باسم الأزلي السرمدي الواجب الوجود الضابط الكل
إغناطيوس زكا الأول عيواص بطريرك كرسي أنطاكية الرسولي وسائر المشرق
الرئيس الأعلى للكنيسة السريانية الأرثوذكسية في العالم أجمع
بعد تفقد خواطركم العزيزة نقول: يطيب لنا ونحن نستقبل الصيام الأربعيني المقدس أن نجتمع وإياكم باسم الرب يسوع، مؤمنين أنه حاضر بيننا، يقدس اجتماعنا حسب وعده الإلهي القائل «لأنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم» (مت18: 20) ولا غرو فهو حياتنا التي نحياها، وحقنا الذي نتمسك به، وطريقنا الذي نسير فيه، مقتفين آثار آبائنا الأبرار الذين أرضوه تعالى بسيرتهم وسريرتهم، فكانوا من الرابحين، ويروق لنا أن نصدر منشورنا هذا البطريركي بقول الكتاب المقدس:
السير مع الله
«وسار أخنوخ مع الله ولم يوجد لأن الله أخذه» (تك5: 24)
أيها المؤمنون الأحباء:
ما أسعد المتقين الله، الحافظين وصاياه، السالكين في طرقه المستقيمة، أولئك قوم ينعمون بشركة روحية مع الرب، كما كان الإنسان الأول في فردوس عدن قبل سقوطه بالخطية. وما أشقى الإنسان في حال المعصية، فهو بعيد عن الله، هارب من أمام وجهه تعالى، مختفٍ، يخاف من الدنو منه، لأن ذلك يقتضي التناغم والانسجام معه تعالى بالبر والقداسة، فكراً وقولاً وعملاً، لذلك قال الكتاب المقدس: «اتبعوا السلام مع الجميع والقداسة التي بدونها لن يرى أحدٌ الرب» (عب12: 14) ففي القداسة أرضت نخبة من الناس الله تعالى، في العهد القديم، وسموا «بني الله» و «الذرية الصالحة» وكان بينهم رؤساؤهم الذين دعوا «بالآباء البطاركة» وكانوا رؤساء شعبهم وأحباره في آن واحد يرشدون الناس إلى عمل الخير والصلاح وينهونهم عن الشر والطلاح، ويبلّغونهم الوحي الإلهي فيسلم السلف للخلف الوعود الالهية، والنبوات الصادقة عن مجيء ماسيا، الذين «لم ينالوا المواعيد بل من بعيد نظروها وصدّقوها وحيّوها وأقرّوا بأنهم غرباء ونزلاء على هذه الأرض» (عب11: 13).
وقد اشتهر من بين هؤلاء الآباء أخنوخ الذي لم يذق الموت لأن الله اختطفه حياً. وجاء عنه في الكتاب المقدس أنه «سار مع الله ولم يوجد لأن الله أخذه» (تك5: 24) و «بالايمان نقل أخنوخ لكي لا يرى الموت ولم يوجد لأن الله نقله، إذ قبل نقله شهد له بأنه قد أرضى الله» (عب11: 5). هذا ما امتاز به أخنوخ عن سائر الناس في جيله، أنه سار مع الله، أي أرضى الله تعالى، بسيرته وسريرته، فكان بشركة تامة معه بصلاة مستمرة، وتأمل غير منقطع.
وجاءت حقيقة انتقال أخنوخ إلى السماء حياً نفساً وجسداً برهاناً قاطعاً، ناصعاً، يثبت عقيدة خلود الإنسان والحياة الأبدية، بل وازعاً للانسان على السير مع الله لكسب السعادة الأبدية، ليكون إنسان الله في العالمين، لله وحده، «فان عشنا فللرب نعيش، وان متنا فللرب نموت، فان عشنا وان متنا فللرب نحن» (رو14: 8)على حد قول الرسول بولس لا تثمن حياتنا على الأرض بطول مدتها أو بقصرها بل بكيفيتها ومدى قربنا فيها من الله أو بعدنا عنه تعالى. وهي مهما طالت لا بد أن تنتهي، وطولها لا يدل على رضى الله عنّا كما أن قصرها لا يدل على عدم رضاه تعالى، فقد رضي الله عن أخنوخ ونقله إليه وكان عمر أخنوخ أقصر من أعمار جميع آبائه. وحياتنا على الأرض على قصرها وما يكتنفها من شقاء وتعب وعناء، هي ثمينة جداً، لأنها تقرر مصيرنا الأبدي، فلنسعَ إذن للحصول على السماء، فقد دعانا الرب يسوع لنتبعه حاملين صليبه، ولكنه لم يعدنا بالراحة في هذه الحياة، بل بالعكس فقد أظهر لنا بوضوح أن الطريق المؤدية إلى الملكوت صعبة جداً، ولكنها الطريق التي نهجها هو لنا، ووعدنا أن يكون معنا، وقد دعي «عمانوئيل» الذي تفسيره الله معنا (مت1:23) و «ان كان الله معنا فمن علينا» (رو8: 31) وما أجمل ما قاله صاحب المزامير بهذا الصدد «أيضاً اذا سرت في وادي ظل الموت لا أخاف شراً لأنك أنت معي» (مز23: 4) فالسير مع الله يقينا سهام عدونا ابليس، بل ينقذنا من الأعداء الخفية والظاهرة كافة ويسيّج حولنا، ويحمينا، ويهبنا النصر والطمأنينة، وراحة البال والأمان والسلام. لقد سار يوسف الصديق مع الله فقيل عنه «أن الرب كان معه ومهما صنع كان الرب ينجحه» (تك39: 23) فسر نجاح يوسف في مراحل حياته كلها، وانقاذه من الشر الذي بيّته له إخوته حسداً والناس الأردياء استغلالاً ونقمة وحقداً، أجل إن سر نجاح يوسف ونجاته من التجارب هو تمسك يوسف بناموس الرب واتكاله عليه تعالى أي سيره مع الله. وما أروع قول صاحب المزامير وهو يصف الإنسان البار حيث يقول: «طوبى للرجل الذي لم يسلك في مشورة الأشرار، وفي طريق الخطاة لم يقف، وفي مجلس المستهزئين لم يجلس، لكن في ناموس الرب مسرَّته، وفي ناموسه يلهج نهاراً وليلاً. فيكون كشجرة مغروسة على مجاري المياه التي تعطي ثمرها في أوانه وورقها لا يذبل، وكل ما يصنعه ينجح» (مز1: 1ـ3). هذا هو الإنسان السائر مع الله، السالك في طريق الاستقامة، الذي يبتعد عن الخطية ويمتنع عن الاثم، وينكبُّ على دراسة كلمة الله لمعرفة ارادته تعالى فيعمل بها، وينمو بالنعمة، ويعطي ثمار الروح.
فلنقتدِ برجال الله الأبرار، الذين يلهجون بناموس الرب ليلاً ونهاراً، وقد سروا بأن يكونوا مع الله مواظبين على الصلاة الفردية والجماعية، الخاصة والعامة، لأن مسرتهم بمخاطبة الرب وسماع كلامه تعالى، وبذلك يسيرون معه، بل لا يرغبون بشيء في الحياة الا بالرب وهم يخاطبونه مع صاحب المزامير قائلين: «ما أحلى مساكنك يا ربّ الجنود، تشتاق بل تتوق نفسي إلى ديار الرب، قلبي ولحمي يهتفان بالاله الحي… طوبى للساكنين في بيتك أبداً يسبحونك. طوبى لأناس عزهم بك طرق بيتك في قلوبهم» (مز84: 1و2و3و4و5) «من لي في السماء ومعك لا أريد شيئاً في الأرض» (مز73: 25) وما أبدع صلاة موسى إلى الرب حيث يقول: «ان وجدت نعمة في عينيك أيها السيد فليسر السيد في وسطنا» (خر34: 9) «كما قال الله اني سأسكن فيهم وأسير بينهم وأكون لهم إلهاً وهم يكونون لي شعباً» (2كو6: 16).
أيها الأحباء: ان الصوم المقدس خير فرصة ذهبية نغتنمها، ومناسبة ثمينة ننتهزها، لنجدد عهدنا مع الله فنسير معه تعالى أيام الصيام بل طوال أيام حياتنا. ليكون لنا إلهاً ونكون له شعباً، ولنتمسك بفريضة الصيام كما حددته أمنا الكنيسة المقدسة. ولنقرن الصوم بتوزيع الصدقات على الفقراء والمساكين، والعودة إلى الله بالتوبة النصوح، والمواظبة على الصلاة الحارة لكي يذلل الرب العقبات التي تعترض طريقنا الروحية، ويزيل الرب المعوقات التي تشدنا إلى الأرض والأرضيات، وتبعدنا عن السماء والسماويات، ويقينا شر المعطّلات التي تقسّي قلوبنا وتعمي بصائرنا فنهمل الجانب الروحي من حياتنا. أجل لنقرن صيامنا بالدعاء المستمر لينعم الرب علينا بالمنشطات الروحية التي تساعدنا على مواصلة سيرنا مع الله بالتأمل الدائم بكلمته تعالى، والاقتداء بالأبرار والأنقياء الذين أرضوه بسيرتهم لنستحق مثلهم الحياة الأبدية.
بارككم الرب الاله وتقبل صيامكم وصلواتكم وصدقاتكم، وألهمكم الحكمة السماوية لتسيروا بنوره الإلهي، ولا تتزحزحوا عن شريعته قيد شعرة، وضاعف أجركم، وكلل بالغلبة جهادكم الروحي في هذا الميدان المقدس. ولينعم عليكم بأيام طيبة لتبتهجوا بالاحتفال بعيد قيامته المجيدة بطهر ونقاء، ورحم موتاكم المؤمنين آمين.
صدر عن قلايتنا البطريركية في دمشق
في الثالث من شهر آذار سنة ألف وتسعمائة وثلاث وثمانين
وهي السنة الثالثة لبطريركيتنا