باسم الأزلي السرمدي الواجب الوجود الضابط الكل
إغناطيوس زكا الأول عيواص بطريرك أنطاكية وسائر المشرق
الرئيس الأعلى للكنيسة السريانية الأرثوذكسية في العالم أجمع
نهدي البركة الرسولية والأدعية الخيرية لأحبائنا الروحيين إكليروس أبرشية الجزيرة والفرات وشعبنا السرياني الأرثوذكسي فيها، حرستهم العناية الربانية بشفاعة السيدة العذراء مريم والدة الإله وسائر الشهداء والقديسين آمين.
بعد تفقّد خواطركم العزيزة نقول:
تعتزّ الشعوب الحية بحضاراتها، وتتيه فخراً بتراثها الثمين، وتتغنّى بتاريخها المجيد، ولكن يا ترى ما قيمة تلك الحضارات إن لم تستمر؟ وما نفع التراث إذا أسدل عليه ستار النسيان؟ وما فائدة التاريخ إن لم يكن له امتداد وتواصل ليبلغ الذروة ولتكون حوادثه دروساً خالدة للأجيال اللاحقة؟
منذ فجر المسيحية كانت سهول الجزيرة السورية وهضابها مرابض للقبائل العربية من تغلب وعقيل وتنوخ وربيعة التي كانت تدين بالنصرانية على مذهبنا السرياني الأرثوذكسي وهي ولئن كانت ناطقة بالضاد ولكنها حافظت في طقوسها الدينية على استعمال اللغة السريانية التي نطق بها الرب يسوع المسيح، وتمسكت بعقيدتها الدينية بعروة وثقى، ويكفيها فخراً أن أول ترجمة عربية للإنجيل المقدس يذكرها تاريخنا السرياني هي الترجمة التي تمت على أيدي علماء الكنيسة السريانية الأرثوذكسية من بني طي وتنوخ وعاقولا (الكوفة) وقد قاموا بذلك بأمر البطريرك يوحنا الثالث أبي السذرات (+648) استجابة لرغبة عمرو بن سعد بن أبي وقاص الأنصاري أمير الجزيرة. وفي تلك البقاع قامت الكنائس وشيّدت الأديرة والمدارس التي غدت منارات تشع منها أنوار الحضارة السريانية السورية وصنوف العلوم الدينية والمدنية نذكر بعض هذه المدارس على سبيل المثال لا الحصر: مدرسة نصيبين التي أسّسها في النصف الأول من القرن الرابع للميلاد أسقفها مار يعقوب والتي انبرى فيها مار أفرام عملاق الأدب السرياني الذي لا يجارى ولا يبارى، أستاذاً ومرشداً ومديراً فأغناها بالعلوم السريانية الكتابية والكنسية. ومدرسة الرها التي أسّسها في فجر المسيحية الأباجرة الملوك السريان. ومدرسة رأس العين الشهيرة التي أعطت البشرية العلامة سرجيس الرأسعيني (ت 536م) إمام عصره في الطب والمنطق والفلسفة والعلوم الطبيعية. ومدرسة دير العمود بالقرب من رأس العين وكان هذا الدير موطناً للدراسة والترجمة من اليوناني إلى السرياني، من القرن السابع حتى القرن التاسع. ودير قرقفتا بين رأس العين والحسكة بالقرب من قرية المجدل. وكان للسريان في ما بين النهرين كما ذكر المؤرّخون الثقات نحو خمسين مدرسة تعلّم فيها العلوم السريانية واليونانية وكانت هذه المدارس تتبعها مكتبات تحتوي إلى جانب الكتب المترجمة في الآداب النصرانية، على الكتب المترجمة من مؤلفات أرسطو وجالينوس وأبقراط. وكان السريان نقلة الثقافة اليونانية إلى الامبراطورية الفارسية كما نقلوها في العصر الأموي والعباسي إلى الغرب.
لقد استوعب نيافة أخينا الحبر الجليل مار أوسطاثيوس متى روهم مطران الجزيرة والفرات تاريخ هذه المنطقة جيداً فأراد إحياء الماضي التليد بمجد جديد، فشيّد ديراً في تل ورديات باسم السيدة العذراء مريم والدة الإله منطلقاً من إيمانه العميق بالرسالة الأسقفية التي يحملها، والتي يحرص على أن يؤدّيها بأمانة وإخلاص، وهو يعرف جيداً عظمة الشعب السرياني الأرثوذكسي في الجزيرة السورية وفي سائر بقاع العالم وإنه ليستحق أن يشيّد له هذا الدير ليكون مركزاً روحياً للجيل الطالع من شبان وشابات للنشاطات الدينية، واللقاءات الاجتماعية، والخلوات الروحية، ودراسة مبادئ الإيمان السرياني الأرثوذكسي ولغة الرب يسوع السريانية المقدسة. وليعانق هذا الدير خدينه دير مار أفرام السرياني في معرة صيدنايا ـ دمشق، الذي شيّدناه من مال المؤمنين السريان الأرثوذكس من الوطن والمهجر، وافتتحناه قبل أربعة أعوام وجعلنا منه كلية لاهوتية يشار إليها بالبنان ومركزاً عالمياً للدراسات السريانية ومقراً لمراكز التربية الدينية السريانية الأرثوذكسية حيث يعقد شبابنا من الجنسين الدورات اللاهوتية والسريانية، وبذلك غدا أيضاً عريناً لأشبال السريان ليتمرسوا بين جوانبه في حياة التقوى ومخافة اللّه والاختلاء للامتلاء من الروح القدس مرشد الكنيسة ومدبّرها. وهكذا صار دير السيدة العذراء في تل ورديات الذي انتصب في قلب الجزيرة السورية أسوة بدير مار أفرام السرياني في معرة صيدنايا في سورية العربية، محجاً للجيل الطالع الطامح إلى معرفة كنيسته المقدسة ولغته السريانية المباركة، وصار الديران امتداداً لذلك التاريخ العريق وبعث تلك الحضارة السامية. فإذا كنا قد سمينا الدير في معرة صيدنايا باسم مار أفرام السرياني السوري ابن نصيبين عملاق الرهبنة السريانية والأدب السرياني ومهذّب الشبان وشمس السريان فقد أحسن أيضاً نيافة أخينا مار أوسطاثيوس متى روهم مطران الجزيرة والفرات بتسمية الدير الذي شيّده في تل ورديات باسم السيدة العذراء مريم والدة الإله وأمنا نحن المؤمنين بابنها يسوع المسيح الإله المتجسّد فهي شفيعتنا لديه. وإن تشييد هذا الدير في قلب الجزيرة السورية يجعل منه معلماً بل قلعة منيعة وفناراً مضيئاً ودليلاً ومرشداً لعابري الطريق ليلاً ونهاراً.
مبروك لأبرشية الجزيرة هذا الدير العظيم وهنيئاً لشعبنا هناك بمطرانهم الجليل والهمام والراعي الصالح والمدبّر الحكيم الذي جمع بين همة الشباب وحكمة الشيوخ. هنيئاً له أيضاً بهذا الإنجاز العظيم والنظرة المستقبلية الصائبة. وليكن هذا الدير سبب بركة لكل من يحب العذراء مريم ويتشفّع بها، ولكل مؤمن ومؤمنة بعقيدته الأرثوذكسية ولغته السريانية وتراثه الثمين آمين والنعمة معكم جميعاً
صدر عن قلايتنا البطريركية في دمشق ـ سوريا
في اليوم السابع والعشرين من شهر أيار سنة ألفين للميلاد
وهي السنة العشرون لبطريركيتنا