـ بستان الرهبان ص 68 وجاء في الحاشية ما يأتي: روت المخطوطة 357 طقس بالمتحف القبطي في القاهرة «أن هذا الأخ الذي هرب واختفى، أبصر ملاك الرب والأكاليل بيده وللوقت خرج مسرعاً أمام البربر فقتلوه ونال أكليل المجد من يد الملاك».

(11)ـ كتاب القديس موسى الأسود مكتبة كنيسة العذراء بمحرم بك ص 65 عن مخطوطة قبطية باللهجة الصعيدية بكتاب le manuserite de le verrion copte   ومخطوطة بالمتحف القبطي بالقاهرة رقم 357 طقس.

(12)ـ عن بستان الرهبان ص 69 و71.

(13)ـ فيه صفحة 169.

(14)ـ فيه صفحة 196.

(15)ـ فيه صفحة 201.

(16)ـ فيه صفحة 202.

(17)ـ فيه صفحة 207.

(18)ـ فيه صفحة 218.

(19)ـ فيه صفحة 129.

(20)ـ فيه صفحة 227.

(21)ـ فيه صفحة 259.

(22)ـ فيه صفحة279 و 280.

(23)ـ الخريدة النفيسة – الأسقف ايسيذوروس – مصر مج1 ص 566.

(24)ـ تاريخ الأبرشيات السريانية للبطريرك العلامة أفرام الأول برصوم – المجلة البطريركية السريانية السنة الخامسة عام 1938 ص 145 والسنة السادسة عام 1939 ص 137 – 139 وأوراق متناثرة مخطوطة بالعربية له أيضاً. واللؤلؤ المنثور له طبعة بغداد 1976 ص 515.

 

للأعلى