الفجر الجديد
قد مضى القديم وها كل شيء قد تجدد
الحياة القديمة البالية ، بما فيها من الاحلام والاوهام ، وبما يكتنفها من السراب والظلام ، تلك الحياة التي مضت الى غير رجعة . ليطلع فجر جديد تتجدد فيه القوى الروحية لهذا الكائن الرفيع ، الوضيع ، المتعالي الى ذرى السماء ، والمنحط الى دركات الفناء ، هذا الكائن الذي يسمى ( الانسان ) ، هذا الكائن بالذات ، اشرقت عليه انوار الحقيقة الساطعة ، فاصبح ” خليقة جديدة ” ، صيغت من البر ، وقداسة الحق ، كل ذلك حدث في ذلك الفجر الجديد . فالضعة انقلبت الى عظمة سامقة ، والضعف أصبح قوة متألقة ، والموت حياة خالدة لا تزول . فحقا ” قد مضى القديم ، وها ان كل شيء قد تجدد ” .
في ذلك الفجر الجديد ، وعيون سكان اورشليم مثقلة بنوم عميق ، وقلوبهم مغلَفة بألوان كئيبة من حوادث الجمعة المؤلمة . في ذلك الفجر أنتصب عمود النور ، ليعطي الانسانية قيما جديدة للحق ، ومفاهيم ابدية للبر والفضيلة . حيثنهض الرب يسوع منتصرا على الموت والمعصية ، ظافرا بالجحيم ، محققا للانسانية آمالا روحية باسمة ، ناقضا عنه غبار الموت ليلبس الجنس البشري حلة جديدة سداها البر ولحمها الحق .
مضت الامور القديمة بآلامها واوجاعها ، وتلاشت زوبعة الشر العارمة ، زوبعة عصفت بهذا الانسان الى مهاوي المعصية . ولا غرو ” فان الشتاء قد مضى ، والمطر فات وزال ، قد ظهرت الزهور في الارض ووافى اوان القضب ، وسمع صوت اليمامة في ارضنا ” ( نشيد ٢ : ١١ و ١٢) .
مع نسمات الصباح ، وشذى زهور نيسان ، ورياحين الربى ، وانفاس الفل والياسمين ، وبسمات الفجر الجديد ، انطلقت بشائر القيامة ، قيامة الرب ، معلنة بأفواه الملائكة ، منبثة على اجنحة الاثير ، لتبشر الانسان بالحرية المطلقة ، وتمنح ارومة آدم العتق والانطلاق .
قبل ان تنشر الشمس اشعتها الذهبية الاولى ، على الجبال والربى ، وفي اللحظات التي تنتشر قطرات الندى على وجنات الزهور ، جاءت المريمات ليطيبن القبر ، طبقا للتقاليد الموروثة ، فيسمعن من الملاك كلمته الخالدة : ” لا تخفن انتن قد علمت انكن تطلبن يسوع المصلوب ـ لماذا تطلبن الحي بين الاموات ” لوقا ٢٤ : ٥ . انه ليس هنا فانه قد قام كما قال . تعالين وانظرن الى المكان الذي كان مضجعا فيه الرب ، واسرعن واذهبن وقلن لتلاميذه انه قام وهو يسبقكم الى الجليل وهناك ترونه .( متى ٢٨ : ٥ ـ ٨ ) و( مرقس ١٦ : ٦ ـ ٨ ) . نعم … ” الى ان ينسم النهار وتنهزم الظلال ، انطلق الى جبل المُر والى تل اللبان ” ( نشيد ٤ : ٦ ) .
” حيث كثرت الخطيئة هناك ازدادت النعمة جدا ” ، وحيث كشفت الظلمة هناك تجلى النور الازلي للمرة الاولى . وهكذا كان فان المجدلية تحضى بأعظم نعمة ، واسطع ضياء اكثر من جميع اتباع الناصري ، فيمنح لها وحدها ان ترى الرب فور قيامته ، قبل ان يراه غيرها من التلاميذ والتلميذات ، وذلك لانها احبت كثيرا ، فاعطاها حبها العميق ، ما لم يعطى لغيرها . قال الانجيلي : ” اما مريم فكانت واقفة عند القبر خارجا تبكي ، وفيما هي تبكي انحنت الى القبر ، فرأت ملاكين بثياب بيض ، جالسين حيث وضع جسد يسوع .. فقالا لها : ” ياامراة لم تبكين ؟ فقالت لهما : اخذوا ربي ولا اعلم اين وضعوه ، فلما قالت هذا التفتت الى خلفها ، فرأت يسوع واقفا ، ولم تعلم انه يسوع ، فقال لها يسوع : ” يا امرأة لم تبكين ؟ من تطلبين ؟ فظنت إنه البستاني .. ، اجل ظنت انه البستاني ، ” نزل الى جنته ، الى روضة الأطياب ليرعى في الجنات ويجمع السوسن ” ( نش ٦ : ٢ ) . فقالت له : يا سيدي ، ان كنت انت حملته ، فقل لي اين وضعته ؟ فقال لها يسوع : مريم .. مريم ، ” نزلت الى جنة اللوز لأنظر الى ثمر الوادي وارى هل أزهر الكرم ؟ ونوّرَ الرمان ؟ ( نش ٦ : ١١ ) . أفاقت مريم الى الصوت الحبيب الذي دوى في اذنيها مئات المرات ، فالتفتت وقالت : ” رابوني ” يا معلم( يوحنا٢٠ :١٦) .
هي الدموع ، دموع القلب المضطرم ، وفيوض المحبة الروحية الجياشة ، وضعت المجدلية في الذروة من نعمة يسوع ، إذ رأته عيناها ، قبل ان يراه بطرس ويوحنا ، وكأني بها سمعت هذه الكلمات ينطق بها الناصري الظافر : ” هبي ياريح الشمال ، وهلمي ياريح الجنوب !أنسمي على جنتي فتنسكب أطيابها ( نش ٤ : ١٦ ) .
ان قيامة المسيح ، كانت آية الآيات ، ومعجزة المعجزات ، بل هي أساس الحياة المثلى في الظفر الروحي والقول الفصل ، في حقيقة الدعوة السماوية التي نشرها المعلم الصالح في هذا الكون ، وعليه حق للرسول بولس أن يقول : ” وان كان المسيح لم يقم ، فايمانكم باطل وانتم بعد في خطاياكم … لكن الحال ان المسيح قد قام من بين الاموات وهو باكورة الراقدين … فكما في آدم ، يموت الجميع ، كذلك في المسيح سيحيا الجميع “.( ١ كو ١٥ : ١٧ ـ٢٢ ) .
فالحياة والموت يصطرعان في كائن واحد ، يتجاذبانه ، اخذا وردا ، حتى يصل الى حريته المطلقة الكاملة ، بكمال قداسة الحق ، وحق القداسة ، وعدالة الظفر ، وظفر العدالة ، فيصبح بحق ” خليقة جديدة ” ، ويسمو الى نعم القيامة ، فتكتب له الحياة ، ويصدقه البقاء والخلود .
ان المسيح بقيامته الظافرة ، اصبح بكر الحياة الجديدة ، اذ اجتذب اليه الجميع ، للتمتع بنعمة الظفر الحقيقي ، والتطلع الى الامجاد السماوية ، دانية القطوف لهذا الانسان العاجز عن بلوغ ذروة القداسة ، لولا نعمة الله العاملة بكيانه ، عمل الروح في الجسد ، وبالتالي جُعِلَ أخاً لكل انسان ، وصديقاً لكل عارف للحق ، وحبيباً ، ومحباً لكل متسام الى ذروة الروحانية المحضة ، فللجنس الانساني، ثلاث نعم عظيمة ، اضفتها عليه قيامة المسيح المتألقة ، بالاضافة الى اظهاره ” خليقة جديدة ” ، اما الاولى حلول روح الله في هذا الكيان الفاني ، ونقله من حالة الالم والشقاء ، الى حالة السعادة ، التي لا يشعر بها إلا الروحيون ، ” واذا كان الروح الذي اقام يسوع من بين الاموات حالا فيكم ، فالذي أقام المسيح من بين الاموات يحيي اجسادكم المائتة ايضا بروحه الحال فيكم ” ( رومية ٨ : ١١ ) .
واما الثانية ، فنعمة البنوة الكاملة لله فحقا ” أرسل روح ابنه الى قلوبكم داعيا ابا الآب ” ( غل ٤ : ٦ ) .
نعم ” إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضا للخوف ، بل أخذتم روح التبني الذي به ندعو : ” يا أبا الآب ” ( رو٨ : ١٥ ) . . والنعمة الثالثة هي ، الاخوة الصادقة ليسوع المسيح ، الذي هو بحق بكر بين اخوة كثيرين ، وباستحقاق هذه النعم الثلاث ، اصبح الانسان بحق وارثا بالله ” فلست بعد عبدا بل انت ابن واذا كنت ابنا فانت وارث بالله .” ( غل ٤ : ٧ ) . وهذا الميراث ثمين جدا بل لا يساويه ثمن
” وحيث نحن ابناء فنحن ورثة ايضا ، ورثة الله ووارثون مع المسيح . ان كنا نتألم معه لكي نتمجد ايضا معه . ” ( رو ٨ : ١٧ ) .
وبهذا يمكننا الاستهزاء بالموت والهتاف مع بولس الرسول ” اين شوكتك يا موت ؟ اين غلبتك يا هاوية ؟ اما شوكة الموت هي الخطيئة ، وقوة الخطيئة هي الناموس . فشكرا لله الذي منحنا الغِلبة بربنا يسوع المسيح ” . ( ١ كو ١٥ : ٥٥ـ ٥٨ ) .
وهكذا يمكننا ان نعلن : ” قد مضى القديم وها كل شيء قد تجدد “