رسائل عن الروح القدس إلي الأسقف سرابيون

مركز دراسات الآباء

نصوص الآباء

الرسائل عن الروح القدس

إلى الأسقف سرابيون

ترجمها عن اليونانية وأعد المقدمة والملاحظات

دكتور موريس تاوضروس والدكتور نصحي عبد الشهيد

للقديس أثناسيوس الرسولي

مايو 1994

 

مقدمة

أولاً تاريخ كتابة الرسائل عن الروح القدس:

يرجع تاريخ هذه الرسائل إلى فترة النفي الثالث للقديس اثناسيوس بين فبراير سنة 356م – ونوفمبر سنة 361م. ونعرف من كتاب أبيفانيوس عن الهرطقات (Haer. Lxxiii-25) أن بتوليماييس Ptolemaeus حضر مجمع سلوكية سنة 359م، كأسقف لـ Thmuis تمويس ([1])، فلو اننا استنتجنا من هذا أن القديس سرابيون كان قد انتقل في ذلك الوقت، لكانت مشكلة تحديد تاريخ كتابة هذه الرسائل، أسهل جداً. ولكن هناك احتمال انه كان في ذلك الوقت منفياً أو مبعداً. كما أن هناك دليل ما يوضح انه كان لا يزال حياً بعد هذا التاريخ. ففي كتاب “لاونتيوس Leontius,” (Adv. Froudes, Apollinaristram) هناك فقرة من خطاب مرسل من ابوليناريوس إلى سرابيون، يمدح رسالة ارسلها اثناسيوس إلى كورنثوس عن التجسد. هذه الفقرة لا يمكن الا أن تكون اشارة إلى رسالة اثناسيوس إلى ابكتيتوس “Ad. Epictatus”.

وللأسف فإن تاريخ هذه الرسالة يصعب تحديده.

ونأخذ في اعتبارنا ما يأتي:

1- كان اثناسيوس في البرية، وكان أعداؤه يبحثون عنه بتحفز (رسالة 1 : 1).

ومن الواضح أن اثناسيوس لم يغادر الاسكندرية حتى وقت متأخر في سنة 358م. فجدول تعييد الفصح (Festel Index)، يتحدث عنه على انه مختفي في المدينة خلال عامي 357-358م. وفي أواخر صيف سنة 358م، كانت المشاعر تتصاعد بشدة ضد الأريوسيين، حتى أن البطريرك المغتصب جوارجيوس، تم طرده، واستعاد الارثوذكس ملكية الكنائس لعدة أسابيع. وعندئذ شدد رجال السلطة قبضتهم، وفي ديسمبر من نفس العام دخل “سبستيان Sebastian” الاسكندرية. وتتحدث الرسالة الفصحية رقم 32 (Fest. Ind xxxiii) عن أن “ارتيميوس Artemius” كان يبحث عن اثناسيوس في سنتي 359م و360م. ونعرف أن بحث ارتيميوس عنه امتد حتى طيبه ([2]). ويبدو مرجحاً جداً أن اثناسيوس يشير في هذه الرسالة عن نشاط ارتيميوس في البحث عنه.

2- لم يكن اثناسيوس محتاجاً أن يضيف شيئاً إلى ما سبق أن كتبه ضد الأريوسيين (1 : 2). وهذا يعني بالضرورة أن المقالات الثلاثة ضد الأريوسيين (C. Ar. 1-III) كانت قد كتبت قبل ذلك وانتشرت.

أما زمن كتابة هذه الرسائل عن الروح القدس فقد اختلف الباحثون في تحديده فيما بين سنة 338م وحتى سنة 359م.

فيرجح تشابلاند “C. R. B. Shapland” أن تاريخ كتابة الرسائل هو حوالي 358م وليس قبل ذلك، ويعطي الأسباب لترجيح هذا التاريخ:

(أ) أن الرسائل كتبت ضد أشخاص كانوا قد انفصلوا عن الأريوسيين. ورغم انه لم يحدد تاريخ انفصالهم عنهم الا انه من المقبول أن نفترض انه لم يحدث قبل فترة طويلة من مكاتبة سرابيون إلى اثناسيوس. مثل هذا الانفصال عن الأريوسية يتوافق تماماً مع رد الفعل ضد سوء معاملة الأسقف الدخيل جوارجيوس الكبادوكي في سبتمبر – أكتوبر 358م.

(ب) ذكر الأونوميين في رسالة 4 : 5، يشير إلى نفس الاتجاه. فأثناء زيارة أونوميوس للإسكندرية سنة 356م – 358م، يبدو أنه كان يشغل وضعاً ثانوياً كسكرتير لـ اتيوس “Aetius”، ولكن بعد رحيله إلى انطاكية فيما بعد، صار في طليعة الأونوميين.

(جـ) وأخيراً يلزمنا أن نأخذ في اعتبارنا العلاقة بين هذه الرسائل، وبين كتاب المجامع “De Synodis” فالتأكيد على الكيان الشخصي “Personel Subsistance” لكل من الآب والابن والروح في رسالة 1 : 28، 2 : 3 والتفسير الذي يعطيه “لكلمة” “Omoousion” – “أوموأوسيون” – والتي تعني: من نفس الجوهر مع الآب أي التساوي في الجوهر، في نفس الموضع، انما يؤكد بالأحرى على التساوي بين الأقانيم الثلاثة أكثر مما يركز على وحدتهم.

ثانياً: من هم “الـ تروبيكيون” “Tropici”؟

(أ) اشارات القديس اثناسيوس عنهم:

يذكر القديس اثناسيوس في رسالته الأولى إلى سرابيون، “الـ تروبيكيين” (المحرفين) أربع مرات:

1- (1 : 10) في الرسالة الأولى الفصل العاشر يقول عنهم: “لكن هؤلاء، الذين “المحرفون” قد اتفقوا مع الأريوسيين واقتسموا معهم التجديف على اللاهوت. فبينما قال الأريوسيون واقتسموا معهم التجديف على اللاهوت. فبينما قال الأريوسيين عن الابن انه مخلوق، قال هؤلاء عن الروح القدس انه مخلوق. لقد تجاسر “المحرفون” أن يجدوا لأنفسهم طرقاً وان يسيئوا تفسير أقوال الرسول بولس عندما كتب إلى تيموثيئوس: “أناشدك أمام الله والرب يسوع المسيح والملائكة المختارين..” هؤلاء يؤكدون انه طالما أن الرسول قد سمى أولاً: الله والمسيح ثم بعد ذلك سمى الملائكة، فيلزم أن يحسب الروح القدس مع الملائكة ويكون من طغمتهم، وهو ملاك أعظم من الملائكة الآخرين”.

2- (1 : 17) في الفصل السابع عشر من الرسالة الأولى يقول عنهم القديس اثناسيوس: “الأريوسيون اذ لم يستطيعوا أن يدركوا كيف أن الثالوث القدوس غير قابل للتقسيم جعلوا الابن واحداً من المخلوقات، أما “المحرفون” فيحسبون الروح القدس ضمن المخلوقات.

3- (1 : 21) في الفصل الحادي والعشرين من الرسالة الأولى يقول عنهم القديس اثناسيوس: “وفيما يخص أقوال كل من النبي والرسول، التي خدعوا أنفسهم بتحريفهم اياها، فان هذه الاعتبارات تكفي لكي تبين أقوال هؤلاء “المحرفين” الشريرة، التي أدى اليها جهلهم.

4- (1 : 32): وفي الفصل الثاني والثلاثون من الرسالة الأولى يقول عنهم القديس اثناسيوس: “ولكن ابتداع “المحرفين” غير المعقول والخرافي يتناقض من ناحية مع الكتب المقدسة ومن ناحية أخرى يتفق مع عدم عقلانية الأريوسيين المجانين. أنه من الطبيعي بالنسبة لهم (أي المحرفين) أن يتظاهروا هكذا ليخدعوا البسطاء.

(ب) كان أريوس يعتقد أن الروح القدس من جوهر مختلف عن جوهر الآب ورغم أن مسألة الروح القدس لم تثر في مجمع نيقية (325م) الا أن عدم اعتراف الأريوسيين بألوهية الابن وعدم اعتبارهم اياه انه من جوهر الآب نفسه، كان يتضمن ايضاً عدم الاعتراف بألوهية الروح القدس دون أن يكون ذلك واضحاً في البداية. كل هذا مهد الطريق بعد أن هدأت الثورة الأريوسية قليلاً، إلى ظهور أفكار عند البعض لا تعترف أن الروح من نفس جوهر الآب والابن. فالأريوسيون المتأخرون – مثل اتيوس (Aetius) وأونوميوس (Eunomius)، يعتبران الروح القدس انه أسمى المخلوقات التي خلقها الابن بناء على أمر الآب، كما يعتبرونه مصدر الاستنارة والتقديس.

وفي سنة 359م أو 360م، أخبر القديس سرابيون أسقف تمويس (Thumuis)، القديس اثناسيوس في رسالة أرسلها اليه، أن هناك مجموعة من المسيحيين في مصر لا يؤمنون بألوهية الروح القدس رغم انهم يعترفون بألوهية الابن، وقد رد القديس اثناسيوس على رسالة الأسقف سرابيون بهذه الرسائل التي يسمى فيها هؤلاء الأشخاص بالـ “تروبيك” “Tropici”، نظراً لأنهم يفسرون نصوص الكتاب التي تتعارض مع تعليمهم تفسيراً مجازياً. فهم يقولون أن الروح القدس مخلوق من العدم (أنظر الرسالة الأولى: فصل 1، 17، 26). وعلى وجه التحديد يقولون أن الروح القدس ملاك أعلى من بقية الملائكة في الرتبة، ولكنهم يحسبونه ضمن الأرواح الخادمة المذكورة في عبرانيين 1 : 14 (أنظر الرسالة الأولى: فصل 1)، ونتيجة لذلك فهو حسب رايهم من جوهر آخر مختلف عن جوهر الآب والابن (رسالة 1 : 2).

+ ومن المحتمل جداً أن “التروبيك” رغم انهم كانوا سابقين لمن سموا “بمحاربي الروح” المتأخرين عنهم، الا انهم كانوا بدعة محلية في مصر، ولم يكن لهم علاقة مباشرة “بمحاربي الروح” المعاصرين لانعقاد مجمع القسطنطينية المسكوني الثاني سنة 381م.

وإذا قارنا بين تعليم “التروبيكيين” وبين تعليم “محاربي الروح” المتأخرين الذين اشتهروا باسم “المقدونيين”، نجد أن هناك جوانب تشابه هامة، كما أن هناك بعض نقاط اختلاف ذات أهمية: “فالمقدونيون” لا يدعون “الروح”، “رباً”، كما انهم يرفضون أن يمجد مع الآب، فهو عندهم ليس “عاملاً مع الله” “Sunergos” لأنه لا يخلق ولا يعطي الحياة، وهو مثل الملائكة “خادم” “Hyperetis” لله، “وأداة” له. ومع ذلك فلا يعتبر ملاكاً، ولا أحد المخلوقات. وهو ليس غير مشابه للآب والابن، فهو “الهي” “Theon” ولكنه ليس “الهاً” “Theos”، وهو مبتدئ ولكنه ليس مخلوقاً، وهو فرد متميز، وله “طبيعة متوسطة”. أما تعليم التروبيكيين فهو بالمقارنة مع “المقدونيين” يعتبر بعيداً عن الغموض، وذا وضوح قاطع وتفكير متناسق، فهم يقولون أن الروح مخلوق يختلف عن الملائكة في الدرجة فقط. فهو عندهم في واقع الأمر ملاك كما انه مخلوق (أنظر الرسالة الأولى: 1، 10). كما انه عندهم لا يشبه الابن.

ويلاحظ أن كل من “التروبيكيين” و”المقدونيين”، أدعوا انهم يؤسسون أن “التروبيكيين” يستشهدون بثلاث آيات، فان المقدونيين يستندون في تفسيراتهم عن الروح إلى العديد من الآيات، ويشرحونها بطريقتهم. فقد استخدموا مجموعة من المقاطع التي استخرجوا منها، أن الروح أقل من الآب والابن، أو أن تلك المقاطع في مدلولها تبدو كما لو كانت تعني أن الروح ليس له مكان في الحياة الالهية ولا في فاعليتها – ولكن يلاحظ أن الآيات الثلاث التي أستند اليها “التروبيكيون” هي ضمن الآيات الكثيرة التي استخدمها المقدونيون في نظرتهم للروح القدس.

ثالثاً: تعليم القديس اثناسيوس عن الروح القدس:

بالنسبة للقديس اثناسيوس، فان التعليم عن الروح القدس مرتبط بعلاقة وثيقة جداً بالتعليم عن الابن. ويصر القديس اثناسيوس على هذه العلاقة الوثيقة بين الابن والروح ويؤكد أن “التروبيكية” تتناقض مع تعليم الكنيسة الثابت. وهذا التقييم الذي وصل إليه القديس اثناسيوس من جهة هذه البدعة، ليس مجرد خطة تكتيكية لدحض مقاوميه بل هو مبدأ سليم حسب أساسيات العقيدة. فان قضية الروح القدس نشأت من داخل الحديث عن قضية الابن، فقد كانت قضية الروح محنة من داخل محنة أخرى. فالعقيدة المسيحية عن الله في شموليتها، كانت تعتمد على هذه القضية. فلو كان القديس اثناسيوس قد استسلم للتروبيكيين أو أذعن لهم في احتساب الروح مع المخلوقات، لأقتضى منه هذا أن يتخلى عن كل ما جاهد لأجله. ويمكن أن نفهم إلى أي مدى كان القديس اثناسيوس متحققاً بوضوح من هذه العلاقة، من اشاراته إلى الروح في مقالاته الثلاث ضد الأريوسيين (C-Arianos I-III): وهي كالآتي:

1- الروح القدس مرسل ومعطى بواسطة الابن كخاصته (ضد الأريوسيين 1 : 47، 48).

2- المساواة بين الروح والابن (ضد الأريوسيين 1 : 50).

3- الروح هو بنوع خاص عطية الله، وارساله من الابن يثبت الوهية الابن (ضد الأريوسيين 2 : 18).

4- الروح في الثالوث هو كنشاط النور الذي في الشعاع الآتي من الشمس (ضد الأريوسيين 3 : 15). وقد أوضح القديس اثناسيوس هذه العلاقة بين الروح والابن (في الرسالة الأولى إلى سرابيون: 19) اذ يقول: (حيث أن الآب نور والابن هو شعاعه… فيمكننا أن نرى في الابن “الروح” الذي بواسطته نستنير).

5- الله حال فينا، بسكنى الروح القدس (ضد الأريوسيين 3 : 24).

هذه الاعتبارات تكفي للرد على القول بأن الايمان بألوهية الروح القدس، هو أمر التقطه اثناء سفرته في روما والغرب. فتعليمه عن الروح ليس مجرد فضلة زائدة ملصقة بعقيدته في الابن. فالتعليم عن الابن والتعليم عن الروح ينبع كل منهما من الآخر بطريقة طبيعية وحتمية. فالتعليمان متكاملان تماماً. ولكن لإصرار اثناسيوس على اننا نستقي معرفتنا للروح من معرفتنا للابن، فانه يكشف ليس فقط تقديراً دقيقاً للاتجاه المعاصر له من جهة الفكر اللاهوتي، بل ايضاً فهماً عميقاً وقوياً لموضوعه.

ونحن نجد هنا عند اثناسيوس مرة أخرى مفهوم العهد الجديد عن الروح القدس: انه روح الابن، ليس فقط لأن الابن يعطيه ويرسله، بل لأن الروح هو الذي يحقق حياة المسيح فينا. فخدمة الروح القدس هي خدمة الابن، وكل ما يعمله الابن انما يتحقق في الروح القدس (رسالة 1 : 19، 20). ويمكننا أن نقول بحق عن اثناسيوس ما قاله ليبرتون J. Lebreton أحد الكتاب المعاصرين عن بولس: “المسيح يقف وراء فهمه للروح”. يقول القديس اثناسيوس: لأنه لا يوجد شيء لم يخلق ولم يعمل بالكلمة في الروح” (رسالة 1 : 31). فهذه الصيغة: “بالكلمة في الروح” المبنية على 1كو 8 : 6، و1كو 12 : 3 وغيرهما تتكرر مرة بعد أخرى في هذه الرسائل: (رسالة 1 : 9، 12، 24، 25، 30، ورسالة 3 : 5). فعمل اللاهوت كما يفهمه القديس اثناسيوس يبتدئ من الآب ويتحقق بواسطة الابن في الروح القدس. اذ يقول القديس اثناسيوس:

1- الروح هو الانيرجيا – energeia أي energy والانيرجيا تعني الفعل أو القوة أو الطاقة أنظر رسالة 1 : 20 اذ يقول: “القوة الحيوية والعطية التي بها يقدس الكلمة الحي ويضيء، تنبثق من الآب، لأنها من الابن الذي يعترف انه من الآب، فالآب يرسل الابن والابن يرسل الروح”. وأنظر رسالة 1 : 30 حيث يقول في تعليقه على 1كو 12 : 4-6 حينما يتكلم الرسول بولس عن “المواهب”، و”الخدم”، وأنواع “أعمال”، (انيرجيا – energy)، فيقول الآتي: “المواهب التي يقسمها الروح لكل واحد تمنح من الآب بالكلمة. لأن كل ما هو من الآب هو من الابن أيضاً. واذن فتلك الأشياء التي تعطى من الابن في الروح هي مواهب الآب. وحينما يكون الروح فينا، فالكلمة الذي يعطي الروح يكون ايضاً فينا”.

2- يقول القديس اثناسيوس أن “الأشياء المخلوقة بالكلمة تنال قوة الوجود من الكلمة بالروح” (رسالة 3 : 5). وهذه العبارة تعني أن القديس اثناسيوس ينظر إلى الروح على انه هو الذي يعطي تحقيقاً واقعياً لقوة الله وعمله. ويبلغ بالعمل إلى غايته المحددة.. فالروح هو روح القوة والمعطي الحيوية ومكمل أعمال الله.

ويقول اثناسيوس عن الروح انه “النور” الذي به نستنير اذ يقول: (حيث أن الآب نور والابن هو شعاعه.. ويمكننا أن نرى في الابن “الروح” الذي بواسطته نستنير.. ولكن حينما نستنير بالروح فالمسيح هو الذي ينير في الروح لأنه يقول: “كان النور الحقيقي الذي ينير كل انسان آتياً إلى العالم” (يو 1 : 9). فـ “الشعاع يدل على ما تشعه الشمس، و”النور” يدل على ما تستقبله العين، وهو الذي يحقق ويكمل كل عملية الإنارة في المتقبل الذي يستنير. هذا الخط الفكري يرتبط في يسر شديد بعمل الروح في تقديس المخلوقات. ومن هذه الناحية فان اثناسيوس يفكر في الخلق والتقديس كعمل واحد، ولذلك ففي عرضه لخدمة الروح في الرسالة (الأولى: 22 – 24) يتناول فاعليته في الخلق، لا بصورة مستقلة بل كما لو كانت ضمن اطار فاعلية الروح التقديسية. وكان هذا ميسوراً جداً بالنسبة لاثناسيوس بسبب تعليمه عن الخلق ذاته، كما جاء في الرسالة إلى الوثنيين حيث قال: (لهذا صنع (الله) كل الأشياء بكلمته الأزلي، وأعطى الخليقة جوهرها الخاص.. ونظراً لصلاحه يرشد كل الخليقة ويركزها بكلمته الذي هو نفسه الله ايضاً، لكي يكون للخليقة نور تدبير ورعاية وتنظيم “الكلمة” (اللوغوس)، ولكي تتمكن من أن تستقر آمنة دواماً، لأنها تشترك مع الكلمة الذي يستمد الوجود الحقيقي من الآب، وتستمد منه المعونة للوجود لئلا يصيبها ما كان ممكناً أن يحل بها لولا بقاؤها بواسطة اللوغوس، أي لئلا يصيبها الانحلال، لأنه هو “صورة الله غير المنظورة، بكر كل خليقة، فانه به وفيه كل الاشياء كائنة، ما يرى وما لا يرى، وهو رأس الكنيسة” (كو 1 : 15-18) كما يعلم خدام الحق في كتاباتهم المقدسة (فصل 41 : 3). وجاء في كتابه “تجسد الكلمة” ما يلي:

“لأن الله.. خلق كل الاشياء من العدم بكلمته يسوع المسيح ربنا. وفضلاً عن ذلك، فانه اذ تحنن بصفة خاصة على الجنس البشري دون سائر المخلوقات على الأرض، واذ رأى ضعفه – بطبيعة تكوينه – عن أن يبقى في حال واحدة، منحه نعمة أخرى، فانه لم يكتف بمجرد خلقته للانسان كما فعل بباقي المخلوقات غير العاقلة على الأرض بل خلقه على صورته ومثاله، وأعطاه نصيباً حتى في “قوة كلمته”، لكي يستطيع وله نوع من “ظل الكلمة” وقد خلق عاقلاً أن يبقى في السعادة أبداً، ويحيا الحياة الحقيقية، حياة القديسين في الفردوس”([3]).

والله اذ خلق فانه قد منح خلائقه شركة في طبيعته، واستمرار مخلوقاته في الوجود يصير مضموناً بواسطة حضوره فيها. وان كان القديس اثناسيوس في “الرسالة إلى الوثنيين” وفي “تجسد الكلمة” لا ينسب هذا الحضور إلى الروح بل إلى الابن، الا انه حينما يكتب هذه الرسائل عن الروح القدس، فانه يعيد تفسير كلا من الخلق والتأليه، لكي يعطي لعمل الروح القدس حق قدره. ففي الرسالة الأولى فصل 29 يصر القديس اثناسيوس في تفسيره لأفسس 4 : 6 على أن “التروبيكيين” بانكارهم الوهية الروح القدس ينكرون فاعلية الله في المعمودية لأن الروح كما يقول القديس اثناسيوس “هو الذي يوحدنا بالله” (1 : 29).

وفي عرضه لعمل الروح في التقديس، فانه يعود بنا مرة أخرى إلى العهد الجديد، فهو يتحدث عن عمل الروح القدس في الانبياء، ويركز هذا العمل في وحي الكتب المقدسة. فهو لا يتكلم كثيراً عن عمل الروح بل ينشغل بالأكثر، بتأكيد حقيقته انه خاص بالله. وتقدير اثناسيوس للروح هو متأثر أساساً بفهمه للتقديس كعمل الهي فائق للطبيعة أكثر مما هو عمل اخلاقي ورغم أن لفظة Theopoisis “تأليه” ومشتقاتها ليست بارزة في هذه الرسائل بمثل بروزها في مقالاته ضد الأريوسيين الا أن فكرة التأليه هذه تسود تفكيره. ويقصد القديس اثناسيوس بالتأليه الارتفاع بالطبيعة البشرية إلى حالة عدم الفساد الخاصة بالله، حتى انها توهب القدرة على الاشتراك في غبطة الله بقدر ما تسمح مخلوقيتها.

هذا المفهوم لم يكن اثناسيوس هو أول من تكلم عنه. فقد تكلم كليمنضس الاسكندري عن تحول الطبيعة البشرية إلى مستوى الهي ولكنه يفسر هذا التحول على انه نوع من الاستنارة، بينما أن القديس اثناسيوس يربط هذا التحول مباشرة بحالة البشرية الساقطة وفقداننا للخلود الذي نتج عن السقوط. فعنده أن غرض التجسد ليس فقط نوال الاستنارة بل ايضاً أن يعيد خلق بشريتنا باعادة توحيدها مع الله. وبذلك يوقف عملية الموت. وبهذا الاصرار على “عدم الفساد” (Aphatharsia) باعتبارها الخاصية المتميزة في الحياة الالهية، كما هي معطاة للبشر، فانه “بهذا الاصرار” يتخذ موقف تعليم القديس ايريناوس. وقبل ايريناوس يمكن أن نتتبع هذا التعليم فنجده عند اغناطيوس، ومن ثم نجد بدايته في الانجيل للقديس يوحنا. وهذا ما تصلي به الكنيسة القبطية في صلاة الصلح للقداس الباسيلي قائلة: الله جبل الإنسان على “غير فساد” وانه هدم الموت بظهور ابنه الوحيد ربنا والهنا ومخلصنا يسوع المسيح في الجسد لكي يعيدنا إلى “عدم الفساد”.

أن معالجة القديس اثناسيوس لهذا الموضوع: التأليه أو التقديس في هذه الرسائل كما في مقالته الأولى ضد الأريوسيين، هي في غاية الأهمية، لا بسبب انه يوسع مفهوم التقديس الموجود في كتاب تجسد الكلمة، بل بسبب انه يربط هذا التقديس بالروح القدس. ففي “مقالته الأولى ضد الأريوسيين” يقول في حديثه عن ألوهية الابن: “أما المخلص فحيث انه هو الله فان يزاول دائماً حكم مملكة الآب. ولما كان هو نفسه مانح الروح القدس، الا انه يقال الآن انه يمسح (بضم الياء)، لكنه كانسان يقال عنه انه يمسح (بضم الياء) بالروح، وذلك حتى يبني فينا نحن البشر سكنى الروح وألفته تماماً مثلما وهبنا الرفعة والقيامة… اذن فان كان يقدس ذاته من أجلنا وهو يفعل هذا لأنه قد صار انساناً، فمن الواضح جداً أن نزول الروح عليه في الاردن انما كان نزولاً علينا نحن، بسبب لبسه جسدنا. وهذا لم يصر من أجل ترقية اللوغوس بل من تقديسنا من جديد، ولكي نشترك في مسحته، ولكي يقال عنا “الستم تعلمون انكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم” (1كو 3 : 16).. وحينما اغتسل الرب في الأردن كانسان كنا نحن الذين صرنا مقتبلين للروح بواسطته.. اذن فلا يكون اللوغوس باعتباره اللوغوس والحكمة هو الذي يمسح من الروح الذي يعطيه هو ذاته، بل الجسد الذي قد اتخذه هو، الذي يمسح فيه ومنه، وذلك لكي يصير التقديس الصائر إلى الرب كانسان، يصير (هذا التقديس) إلى جميع البشر به. لأنه يقول أن “الروح لا يتكلم من نفسه” (يو 16 : 13)، بل اللوغوس هو الذي يعطي هذا الروح للمستحقين (ضد الأريوسيين المقالة الأولى) ([4]).

وفي الرسالة الأولى إلى سرابيونن يقول القديس اثناسيوس: “وايضاً الروح هو روح القداسة والتجديد وهو يدعى هكذا.. والروح يدعى مسحة وهو الختم.. والمخلوقات تختم وتمسح بواسطة وتتعلم منه كل شيء. ولكن أن كان الروح هو المسحة والختم الذي به يمسح الكلمة كل الاشياء ويختمها، فاذن أي شبه أو انتماء للمسحة أو الختم مع الاشياء التي تمسح وتختم؟ وأولئك الذي يمسحون يقولون حينما ينالون المسحة نحن رائحة المسيح الزكية (2كو 2 : 15). والختم له صورة المسيح الذي يختم، والذين يختمون يشتركون في الختم ويتشكلون حسبه، كما يقول الرسول: “يا أولادي الذين اتمخض بكم ايضاً إلى أن يتصور المسيح فيكم” (غلا 4 : 19). وهكذا اذ نختم فمن الطبيعي أن نصير “شركاء الطبيعة الالهية كما يقول بطرس الرسول” (2بط 1 : 4). وهكذا فكل الخليقة تشترك في الكلمة بالروح، وبالاضافة إلى ذلك فانه يقال عنا اننا شركاء الله لأنه يقول: “أما تعلمون انكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم” (1كو 3 : 16).

أما الآن فلكونني ندعى شركاء المسيح وشركاء الله، فهذا يوضح أن المسح والختم الذي فينا لييس من طبيعة المخلوقات بل من طبيعة الابن الذي يوحدنا بالآب بواسطة الروح الذي فيه. وان كنا بالاشتراك في الروح نصير شركاء الطبيعة الالهية فانه يكون من الجنون أن نقول أن الروح في طبيعة المخلوقات وليس من طبعية الله. وعلى هذا الأساس فان الذين هم فيه، يتألهون. وان كان هو يؤله البشر، فلا ينبغي أن يشك في طبيعته هي طبيعة الهية” (رسالة 1 : 23، 24).

في هذه الرسائل ينسب القديس اثناسيوس فعل التأليه للروح القدس. وهنا نجد أن فكر القديس اثناسيوس قريب جداً من فكر القديس ايريناوس الذي أكد بشكل خاص في تعليمه عن التقديس على عمل الروح، أكثر من أي كاتب آخر من كتاب القرنين الثاني والثالث. والتشابه بينهما ليس محصوراً فقط في الفكرة العامة، فالرموز والمصطلحات التي يعبران بها، والنصوص التي يبنيان عليها، هي غالباً مشتركة بينهما (أنظر “ضد الهرطقات” لايرنياوس 3 : 17، 18، 5 : 1، 6 : 1، 7 : 1). ويمكن أن يكون اثناسيوس متأثراً مباشرة بايريناوس في هذه النقاط. ولكن حتى أن كان قد استعار مادته منه، الا انه يوجهها حسب استعماله الخاص، ويجعلها تخدم مفهومه في أن الروح يخص الابن. فمثلاً كل من اوريجينوس واريناوس يستخدم رمز “المسحة”. فبالنسبة لاوريجينوس تعبر “المسحة” عن انتشار كلمة الله وحكمته في نفس المسيح الانسانية (من مزمور 44 : 8 س)، حتى أن رائحة المسيح تمتد إلى اولئك الذين يشتركون فيه اما ايريناوس فيأخذ الكلام عن المسحة من اشعياء 61 : 1، ويربطها بنزول الروح على المسيح فيقول: “انه الآب هو الذي يمسح، ولكن الابن هو الذي يمسح بواسطة الروح الذي هو المسحة” (Haer. III, XVIII, 3) وكما يأخذ المسيح الروح هكذا هو ينقله إلى اولئك الذين يشتركون في شخصه. واثناسيوس كما هو واضح من مقالته الأولى ضد الأريوسيين (1 : 46، 47) يبدأ أيضاً من اشعياء 61 : 1، ومن معمودية المسيح. ولكن منذ البداية، الروح عنده هو روح الابن اذ يقول: “كوني أنا كلمة الآب فأنا نفسي أنا الصائر انساناً – اعطي ذاتي الروح”. فكون المسحة هي من الآب يستبعدها اثناسيوس مؤقتاً، وهكذا نجد في الرسالة الأولى إلى سرابيون (1 : 23) تأكيداً على أن المسيح هو الذي يمسح، وايضاً تأكيداً على أن الخاصية المميزة التي تمنح بواسطة الروح هي خاصة بالمسيح.

ولكوننا نسمح (بضم النون) بالروح “فاننا رائحة المسيح”. وهكذا بالمثل يعتبر ايريناوس الروح كناقل لصورة الآب والابن إلى الإنسان (Haer. III, XVII, 3)، أو بتعبير آخر: “شبه الله“. وحينما يتكلم اثناسيوس عن الروح كختم وصورة فهو يحصر الاستعارة في علاقة الروح بالابن. وبالمثل فالروح عند ايريناوس هو على وجه العموم “روح الله“، وأحياناً قليلة يستعمل عبارة “روح الآب” (Heari III, XVII, 1)، ولكن ايريناوس لا يستعمل مطلقاً عبارة “روح الابن”.

أما عند اثناسيوس فان عبارة “روح الابن” هي التسمية المعتادة عنده للروح.

وفي كل هذا، لا يوجد بالطبع أي قصد عند اثناسيوس بأن يبعد الروح عن الآب. وربما بسبب انه شعر أن ما يقوله في الرسالة الأولى (1 : 22 وما بعده) يمكن أن يساء فهمه بهذا الشكل (أي كما لو انه يبعد الروح عن الآب)، لذلك فهو يصر بوضوح في الرسالة الثالثة (3 : 1) أن “الروح القدس الذي قيل انه للابن فهو للآب”. فالابن كما لو كان يصل بين الآب والروح. فلأن الروح خاص بالابن، لذلك نفهم انبثاقه من الآب اذ يقول في الرسالة الأولى (1 : 20) “هكذا فان القوة الحيوية والعطية التي بها يقدس ويضيء (الابن) ينبغي أن تكون واحدة كاملة وتامة وهي التي يقال عنها عنها تنبثق من الآب لأنها من الكلمة، الذي يعترف انه من الآب، وهي (أي الروح القدس) التي تشرق وترسل وتعطي”.

ومن الملاحظ انه عندما يستعمل القديس اثناسيوس الحرفين Para, eK ليشير بهما إلى العلاقة بين الروح والابن فهو هنا يتحدث عن ارسالية الروح القدس من الابن في الزمن وليس عن الانبثاق الأزلية لأقنوم الروح القدس.

وعندما يتحدث اثناسيوس عن عمل الله في الخليقة وفي الكنيسة أي في التدبير فانه يشرح هذا العمل باعتباره عملاً مشتركاً بين الأقانيم الثلاثة، فالآب يعمل كل شيء بالكلمة في الروح ويؤكد أن الروح ليس خارج الكلمة بل اذ هو في الكلمة فهو في الله (رسالة 3 : 5). وبالنسبة للقديس اثناسيوس فانه يهتم بالتأكيد فقط على أن الروح هو في الله، اما كيف ينبثق الروح القدس من الآب فهذا أمر يعجز المؤمن عن أن يتدخل فيه بعقله، فهو يعتبر أن التفكير العقلي في هذا الأمر هو تجاسر وجنون خطر (أنظر رسالة 1 : 18، 19).

رابعاً: هذه الترجمة:

ترجمنا هذه الرسائل من اللغة اليونانية من مجموعة ميني M. G مجلد 26، والمنشورة ايضاً باليونانية القديمة والحديثة في سلسلة “آباء الكنيسة اليونانية EPE منشورات “غريغوريوس بالامس تسالونيكي باليونان – أعمال القديس اثناسيوس مجلد 4 – سنة 1975.

وقارنا الترجمة عن اليونانية بالترجمة الانجليزية لهذه الرسائل التي ترجمها “شابلاند C. R. B. Shapland” ونشرها في نيويورك سنة 1951، وكذلك قارناها بالترجمة العربية عن الانجليزية للقس مرقس داود والتي نشرتها مدارس الأحد بالجيزة حوالي سنة 1952، والتي أعادت طبعها مكتبة المحبة في السنوات القليلة الماضية، كل ذلك للوصول إلى أدق القراءات للرسائل.

ونضيف أن الترجمتين الانجليزية والعربية المذكورتين أعلاه تتوقفان في الرسالة الرابعة عند نهاية فصل 7.

أما الأصل اليوناني فيمتد بعد ذلك حوالي 20 صفحة. هذه التكملة للرسالة الرابعة في الأصل اليوناني كان قد ترجمها ونشرها بالعربية دكتور جورج حبيب بباوي سنة 1976 تحت اسم “الرسالة الخامسة إلى سرابيون عن التجديف على الروح القدس..” ضمن كتاب “الروح القدس في بعض كتابات الآباء”. فقمنا بضم ترجمة الدكتور جورج المنشورة سنة 1976 إلى الرسالة الرابعة في هذه الترجمة الجديدة لأن الأصل اليوناني يحتفظ بهما معاً في رسالة واحدة هي الرسالة الرابعة.

ولألهنا القدوس الآب والابن والروح كل مجد وسجود إلى الأبد آمين.     المترجمان.

رسائل القديس اثناسيوس

إلى سرابيون أسقف تمويس

(ضد الذين يجدفون ويقولون أن الروح القدس مخلوق)

الرسالة الأولى

(1)

1- لقد سلمت إليَّ رسائل تقواكم في البرية. وعلى الرغم من قسوة الاضطهاد الموجه ضدنا، وكذلك على الرغم من أن أولئك الذين كانوا يطلبون أن يقتلونا اطالوا البحث لكي يعثروا علينا، فان أب الرأفة واله كل تعزية (2كو 1 : 3) استخدم ايضاً رسائلك لكي يعزينا.

واذ تذكرت صلاحكم وكل الأصدقاء الأصيلين تصورت انكم جميعاً حاضرون معي في تلك اللحظة. وفي الحقيقة لقد أحسست كثيراً بالسرور اذ تلقيت رسائلكم، ولكن بمجرد أن قرأتها بدأ الحزن يتجدد ثانية بسبب أولئك الذين فكروا أن يثيروا حرباً ضد الحق من جديد. وأنت كذلك ايها الحبيب والمتشوق إليه بحق قد كتبت إليَّ – وأنت مثقل بالحزن – أن بعض الأشخاص وان كانوا قد تركوا الأريوسيين بسبب تجديفهم على ابن الله الا انهم يجدفون ضد الروح القدس، ويقولون انه ليس فقط أحد المخلوقات ([5]). بل انه ايضاص احد الأرواح الخادمة (عب 1 : 14)، ويختلف عن الملائكة حسب الرتبة فقط. وهم في هذا الأمر يتظاهرون بأنهم يحاربون الأريوسيين لكنهم في الحقيقة يتكلمون ضد الايمان المقدس. لأنه كما أن أولئك بانكارهم الابن ينكرون الآب ايضاً، هكذا هؤلاء أيضاً فانهم اذ يجدفون على الروح القدس فانهم يجدفون على الابن ايضاً. وهكذا فان الفريقين قد اقتسما فيما بينهما مقاومتهما للحق. فاذا كان فريق منهما يفكر ضد الكلمة والفريق الآخر يفكر ضد الروح، فبذلك فهما يحتفظان بنفس التجديف على الثالوث القدوس.

واذ انشغل ذهني بهذه الأمور وفكرت فيها كثيراً أصبت بحزن شديد، لأن ابليس وجد فرصة أخرى ليلعب في هؤلاء المرائين لعبة جنونه.

لهذا قررت أن أصمت إبان هذا الوقت الحرج. ولكن بسبب حض قداستكم لنا وكذلك بسبب الآراء المخالفة والوقاحة الشيطانية التي أظهرها أولئك الناس، أكتب هذه الرسالة بايجاز، وان كنت بالكاد استطيع أن أقوم بهذه المهمة، لكي تأخذ من هذه الحقائق حججاً تتفق مع تفكيرك، وتكمل انت ما تجده ناقصاً، وبذلك يكون البرهان ضد هذه الهرطقة الدنسة، كاملاً.

(2)

أن هذا التفكير ليس غريباً على الأريوسيين، لأنهم – اذ انكروا كلمة الله – فانه من الطبيعي أن ينطقوا بنفس التجديف ضد روحه. لذلك فليست هناك حاجة أن نضيف شيئاً آخر رداً عليهم، اذ يكفي ما سبق وقد قيل ضدهم. لكن من العدل اننا بطريقة ما – كما يقولون هم أنفسهم – اذ قد بحثنا الموضوع، أن نقدم ما يجب لأولئك الذين انخدعوا فيما يختص بالروح. ومن الطبيعي للمرء أن يتعجب من جهالتهم، لأنهم إذا كانوا لا يريدون أن يقولوا أن ابن الله هو أحد المخلوقات – وبكل تأكيد، فانه صواب هو ما يعتقدونه عن الابن – فكيف أمكنهم أن يحتملوا أن يسمعوا أن روح الابن هو أحد المخلوقات؟

لأنه حقاً، إذا كانوا بسبب وحدة الكلمة مع الآب ([6]) يرفضون أن يقولوا أن الابن هو أحد المخلوقات بل يعتبرونه كما هو بحق، خالق المخلوقات، فلماذا يقولون عن الروح الذي له نفس الوحدة مع الابن – وهي نفس الوحدة التي للابن مع الآب – انه أحد المخلوقات؟ انهم لم يدركوا انه كما لا يجوز أن نفصل الابن عن الآب محافظين على الايمان الصحيح باله واحد، هكذا ايضاً فانهم اذ يفصلون الروح عن الكلمة، لا يحتفظون بعد الايمان بألوهية واحدة في الثالوث. لأنهم يمزقون الألوهية ويخلطون معها طبيعة غريبة ومن نوع مغاير، ويضعونها على نفس المستوى مع المخلوقات. وهذا يعني أن الثالوث ليس واحداً ولكنه مركب من طبيعتين مختلفتين بسبب انهم يتوهمون أن الروح من طبيعة مختلفة. فاذن، أي نوع هذا من الثيؤلوجيا ([7])، الذي يقول بأن الله مركب من خالق ومخلوق؟ لأنه إما أنه لا يكون ثالوثاً بل اثنين مع الخليقة ([8])، أو أن كان ثالوثاً – كما هو في الحقيقة بكل تأكيد – فكيف يحسبون الروح القدس ضمن المخلوقات التي أتت بعد الثالوث وهو نفسه روح الثالوث؟ لأن هذا معناه – مرة أخرى – تقسيم الثالوث وتحلله.

ولهذا فحينما يفكرون تفكيراً خاطئاً عن الروح القدس، فبالضرورة لن يكون تفكيرهم عن الابن صحيحاً. وإذا كانوا يفكرون تفكيراً صحيحاً عن الكلمة فانهم سيفكرون تفكيراً سليماً عن الروح الذي “ينبثق من الآب” ([9])، والذي بسبب انه روح الابن، اعطي بواسطته للتلاميذ ولجميع الذين آمنوا به. وحيث أن هؤلاء ايضاً قد انخدعوا بنفس الطريقة فليس لهم ايضاً ايمان سليم بالآب، لأن الذين “يقاومون الروح” (أع 7 : 51)، كما قال الشهيد العظيم اسطفانوس، ينكرون الابن ايضاً. والذين ينكرون الابن لن يكون لهم الآب ايضاً (1يو 2 : 23).

(3)

اذن فمن اين لكم العذر لمثل هذه الجسارة الزائدة حتى انكم لا تخافون من قول الرب: “أما من جدف على الروح القدس فلن يغفر له لا في هذا الدهر ولا في الآتي” (متى 12 : 32). ذلك لأن الأريوسيين اذ فهموا مجيء الكلمة في الجسد فهماً خاطئاً وكل ما قيل من جهة التجسد فانهم اتخذوا منه حجة لهرطقتهم، وهكذا أدينوا كاعداء الله، واعتبروا بالحقيقة كأناس أرضيين يتكلمون باطلاً (يو 3 : 21).

وأما أنتم فمن اين انخدعتم، وممن سمعتم هذه الضلالة، أو كيف ضللتم؟

يقولون: (قرأنا في عاموس النبي قول الرب “أنا هو منشئ الرعد وخالق “الروح” ([10])، ومعلن للانسان مسيحه، صانع الفجر والضباب، ويصعد على أعالي الأرض. الرب الإله الضابط الكل اسمه” (عا 4 : 9س). ومن هذه الآية صدقنا الأريوسيين الذين يقولون أن الروح القدس هو أحد المخلوقات.

هذا ما قرأتموه في عاموس. ولكن هل قرأتم ما جاء في سفر الأمثال: “الرب خلقني بدء طرقه لأجل أعماله” (أم 8 : 22س) أم لم تقرأوه؟ وهذه الآية تفسرونها تفسيراً صحيحاً يتفق مع معناها الحقيقي. وذلك لكي لا تقولوا أن الكلمة هو أحد المخلوقات. أما ما يقوله النبي (عاموس) فلا تفسرونه. ولكن بمجرد أن سمعتم كلمة “روح” اعتقدتم انه يقول أن الروح القدس هو أحد المخلوقات. مع انه واضح في سفر الأمثال أن الحكمة ([11])، هو الذي يقول “خلقني”. ومع ذلك فانكم قد فسرتم الآية حسناً حتى لا تحسبوا الحكمة الخالق ضمن المخلوقات. أما الآية التي في عاموس فانها لا تتكلم عن الروح القدس، بل قيلت ببساطة عن “روح”. فاذا كان يوجد في الكتاب المقدس اختلاف كبير في معاني كلمة “روح”، وكان من الممكن أن تفسر هذه الآية حسب معناها الخاص الصحيح، فلماذا تعتقدون أن عاموس يتكلم هنا عن الروح القدس، وذلك اما لأنكم تحبون الانتصار على الغير أو لأنكم تضررتم بلدغة الحية الأريوسية؟ وذلك لكي تؤكدوا بقولكم هذا، اعتقادكم الخاص ولا تنسوا ما تؤمنون به عنه أنه أحد المخلوقات.

(4)

4- واذن فلتقولوا لنا، اين وجدتم في الكتاب المقدس، أن الروح القدس، يدعى فقط “روح”، ويشار إليه دون اضافة اسم “الله” اليه، أو “الآب” أو انه “روحي” أي روح “المسيح نفسه” أو “الابن” أو “مني” التي تعني “من الله” أو يذكر مقترناً “بأداة التعريف”، فلا يقال عنه “روح” بل “الروح” أو يسمى “الروح القدس” أو “المعزي” أو “روح الحق” الذي يعني “روح الابن” الذي يقول “أنا هو الحق” (يو 14 : 6) حتى انكم بمجرد أن تسمعوا كلمة “روح” تظنون انها تعني “الروح القدس”.

والآن علينا أن نستثني، هؤلاء الذين، اذ اخذوا الروح القدس، فانهم يسمونه ايضاً ببساطة “روح”. وكذلك هؤلاء. الذين اذ سبق وتعلموا عن الروح القدس، فانه فيما بعد، إذا ذكر فقط باسم “روح”، بقصد التكرار أو التذكر، فانهم لن يجهلوا عن أي روح يسمعون، وعلى الأخص عندما يذكر هكذا مقترناً بأداة التعريف.

وبالاجمال، فانه بدون أداة التعريف، وبدون احدى الاضافات التي تكلمنا عنها آنفاً، فان الكلمة لا يمكن أن تدل على الروح القدس، كما يبدو في مثل هذا الذي كتبه بولس للغلاطيين “أريد أن أتعلم منكم هذا فقط، أبأعمال الناموس اخذتم الروح ام بخبر الايمان” (غلا 3 : 2). فأي روح آخر أخذه هؤلاء غير الروح القدس الذي يعطى للذين يؤمنون ويولدون ثانية بغسل الميلاد الثاني. ويكتب للتسالونيكيين “لا تطفئوا الروح” (1تس 5 : 19) وهو يقول هذا، لهؤلاء الذين قد عرفوا ذلك الذي أخذوه، حتى لا يطفئوا، عن اهمال، نعمة الروح المشتعل فيهم.وفي الأناجيل، عندما تكلم البشيرون عن المخلص بتعبيرات بشرية، من أجل الجسد الذي أخذه “أما يسوع فرجع من الأردن ممتلئاً من الروح” (لو 4 : 1) “ثم اصعد يسوع إلى البرية من الروح” (مت 4 : 1)، فان الكلمة لها نفس المعنى، لأن لوقا سبق وقد قال “ولما اعتمد الشعب اعتمد يسوع ايضاً واذ كان يصلي، انفتحت السماء ونزل عليه الروح القدس بهيئة جسمية مثل حمامة” (لو 3 : 21-22). وواضح هنا، انه عندما يقول “الروح” فان المقصود هو “الروح القدس”. وهكذا ايضاً حيث يكون الروح القدس مع البشر، حتى وان ذكرت كلمة “الروح” بدون أية اضافة، فليس هناك من شك، انها تعني “الروح القدس” وعلى الأخص، عندما تذكر الكلمة مقترنة بأداة التعريف.

(5)

فهل يمكن لكم أن تجيبوا على سؤالي الذي وجهته اليكم، إذا كان من الممكن أن تجدوا في مكان ما في الكتاب المقدس، أن الروح القدس سمي ببساطة “روح” دون الاضافات التي تكلمنا عنها سابقاً، ودون الملاحظات التي ذكرناها. انكم لن تستطيعوا الاجابة، لأنكم لن تجدوا شيئاً مكتوباً مثل هذا.

بل قد كتب في سفر التكوين “وروح الله يرف على وجه المياه” (تك 1 : 2)، وبعد قليل كتب “لا يبقى بعد روحي بين هؤلاء الناس لأنهم جسد” (تك 6 : 3). وفي سفر العدد يقول موسى لابن نون “هل تغار أنت لي”؟ ليت كل شعب الرب كانوا “أنبياء، عندما يجعل الرب روحه عليهم” (عد 11 : 29). وفي سفر القضاة قيل عن عوثنيئيل “وكان عليه روح الرب وقضى لاسرائيل” (قض 3 : 10)، وأيضاً قيل “وكان روح الرب على يفتاح” (قض 11 : 29)، وعن شمشون قيل “فكبر الصبي وباركه الرب، وابتدأ روح الرب يرافقه” (قض 13 : 24، 25)، “فحل عليه روح الرب” (قض 15 : 14)، ويرنم داود “روحك القدوس لا تنزعه مني” (مز 50 : 13)، وايضاً في المزمور المائة والثاني والأربعين “روحك الصالح يهديني في أرض مستوية من أجل اسمك، يارب، هبني حياة” (مز 142 : 10، 11 س)، وكتب في اشعياء “روح الرب عليَّ لأنه مسحني” (أش 61 : 1).

وبالأضافة إلى هذا قيل “ويل لكم ايها البنون المتمردون، هكذا يقول الرب: “انتم تستشيرون استشارة وليس مني، وتقطعون عهوداً وليس بروحي، لتزيدوا خطية على خطية” (أش 30 : 1)، وايضاً “اسمعوا هذا، لم أتكلم من البدء في الخفاء، منذ وجوده أنا هناك، والآن السيد الرب أرسلني وروحه” (أش 48 : 16).

وبعد قليل، يقول هكذا “أما أنا فهذا عهدي معهم قال الرب، روحي الذي عليك” (أش 59 : 21)، ثم يضيف مباشرة فيقول “لا سفير ولا ملاك بل الرب نفسه خلصهم لأنه أحبهم وتراءف عليهم. هو نفسه فداهم وحملهم ورفعهم كل أيام الدهر ولكنهم تمردوا وأحزنوا روحه القدوس فتحول لهم عدواً” (أش 63 : 9-10). ويقول حزقيال “وحملني روح وأتى بي إلى أرض الكلدانيين إلى السبي في رؤية بروح الله” (حز 11 : 24). وفي دانيال “وبعث الرب الروح القدس في شكل شاب اسمه دانيال وصاح بصوت عظيم اني بريء من دم هذه المرأة” (دانيال سوسنة 45، 46). ويقول ميخا “ان بيت يعقوب أغاط روح الرب” (مي 2 : 7). ويقول الرب على فم يوئيل “ويكون بعد ذلك أني أسكب من روحي على كل بشر” (يوئيل 2 : 28). وأيضاً على فم زكريا، فان صوت الله يقول “لكن اقبلوا كلامي وفرائضي التي أرسلتها بروحي إلى عبيدي الأنبياء” (زك 1 : 6). وبعد ذلك بقليل، عندما يلوم النبي الشعب، يقول “جعلوا قلوبهم عاصية لئلا يسمعوا شريعتي والكلمات التي ارسلها رب الجنود بروحه عن يد الأنبياء الأولين” (زك 7 : 12). ومن هذا الذي استدللنا به من العهد القديم، أشرنا بالقليل.

(6)

وابحثوا أنتم ايضاً لتقفوا على ما حوته الأناجيل عن هذه الأمور، وما كتبه الرسل، سوف تعرفون، أن هناك ايضاً، يوجد اختلاف كبير، بين الأرواح (في معنى كلمة الروح). ومن الملاحظ أن الروح القدس لا يدعى ببساطة “روح” بل يذكر مع الاضافات التي أشرنا اليها سابقاً.

فبالنسبة للرب، كما سبق وأشرنا، عندما اعتمد كانسان، بسبب الجسد الذي لبسه. قيل أن الروح القدس نزل عليه (يو 1 : 32). واذ أعطاه للتلاميذ، قال “اقبلوا الروح القدس” (يو 20 : 22)، وعلمهم “وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الاب باسمي فهو يعلمكم كل شيء” (يو 14 : 26)، وبعد قليل، قال عن نفس الأمر “ومتى جاء المعزي الذي أرسله أنا اليكم من الآب، روح الحق الذي من عند الآب ينبثق، فهو يشهد لي” (يو 15 : 26)، وايضاً “لأن لستم انتم المتكلمين بل روح ابيكم الذي يتكلم فيكم” (مت 10 : 22)، وبعد قليل “ولكن أن كنت أنا بروح الله أخرج الشياطين فقد أقبل عليكم ملكوت الله” (لو 11 : 20). ولكي يكمل فيه كل معرفتنا عن الله (أي كل التعليم عن الله) ويتمم كمالنا الخاص، الذي به وحدنا مع شخصه، ومن خلاله مع الآب، أوصى تلاميذه “اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس” (مت 28 : 19)، واذ وعدهم انه سوف يرسله اليهم “أوصاهم أن لا يبرحوا اورشليم” (أع 1 : 4)، وبعد أيام قليلة “لما حضر يوم الخمسين، كان الجميع معاً بنفس واحدة، وصار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة، وملأ كل البيت حيث كانوا جالسين. وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار، واستقرت على كل واحد منهم وامتلأ الجميع من الروح القدس، وابتدأوا يتكلمون بألسنة أخرى، كما أعطاهم الروح أن ينطقوا” (أع 2 : 1-4).

ومن ذلك الوقت فصاعداً، كان الروح القدس يعطى للذين ولدوا ثانية، بوضع أيدي الرسل. وشخص ما يدعى أغابوس، تنبأ به قائلاً “هكذا يقول الروح القدس” (أع 21 : 11). وبولس يقول: “التي أقامكم الروح القدس فيها أساقفة، لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه” (أع 20 : 28). وعندما اعتمد الخصي “خطف روح الرب فيلبس” (أع 8 : 39). وأيضاً كتب بطرس “نائلين غاية ايمانكم خلاص النفوس، الخلاص الذي فتش وبحث عنه أنبياء. الذين تنبأوا عن النعمة التي لأجلكم. باحثين أي وقت أو ما الوقت الذي كان يدل عليه روح المسيح الذي فيهم اذ سبق فشهد بالآلام التي للمسيح والأمجاد التي بعدها” (1بط 1 : 9-11). وكتب يوحنا في رسالته “بهذا نعرف أننا نثبت فيه وهو فينا، انه قد أعطانا من روحه” (1يو 4 : 13). وكتب بولس للرومانيين “وأما أنتم فلستم في الجسد بل في الروح، أن كان روح الله ساكناً فيكم. ولكن أن كان أحد ليس له روح المسيح فذلك ليس له. وان كان المسيح فيكم فالجسد ميت بسبب الخطية وأما الروح فحياة بسبب البر. وان كان روح الذي أقام يسوع من الأموات ساكناً فيكم، فالذي أقام المسيح من الأموات سيحيي أجسادكم المائتة أيضاً بروحه الساكن فيكم” (رو 8 : 9-11). وللكورنثيين “لأن الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله. لأن من من الناس يعرف أمور الإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه. هكذا أيضاً أمور الله لا يعرفها أحد إلا روح الله. ونحن لم نأخذ روح العالم بل الروح الذي من الله لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله” (1كو 2 : 10-12). وبعد قليل “أما تعلمون أنكم هيكل الله، وروح الله يسكن فيكم” (1كو 3 : 16)، وايضاً “لكن اغتسلتم بل تقدستم بل تبررتم باسم الرب يسوع وبروح الهنا” (1كو 6 : 11) وايضاً “ولكن هذه كلها يعملها الروح الواحد بعينه قاسماً لكل واحد بمفرده كما يشاء” (1كو 12 : 11)، وايضاً “وأما الرب فهو الروح، وحيث روح الرب هناك حرية” (2كو 3 : 17).

وأنظر ايضاً كيف أرسل للغلاطيين، يقول “لتصير بركة ابراهيم للأمم في المسيح يسوع لننال بالايمان موعد الروح” (غلا 3 : 14). وايضاً “ثم بما انكم أبناء ارسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخاً يا أبا الآب. اذن لست بعد عبداً بل ابناً. وان كنت ابناً، فوارث لله بالمسيح” (غلا 4 : 6، 7)، والى الأفسسين يقول هكذا “لا تحزنوا روح الله القدوس الذي به ختمتم ليوم الفداء” (أف 4 : 30)، وايضاً “مجتهدين أن تحفظوا وحدانية الروح برباط السلام” (أف 4 : 3). ويكتب إلى الفيلبيين بكل جرأة وحرية “فماذا. غير انه على كل وجه سواء كان بعلة ام بحق ينادي المسيح، وبهذا أنا أفرح، بل سأفرح ايضاً، لأني أعلم أن هذا يؤول لي إلى خلاصي بطلبتكم ومؤازرة روح يسوع المسيح، حسب انتظاري ورجائي اني لا أخزى في شيء” (في 1 : 18 – 20)، وايضاً “لأننا نحن الختان الذين نعبد الله بالروح ونفتخر في المسيح يسوع” (في 3 : 3)، والى التسالونيكيين، يثبت شاهداً “اذا من يرذل لا يرذل انساناً بل الله الذي أعطانا ايضاً روحه القدوس” (1تس 4 : 8)، ويكتب للعبرانيين ما يلي “معلناً الروح القدس بهذا أن طريق الأقداس لم يظهر بعد، ما دام المسكن الأول له إقامة” (عب 9 : 8)، وأيضاً “فكم عقاباً أشر تظنون انه يحسب مستحقاً من داس ابن الله وحسب دم العهد الذي قدس به دنساً وازدرى بروح النعمة” (عب 10 : 29)، وايضاً “لأنه أن كان دم ثيران وتيوس ورماد عجلة مرشوش على المنجسين يقدس إلى طهارة الجسد، فكم بالحري يكون دم المسيح الذي بروح أزلي قدم نفسه لله بلا عيب يطهر ضمائركم من أعمال ميتة” (عب 9 : 13 – 14)، ويقول للتسالونيكيين “وحينئذ سيستعلن الأثيم الذي يبيده الرب يسوع بروح فمه، ويبطله بظهور مجيئه” (2تس 2 : 8).

(7)

7- على هذا النحو، قدم الروح القدس في كل الكتاب المقدس، فلماذا فهمتم الروح، في أقوال النبي على نحو معين؟ لأن كلمة “روح” لا يقرنها النبي بأداة التعريف، حتى يكون لكم عذر. ولكنكم ببساطة تجرأتم أن تدركوا كما يعن لكم، وزعمتم أن الروح الذي قيل عنه انه خلق، هو نفسه الروح القدس، مع انه كان يمكنكم، حتى عن طريق أناس تخصصوا في علم اللغة، أن تقفوا على الاختلاف القائم بين الأرواح، لأنه صار حديث حتى عن روح الانسان، كما يرنم داود: “تشاورت مع قلبي ليلاً، وجزعت روحي” (مز 76 : 7 س)، ويقول باروخ مصلياً “.. النفس في ضيق والروح المكروبة تصرخ اليك” (باروخ 3 : 1 س)، وفي ترنيمة الفتية الثلاثة: “يا أرواح ونفوس الأبرار باركوا الرب” (دا 3 : 63 س). ويكتب قائلاً: “الروح نفسه يشهد لأرواحنا اننا أولاد الله، فان كنا أولاداً فاننا ورثة أيضاً” (رو 8 : 16، 17). وايضاً “لا أحد يعرف أمور الإنسان الا روح الإنسان الذي فيه” (1كو 2 : 11). وفي الرسالة إلى التسالونيكيين يصلي قائلاً: “لتحفظ روحكم ونفسكم وجسدكم كاملة بلا لوم عند مجيء ربنا يسوع المسيح” (1تس 5 : 23).

كذلك صار حديث عن أرواح الرياح في سفر التكوين: “وأجاز الله روحاً على الأرض فهدأت المياه” (تك 8 : 1). وفي سفر يونان: “فأرسل الرب روحاً شديدة إلى البحر فحدث نوء عظيم في البحر حتى كادت السفينة تنكسر” (يونان 1 : 4). وكتب في المزمور المائة والسادس “أمر فأهاج روحاً عاصفة فرفعت أمواجه” (قابل مع مز 107 : 25 دار الكتاب المقدس). وفي المزمور المائة والثامن والأربعين: “سبحي الرب من الأرض يا ايتها التنانين وكل اللجج، النار والبرد والثلج والضباب، الروح العاصفة، الصانعة… (كلها) كلمته” (مز 148 : 7، 8). وفي حزقيال في مرثاه صور: “ملاحوك قد أتوا بك في قلب البحر إلى مياه كثيرة. كسرتك روح الجنوب” (حز 27 : 25، 26).

(8)

فاذا قرأتم أنتم ايضاً الكتب المقدسة، تجدون كلمة “روح” مستعملة بالمعنى الموجود في الأقوال الالهية كما كتب بولس: “الذي جعلنا كفاة لأن نكون خدام عهد جديد، لا الحرف بل الروح. لأن الحرف يقتل ولكن الروح يحيي” (2كو 3 : 6)، لن ما ينطق به يكتب بالحروف أما المعنى الذي يتضمنه فهو يدعى “روح”. وهكذا ايضاً “الناموس روحي” (رو 7 : 14)، حتى – كما قال ايضاً – “لا نعبد بعتق الحرف بل بجدة الروح” (رو 7 : 6). وهو نفسه يقول عندما يشكر: “أشكر الله بيسوع المسيح ربنا اذ أنا نفسي أخدم ناموس الله ولكن بالجسد ناموس الخطية. اذن لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد اعتقني من ناموس الخطية والموت” (رو 7 : 25، 8 : 1). واذ رغب فيلبس في تحويل الخصي من الحرف إلى الروح قال له: “ألعلك تفهم ما أنت تقرأ”. وكان لكالب مثل هذا الروح كما يشهد بذلك قول الرب في سفر العدد: “أما عبدي كالب فمن أجل انه كانت مع روح أخرى وقد اتبعني تماماً، أدخله إلى الأرض التي ذهب اليها” (عد 14 : 24).

ولأنه تكلم بذهن مختلف عن ذهن الآخرين فقد صار مرضياً عند الله. وقد حث الله الشعب أن يكون لهم مثل هذا القلب، عندما قال على لسان حزقيال: “اعملوا لأنفسكم قلباً جديداً وروحاً جديدة” (حز 18 : 31).

وإذا كانت الأمور على هذا النحو، ومنها تبين أن هناك اختلافاً كبيراً بين الأرواح، فقد كان من الأفضل لكم جداً، عندما تسمعون عن الروح الذي خلق، أن تفكروا في أحد الأرواح التي سبقت الاشارة اليها. مثل ذلك الروح الذي كتب عنه اشعياء: “قد تحالف آرام مع افرايم فرجف قلبه (بيت داود) وقلوب شعبه كرجفان شجر الوعر قدام الروح (الريح)” (أش 7 : 2). وفي نفس المعنى قيل: “أرسل الرب روحاً شديداً إلى البحر” (يونان 1 : 4). بسبب يونان. لأن الرعد تتبعه أرواح الرياح، كما بالنسبة إلى المطر الذي حدث في أيام آخاب وكتب عنه “بعد برهة وجيزة أسودت السماء من الغيم والروح (الريح)” (1مل 8 : 45).

(9)

ولكن حيث أن النبوة (عا 4 : 13 س) “أنا هو مؤسس الرعد وخالق الروح ومعلن للانسان مسيحه”. – فيما يقولون – تشير إلى المسيح، فانه يتبع ذلك، أن الروح المشار إليه يجب أن يفهم على انه الروح القدس وليس روحاً آخر. انتم اذن تظنون أن الروح الذي سمي مع المسيح هو الروح القدس، ولكن اين وجدتم أن هذا الروح يتميز حسب الطبيعة وينفصل عن الابن حتى انه – بينما تقولون أن المسيح ليس مخلوقاً – فانكم تقولون أن الروح القدس مخلوق؟ انه من غير اللائق أن تسموا معاً وان تمجدوا معاً، اشياء تختلف في طبيعتها. لأنه أية شركة توجد واي شبه يقوم بين المخلوق والخالق. لأنكم أنتم ايضاً تضيفون وتقرنون مع الابن المخلوقات التي خلقت به. وقد كان هذا اذن كافياً لكي تدركوا أن المقصود بما كتب هو الاشارة إلى روح الرياح، تماماً كما سبق وذكرت. ولكن حيث انكم تتخذون من ذكر المسيح في النبوة حجة، فقد صار من الضروري أن نفحص بالدقة ما قيل، لعلنا نجد المعنى الذي يناسب أكثر، القول بأن الروح قد خلق.

فأي معنى آخر يستنبط من القول، بأنه “معلن للانسان مسيحه” سوى انه هو نفسه صار انساناً، وسوى أن هذا القول يشبه قول اشعياء النبي: “هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً ويدعون اسمه عمانوئيل” (أش 7 : 14). ويشبه ايضاً الأقوال التي كتبت عن مجيئه؟ فعندما يعلن عن مجيء الكلمة متجسداً، فأي روح اذن يجب أن ندرك انه مخلوق، سوى روح الإنسان الذي خلق للمرة الثانية وولد ثانية وتجدد؟ لأن هذا هو ما أعلنه على لسان حزقيال قائلاً: “وأعطيكم قلباً جديداً وأجعل روحاً جديدة في داخلكم وأنزع قلب الحجر من لحمكم وأعطيكم قلب لحم. وأجعل روحي في داخلكم” (حز 36 : 26، 27). فمتى كمل هذا الا عندما جاء الرب وجدد كل الاشياء بنعمته؟ ها هوذا اذن ايضاً في هذا القول، يتبين لنا الاختلاف بين الأرواح. فروحنا هي التي تجددت، ولكن الله يقول أن ذلك الروح الذي به تجددت أرواحنا هو روحه، كما يقول المرنم في المزمور المئة والثالث “تنزع روحها فتموت والى ترابها تعود. ترسل روحك فتخلق وتجدد وجه الأرض” (مز 3 – 1 : 29، 30س).

وإذا كنا نتجدد بروح الله، فان الروح الذي يقال عنه الآن انه خلق لا يشير إلى الروح القدس، بل إلى روحنا، وإذا كنتم بكل تأكيد تعتقدون اعتقاداً حسناً أن الابن ليس مخلوقاً لأن كل الاشياء صارت بالكلمة فكيف لا يعتبر تجديفاً أن تقولوا أن الروح القدس مخلوق، وهو الذي فيه بواسطة الكلمة يكمل الآب كل الاشياء ويجددها؟ وإذا كانوا، لمجرد انه كتب، أن الروح قد خلق، قد توهموا فيما بينهم أن هذا الروح هو الروح القدس، فيلزمهم الآن بالأكثر أن يقتنعوا أن الروح الذي خلق ليس هو الروح القدس، بل أن روحنا هو الذي يتجدد فيه، والذي من أجله يصلي داود قائلاً: “قلباً نقياً اخلق فيَّ يا الله وروحاً مستقيماً جدد في داخلي” (مز 5 : 10س). وهنا قد قيل أن الله خلقه، وأما فيما سبق، كما يقول زكريا فان الله صوره كما يقول: “باسط السموات ومؤسس الأرض ومصور روح الإنسان في داخله” (زك 12 : 1). أي ذاك الذي صوره أولاً، عاد وجدده بعد السقوط، وذلك بأن جاء هو ذاته إلى الخليقة عندما صار الكلمة جسداً، كي كما قال الرسول: “يخلق الاثنين في نفسه انساناً واحداً جديداً، المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق” (أف 2 : 15، 4 : 24). وهو لا يعني بهذا انه خلق انساناً آخر غير الإنسان الذي خلق من البدء على صورة الله، بل يتكلم عن العقل الذي خلق وتجدد في المسيح وينصحهم أن يقبلوه، وهو الأمر الذي يتضح ايضاً من حزقيال عندما يقول هو نفسه: “اعملوا لأنفسكم قلباً جديداً وروحاً جديدة. فلماذا تموتون يا بيت اسرائيل، لأني لا أسر بموت من يموت يقول الله الرب” (حز 18 : 31، 32).

(10)

وعلى ذلك، إذا كان الروح المخلوق له مثل هذا المعنى، فيجب علينا ايضاً أن ندرك ادراكاً صحيحاً، الوعد الذي تأسس من قبل الله، أي الكلمة الصادقة وناموس الروح غير المتزعزع. ولأن الرب أراد ليوحنا ويعقوب أن يخدما الكلمة، فقد دعاهما بوانرجس أي ابني الرعد” (مر 3 : 17). وبالحقيقة، صرخ يوحنا بهذا من السماء قائلاً: “في البدء كان الكلمة والكلمة عند الله وكان الكلمة الله” (يو 1 : 1). وأما في القديم فان الناموس كان له “ظل الخيرات العتيدة” (عب 10 : 1)، ولكن عندما أعلن المسيح للبشر وجاء قائلاً: “أنا الذي أكلمك هو” (يو 4 : 26)، عند ذلك كما قال بولس: “صوته زعزع الأرض حينئذ وأما الآن فقد وعد قائلاً اني مرة ايضاً ازلزل لا الأرض فقط بل السماء أيضاً. فقوله مرة يدل على تغيير الأشياء المتزعزعة كمصنوعة لكي تبقي التي لا تتزعزع. لذلك ونحن قابلون ملكوتاً لا يتزعزع ليكن عندنا شكر به نخدم الله خدمة مرضية بخضوع وتقوى” (عب 12 : 26-28). وهذا الذي يقول عنه ملكوتاً لا يتزعزع، يراه داود ثابتاً ويرنم: “الرب قد ملك. لبس الجلال. لبس الرب القدرة تمتنطق بها. ايضاً ثبت المسكونة، لا تتزعزع” (مز 93 : 1، 2). وعلى ذلك فالنص الذي أورده النبي، يشير إلى مجيء المخلص، الذي به نتجدد، وكذلك يظل ناموس الروح ثابتاً.

لكن هؤلاء الذين هم “المحرفون” بالحقيقة، قد اتفقوا مع الأريوسيين واقتسموا معهم التجديف على اللاهوت، فبينما قال الأريوسيين عن الابن انه مخلوق قال هؤلاء عن الروح القدس انه مخلوق. لقد تجاسر “المحرفون”، كما يؤكدون هم انفسهم، أن يجدوا لأنفسهم طرقاً، وان يسيئوا تفسير أقوال الرسول بولس، وما كتبه بصواب إلى تيموثيئوس قائلاً: “أناشدك أمام الله والرب يسوع المسيح والملائكة المختارين أن تحفظ هذا بدون غرض ولا تعمل شيئاً بمحاباة” (1تي 5 : 21). هؤلاء يؤكدون انه طالما أن الرسول قد سمى أولاً: الله والمسيح ثم بعد ذلك سمى الملائكة، فيلزم أن يحسب الروح القدس مع الملائكة ويكون من طغمتهم وهو ملاك أعظم من الملائكة الآخرين.

وفي البداية كانت هذه البدعة من تعليم فالنتينوس ([12]) Valantinos ولم يستطيع هؤلاء أن يتبينوا واقع الأمر من انهم كانوا يقولون بتعاليمه. كان فالنتينوس يؤكد انه كما ارسل المعزي، ارسل معه ملائكة من نفس العمر. وبينما انزلوا الروح القدس إلى طغمة الملائكة، فانهم قد اضافوا الملائكة إلى الثالوث، لأنه إذا كان الملائكة يجيئون بعد الآب والابن – حسبما يؤكدون – فلقد أصبح واضحاً أن الملائكة ينتمون إلى الثالوث، وهم ليسوا بعد “أرواحاً خادمة مرسلة للخدمة” (عب 1 : 14). ولا ينالون التقديس، بل بالحري هم أنفسهم يقدسون الآخرين.

(11)

فما أفظع ما يظهر في أقوالهم من غباء، وللمرة الثانية أتساءل: أين وجدوا في الكتب المقدسة أن الروح القدس يدعى ملاكاً؟ أن الضرورة تدفعني لأن أعيد نفس أقوالي السابقة. أن الروح القدس يدعى: المعزي، وروح التبني، وروح القداسة، وروح الله، وروح المسيح، ولكن لم يحدث في أي مكان أن دعي ملاكاً أو رئيس ملائكة أو روحاً خادماً كالملائكة بل بالأحرى فان الروح القدس نفسه يخدم (بضم الياء) مع الابن، كما يبدو من أقوال جبرائيل لمريم: “الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك” (لو 1 : 35). فاذا كانت الكتب لم تسم الروح القدس ملاكاً، فأي دفاع لهم ازاء هذه الجسارة التي تخالف بشدة، منطق العقل؟ لأن حتى فالنتينوس الذي بذر فيهم مثل هذه العته، قد دعاه المعزي، اما الأرواح الأخرى فدعاها بالملائكة، وان كان في شدة جهله، في نفس الوقت، يضع الروح القدس مع الملائكة على قدم المساواة من جهة الزمن.

ولكنهم يقولون أن في نبوة زكريا قد كتب: “هذه الأمور قالها الملاك الذي تكلم في داخلي” (زك 1 : 9). وواضح انه يعني أن الملاك الذي تكلم في داخله هو الروح القدس.

على انهم ما كان يمكن لهم أن يقولوا هذا القول لو انهم قرأوا باحتراس، لأن زكريا نفسه عندما رأى الرؤيا التي تختص بالمنارة قال: “فأجاب الملاك الذي تكلم في داخلي وقال لي أما تعلم ما هذه فقلت لا يا سيدي. فأجاب وكلمني قائلاً هذه كلمة الرب إلى زربابل قائلاً لا بالقدرة ولا بالقوة بل بروحي قال الرب القادر على كل شيء” (زك 4 : 5، 6). فواضح اذن بدرجة كافية، أن هذا الذي تكلم للنبي كملاك لم يكن هو الروح القدس، ولكنه كان هو نفسه ملاكاً. أما ذاك “الذي تكلم به” فهو روح الله القدير. وهو يخدم من الملاك، وهو روح الكلمة الذي لا ينفصل عن اللاهوت.

ولكن حيث انهم يتخذون من قول الرسول مبرراً لهم، نظراً لأنه أشار إلى الملائكة المختارين في وضع تال بعد المسيح، فليوضحوا لنا أي ملاك من هؤلاء الملائكة جميعهم هو الذي يحسب كواحد من الثالوث. لأنه بكل وضوح لا يمكنهم جميعاً أن يكونوا واحداً من جهة العدد، أو من هو الذي من بينهم، ذاك الذي نزل إلى الأردن في شكل حمامة؟ لأن الملائكة الذين يخدمون هم: “الوف الوف وربوات وربوات” (دا 7 : 10). أو عندما انفتحت السموات، لماذا لم يقل انه قد نزل من السماء ملاك من الملائكة المختارين بل قيل: “الروح القدس”؟ أو عندما تكلم الرب نفسه إلى تلاميذه عن نهاية العالم، لماذا ميز بينه وبين الملائكة وقال: “يرسل ابن الإنسان ملائكته” (مت 24 : 41). وقبل هذا الكلام قيل: “واذا ملائكة قد جاءت فصارت تخدمه” (مت 4 : 11)، وايضاً يقول هو نفسه: “يخرج الملائكة” (مت 13 : 39). وأما عندما أعطى الروح القدس للتلاميذ فقد قال: “اقبلوا الروح القدس” (يو 20 : 22). وعندما أرسلهم قال: “اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس” (مت 28 : 19).

انه لم يضف ملاكاً إلى اللاهوت. كذلك فانه لم يوحدنا معه ومع الآب بواسطة مخلوق بل بواسطة الروح القدس. وعندما وعد بالروح القدس فلم يقل انه سيرسل ملاكاً بل “روح الحق الذي من عند الآب ينبثق” (يو 15 : 26) والذي يأخذ من الابن ويعطي.

(12)

واذ عرف موسى بيقين أن الملائكة مخلوقات، بينما أن الروح القدس متحد مع الابن والآب، فانه لما قال الله له “اذهب وأصعد من هنا أنت وشعبك الذي اصعدته من أرض مصر إلى الأرض التي حلفت لابراهيم واسحق ويعقوب قائلاً لنسلكم سوف أعطيها، وأنا أرسل أمام وجهك ملاكي وأطرد الكنعانيين” (خر 33 : 1، 2)، فاستعفى قائلاً: “ان لم تسر معنا انت بنفسك، فلا تصعدني من ههنا” (خر 33 : 15)، لأنه لم يشأ أن يتقدم الشعب مخلوق، لئلا يتعلم أن يعبد المخلوق، وليس الله الذي خلق كل الاشياء. وبكل تأكيد فما دام (موسى) قد رفض قبول الملاك، فقد كان يرجو أن يقود الله الشعب بنفسه. أما الله فقد وعده وقال له: “هذا الأمر ايضاً الذي تكلمت عنه أفعله. لأنك وجدت نعمة في عيني وعرفتك أكثر من الجميع” (خر 33 : 17س). وكتب في اشعياء: اين الذي أصعد من الأرض راعي الغنم؟، اين هو الله الذي جعل في وسطهم الروح القدس، الذي قاد موسى بيمينه” (أش 63 : 11، 12). وبعد ذلك بقليل يقول: “الروح نزل من عند الرب وقادهم” (أش 63 : 14). هكذا قدت شعبك لتصنع لنفسك اسم مجد” (لا 11 : 45).

فمن ذا الذي لا يدرك الحقيقة من خلال هذه الأمور؟ فعندما وعد الله بأنه سيقودهم، فانه لم يعد بأن يرسل ملاكاً بل روحه الذي هو فوق الملائكة، وهو نفسه الذي كان يقود الشعب، وهكذا يتبين أن الروح ليس واحداً من بين المخلوقات، وهو كذلك ليس ملاكاً، بل هو أعلى من الخليقة، وهو متحد بلاهوت الآب. لأن الله نفسه، بالكلمة في الروح ([13])، كان يقود الشعب. ومن ثم، فانه من خلال الكتاب المقدس كله يقول: “اني أصعدتكم من أرض مصر، وانتم شهود أن كان هناك اله غريب بينكم سواي” (لا 19 : 36). والقديسون يخاطبون الله قائلين “هديت شعبك كالغنم” (مز 77 : 20).

وايضاً: “هداهم على الرجاء فلم يجزعوا” (مز 77 : 53س)، وله يرنمون قائلين: “الذي قاد شعبه في البرية لأن إلى الأبد رحمته” (مز 136 : 16). ويتكلم موسى العظيم باستمرار قائلاً: “الرب الهكم السائر أمامكم” (تث 1 : 30). واذن، فأن روح الله، لا يمكن أن يكون ملاكاً ولا مخلوقاً، ولكنه خاص بلاهوته. لأنه عندما يكون الروح القدس مع الشعب، يكون الله معهم بالابن في الروح.

(13)

ويقول ايضاً نفس الاشخاص: (اذا كانت الأمور تؤخذ على هذا النحو، فلماذا اذن، بعد أن سمى الرسول، المسيح، لماذا لم يسم الروح القدس، بل سمى الملائكة المختارين؟).

ويمكن أن يوجه اليهم نفس هذا التساؤل: لماذا لم يسم بولس لا رؤساء ملائكة ولا الشاروبيم ولا السيرافيم ولا السيادات ولا العروش ولا أية طغمة أخرى، بل سمى بولس فقط الملائكة المختارين؟ فاذا لم يكن قد أشار اليهم فهل يعني هذا أن الملائكة هم رؤساء ملائكة ام انه يوجد ملائكة فقط لا سيرافيم ولا شاروبيم ولا رؤساء ملائكة ولا سيادات ولا عروش ولا رئاسات ولا أية طغمة أخرى؟

وهنا معناه انه قد وضع على الرسول أن يجيب بالضرورة: لماذا لم يكتب هكذا ولكن كتب باختلاف، ويعني ايضاً انه يجهل الكتب المقدسة، ولذلك فقد ضل عن الحق، لأنه ها هوذا ما قد كتب في اشعياء: “تقدموا إلى واسمعوا هذه. لم أتكلم من البدء في الخفاء. منذ أن حدث هذا أنا هناك. والآن السيد الرب أرسلني وروحه” (أش 48 : 16س). وفي حجي: “والان تشدد يا رزبابل يقول الرب وتشدد يا يهوشع بن يهو صادق الكاهن العظيم يقول الرب، وتشدد يا جميع شعب الأرض يقول الرب واعملوا فاني معكم يقول الرب ضابط الكل وروحي قائم في وسطكم” (حجي 2 : 4، 5س).

فالنبيان يذكران فقط الرب والروح، فماذا سوف يقولون عن هذا؟ لأنهم إذا كانوا قد وضعوا الروح ضمن الملائكة، لأن الرسول اذ ذكر المسيح، صمت عن ذكر الروح وذكر الملائكة المختارين، فلقد صار من المناسب لهم اذن، بناء على أقوال هذين النبيين أن يفكروا بأكثر جرأة عن هذا الذي صمت عنه النبيان. فاذا قبلوا أن الرب هو الابن فماذا سيقولون عن الآب؟ وإذا قبلوا أن الرب هو الآب، فماذا سيقولون عن الابن؟ أي أن النتائج المترتبة على تجديفهم لا يمكن للمرء حتى أن يحسبها. ويكون من الضروري على هؤلاء أن يقولوا اما انه (أي الأقنوم الذي لم يذكر) غير موجود أو انهم يحسبون هذا الذي صمت عن ذكره، من بين المخلوقات.

(14)

وماذا يمكنهم أن يقولوا عندما يسمعون الرب يقول ايضاً: “كان في كورة ما قاض لا يخاف الله ولا يهاب انساناً” (لو 18 : 2). فهل لأنه سمى الإنسان بعد الله يكون الابن هو ذلك الإنسان الذي لا يهابه القاضي الظالم؟ أم لأنه سمى الإنسان بعد الله، يكون الابن هو الثالث بعد الانسان، ويكون الروح القدس هو الرابع؟

وماذا يمكنهم أن يقولوا إذا سمعوا الرسول ايضاً يقول في نفس الرسالة: “اوصيك امام الله الذي يحيي الكل وأمام يسوع المسيح الذي شهد لدى بيلاطس بنطيوس بالاعتراف الحسن، أن تحفظ الوصية بلا دنس ولا لوم” (1تي 6 : 13، 14). فهل يشكون في وجود الروح وكذلك في وجود الملائكة لأن الرسول صمت الآن عن ذكر الملائكة وعن ذكر الروح؟ بكل تأكيد هم يشكونن حيث انهم فكروا بمثل هذه الأفكار، وجدفوا على الروح.

وعندما يسمعون الكتاب يقول في سفر الخروج: “فخاف الشعب الرب وآمنوا بالله وبموسى عبده” (خر 14 : 31). فهل يحسبون موسى مع الله وبعد الله لا يفكرون في الابن بل في موسى فقط؟

وماذا يقولون عندما يسمعون البطريرك يعقوب يبارك يوسف ويقول: “الله الذي رعاني منذ شبابي إلى هذا اليوم، الملاك الذي خلصني من كل شر يبارك هذين الغلامين” (تك 48 : 15، 16)، فهل يقدمون الملاك على الابن لأنه سمى الملاك بعد الله، أو هل يحسبون الابن بين الملائكة؟ نعم، هكذا ايضاً سوف يفكرون بسبب فساد قلبهم.

ولكن الايمان الرسولي ليس على هذا النحو، ولا يمكن لأي مسيحي أن يحتمل هذا أبداً. لأن الثالوث القدوس المبارك هو غير منقسم وهو متحد في ذاته. وعندما يسمى الآب فهو يتضمن ايضاً كلمته والروح الذي في الابن. وعندما يسمى الابن يكون الآب في الابن ولا يكون الروح خارجاً عن الكلمة. لأن النعمة التي من الآب هي واحدة، وهي تتم بالابن في الروح القدس. وهناك ألوهة واحدة واله واحد الذي هو “على الكل وبالكل وفي الكل” (أف 4 : 6). وهكذا اذن عندما قال بولس: “أناشدك أمام الله والرب يسوع المسيح” (1تي 5 : 21). كان يعرف أن الروح لا ينفصل عن الابن وانه هو نفسه في المسيح كما أن الابن في الآب. ولكنه بالطبع أضاف معهما الملائكة المختارين لأنه كان يعرف أن كل ما كان يقوله كان كأقوال صادرة من الله بالمسيح في الروح القدس، وان الملائكة يخدموننا وهم يراقبون أعمال كلامنا ([14]). وقد ناشد التلميذ لكي يحفظ وصايا المعلم باعتبار أن الملائكة الحارسين شهود على اقواله. أو لعله هو هنا يستدعي الملائكة كشهود، لأن هؤلاء ينظرون على الدوام وجه الآب الذي في السموات (مت 18 : 4)، وذلك من أجل الصغار الذين في الكنيسة ([15])، حتى لا يهمل التلميذ وصايا الرسول.

(15)

واذن فانه يبدو لي أن هذا هو معنى الأقوال الالهية ([16])، وهو ينقض التجديف غير المعقول الموجه ضد الروح القدس. وحيث أن هؤلاء يستمرون في معارضتهم للحق كما كتبت. فانهم لا يستندون إلى الكتب المقدسة، لأنهم لا يجدون فيها سنداً، لكنهم من فيض قلوبهم الخاصة ينطقون ويقولون: “اذا لم يكن الروح القدس مخلوقاً وإذا لم يكن واحداً من الملائكة ولكنه منبثقاً من الآب، عندئذ يكون هو نفسه ابناً، ويكون هو والكلمة أخوين. وإذا كان هو أخاً فكيف يدعى الكلمة الوليد الوحيد” ([17])؟ وكيف لا يكونان متساويين، حيث أن الواحد منهما يسمى بعد الآب بينما يسمى الآخر بعد الابن؟ وإذا كان من الآب فكيف لا يقال عنه انه قد ولد أو انه ابن بل فقط الروح القدس؟ وان كان الروح القدس هو روح الابن فيكون الآب هو جد للروح القدس”.

هكذا يقول هؤلاء الفجار ساخرين، وهم في فضولهم يرغبون أن يفحصوا أعماق الله التي لا يعرفها الا روح الله وحده الذي يجدفون عليه. ويجب علينا اذن أن لا نرد عليهم اطلاقاً حسب الوصية الرسولية (تي 3 : 10)، بعد الانذار الذي وجه اليهم مما قد قيل سابقاً، ولنعرض عنهم كهراطقة ولا نتباحث معهم بعد. ولنسألهم نحن على نحو ما يسألون، ثم نطلب منهم أن يجيبونا على نحو ما يطلبونه منا. فعليهم اذن أن يجيبونا أن كان الآب قد ولد من أب، وإذا كان هناك آخر قد ولد معه ويكون أخاً له من أب واحد وماذا تكون أسماؤهما، ومن هو أب هذا الأب ومن هو جده، ومن هم أجدادهم؟ على انهم سوف يؤكدون انه لا يوجد أجداد. فليقولوا لنا اذن كيف يكون الذي لم يولد من أب، هو نفسه أباً، وكيف يمكن أن يكون له ابن إذا لم يكن هو نفسه قد ولد سابقاً كابن؟

اني ادرك أن هذا السؤال كفري. ولكن حيث أن هؤلاء يسخرون على هذا النحو، يكون من العدل أن يهزأ بهم لكي يستطيعوا أن يشعروا بحماقتهم من هذا السؤال الكفري غير المعقول. حاشا أن تكون الأمور كذلك، ولا يجب لأحد أن يسأل اسئلة عن اللاهوت على هذا النحو لأن الله ليس مثل الإنسان حتى يجرؤ أحد أن يسأل عنه أسئلة بشرية.

(16)

فيجب علينا اذن أن نصمت من جهة هذه الأمور كما سبق وأشرنا، وألا نشغل أنفسنا مع هؤلاء.. ولكن لئلا يخلق صمتنا، فيهم علة للأفكار الوقحة فليسمعوا هذا: كما أنه لا يمكننا أن نقول انه يوجد أب للآب هكذا لا يمكننا أن نقول أن هناك أخاً للابن. وكما كتبنا سابقاً، انه لا يوجد اله آخر غير الآب، هكذا ايضاً لا يوجد ابن آخر غير الابن لأنه وحيد الجنس. وكما أن الآب هو وحيد وواحد فهو آب لابن وحيد وواحد. أن اسم “الآب” واسم “الابن” وجداً دائماً ويظلان كما هما بصفة دائمة في اللاهوت فقط. لأنه بين البشر إذا دعي شخص ما أباً فهو قد كان سابقاً ابناً لآخر. وإذا دعي ابناً فهو مع ذلك أب لرجل آخر. هكذا بالنسبة للبشر فان اسم “الآب” و”الابن” لا يظل محتفظاً دائماً بمعناه. فابراهيم الذي كان ابناً لتارح صار اباً لاسحق، واسحق الذي كان ابناً لابراهيم صار أباً ليعقوب، فان طبيعة البشر تسير على هذا المنوال، لأنهم أجزاء بعضهم من بعض، فكل من يولد يأخذ جزءاً من أبيه لكي يصير هو نفسه ايضاً أباً لآخر.

ولكن في اللاهوت فليس الأمر على هذا النحو. لأن الله ليس مثل الانسان، وجوهره لا يتجزأ. ومن أجل ذاك فانه لم يتجزأ لكي يلد الابن حتى يصير اباً لآخر، لأنه هو نفسه لم يكن من أب، وكذلك فالابن ليس جزءاً من الآب، ولذلك فهو لم يلد كما وُلد (بضم الواو) هو نفسه، بل هو صورة كلية للكامل وهو اشعاعه ([18]). وفي اللاهوت فقط، فان الآب هو أب بالمعنى الأصيل والابن هو ابن بالمعنى الأصيل. وبالنسبة لهما يكون صحيحاً أن الآب هو أب على الدوام. والابن هو ابن على الدوام. وكما أن الآب لن يكون ابناً أبداً كذلك ايضاً لن يصير الابن اباً مطلقاً. وكما أن الآب لم يكف أبداً عن أن يكون الآب الوحيد، هكذا. فلن يكف الابن ابداً عن أن يكون الابن الوحيد.

وعلى ذلك يكون من اختلال العقل أن نتصور وجود أخ للابن، وان نعطي للآب اسم الجد. لأنه لم يحدث مطلقاً أن دعي الروح القدس في الكتب المقدسة ابناً حتى لا يعتبر أنه أخ للابن وكذلك لم يدع ابناً للابن حتى لا يعتبر أن الآب جد. لكن الابن دعي ابناً للآب، والروح دعي روح الآب. وهكذا يكون لاهوت الثالوث القدوس واحداً والايمان به واحداً.

(17)

وهكذا يكون من الخبل أن ندعو الروح مخلوقاً، لأنه لو كان مخلوقاً لما كان من الممكن أن يحسب مع الثالوث القدوس لأن كل الثالوث هو اله واحد. ويكفي لنا أن نعرف أن الروح ليس مخلوقاً ولا يحسب ضمن المخلوقات لأن الثالوث لا يختلط به أي شيء غريب، وهو غير قابل للتقسيم وهو متماثل مع ذاته. هذه الحقائق كافية للمؤمنين. والى هذا الحد تبلغ المعرفة البشرية. وعند هذا الحد تحجب الشاروبيم بأجنحتها. أما من يريد أن يبحث ما هو أبعد من ذلك فهو يخالف ذلك الذي قال: “لا تكن حكيماً بزيادة حتى لا تربك نفسك” (جا 7 : 16س).

لأن هذا الذي سلم الينا بواسطة الايمان لا يجوز لنا أن نقيمه بمقاييس الحكمة البشرية بل بسمع الايمان لأن أي عقل يمكنه أن يفسر باحكام، الأمور التي تعلو على الطبيعة المخلوقة. واي سمع يمكنه أن يدرك الأشياء التي لا يسوغ للبشر أن يسمعوها أو أن ينطقوا بها. لأن ما سمعه بولس فقد تكلم به. أما عن الله نفسه فيقول: “ما أبعد طرقه عن الاستقصاء لأن من عرف فكر الرب أو من صار له مشيراً” (رو 11 : 23، 24). وابراهيم لم يقحم نفسه بفضول ولم يباحث من تكلم معه بل “آمن فحسب له براً” (رو 4 : 3). وعلى هذا النحو ايضاً دعي موسى “خادماً أميناً” (عب 3 : 5).

أما إن كان لهم نفس فكر أريوس لا يستطيعون أن يدركوا ولا أن يؤمنوا أن الثالوث القدوس غير قابل للتقسيم لأن الحكمة لا تدخل عقولهم غير المصقولة، فعليهم أن لا يسيئوا تفسير الحق لهذا السبب ولا أن يقولوا أن ما لا يستطيعون أن يدركوه هو غير موجود. فالأريوسيين، اذ لم يستطيعوا أن يدركوا كيف أن الثالوث القدوس غير قابل للتقسيم جعلوا الابن واحداً من المخلوقات، أما “المحرفون” فيحسبون الروح القدس ضمن المخلوقات. ولكنهم كان يجب عليهم اما أن يصمتوا تماماً بسبب عدم فهمهم – فلا يضع الأريوسيون الابن ضمن المخلوقات، ولا يضع “المحرفون” الروح القدس ضمن المخلوقات – أو أن يدركوا المكتوب ويوحدوا الابن مع الآب ولا يفصلوا الروح القدس عن الابن حتى يمكنهم أن يحافظوا حقيقة على وحدة الطبيعة غير المنقسمة التي للثالوث القدوس. وحيث أن هؤلاء قد تعلموا هذه الأمور كان يجب عليهم أن لا يتجرأوا ويسألوا بشك، كيف يمكن أن تحدث هذه الأمور حتى لا يبتدعوا آراء خاطئة عندما يكون الشخص الذي يسألونه عاجزاً عن الاجابة. لأنه من غير الممكن بالنسبة لجميع المخلوقات وعلى الأخص بالنسبة لنا نحن البشر أن نتكلم بجدارة عن الأمور المكتومة. والأكثر سوءاً، اننا عندما لا نستطيع أن نتكلم عن هذه الأمور، فاننا نخترع كلمات جديدة مخالفة لما في الكتب المقدسة. وفضلاً عن ذلك فان مثل هذه المحاولة هي غير معقولة سواء بالنسبة للسائل أو بالنسبة لمن يحاول الاجابة بطريقة ما. لأن من يسأل أسئلة على هذا النحو عن المخلوقات فلا يعتبر تفكيره سليماً.

(18)

وليتجاسر هؤلاء الذين يجيبون بسهولة على كل شيء، أن يخبرونا كيف خلقت السموات، ومن أية مادة، وطبيعة تكوينها. أو كيف خلقت الشمس وكل واحد من الكواكب. وليست هناك اية غرابة إذا كشفنا جهلهم بالنسبة للأشياء التي فوقنا ونحن بكل تأكيد نجهل كيف خلقت وما هي طبيعة النباتات التي توجد هنا تحت، والمياه، والحيوانات. بل انهم سوف لا يستطيعون أن يجيبوا على هذه التساؤلات. لأنه حتى سليمان وهو الأكثر حكمة من الجميع، رأى انه من غير الممكن للانسان أن يكتشف هذه الأمور وكان يقول: “جعل الأبدية في قلبهم، ومع ذلك لا يستطيع الإنسان أن يدرك العمل الذي عمله الله من البداية إلى النهاية” (جا 3 : 11). وحيث انهم لم يستطيعوا أن يدركوها فانهم ايضاً لم يعترفوا بها. نعم انهم لم يعترفوا بها لأن عقولهم قد انحرفت. وعلى ذلك يمكن للمرء أن يسألهم: “يا عديمي العقل يا متجاسرين دائماً، لماذا لا تكفون بالحري عن اسئلتكم الفضولية عن الثالوث القدوس، ولماذا لا تؤمنون فقط انه موجود؟ متخذين الرسول معلماً لكم في هذا الأمر عندما يقول: “يجب أن تؤمنوا أولاً بالله انه موجود وانه يجازي الذي يطلبونه” (عب 11 : 6). لأنه لم يقل كيف يوجد ولكنه قال فقط “أنه موجود”. فاذا لم يكونوا، بعد كل هذا قد اخفوا وجوههم من الخجل فليقولوا لنا كيف يوجد الآب حتى يمكنهم ايضاً أن يعلموا كيف يوجد كلمته.

وان كانوا سيقولون انه من غير اللائق أن نتسائل هكذا عن الآب، فدعهم يسمعون انه ايضاً من غير اللائق أن نتسائل هكذا عن كلمته ايضاً.

(19)

واذن فحيث أن مثل هذه المحاولة هي جنون خطير بل أكثر من جنون فليس لأحد أن يسأل بعد مثل هذه الأسئلة، بل عليه أن يتعلم فقط ما هو في الكتب المقدسة. لأن الأمثلة التي تتضمنها النصوص عن هذا الأمر هي كافية وشديدة الوضوح. وهكذا فالآب يدعى ينبوعاً ونوراً لأنه يقول: “تركوني انا ينبوع المياه الحية” (أر 2 : 13). وايضاً في باروخ: “لماذا انت يا اسرائيل في أرض اعدائك؟ لقد تركت ينبوع الحكمة” (باروخ 3 : 10-12)، وايضاً حسب يوحنا “الهنا نور” (1يو 1 : 5).

وأما الابن فمن جهة علاقته بالينبوع يدعى نهراً: “نهر الله ملآن ماء” (مز 64 : 9)، ومن جهة علاقته بالنور يدعى اشعاعاً ([19]) – اذ يقول بولس: “الذي هو شعاع مجده ورسم جوهره” (عب 1 : 3). ومن ثم حيث أن الآب نور والابن هو شعاعه، فلا ينبغي أن نتحاشى تكرار نفس الاشياء عنهما مرات كثيرة. ويمكننا أن نرى في الابن، “الروح” الذي بواسطته نستنير ([20]): “لكي يعطيكم روح الحكمة والاعلان في معرفته مستنيرة عيون قلوبكم” (أفسس 1 : 17، 18). ولكن حينما نستنير بالروح، فالمسيح هو الذي ينير فيه (أي في الروح) لأنه يقول: “كان النور الحقيقي الذي ينير كل انسان، آتياً إلى العالم” (يو 1 : 9) وايضاً، حيث أن الآب ينبوع، والابن يسمى نهراً، لذلك نقول اننا نشرب الرب. لأنه مكتوب: “جميعنا سقينا روحاً واحداً” (1كو 12 : 13) ولكن حينما نشرب الروح، فاننا نشرب المسيح. “لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم، والصخرة كانت المسيح” (1كو 10 : 4). وبالاضافة إلى ذلك، كما أن المسيح ابن حقيقي، فاننا عندما نأخذ الروح، “نصير ابناء” ([21]). لأن الكتاب يقول: “اذ لم تأخذوا روح العبودية ايضاً للخوف بل أخذتم روح التبني” (رو 8 : 15). وان كنا بالروح قد صرنا ابناء فواضح اننا في المسيح ندعى أولاد الله لأن: “كل الذين قبلوه اعطاهم سلطاناً أن يصيروا اولاد الله” (يو 1 : 12). وعلى ذلك، فكما أن الآب هو “الحكيم الوحيد”، كما قال الرسول بولس، فان الابن هو “حكمته”، : “المسيح قوة الله وحكمة الله” (1كو 1 : 24). وحيث أن ابن الله هو الحكمة وابن الحكمة، فاننا اذ نأخذ روح الحكمة، نملك الابن، وبه نصير حكماء. لأنه هكذا هو مكتوب في المزمور المئة والخامس والأربعون: “الرب يحل المأسورين، الرب يفتح أعين العميان”. (مز 145 : 7، 8س). وحينما يعطى لنا الروح القدس (قال المخلص: “اقبلوا الروح القدس”)، يقيم الله فينا، لأنه هكذا كتب يوحنا: “ان أحب بعضنا بعضاً فالله يقيم فينا، بهذا نعرف اننا نقيم فيه وهو فينا، لأنه قد أعطانا من روحه”. (1يو 4 : 12، 13). وحيث أن الله يوجد فينا، يكون الابن ايضاً فينا. لن الابن نفسه قال: “الآب وأنا نأتي ونصنع عنده منزلاً” (يو 14 : 23). وايضاً، حيث أن الابن هو الحياة – لأنه يقول: “أنا هو الحياة” (يو 14 : 6). فاننا نحن ايضاً سنحيا بالروح، لأنه يقول: “الذي اقام المسيح من بين الأموات سيحيي اجسادكم المائتة بروحه الساكن فيكم” (رو 8 : 11). وحيث اننا محيون بالروح، فالمسيح نفسه يحيا فينا، لأنه يقول: “مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ” (غلا 2 : 20). وايضاً، قال الابن أن الاعمال التي عملها هو، عملها الآب – لأنه يقول: “الآب الحال فيَّ هو يعمل أعماله. صدقوني أني في الآب والآب فيَّ، والا فصدقوني بسبب أعماله” (يو 14 : 10-12). وهكذا ايضاً قال بولس أن الأعمال التي عملها بقوة الروح هي أعمال المسيح: “لأني لا أجسر أن أتكلم عن شيء مما لم يفعله المسيح بواسطتي لإطاعة الأمم بالقول والفعل بقوة آيات وعجائب، بقوة الروح القدس” (رو 15 : 18، 19).

(20)

واذن، حيث انه توجد مثل هذه المماثلة وهذه الوحدة في الثالوث القدوس فمن يمكنه أن يفصل الابن عن الآب أو يفصل الروح عن الابن أو عن الآب نفسه؟ ومن تصل به الجرأة حتى يقول أن اقانيم الثالوث غير متماثلة فيما بينها، ومختلفة في الطبيعة، أو أن الابن جوهر غريب عن الآب، أو أن الروح غريب عن الابن.

ولكن بأية طريقة يمكن أن تحدث هذه الأمور؟ فان كان أحد ايضاً يسأل ويبحث قائلاً: كيف حينما يوجد الروح فينا، يقال أن الابن فينا؟ وحينما يكون الابن فينا، فكيف يقال أن الآب فينا؟ وعندما يكون الثالوث حقاً ثالوثاً، فكيف يفهم انه واحد. أو لماذا حينما يكون فينا، يقال أن الثالوث موجود فينا؟ فعلى هذا أن يفصل أولاً الشعاع عن النور، أو يفصل الحكمة عن الحكيم، أو فليخبرنا كيف تكون هذه الأمور.

ولكن أن كانت هذه الأمور من غير الممكن أن تحدث، فان توجيه مثل هذه الأسئلة عن الله يكون جرأة جنونية. لأن الألوهة لا تسلم لنا بواسطة براهين كلامية بل بالايمان مع التفكير بتقوى ووقار. فان كان بولس قد ذكر بالصليب المخلص “لا بكلام الحكمة بل ببرهان الروح والقوة” (1كو 2 : 4) وقد سمع في الفردوس “كلمات لا ينطق بها ولا يسوغ لانسان أن يتكلم بها” (2كو 12 : 4)، فمن يستطيع أن يتكلم عن الثالوث القدوس نفسه؟

ومع ذلك فيمكننا أن نعالج هذه الصعوبة أولاً، بالايمان، وبعد ذلك باستعمال ما سبق أن ذكرناه من أمثلة اي: الصورة والشعاع، والينبوع والنهر، والجوهر والرسم. وكما أن الابن هو في الروح الذي هو صورته الخاصة ([22])، هكذا الآب ايضاً في الابن. لأن الكتاب الالهي، لكي يعالج عجزنا عن شرح وفهم هذه المعاني بالكلمات، قد أعطانا مثل هذه الأمثلة، حتى بسبب عدم ايمان هؤلاء المتجاسرين، يمكننا أن نعرض بأكثر وضوح، وان نتكلم بدون التعرض لخطر (الضلال)، وان نفكر بطريقة مشروعة، وان نؤمن بقداسة ([23]) واحدة مستمدة من الآب بالابن في الروح القدس. لأنه كما أن الابن هو وليد وحيد ([24]) هكذا ايضاً الروح – اذ هو معطى ومرسل من الابن – هو نفسه واحد وليس كثيرين، وليس واحداً من كثيرين، بل هو نفسه وحيد. اذن، كما أن الابن – الكلمة الحي – هو واحد، هكذا فإن القوة الحيوية والعطية التي بها يقدس ويضيء، ينبغي أن تكون واحدة كاملة وتامة، وهي التي يقال عنها انها تنبثق من الآب، لأنها من الكلمة، الذي يعترف انه من الآب، وهي التي تشرق وترسل وتُعطى (بضم التاء). فالابن يرسل من الآب، لأنه يقول: “هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد” (يو 3 : 16). والابن يرسل الروح فهو يقول: “ان ذهبت ارسل المعزي” (يو 16 : 7). الابن يمجد الآب قائلاً: “ايها الآب أنا مجدتك” (يو 17 : 4)، بينما الروح يمجد الابن، لأنه يقول ذاك يمجدني (يو 16 : 14). وبينما يقول الابن: “ما سمعته من الآب فهذا أقوله للعالم” (يو 8 : 26)، فان الروح يأخذ من الابن لأنه يقول: “لأنه يأخذ مما لي ويخبركم” (يو 16 : 14) ([25]). الابن أتى باسم الآب. ويقول الابن: “الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي” (يو 14 : 26).

(21)

فاذا كان الروح له مثل هذه الرتبة والطبيعة ([26]) مع الابن، مثل ما للابن مع الآب، فان ذاك الذي يدعو الروح مخلوقاً، أفلا يقول نفس الشيء بالضرورة عن الابن ايضاً؟ لأنه أن كان الروح مخلوقاً من الابن فان هذا يقتضيهم أن يقولوا أن الكلمة مخلوق من الآب. لأن الأريوسيين اذ قد تصوروا مثل هذه التصورات فقد سقطوا في يهودية قيافا. ولكن أن كان هؤلاء الذين يقولون مثل هذه الاشياء عن الروح يدعون انهم لا يأخذون بتصورات أريوس، فدعهم يتحاشون كلماته، والا يتكلموا بعدم تقوى عن الروح. لنه كما أن الابن الذي هو في الآب والآب هو فيه، ليس مخلوقاً بل هو من جوهر الآب ذاته لأن هذا هو ما تدعون انكم تقولونه ايضاً، هكذا ايضاً فان الروح الذي هو في الابن والابن فيه، ليس مسموحاً أن يحسب بين المخلوقات، ولا أن نفصله عن الكلمة ولا أن نقدم الثالوث بصورة غير كاملة.

وفيما يخص أقوال كل من النبي والرسول التي خدعوا انفسهم بتحريفهم اياها، فان هذه الاعتبارات تكفي لكي تبين أقوال هؤلاء المحرفين الشريرة التي أدى اليها جهلهم. ويتبقى علينا اذن أن ننظر في الأقوال التي وردت عن الروح القدس في الكتب الالهية، واحداً فواحداً، وكصرافين مهمرة فنحكم: هل الروح فيه أي شيء يختص بالمخلوقات ام هو خاص بالله، وذلك لكي ندعوه اما مخلوقاً أو انه يختلف عن المخلوقات وينتمي إلى – كما انه واحد مع اللاهوت في الثالوث الذي لا ابتداء له. وربما – على هذا النحو – يخجلون حينما يتحققون إلى أي درجة أن كلمات التجديف التي اخترعوها هي غير متوافقة مع الأقوال الالهية.

(22)

واذن فالخلائق قد أتت من العدم اذ لها بداية لوجودها، لنه “في البدء خلق الله السموات والأرض” (تك 1 : 1) وكل ما هو موجود فيها. وأما الروح القدس فقد قيل عنه انه من الله، لأنه يقول “ليس أحد يعرف أمور الإنسان الا روح الإنسان الذي فيه، هكذا ايضاً أمور الله لا يعرفها أحد الا روح الله ونحن لم نأخذ روح العالم بل الروح الذي من الله” (1كو 2 : 11، 12). وعلى أساس ما سبق، فأية قرابة اذن يمكن أن توجد بين الروح وبين المخلوقات؟ فالمخلوقات لم يكن لها وجود بينما أن الله هو الكائن، والروح هو منه. والذي هو من الله لا يمكن أن يكون مما هو غير كائن، ولا يمكن أن يكون مخلوقاً لئلا – بحسب تقديرهم، فالذي منه الروح ايضاً ينبغي أن يعتبر مخلوقاً. فمن اذن سوف يحتمل مثل هذه؟ لأنهم يقولون ايضاً في قلوبهم “ليس اله” (مز 13 : 1س). لأنه أن كان أحد لا يعرف أمور الإنسان الا روح الإنسان الذي فيه، هكذا ايضاً لا أحد يعرف أمور الله الا الروح الذي فيه، أفلا يكون تجديفاً أن يدعى الروح الذي في الله مخلوقاً، وهو الذي يفحص حتى أعماق الله؟ لأنه على هذا الأساس سيكون من الضروري أن يقبل المتكلم أن يقول أن روح الإنسان هو خارج عن الإنسان نفسه، وان الكلمة الذي في الآب هو مخلوق.

وايضاً الروح هو روح القداسة والتجديد ([27]) ويدعى هكذا. لأن بولس يكتب: “وتحدد انه ابن بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات، يسوع المسيح ربنا” (رو 1 : 4). ويقول ايضاً: “لكن تقدستم بل تبررتم باسم الرب يسوع وبروح الهنا” (1كو 6 : 11). وحينما يكتب إلى تيطس يقول: “لكن ظهر لطف مخلصنا الله ومحبته للبشر، لا بأعمال في بر عملناها نحن، بل بمقتضى رحمته خلصنا بحميم الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس الذي سكبه علينا بغنى بيسوع المسيح مخلصنا. حتى إذا تبررنا بنعمته نصير ورثة حسب رجاء الحياة الأبدية” (تيطس 3 : 4-7). وأما المخلوقات فتتقدس وتتجدد: “ترسل روحك فتخلق وتجدد وجه الأرض” (مز 104 : 30) ويقول بولس: “لأن الذين استنيروا مرة وذاقوا الموهبة السماوية وصاروا شركاء الروح القدس وسقطوا لا يمكن تجديدهم ايضاً للتوبة” (عب 6 : 4-6).

(23)

واذن فان ذلك الذي لا يتقدس بواسطة آخر، ولا يأخذ القداسة، بل هو نفسه الذي يُشترك (بضم الياء) فيه، والذي فيه تتقدس كل المخلوقات، فكيف يمكن أن يكون واحداً من بين الكل، أو يكون من خاصة أولئك الذين يشتركون فيه؟ لأن أولئك الذين يقولون هذا يلزم أن يقولوا أن الابن – الذي به وجدت كل الاشياء، هو واحد من بين كل هذه الاشياء.

هو يدعى روح محيي لأنه يقول “الذي أقام يسوع من الأموات سيحيي أجسادكم المائتة أيضاً بروحه الساكن فيكم” (رو 8 : 11). والرب هو الحياة نفسها، وهو “بادئ الحياة” كما قال بطرس (أع 3 : 15)، بل والرب نفسه قال: “الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية.. قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه” (يو 4 : 14، 7 : 39). ولكن المخلوقات كما قيل، تنال الحياة به. فذلك الذي لا يأخذ الحياة بل هو نفسه الذي تؤخذ منه، ويحيي المخلوقات فأية قرابة يمكن أن تكون بينه وبين الأشياء المخلوقة؟ كيف يمكن أن يكون من بين المخلوقات التي تنال الحياة به من الكلمة.

والروح يدعى مسحة وهو الختم لأن يوحنا يكتب: “أما أنتم فالمسحة التي أخذتموها منه ثابتة فيكم ولا حاجة بكم إلى أن يعلمكم أحد بل كما تعلمكم مسحته” – روحه – “عن كل شيء” (1يو 2 : 27). وكذلك كتب في اشعياء النبي: “روح الرب علي لأن الرب مسحني” (أش 61 : 1) ويقول بولس: “الذي فيه ايضاً انتم اذ آمنتم.. ختمتم ليوم الفداء” (أف 1 : 13، و5 : 30). والمخلوقات تختم وتمسح بواسطته وتتعلم منه كل شيء. ولكن أن كان الروح هو المسحة والختم الذي به يمسح الكلمة كل الاشياء ويختمها، اذن فأي شبه أو انتماء للمسحة والختم مع الاشياء التي تمسح وتختم؟ وبناء على هذا لا يمكن أن يكون الروح من بين كل المخلوقات. فالختم لا يمكن أن يكون من بين الاشياء التي تختم، والمسحة لا يمكن أن تكون من بين الاشياء التي تمسح، ولكنه يخص الكلمة الذي يمسح والذي يختم، لأن المسحة لها أريج ورائحة من يمسح. وأولئك الذي يمسحون يقولون حينما ينالونها: “نحن رائحة المسيح الزكية” (2كو 2 : 15). والختم له صورة المسيح الذي يختم، والذين يختمون يشتركون في الختم ويتشكلون حسبه، كما يقول الرسول: “يا أولادي الذين اتمخض بكم ايضاً إلى أن يتصور المسيح فيكم” (غلا 4 : 19). وهكذا اذ نختم فمن الطبيعي أن نصير “شركاء الطبيعة الالهية” كما يقول بطرس (2بط 1 : 4)، وهكذا فكل الخليقة تشترك في الكلمة بالروح.

(24)

وبالاضافة إلى ذلك فانه يقال عنا اننا “شركاء الله”. لأنه يقول: “أما تعلمون أنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم؟ أن كان أحد يفسد هيكل الله فسيفسده الله لأن هيكل الله مقدس الذي أنتم هو” (1كو 3 : 16، 17).

فلو كان الروح القدس مخلوقاً، لما كان لنا اشتراك في الله بواسطته. فان كنا قد اتحدنا بمخلوق فاننا نكون غرباء عن الطبيعة الالهية حيث اننا لم نشترك فيها. أما الآن فلكوننا ندعى شركاء الله، فهذا يوضح أن المسحة والختم الذي فينا، ليس من طبيعة المخلوقات بل من طبيعة الابن، الذي يوحدنا بالآب بواسطة الروح الذي فيه. هذا ما علمنا اياه يوحنا – كما قيل سابقاً – عندما كتب: “بهذا نعرف اننا نثبت في الله وهو فينا انه قد أعطانا من روحه” (1يو 4 : 13). ولكن أن كنا بالاشتراك في الروح نصير “شركاء الطبيعة الالهية” (2بط 1 : 4)، فانه يكون من الجنون أن نقول أن الروح من طبيعة المخلوقات وليس من طبيعة الله. وعلى هذا الأساس فان الذين هم فيه، يتألهون. وان كان هو يؤله ([28]) البشر، فلا ينبغي أن يشك أن طبيعته هي طبيعة الهية.

ولكن بوضوح أكثر – لأجل ابادة هذه الهرطقة يرنم المرنم – كما قلنا سابقاً – في المزمور المائة والثالث: “تنزع روحهم فيموتون ويعودون إلى ترابهم. ترسل روحك فيخلقون وتجدد وجه الأرض” (مز 103 : 29، 30س). وكتب بولس إلى تيطس: “بحميم الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس، الذي سكبه بغنى علينا بيسوع المسيح..” (تي 3 : 5، 6). ولكن أن كان الآب بالكلمة في الروح القدس يخلق كل الاشياء ويجددها فاي شبه أو قرابة بين الخالق والمخلوقات. فذلك الذي فيه خلقت كل الاشياء، كيف يمكن أن يكون مخلوقاً. أن مثل هذا الكلام الرديء يقود إلى التجديف على الابن حتى أن أولئك الذين يقولون أن الروح مخلوق، يقولون ايضاً أن الكلمة الذي خلقت به كل الاشياء، مخلوق.

يقال عن الروح – وهو كذلك – انه صورة الابن لأن “الذين سبق فعرفهم سبق فعينهم ليكونوا مشابهين صورة ابنه” (رو 8 : 29). واذن، فان كانوا يعترفون أن الابن ليس مخلوقاً، فلا يكون صورته ايضاً مخلوقاً. لأنه كما تكون الصورة، هكذا يكون أصل الصورة. هكذا فمن الطبيعي والمناسب أن يعترف أن الكلمة ليس مخلوقاً لأنه صورة الآب. ولذلك فمن يعد الروح مع المخلوقات، فانه بالضرورة سيحصى الابن ايضاً بينها. وبهذا سوف يتكلم كلاماً رديئاً على الآب ايضاً بكلامه الرديء على صورته.

(25)

واذن فالروح هو مختلف عن المخلوقات، ويتضح بالحري انه خاص ([29]) بالابن وليس غريباً عن الله. أما فيما يخص سؤالهم الحكيم ([30]): “ان كان من الله فلماذا لا يدعى هو نفسه ايضاً ابناً؟ فلقد سبق أن اوضحنا انه سؤال متهور ومتجاسر، والآن نحن نوضح انه ليس اقل من ذلك. ورغم أن الكتب المقدسة لا تدعوه ابناً بل روح الله، ولكنها تقول أنه في الله نفسه ومن الله نفسه كما كتب الرسول. وان كان الابن، بسبب انه من الآب، هو خاص بجوهر الآب، فينبغي أن الروح الذي هو من الله، يكون بالجوهر خاصاً بالابن. وهكذا، فكما أن الرب هو الابن، فالروح يدعى روح البنوة. وايضاً كما أن الابن هو الحكمة والحق، فالروح كتب عنه انه روح الحكمة والحق. وايضاً من جهة، الابن هو قوة الله وهو رب المجد، ومن جهة أخرى، الروح يدعى روح القوة وروح المجد. ويشير الكتاب إلى كل منهما بما يأتي: فبولس كتب إلى الكورنثيين: “لو عرفوا لما صلبوا رب المجد” (1كو 2 : 8).

وفي موضع آخر يقول: “اذ لم تأخذوا روح العبودية ايضاً للخوف بل اخذتم روح التبني” (رو 8 : 15). وقال ايضاً: “ارسل الله روح ابنه إلى قلوبكم، صارخاً يا أبا الآب” (غلا 4 : 6). وكتب بطرس: “ان عيرتم باسم المسيح فطوبى لكم لأن روح المجد والقوة وروح الله يحل عليكم” (1بط 4 : 14)، والرب دعا الروح: “روح الحق”، و”المعزي” (يو 14 : 16، 17)، مبيناً بهذا أن الثالوث كامل به. ففيه الكلمة يجعل الخليقة مجيدة. ويمنحه اياها الحياة الالهية والتبني فانه يجذبها إلى الآب. ولكن ذاك الذي يربط الخليقة بالكلمة لا يمكن أن يكون واحداً من المخلوقات. والذي يمنح التبني للخليقة لا يمكن أن يكون غريباً عن الابن. لأننا بغير ذلك يكون من الضرورة أن نطلب روحاً آخر لكي به يمكن أن يرتبط هذا الروح بالكلمة. وهذا كلام غير معقول. لذلك فالروح ليس واحداً من المخلوقات، بل هو خاص بلاهوت الآب والذي فيه يجعل الكلمة الاشياء المخلوقة تشارك في الطبيعة الالهية. ولكن ذلك الذي فيه تشترك الخليقة في الطبيعة الالهية لا يمكن أن يكون خارج لاهوت الآب.

(26)

أما أن الروح هو فوق الخليقة، ومختلف في الطبيعة عن الاشياء المخلوقة، وانه خاص باللاهوت، فهذا يمكن أن نعرفه مما يلي. فالروح القدس غير قابل للتغير والتحول لأنه يقول “روح التأديب، يهرب من الغش ويتحول عن الأفكار الغببية” (حكمة 1 : 5). ويقول بطرس “في الروح عديم الفساد الوديع الهادئ” (1بط 3 : 4)، وايضاً في الحكمة: “روحك العديم الفساد هو في كل شيء” (حكمة 12 : 1). وايضاً أن كان “لا أحد يعرف أمور الله الا روح الله الذي فيه” (1كو 2 : 11). لأنه ليس لدى الله “تغيير ولا ظل دوران” كما قال يعقوب (يع 1 : 17).

فالروح القدس لكونه في الله، ينبغي أن يكون غير قابل للتغير والتحول والفساد. ولكن طبيعة الاشياء الناشئة والاشياء المخلوقة قابلة للتغير، حيث انها خارج جوهر الله، وأتت إلى الوجود من العدم. لنه يقول “كل انسان كاذب” (مز 115 : 11س)، وايضاً “الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله” (رو 3 : 23)، “والملائكة الذين لم يحفظوا رئاستهم بل تركوا مسكنهم الخاص، حفظهم إلى دينونة اليوم العظيم بقيود أبدية تحت الظلام” (يهوذا 6). وفي أيوب، “هوذا ملائكته لا يأتمنهم، والى ملائكته ينسب حماقة، والنجوم غير نقية في عينيه” (أيوب 4 : 18، 25 : 5).

وكتب بولس: “ألستم تعلمون اننا سندين ملائكة فبالأولى أمور هذه الحياة” (1كو 6 : 3). ولقد سمعنا أن بليس، الذي كان “بين الشاروبيم”، وكان “خاتم الشبه”، سقط “كالبرق من السماء” (حز 28 : 12، ولو 10 : 18). ولكن أن كانت المخلوقات لها مثل هذه الطبيعة المتغيرة، وقد كتب مثل هذا عن الملائكة، والروح هو هو نفسه وهو غير متغير، فان كان الروح له نفس عدم تحول الابن، ويظل دائماً معه غير متغير فأي شبه بين غير المتغير والمتغير؟ وهكذا يتضح انه ليس مخلوقاً وليس هو من جوهر الملائكة على الإطلاق لأنهم متغيرون، أما هو فهو صورة الكلمة ويخص الآب.

وايضاً، فروح الرب يملأ المسكونة، ولذلك يرتل داود: “أين أذهب من روحك” (مز 138 : 7س). وايضاً مكتوب في سفر الحكمة: “روحك غير الفاسد هو في كل الاشياء” (حك 12 : 1). ولكن الاشياء المخلوقة هي في أماكن محددة لها: الشمس والقمر والنجوم في الجلد، والسحب في الهواء. أما للناس، فقد وضع حدوداً للشعوب، (أنظر تث 32 : 8) والملائكة يرسلون للخدمات (أنظر عب 1 : 14). “وجاء الملائكة ليمثلوا أمام وجه الرب”، كما هو مكتوب في أيوب (أي 1 : 6). ورأى يعقوب البطريرك حلماً: “واذا سلم منصوبة على الأرض ورأسها يمس السماء، وهوذا ملائكة صاعدة ونازلة عليها” (تك 28 : 12). ولكن أن كان الروح يملأ كل الاشياء وهو في الكلمة حاضر في كل الاشياء. وان كان الملائكة أقل منه، وحيثما يرسلون فهناك يكونون حاضرين، اذن فلا ينبغي أن يشك في أن الروح ليس بين الاشياء المخلوقة وليس هو ملاكاً على الإطلاق، كما تقولون انتم، بل هو فوق طبيعة الملائكة.

(27)

ومما يلي ايضاً يمكن أن ترى كيف أن الروح القدس يُشترك (بضم الياء) فيه ولكن هو لا يشترك ([31])، (ولا ينبغي أن نتردد في تكرار نفس الكلام). لأنه مكتوب: “ان الذين استنيروا مرة وذاقوا الموهبة السماوية وصاروا شركاء الروح القدس، وذاقوا كلمة الله الصالحة..” (عب 6 : 4، 5). فالملائكة والمخلوقات الأخرى تشترك في الروح نفسه، واذن فهم يمكن أن يسقطوا من الذي يشتركون فيه. ولكن الروح هو دائماً كما هو، لأنه ليس واحداً من بين أولئك الذين يشتركون، ولكن كل الاشياء تشترك فيه. فان كان هو دائماً كما هو، ودائماً يشترك فيه، وان كانت المخلوقات تشترك فيه، فالروح القدس لا يمكن أن يكون ملاكاً ولا مخلوقاً على الاطلاق، بل هو خاص بالكلمة، الذي به يعطي، من أجل أن تشترك المخلوقات في الروح. وهم يرغبون أن يقولوا أن الابن مخلوق، وهو الذي فيه نصير كلنا شركاء في الروح.

وايضاً فالروح القدس واحد أما المخلوقات فكثيرة، فالملائكة “ألوف ألوف وربوات ربوات” (دا 7 : 10). وتوجد أنوار كثيرة (انظر تك 1 : 14)، وعروش وسيادات وسموات وشاروبيم وسيرافيم ورؤساء ملائكة كثيرة. وباختصار فالمخلوقات ليست واحداً، ولكنها كلها معاً هي كثيرة ومتنوعة. فان كان الروح القدس واحداً والمخلوقات كثيرة، والملائكة كثيرون، فأي شبه بين الروح وبين المخلوقات؟ واذن يتضح أن الروح ليس واحداً بين الكثيرين وليس هو ملاكاً. ولكن لأنه واحد، وبالأكثر لأنه خاص بالكلمة الذي هو واحد وخاص بالله الذي هو واحد فهو من نفس الجوهر.

هذه الأقوال عن الروح القدس – هي وحدها في ذاتها – توضح انه لا يوجد شيء مشترك أو خاص بينه وبين المخلوقات في الطبيعة وفي الجوهر، وانه مختلف عن الاشياء المخلوقة، وهو خاص بلاهوت الابن وجوهره وليس غريباً عنه، ومن أجل هذا فهو من الثالوث القدوس، وهذا يكشف قلة فهمهم.

(28)

ولكن بالاضافة إلى ذلك، دعونا ننظر إلى تقليد الكنيسة الجامعة وتعليمها. وايمانها ([32])، الذي هو من البداية “والذي أعطاه الرب وكرز به الرسل وحفظه الآباء”. وعلى هذا (الأساس) تأسست الكنيسة، ومن يسقط منه فلن يكون مسيحياً ولا ينبغي أن يدعى كذلك فيما بعد.

واذن يوجد ثالوث قدوس وكامل، يعترف بلاهوته في الآب والابن والروح القدس، وليس له شيء غريب أو خارجي ممتزج به، ولا يتكون من خالق ومخلوق، ولكن الكل يبني ويخلق، وهو مساو وغير منقسم في الطبيعة، وفعله واحد. فالآب بالكلمة في الروح القدس يعمل كل الاشياء، وهكذا تحفظ وحدة الثالوث القدوس سالمة. وهكذا يكرز باله واحد في الكنيسة، “الذي على الكل وبالكل وفي الكل” (أف 4 : 6). “على الكل” كأب وكبدء وكينبوع، “وبالكل” أي بالكلمة، “وفي الكل” أي في الروح القدس. هو ثالوث ليس فقط بالاسم وصيغة الكلام بل بالحق والوجود الفعلي.. لأنه كما أن الآب هو الكائن الذي يكون، هكذا ايضاً الكلمة هو الكائن والاله على الكل. والروح القدس ليس بدون وجود حقيقي. بل هو يوجد وله كيان فعلي. وليس بأقل من هؤلاء الثلاثة تعتقد الكنيسة الجامعة، لئلا تنزلق إلى أفكار اليهود المعاصرين الرديئة – الذين حسب قيافا -، والى أفكار سابيليوس، كما انها لا تعتقد بأكثر من ثلاثة، لئلا تتدحرج إلى تعدد الآلهة. عند اليونانيين. ولكي يعرف هؤلاء أن هذا هو ايمان الكنيسة، فدعهم يفهمون كيف أن الرب حينما أرسل الرسل، أوصاهم أن يضعوا هذا الأساس للكنيسة قائلاً: “اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس” (مت 28 : 19). فمضى الرسل وهكذا عملوا. وهذه هي الكرازة إلى كل الكنيسة التي تحت السماء.

(29)

واذن فحيث أن الكنيسة لها أساس الايمان، فليقل لنا أولئك الناس مرة أخرى وليعطوا جواباً: هل الله ثالوث أم اثنان؟ فاذا كان اثنين فعليكم أن تحسبوا الروح بين المخلوقات. وبهذا يكون ايمانكم ليس ايماناً باله واحد، “الذي على الكل، وبالكل، وفي الكل” (أف 4 : 6). أن التكميل ([33]) الذي تحسبون انكم تمارسونه ليس انضماماً تاماً إلى اللاهوت لأنكم تمزجون المخلوق باللاهوت، ومثل الأريوسيين واليونانيين ([34]) تضعون الخليقة مع الله الذي خلقها بكلمته الذاتي. فان كان هذا هو اتجاهكم فاي رجاء يكون لكم؟ فمن هو الذي يوحدكم بالله، أن لم يكن لكم روح الله بل الروح الذي من الخليقة؟ فأي جسارة وعدم مبالاة أن تنقصوا الآب وكلمته إلى مستوى المخلوقات، ومع ذلك تضعون المخلوقات في مستوى الله، لن هذا هو ما تفعلونه حينما تتخيلون الروح كمخلوق وتحسبونه مع الثالوث، فأي جنون من جهتكم أن تنسبوا الظلم إلى الله، اذ لا تحسبون مع الله وكلمته سوى واحد من بين كل الملائكة وكل المخلوقات. لأنه أن كان الروح – كما تقولون – هو ملاك ومخلوق، وفي نفس الوقت يحسب مع الثالوث، اذن يكون ضرورياً، ليس لواحد فقط بل لكل الملائكة الذين خلقوا، أن يحسبوا مع اللاهوت، وبذلك لا يعود هناك فيما بعد ثالوث بل عدد لا يحصى في اللاهوت. وهكذا فان طقس الانضمام ([35]) – الذي نكرر – انه يظهر انه طقسكم، هو منقسم بين هنا وهناك وصار غير أكيد بسبب تقلبه. هكذا تكون طقوسكم وطقوس الأريوسيين الذين يجادلون ضد اللاهوت ويعبدون المخلوقات دون الله الذي خلق كل الاشياء.

(30)

مثل هذه الضلالات تقابلك أن قلت أن الله اثنين. ولكن أن كان هو ثالوث، كما هو حقاً، وان كان قد تبين أن الثالوث غير منقسم – ومتماثل – واذن فبالضرورة تكون قداسته واحدة، وأبديته واحدة، وكذلك طبيعته غير القابلة للتغير. لأنه كما أن الايمان بالثالوث ([36]) – المسلم الينا – يجعلنا متحدين بالله، وكما أن ذلك الذي يستعبد أي واحد من الثالوث، ويعتمد باسم الآب وحده أو باسم الابن وحده، أو باسم الآب والابن بدون الروح القدس، لا ينال شيئاً، بل يظل غير فعال وغير مكتمل ([37])، هو نفسه وذلك الذي يفترض انه ضمه، (لأن طقس الاكتمال ([38]) – هو بالثالوث)، هكذا ذلك الذي يفصل الابن عن الآب، أو من ينزل الروح إلى مستوى المخلوقات، فليس له الآب ولا الابن بل هو بدون اله، وهو أشر من غير المؤمن، ويمكن أن يكون أي شيء. الا أن يكون مسيحياً. وهذا أمر عادل. لنه كما أن المعمودية التي تعطى بالآب والابن والروح، هي واحدة، وكما أن هناك ايمان واحد بالثالوث – كما قال الرسول – هكذا الثالوث القدوس اذ هو واحد مع نفسه، ومتحد في نفسه، وليس له في نفسه ما هو من المخلوقات. وهذه وحدة الثالوث غير المنقسمة، والايمان به هو واحد. ولكن أن كان الأمر بحسب الابتداع الجديد الذي صنعتموه ايها “المحرفون” – ليس هو كذلك، وان كنتم قد رأيتم احلاماً بأن تدعوا الروح القدس مخلوقاً، فاذن لا يعود لكم بعد ايمان واحد ومعمودية واحدة ([39]) بل اثنان، واحد بالآب والابن وآخر بملاك الذي هو مخلوق، ولا يبقى لكم يقين ولا حق. لأنه اية شركة بين المخلوق والخالق؟ واية وحدة بين المخلوقات وبين الكلمة الذي خلقها؟ والمبارك بولس، اذ عرف هذا، لا يقسم الثالوث كما تفعلون، بل اذ يعرف وحدته، فقد كتب إلى الكورنثيين عن الأمور الروحية. فهو يرد كل الأشياء إلى اله واحد، الآب ([40]) قائلاً: “أنواع مواهب موجودة ولكن الروح واحد. وأنواع خدم موجودة ولكن الرب واحد وأنواع أعمال موجودة ولكن الله واحد الذي يعمل الكل في الكل” (1كو 12 : 4-6).

فالمواهب التي يقسمها الروح لكل واحد تمنح من الآب بالكلمة. لأن كل ما هو من الآب هو من الابن ايضاً. واذن فتلك الاشياء التي تعطى من الابن في الروح هي مواهب الآب. وحينما يكون الروح فينا، فالكلمة الذي يعطي الروح يكون ايضاً فينا، والآب موجود في الكلمة. وهكذا يكون كما قال: “سنأتي أنا والآب ونصنع عنده منزلاً” (يو 14 : 23). لأنه حيث يكون النور فهناك الشعاع أيضاً، وحيث يكون الشعاع فهناك ايضاً يكون فاعليته ونعمته المضيئة.

وهذا هو ما علم به الرسول ايضاً حينما كتب إلى الكورنثيين في الرسالة الثانية قائلاً: “نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله وشركة الروح القدس مع جميعكم” (2كو 13 : 13). لأن هذه النعمة والهبة تعطى في الثالوث من الآب بالابن في الروح القدس، وكما أن النعمة المعطاة هي من الآب بالابن، هكذا فانه لا يكون لنا شركة في العطية الا في الروح القدس. لأننا حينما نشترك فيه تكون لنا محبة الآب ونعمة وشركة الروح نفسه.

(31)

ويتضح مما سبق أن فعل الثالوث هو واحد. فالرسول لا يعني أن ما يعطى، يعطى من كل واحد متنوعاً ومجزئاً ([41])، ولكن ما يعطى انما يعطى في الثالوث، والكل من اله واحد. وعلى ذلك فالذي هو غير مخلوق، بل هو متحد مع الابن، كما أن الابن متحد مع الآب، والذي هو ممجد مع الآب والابن، الذي يعترف به الهاً مع الكلمة، والذي هو يفعل الأعمال التي يعملها الآب مع الكلمة، أفلا يكون ذلك الإنسان الذي دعوه مخلوقاً ([42])، مجرماً بكفر مباشر ضد الابن نفسه؟ لأنه لا يوجد شيء لم يخلق ولم يعمل بالكلمة في الروح. وهكذا يرتل في المزامير: “بكلمة الرب صنعت السموات وبروح فيه كل جنودها” (مز 32 : 6س). وفي المزمور المئة والسابع والأربعين: “يرسل كلمته فيذيبها، يهب بروحه فتسيل المياه” (مز 147 : 18س). ونحن “قد تبررنا باسم ربنا يسوع المسيح وبروح الهنا” كما يقول الرسول (1كو 6 : 11). لأن الروح غير منفصل عن الكلمة، وبالتأكيد حينما يقول الرب: “سنأتي انا والآب” (يو 14 : 23)، يأتي الروح معهما ويسكن فينا، ليس لسبب آخر غير أن يحل الابن فينا، كما كتب بولس إلى الأفسسيين: “لكي يعطيكم بحسب غنى مجده، أن تتأيدوا بالقوة بروحه في الإنسان الباطن ليحل المسيح..” (أف 3 : 16-17). ولكن أن كان الابن فينا يكون الآب فينا ايضاً كما يقول الابن: “انا في الآب والآب في” (يو 14 : 10).

لذلك حينما يكون الكلمة في الانبياء فانهم يتنبئون بالروح القدس ([43]). وحينما يقول الكتاب “صارت كلمة الرب” (أر 1 : 2، ميخا 1:1)، إلى ذلك النبي بالذات، فهذا يوضح انه يتنبأ بالروح القدس. ومكتوب في زكريا: “لكن اقبلوا كلامي وفرائضي التي أوصيت بها عبيدي الانبياء بروحي” (زك 1 : 6). وحينما وبخ النبي الشعب بعد ذلك بقليل: “جعلوا قلبهم عنيداً لئلا يسمعوا شريعتي والكلام الذي أرسله رب الجنود بروحه عند يد الانبياء الأولين” (زك 7 : 12). وقال بطرس في سفر الأعمال: “ايها الأخوة كان ينبغي أن يتم الكتاب الذي سبق الروح القدس فقاله” (أع 1 : 16). والرسل صرخوا بصوت عال معاً قائلين: “ايها السيد، أنت هو الاله الصانع السماء والأرض والبحر وكل ما فيها، القائل بالروح القدس بفم داود فتاك..” (أع 4 : 24-25). وبولس حينما كان في رومية تكلم بجرأة إلى اليهود الذين أتوا اليه: “حسناً كلم الروح القدس اباءكم باشعياء النبي” (أع 28 : 25). وكتب إلى تيموثيئوس: “الروح يقول صريحاً انه في الأزمنة الأخيرة يرتد قوم عن الايمان تابعين أرواحاً مضلة” (1تي 4 : 1). ولذلك حينما يقال أن الروح صار في أي أحد فهذا يعني أن الكلمة فيه هو الذي يمنح الروح وحينما تحققت النبوة: “أني اسكب روحي على كل بشر” (يوئيل 2 : 28)، قال بولس “حسب موأزرة روح يسوع المسيح لي” (في 1 : 19). وكتب إلى الكورنثيين: “ان كنتم تطلبون برهان المسيح المتكلم فيَّ” (2كو 13 : 3). ولكن أن كان الذي تكلم فيه هو المسيح، فهذا يوضح أن الروح الذي تكلم فيه هو روح المسيح. وبسبب أن روح المسيح كان يتكلم فيه، قال ايضاً في سفر الأعمال: “والآن ها أنا ذاهب إلى اورشليم مقيداً بالروح لا أعلم ما يصادفني هناك، غير أن الروح يشهد في كل مدينة قائلاً، أن وثقاً وشدائد تنتظرني” (أع 20 : 22، 23). وعليه فحينما يقول القديسون: “هكذا قال الرب” (أنظر عا 1 : 3)، فانهم لا يتكلمون الا بالروح القدس. واذ يتكلمون بالروح القدس فهم يتكلمون بهذا في المسيح. واذ يقول أغابوس في الأعمال: “هذا يقوله الروح القدس” (أع 21 : 11)، فليس الا بواسطة الكلمة الآتي اليه، يمنح الروح ايضاً القوة ليتكلم ويشهد عن الأمور التي تنتظر بولس في اورشليم. وهكذا ايضاً حينما يشهد الروح لبولس فكما قلنا قبلاً، فالمسيح عينه كان هو المتكلم فيه، لتكون الشهادة التي أتت من الروح هي تخص الكلمة. وهكذا أيضاً حينما افتقد الكلمة، العذراء القديسة مريم، أتى الروح القدس اليها معه، والكلمة بالروح شكل الجسد وهيأه لنفسه، راغباً أن يوحد ويقدم كل الخليقة للآب بواسطة نفسه، “ويصالح كل الاشياء فيه.. صانعاً سلاماً.. سواء ما هو في السموات أو ما هو على الأرض” (كو 1 : 20).

(32)

وعلى ذلك – فوفقاً للكتب الالهية – يتبين أن الروح القدس ليس مخلوقاً بل هو خاص بالكلمة وبلاهوت الآب، وهكذا يتفق تعليم القديسين ([44]) عن الثالوث القدوس غير المنقسم، وهو الايمان الواحد الذي للكنيسة الجامعة. ولكن ابتداع “المحرفين” غير المعقول والخرافي يتناقض من ناحية مع الكتب المقدسة ومن ناحية أخرى يتفق مع عدم عقلانية الأريوسيين المجانين. انه من الطبيعي بالنسبة لهم أن يتظاهروا هكذا ليخدعوا البسطاء، ولكن شكراً للرب – فكما تكتب انت فم ينجحوا في تغطية انفسهم باصطناع الخلاف مع الأريوسيين. لقد صاروا مكروهين من اولئك لأنهم يدعون أن الروح فقط مخلوق دون أن يدعوا الابن كذلك. وقد أدانهم جميع الناس لأنهم في الحقيقة يحاربون الروح ([45])، وبعد قليل سوف يموتون اذ هم مقفرون وخالون من الروح. وبكلمات الرسول المبارك اذ هم “أناس نفسانيون”، فانهم لا يستطيعون أن يقبلوا ما يخص روح الله لأن هذه الأمور انما يحكم فيها روحياً. أما أولئك الذين يهتمون بالأمور التي تخص بالحق، فيحكمون في كل شيء، ولكن هم أنفسهم لا يحكم فيهم من أحد، لأنهم يملكون الرب في أنفسهم الذي يكشف لهم نفسه في الروح، وبواسطة نفسه يكشف الآب.

(33)

ورغم اني أسكن الآن في البرية، ولكن بسبب وقاحة الذين تحولوا عن الحق، فاني لم أبال بأولئك الذين يرغبون أن يضحكوا على ضعف شرحي وفقره. ولكن اذ قد كتبت باختصار فاني أرسله إلى تقواك مع توسلات كثيرة انك حينما تقرأه، فانك من ناحية تصححه ومن ناحية أخرى، حينما تجد أن الكتابة ضعيفة فانك تلتمس العذر. وبحسب الايمان الرسولي المسلم لنا بالتقليد من الآباء، فاني قد سلمت التقليد بدون ابتداع أي شيء خارجاً عنه. فما تعلمته فذلك قد رسمته مطابقاً للكتب المقدسة، لأنه يتطابق ايضاً مع تلك المقاطع من الكتب المقدسة التي اقتبسناها أعلاه، لأجل التأكيد.

انه ليس ابتداعاً خارجياً، ولكن الرب يسوع المسيح نفسه، هو بشخصه علم المرأة السامرية وعلمنا من خلالها كمال الثالوث القدوس الذي هو لاهوت واحد غير منقسم، فالحق نفسه هو الذي يشهد حينما يقول للسامرية: “يا امرأة، صدقيني انه تأتي ساعة وهي الآن حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح وبالحق، لأن الاب طالب مثل هؤلاء الساجدين له. الله روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا” (يو 4 : 21-24). ومن هذه الفقرة يتضح أن الحق هو الابن نفسه، كما يقول: “انا هو الحق” (يو 14 : 6)، والذي بخصوصه صلى داود النبي قائلاً: “أرسل نورك وحقك” (مز 43 : 3). لذلك فالساجدون الحقيقيون يسجدون للآب ولكن بالروح والحق، معترفين بالابن وبالروح فيه. لأن الروح غير منفصل عن الابن، كما أن الابن غير منفصل عن الآب. فالحق نفسه يشهد حينما يقول: “سأرسل لكم المعزي روح الحق الذي من عند الآب ينبثق، الذي لا يستطيع العالم أن يقبله” (يو 15 : 26، 14 : 17)، أي اولئك الذين ينكرون انه من الآب في الابن.

لذلك فينبغي – على مثال الساجدين الحقيقيين – أن نعترف بالحق وننحاز اليه. وان كانوا بعد هذه الأمور لا يزالون لا رغبة لهم أن يتعلموا، ولا قوة لهم أن يفهموا، فدعهم على الأقل أن يكفوا عن الكلام الشرير. دعهم لا يقسمون الثالوث لئلا يفصلوا عن الحياة. دعهم لا يحسبون الروح القدس بين المخلوقات، لئلا مثل الفريسيين القدماء، ينسبون أعمال الروح إلى بعلزبول، فانهم بسبب جسارة مشابهة، يجلبون (على أنفسهم) مع هؤلاء الناس العقاب الذي هو بلا رجاء في الغفران هنا، وما بعد ذلك.

 

الرسالة الثانية

(1)

كنت أظن أن ما كتبته، قليل، واتهمت نفسي بالضعف الكثير، لأنني لم أستطع أن اكتب كل ما يمكن أن يقوله البشر ضد هؤلاء الذين يجدفون على الروح القدس. ولكن حيث أن بعض الأخوة – كما كتبت أنت – قد طلبوا أن نختصر الكتابة حتى يمكن لهم أن يردوا على الذين يسألون عن الايمان الذي فينا، بوسيلة جاهزة ومختصرة، وان يدحضوا أولئك الذين يجدفون، ولقد فعلت هذا، وأنا واثق – اذ أن لك ضمير صالح – أنه إذا كان فيها ثمة نقص، فانك سوف تكمله.

أن الأريوسيين ([46]) اذ انغلقوا على انفسهم، معتقدين مثل الصدوقيين انه ليس هناك، خارجاً عنهم، ما هو أسمى، فانهم واجهوا الكتب الموحى بها بمجادلات بشرية. فحينما يسمعون أن الابن هو حكمة الآب، وشعاعه، وكلمته ([47])، فانهم اعتادوا أن يسألوا كيف يمكن أن يكون هذا؟ كما لو انه لا يمكن أن يكون ثمة شيء الا ويفهموه. وقياساً على ذلك، فانه ينبغي عليهم أن يفكروا على هذا النحو في مثل هذه الأمور: فكيف يمكن للخليقة التي لم تكن موجودة، أن تأتي إلى الوجود؟ أو كيف يمكن لتراب الأرض أن يتشكل انساناً عاقلاً؟ أو كيف يمكن للفاسد أن يصير عديم الفساد؟ أو كيف “تأسست الأرض على البحار”، “وكيف ثبتها الله على الأنهار”؟ (مز 24 : 2)، ثم أخيراً ينبغي أن يضيفوا إلى أنفسهم: “فلنأكل ونشرب لأننا غداً نموت” (1كو 15 : 32)، لكي يصير واضحاً انه عندما يهلكون، فسيهلك ايضاً معهم جنون هرطقتهم!

(2)

أن مثل هذا الفكر للأريوسيين هو في الحقيقة إلى فناء وزوال. ولكن كلمة الحق التي كان ينبغي على هؤلاء أن يدركوها هي كما يلي: إذا كان الله ينبوعاً ونوراً وأباً، فليس من الجائز القول بأن الينبوع جاف ([48]) أو أن النور بلا شعاع أو أن الله بلا كلمة، لئلا يكون الله غير حكيم، وغير عاقل، وبلا شعاع. واذن فحيث أن الآب أزلي، فبالضرورة يكون الابن ايضاً أزلياً، لأن كل ما نفطنه عن الآب فهو بلا شك في الابن ايضاً، لأن الرب نفسه يقول، “كل ما للآب فهو لي” (يو 16:16)، وكل “ما هو لي هو للآب” (يو 17 : 10). فالآب أزلي، والابن هو ايضاً أزلي ايضاً هو “الكائن على الكل الهاً مباركاً إلى الأبد أمين” (رو 9 : 5). فليس من الصواب القول عن الآب: “كان هناك زمن لم يكن فيه موجوداً”. وليس من الصواب القول عن الابن: “كان هناك زمن لم يكن فيه موجوداً”. الآب ضابط الكل، والابن ايضاً ضابط الكل، كما يقول يوحنا: “هذا ما يقوله الرب الكائن والذي كان والذي يأتي، الضابط الكل” (رؤ 1 : 8).

الآب نور والابن شعاع ونور حقيقي. الآب اله حقيقي والابن اله حقيقي، فهكذا كتب يوحنا “فنحن في الحق في ابنه يسوع المسيح، هذا هو الاله الحق والحياة الابدية” (1يو 5 : 20). وبوجه عام، ليس هناك شيء مما هو للآب لا يكون للابن. ولذلك فالابن هو في الآب (يو 14 : 10) والآب هو في الابن، لأن كل ما هو للآب يكون في الابن، وايضاً كل هذا يدرك في الآب. وعلى هذا النحو يدرك القول: “أنا والآب واحد” (يو 10 : 30). لأنه لا توجد أشياء في الآب، وأخرى مغايرة في الابن، بل أن كل ما هو في الآب هو في الابن أيضاً، وحيث انكم ترون في الابن تلك الأشياء التي ترونها في الآب، فانكم تدركون حسناً ذلك القول: “من رآني فقد رأى الآب” (يو 14 : 9).

(3)

وعندما نكون قد برهنا على هذه الأمور هكذا، فالذي يقول أن الابن مخلوق يكون كافراً، وسوف يكون مضطراً لأن يدعو الينبوع الذي يدفق الحكمة، الكلمة، والذي فيه كل ما يخص الآب، يدعو هذا الينبوع، مخلوقاً. وبتعبير آخر، فمما يلي يمكن للمرء أن يلاحظ مدى ضلال هرطقة الأريوسيين المجانين. فأولئك الذين نشابههم ولنا هويتهم، لنا معهم نفس الجوهر ([49]).

فنحن البشر اذن، متشابهون، ولنا نفس الهوية ([50])، ولنا أحدنا مع الآخر نفس الجوهر. فنفس الوضع يكون للجميع: الموت، الفساد، التغير، والوجود من العدم. وايضاً الملائكة فيما بينهم، وكذلك الكائنات الأخرى، لها فيما بينها طبيعة واحدة. فدع هؤلاء الفضوليين أن يبحثوا فيما إذا كان هناك من بين المخلوقات من يشبه الابن، أو إذا كان من الممكن أن يتجاسروا ويقولوا أن كلمة الله مخلوق. ولكن هؤلاء المتهورين والضالين عن التقوى، لن يجدوا أي تشابه. فليس بين المخلوقات من هو قادر على كل شيء، وليس بينها من هو تحت سيادة الآخر ([51])، لأن كل منها ملك لله نفسه: “المسوات تحدث بمجد الله” (مز 18 : 1س)، و”للرب الأرض وملؤها” (مز 23 : 1س). “البحر رآه فهرب” (مز 113 : 1س). فالكل عبيد لذلك الذي هو خالقهم، صانعين كلمته ومطيعين أوامره. ولكن الابن هو ضابط الكل كالآب.

وهذا هو ما كتب وتبين. وأيضاً، فليس بين المخلوقات ما هو غير متغير بالطبيعة. فبعاَ من الملائكة “لم يحفظوا رتبتهم” (يه 6).

“والنجوم ليست ظاهرة أمامه” (أي 25 : 5). والشيطان سقط من السماء، وأما آدم فعصى. وكل الاشياء متغيرة. وأما الابن فهو غير متغير ولا متحول. وهكذا فان بولس يذكرنا من المزمور المئة والواحد: “وأنت يارب أسست الأرض والسماء هي عمل يديك. هي تبيد ولكن أنت تبقى، وكلها كثوب تبلى، وكرداء تطويها فتتغير، ولكن أنت أنت وسنوك لن تفنى” (عب 1 : 10-12).

وايضاً يقول “يسوع المسيح هو هو أمس واليوم والى الأبد”.

(4)

وايضاً، فان كل الاشياء المخلوقة لم تكن موجودة، ثم صارت موجودة. لأنه “صنع الأرض من لا شيء” (أش 40 : 23س)، و”يدعو الاشياء غير الموجودة كأنها موجودة” (رو 4 : 17)، وهي أيضاً “مصنوعات” ومخلوقات ومن أجل ذلك فان وجودها له بداية ([52])، لأنه “في البدء خلق الله السموات والأرض” (تك 1 : 1)، وكل ما فيها. وايضاً “كل هذه صنعتها يدي” (أش 66 : 2). لكن الابن هو كائن، واله على الكل، مثل الآبن وهذا ما قد تبين. وهو ليس مصنوعاً بل هو صانع. هو ليس مخلوقاً بل هو خالق وصانع أعمال الآب. لأنه به “صارت العالمين إلى الوجود” (انظر عب 1 : 2)، و”كل شيء به كا وبغيره لم يكن شيء مما صار” (يو 1 : 3). وكما شرح الرسول محتوى المزمور، هو نفسه في البدء أسس الأرض، والسموات هي عمل يديه. وأيضاً ليس هناك من بين المخلوقات ما هو بالطبيعة اله. كل ما صار في الوجود قد دعي بحسب ما صاره: أحدها دعي سماء، وآخر أرضاً، والبعض كواكب، والبعض الآخر نجوماً. والبعض بحاراً، ثم أعماقاً، ثم حيوانات من ذوات الأربع، وأخيراً الانسان. وقبل ذلك الملائكة ورؤساء الملائكة والشاروبيم والسيرافيم والقوات والرئاسات والسلاطين والأرباب، والفردوس، وهكذا يظل كل واحد منها. ولكن أن كان البعض منها قد دعي آلهة، فذلك ليس بحسب الطبيعة بل بحسب اشتراكها مع الابن، لأنه هكذا ايضاً قال هو نفسه: “ان قال آلهة لأولئك الذين صارت اليهم كلمة الله” (يو 10 : 35). ومن أجل هذا فلأنهم ليسوا آلهة، بالطبيعة، فان بعضهم قد يعاني التغير ([53]) في وقت ما، ويسمعون القول “أنا قلت انكم آلهة وبنو العلي كلكم، لكن مثل الناس تموتون” (مز 81 : 6، 7س). هكذا كان ذلك الذي سمع: “أنت انسان لا اله” (حز 28 : 9). أما الابن فهو اله حقيقي مثل الآب، لأنه هو في الآب والآب فيه. وهذا ما كتبه يوحنا كما تبين. ويترنم داود: “كرسيك يا الله إلى دهر الدهور. قضيب استقامة قضيب ملكك” (مز 44 : 7).

واشعياء يصرخ: “شعب مصر، وتجارة الكوشيين، والسبئيون ذوو القامة اليك يعبرون، وخلفك يمشون مقيدي الأيدي، ولك يسجدون لأن الله فيك، لأنك اله اسرائيل ونحن لم نعرفك” (أش 45 : 14، 15س). فمن هو الإله الذي فيه الله الا الابن القائل: “أنا في الآب والآب فيَّ” (يو 14 : 10).

(5)

واذن فحيث أن هذه الاشياء موجودة حقاً ومكتوبة، فمن هو الذي لا يعرف جيداً أن الابن ينبغي أن يكون واحداً في الجوهر مع الآب، حيث أن الابن ليس بينه وبين المخلوقات اية مشابهة، ولكن كل ما للآب هو للابن؟ وكان من الممكن أن يكون واحداً في الجوهر مع المخلوقات لو كان له معها اية مشابهة أو قرابة. وحيث انه غريب عن المخلوقات حسب الجوهر، ولكونه الكلمة الخاص بالآب، وهو لا يختلف عنه، وحيث أن كل ما للآب هو له، فذلك يقتضي انه من نفس جوهر الآب. وهذا ما أدركه الآباء حينما اعترفوا في مجمع نيقية أن الابن مساوي للآب ومن نفس جوهره.

لقد تحققوا جيداً أن الجوهر المخلوق لا يستطيع أبداً أن يقول “كل ما للآب هو لي” (يو 16 : 15). وبسبب أن وجوده له بداية، فهو ليس كائناً ولم يكن أزلياً، ولذلك، فحيث أن الابن له هذه الخصائص، وحيث أن كل الاشياء السابق ذكرها، والتي للآب هي للابن، فمن الضروري أن يكون جوهر الابن غير مخلوق بل هو من نفس جوهر الآب. لهذا السبب – فلا يمكن أن يكون جوهره مخلوقاً فهو يملك خواص الله، تلك الخواص التي له ([54]) والتي بها يعرف الله: فمثلاً الضابط الكل والكائن، وغير المتغير، والخصائص الأخرى التي سبق ذكرها، حتى لا يبدو الله نفسه في نظر الأغبياء أن له نفس جوهر المخلوقات، لو كانت له الخصائص التي يمكن أن تكون للمخلوقات.

(6)

وهكذا يمكننا أن ندحض كفر أولئك الذين يقولون أن كلمة الله مخلوق. ايماننا هو بالآب والابن والروح القدس حسب ما قال الابن نفسه للرسل “اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس” (مت 28 : 19). وقد تكلم هكذا حتى يمكننا بواسطة ما نعرفه أن نفهم الأمور التي سبق أن تكلمنا عنها. وكما اننا لا نقول عن آبائنا انهم خالقون بل والدون ولا يقول أحد منا اننا مخلوقو الآباء بل ابناء بالطبيعة ومن نفس جوهرهم، هكذا أن كان الله أباً فلا بد أن يكون أباً لمن هو ابن بالطبيعة ومن نفس جوهر الآب. فابراهيم لم يخلق اسحق بل ولده. وبصلئيل والياب لم يلدا، بل صنعا كل أعمال خيمة الاجتماع. وباني السفينة والبناء لا يلدان ما يصنعانه، لكن كل منهما يبني، الواحد السفينة والآخر البيت. فاسحق لم يخلق يعقوب ولكن ولده بالطبيعة ومن نفس جوهره. وبالمثل ولد يعقوب يهوذا واخوته. وكما انه جنون أن يقول أحد أن البيت هو من نفس جوهر الباني والسفينة من نفس جوهر بانيها، فانه من الصحيح أن يقال أن كل ابن هو من نفس جوهر ابيه. فاذن أن كان يوجد أب وابن، فبالضرورة أن يكون الابن، بالطبيعة وبالحق ابناً. وهذا يعني انه من نفس جوهر الآب كما سبق أن أوضحنا كثيراً.

وقد قيل عن الاشياء المخلوقة “هو تكلم فوجدت هو أمر فخلقت” (مز 148 : 5س). أما عن الابن فيقول “فاض قلبي بكلمة صالحة” (مز 44 : 1س). وقد عرف دانيال ابن الله، وعرف ايضاً أعمال الله، فمن ناحية رأى الابن وهو يطفئ الأتون (أنظر دا 3 : 25)، ومن ناحية قال عن الأعمال “فلتبارك الرب جميع أعمال الرب” (تسبحة الفتية الثلاثة 35). ثم ذكر كل واحدة من المخلوقات، كلا على حدة، ولكنه لم يحص الابن من بينها، لأنه كان يعرف أن الابن ليس أحد الأعمال، ولكن بواسطته صارت الأعمال موجودة. وهو في الآب مسبح ومرفع جداً. وكما أن الله يكشف بواسطته لأولئك الذين يعرفونه، هكذا بواسطته ايضاً، فان البركة والتسبيح والمجد والجبروت، يعترف بها للآب بواسطته وفيه، لكي يكون مثل هذا الاعتراف مرضياً كما تقول الكتب. ومن هذه الأقوال ومن أقوال كثيرة أخرى تبين ويتبين أن من يقول أن كلمة الله مخلوق فهو كافر.

(7)

ولكن حيث انهم يحتجون بما هو مكتوب في الأمثال: “الرب خلقني أول طرقه لأجل أعماله”([55]) (أم 8 : 22س). ويضيفون: (“انه خلق!”، وهو مخلوق!): انه من الضروري أن نوضح من هذه العبارة ايضاً كم هم يضلون كثيراً، اذ هم لا يدركون هدف الكتاب الالهي. فاذا كان ابناً، فلا يدعى مخلوقاً([56])، لأنه لو كان مخلوقاً فلا يدعى ابناً. لأننا قد بينا فيما سبق، كم هو عظيم الفارق، بين المخلوق والابن، ولكن حيث أن “التكميل” ([57])، لا يتم باسم خالق ومخلوق، بل باسم آب وابن، فبالضروري يجب أن لا يدعى الرب مخلوقاً بل ابناً. ويقول (الهرطوقي) ولكن أليس هذا مكتوباً، نعم انه مكتوب. ولكن من الضروري أن يقال هذاز ولكن الهراطقة يسيئون فهم ما هو مكتوب حسناً. لأنهم لو كانوا قد أدركوا وعرفوا سمات المسيحية لما كانوا قد دعوا رب المجد مخلوقاً ولا كانوا قد تعثروا في ما هو مكتوب حسناً.

ولكن هؤلاء “لم يعرفوا ولم يفهموا” (مز 81 : 5س). لذلك كما هو مكتوب: “في الظلام يسيرون” (مز 81 : 5س). ومن الضروري لنا أن نتكلم، لكي يتضح انهم أغبياء في هذا الأمر ايضاً ولكي لا نتخلى عن توبيخهم على كفرهم، فربما يغيرون فكرهم، واذن، فهذه هي سمة ايماننا بالمسيح: ابن الله، اذ هو كلمة الله: “لأنه في البدء كان الكلمة.. وكان الكلمة الله” (يو 1 : 1)، وهو حكمة الآب وقوته: “لأن المسيح قوة الله وحكمة الله” (1كو 1 : 24)، وفي ملء الأزمنة صار انساناً لأجل خلاصنا. لأن يوحنا بعد أن قال: “في البدء كان الكلمة”، اضاف بعد قليل: “والكلمة صار جسداً” (يو 1 : 14)، أي “صار انساناً”. والرب قال عن نفسه: “لماذا تطلبون أن تقتلوني وانا انسان قد كلمتكم بالحق” (يو 8 : 40). وبولس – اذ قد تعلم منه – قال: “اله واحد، ووسيط واحد بين الله والناس، الإنسان يسوع المسيح” (1تي 2 : 5). واذ صار انساناً، وقد تمم تدبيره الانساني، واذ قد طرح وأبطل الموت الذي كان قائماً ضدنا، فهو الآن يجلس عن يمين الآب، اذ هو في الآب والآب فيه، كما كان دائماً وهكذا يكون على الدوام.

(8)

وهذه السمة مأخوذة من الرسل بواسطة الآباء. فيجب اذن على من يقرأ الكتاب، أن يفحص ويميز متى يتكلم (الكتاب) عن ألوهة الكلمة، ومتى يتكلم عن أموره الانسانية، لئلا يفهم احدهما بدل الآخر، فاننا نصير لنفس الخلط الذي سقط فيه الأريوسيين. واذ نعرف انه الكلمة نعرف أن “به صار كل شيء وبغيره لم يوجد شيء” (يو 1 : 17)، و”بكلمة الرب صنعت السموات” (مز 32 : 6س) وايضاً “يرسل كلمته فيشفي كل الاشياء (مز 106 : 20س). واذ نعرف انه الحكمة، نعرف أن “الله بالحكمة أسس الأرض” (أم 3 : 19)، وايضاً الآب “صنع كل الاشياء بالحكمة” (مز 103 : 24). واذ نعرف انه الله فقد آمنا انه المسيح، لأن داود يرنم: “عرشك يا الله إلى دهر الدهور، قضيب استقامة قضيب ملكك. أحببت البر وأبغضت الاثم، من أجل ذلك مسحك الله الهك بزيت الابتهاج أكثر من شركائك” (مز 44 : 6-7). ويقول في اشعياء عن نفسه “روح الرب عليَّ لأنه مسحني” (أش 61 : 1). وقد اعترف بطرس: “انت هو المسيح ابن الله الحي” (مت 16 : 26). وهكذا على نفس النحو، اذ نعرف انه قد صار انساناً، فنحن لا ننكر ما يقال عن انسانيته: “فمثلاً انه جاع، وعطش، وضرب، وبكى، ونام، وأخيراً احتمل الموت على الصليب من أجلنا. لأن كل هذه الاشياء قد كتبت عنه. وايضاً هكذا فالكتاب لم يخف، بل قال “خلق”، رغم انها تناسب البشر. لننا نحن البشر خلقنا وصنعنا. ولكن كما انه حينما نسمع انه جاع، ونام، وضرب، لا ننكر الوهته: هكذا حينما نسمع القول “خلق”. فاننا نستنتج ونتذكر انه، اذ هو الله، قد خُلق (بضم الخاء) انساناً. لأن ما يخص الإنسان هو أن يخلق، كما في الاشياء التي قيلت سابقاً، كالجوع وما يشبهه.

(9)

لأنه، اذن يوجد ذلك القول ايضاً، الذي هو قول حسن، ولكنهم يسيئون فهمه، وأعني: “أما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد، ولا الملائكة، ولا الابن” (مر 13 : 32).

وهذا القول له ايضاً معنى حقيقي. فهم يظنون من عبارة “ولا الابن” انه بكونه يجهل. فهذا يدل على انه مخلوق. ولكن ليس الأمر هكذا. حاشا! وكما انه حينما قال “خلقني” فقد تكلم كانسان، هكذا ايضاً فانه تكلم كانسان حينما قال “ولا الابن”. وهناك سبب وجيه لحديثه هكذا، اذ انه صار انساناً، كما هو مكتوب لأنه أمر يخص البشر أن يجهلوا وان يجوعوا وغير ذلك: “لأنهم لا يعرفون ما لم يسمعوا ويتعلموا”. ولذلك، فلأنه صار انساناً، فهو يظهر الجهل الذي يخص البشر: فأولاً: لكي يبين أن له جسداً انسانياً بالحقيقة. وثانياً: لكي، اذ يكون له جهل البشر في جسده يفتدي الانسانية من كل شيء، ويطهرها ويقدمها كاملة ومقدسة للآب.

فأي عذر آخر سوف يكتشفه الأريوسيون؟ ماذا اذن سوف يبتدعونه ليثرثروا حوله؟ لقد وبخوا على عدم ادراكهم لعبارة “الرب خلقني لأجل أعماله” (أم 8 : 22س). وقد تبين انهم لا يدركون عبارة “ذلك اليوم وتلك الساعة لا يعلم بهما أحد ولا الملائكة”، “ولا الابن”. فبقوله “خلقني” يشير إلى “الانساني”، اذ انه صار انساناً، فخلق ولكن بقوله “أنا والآب واحد”، و”الذي رآني فقد رأي الآب” و”أنا في الآب والآب فيَّ” (يو 10 : 3، و14 : 9، و14 : 10)، يشير إلى أزليته. وانه واحد في الجوهر مع الآب. هكذا ايضاً حينما يقول: “لا يعلم بهما احد ولا الابن”، يتكلم مرة أخرى كانسان، لأن الجهل أمر يخص البشر. ولكن حينما يقول “ليس أحد يعرف الآب الا الابن، ولا أحد يعرف الابن الا الآب” (متى 11 : 27)، فهو يعرف بالأحرى جداً الاشياء المخلوقة. وفي الانجيل حسب يوحنا، قال (يو 16 : 30). وهذا يدل على انه ليس هناك شيء يجهله، اذ هو الكلمة الذي به صار كل شيء. وحيث أن “ذلك اليوم” هو من بين “كل الاشياء” فانه سوف يصير (يحدث) به، رغم أن الأريوسيين يسخرون ربوات المرات.

 

الرسالة الثالثة

(1)

ربما تعجب لماذا حينما كلفت أن أختصر وأن أوضح بايجاز، الرسالة التي كتبتها عن الروح القدس، تلاحظ كما لو انني قد تركت جانباً كلامي عن هذا الموضوع، وكتبت ضد أولئك الذين يكفرون بابن الله ويدعونه مخلوقاً، ولكني أعرف جيداً انك لن تلومني عندما تعلم السبب. ولكن تقواكم ستتبين ذلك، عندما ترى أن الأمر معقول، لأن الرب نفسه قال: “لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به.. لأنه يأخذ مما لي ويخبركم” (يو 16 : 13، 14). واذ نفخ أعطاه (الروح) للتلاميذ من عنده، وهكذا سكبه الآب “على كل بشر” حسب ما هو مكتوب، (يوئيل 2 : 28).

لذلك، فقد كان من الطبيعي اني تحدثت اولاً وكتبت عن ابن الله، حتى انه من معرفتنا عن الابن، يمكن أن تكون لنا معرفة جيدة عن الروح. لأننا سنجد أن خصوصية الروح نحو الابن، هي مثل خصوصية الابن نحو الآب. وكما يقول الابن “كل ما للآب هو لي” (يو 16 : 15)، هكذا فاننا سنجد أن كل هذه الاشياء، هي في الروح ايضاً بواسطة الابن. وكما أعلن الآب عن الابن قائلاً “هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت” (مت 3 : 17)، هكذا الروح هو للابن لأن الرسول يقول “أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخاً يا أبا الآب” (غلاطية 4 : 6) والأمر الجدير بالملاحظة هو ما قاله الابن.. “مالي فهو للآب” (يو 17 : 10). هكذا الروح القدس الذي قيل انه للابن، فهو للآب لأن الابن نفسه يقول “ومتى جاء المعزي سأرسله أنا اليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي” (يو 15 : 26). وبولس يكتب ايضاً “ليس أحد من الناس يعرف أمور الإنسان الا روح الإنسان الذي فيه، هكذا ايضاً أمور الله لا يعرفها أحد الا روح الله، ونحن لم نأخذ روح العالم، بل الروح الذي من الله لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله” (1كو 2 : 11، 12). وفي كل الكتاب الالهي، سوف نجد أن الروح القدس الذي يقال عنه انه للابن، يقال عنه ايضاً انه لله. وهذا ما كتبناه في الرسائل السابقة.

لذلك، أن كان الابن بسبب خصوصيته مع الآب، وبسبب انه المولود الذاتي لجوهر الآب فهو ليس مخلوقاً بل من نفس جوهر الآب. وبالمثل فان الروح القدس لا يمكن أن يكون مخلوقاً بل أن من يقول هذا فهو كافر، وذلك بسبب خصوصيته مع الابن الذي بواسطته، يعطى لجميع البشر، ولأن كل ما له فهو للابن.

(2)

هذه الأسباب كافية لأن تقنع كل محب للمشاكسة، ألا يستمر في القول بأن روح الله مخلوق، وهو الذي في الله، والذي يفحص أعماق الله، والذي يعطى من الآب بواسطة الابن، وحتى لا يضطر نتيجة لهذا أن يدعو الابن ايضاً مخلوقاً الذي هو الكلمة، والحكمة، والرسم، والشعاع، والذي من يراه يرى الآب. وحتى لا يسمع أخيراً “كل من ينكر الابن ليس له الآب ايضاً” (1يو 2 : 23). لأن مثل هذا الإنسان سيصل بعد قليل إلى القول مع الجاهل “ليس اله” (مز 14 : 1).

ورغم ذلك فلكي يكون برهاننا ضد عديمي التقوى أكثر قبولاً، يكون حسناً أن نضع في اعتبارنا تلك الاسباب التي تبين أن الابن ليس مخلوقاً، ومنها يتبين ايضاً أن الروح ليس مخلوقاً. فالمخلوقات هي مما لم يكن ولها بداية وجود، لأنه “في البدء خلق الله السموات والأرض” (تك 1 : 1)، وكل ما فيها. وأما الروح القدس فهو من الله، ويقال عنه انه (من الله)، كما قال الرسول. ولكن أن كان الابن ليس من العدم بل من الله فمن الطبيعي ألا يكون مخلوقاً، وبالضرورة يكون الروح غير مخلوق، لأننا قد اعترفنا انه من الله. فالمخلوقات هي التي من العدم.

(3)

وأيضاً فالروح يدعى – وهو كذلك – مسحة وختم. اذ يكتب يوحنا “وأما أنتم فالمسحة التي اخذتموها منه ثابتة فيكم ولا حاجة بكم إلى أن يعلمكم أحد بل كما تعلمكم مسحته، روحه، عن كل شيء” (1يو 2 : 27). وقد كتب في اشعياء: “روح الرب عليَّ لأنه مسحني” (أش 61 : 1). وايضاً بولس يكتب “الذي فيه ايضاً اذ آمنتم ختمتم” (أف 1 : 13). وايضاً “لا تحزنوا روح الله القدوس الذي به ختمتم ليوم الفداء” (أف 4 : 30). فالمخلوقات تمسح وتُختم (بضم التاء) فيه. ولكن أن كانت المخلوقات تمسح وتختم فيه فلا يكون الروح مخلوقاً، لأن الذي يمسح ليس مثل الذين يُمسحون (بضم الياء). ولأن المسحة ايضاً هي مسحة الابن، حتى أن الذي عنده الروح يقول “نحن رائحة المسيح الزكية”.

والختم يعطي بصمة الابن، حتى أن المختوم يكون صورة الابن اذ يقول الرسول “يا أولادي الذين اتمخض بكم ايضاً إلى أن يتصور المسيح فيكم” (غلا 4 : 19). فاذا كان الروح هو رائحة الابن الزكية وصورته، فمن الواضح أن الروح لا يمكن أن يكون مخلوقاً. وكذلك، حيث أن الابن هو في صورة الآب، فهو ليس مخلوقاً، وايضاً لأنه كما أن من يرى الابن يرى الآب، هكذا فمن له الروح القدس، له الابن، واذ يكون له، فهو هيكل الله، اذ أن بولس يكتب “أما تعلمون انكم هيكل وان روح الله يسكن فيكم” (1كو 3 : 16). ويقول يوحنا “بهذا نعرف اننا نثبت في الله وهو فينا، لأنه قد اعطانا من روحه” (1يو 4 : 13). وإذا كان الابن في الآب، والآب فيه، ولذلك اعترف انه ليس مخلوقاً، واذن، فمهما كان الأمر، يستحيل أن يكون الروح القدس مخلوقاً، لأن الابن فيه وهو في الابن، ولذلك فمن يقبل الروح يدعى هيكلاً لله.

وايضاً فمن المستحسن أن ننظر معاً إلى الأمر في ضوء ما يأتي: إذا كان الابن هو كلمة الله فهو واحد كما أن الآب واحد، لأنه “يوجد اله واحد الذي منه جميع الأشياء.. ورب واحد يسوع المسيح” (1كو 8 : 6).

لذلك يقال ويكتب عنه انه “الابن الوحيد”، وأما المخلوقات فهي كثيرة ومتنوعة: ملائكة، رؤساء ملائكة، شاروبيم، رئاسات، سلاطين، وغير ذلك كما سبق أن قلنا. وإذا كان الابن ليس من بين الكثيرين ولكنه واحد، كما أن الآب وهو ليس مخلوقاً، فبالضرورة (لأنه ينبغي أن نأخذ من الابن معرفتنا عن الروح) لا يمكن أن يكون الروح مخلوقاً، لأنه ليس من بين الكثيرين، بل هو نفسه واحد.

(4)

وهذا ما يعرفه الرسول اذ يقول: “هذه كلها يعملها الروح الواحد بعينه قاسماً لكل واحد بمفرده كما يشاء” (1كو 12 : 11). وبعد قليل: “لأننا جميعاً بروح واحد ايضاً اعتمدنا إلى داخل جسد واحد.. وجميعنا سقينا روحاً واحداً” (1كو 12 : 13). وايضاً، لأنه أن كان يجب أن نأخذ معرفتنا عن الروح من الابن، واذن فمن الواجب أن نقدم براهين مستمدة منه، فالابن يوجد في كل مكان لأنه كائن في الآب، والآب فيه، وهو يضبط كل الاشياء ويحفظها وقد كتب: “فيه يقوم الكل” سواء ما يرى وما لا يرى، “وهو قبل كل شيء” (كو 1 : 17). ولكن المخلوقات توجد في الأماكن المخصصة لها: الشمس والقمر والأنوار الأخرى في الجلد، والملائكة في السماء والناس على الأرض. ولكن إذا كان الابن ليس في أماكن مخصصة له، بل هو كائن في الآب ويوجد في كل مكان، وايضاً هو خارج كل الاشياء، فهو ليس مخلوقاً، ويتبع ذلك أن الروح ايضاً لا يمكن أن يكون مخلوقاً لأنه ليس في أماكن مخصصة له، بل هو يملأ كل الأشياء ويوجد خارج الكل لأنه هكذا قد كتب “روح الرب ملأ المسكونة” (حكمة 1 : 7)، ويرتل داود: “الى أين اذهب من روحك” (مز 138 : 7س)، كما انه ليس كائناً في أي مكان، بل هو خارج كل الاشياء، وهو في الابن كما أن الابن هو في الآب.

لذلك فهو ليس مخلوقاً كما قد تبين. وبالاضافة إلى كل ما سبق، فسوف تدان البدعة الأريوسية. ومرة أخرى فان ما نعرفه عن الروح سيعرف من الابن. فالابن هو خالق مثل الآب لأنه يقول: “الأشياء التي أرى الآب يعملها، هذه أعملها أنا أيضاً” (انظر يو 5 : 19). وبالتأكيد.. كل شيء به صار، وبدونه لم يكن شيء مما صار (يو 1 : 3). ولكن أن كان الابن مثل الآب خالقاً، فهو ليس مخلوقاً. وإذا كانت كل الاشياء به خلقت، فهو ليس من بين الاشياء المخلوقة، وعلى ذلك يتبين، أن الروح ليس مخلوقاً، لأنه قد كتب عنه في المزمور المئة والثالث “تنزع روحها فتموت وتعود إلى التراب. ترسل روحك فتخلق ([58]) وأنت تجدد وجه الأرض” (مز 103 : 29، 30).

(5)

وهكذا فمما هو مكتوب يتبين أن الروح ليس مخلوقاً، بل هو فاعل في عمل الخلق، لأن الآب يخلق كل الاشياء بالكلمة في الروح، لأنه حيث يكون الكلمة، فهناك ايضاً الروح. والاشياء المخلوقة بالكلمة تنال قوة الوجود من الكلمة بالروح، لأنه هكذا كتب في المزمور الثاني والثلاثين: “بكلمة الرب تأسست السموات وبروح فيه كل قواتها” (مز 32 : 6س). وهكذا يتبين أن الروح غير منفصل عن الابن، حتى انه من الكلام الذي يقال، لا يوجد أي مجال للشك. لأنه عندما صار الكلمة إلى النبي، فان النبي كان يتكلم في الروح بالأمور التي اعطيت له من الكلمة. وهكذا كتب في سفر الأعمال عندما قال بطرس: “ايها الأخوة، كان ينبغي أن يتم هذا المكتوب، الذي سبق الروح القدس فقاله” (أع 1 : 16). وفي زكريا كتب، عندما صار الكلمة اليه، “لكن اقبل كلامي وفرائضي التي أوصى بها الانبياء بروحي” (زك 1 : 6). وبعد قليل، عندما كان يوبخ الشعب، قال: “جعلوا قلبهم عنيداً لئلا يسمعوا الشريعة والكلام الذي أرسله الرب ضابط الكل بروحه عن يد الانبياء الأولين” (زك 7 : 12). وعندما تكلم المسيح في بولس – كما قال هو نفسه “أنتم تطلبون برهان المسيح المتكلم فيَّ” (2كو 13 : 3) – فلم يكن أحد يمنحه القوة لكي يتكلم سوى الروح الذي عنده. لأنه هكذا يكتب “حسب موآزرة روح يسوع المسيح لي” (في 1 : 19).

وايضاً عندما تكلم فيه المسيح قال “غير أن الروح القدس يشهد في كل مدينة أن وثقاً وشدائداً تنتظرني” (أع 20 : 23). لأن الروح ليس خارج الكلمة، بل اذ هو في الكلمة فهو في الله بالكلمة. وهكذا تعطى المواهب الروحية في الثالوث. الروح نفسه، والرب نفسه، والله نفسه “هو الذي يعمل الكل في الكل” (1كو 12 : 4-6)، لأن الآب نفسه، بالكلمة، في الروح يعمل كل الأشياء ويعطيها.

(6)

وبكل تأكيد فحينما كان يصلي لأجل الكورنثيين، فقد كان يصلي في الثالوث ([59]) قائلاً “نعمة الرب يسوع المسيح ومحبة الله وشركة الروح القدس مع جميعكم” (2كو 13 : 14). لأننا عندما نشترك في الروح تكون لنا نعمة الكلمة، وفي الكلمة تكون لنا محبة الآب. وكما أن نعمة الثالوث واحدة، كذلك فالثالوث غير منقسم. وهذا ما يمكن للمرء أن يراه، من جهة القديسة مريم نفسها، فحينما أرسل الملاك جبرائيل ليعلن حلول الكلمة عليها قال: “الروح القدس يحل عليك” (لو 1 : 35)، عالماً أن الروح كان في الكلمة، وأضاف مباشرة “وقوة العلي تظللك” (لو 1 : 35) لأن “المسيح هو قوة الله وحكمة الله” (1كو 1 : 24). وإذا كان الروح في الكلمة، فمن الجلي ايضاً أن الروح كان في الله ايضاً بالكلمة، وبالمثل عندما يصير الروح فينا، عندئذ يأتي الابن والآب، ويصنعون منزلاً فينا، لأن الثالوث غير منقسم، لأن الوهته واحدة، ويوجد اله واحد، “على الكل وبالكل وفي الكل” (أف 4 : 6).

هذا هو ايمان الكنيسة الجامعةن لأن الرب أسسها وأصلها في الثالوث، حينما قال لتلاميذه، “اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس” (متى 28 : 19). فلو كان الروح مخلوقاً، لما وضعه مع الآب في الرتبةن وحتى لا يكون الثالوث غير متماثل مع نفسه، عندما يوضع معه آخر غريب عنه. لأنه ماذا كان ينقص الله حتى انه يأخذ جوهراً غريباً عنه يشترك في مجده؟ حاشا، فلن يكون الأمر هكذا “كامل” قال هو “أنا أكون”.

لذلك، فان الرب نفسه، وضع الروح مع اسم الآب، لكي يبين أن الثالوث القدوس غير قائم من عناصر مختلفة. أي من خالق ومخلوق، بل الوهته واحدة. واذ كان بولس يعرف هذا، فقد علم أن النعمة المعطاة، في الثالوث، هي واحدة، قائلاً “رب واحد، ايمان واحد، معمودية واحدة” (أف 4 : 5). لأنه كما أن هناك معمودية واحدة، فهناك ايضاً ايمان واحد. لأن من يؤمن بالآب، فانه في الآب يعرف الابن، ولا يعرف الروح الا في الابن، ولذلك فهو يؤمن بالابن وكذلك بالروح القدس، لأن ألوهة الثالوث، واحدة، اذ هو يُعرف (بضم الياء) من واحد، هو الآب.

(7)

هذه هي خاصية الايمان الجامع. وأما هؤلاء الذين يجدفون على الروح ويقولون عنه انه مخلوق، فاذا كانوا لا يغيرون فكرهم بعد هذا الذي قلناه، فان ما سوف نقوله سيغمرهم بالخزي.

فاذا كان هناك ثالوث، وان الايمان هو ايمان بالثالوث، فليقولوا لنا، أن كان هو ثالوثاً. بصفة دائمة، ام انه كان هناك وقت لم يكن هو ثالوثاً. فان كان الثالوث ازلياً، فالروح لا يكون مخلوقاً، لأنه كائن أزلياً مع الكلمة وفيه، أما المخلوقات، فقد كان هناك وقت لم تكن فيه موجودة، فلو كان هو مخلوقاً والمخلوقات توجد مما لم يكن، فيكون من الواضح انه كان هناك وقت لم يكن الثالوث ثلاثة بل اثنين. وهل هناك كفر – يمكن أن ينطق به انسان – أعظم من هذا؟ فهم يقولون أن الثالوث يقوم على التغير والتقدم وانه كان اثنين، وانتظر ولادة مخلوق لكي يوضع في رتبة الآب والابن، فيصير ثالوثاً. وحاشا أن تدخل مثل هذه الفكرة إلى عقول المسيحيين. فكما أن الابن بسبب كونه موجوداً دائماً فهو ليس مخلوقاً، هكذا فلأن الثالوث موجود دائماً، فليس فيه أي مخلوق، لذلك فان الروح ليس مخلوقاً، فكما كان دائماً، هكذا يكون الآن، وكما هو الآن، فهكذا كان دائماً، هو الثالوث: الآب والابن والروح القدس. واحد هو الذي على الكل وبالكل وفي الكل (أف 4 : 6)، والذي هو “مبارك إلى الأبد. آمين”.

كتبت هذا اليك باختصار كما طلبت، وانا مرسله اليك. وأنت كرجل فهيم، فان كان به أي نقص، فاسعى إلى تكميله، واقرأه لأهل الايمان، وأرفض هؤلاء الذين يحبون النزاع والتجديف، فربما يتوبون ولو متأخراً، ويطهرون نفوسهم من الضلالة التي كانت فيهم سابقاً، فانه من الأفضل لهم، كما هو مكتوب “ان يتحولوا ولا يتباطئوا” لئلا بسبب ابطائهم، يسمعون ما قاله الرب “من قال كلمة على الروح فلن يغفر له لا في هذا العالم ولا في الآتي” (مت 12 : 32).

 

الرسالة الرابعة

(1)

درست الرسالة التي كتبتموها تقواكم الآن، وقد أدهشني جداً جسارة الهراطقة حتى أني انتهيت إلى انه لا شيء يناسب أن يقال عنهم، إلا ما نصح به الرسول “الرجل المبتدع بعد الإنذار مرة ومرتين أعرض عنه، عالماً أن مثل هذا قد انحرف وهو يخطئ محكوماً عليه من نفسه” (تي 3 : 10، 11). فهو اذ له فكر ملتو، فانه لا يسأل لكي يقتنع بما يسمعه أو لكي يغير رأيه نتيجة ما يتعلمه، ولكنه (يسأل) بسبب هؤلاء الذين انخدعوا، لئلا يحكم عليه منهم، إذا صمت. أن ما قلناه سابقاً يكفي. وكان يكفي لمثل هذه البراهين التي قدمت لهم، أن توقفهم عن التجديف على الروح القدس. الا انهم لم يكتفوا بل عاودوا جسارتهم حتى لكي يظهروا انهم، بعد أن تعلموا أن يحاربوا الكلمة، يحاربون الآن ضد الروح. وبعد قليل سيموتون في غباوتهم. وبالطبع فاذا أجاب أحد على أسئلتهم الحاضرة فانهم سيصيرون “مخترعي شرور” (رو 1 : 30). واذ يطلبون فلن يجدوا واذ يستمعون فلن يفهموا. فأية أسئلة حكيمة لهم، فهم يقولون: أن لم يكن الروح القدس مخلوقاً، فهو اذن ابن ويكون بالتالي هو والكلمة أخين. واذن – فكما كتبت أنت – هم يكلمون قائلين: أن كان الروح سيأخذ مما للابن ومنه يعطي – كما هو مكتوب – فانهم يمضون مباشرة قائلين: عندئذ يكون الآب جداً والروح حفيداً.

(2)

فمن حينما يسمع هذه الأمور يظل يعتبرهم مسيحيين، وليسوا بالحري عبدة أوثان؟ لأن مثل هذه الأمور، يتكلم بها عبدة الأوثان فيما بينهم ضدنا. فمن هو الذي يريد أن يجاوب على غباوتهم هذه؟ فانني من جهتي، اذ قد فكرت كثيراً، وطالباً اجابة مناسبة لهم، فاني لم أجد سوى ذلك الذي حدث مع الفريسيين في ذلك الوقت. لأنه كما أن هؤلاء عندما سألوا المخلص بخبث، سألهم هو أيضاً، لكيما يدركوا شر أفكارهم، وهكذا فحيث أن هؤلاء يسألون مثل هذه الأسئلة فعليهم أن يخبرونا بل بالحري فليجاوبنا، عندما نسألهم كما سألوا. لأنهم اذ يتكلمون لا يفهمون اتبداعاتهم، فربما عندما يسمعون قد يتحققون من غباوتهم. فان لم يكن الروح القدس مخلوقاً، بل هو من الله، وهو معطى من الله، واذن فهو ابن، ويكون هناك أخوان هو والابن، فان كان الروح من الابن، والروح يقبل كل الاشياء من الابن كما قال الابن نفسه، واذ هو الذي أعطاه للتلاميذ نافخاً فيهم (انظر يو 20 : 22)، (لأنكم أنتم ايضاً تعترفون بهذا)، وبالتالي يكون الآب جداً ويكون الروح حفيده. ولذلك يحق لنا أن نسألكم نفس الأسئلة التي تسألونها وتطلبونها منا. فان كنتم تنكرون ما هو مكتوب فلا تدعون مسيحيين بعد، ويكون من المنطق اننا نحن المسيحيين نسأل منكم. ولكن أن كنتم تقرأون نفس (الكتب) التي نقرؤها نحن، فهكذا يكون من الضروري أن تسألوا منا عن نفس الأمور. واذن فاخبرونا دون أن تفكروا فيما اذ كان الروح هو ابن والآب هو جد. ولكن أن كنتم تفكرون كما فعل الفريسيون في ذلك الوقت، وتقولون فيما بينكم، أن قلنا انه ابن فسوف نسمع: اين كتب هذا؟ وأما إذا قلنا، انه ليس ابناً، فاننا نخاف لئلا يقولوا لنا: كيف اذن كتب: نحن لم نأخذ روح العالم بل الروح الذي من الله؟ (1كو 2 : 12). ولكن أن كنتم حينما تتجادلون فيما بينكم في مثل هذه الأمور، تقولون ايضاً نحن لا نعرف: فانه من الضروري بالنسبة لمن يسأل منكم أن يصمت مقتنعاً بذاك الذي يقول: “لا تجاوب الجاهل حسب حماقته لئلا تصير مثله” (أم 26 : 4). فالصمت هو بالحري أنسب جواب عليكم لكي تتحققوا من الجهل الذي فيكم.

(3)

مرة ثانية اذن، فانه من العدل أن نسألكم، من نفس الأسئلة التي تسألونها. وحيث أن الانبياء يتكلمون بواسطة روح الله، وايضاً الروح القدس، يتنبأ في اشعياء – كما تبين مما كتبناه سابقاً – واذن فالروح هو كلمة الهية، وعلى ذلك يوجد كلمتان الروح والابن، لأن الانبياء كانوا يتنبأون حينما تصير الكلمة اليهم. وايضاً فبالأضافة إلى ذلك، وحيث أن كل الأشياء قد صارت بواسطة الكلمة، “وبغيره لم يكن شيء مما كان” (يو 1 : 3)، وايضاً: “الرب بالحكمة أسس الأرض” (أم 3 : 19)، وقد خلق كل الاشياء بالحكمة (مز 103 : 24س)، لنه قد كتب كما تبين لنا سابقاً “ترسل روحك فتخلق الاشياء” (103 : 30س). واذن فإما أن يكون الروح هو الكلمة، أو أن الله خلق كل الاشياء باثنين (أي) بالحكمة والروح. فكيف اذن قال بولس “اله واحد الذي منه كل الاشياء، ورب واحد، الذي بواسطته كل الاشياء” (1كو 8 : 6). وايضاً حيث أن الابن هو صورة الآب غير المنظور (أنظر كو 1 : 15)، فيكون الروح هو صورة الابن لأنه مكتوب: “لأن الذين سبق فعرفهم سبق فعينهم ليكونوا مشابهين صورة ابنه” (رو 8 : 29).

وعلى هذا الأساس، يكون الآب جداً، وحيث أن الابن قد أتى باسم الآب، وقد قال الابن، “الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي” (يو 14 : 26)، فعلى هذا النحو ايضاً يكون الآب جداً. فماذا عندكم من جهة هذا وأنتم الذين تقولون كل شيء بدون ترو؟ فبأي شيء تتحاورون فيما بينكم؟ هل تنتقدون مثل هذه الأسئلة، وأنتم ترون انفسكم في حالة ارتباك؟ ولكن أولاً لوموا انفسكم لأنكم اعتدتم أن تسألوا مثل هذه الأسئلة، فاخضعوا للكتب المقدسة، وإذا تحيرتم في الإجابة فلتتعلموا في النهاية أن الروح لم يسم ابناً، ولكنه دعي الروح القدس أو روح الله. وكما أن الروح لم يسم ابناً، فهكذا لم يكتب عن الابن انه هو الروح القدس. واذن فحيث أن الروح لم يسم ابناً، ولا الابن هو الروح، فهل الايمان يتناقض مع الحق؟ حاشا. ولكن بالأحرى فكل من المسميات المذكورة له معناه الخاص. لأن الابن هو المولود الذاتي لجوهر الآب وطبيعته. وهذا هو مدلول المسمى. فالروح الذي يدعى روح الله، وهو في الله، ليس غريباً عن طبيعة الابن ولا عن ألوهة الآب.

لذلك فهناك ألوهة واحدة في الثالوث (أي) في الآب وفي الابن وفي الروح القدس نفسه، وفي الثالوث نفسه معمودية وايمان واحد. فعندما يرسل الآب الروح، فالابن بواسطة النفخ في التلاميذ يعطيهم الروح. لأن “كل ما للآب هو للابن” (يو 16 : 15). وحينما جاء الكلمة إلى الانبياء، كان هؤلاء يتنبئون بالروح، كما هو مكتوب وكما قد تبين: “بكلمة الرب صنعت السموات وبنسمة فيه كل جنودها” (مز 34 : 6س).

(4)

وهكذا فالروح ليس مخلوقاً بل هو خاص بجوهر الكلمة، وخاص بالله، والذي يقال انه كائن فيه. ومرة أخرى يجب أن لا نتجنب تكرار نفس الكلام، ورغم أن الروح القدس لا يدعى ابناً، ولكنه ليس خارج الابن لأنه قد دعي روح التبني وكما أن “المسيح هو قوة الله وحكمة الله” (1كو 1 : 24)، لذلك قيل عن الروح انه “روح الحكمة وروح القوة” (أش 11 : 2). وحينما نشترك في الروح، يكون الابن لنا، وحينما يكون الابن لنا، يكون الروح لنا “صارخاً في قلوبنا أبا ايها الآب” كما قال بولس (غلا 4 : 6). ولكن حيث أن الروح هو روح الله، وقد كتب عنه انه فيه لأن “أمور الله لا يعرفها أحد الا روح الله الذي فيه” (1كو 2 : 11)، وايضاً قال الابن “انا في الآب والآب فيَّ” (يو 14 : 10). فلماذا لا يكون لهذا وذاك نفس الاسم، ولكن الواحد هو ابن والآخر هو روح؟ فان سأل أحدهم مثل هذا السؤال، فان مثل هذا يكون مجنوناً، اذ انه يفحص الأمور التي لا تفحص، ولا ينصب لقول الرسول: “من عرف الرب أو من صار له مشيراً” (رو 11 : 24). ومن ذا الذي يتجاسر أن يغير اسم من سماه؟ والا فدعه يعطي اسماء للأشياء المخلوقة، وحيث أن الخليقة، قد وجدت بنفس الأمر، فليقولوا لنا، لماذا دعي الواحد منها شمساً والآخر سماء، والآخر ارضاً، وبحراً، وهواء.

ولكن أن وجد الاغبياء أن هذا غير ممكن – لأن كل مخلوق يبقى كما خلق – فبالأولى جداً، فان الاشياء التي هي أعلا من المخلوقات يكون ثباتها أبدياً، فلا يكون الآب الا أباً وليس جداً، والابن هو ابن الله وليس أبا الروح، والروح القدس هو روح قدس وليس حفيد الآب أو أخ الابن.

(5)

واذ قد برهنا على هذه الأمور، فان من يسأل: هل الروح ابن ايضاً؟ فانه يكون مجنوناً، ولا ينبغي لأي أحد – بسبب أن هذا لم يكتب – أن يفصله عن طبيعة الله أو عما يخصه. بل كما هو مكتوب: فليؤمن ولا يقول لماذا هكذا وليس هكذا؟ لئلا وهو يناقش مثل هذه الأمور، يبدأ يفكر ويقول: اين اذن هو الله وكيف يكون؟ فسوف يسمع أخيراً، “قال الجاهل في قلبه ليس اله” (مز 13، 1س). لأن المسلمات التي تعطى بالايمان، تكون معرفتها مما لا يمكن التطفل عليه. واذ سمع التلاميذ الكلمات: “وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس” (متى 28 : 19)، لم يتطفلوا أو يسألوا، لماذا ذكر الابن كثان والروح كثالث، أو لماذا يكون الكل ثالوثاً. ولكنهم كما سمعوا هكذا آمنوا، ولم يسألوا مثلكم: هل الروح اذن ابن؟ وحينما ذكر الرب الروح بعد الابن، لم يسألوا هل الآب اذن جد، لأنهم لم يسمعوا “باسم الجد” بل “باسم الآب”.

واذ فكروا تفكيراً سليماً، كرزوا بهذا الايمان في كل مكان. لأنه لم يكن ممكناً أن يقال شيء آخر سوى ما قاله المخلص: أنه هو نفسه الابن، والآخر هو الروح القدس. كما أن الترتيب الذي رتبوا به، غير قابل للتغيير كما هو الأمر بالنسبة للآب ايضاً ([60]). وكما انه من غير الممكن التحدث عنه بطريقة أخرى سوى انه آب، هكذا يكون من عدم التقوى التساؤل أن كان الابن هو الروح، أو أن الروح هو ابن. ومن أجل هذا حكم على سابيليوس انه عدو الكنيسة اذ انه تجاسر أن يقول على الآب انه الابن، ويطلق على الابن اسم الآب.

هل يجرؤ أحد بعد ذلك أن يقول، حينما يسمع كلمتي ابن وروح، أن الآب جد؟ أو أن الروح هو ابن؟. نعم، انهم سيتجرؤن، هؤلاء هم الأونوميون والأودوكسيون واليوسابيون. ولكونهم مروجين للبدعة الأريوسية، فانهم لا يضبطون السنتهم عن الكفر. فمن هو الذي سلم هذه الأمور اليهم؟ ومن هو الذي علمهم؟ فبالتأكيد لم يتعلموا هذا من أحد الأسفار الالهية، بل من فيض قلوبهم خرج هذا الجنون.

(6)

وحيث انه قد تبرهن أن الروح ليس مخلوقاً، فان كنتم تسألون، هل الروح اذن هو ابن؟ فعندئذ يلزمكم أن تسألوا ايضاً هل الابن هو آب؟ لأنكم قد تعلمتم سابقاً أن الابن ليس مخلوقاً، اذ أن الاشياء المخلوقة قد خلقت به. أو تتساءلون هكذا: هل الروح اذن ابن، والابن ايضاً هو الروح القدس؟ ولكن كانوا هكذا يفكرون، فانهم يصيرون مبعدين عن الثالوث القدوس ويحكم عليهم بأنهم بلا اله، لأنهم يغيرون اسم الآب والابن والروح القدس، وبحسب مشيئتهم ينظرون اليهم بشبه التناسل البشري، داعين اياهم حفدة واجداداً صانعين من جديد لأنفسهم أنساب الهة الوثنيين.

ليس هذا هو ايمان الكنيسة، بل كما قال المخلص: بالآب والابن والروح القدس. الآب الذي لاي مكن أن يدعى جداً، والابن الذي لا يمكن أن يدعى أباً، والروح القدس الذي لا يسمى باسم آخر غير هذا. وفي هذا الايمان لا تجوز مبادلة الأسماء. فالآب هو دائماً آب والابن هو دائماً الابن، والروح القدس يدعى دائماً الروح القدس. وأما فيما يختص بالعلاقات البشرية فالأمر ليس هكذا، حتى وان كان هذا هو ما يتوهمه الأريوسيون. “فالله ليس مثل الانسان” كما هو مكتوب (عد 23 : 10). حتى انه يمكننا أن نقول أن البشر ليسوا مثل الله. لأنه فيما يتصل بالبشر فالآب ليس دائماً أباً ولا الابن دائماً ابناً لأن الذي كان ابناً لآخر يصير هو نفسه اباً لابن، والابن الذي هو ابن لأبيه يصير اباً لابن آخر. فابراهيم اذن وقد كان ابناً لناحور، صار اباً لاسحق. واسحق وقد كان ابناً لابراهيم صار اباً ليعقوب لأن كل واحد منهم اذ هو جزء من والديه يولد ويصير هو نفسه أباً لابن آخر. أما بالنسبة إلى الألوهة فليس الأمر كذلك، لأن الله ليس مثل الانسان. فالآب لم يولد من أب آخر، ولذلك فهو لا يلد ابناً يصير أباً آخر. وليس الابن جزءاً من الآب، ولذلك فهو لم يولد ليلد ابناً. واذن ففي الألوهة وحدها الآب هو آب، وقد كان، ويظل دائماً كما هو، لأنه هو الآب بحصر المعنى. وهو آب فقط. والابن هو ابن بحصر المعنى، وهو ابن فقط. ويثبت القول أن الآب هو آب ويدعى دائماً أباً. والابن هو ابن. والروح القدس هو دائماً الروح القدس، وهو الذي قد آمنا به انه من الله وانه يعطى من الآب بواسطة الابن. وهكذا فالثالوث القدوس يظل غير قابل للتغير ويعرف في الوهة واحدة. ولذكل فالذي يسأل: هل الروح اذن ابن؟ – كما لو كان الاسم يمكن أن يتغير – فهو واهم ويجعل نفسه مجنوناً، والذي يسأل هل الآب اذن جد، فبابتداعه اسماً للآب يضل في قلبه. وليس من الأمان أن نعطي جواباً أكثر من ذلك على صفاقة الهراطقة لأن ذلك يتعارض مع وصية الرسول ([61]). لأنه من الأفضل بالحري أن نعطي المشورة كما أوصى بها.

(7)

هذا الكلام يكفي لتوبيخ أقوالكم الحمقاء فلا تعودون تعبثون بعد بالألوهة فمن شأن أولئك الذين يعبثون أن يسألوا عما هو غير مكتوب، وان يقولوا: هكذا فالروح هو ابن والآب هو جد. وعلى هذا النحو يسخر الذي من قيصرية والذي من سكيثوبوليس ([62]). فكيفي لكم أن تؤمنوا أن الروح ليس مخلوقاً بل هو روح الله، وان في الله ثالوثاً، آب وابن وروح قدس. وليس هناك حاجة لاطلاق اسم الآب على الابن، كذلك ليس هناك حاجة لاطلاق اسم الآب على الابن، كذلك ليس مسموحاً أن نقول عن الروح انه ابن، ولا أن نقول عن الابن انه هو الروح القدس، بل هو هكذا كما قد ذكرنا. فألوهة الثالوث واحدة، وايمان واحد، وتوجد معمودية واحدة تعطى فيه. وواحد هو التكميل ([63]). في يسوع المسيح ربنا: الذي به ومعه للآب مع الروح القدس المجد والقوة إلى كل دهر الدهور آمين.

(8)

تكملة الرسالة الرابعة ([64])

اما بخصوص كلمات الانجيل التي نبهتني اليها في خطابك، فانني بضمير صالح (1بطرس 3 : 16) أرجوك أن تغفر لي. انني اتهيب الاقتراب من كلمات الانجيل لأن انشغالي الشديد في البحث عن معناها سيؤدي إلى عدم قدرتي على الوصول إلى معنى كلمات الانجيل العميقة. ولهذا السبب وحده ظننت انني سوف اتجاوز عن سؤالك واكتفي بما كتبت عن الروح القدس من قبل. ولكن حتى لا ترغمني على الكتابة مرة أخرى في نفس الموضوع ضغطت على نفسي لكي أكتب القليل الذي أفهمه والذي تعلمته. ولو وصلت إلى ايضاح الموضوع فسوف تشعر أنت بالرضا، اما إذا اخفقنا فسوف لا تلومنا لأنك تعلم حسن قصدنا بل وضعفنا ايضاً. هذه هي الكلمات التي تسأل عن معناها: بعد اجراء معجزات كثيرة كما ذكر الانجيل قال الفريسيون “هذا الإنسان يخرج الشياطين ببعلزبول رئيس الشياطين” والرب الذي عرف أفكارهم قال لهم “كل مملكة منقسمة على ذاتها تخرب” (متى 12 : 24-25) وبعدها مباشرة قال “ان كنت بروح الله أخرج الشياطين فقد جاء عليكم ملكوت الله” (متى 12 : 28). ثم ختم بقوله “كل خطية وتجديف يغفر أما التجديف على الروح القدس فلا مغفرة له لا في هذا الدهر ولا في الدهر الآتي ايضاً” (متى 12 : 31-32).

ومن هنا جاء سؤالك: لماذا يغفر التجديف على الابن؟ ولماذا لا يغفر التجديف على الروح القدس لا في هذا الدهر ولا في الدهر الآتي ايضاً؟

(9)

لقد قرأت ما كتبه الآباء وبالذات الحكيم والمجاهد اورجينوس والعجيب المجاهد ثيئوغنوستس. واطلعت على كتبهم لأرى ماذا قالوا بخصوص هذا الموضوع. كلاهما قال أن التجديف على الروح القدس يحدث عندما يعود الذين حصلوا على نعمة الروح القدس في المعمودية إلى الخطية. ولذلك يتفق كلاهما مع الآخر على عدم وجود مغفرة، مستندين إلى ما ذكره بولس في الرسالة إلى العبرانيين “انه من المستحيل لمن استنيروا..” (عبرانيين 6 : 4-6) عند هذه النقطة كل منهما يتحدث مثل الآخر تماماً.

(10)

يشرح اورجينوس سبب دينونة هؤلاء بهذه الكلمات “الله الآب يحل في كل شيء ويضبط كل الكائنات الحية وغير الحية أي التي لها نعمة العقل والتي ليس لها نعمة العقل. اما الابن فهو يشمل بقوته الذين لهم نعمة العقل فقط مثل الموعوظين والوثنيين الذين لم يأتوا بعد إلى الايمان. أما الروح القدس فهو يسكن فقط في الذين قبلوه في المعمودية. ولذلك عندما يخطئ الموعظون أو الوثنيون فان خطيئتهم هي ضد الابن فقط، لأنه هو فيهم كما ذكر – اورجينوس – ولذلك يمكنهم الحصول على المغفرة عندما يكرمون بنعمة الميلاد الثاني. ولكن عندما يخطئ المعمد فان الخطية بعد المعمودية موجهة ضد الروح القدس الذي يسكن في الذين عمدوا، ولذلك لا مناص من العقاب.

(11)

أما ثيئوغنوستس فهو كما ذكرت يتبع نفس شرح اورجينوس ويقول أن الذي يتخطى الحاجز الأول والثاني يستحق عقوبة أقل. ولكن الذي يتخطى الحاجز الثالث لا يمكن أن يحصل على مغفرة. وهو يدعو التعليم الخاص بالآب والابن بالحاجزين الأول والثاني. أما الحاجز الثالث فهو التعليم الذي يقال في المعمودية والخاص بالروح القدس، ولكي يؤكد ثيئوغنوستس هذا الشرح اقتبس كلمات الرب للتلاميذ “عندي اشياء كثيرة لأخبركم ولكنكم لا تحتملون بعد، ولكن متى جاء الروح القدس فهو سيعلمكم” (يوحنا 16 : 12-13). وقال ثيئوغنوستس عن هذه الكلمات أن المخلص تحدث مع أناس لا يمكنهم أن يقبلوا التعاليم الكاملة ولذلك نزل إلى مستواهم غير الكامل. أما الذين تكملوا فهم الذين قبلوا الروح القدس في المعمودية. والتعليم الكامل هو من نصيب الذين حل فيهم الروح القدس.

لكننا نحذر كل من يقرأ هذه الكلمات من عدم فهمها بصورة سليمة، اذ لا يجب أن يظن أحد أن التعليم عن الروح القدس أسمى من التعليم عن الابن ما دام الابن قد نزل إلى مستوى غير الكاملين بينما الروح القدس هو “ختم الكمال”. كما علينا ايضاً أن نحذر من الظن بأن الروح أسمى من الابن طالما أن التجديف على الروح بلا مغفرة. ولكن المغفرة لغير الكاملين (غير المعمدين) أما الذين ذاقوا الموهبة السماوية وصاروا كاملين فلا مغفرة لهم ولا صلاة يمكنها أن تسهل لهم المغفرة. هذا ما ذكره هذان الكاتبان المجاهدان.

(12)

أما عن نفسي فحسب ما تعلمت، اعتقد أن رأي كل منهما يتطلب فحصاً ومراجعة دقيقة لأن كلمات الانجيل الخاصة بالتجديف عميقة.

في الحقيقة واضح أن الابن في الآب وبالتالي فهو في الذين فيهم الآب ايضاً. والروح القدس ليس غائباً عن الآب والابن لأن الثالوث القدوس المبارك غير منقسم. وزيادة على ذلك إذا كان كل شيء قد خلق بالابن (يوحنا 1 : 3) وفيه كل الاشياء توجد (كولوسي 1 : 17). فهو ليس كائناً خارج الاشياء التي جاءت إلى الوجود بواسطته. فكل المخلوقات ليست غريبة عنه. هو بالطبيعة في كل شيء وبالتالي كل من يخطئ ويجدف على الابن يخطئ ويجدف على الآب والروح القدس. ولو كان حميم الميلاد الثاني قد اعطى باسم الروح القدس فقط لكان من المعقول أن نقول أن الذي عمد اذاً أخطأ بعد المعمودية يخطئ ضد الروح القدس وحده. ولكن لأن المعمودية تعطى باسم الآب والابن والروح القدس فكل معمد يقبل المعمودية باسم الثالوث وبذلك يصبح واضحاً أن كل من يجدف بعد المعمودية قد جدف على الثالوث الأقدس، وهذا هو التعليم الحقيقي الذي يجب أن نقبله.

ولو كان هؤلاء الذين تحدث معهم الرب أعني الفريسين قد قبلوا حميم الميلاد الثاني وحصلوا على نعمة الروح القدس، لكان التفسير السابق لكل من اورجينوس وثيئوغنوستس مقبولاً. لأن الرب لم يكن يتكلم مع أناس ارتدوا وجدفوا على الروح القدس، لأننا إذا تذكرنا، لم يكن هؤلاء الناس – أي الفريسيين – معمدين، بل حتى معمودية يوحنا احتقروها ورفضوها (متى 21 : 15-27). فكيف يمكن اتهامهم بالتجديف على الروح القدس وهم لم يحصلوا عليه بعد؟ ولذلك لم ينطق الرب بهذه الكلمات لكي يعلم عن الخطية بعد المعمودية، كما انه لم يكن كذلك يهدد بعقوبة اولئك الذين سيخطئون في المستقبل بعد المعمودية، بل قال هذه الكلمات بطريقة مباشرة وصريحة ضد الفريسيين لأنهم اذنبوا فعلاً وسقطوا في هذا التجديف الفظيع. لقد اتهمهم الرب بطريقة واضحة بالتجديف وهم لم يقبلوا المعمودية. فان هذه الكلمات ليست موجهة ضد الذين يخطئون بعد المعمودية، خصوصاً وان الرب لم يكن يشتكيهم بخطايا عامة ولكن بالتجديف بالذات وهناك فرق بين الذي يخطئ ويتعدى الناموس والذي بسبب عدم تقواه يجدف على الله نفسه.

وقبل ذلك اتهم الرب الفريسيين بخطايا أخرى مثل محبة المال التي من أجلها أبطلوا الوصية الخاصة بالوالدين، ورفضوا كلمات الانبياء وجعلوا بيت الله بيت تجارة، وفي كل هذا انتهرهم المخلص لكي يتوبوا. أما عندما قالوا انه ببعلزبول يخرج الشياطين، لم يقل لهم ببساطة انهم يخطئون بل انهم يجدفون بصورة شنيعة تستوجب العقاب وتجعل المغفرة مستحيلة لأنهم تمادوا إلى حيث لا حدود لخطئهم.

(13)

وزيادة على ذلك، لو كانت هذه الكلمات موجهة ضد الذين يخطئون بعد المعمودية وهؤلاء لا مغفرة لهم فكيف أظهر الرسول محبة نحو التائب في كنيسة كورنثوس؟ (2كورنثوس 2 : 8). وماذا عن الغلاطيين الذين ارتدوا (غلاطية 4 : 9) والذين تألم الرسول لكي يولدوا ويتكون فيهم المسيح مرة ثانية؟ (غلاطية 4 : 19). أو عندما يقول انهم كملوا في الروح مرة ثانية. وكيف نلوم نوفاتوس الذي يمنع التوبة ونعترض على قوله بأن الذين يخطئون بعد المعمودية لا مغفرة لهم طالما أن هذه الكلمات الانجيلية تؤيد تعليم نوفاتوس وهي موجهة إلى الذين يخطئون بعد المعمودية. وحتى كلمات الرسالة إلى العبرانيين (6 : 4-6) لا تمنع توبة الخطاة بل تشير إلى أن معمودية الكنيسة الجامعة تعطى مرة واحدة ولا يمكن أن تتكرر ويجب أن نلاحظ انه للعبرانيين بالذات كتب الرسول هذه الكلمات لأنه خاف عليهم من التظاهر بالتوبة وانهم بسبب تمسكهم الشديد بالناموس الموسوي وشريعة التطهير سيظنون انه توجد فرصة لمعموديات يومية متكررة كما في (مرقس 7 : 3-4). ولذلك يشجعهم على التوبة ويعلن أن التجديد في المعمودية هو تجديد فريد لا يعاد. وفي رسالة أخرى يقول “ايمان واحد، معمودية واحدة” (أفسس 4 : 5). وهو لا يقول انه من المستحيل أن يتوب الساقط بل من المستحيل أن نصنع نحن تجديداً لأنفسنا بالتوبة والفرق كبير، لأن من يتوب يكف عن الخطية ولكن أثار جروحه تظل ظاهرة بعكس من يعتمد يخلع العتيق ويتجدد (كولوسي 3 : 9-10) بل ويولد مرة ثانية بنعمة الروح القدس (يوحنا 3 : 3).

(14)

وعندما أفكر في هذه الأشياء أجد في الكلمات السابقة عمقاً عظيماً ولذلك بعد أن صليت بلجاجة للرب الذي جلس عند البئر (يوحنا 4 : 6) ومشى على المياه (متى 14 : 25) أعود إلى تدبير الخلاص الذي تم راجياً أن أكون قادراً على أن أملأ دلوي من معاني الكلمات الانجيلية التي نبحثها.

كل الكتب الانجيلية وبالذات يوحنا تخبرنا عن التدبير الالهي: “الكلمة صار جسداً وسكن فينا” (يوحنا 1 : 14) وبولس عندما يكتب: “الذي اذ كان في صورة الله لم يحسب مساواته لله اختلاساً بل اخلى ذاته وأخذ صورة عبد وصار في شبه الناس” (فيلبي 2 : 6-8). ولأنه الاله الذي اخلى ذاته وصار انساناً، أقام الموتى وشفى المرضى، وبكلمته حول الماء خمراً.. وهذه كلها أعمال ليست من قدرة البشر. ولكنه جاع وعطش وتألم لأنه أخذ جسداً وكل أعمال الجسد ليست من صفات اللاهوت. كاله قال “أنا في الآب والآب فيَّ” (يوحنا 14 : 11) ولأنه أخذ جسداً حقاً وبكل يقين، انتهر اليهود قائلاً “لماذا تطلبون أن تقتلوني وأنا انسان قد أخبركم بالحق الذي سمعه من الآب” (يوحنا 8 : 40). ورغم كونه الهاً الا انه لم يقم بهذه المعجزات مرة واحدة لأنه تجسد وكان عليه أن يواجه الاحتياجات والظروف المرتبطة بحياته كانسان. لكن لم تكن أعمال الجسد تتم بدون اللاهوت أو أعمال اللاهوت تتم بدون الجسد بل على العكس كل أعماله صنعها الرب الواحد، الذي أكمل كل شيء في سر نعمته. وعلى سبيل المثال، بصق على الأرض كما يبصق كل الناس. لكن لعابه وحده كان فيه قوة الهية لأنه وهب به البصر لعيني المولود الأعمى (يوحنا 9 : 6). ورغم انه الاله الا انه تكلم بلغة بشرية وقال “أنا والآب واحد” (يوحنا 10 : 30). وبارادته منح الشفاء (متى 8 : 3). ولكن عندما مد يده الانسانية. أقام حماة سمعان بطرس من الحمى (مرقس 1 : 31) وبنفس اليد أقام من الموت ابنة رئيس المجمع (مرقس 5 : 4).

(15)

وقد أخطأ الهراطقة كل حسب مقدار جهله. البعض منهم نسب كل ما حدث من الرب لجسده (أي كانسان) وتعاموا عن القول الالهي “في البدء كان الكلمة” (يوحنا 1 : 1). والبعض نسب ما حدث إلى لاهوته فقط، ولم يفهموا القول “الكلمة صار جسداً” (يوحنا 1 : 14). لكن المؤمن الذي يتبع تعليم الرسل يعرف غنى الرب ومحبته للبشر. وعندما يرى أعماله العجيبة الالهية يمجد الرب الذي ظهر في الجسد. وعندما يرى أعمال الجسد يتعجب ويرى فيها القوة الالهية التي تعمل.. هذا هو ايمان الكنيسة، ولذلك إذا ثبت البعض عيونهم على الجانب الانساني في حياة الرب وشاهدوه يختبر الجوع والتعب والألم يتحدثون عنه بدون تقوى كمن يتحدث عن انسان فقط، فيخطئون بذلك خطية عظيمة. وبلا شك أن لم يتأخروا في التوبة يمكنهم الحصول على المغفرة لأن ضعفهم الانساني هو عذر لهم. وحتى الرسول يمنحهم المغفرة وبطريقة ما يمد يده اليهم لأنهم بالحق يقول “وبدون جدل، عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد” (1 تيموثاوس 3 : 16). وعندما يرى البعض أعمال اللاهوت يترددون في الاعتراف بانسانيته وهذا خطأ بالغ ويتوهمون عندما يقرأون أن الرب يأكل ويتألم انه خيال، هؤلاء إذا لم يتأخروا في التوبة سيغفر لهم يسوع لأنهم لا يفهمون أعماله الفائقة التي أتمها في الجسد. وإذا فحصنا جهل هؤلاء وأولئك أي الذين يخطئون ولهم معرفة بالناموس مثل الفريسيين أو الذين يستسلمون للجنون وينكرون وجود الكلمة في الجسد، أو يذهبون إلى أبعد من هذا عندما ينسبون أعمال اللاهوت إلى الشيطان وجنوده. فأنه من العدل أن تكون عقوبة عدم تقواهم هي عدم المغفرة لأنهم اعتبروا الشيطان مثل الله وحسبوا أن من هو بالحقيقة الله، لا شيء في أعماله يدل على الوهيته، بل انه الشيطان يستخدم أعوانه.

(16)

والى هذه الدرجة السفلى من عدم التقوى انحدر اليهود في ذلك الزمان وبالذات الفريسيون منهم. ورغم أن الرب كان يقوم بأعمال الآب علانية، فهو أقام الموتى ومنح النظر للعميان وجعل العرج يمشون وفتح آذان الصم وجعل الخرس يتكلمون معلناً أن الخليقة العاقلة وغير العاقلة خاضعة له لأنه هو الذي أمر الريح ومشى على البحر، الجموع عاينت هذا وامتلأت بالدهشة ومجدت الله، ألا أن الفريسيين قالوا أن هذه أعمال بعلزبول – ومن فرط جنونهم لم يخجلوا من أن يعطوا للشيطان قوة الله. وأمام هذا أعلن الرب بالحق أن تجديفهم بلا مغفرة، لأنهم عثروا في كل ما يختص بانسانيته وكان لهم في المسيح كانسان، رأي شرير، اذ قالوا “أليس هذا ابن النجار” (متى 13 : 55) وكيف يفهم الكتب وهو لم يدرسها (يوحنا 7 : 15)، وما هي المعجزات التي “تعملها لنؤمن بك” (يو 6 : 30) و”لينزل عن صليبه الآن لنرى ونؤمن” (متى 27 : 42). وقد احتمل الرب كل هذا، وسمى الانجيل مثل هذه الأقوال بالتجديف على ابن الانسان، وتألم الرب من قساوة قلوبهم (مرقس 3 : 5) وقال لو كنتم تعلمون ما هو سلامكم (لوقا 19 : 42). وغفر الرب لبطرس عندما تكلمت معه الجارية عن يسوع كانسان وأجاب بطرس بطريقة لا تختلف عن رأي الجارية وكلامها، ولكن الرب غفر له عندما بكى بدموع. أما عند سقط الفريسيون إلى أدنى من كل هذا وتفوهوا بما هو أشر من كل ما سبق، حتى أنهم قالوا أن أعمال الله هي أعمال بعلزبول لم يحتملهم لأنهم جدفوا على روحه بقولهم أن من يعمل هذه الأعمال ليس الله ولكنه بعلزبولز ولهذا السبب استحقوا عقوبة ابدية. وفي الحقيقة أن جرأتهم زادت عن الحد وعندما رأوا ترتيب العالم والعناية به نسبوا الخلق إلى بعلزبول، حتى أن الشمس صارت بحسب قولهم تحت سلطان الشيطان وأصبح الشيطان هو الذي يحرك النجوم في السماء، لأن كل اعمال الآب كخالق، عملها يسوع فاذا قالوا أن اعمال يسوع هي أعمال بعلزبول، فكيف اذن يفهمون القول الالهي “في البدء خلق الله السموات والأرض” (تكوين 1 : 1) ولكن مثل هذا الجنون ليس غريباً عنهم لأن آباءهم أظهروا نفس الطباع، فبعد خروجهم من مصر صنعوا العجل الذهبي في البرية ونسبوا إليه المعجزات والبركات التي أخذوها من الله وقالوا “هذه آلهتك يا اسرائيل التي اخرجتك من أرض مصر” (خروج 32 : 4) وبسبب هذا التجديف الذي ارتكبه اولئك المجانين تم فناء الكل في البرية وأعلن الله انه في يوم افتقاده “سوف يجلب شرهم عليهم” (خروج 32 : 34). وعندما اشتكوا من انعدام الخبز والماء اهتم بهم تماماً مثل المرضعة برضيعها، ولكنهم زادوا الشكوى إلى الحد الذي وصفه الروح القدس في المزامير “ابدلوا مجده بصورة العجل الذي يأكل الحشيش” (مزمور 105 : 20) وعندما اجترأوا على ارتكاب مثل هذا العمل الذي لا مغفرة له ضربهم الرب كما يقول الكتاب بسبب العجل الذي سبكه هارون (خروج 32 : 35).

(17)

وتصرف الفريسيون بنفس الوقاحة ولذلك أخذوا من الرب عقوبة مماثلة بل هي عقوبة مثل عقوبة بعلزبول نفسه الذي تحدثوا عنه، كي يحترقوا معه بنار أبدية.

ولم يكن الرب يقصد بما قاله في الانجيل أن يقارن بين التجديف الموجه ضده والتجديف الموجه للروح القدس ولا أشار ولو من بعيد أو بطريق غير مباشر إلى أن الروح القدس أسمى منه ولا لأن التجديف على الروح أخطر، نطق الرب بهذه الكلمات – حاشا – لأنه علم من قبل أن كل ما هو للآب فهو للابن، وان الروح يأخذ من الابن وبذلك يمجد الابن (يوحنا 16 : 14-15). والروح لا يعطي الابن بل الابن هو الذي يعطي الروح وقد أعطاه لتلاميذه وبهم لمن يؤمنون به بواسطتهم. ولم يكن الرب يقارن نفسه بالروح عندما قال هذه الكلمات، كما انها لا تعني أن الروح أسمى من الرب، فهذا سوء فهم لكلمات المخلص. والتجديف بنوعيه موجه بالضرورة للروح القدس. والنوع الأول من التجديف محتمل اما النوع الثاني فهو خطير. وقد ارتكب الفريسيون نوعي التجديف لأنهم رأوه انساناً فأهانوه بقولهم “من اين له هذه الحكمة” (متى 13 : 54). وقولهم: أنت لم تبلغ بعد من العمر ثلاثين سنة فكيف رأيت ابراهيم (يوحنا 8 : 57). ورغم انهم رأوا أعمال الآب فيه الا انهم لم يرضوا بألوهيته. وبدلاً من هذا قالوا أن بعلزبول فيه، وان هذه الأعمال هي أعمال بعلزبول، وبذلك أصبح تجديفهم بنوعية موجه ضده. والنوع الأول أقل خطورة بسبب العذر الواضح وهو انسانيته، اما النوع الثاني فهو أكثر خطورة لأنه اهانة موجهة إلى الوهيته. ومثل هذا التجديف الخطير هو الذي استدعى عقوبة عدم المغفرة. ومن الواضح أن الرب كان يشجع التلاميذ عندما قال لهم “اذا كانوا قد دعوا رب البيت بعلزبول” (متى 10 : 25) واكد هنا انه رب البيت الذي جدف عليه اليهود.

(18)

أما اليهود فعندما قالوا عنه “بعلزبول” لم يهينوا أحداً سوى الرب يسوع وهذا واضح من التعبير نفسه. لأن كلمة “الروح” في نص الانجيل “أما التجديف على الروح” (مت 12 : 31) تشير إلى الرب نفسه. وكل هذا القول يقصد به نفسه. لأن “رب البيت” يراد به المسيح أي رب الكون كله. وأنا ارجوك أن لا تتضايق من هذا التكرار فهو لازم إذا كنا نحرص على الوصول إلى المعنى الدقيق للنص ولذلك سأعود إلى ما ذكرته سابقاً أن الجوع والتعب والنوم والاهانات كلها خاصة بناسوته، أما الأعمال الباهرة التي كان يقوم بها الرب، فلم تكن أعمال انسان بل أعمال الله. لذلك إذا ما شاهد بعض الناس الاشياء الخاصة بالانسان مثلاً الجوع.. الخ وأهانوا الرب لأنه حسب ظنهم مجرد انسان فقد حسبوا مستحقين لعقوبة أقل من عقوبة اولئك الذين ينسبون اعمال الله للشيطان. لأن هؤلاء لا يكتفون بالقاء الاشياء المقدسة للكلاب (متى 7 : 6)، بل يجعلون الله مساوياً للشيطان ويدعون النور ظلمة (اشعياء 5 : 20). لذلك سجل مرقس أن تجديف اليهود بلا مغفرة، “وأما من جدف على الروح القدس فلن يغفر له بل هو مستحق دينونة ابدية، لأنهم قالوا أن به روحاً نجساً” (مرقس 3 : 29 – 30).

والرجل الأعمى منذ ولادته عندما أبصر، شهد بأنه لم يسمع من قبل أن أحداً فتح عيني مولود أعمى، ولذلك قال “اذا لم يكن هذا الإنسان من الله لا يستطيع أن يفعل شيئاً” (يوحنا 9 : 32-33). حتى الجموع نفسها عندما امتلأت من الاعجاب بما فعله الرب قالت “ان هذه ليست اعمال من فيه شيطان، هل يقدر شيطان أن يفتح أعين العميان” (يوحنا 10 : 21). أما هؤلاء الذين امتلأوا من معرفة الناموس، أي الفريسيون وهم الذين يلبسون العصائب العريضة (متى 23 : 5)، ومزهوون بمعرفتهم بالناموس أكثر من باقي الناس (يوحنا 9 : 24 – 29)، كان من المفروض عليهم بسبب هذه المعرفة أن يخجلوا ولكن كما هو مكتوب عنهم انهم “تعساء لأنهم ذبحوا للشيطان وليس لله” (تثنية 32 : 17). وعندما قالوا أن بالرب شيطاناً وان أعمال الله هي أعمال الشيطان لم يكن لديهم أي أسباب مقنعة تدفعهم إلى هذا الاعتقاد. والدافع الحقيقي لمثل هذا التجديف هو رغبتهم في أن ينكروا أن الذي يعمل هذه الاعمال هو الاله ابن الله. وبالحقيقة لقد أكل أمامهم وشاهدوا جسده وتأكدوا انه انسان فكان لديهم فرصة لأن يقتنعوا من أعماله أن الآب فيه وانه في الآب. أما لماذا لم يقتنعوا؟ فلأنهم لم يشاءوا.

وفي الحقيقة لقد سكن بعلزبول في الفريسيين. وكان بعلزبول هو الذي يتكلم فيهم. ولذلك قالوا عن المسيح انه مجرد انسان، بسبب ناسوته، دون الاعتراف به الهاً بسبب اعماله التي هي اعمال الله. ولكن بهذه السقطة الّهوا (بتشديد اللام) بعلزبول الذي سكن فيهم، والذي في النهاية سوف يعاقبون معه في النار إلى الأبد.

(19)

ودراستنا للنص توضح لنا انه يعني نوعي التجديف اللذين اشرنا اليهما سابقاً. ذلك أن المخلص اشار إلى نفسه عندما قال “ابن الانسان” ولكنه كان يعني ايضاً نفسه عندما تحدث عن “الروح”. والاسم الأول “ابن الانسان” يوضح تجسده، والاسم الثاني “الروح” يوضح طبيعته الروحية غير المادية ولاهوته. وفي الواقع أن الخطية التي يمكن غفرانها هي العثرة الناتجة عن رؤية ناسوته، أي ما يتعلق به كابن الانسان، ولكنه أوضح أن التجديف الذي لا يمكن مغفرته هو التجديف على “الروح” أي على الطبيعة الالهية.

وقد لاحظت أن التعبير “الروح” جاء بالمعنى الذي نتحدث عنه في انجيل القديس يوحنا عندما كان الرب يتحدث عن تقديم جسده. ولما رأى أن كثيرين عثروا بسبب ما ذكره عن جسده، قال لهم “هل هذا يعثركم؟ وماذا ستفعلون عندما تشاهدون ابن الإنسان صاعداً إلى حيث كان سابقاً؟ الروح هو الذي يحيي اما الجسد فلا يفيد شيئاً. الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة” (يوحنا 6 : 62 – 63) وقد تحدث الرب هنا عن “الجسد والروح” وكما هو واضح كان يتحدث عن نفسه. وميز بين الجسد والروح لكي يتمكن الذين سمعوه من الايمان بما يرون أي بجسده، وكذلك الايمان بغير المنظور أي الروح أو لاهوته لكي يؤمنوا أن ما يتكلم عنه ليس الجسديات بل الروحيات.

ولنسأل كم عدد البشر الذين يمكن أن يقدم لهم جسده المادي؟ وماذا عنه كغذاء للعالم كله؟ لهذا السبب تحدث عن صعود ابن الإنسان إلى السماء لكي يبعد عن افكارهم كل التصورات المادية عن جسده، ولكي يفهموا جيداً بدون أي تصورات مادية أن جسده الذي يتكلم عنه هو طعام سمائي يأتي من فوق كغذاء روحي يعطيه هو بنفسه. وحقاً قال “الكلام الذي أكلمكم به روح وحياة” (يوحنا 6 : 63) أي أن ما أعلنه، وما سيعطيه لخلاص العالم هو جسده، ولكن هذا الجسد عينه بما فيه من دم سوف يعطي لكم بواسطتي روحياً وكطعام وبطريقة روحية سوف يوزع على كل واحد منكم لكي يصبح عربون القيامة والحياة الأبدية.

واستعمال كلمة “روح” جاء بنفس المعنى في حديث الرب مع السامرية عندما وجه فكرها إلى المعنى الروحي ورفع نظرها إلى الأمور غير المادية بقوله لها “الله روح” (يوحنا 4 : 24)، لكي يستقر في قلبها الفهم الصحيح عن الله، انه ليس من طبيعة مادية محصورة في مكان بل انه روح. وهذا ما يعنيه كلام التعليم الذي يقول عندما يتأمل الكلمة وقد تجسد: “روح الايمان هو المسيح الرب”. وحتى لا يعثر أحد ما بالشكل الخارجي الملموس ويظن أن الرب هو مجرد انسان، جاءت كلمة “الروح” لتؤكد أن الذي في الجسد هو الله.

(20)

وهكذا يبدو لنا شيئان ظاهران تماماً. الأول هو حالة من يرى الرب في الجسد ويعتبره مجرد انسان ويقول بعدم ايمان “من أين الحكمة لهذا الانسان” (متى 13 : 54). وكل من يتكلم بهذا يخطئ بدون شك ويجدف على ابن الانسان. والثاني يرى أعماله التي تتم بالروح القدس ويقول أن صانع هذه الأعمال ليس الله ولا ابن الله وينسب هذه الأعمال لبعلزبول، مثل هذا ينكر لاهوته، وهذا ما يظهر واضحاً عدة مرات في الانجيل لا سيما في النص الذي نشرحه.

ومرة أخرى، نكرر، عندما يوصف الرب بانه “ابن الانسان” فهو نفسه يستخدم هذا اللقب لتأكيد بشريته، ولكن عندما يتحدث عن الروح أي الروح القدس الذي به يصنع كل هذه الأعمال والذي هو (الروح) ايضاً فيه، يقول بعد اتمام اعماله الباهرة: “اذا كنتم لا تؤمنون بي فعلى الأقل آمنوا بالأعمال التي أعملها لكي تعرفوا انني في الآب والآب فيَّ” (يوحنا 10 : 38).

أما عن موضوع موته عنا بالجسد، عندما صعد إلى اورشليم (متى 20 : 18) لهذه الغاية، فقد قال لتلاميذه “ناموا الآن واستريحوا لأن الساعة قد أتت وابن الإنسان سوف يسلم لأيدي الخطاة” (متى 20 : 45). وحقاً أن اعماله تجعل أي انسان يؤمن انه بالحقيقة الله، ولكن موته يؤكد ايضاً انه بالحقيقة تجسد. ولهذا السبب قال أن الذي سيسلم لأيدي الناس الخطاة هو ابن الانسان، لأن الكلمة غير مائت ولا يمكن لمسه بل هو في جوهره الحياة نفسها. ولكن عندما لم يؤمن الفريسيون، بأعمال الرب ولا بالأعمال التي كان أبناؤهم يقومون بها، وبخهم الرب بلطف بهذه الكلمات متى 12 : 27 – 28. واشارته هنا إلى “الروح” أو “روح الله” لا تعني انه أقل من الروح أو أن الروح هو الذي كان يعمل هذه الأعمال بواسطته ولكن لكي يوضح انه كلمة الله الذي يعمل كل هذه الأعمال بالروح ولكي يعرف سامعوه انهم عندما ينسبون هذه الأعمال لبعلزبول، بينما هي أعمال الروح فانهم يهينون الذي يعطي الروح أي الابن. وحقاً لقد أعلن في نص الانجيل (متى 12 : 27) انهم قد نزلوا إلى اسفل الدرجات وانهم بمعرفة يجدفون، وليس بسبب الجهل بل هم يجدفون رغم انهم يعرفون أن الأعمال التي يعملها هي أعمال الله، ولكن هؤلاء المجانين نسبوا هذه لبعلزبول، وانها تمت بواسطة روح نجس.

(21)

وكيف يستطيع أناس لهم مثل هذه الوقاحة أن ينتقدوا الوثنيين الذين يصنعون الأصنام ويدعونها آلهة؟ حقاً أن جنون الفريسيين مثل جنون الوثنيين. كلاهما يفعل ذات الشيء وان كان الذي فعله الفريسيون أكثر خطورة، لأنهم بعد أن أخذوا الناموس الذي يحذرهم من عبادة الآلهة الغريبة يتجرأون ويحتقرون الله عندما يخالفون الناموس.

ولكن بعد هذا التجديف ماذا سيفعلون عندما يسمعون اشعياء النبي وهو يخبر عن علامات مجيء المسيح مثل رد البصر للعميان، ومشي العرج، ونطق الخرس، وإقامة الموتى، وشفاء البرص، وفتح آذان الصم؟ من هو صانع كل هذه المعجزات؟ إذا قالوا الله الآب فانهم يدينون انفسهم بعدم قبول الرب لأن ما رآه النبي وأخبر عنه هو ما يفعله الرب يسوع عندما كان على الأرض في الجسد. ولكن إذا اصيبوا بالعمى وقالوا هذه الأعمال هي أعمال بعلزبول فانهم ينحدرون شيئاً فشيئاً إلى عدم التقوى، خصوصاً عندما يقرأون “من الذي اعطى النطق للانسان ومن الذي خلق الصم والخرس والذين لهم عيون والعميان” (خروج 4 : 11)، ونصوص أخرى مشابهة، وربما قادهم جنونهم إلى الادعاء بأنه حتى هذه الكلمات نفسها هي كلمات بعلزبول، وهذا هو التطور الحتمي لفكرهم، لأنهم إذا نسبوا إليه نعمة البصر فانهم ينسبون إليه اسباب العمى ايضاً حيث أن كلمات الكتاب المقدس تؤكد أن الذي قام بالخلق هو الذي قام بالمعجزات وانه هو صاحب كل النصوص. وبالتالي سيصلون إلى نتيجة رهيبة وهي أن خالق الطبيعة البشرية هو بعلزبول لأن من صفات الخالق أن يكون له سلطان على خليقته. وهذا يؤكده موسى “في البدء خلق الله السموات والأرض.. وخلق الإنسان على صورته” (تكوين 1 : 1 و27) ودانيال أعلن لداريوس “أنا لا أعبد اصناماً مصنوعة بيد الإنسان بل الله الحي الذي خلق السماء والأرض والذي له سلطان على كل جسد” (تتمة سفر دانيال : 5). وإذا غيروا فكرهم وتصوروا أن ضعفات الجسد مثل العمى والعرج هي عقوبة من الخالق بينما الشفاء وعمل الرحمة هو من بعلزبول فان مجرد مناقشة هذا الرأي هو الجنون بعينه. وطريقة تفكير هؤلاء الناس هي طريقة المجانين والسكارى وعديمي التقوى لأنهم اصبحوا ينسبون ما هو حسن أي معجزات الرحمة لبعلزبول وليس لله. ومثل هؤلاء الناس لا توبخهم ضمائرهم عندما يغيرون تعاليم الكتب المقدسة طالما انهم يصلون إلى غايتهم وهي انكار مجيء المسيح.

(22)

وكان من الأفضل لهؤلاء الأشرار الامتناع عن اهانة المسيح “كابن الانسان” بسبب أن له جسداً بشرياً أو الاعتراف به كاله حقيقي بسبب معجزاته، ولكنهم فعلوا العكس تماماً، لأنهم عندما ادركوا انه انسان احتقروه، وعندما عاينوا معجزاته الالهية انكروا لاهوته ونسبوا هذه المعجزات للشيطان. وظنوا انهم بمثل هذه الوقاحة وهذا التجديف سيهربون من دينونة الكلمة الذي أهانوه. ولنتذكر أن العرافين والمنجمين وسحرة فرعون عندما حاولوا تقليد معجزات موسى عجزوا وانسحبوا معلنين أن هذا هو اصبع الله (خروج 8 : 19). وبينما أبصر الفريسيون والكتبة يد الله وهي تعمل بل عاينوا معجزات أكثر وأعظم قام بها المخلص، قالوا أن الذي فعل كل هذه المعجزات هو بعلزبول، مع أن بعلزبول هو اله السحرة الذين اعترفوا بانهم عاجزون عن القيام بأي عمل خارق وحتى أقل من أعمال موسى، فمن ذا الذي يمكنه أن يقبل اهانة الفريسيين أو فسادهم الذي سبق الانبياء وأدانوه؟

وإذا قارننا بين خطية الفريسيين وذنوب أهل سادوم يصبح أهل سادوم بالنسبة إلى الفريسيين ابراراً. بل لقد زادوا في جهلهم أكثر من الوثنيين وغباوة سحرة فرعون ولا مثيل لهم في جرمهم الا الأريوسيين لأنهم معاً سقطوا في نفس الفساد. لأن اليهود عندما رأوا أعمال الآب التي يقوم بها الابن نسبوها لبعلزبول، والأريوسيين عندما رأوا نفس الأعمال نسبوها لمخلوق، لأنهم قالوا أن الابن خلق من لا شيء، وانه مر وقت لم يكن فيه الابن كائناً. والفريسيون تذمروا عندما رأوا الرب في الجسد وقالوا “لماذا وأنت انسان تجعل نفسك الهاً” (يوحنا 10 : 33) وهؤلاء الأريوسيين أعداء المسيح عندما رأوه ينام ثم يتالم جدفوا عليه بهذه الكلمات: “الذي يعاني كل هذه الآلام لا يمكن أن يكون الاله الحقيقي ولا من ذات جوهر الآب”.

وأخيراً أن كل من يريد أن يفحص جنون الجماعة الأولى أو الثانية سوف يرى انهم في النهاية سوف يستقرون في وادي الظلام (تكوين 14 : 8).

(23)

ولهذا السبب أعلن المخلص انه بالنسبة للجماعتين، توجد عقوبة واحدة لهذه الجريمة الواحدة وهي عدم المغفرة “أما الذي يجدف على الروح القدس فلا مغفرة له لا في هذا الدهر ولا في الدهر الآتي” (متى 12 : 32). وهذا صواب تماماً لأن الذي ينكر الابن، لا يجد من يسرع لمصالحته مع الآب. وأي حياة أو راحة ستبقى لمثل هذا الإنسان الذي يرفض ذاك الذي قال “أنا هو الحياة” (يوحنا 14 : 6) و”تعالوا الي يا جميع المتعبين وثقيلي الأحمال وأنا اريحكم” (متى 11 : 28). فاذا كانت هذه هي عقوبة المجدفين وهي عقوبة كل من يعتنق عقيدتهم في المسيح، فانه من المؤكد أن الذين يعبدون الرب في الجسد وفي الروح ولا ينكرون انه ابن الله وانه تجسد بل يؤمنون في وقت واحد انه “في البدء كان الكلمة والكلمة صار جسداً” (يوحنا 1 : 1 و14) سوف يملكون مع المسيح إلى الأبد في السماء حسب مواعيد ربنا والهنا ومخلصنا يسوع المسيح الذي قال “يذهب هؤلاء إلى عذاب أبدي والأبرار إلى حياة أبدية” (متى 25 : 64).

+++

لقد كتبت هذا الشرح المختصر حسبما تعلمتن أما بالنسبة لك، فأرجو أن تقبل هذا الشرح ليس كتعليم كامل وتام في ذاته بل كبداية تحتاج إلى أن تكملها معتمداً على نصوص الأناجيل والمزامير. وأربط حزمة الحق، حتى عندما يراك الناس وأنت تحملها يقولون “بالفرح حاملين اغمارهم” (مزمور 125 : 6). ليكن لنا هذا الفرح في يسوع المسيح ربنا الذي به وله مع الآب والروح القدس المجد والقوة والملك في دهر الدهور. آمين.

 

الهوامش :


([1]) هي مدينة تسمى الآن الأمديد بشمال الدلتا بمصر، التي كان القديس سرابيون الذي أرسل له القديس اثناسيوس هذه الرسائل – أسقفاً لها.

([2]) أنظر حياة باخوميوس 88 – Vita Pachomius.

([3]) “تجسد الكلمة” فصل 3 ترجمة القس مرقس داود.

([4]) انظر المقالة الأولى ضد الأريوسيين فصل 46 و47 ترجمة الاستاذ صموئيل كامل عبد السيد والدكتور نصحي عبد الشهيد صفحات 89-91 نشر مركز دراسات الآباء القاهرة 1984.

([5]) “ليس فقط أحد المخلوقات“: يرى القديس اثناسيوس أن انحراف “التروبيكيين” من جهة الروح القدس هو انحراف مزدوج: فأولاً: هم يدعون الروح القدس مخلوقاً من ناحية، وثانياً: يقولون أن الروح مختلف عن الملائكة في الرتبة فقط وليس في الطبيعة.

[6] “بسبب وحدة الكلمة مع الآب”: هذا الجزء من الرسالة الأولى يعتبر مقدمة للفصول من 19 – 31 ونجد فيها ثلاث نقاط من تعليم القديس اثناسيوس وهي: 1- أن الروح له نفس الوحدة مع الابن مثل الوحدة التي للابن مع الآب. ورغم أن العلاقتين هما من نفس النوع ولكن كل منهما تمثل علاقة خاصة. فالروح ليس ابناً مثل الابن بالنسبة للآب (انظر فصول 15، 16 من الرسالة الأولى). والروح هو في الابن كما أن الابن هو في الآب (أنظر فصل 19 من الرسالة الأولى)ز 2- وتبعاً لذلك فألوهية الروح القدس متعلقة بألوهية الابن، بالضرورة، وكل كلام عن مخلوقية الروح يعني بالضرورة أن الابن مخلوق (فصل 21 من الرسالة الأولى). 3- حيث أن الكتاب المقدس والتقليد يعلنان أن اللاهوت قائم في ثالوث، فالقول بأن الروح مخلوق لا يحفظ وحدة الله وكماله سليمتين ويجعل المعمودية بلا فاعلية (انظر فصول 28 – 31 من الرسالة الأولى).

([7]) “الثيئولوجيا” هي الكلمة اليونانية التي تعني الكلام عن الله.

([8]) لأنهم – حسب توهمهم الخاص – يعتبرون الروح القدس هو أحد المخلوقات.

([9]) “ينبثق من الآب”. الكلمة اليونانية المترجمة ينبثق مكونة من مقطعين ek, porevo والأداة ek تعني يخرج من، وتشير إلى الأصل. وekporevo كلها تعني ينبثق من. وهنا يستعمل القديس اثناسيوس الفعل اليوناني المستعمل في الانجيل حسب يوحنا 15 : 26 “روح الحق الذي من عند الآب “ينبثق”. ونفس الكلمة استعملها قانون الايمان النيقي القسطنطيني عن الروح القدس “الرب المحيي المنبثق من الآب” والقديس اثناسيوس هنا عندما يتحدث عن علاقة الروح القدس بالآب يقول انه ينبثق (أو يأخذ وجوده) منه، ولكنه عندما يتحدث عن علاقة الروح بالابن لم يقل انه ينبثق منه بل قال عنه “الذي بسبب انه روح الابن، اعطي بواسطته للتلاميذ ولجميع الذين آمنوا به”.

([10]) ترجمت في ترجمة دار الكتاب المقدس وفي الترجمة السبعينية بالانجليزية وفي ترجمات أخرى بكلمة “الريح”.

([11]) ويقصد بها في هذا الموضع، الابن.

([12]) هو أستاذ مصري علم أولاً في الاسكندرية، ولكنه كغيره من الهراطقة، وسع مجال تعليمه فذهب إلى روما حيث أسس هناك مدرسة وذلك قبل عام 150م. ولما حرم من الكنيسة أنشأ جماعة خاصة مستقلة، وقد ألف عدة كتب، وله عدة رسائل وأناشيد، ولكن القليل غير المهم هو الذي بقى، وهو أحد الهراطقة الغنوسيين المشهورين.

([13]) “الله.. بالكلمة، في الروح” واضح هنا أن القديس اثناسيوس يرى في اشعياء 63 : 14 اشارة للأقانيم الثلاثة في الله، والى نزول الروح من الابن بمشيئة الآب.

([14]) يذكر القديس اثناسيوس أن عمل الملائكة بالنسبة للمؤمنين لا يقتصر على حراستهم والعناية بهم، ولكنهم ايضاً يلاحظونهم ويراقبون أعمالهم.

([15]) يشير اوريجينوس في كتابه المبادئ ” أن كل مؤمن حتى أصغر واحد يتولى حراسته ملاك وهو ممن قيل عنهم أنهم ينظرون وجه الآب الذي في السموات” (De Prin II, X.7).

([16]) تدخل حجة اثناسيوس ابتداء من هنا مرحلة جديدة: فبعد أن أنهى اثناسيوس البراهين التي يستند عليها “التروبيكيون” في فهمهم للآيات، يتحول اثناسيوس لمواجهة معارضة مبنية على سوء فهم العلاقات داخل اللاهوت. ويكرس لهذا الغرض الفصول من 15 إلى 21 من هذه الرسالة والتي تشكل قلب هذا البحث بالترتيب التالي: (أ) ففي فصل 15 يقدم المعارضة. (ب) وفي فصل 16 ينقد المعارضة ويبين انها تناقض نفسها من الداخل لأنها مبنية على فهم خاطئ عن الأبوة في الله. (ج) في فصلي 17 و18 ينقد المعارضة لأنها تصور جنوني. (د) وفي الفصول الثلاثة الأخيرة من 19-21 يقدم الخطوط التي ينبغي أن يبنى عليها التعليم الصحيح عن الثالوث.

([17]) “الوحيد” هي في الأصل اليوناني “Monogenes” وتعني الوحيد أو الفريد، وايضاً تعني “الوليد الوحيد” وبهذا المعنى يرى “ديديموس الاسكندري” انها وحدها تكفي لتمييز الابن عن الروح القدس (De Trin II, 447 c).

([18]) “صورة كلية للكامل وهو اشعاعه”: انظر المقالة الثانية ضد الأريوسيين حيث يقول القديس اثناسيوس: “هو كاشعاع النور مولود كامل من كامل ولهذا فهو الله كما انه صورة الله” (ضد الأريوسيين 2 : 35 – ترجمة الاستاذ صموئيل كامل، والدكتور نصحي عبد الشهيد نشر مركز دراسات الآباء يناير 1984). والقديس اثناسيوس هنا يصحح بواسطة “مفهوم الصورة”، سوء استخدام الأريوسيين لتطبيق التوالد في عالم البشر على بنوة المسيح الالهية. وتكرار استعماله لألفاظ: “كلي.. وكامل” يشير إلى تكامل وكمال وعدم تجزؤ الطبيعة الالهية في مقابل الانقسام والتجزؤ في طبيعة البشر. فيؤكد أن الابن ليس صورة منعكسة من الآب أو منبعثة بل هو الصورة الكاملة لكل ما هو الله في جوهره. وكما أن استعمال لفظة “Olos، يستبعد معنى التجزؤ والنقص، هكذا فان لفظة eikon” تتضمن وحدة الابن مع الآب ووجوده في الآب. ويقول القديس اثناسيوس في مقالته الأولى ضد الأريوسيين: “ان اعداء الله هؤلاء انما يخترعون تشنيعات وافتراءات اذ انهم لكي لا يعترفوا بأن الابن هو صورة الآبن فانهم يتصورون صفات جسدية وأرضية فيما يخص الآب ذاته، ناسبين إليه التسميات والتوالد والحمل” (ضد الأريوسيين 1 : 20 – ترجمة الاستاذ صموئيل كامل والدكتور نصحي عبد الشهيد يناير 1984).

([19]) “يدعى (الابن) اشعاعاً”، أي نور يشع نوراً، أي أن الابن نور مشع من الآب، وهكذا نفهم نص قانون الايمان “نور من نور”. بعكس فهم “اشعاع” بمعنى نور مقتبس من نور آخر مثلما يأخذ السراج نوره من سراج آخر فيكون تعبيراً عن الانقسام والتجزئة في عالم المخلوقات، والتي لا وجود لها في طبيعة الله الثالوث.

([20]) “نرى في الابن، الروح الذي به نستنير”: يوضح القديس اثناسيوس هنا اننا يمكن أن نرى الروح في الابن، وهذا ما يذكره صراحة في الرسالة الأولى عندما يقول: “وكما أن الابن، الكلمة الحي، هو واحد، هكذا فان القوة الحيوية والعطية التي بها يقدس ويضيء ينبغي أن تكون واحدة كاملة وتامة” (رسالة 1 : 20). ويقول ايضاً: “لأنه حيث يكون النور فهناك الشعاع ايضاً، وحيث يكون الشعاع فهناك ايضاً فاعليته ونعمته المضيئة” (رسالة 1 : 30). ومع تأكيد القديس اثناسيوس على وحدة الروح والابن، فانه يهتم أن يؤكد ايضاً تميز الأقانيم كما يبدو في كلماته في الفصل 28 من هذه الرسالة اذ يقول: “الآب بالكلمة في الروح القدس يعمل كل الاشياء… وهكذا يكرز باله واحد في الكنيسية “الذي على الكل وبالكل وفي الكل” (أف 4 : 6). “على الكل” كآب وكبدء وكينبوع، و”بالكل” أي بالكلمة، “وفي الكل” أي في الروح القدس. هو ثالوث ليس فقط بالاسم وصيغة الكلام بل بالحق والوجود الفعلي. لأنه كما أن الآب هو الكائن الذي يكون، هكذا ايضاً الكلمة هو الكائن والاله على الكل. والروح القدس ليس بدون وجود حقيقي بل هو يوجد وله كيان فعلي. وليس بأقل من هؤلاء الثلاثة تعتقد الكنيسة الجامعة لئلا تنزلق إلى أفكار اليهود المعاصرين الرديئة والى أفكار سابيليوس، كما انها لا تعتقد بأكثر من ثلاثة لئلا تتدحرج إلى تعدد الآلهة عند اليونانيين”. (رسالة 1 : 28).

([21]) “نصير ابناء” انظر Contr. Ar. III 19 المقالة الثالثة ضد الأريوسيين للقديس اثناسيوس، وديديموس على الثالوث Didymus de Trin II 748 c.، حيث “نصير ابناء”، “نصير آلهة” يقال انهما عمل الروح. وهذا التعبيران يعبران عن فكرة واحدة، والقديس اثناسيوس عموماً يفضل تعبير “نصير آلهة”.

([22]) “صورته الخاصة”: لقد سبق اثناسيوس واستعمل هذه التشبيه عن الابن. وهو الآن يستعمله عن الروح، ويضيف مجموعة من الآيات المماثلة ليبين كيف أن رسم الابن يوجد كما في الروح. واستعمال التشبيه هو أقدم من اثناسيوس، لن غريغوريوس العجائبي في: “اعترافه” يتحدث عن الروح على أنه صورة الابن. بل في الحقيقة ربما يرجع هذا التشبيه إلى ايريناوس، انظر Haer. IV. Viii. 4، ونجد أن ديديموس يأخذ هذا التشبيه في كتابه عن الثالوث de Trin II 504 B وانظر ايضاً Ps. Basil Adv-Eun. V 724 c, etc. واستمرار استعمال هذا التشبيه يتضح من ظهوره في كتابات يوحنا الدمشقي (القرن الثامن) “كتاب في الايمان الارثوذكسي De Fid. Orth.”. ونلاحظ أن ما يقوله اثناسيوس هنا يكمل ويؤيد الحقيقة التي سبق أن ذكرها في القسم السابق أن الروح يمكن أن يرى في الابن.

([23]) كما أن وحدة الطاقة (القوة energia) تستلزم وحدة الجوهر، لذلك فلو أن هناك انقساماً في الجوهر حسب تصور التروبيكيين فهذا يستلزم تعدد الطاقات (القدرات). ويجد اثناسيوس في هذه الحقيقة تعليلاً لتعليمه اللاهوتي عن النعمة الالهية الواحدة للثالوث الواحد.

([24]) “وليد وحيد” (Gennyma) لا يجد القديس اثناسيوس اية صعوبة في استعمال هذه الكلمة – عن المسيح رغم أن الأريوسيين اتيوس Aetius ويونوميوس Eunomius يستعملونها كمرادفة لكلمة مخلوق أو مصنوع. ويقول القديس اثناسيوس في C. Ar. III 4 (ضد الأريوسيين 3 : 4) أن طبيعة الابن هي نفسها طبيعة الآب “لأن الوليد ليس مغايراً لأنه هو صورته وكل ما هو للآب هو للابن..”.. “لأن الشعاع هو ايضاً نور ليس ثانياً بالنسبة للشمس ولا هو نور مختلف، ولا بمجرد المشاركة فيها، بل هو وليد كامل وخاص بها. ومثل هذا الوليد هو بالضرورة نور واحد، ولا أحد يستطيع أن يقول انهما نوران. ولكن الشمس والشعاع هما اثنان، فنور واحد ينبعث من الشمس ويضيء بشعاعها كل الأشياء”.

([25]) “يأخذ من الابن”: على غير ما يحاوله بعض المفسرين خطأ من الاستناد إلى هذه الآية لكي ينسبوا أصل الروح الأزلي إلى الابن مع الآب، فاننا نجد أن القديس اثناسيوس هنا يشرح هذه الآية على انها تشير فقط إلى مجرد ارسال الروح القدس من الابن، اذ هو يقارن بين ما سمعه الابن من الآب وتكلم به (في يوحنا 8 : 26)، وبين ما يسمعه الروح القدس من الابن ويتكلم به، كما يقول الرب يسوع في الفقرة التي اقتبس منها هنا القديس اثناسيوس عن علاقة الروح بالابن “لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به.. لأنه يأخذ مما لي ويخبركم” (يو 16 : 13، 14). وعلى ذلك فان الآية التالية التي يقول فيها كل ما للآب فهو لي تنحصر هنا في فعل الاخبار بما يسمع، لأن الرب يكمل قائلاً: “لهذا قلت انه يأخذ مما لي ويخبركم” (يو 16 : 15).

([26]) “الرتبة والطبيعة”: كلمة رتبة “Taxis” هنا ليست ترتيباً عددياً بل تعني “وضع” Rank، فاثناسيوس لا يقصد أن الروح يأتي في الترتيب بعد الابن مثلما يأتي الابن بعد الآب بل هو يعني ببساطة أن وضع الروح مع الابن هو تماماً مثل وضع الابن مع الآب. ويستعمل القديس اثناسيوس كلمة “الطبيعة” “Physis” بعد كلمة رتبة لكي يوضح أن المقصود بكلمة “رتبة” ليس مجرد وظيفة أو امتياز معين بل وحدة الجوهر بين الأقانيم الثلاثة.

([27]) “روح القداسة والتجديد”: يرى القديس اثناسيوس أن القداسة هي الخاصية المميزة للروح، وهذا نجده ايضاً في تفسير القديس اثناسيوس ليوحنا 17 : 19 في المقالة الأولى ضد الأريوسيين حيث يقول: “كوني أنا كلمة الآب، فأنا نفسي اعطي الروح لذاتي، أنا الصائر انساناً، وانا الصائر انساناً، فيه أقدس لكي يتقدس الجميع في، انا الذي هو الحق” (ضد الأريوسيين 1 : 46 ترجمة الاستاذ صموئيل كامل والدكتور نصحي عبد الشهيد صفحة 89 – مركز دراسات الآباء 1984 القاهرة). وكون القديس اثناسيوس عندما يتحدث عن الروح يضيف كلمة التجديد بعد كلمة القداسة فهذا يبين انه لا يفصل بين القداسة وبين تجديد الطبيعة واعادتها إلى عدم الفساد. وهذا ما يتحدث عنه ايضاً في كتابة تجسد الكلمة (فصول من 4-10) دون أن يشير إلى الروح القدس. والقديس اثناسيوس يستعمل عبارة نصير الهيين في تجسد الكلمة 54 : 3 كمرادف للتجديد أو اعادة الطبيعة البشرية إلى عدم الفساد أو عدم الموت، كنتيجة لتجسد الكلمة. وكل هذه التعبيرات المستعملة في هذا الجزء من الرسالة تشير إلى نفس هذه العملية التي يصيغها بتعبيرات متنوعة في المناسبات المختلفة سواء نسبها إلى الكلمة أو إلى الروح، (مثال أنظر فصل 24 من هذه الرسالة).

([28]) “يؤله” “Theopoieo” أي “يجعل الهاً”.. نلاحظ هنا أن القديس اثناسيوس يشرح عبارة بطرس الرسول تصيروا شركاء الطبيعة الالهية بأنها تعني التأليه. وهو يقول هنا أن الروح القدس هو الذي يؤله البشر أي يصيرهم آلهة باشتراكهم فيه. وعلى هذا الأساس يستنتج أن الروح القدس لا يمكن أن يكون من طبيعة المخلوقات بل بالضرورة له طبيعة الله. وقد استعمل القديس اثناسيوس هذه الكلمة في مواضيع كثيرة من كتاباته أهمها: 1- كتاب تجسد الكلمة فصل 54 حيث يقول “لأنه صار انساناً لكي نصير نحن آلهة”. 2- وفي المقالة الأولى ضد الأريوسيين فقرة 39 “كان الهاً وفيما بعد صار انساناً لكي يؤلهنا.. وكيف يحدث التأليه بدون اللوغوس.. كل الذين دعوا ابناء وآلهة قد نالوا التبني وصاروا متألهين من خلال اللوغوس”. 3- وفي المقال الثاني ضد الأريوسيين فقرة 70 يقول: “لأنه ما كان للانسان أن يتأله لو انه اتحد بمخلوق أو لو أن الابن لم يكن الهاً حقيقياً.. هكذا لم يكن للانسان أن يؤله لو لم يكن الكلمة الذي صار جسداً هو ابن طبيعي حقيقي وذاتي من الآب. لهذا اذن صار الاتحاد هكذا، أن يتحد ما هو بالطبيعة بشرياً بالذي له طبيعة الألوهية ويصير خلاص الإنسان وتأليهه مؤكداً”. 4- وفي المقالة الأولى ضد الأريوسيين فقرة 9 يشرح (مز 81 : 6) “أنا قلت أنكم آلهة” بأن حصول البشر على هذه النعمة هو من الآب بمشاركتهم للكلمة عن طريق الروح القدس”. ومن الفقرات السابقة يتبين كيف أن القديس اثناسيوس ينسب عمل التأليه أحياناً إلى الكلمة وأحياناً أخرى إلى الروح القدس. وفي بعض الأحيان ينسبه إلى الكلمة عن طريق الروح القدس.

([29]) أي من نفس الجوهر مع الابن.

([30]) يقصد الحكيم في نظرهم.

([31]) يقصد القديس اثناسيوس أن الروح القدس لا يمكن أن يفقد قداسته لأنه لا ينالها عن طريق الاشتراك ولكنه يملكها جوهرياً في ذاته.

([32]) يلاحظ هنا أن القديس اثناسيوس لا يفرق بين التقليد والتعليم والايمان، بل هو يتكلم عن الثلاثة كشيء واحد حتى انه يستعمل لها اسم الموصول المفرد وليس الجمع. وهذا يبين أهمية تقليد الكنيسة الجامعة على انه ممتد من المسيح بواسطة الرسل حتى الآباء كما يبدو في العبارة المكملة لهذه الجملة: “الذي أعطاه الرب وكرز به الرسل وحفظه الآباء”.

([33]) “التكميل” هو طقس المعمودية الذي يتم به الانضمام إلى الكنيسة. واثناسيوس هنا ينسب إلى التروبيكيين ما سبق أن نسبه إلى الأريوسيين عن عدم فاعلية المعمودية عندهم بسبب عدم ايمانهم بالوهية الابن اذ يقول في المقالة الثانية ضد الأريوسيين: “أما هؤلاء الأريوسيين فانهم يخاطرون بفقدان اتمام السر وأعني به المعمودية لأنه أن كان اتمام السر يعطي باسم الآب والابن وهم لا يقرون بأب حقيقي بسبب انكاهرم للذي هو منه الذي هو مثله في الجوهر منكرين الابن الحقيقي ويسمون لأنفسهم ابناً آخر.. ألا يكون طقس المعمودية الذي يتمونه فارغاً تماماً وعديم الجدوى اذ أن له مظهر خارجي، اما في الحقيقة فانه ليس له شيء يعين على التقوى.. لأن الأريوسيين لا يعمدون باسم الآب والابن بل باسم خالق ومخلوق.. فليس من يقول ببساطة “يارب” هو الذي يعطي المعمودية، بل هو ذلك الذي من الاسم الذي يدعوه عنده ايضاً ايمان مستقيم.. ومع الايمان يأتي اتمام المعمودية” (المقالة الثانية ضد الأريوسيين: 42 ص 69 ترجمة الأستاذ صموئيل كامل عبد السيد، الدكتور نصحي عبد الشهيد – نشر مركز دراسات الآباء – القاهرة 1987).

([34]) “مثل الأريوسيين واليونانيين”. نلاحظ انه بينما دعا القديس اثناسيوس الأريوسيين في الفصل السابق، يهوذا، فهو هنا يربطهم باليونانيين أي الوثنيين. فان كانت الأريوسية تدعو إلى التوحيد فهي عملياً تنزل إلى الوثنية فعلى الرغم من انها ادعت بأنها تحفظ وحدانية الله باستبعاد الابن من اللاهوت، فهي من جهة أخرى قد ربطت بينه وبين الله في النعمة والمجد أي عبدته كمخلوق أو عبدت المخلوق. وفي هذا الفصل يطبق اثناسيوس نفس الأسلوب بخصوص الروح القدس على أساس انه مع استدعاء الروح القدس في المعمودية مع الآب والابن، ينكرون الوهيته ويعتبرونه مخلوقاً.

([35]) أي طقس المعمودية الذي به يتم الانضمام إلى الكنيسة.

([36]) “الايمان بالثالوث”: يؤكد القديس اثناسيوس على أن هذا هو الايمان الذي يجعلنا متحدين بالله والمعمودية تتبع هذا الايمان. ونفس الأمر يؤكد كيرلس الأورشليمي (Cat. V. 6)، وايضاً القديس باسيليوس في كتابه عن الروح القدس يقول: “المعمودية والايمان طريقان للخلاص لا ينفصلان، فالايمان يكتمل خلال المعمودية، والمعمودية تتأسس خلال الايمان، وكلاهما يتم بنفس الاسماء.. فأولاً يأتي الاقرار بالايمان الذي يدخلنا إلى الخلاص، وبعد الاقرار المعمودية التي تختم على موافقتنا” De Sp. S. 28 وينبغي أن نلاحظ أن اثناسيوس في تعليمه عن المعمودية يشدد على الاندماج في الحياة الالهية الذي تمنحه لنا بما لا يقل عن تشديده على غفران الخطايا.

([37]) أي لا يكون قد انضم فعلاً إلى الكنيسة بالمعمودية.

([38]) أي طقس الانضمام إلى الكنيسة بالمعمودية.

([39]) “ايمان واحد ومعمودية واحدة” (انظر C. Ar. III. 16) يوجد عند القديس اثناسيوس علاقة واضحة ووثيقة بين الايمان الواحد والمعمودية الواحدة والاله الواحد. فان كانت صحة المعمودية تعتمد على صحة الايمان الذي تعطي على أساسه، فهذا بدوره يعتمد على التماسك الداخلي للحياة الالهية التي يوضحها – وحدة الايمان ليست فقط مجرد وحدة صيغة الاعتراف بالايمان، بل تقتضي ايضاً وحدة ذلك الذي يتم الاعتراف به. انظر كيرلس الاورشليمي (Cat. XVI. 4). اذ يقول: “نحن لا نكرز بثلاثة آلهة.. بل بالابن الواحد مع الروح القدس نكرز باله واحد. فالايمان غير منقسم والعبادة غير مجزأة”.

([40]) “فهو يرد كل الاشياء إلى اله واحد، الآب”: يقصد القديس اثناسيوس أن المواهب الروحية المتنوعة وأنواع الخدم يمكن أن تجمع كلها معاً باعتبار أن مصدرها واحد هو “عمل الآب“. وواضح هنا أن القديس اثناسيوس يؤكد أن المقصود بعبارة اله واحد، هو الآب. فالفعل الالهي وكذلك الحياة الالهية ينبعان منه. وهذا هو ايضاً ما قصده القديس اثناسيوس من اقتباسه لعبارة الرسول بولس عندما قال: “ولكن الله واحد الذي يعمل الكل في الكل” (1كو 12 : 6). وهذا هو اتجاه اللاهوت الشرقي عموماً الذي يرد وحدانية الثالوث إلى أقنوم الآب الذي هو الأصل وينبوع الابن والروح القدس.

([41]) “متنوعاً ومجزئاً”: مواهب البركة الرسولية لا ينبغي أن تعتبر مواهب منفصلة مخصصة بالتجزئة لكل واحد من الأقانيم بمفرده. أي أن الرسول لا يقصر النعمة على المسيح أو المحبة على الآب أو الشركة على الروح القدس بحسب الصيغة الواردة في 2كو 13:13 والتي يعلق عليها القديس اثناسيوس هنا، فانه يحدث احياناً أن تنسب المحبة إلى الروح القدس (غلا 5 : 25). والشركة للابن (1كو 10 : 16)، والنعمة لله الآب (1كو 15 : 10).

([42]) أي يدعو الروح القدس مخلوقاً.

([43]) “يتنبئون بالروح القدس” هذا التعليم للقديس اثناسيوس يأخذه منه الآباء الذين أتوا بعده. انظر ديديموس عن الروح القدس Sp. S. 29، وعن الثالوث II 500، باسيليوس عن الروح القدس Sp. S. 37، وامبروسيوس عن الروح القدس Sp. S. II 130 (أنظر الروح القدس الكتاب الثاني ص 130-132 نشر بيت التكريس لخدمة الكرازة، وكيرلس الاسكندري De. Trin VII 1096.

([44]) “تعليم القديسين”: أي تعليم الكتب المقدسة. أن كلمة agioi “القديسين” عند القديس اثناسيوس تشير عادة إلى شخصيات الكتاب المقدس أو كتبته سواء بالنسبة إلى العهد الجديد أو العهد القديم. ونجد نفس المعنى في تجسد الكلمة 57 وفي De Fug. 15.

([45]) “يحاربون الروح”. يبدو أن القديس اثناسيوس هو الذي نحت عبارة “محاربي الروح” على مثال “محاربي الكلمة”، والتي بدورها ربما تكون على مثال “محاربي الله” التي وردت في سفر الأعمال (5 : 39، 23 : 9).

([46]) “الأريوسيين”: أن الرسالة الثانية بأكملها مخصصة لإعادة عرض التعليم الصحيح ضد الأريوسية. فالقديس اثناسيوس يوضح في رسالة 3 : 1 أن التعليم الصحيح عن الروح القدس لا يمكن أن ينبع الا من تعليم صحيح عن الابن. والفصول التالية في هذه الرسالة الثانية لها نقط اتصال وثيقة مع كتابات اثناسيوس الأخرى ضد الأريوسية وخاصة كتاب De Dec وكتاب de. Syn.، والمقالات الثلاث ضد الأريوسيين C. Ar. 1-III. وبالإضافة إلى ذلك فان الحجج هنا متصلة بتلك التي في الرسالة الأولى. وهكذا فهو يوضح في (فصلي 3-4) أن الابن لا يمكن أن يكون مخلوقاً لأن له كل ما يخص الآب، وبنفس الطريقة يتكلم في الرسالة الأولى (22-27) عن علاقة الروح القدس بالابن فيقول: “وان كان الابن بسبب انه من الآب هو خاص بجوهر الآب، فينبغي أن الروح الذي هو من الله يكون بالجوهر خاصاً بالابن” (1 : 25). وانه لأمر مثير للاهتمام أن تعبير (Omoousios هوموأوسيوس من نفس الجوهر) يبرز بوضوح في هذه الرسالة وكذلك التفسير الذي يعطيه له والذي له نقط اتصال وثيقة بشرحه له في كتاب De. Syn. 41-53. وأخيراً فهذه الرسالة متأثرة في صياغتها بالذين وجهت اليهم وهم رعاة كنيسة الاسكندرية اجمالاً، وايضاً بتطور سمات الأريوسية المعاصرة لزمن كتابة الرسالة. ثم أن الرسالة توضح ايضاً وحدة الجوهر الإلهي بين الآب والابن، على أن التأكيد يوضح أساساً “وجود اقنومين متساويين”. وبهذا فان اثناسيوس يكون قد مهد لتعليم الآباء الكبادوكيين عن الثالوث، ويساعد على تفسيره.

([47]) “الحكمة والشعاع والكلمة“: هذه هي التسميات الأساسية التي على ضوئها نعرف ماذا يعني حقيقة الاسمان: “الآب” و”الابن” حينما يطلقان على الله. فالأريوسيون لكي يساووا بين “المولود” (Gennyma) “والمخلوق” (Ktisma) كان لابد أن ينكروا أن الابن هو الكلمة أو الحكمة بمعناهما الأصيل، بل ينسبونهما فقط إلى الله من الخارج دون أن يكون لهما صلة حقيقية بالابن على الإطلاق. أي أن الابن ليس هو كلمة الله وحكمته على الحقيقة، اذ يقول أريوس – فيما يذكر اثناسيوس – (ان هناك حكمتان: الأولى لها قوامها الذاتي وموجودة مع الله، اما الابن فقد جاء من خلال هذه الحكمة الأولى، وقد سمي الحكمة والكلمة بسبب اشتراكه فقط في هذه الحكمة الأولى لأنه يقول: أن “الحكمة” جاء إلى الوجود بواسطة الحكمة بمشيئة الله الحكيم. وهذا يقول ايضاً: أنه توجد كلمة أخرى في الله غير الابن.. وايضاً أن الابن قد سمي كلمة وابناً بسبب مشاركته  للكلمة حسب النعمة) (المقالة الأولى: 5 ص 17، 18 في الترجمة العربية. وأنظر أيضاً المقالة الأولى: 21، 28).

([48]) “الينبوع جاف” لا شك أن اثناسيوس يقصد بلفظتي (Asophos) “بدون حكمة” و (Alogos) “بدون كلمة” المعنى المزدوج، ليس فقط أن الله “بدون حكمة” أو “بدون كلمة”، بل يكون الله في هذه الحالة “غير حكيم” و”غير عاقل، في كيانه وجوهره. ولذلك فان اثناسيوس في مقاله ضد الأريوسيين 1 : 14 يتهم الأريوسيين بأنهم ينسبون لله “عدم العقل” (Alogia). (أنظر المقالة الأولى الترجمة العربية ص 34). وعلى هذا الأساس فان الأريوسيين ينزلون بالابن إلى مستوى ملكة غير شخصية في الحياة الالهية،.. كما انهم ينكرون أن يكون الله شخصاً. ولا تكون وحدانية الله مشخصة. أما في فكر اثناسيوس فهو يلتزم في شرحه لوحدانية الله بما يقول به الوحي في الكتاب المقدس. فانكار المساواة بين الابن والآب في الجوهر يعني في الواقع نفي الشخصية بملئها عن الله. والواقع انه لا يمكن أن نتحدث عن الله كشخص إذا انكرنا الوهية الابن حكمة الله وكلمته. فالله في العقيدة المسيحية هو شخص حي محب ومتكلم في يسوع المسيح. والغاء الوهية الابن هو النظر إلى الله كمجرد قوة وليس شخصاً.

([49]) “لنا معهم نفس الجوهر.. ولنا نفس الهوية” يرفض اثناسيوس أن يعتبر كلمة (Homios) (هوميوس) – التي تعني شبه – معادلة لكلمة هومواوسيوس (Homoousios) التي تعني: من نفس الجوهر حتى لو اضفنا إلى كلمة “هوميوس” كلمات مقوية مثل Aparaliaktos (= مطابق أو مماثل) أو كلمة Katousian (= حسب الجوهر). وينبغي أن نلاحظ أن اثناسيوس هنا يشرح كلمة (Taftotis) بمعنى نفس الهوية، أي أن أي انسان هو مثل أي انسان آخر من حيث أن كليهما بشر. وفي كتابه de. Dec. يرفض اثناسيوس أن يرى في علاقة الأب البشري بابنه ايضاحاً كافياً لعبارة هومواوسيوس (من نفس الجوهر). ويقول: “لأن الأجساد التي يماثل أحدها الآخر يمكن أن تنفصل متباعدة على مسافة أحدها من الآخر”. ويمكن أن نرى اعتراضاً مماثلاً بالنسبة للتشبيه بالتضامن بين الجنس البشري المذكور هنا، لأنه على الرغم من اننا نحن البشر لنا نفس الهوية ولنا نفس الوضع في: الموت والفساد..، إلا أن هذا التضامن لا يصلح أن يكون توضيحاً كافياً للمساواة في الجوهر (أومواوسيوس Omoousios). لقد سبق للقديس اثناسيوس انه أكد على وحدة الآب والابن وعدم انفصالهما، وهو هنا يهمه أن يؤكد على أن الآب والابن متساويان جوهرياً ومتماثلان تماماً، وهو يعرف أن هذا التساوي يتضمن في داخله وحدة الجوهر التي سبق ودافع عنها في الفصل السابق من هذه الرسالة، والتي عبر عنها في كتابه De Dec. 20 وفي ذلك الكتاب يستعمل كلمة هومواوسيوس لكي يوضح أن: “الابن لكي يكون من الآب ينبغي أن يكون في الآب. ولكنه هنا يختار نقطة انطلاق يهاجم بها الأونوميين (أتباع أريوس) الذين أكدوا ليس فقط انفصال الآب عن الابن بل ايضاً عدم تماثل الآب والابن.

([50]) أنظر الحاشية السابقة.

([51]) أن ما يقوله اثناسيوس هنا – على عكس ما كان يقول ارسطو يبرز الفكر المسيحي عن الانسان، انه لا يوجد من البشر من هو عبد بالطبيبعة للآخر.

([52]) “وجودها له بداية”: من طبيعة المخلوقات – بعكس طبيعة الابن – أن توجد من العدم. وهذا ما سبق أن كتبه القديس اثناسيوس في المقالة الثانية ضد الأريوسيين حيث يقول: “المخلوقات والمصنوعات وحدها هي التي من المناسب أن يقال عنها انها من “العدم”، وانها لم تكون موجودة قبل أن تنشأ” (الترجمة العربية 2 : 1 صفحة 9). وأنظر ايضاً المقالة الأولى حيث يقول: “أما أن كانوا يبحثون الأمر بفضول وحب استطلاع قائلين لماذا لا يخلق الله على الدوام وهو القادر أن يخلق دائماً، فليسمعوا، انه بالرغم من أن الله له القدرة على الدوام أن يخلق الا انه ليس في استطاعة المخلوقات أن تكون أزلية لأن هذه المخلوقات وجدت من العدم، ولم تكن موجودة قبل أن تخلق، فكيف يمكن اذن لهذه المخلوقات التي لم تكن موجودة قبل أن تخلق، أن تكون موجودة مع الله الكائن دائماً، اما الابن – فلكونه غير مخلوق بل هو من ذات جوهر الآب – فانه كائن دائماً” (الترجمة العربية 1 : 29 ص 60، 61).

([53]) “يعانون التغير”: أي لأنها كائنات ليست بطبيعتها آلهة، فانها قابلة للتغير. هذه العبارة لا أهمية خاصة اذ توضح أن اثناسيوس كان يعتبر أن الـ Theopoisis (ثيئوبييسيس) أي “يؤله أو يجعله الهاً”، ليس فقط نعمة خاصة بالدهر الآتي بل تبدأ منذ الآن. ويتضح هذا من أن اثناسيوس يطابق بين Theopoisis و(Hiopoisis) (ايوبييسيس) “اي يجعله ابناً” في C. Ar. III -19. اذ يعتبر الأخيرة (البنوة) بكل وضوح انها ملكية نحصل عليها منذ الوقت الحاضر (أنظر Ad. Episc. 1).

([54]) “الخواص التي له”: لا يعتبر القديس اثناسيوس أن هناك خواص عرضية في الله بل كل خواصه جوهريه. فكل ما هو له فهو يكونه.

([55]) “الرب خلقني أول طرقه” (أم 8 : 22س)”: عالج القديس اثناسيوس هذه الآية من سفر الأمثال التي كان يحتج بها الأريوسيين، باستفاضة في كتابة المقالة الثانية ضد الأريوسيين، حيث يفسر لفظ “خلق” على انه يقصد به الطبيعة البشرية الخاصة بالمسيح. أنظر الترجمة العربية لهذه المقالة من فصل 18 – إلى فصل 72 ترجمة الاستاذ صموئيل كامل عبد السيد والدكتور نصحي عبد الشهيد. نشر مركز دراسات الآباء – القاهرة – 1987.

([56]) “فإن كان ابناً، فلا يدعى مخلوقاً“: هذه النقطة سبق أن تحدث عنها القديس اثناسيوس في كتابه de. Dec. 13 حيث يقول “ان كان ابناً فهو غير مخلوق، وان كان مخلوقاً فهو ليس ابناً، لأن هناك اختلافاً عظيماً بين الولادة والخلق. ولا يمكن أن يكون الابن ابناً ومخلوقاً في نفس الوقت. وكان الأريوسيون يجادلون بالقول بأنه لا يوجد اختلاف بين الولادة والخلق، اذ أن الكتب المقدسة في تصورهم تنسب كلا التعبيرين إلى الله، وان لقب “ابن”، هو حسب رأيهم متماثل تماماً مع تفسيرهم لأمثال 8 : 22، حيث يعتبرون الابن مخلوقاً. أما اثناسيوس فيؤكد أن التطابق بين الولادة والخلق هو أمر مستحيل وان على الأريوسيين أن يختاروا بين البنوة والمخلوقية التي يستنبطوها من أمثال 8 : 22. فهو يقول “لأن المخلوقات هي أعمال الصانع من خارجه، أما المولود فليس من خارجه وليس عملاً بل هو مولود جوهر الآب الذاتي. لذا فبينما “الأعمال” هي مخلوقات، الا أن كلمة الله هو ابن وحيد الجنس” المقالة الثانية: 56 الترجمة العربية ص 90.

([57]) أي طقس المعمودية (أنظر رسالة 1 : 29).

([58]) أي تُخلق (بضم التاء) المخلوقات.

([59]) “الصلاة في الثالوث“: نلاحظ أن هذا التعبير “يصلي في الثالوث” يستند على البركة الختامية التي أعطاها الرسول بولس إلى كنيسة كورنثوس عندما قال “نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله وشركة الروح القدس مع جميعكم” (2كو 13 : 14). وعلى ذلك فان الدخول في شركة الروح القدس هو في نفس الوقت هو دخول في نعمة الكلمة وفي محبة الآب. وفي ضوء هذا يمكن أن تفسر عبارة الرسول يهوذا “مصلين في الروح القدس” (يه : 20). والمعنى هنا ينبغي أن يفهم في ضوء ما سبق أن ذكره القديس اثناسيوس في رسالة 1 : 28، من أن الكنيسة مؤسسة ومبنية على الايمان بالثالوث. لذلك يكون الاعتراف بالثالوث هو الذي يجعل للصلاة صفتها الخاصة ومدلولها وشرعيتها، فالعبادة الصحيحة تقوم على أساس الايمان الصحيح الذي هو الايمان بالثالوث.

([60]) يقصد هنا الترتيب المختص بالمعمودية.

([61]) أنظر تيطس 3 : 10 “الرجل المبتدع بعد الانذار مرة ومرتين اعرض عنه”.

([62]) يقصد أكاكيوس وباتروفيلوس.

([63]) التكميل هو طقس المعمودية (أنظر رسالة 1 : 29).

([64]) هذه التكملة مأخوذة عن ترجمة الدكتور جورج بباوي تحت اسم “الرسالة الخامسة عن التجديف على الروح القدس” التي نشرها سنة 1976.