مار يعقوب السروجي

تأليف مار إغناطيوس يعقوب الثالث بطريرك انطاكية وسائر المشرق 1971

مار يعقوب السروجي الملفان (521+)

 

إعداد الراهب روجيه يوسف أخرس

 

  • سيرته

ولد مار يعقوب في قرية (كورتم) الواقعة على ضفة الفرات، وقيل في بلدة (حَورا) من عمل مدينة (سروج) عام 451[1] وتخرج في مدرسة الرها. وقد كان ينظم وهو في سن الـ15 في هذه المدرسة، القصائد البديعة بموهبة شعرية فريدة نظراً لما آتاه الروح القدس كما أشار هو بنفسه إلى ذلك ببيت من الشعر حيث قال: “لَمّا منحتني إياها لم أفقه آنذاك ماذا نِلتُ، أمّا الآن فبعد أن ضاعفتها، زدني منها أضعافاً كثيرة”. وترهّب وتنسّك. وحين بلوغه من العمر الثانية والعشرين[2]، ارتجل قصيدته المشهورة في مركبة حزقيال[3]، في محضر خمسة أساقفة اقترحوها عليه لاختبار موهبته، إذ رأوها على جدار المذبح. كان ذلك في بيعة بطنان سروج، أو في رواية ضعيفة في بيعة نصيبين، فأقرّوا له بالشاعرية وطلبوا إليه أن يكتب كلّ ما يقول[4].

سيم قساً ثم قُلِّد رتبة الزائر (بريودوط) لبلدة حورا. فطفق يطوف على أديار بلاد الفرات وسورية حتى نزل من نفوس آلاف من الرهبان أجملَ منزلةٍ، ثقةً وأمانةً وتُقىً وعلماً. وفي أواخر عمره سُقّف على أبرشية بطنان سروج في كانون الأول عام 518[5]، فأحسن القيام بأمر رعيّته سنة وأحد عشر شهراً ومضى إلى جوار ربه في 29 تشرين الثاني عام 520 عن عمر السبعين. وبعد دهر طويل نُقل بعض رفاته إلى هيكل خاص به في مدينة ديار بكر.

نعتته البيعة السريانية بالملفان على سبيل الإطلاق وكنارة الروح الإلهي وقيثارة البيعة الأرثوذكسية وإكليل الملافنة وزينتهم وفخرهم.

 

  • مار يعقوب ورهبان دير مار باسوس

نحو سنة 510، طاف مار يعقوب أديار بلاد الفرات وسورية ومنها دير مار باسوس في أفامية (حمص)، حيث شافه الرهبان في أمر المبتدعين ديودوروس الطرسوسي، ثاودوروس المصيصي، نسطور، ثاودوريطوس القورشي، هيبا الرهاوي، أوطيخا، لاون الروماني … وشرح لهم إيمانه كتابةً بأنّه نفس إيمان الكنيسة الجامعة الذي يُعلَن في العماد وهو إيمان المجمعين الأوّلين، فضلاً عن مجمع أفسس.

فالملفان، علاوةً على طبعه الهادئ والمسالم، لم يكن يريد أن يستفيض في الكلام في مثل هذه المواضيع اللاهوتية العويصة لئلاّ يزلّ ويستكبر إذا حاول أن يفحص أو يفتّش أو يبحث في “الأعجوبة ܕܘܡܪܐ” الابن. فإنّ الثرثرة اللاهوتية لا تنفع على غرار التكرار العبراني في الكتاب المقدّس دون إضافة موضوع جديد.

كان موقفه هذا الهادئ والفطن موقفَ كلّ مسيحي ناضج ومُسالِم يريد أن يبقى بعيداً عن الجدال. غير أنّ هذا الموقف لم يُناسب هؤلاء الرهبان المتشدّدين الذين طالبوه بأن يحرم بخطّه جميع الهراطقة مثلما فعل قبله مار يوحنا الإسكندري ومار فيلكسينوس المنبجي، وقالوا له في رسالة: “أيّها السيد سيّدنا نعلن لأبوّتك، أنّنا احترنا جدًّا، بعدما فكّرنا مليًّا بالرسائل التي أرسلتها لنا عندما كنت عندنا. إنّنا وجدناها مريضة غير متعافية. ميتة وغير حيّة. لمّا وجدناها مضرّة وغير نافعة، أسرعنا فأرسلناها لك”.

فأجابهم مار يعقوب بألفاظ معسولة:

“لم تحمل إليّ رسالتُكَ المحبّةَ وروحَ التواضع، بل عصاً، ولم تكن تخاطبني مثلما يُخاطَب المؤمن، ولكن كمثل من يُخاطِب رجلاً هرطوقيًّا، تلاحقه ظنون الشكوك. وهكذا كانت تُرتِّبُ عليّ واجبات كمثل رجل مخالف. وكنتَ تُخاطبني في رسالة حضرتِكَ مثل غاضب.

أمّا أنا فلَبِسْتُ حالاً أمانَ المصلوب وقابلتُ غضبَكَ بالمحبّة الإلهية التي تقدر ولا يصعبُ عليها أن تقبل من أحبّائها حتّى الضربات دون ذنوب. الحقّ أقول لك يا سيّدي، لو كانت حضرتُكَ قريبةً منّي بالجسد، وصارتْ لكَ رغبةٌ أن تصفعني كفًّا، لكنت أقبل، ولأدرتُ لك الآخر، ولما كنتُ أفسدُ المحبّةَ بالغضبِ، والأمانَ بالعداوة …

فلماذا حزنتْ حضرتُك أيّها الرجل؟ لقد كُتِبَ لك أن تفرحَ بربّنا في كلّ حين … إذا كانت هذه الرسالة مضرّة مثلما تقول رسالتُكَ، كان من الواجب أن تُحرَقَ بالنار، وأنت لا تحزن …!”

وبعد ذلك قام مار يعقوب بحرم كلّ من حرمه رهبان دير مار باسوس، متعجّباً منهم في الوقت عينه لكونهم يتّهمونه بمرضٍ في إيمانه.

 

  • لقاء مار مار يعقوب بالبطريرك مار سويريوس الأنطاكي

في سنة 514، وبعد أن شرح مار سويريوس هنوطيقون زينون في مجمع صور، مَثُلَ بين يديه الملفان مار يعقوب السروجي، يرافقه رَهطٌ كبير من أساقفة الشرق. فرحّب به مار سويريوس أجلّ ترحيب. وبعد أن تبرّك الملفان من أبي الآباء، انبرى مار سويريوس يفحص ملفنته، وكان يستمع إليه بانبساط. وإذ كان بعضهم قد ثلبوه لديه بخلاء مؤلفاته من عبارة والدة الإله، أخذ هو يؤكّد له أنّ هذه العبارة واردة فيها على قدر ما يسمح به البحر الذي يستعمله في ميامره. ومن ذلك قوله:

ܠܗ ܠܐܠܗܐ ܝܶܠܕܰܬ ܡܪܝܡ ܫܪܝܪܐܝܬ܆ ܡܠܬܗ ܕܐܒܐ ܕܢܰܚ ܡܢ ܥܘܒܗ̇ ܦܓܪܢܐܝܬ

أي “إنّ مريم وَلدَتْ حقًّا الإلهَ نفسه، وإنّ كلمةَ الآب أشرق من حضنها في الجسد”

 

وكان السؤال التالي من جملة الأسئلة التي وجهها إليه مار سويريوس: “كيف يكون الله فوق الكلّ وتحت الكلّ وداخل الكلّ وفي الكلّ وخارج الكلّ[6]؟ أجبني ببرهان طبيعي ملموس ومنظور ومعقول”.

فأجاب مار يعقوب: “إن الله كائن فوق الكل، كالرأس الذي هو فوق جميع الأعضاء، وبه ترتبط وتحيا.

وهو تحت الكل، كالرجلين اللتين تحملان ثقل الجسم كلّه، وبدونهما لا يستطيع أن يخطو خطوة واحدة.

وهو داخل الكل، كروحانية النفس المستترة وغير المنظورة (ماديًّا).

وهو خارج الكل، كالعقل الذي يُحلِّق ولا يُحَدّ.

وهو في الكلّ، كالنفس الكائنة في جميع أعضاء الإنسان، ولا يمكنه أن يحيا بدونها.

هكذا هو الله، فوق وتحت وداخل وخارج وفي الكل”.

فقال مار سويريوس “حقًّا إن الحكمة التي فيك هي من روح الله”.

وجاء في سيرته المطولة، إنّ مار سويريوس سأله عمّا إذا كانت له معرفة بفلسفة أرسطو وأترابه الإغريقيين، فنظم للحال ميمراً في 22 بيتاً على الأبجدية السريانية، وعلى وزن “ܐܰܫܩܳܢܝ ܡܳܪܝ ܡܶܢ ܡܰܒܽܘܥܳܟ اسقني يا رب من ينبوعك”، فذُهل مار سويريوس وأكبر ملفنته وأقرّها[7].

 

  • مار يعقوب ويوحنا التلي

في سنة 519 توفّي أسقف تلاّ، فالتأم مجمع أساقفة ولاية الرها في دار مطرانيتها، بينهم مار يعقوب السروجي، وانتخب بالإجماع الراهب يوحنا ابن قوروسوس، ليخلفه في أسقفية هذه المدينة. ولما استقدمه الأساقفة إلى الرها، تأبّى اقتبال هذه الرتبة السامية تهيّباً. أمّا هم فأصرّوا على ذلك، وضربوا يوم الأحد موعداً لرسامته. وأقاموا ثلاثة منهم لحراسته. فلمّا تأكّد يوحنا من رغبتهم الملحّة، صمّم على الفرار. واتّفق في ذلك مع شيخ قديس رفيق له اسمه دوميان، وفرّ في فجر الأحد من دار مطرانية الرها، رغم الحراسة المشدّدة التي أحاطه بها الأساقفة الثلاثة. ولما طلبه الأساقفة وعلموا بفراره، استحوذ عليهم حزن عميق. فطمأن بالهم مار يعقوب السروجي، وقال لهم إنّه سيخرج في طلبه، وله وطيد الأمل بالله بأنه سيجده إذا كان تعالى راضياً بصيرورته أسقفاً. ثمّ صلّى وانطلق في الدرب الذي سار عليه يوحنا ورفيقه، فوجده مستخفياً بين صخرتين، على بُعد ميل من المدينة. فالتمس منه يوحنا ببكاء ليرقّ له ويتركه وشأنه. فقال له مار يعقوب: “أفي هذا الزمان الذي تُضطهد فيه الكنيسة المقدسة، والذي يُطلب فيه رجال يصلحون لمحاربة أعدائها، ينكّص خدّامها على أعقابهم ويولّون مُدْبِرين؟ فإذا كانت الأسقفية أمراً صالحاً، فلمَ تفرّ منها؟ وإذا كانت شرًّا، فأخبرنا لنفرّ نحن أيضاً مثلك”. فأجابه يوحنا بمنتهى التواضع وهو يبكي قائلاً: “دعني يا سيدي الملفان كما التمستُ منك، فإنّ هذه الرتبة إنما هي للأقوياء نظيركم”. وفيما هما كذلك، إذا بعدد من الأساقفة يفدون إلى ذلك المكان، ويخطفون يوحنا، ويُدخلونه الكنيسة عنوة. وبعد أن طلبوا إليه بإلحاح أن يُذعن للدعوة السماوية، ناصحين ومشجعين، وضعوا عليه الأيدي ورسموه أسقفاً، ثمّ أخذوه إلى مدينة تلاّ حيث أجلسوه على كرسي أسقفيّتها[8].

  • ثقافة مار يعقوب ومؤلفاته

مار يعقوب واللغة اليونانية:

لا يخبرنا محرّرو سيرته إن كان يلمّ باليونانية أم لا. ولكن في عهد مار يعقوب، كانت المؤلّفات اليونانية تُتَرجَم في مدرسة الفرس الرهاوية، وذلك لإنعاش اللغة السريانية التي لا تقلّ أهمّيّتها عن اليونانية. هذا ما نفهمه من مواقف السروجي “المناهضة فكريًّا لكبرياء اليونان”. وفي رسالته إلى مارون، يقول مار يعقوب إنّه قرأ الآباء اليونان بلغتهم دون الرجوع إلى الترجمة التي تنقّص من قيمة النصوص. طبعاً، لم يكن يُتقن اليونانية مثل السريانية، ولكن يجيدها بما فيه الكفاية لفهم النصوص الكتابية وملاحظة الفروقات بين نصَّيْ الكتاب المقدّس السرياني واليوناني، أو الاطّلاع على قصص اليونان ونقدها.

 

مار يعقوب الشاعر:

للسروجي قابلية شعرية وموهبة كلامية يُحسَد عليها. فاق مار يعقوب بشعره جميع الذين سبقوه سرياناً كانوا أم يونانيّين. إنّه الشاعر الذي استنبط الوزن الشعري الاثني عشري المقاطع، والذي يرمز إلى عدد الرسل الاثني عشر، الذين عليهم أسّس تعليمه، وقد نظم الشعر وعمره لم يتجاوز الثانية عشر سنةً! هذا الوزن الطويل سمح للسروجي أن يعبّر عن أفكاره بسهولة أكثر ممّا لو نظم على الأوزان الأخرى القصيرة التي استعملها مار أفرام ومار بالاي.

قصّد الملفان السروجي القصائد الطوال وقد بلغ أبيات بعضها الألفين أو الثلاثة أو تزيد. قرأ عليه خَلقٌ انتفعوا به عُرف منهم كاتبه حبيب الرهاوي وناسك يُقال له دانيال. وقال ابن العبري إنّ سبعين ناسخاً كانوا يكتبون قصائده التي جُمعت فبلغت سبعمائة وثلاث وستين أوّلها في مركبة حزقيال، وآخرها في الجلجلة، وحالت المنيّة دون إنجازها وكلها على البحر الاثني عشري الذي استنبطه وعُرف بالسروجي نسبة إليه. وهذه الميامر تتناول شرح أهمّ أحداث العهدين، والبحث في الإيمان والفضائل والتوبة والبعث وحمد الله على المائدة، والموتى وتقريظ العذراء والأنبياء والرسل والشهداء والقديسين. وإذا علمتَ أن الراهب اللعازري بولس بيجان نشر 200 ميمراً في خمسة مجلّدات ضخمة قدّرتَ أنّ مجموعها يجيء في 19 مجلّداً.

وتردّد البيعة السريانية صباحاً ومساء طائفة من ميامره المختارة في تسبيح رب الكون فتخلّد ذكراه مثلما شاء هو نفسه: “لا أهدأ من مدحكَ يا ربّي، حتّى بعد وفاتي. من يحيا بكَ وفيكَ ولأجلكَ لا يموت. كلمتُكَ لا تموت، وسكوت القبر لا يقدر أن يُسكِتَها. فلتتكلَّمْ إذاً  بفمي لتُرَدَّدَ بعدي في المستقبل ..”[9]

أمّا مصنّفاته المنثورة فهي رسائل بديعة، بإنشاء متين عذب المشرب. 43 رسالة نُشرت عام 1937 في 316 صفحة عن ثلاثة مصاحف في لندن أقدمها وأعظمها أُنجِز سنة 603، أي بعد وفاته بِـ 82 سنة فقط بخط يوسف الداري.

وجد البطريرك أفرام برصوم إحدى عشرة خطبة للملفان لأعياد الميلاد والغطاس والدخول إلى الهيكل، والصيام الأربعيني والخميس السابق الشعانين، وأحد الشعانين، وجمعة الآلام وأحد الفطير والقيامة والأحد الجديد، وفي التوبة، وخطباً للعزاء، وليترجيتين للقداس وألّف صلاة السلام التي تُتلى في قداس عبيد الميلاد، وبعض ترانيم منثورة للتناول (شوباحات)، وطقساً للعماد، وسيرتي الناسكين حنينا ودانيال[10].

عام 1095، حبّر سعيد ابن الصابوني مطران ملطيه قصيدة عصماء أبدع فيها في وصف مناقب الملفان المترجم وروائع مصنفاته.

 

  • مار يعقوب المفسّر

تعترف الكنيسة السريانية بأنّ مار يعقوب يستحقّ بجدارة لقب المفسّر (ܡܦܰܫܩܳܢܐ). إنّ تفسير مار يعقوب متأثّر بالتفسير الروحي مثل القورلسيّين الذين يجدون في كلّ إشارة ورمز في العهد القديم صورةً للابن المتجسّد، على نقيض التيودوريين الذين يميلون إلى التفسير الحرفي.

 

يعترف الملفان بأنّ تفسيره هو ثمرة وحي النعمة الإلهية، فعلى المُستمع الذي يودّ أن يستفيد ويتعلّم أن يسأل بتمييز وفهم، وليس بدافع الفضولية الشخصية أو لتجربة المفسّر واختبار علومه وثقافته. ويعترف مار يعقوب أيضاً بوجود الصعوبات في التفسير ومهما حاول المفسّر وأجهد نفسه لتذليلها، ستظلّ قائمةً لأنّ كلام الربّ سرٌّ يفوق الإدراك.

من أجل فهمٍ أفضل للكتاب المقدّس وتفسيره، كان يطلب مار يعقوب استعداد المؤمن الجسدي والنفسي، فالأصوام تساعد على الفهم، لأنّها تنير الإنسان وتخفّف من وزنه وثقله ليحلّق عالياً في أجواء المعرفة مثل النسر الذي كلّما قلّ أكله، كلّما ارتفع طيرانه. ويذكّر مار يعقوب القارئ بأنّ جناح النسر بالرغم من قوّته وبأسه، يحدّ الفلك من طاقته، لئلاّ يتجاوز حدوده المرسومة.

 

المعنى الحرفي: عندما يفسّر الكتاب المقدّس تفسيراً حرفيًّا، يحترم التفاصيل اللغوية والفروقات بين النصوص وبين الترجمة السريانية مثلاً واليونانية والعبرانية. يحترم اختلاف الكلمات بين نصوص الترجمات (اش 7/14)، وينقد العبارات العبرانية المتكرّرة التي لا تُضيف معنًى جديداً (طوب طوب، يوث يوث …).

يعتمد مار يعقوب النهج المسيحاني فيرى المسيح في طيّ التوراة، وإلاّ لما كان لها معنى في المسيحية. ينقد اليهود وجميع المفسّرين الجسديّين (ܦܰܓܖ̈ܳܢܳܝܶܐ܆ ܒܶܣܖ̈ܳܢܳܝܶܐ) الخارجين عن الخطّ المسيحي القويم.

طبّق مار يعقوب المعنى الحرفي المباشر في تفسيره للعهد الجديد لأنّ البشارة شمسٌ لا تحتاج إلى رموز لفهمها على غرار التوراة التي اتّبع النهج الروحي والرمزي في تفسيرها.

 

المعنى الروحي: لا يعترف مار يعقوب بحرفية النصّ للعهد القديم ما لم يكن مفيداً لبناء ورسمِ أطرِ العهد الجديد ورموزِه وأمثاله. فعلى سبيل المثال، يسخر من اليهودي الذي يفهم رؤيا حزقيال فهماً حرفيًّا أي أنّ الله أخذ شبه الإنسان وجلس على المركبة! هذا مستحيل لأنّ الله روح لا تحدّه ولا تحمله مركبة!

 

  • نقضه آراء برصوديلي

اسطيفان برصوديلي كاتب سرياني وُلد في الرّها في النصف الثاني من المئة الخامسة. ترهّب وتنسّك وتضلّع من آداب السريانية واليونانية. اعتنق مذهب “وحدانية الوجود” أي أن الإله الواحد هو كلّ الكائنات، وأنّ كلّ طبيعة مساوية في الجوهر للذات الإلهية وللجوهر الإلهي. ثمّ عاد إلى الرها حيث أخذ يكذّب أوّلاً بأبدية عذابات جهنّم على رأي العلامة أوريجانوس قائلاً: “إن الخاطئ يتعذب بالنظر إلى المدة التي ارتكب فيها الخطيئة، سواء أكانت سنة أم أقلّ أم أكثر، ينضمّ بعدها  الأشرار إلى الأبرار”. ووفقاً لهذه النظرية فسّر قول الرسول سيكون الله الكلّ في الكلّ.

فلمّا انتهى أمره إلى الملفان مار يعقوب، كتب إليه رسالتين، مرشداً وداعياً إلى الطريقة المثلى. وفي هذه الرسالة يقول مار يعقوب “إنّ لا مساء لنهار النور المتلألئ في الجانب الأيمن، ولا صباح لليل الظلمة البرانية البهيم. فبعد أن يلج العريس خدره، يُغلق الباب ولا يُفتح للقارعين، كما أغلق نوح باب الفلك ولم يفتحه للفجّار ليستتروا فيه معه من الأنواء الشديدة. لأنّه متى صدر القضاء لا ينفع الدعاء”.

ثمّ فنّد وساوسه قائلاً: “ولئن ارتُكبت الخطايا في عدد يسير من الأيام، فإنّ عقابها لا يُبرم بعدد أيام أو سنين، إذ ليس ثمّة سنون ولا أيّام ولا ليال. أجل، إنّ الديان لعادل حين يقضي بالعذاب الأبدي على من ارتكب خطايا في عشر أو عشرين سنة أو أقل أو أكثر، وإلاّ لكان حكمه الآخر القاضي بالملكوت الأبدي للّذي يعمل الصلاح مدة يسيرة، غير عادل أيضاً. فإن كنتَ تحسبُ أنّه من العدل أن يُدان الخاطئ بقدر المدّة التي ارتكب فيها الخطيئة، فعليك أن تسلم أيضاً بأن البار يجب أن يتنعم هو الآخر بقدر المدة التي مارس فيها البِرّ. وهكذا فمن أخطأ مدّة عشر سنوات، تعذّب في النار عشر سنوات فقط. ومن مارس الصلاح مدة عشر سنوات، تمتّع كذلك في الملكوت مدّة عشر سنوات فقط ثمّ يغادره وجوباً. وعلى هذا المنوال يكون نصيب لصّ اليمين في الجنة ساعة واحدة فقط، لأنه ساعو واحدة فقط اضطرم في الإيمان راجياً من المسيح أن يذكره في الملكوت”.

وقد بيّن له سبب عدل الله في قضائه بالنار الأبدية وبالحياة الأبدية: “إنّه تعالى، يتبيّن امتداد نية الخاطئ المطلق مع الخطيئة. أي لو تسنّى له أن يعيش إلى الأبد، لأخطأ إلى الأبد، كالغني الذي ملأ أهراءه غلات كثيرة، وقال لنفسه كلي واشربي وتنعمي فإنّ لك خيرات كثيرة محفوظة لأعوام كثيرة. أي أنّه مدّ نيّته ليتنعّم إلى الأبد، فانقطعت حياته دون أن تنقطع خطيته، إذ كان يعيش في نيته وجشاعته إلى الأبد. أليس إذاً من العدل أن يُدان هذا بالعذاب الأبدي؟ وهكذا قُل عن امتداد نية البار المطلق مع خشية الله. أي لو قُيِّض له أن يعيش إلى الأبد، لمارس البرّ وحده. فهذا ولئن صرم الموت حياته وأوقفها عن السعي وراء الصلاح، فقد كان هذيذه عمل الصلاح إلى الأبد كقول أيوب الصدّيق في غمرة آلامه: لن تتخلى عني وداعتي، وسأصبر ببرّي ولن أرتخي. فمن هو يا تُرى الديّان العادل الذي لا يوجب له الملكوت الأبدي؟”.

 

 

المصادر

– اغناطيوس أفرام الأول برصوم، اللؤلؤ المنثور في تاريخ العلوم والآداب السريانية (حمص 1943)، دار ماردين – حلب (الناشر)، مطبعة ألف باء الأديب، دمشق، الطبعة السادسة 1996، ص219-225

– اغناطيوس يعقوب الثالث، هبة الإيمان أو الملفان مار يعقوب السروجي أسقف بطنان، 1971.

– بولس بهنام، خمائل الريحان أو أرثوذكسية مار يعقوب السروجي الملفان، مطبعة الاتحاد، 1949.

– بولس الفغالي، يعقوب السروجي كنارة الروح وقيثارة البيعة حياته ومؤلفاته وفكره، مجموعة التراث السرياني، دار المشرق، بيروت، طبعة ثانية 1996.

– بهنام سوني،

تكوين البرايا، ج1، موسوعة عظماء المسيحية في التاريخ دراسات متخصصة، المركز الرعوي للأبحاث والدراسات (الناشر)، الدكوانة، الطبعة الأولى، 1995.

الإنسان، ج2، موسوعة عظماء المسيحية في التاريخ دراسات متخصصة، المركز الرعوي للأبحاث والدراسات (الناشر)، الدكوانة، الطبعة الأولى، 1995.

[1] كان أبوه كاهناً وكانت أمه عاقراً. فصلّيا في كنيسة مار بارحدث ونذرا فاستجاب لهما الله ورزقهما طفلاً أسمياه يعقوب. ولما بلغ الثالثة من عمره، أخذته أمّه إلى الكنيسة للصلاة في عيد مار مقيم شبرا. وفي أثناء حلول الروح القدس على الأسرار، نزل الطفل من حضن أمّه، وأخذ يشقّ صفوف المصلّين نحو المذبح، حتى بلغ مائدة الحياة، فجثا أمامها وكأنّه شرب ثلاث حفنات من جدول ظهر أمامه في تلك اللحظات الرهيبة كما فعل حزقيال بأكله الدرج كما أمره الله (حز 2: 8 – 3: 1- 3)، وعاد إلى أمه تحيطه هالة من نور، والكلّ ينظرون إليه باندهاش وانبساط (راجع قصيدة مار يوحنا سعيد ابن الصابوني مطران ملطيه).

[2] بحسب البطريرك أفرام برصوم في اللؤلؤ المنثور. أما بحسب البطريرك يعقوب الثالث، فإنّ خراب آمد حدث سنة 503، بعد تنبّؤ يعقوب بمدة وجيزة. لذا يميل البطريرك يعقوب إلى تحديد تاريخ الاختبار في سنة 502/503.

[3]مطلعها: “أيها الرفيع الجالس على المركبة المتعالية”، وفي خلالها تطرق إلى حصار آمد متنبّئاً، ثم عاد إلى موضوعه فأوفاه حقه (قصيدة تلميذه جورجي أو حبيب). نشرها بيجان في المجلد الرابع خالية من نبوءته عن دمار آمد. جاءت القصيدة بسبعمئة بيت ونيف، وأورد فيها يعقوب 396 آية من الكتاب المقدس.

[4] قصيدة ابن الصابوني

[5] حيث كان الاضطهاد الذي شنه يوسطنيان على بيعة الله الأرثوذكسية سنة 518 لا يزال مخيماً على بيعة الله الأرثوذكسية في أنحاء سوريا كلها.

[6]  أفسس 4: 6

[7] راجع أيضاً قصيدة ابن الصابوني في مار يعقوب والتاريخ الكنسي لابن العبري مج 1 ص 189-191.

[8]  راجع سيرة التلي بقلم تلميذه إيليا.

[9] سوني، بهنام. تكوين البرايا، ج1، موسوعة عظماء المسيحية في التاريخ دراسات متخصصة، المركز الرعوي للأبحاث والدراسات (الناشر)، الدكوانة، الطبعة الأولى، 1995، ص 108.

[10] دانيال الحبشي (اللؤلؤ المنثور)، دانيال الآمدي ناسك جبل “جلش” (هبة الإيمان)، وفيها يسمّي مار برصوم الشهير بِـ “رئيس الأبيلين” (النساك) ورجل الله الشهير.