مواعظ الجمعة العظيمة
لسنة 1947
إنه لقد أخذ عاهاتنا وحمل أوجاعنا فحسبناه ذا برصٍ مضروباً من الله ومذللاً , جُرح لأجل معاصينا وسحق لأجل آثامنا فتأديب سلامنا عليه ويشرحه شعبنا ( إش 53 : 4 – 5 )
هناك فوق أعالي الجلجلة يرى نبي العهد القديم وإنجيليه الآم البشرية ومصائبها تتجمع حول الصليب , يرى بعينه النبوية النفاذة التي تخترق الأجيال والعصور معاصي هذه البشرية وآثامها متجمعة تحت أقدام الصليب , ولم يستطع شيء تحطيمها وسحقها إلاّ الصليب , ولم تكن تلك المعاصي تزول لولا الصليب .
أجل إن الصليب حمل أوجاع البشرية على منكبيه وتحمل الآمها منذ أن خرجت من جنة الله مطرودة مهانة إلى أن عادت معززة مكرمة , ولا نستطيع أن نتبع شهيد الجلجلة ونفهم تضحيته العظمى ونرى دماءه تترقرق على عود الصليب إلاّ بمراحلٍ ثلاثْ :
فالمرحلة الأولى لنستعرض فيها رموز العهد القديم التي تدل على هذه الضحية المقدسة .
والمرحلة الثانية هي المحاكمات الأربع الجائرة التي حكم فيها ابن البشر .
وفي الثالثة سنتأمل الصليب وراء يسوع وهناك نرى البشرية البائسة تتخبط في آثامها وتجري ورائها معاصيها وخطاياها .
المرحلة الأولى
يقول الرب : وكما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يرفع ابن البشر ( يو 3 : 14 )
نعم إن تلك الرموز قد تمت كلها بحذافيرها عن أقدام الصليب, تلك الظلال تمت في شخص المسيح وهو يقاسي ألاماً برحة فذهب عهد الرموز وأتى عهد المسيح عهد الحقيقة , ذهب ظل الناموس وأتى المسيح حقيقة , هناك عند اقدام الصليب تجثو الدهور الغابرة والقادمة متخشفة متهيبة مدهوشة لأنها ترى مأساة الصليب تمثل في هذه الأرض , ولم تشهد لها البشرية نظيراً , هناك تجمعت الآم الدهور كما تكدست معاصيها وأثامها القاسية وهو يحملها على منكبيه فيطرحها خارجاً وينقذ البشرية المسكينة من ثقلها .
ولنستعرض الآن رموز العهد القديم على موت المسيح , إن أول الرموز الدالة على موت المسيح هي قصة لإبراهيم , كلكم تعرفون أن إبراهيم كان رجلاً مشهوراً اختاره الله ووعده قائلاً : إن بنسلك تتبارك جميع قبائل الأرض , إذ بإسحق ابن الوعد يدعى لك نسلاً , أجل إن الأمم تباركت بالمسيح إذ هو نسل إسحق وإبراهيم , إن إسحق كان آمال أبيه , كما أن ابن العذراء كان آمال البشرية , وكان إسحق يترعرع بين أحضان أبيه مكرّماً محبوباً ولم يكن يدري إبراهيم المسكين أن الأمر سيهبط من السماء بذبح حبيبه وفلذة كبده قرباناً لله , وقد هبط فعلاً فانصاع له إبراهيم بلا تردد وكذلك لم تكن تحلم البشرية أن ابن العذراء الذي ولد في الناصرة سيرتفع على الصليب ويحمل اوجاعها , لم تكن تعرف أن وليد مغارة بيت لحم الذي سجد له المجوس سيتسنم قمة الجلجلة حاملاً صليبه , حاملاً الآم البشرية بأسرها , وقد تمّ كل ذلك فعلاً .
أما إبراهيم فلم يشك بدعوة الله بل أخذ وحيده وحمّله الحطب والسكين , وما أعذب تلك السكين وما أقساها , إنها كانت عذبة لأنها كانت ترمز إلى الصليب وكانت قاسية لأنها مزمعة أن تذبح الوحيد , ولكن وحيد إبراهيم لم يكن كافياً ليحمل اوجاعنا وآلامنا , ولم يكن مجروحاً لأجل معاصينا وآلامنا , ولكن لنتبعه الآن إلى أحد الجبال العالية , سار به أبوه الكهل إلى أحد الجبال ومكثت أمه سارة في البيت وهي لا تدري شيئاً عن وحيدها , كذلك مكثت العذراء في صهيون تنظر ابنها الوحيد بين اليهود يريدون استئصاله من الأرض , ولم تكن تدري سارة التدبير الإلهي , وإن ابنها سيكون رمزاً لضحية كبرى وقد تم رمز إسحق في يسوع , توغل الشيخ ذلك الجبل ومعه الحبيب وبنى على جبل آموريا مذبحاً ورتب الحطب ومدّد ابنه الوحيد فوقه ليقدمه تضحية لله , امتشق السكين يريد قطع عنق الفتى , وهنا تتجلى عظمة الإيمان , يا لها من ساعة رهيبة , قدم ابنك قرباناً لله , لم يكن الشيخ المهدم ليقول إنك وعدتني بإسحق يكون لي نسلاً , فأين النسل وأين البركة وكيف تستطيع أمم الأرض أن تتبارك طالما يقدم إسحق ذبيحة ؟
لم يفكر الشيخ بذلك كله , بل امتشق سكينه يريد أن يذبح الغلام وهناك في أعالي الجلجلة تتمثل المأساة الكبرى نفسها , ينتصب الصليب ويرفع ابن الله قرباناً لله , إن القربان الذي قدمه إبراهيم لم يكن كافياً ليحمل اوجاع البشر ولكن الصليب كان كافياً لذلك .
وبينما السكين بيد الشيخ إذا الصوت يدوي في الفضاء لا تلحق بالفتى أذى , فارتجفت يدُ إبراهيم .. أنا فداك .. والتفت وهو ينظر إلى الوراء ليرى مصدر ذلك الصوت وإذ بكبشٍ مربوط في عليقة , فقدمه محرقة عوض ابنه , يا لها من قصة سعيدة نجى الفتى وافتدي بالحمل , مددّ الخروف على الحطب وخلص إسحق , كاد إسحق يموت لولا الحمل الذي خلصه وكذلك كانت البشرية مائتة , غير أن حمل الله هو الذي علق على خشبة الصليب وبواسته نالت البشرية الفداء , فعلى الصليب رفعت خطايا العالم وخلصوا .
رجع إسحق إلى امه سالماً , غير أن حمل الله لم يرجع إلى امه , غير أنه رجع إليها بعد القيامة , ذهب إسحق وهو لا يعلم ماذا حمل من رموز وكذلك أبوه لم يكن يدري أن ابنه سيفتدى بواسطة الحمل , غير أن الله كان يعرف أن بنسل إسحق تتبارك أمم الأرض وطبعاً أن المسيح كان من نسل إسحق وهذا هو الرمز الأول في المقارنة .
والرمز الثاني هي الحية النحاسية , استولت الحيّات على شعب الله ولم يكن هناك طبيب ولا علاج يضمد جروح الملسوعين التائهين في تلك القيافي المقفرة غير أن الرحمة رغم ظلمهم أعدت لهم دواءً شافياً وأمرت موسى أن يرفع حية نحاسية لكي تشفي كل من نظر إليها , غير أن تلك الألوف التائهة لم يكونوا يعلمون أن هذه الحية رمز عظيم لصليب المسيح الذي يرتفع على تلك الأكمة , ولم يكونوا يعرفون أنهم يمثلون البشرية وهي تائهة في فيافي هذه الحياة القاحلة وحولها الحيّات والأفاعي تريد إهلاكها , غير أن صليب المسيح أرتفع في وسط هذه الحياة ينادي الملسوعين : تتطلّعوا إليَّ فتشفوا , ونبيُّ إسرائيل يقول : انظروا إليه فلا تخزى وجوهكم , إن الصليب هو الحقيقة , وتلك الحية كانت رمزاً نظر إليها الإسرائيليون فشفيت جروحهم , فديّت فيهم الحياة , وكذلك نظرت البشرية إلى المرتفع على الصليب فشفيت جروحها وعادت إليها الحياة ومنحها بموته الحياة وهكذا ينتهي الرمز الثاني .
أما الرمز الثالث والأهم : فهي الذبائح ولنترك كل الذبائح والرسوم وحتى خروف الفصح ولنأتي إلى ذبيحة الإثم التي كان يقدمها الحبر الأعظم مرة في السنة , أن تلك الذبيحة كانت ترمز إلى ذبيحة الصليب وكانت في ذلك التيس المنتقى الذي يقدمه الحبر الأعظم ليكفر به عن خطاياه وخطايا الشعب .
جاء في سفر الخروج أن الله أمر موسى أن يأخذ ثوراً ويقدمه محرقة لله , وتيسين أمام خيمة الاجتماع , ويلقي هناك قرعة عليها فيؤخذ أحدهما ويذبح عن خطايا الشعب والثاني يطلق في البرية ويذكر فوق رأسه اسم عزازئيل , وفي أورشليم فوق الجلجلة تمثلت المأساة نفسها فأخذ اليهود حمل الله الرافع خطايا العالم وقدموه ذبيحة , وأما باراباس فأطلقوه في فيافي هذا العالم , إن ذينك التيسين كانا يمثلان المسيح وباراباس , الأول الذي كان يقدم عوض الحبر الأعظم والشعب لم يكن إلاّ رمزاً للمسيح الذي قدم نفسه طوعاً عن خطايا البشرية وآثامها , والثاني الذي كان يطلق قام بدوره باراباس الشقي الذي اطلقه اليهود لأنه كان يشبههم بالسيرة , أما يسوع البار الذي كان يوبخهم على كبريائهم , لم يريدوا أن يطلقوه إنما علقوه على خشبة الصليب لأن الله أشار عليه بواسطة عبده موسى , وهكذا ينتهي الرمز الثالث .
وهناك رمز رابع هو الناموس , فالناموس برمته كان رمزاً إلى المسيح , وكان يتطلع دائماً إلى المسيح تحت اقدام الصليب وهو معلق عليه , أجل جثى ناموس موسى هناك وسلم مقاليده لأن وظيفته قد انتهت عند أقدام الصليب , هناك نقضت الذبائح الحيوانية , لأن ذبيحة ابن الله قدمت للآب عن البشر قاطبة , هناك مزقت الشريعة السبتية , هناك مزق السبت لأن يوم الرب العظيم تجلى فوق أعالي الصليب وزالت الرموز , قال الرسول بولس : لو كان في الناموس بِرٌّ فالمسيح إذن مات بلا سببٍ .
نعم لم يكن الناموس إلاّ خيالياً رمزاً مظلاً وظلاً , فلما أشرقت الحقيقة زال الرمز والظل .
جثا الناموس عند ذاك تحت قدميه , مسلماً إليه مقاليد السماء , إن ذلك الناموس بتقاليده ورسومه لم يستطع أن برَّر تلاميذ موسى , أما المسيح فبذبيحته استطاع بل برَّر تلاميذه الذين يسمعون كلماته وإلى الآن يبررهم , إن الناموس كان رمزاً والمسيح هو الحقيقة بعينها , لقد انتهى الكهنوت الموسوي عند الصليب وبدأ كهنوت المسيح عنده , فسلم الكهنوت لرب الكهنوت , قال الرسول بولس : كل رئيس أحبار يقام للناس أما نحن فلما رئيس كهنة يرتفع فوق السماء ولا يحتاج إلى ذبيحة أخرى لأن هذه الضحية كانت كافية للبشر كله , هذه أهم رموز العهد القديم التي تمثل مأساة الصليب .
المرحلة الثانية
((المحاكمات الأربع ))
مزدرى ومخذول من الناس , رجل أوجاع , معتد ومتمرس بالعاهات مثل ساتر وجهه عنا , مزدرى فلم يُعبأ به (إش 53 : 3 )
إن إشعياء هنا يرى كعادته النبوية كيف يجتمع البشر ويحاكمون الله , يراهم يتألبون حوله وقد تجلى السكون عليه يمشي كما تمشي العنزة وراء جانيها وكالحمل وراء جزاره , يراه إشعياء وهو يمثل حملاً وديعاً , أما المحاكمات الأربع إذا استعرضناها نرى البريء يرتفع فوق السماء ببرأته , وهناك توطئه قبل الولوج بالموضوع .
يخرج ابن الإنسان وتلاميذه من بستان جثسيماني وهناك تجلت عظمة النفس البشرية , كان عرقهُ يتصبب على الأرض وهناك تجلى افتداء البشرية , خرج وتلاميذه …. وإذ بنبوة زكريا تتم .
ضرب الراعي وتبددت الخراف , في تلك اللحظة ضرب ابن الناصرة فتبدد الرسل , وبقي يسوع وحده وهو يقول : على رؤوس الأشهاد قد دست المعصرة وحدي , وما تلك المعصرة إلاّ الآلام التي تكبدها يسوع .
هناك أمران تجليا فعندما تبدَّد الخراف , ظهرت فيهما سفالة البشرية وكرامتها , ظهرت سفالتها في شخص يهوذا , وظهرت كرامتها في شخص بطرس الذي أنكر ثم تاب , نعم …. إن يهوذا الوقح الغض كان خائناً ويا ويحه من هذه الخيانة العظمى , فقد قَبَّلَ ربه بهذه القبلة الغاشة سلم ابن الإنسان ولكن الرب لم يضطرب , بل كانت نفسه كالبحيرة الساكنة , وقد قال المرتل متنبئاً عنها إذ قال : ليس العدو هو الذي يعيرني ما أحتمل ولا مبغضي هو الذي تجبّر عليَّ فأتوارى منه , بل أنت أيها الرجل عديلي وأليفي وأنيسي الذي له معي أطيب مجالسة , وقد تسايرنا في بيت الله على المصافاة (( مز 54 : 13 و14 و15 )) .
نعم إن المسيح في تلك الساعة أكمل في شخصه هذه النبوة , كما أكمل بقية النبؤات وكان ذلك رمز كل ظالم في هذه الحياة وذلك الخائن الفائن الذي شرب من يدي ابن الناصرة كؤوس مترعة من ماء الحياة , ولكنه أنكرها ووطأها تحت أقدامه , ورجع إليه يريد أن يسقيه كأس الحياة , وبالأمس خيانة عظمى , يشرب منه كأس الحياة وأسقاه كأس الموت أخذ منه زهرةً فواحة , وقدم له حربةً وشوكةً تحزّ فؤاده , نعم أخذ خبز الحياة وأعطاه عوضه لقمة الموت , وهنا مجال للتأمل والتفكير , فلقد سار يهوذا معهُ ثلاث سنوات وأطلعه على كل شيء , ونحن في هذه الحياة منذ الولادة نسير معه ونرى أعظم مما رآه , إن ذلك كانت غشاوة كثيفة على بصيرته إذ منع عنه الروح القدس , أما نحن فقد نلنا هذه الحياة والروح فلنحرص عليها , فإنها وديعة ثمينة , ولندافعنّ بكل قوانا حتى الموت ولنسفكنّ دمائنا عوضاً عنها , ولا نكوننّ مثل ذلك الخائن الذي باع معلمه لأجل دريهمات فقط , وكانت سقطته عظيمة يقول الرب : (( الويل لذلك الرجل الذي يسلم ابن البشر قد كان خيراً لذلك الرجل لو لم يولد )) مت 26 : 24 .
نعم الويل لك يا يهوذا الإسخريوطي لأنك ارتكبت جريمة عظمى فصرت مثالاً سيئاً للأشرار فلنكوننَّ من تلاميذه الأصفياء القديسين الأوفياء , فلقد سقانا أعظم منه وأعطانا النعمة أكثر منه .
والأمر الثاني : هو توبة بطرس فقد سار مع المسيح ثلاث سنوات وهو أول من اعترف بلاهوته قبل كل التلاميذ , ونال كرامة عالية ولكن هو الضعف البشري يستولي عليه في ساعةٍ مجهولة وذلك لتتم , ولقد قال لو ألجأت أن أموت معك لا أنكرك , فقال له الرب : الحق اقول لك قبل أن يصيح الديك مرتين تنكرني ثلاث مرات , غير أن ذلك التلميذ المعتمد على نفسه لم يكن يعرف أن الضعف البشري يستولي عليه , غير أن الرب كان يدري كل شيءٍ , فنراه يقول أمام جاريةٍ حقيرة : إنني لا أعرف هذا الإنسان وأيده بأقسام ولعنات , إيه يا بطرس … ثلاث سنوات تسير معه ولا تعرفه ؟ يقول لك أنت الصخرة وإلى الآن لا تعرفه , رأيته أقام ابن الأرملة وأبنت بيايروس ولعازر وإلى الآن لا تعرفه , أيُّ من المؤمنين الحقيقيين لم يرى ما يراه بطرس بعين الإيمان بنفسه وما صرح به بطرس , ولكن لنصوننَّ هذا الإيمان , ولنحفظنَّ هذا التصريح , ولنعتمدنَّ على الله لا على نفوسنا , غيرّ أن بطرس كان مثالاً حسناً لنا , نعم إن بطرس كان يمثل التوبة بأجل مظاهرها وكثيراً ما نحن ننكره بأعمالنا وأفكارنا وأقوالنا ولكن لا يجب ان يؤدي بنا إلى خاتمة يهوذا بل إلى خاتمة بطرس , فليكن كل منا مثل بطرس ولنرجع حالاً مثله بالتوبة , ويقول الكتاب عنه : إنه خرج خارجاً وبكى بكاءً مرّاً وسقطت من أعين بطرس دموع سخينة , فغسلت هذه الدموع إنكاره وكذلك نحن المؤمنين إذا ما سكبنا دمعة واحدة بدمعة نصوح يقبلنا المسيح .
وهنا ندخل المحاكمة الأولى :
هناك نرى الظلم البشري بأشنع مظاهره إن هذه المحاكمة كانت أمام رئيس الكهنة ويا له من رجل قاسي , يقول داؤد : شهود زورٍ يسألونني ما لم أعرف , إن أولئك الشهود اجتمعوا حول الرئيس , والتُهَمْ الموجهة إليه كانت أموراً باطلة واهية , لا تجب المحاكمة بالموت غير أن الشهود شهدوا شهادات لا تتفق مع بعضها , وأخيراً تقدم شاهد زور وأي شهادة زورٍ ! ولم تتفق أيضاً لتتم النبوة وأعظم حجة لديهم كانت قول يسوع إني أنقض هذا الهيكل وأبنيه فس ثلاثة أيام , ولكن يسوع لم يكن يعني هيكل سليمان , بل قال ذلك عن هيكل جسده وأعدائه لا يعرفون , وكذلك بقية الحجج كانت واهية , منها إنه نقض السبت الذي كان ضالاً للحقيقة … وتباً لهم وللسبت فنراه يتمرغ في التراب تحت أقدام ابن البشر ربُّ السبت وهو لا يهمهُ شيءٌ من السبت , قالوا عنه إنه يدعي أنه ابن الله وهو كذلك كما صرحت الأجيال الماضية , ولكي يحكم عليه ذلك الكاهن الكافر بالموت سأله قائلاً : أستحلفك بالله الحي .. هل أنت المسيح ابن الله عندئذٍ كيف تكون الحال , أن يكتم الأمر لئلا يكذب فقال : نعم أنت قلت ومن الآن سترون ابن الإنسان أتياً على سحاب السماء مع ملائكته القديسين , هناك تجلى الصدق أمام رئيس الكهنة الغاشم فقد مزّق ثيابه وقد ارتكب بذلك جرمٌ في هذه المحكمة التي لم تستوفي الشروط التي يأمر بها الكتاب المقدس , فهي تنص أن يكون المتهم واقفاً بكلِ راحته والكل يشهدون له وليساعدوه وهذا أول الشروط التي تنص عنها .
أما الشرط الثاني : فينص أن تكون المحكمة في النهار لا في الليل , أما يسوع فكان مكبل اليدين والناس يضجون , يريدون الإيقاع به وكذلك لقد خالف هذا الكاهن نصوص المحاكم إذ أجرى الحكم في الليل تحت جنح الظلام .
وأما الشرط الثالث تنص أيضاً بأن يقدم المتهم كل الأمور التي تعود إلى برأته , وأما أولئك القساة فلم يسمعوا ليسوع أن يقدم شيئاً , والبرهان على ذلك إنه عندما تكلم لطمه أحد الجند قائلاً أهكذا تجيب رئيس الكهنة , وهكذا نراهم يخالفون قوانين المحكمة .
والشرط الرابع بعد أن يحكم بالإعدام على شخص ينادى في المدينة ثلاثة أيام على أن فلان سيعدم بالجريمة الفلانية , وقد ثبت الجرم فمن له شيءٌ لتبرئته فليقل , أما رئيس الكهنة فحالاً نطق حكمه عليه بالإعدام دون أن يسمع من الناس وإذ ذهب يصرح للناس أنه قد حكم عليه بالموت لأن شهوداً دانته قد كثروا ولكن إذا ما بلغ شهود التبرئة النصف يطلق وهناك أيضاً الحكم جائراً لم يستوفي الشروط .
والمحاكمة الثانية أمام بيلاطس :
هناك داؤد يقول ثيرانٌ كثيرةٌ اكتنفتني وعجول باشان أحاطتني , نعم هناك اكتنف المتهم البريء جنود راما العاتية مستهزئين به , غير أن بيلاطس الحاكم الجبار كان يريد أن يطلقه ولكنه لم يكن يعرف كيف يطلقه والحجج التي قدمت إليه على يسوع كانت :
أولاً أنه يريد أن يمنع إعطاء الجزية لقيصر .
ثانياً إنه قام بفتنة سياسية
ثالثاً إنه يدعو نفسه ابن الله ويسمي نفسه ملكاً .
وهذه كلها وجهت إلى يسوع أمام الحاكم الروماني , وكلها سفآسف لا طائل تحتها , إن يسوع لم يثر فتنةً سياسية , بل كان ذلك باراباس الذي سنرى عما قليل كيف يطلقونه , لم يكن يسوع زعيم شيعةٍ بل كان يعلّم دائماً في الهيكل أمام الناس , كلهم يعرفون إنها كانت تحث على اللطف والمحبة حتى محبة الأعداء , أما هم فقد أوَلُّوها بالفتنة العمياء وثانياً دفع الجزية لقيصر ولقد كذبوا فيها كما كذبوا في غيرها فإنهم أتوا إليه وسألوه , أيجوز أن تدفع جزية لقيصر , فقال لهم : قدموا لي ديناراً وقال : (( لمن هذه الصورة والكتابة )) قالوا لقيصر أما هو فأجابهم : (( اعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله )) وهنا تسقط دعواهم .
ثالثاً يسوع يدعي بالملوكية , إن يسوع لم يقل أنا ملك ولم نقرأ بالإنجيل شيئاً يشابه هذا وأول من صرّح بذلك هم أعداؤه الذين خاطبوه ومستهزئين به : (( تنبأ لنا يا ملك إسرائيل )) ومن هذه أيضاً خرج يسوع بريئاً طاهراً , أما بيلاطس فقد كان ضعيفاً ولم يستطع أن يفعل شيئاً أو يهدي , ردع الجماهير الذين كانوا يتبعون أولئك الرؤساء المملوئين حقداً على يسوع لأنه كان يعطيهم الويل والثبور , لأنهم كانوا يطاؤن الناموس ويتظاهرون بحفظه , فجاراهم الحاكم وقال لهم خذوه واحكموا عليه بحسب ناموسكم فإنني لا أجد فيه علةً توجب الموت , وهذا دون الحق فكان بيلاطس صاحب الإرادة ونائب القيصر , فكان بإمكانه أن يخلص يسوع بكلمة واحدة ولكن أعماله القبيحة كانت تخيفه لئلا يفشي اليهود سره ويشكونه أمام قيصر وهنا تنتهي المحاكمة الثانية .
والثالثة يسوع أمام هيرودس , محكمة المستهزئين :
فتم قول النبي في مجلس المستهزئين لم يجلس (مز1) أمام محكمة لم يدان بل وقف أمام أناس مستهزئين لكي يدينوه , فنرى هيرودس يسلمه بيد جنوده يفعلون به ما يشاؤن من الهزء والخزي وهكذا تنتهي هذه المحكمة أيضاً .
أما المحكمة الرابعة فقد كانت أمام بيلاطس : وهنا أيضاً تنجلي براءة يسوع فيأخذ بيلاطس ماءً ويغسل يديه ويقول إنني بريء من دم هذا البار , ويصرخ أربع مرات إنني لا أجد عليه علةً للموت , غير أن الخوف والجبن يستوليان عليه فيسلمه إلى اليهود , ليعملوا به ما أضمروا في قلوبهم وهنا تنتهي المحكمة الرابعة وهكذا يخرج ابن الإنسان بريئاً طاهراً .
المرحلة الثالثة
وهي قصيرة ولكنها أصعب المراحل السابقة , يقول النبي إشعياء : (( أما إليكم يا عابري الطريق …. إلخ )) .
تطلعي أيتها الدهور الغابرة والمستقبلة هل تريني حزيناً وشهيداً مثل كوني شهيد الجلجلة ؟ كان معلقاً على الصليب يجمل خطايا العالم على منكبيه , حمل الله أثقال العالم , هناك على تلك الجلجلة نطق يسوع بسبع كلمات , وكانت هذه الكلمات خاتمة حياته على الأرض .
فالأولى كانت تتعلق بنفسه , إذ صرخ بصوت عظيم وهو معلق على الصليب مرسلاً كلمته الأولى التي قذفها صدره المتألم (( إلهي إلهي لماذا تركتني مز22 : 1 )) أجل في هذه اللحظة لم يكن الإنسان يدري ماذا حدث بين الابن والآب , تظلم الشمس في رابعة النهار ولا تعطي ضوئها , صرخ بهذا الصوت العظيم وبرهن أن هناك أمراً عظيماً قد تمَّ , كان يدعو الله أباً والآن يدعوه إلهي , هنا لحظة رهيبة ولكنها مرّة , ينفرد الابن على الصليب فيدوس المعصرة وحده والكلمة الثانية هي الظمأ إذ قال : أنا عطشان , لم يصرخ بل قال : أنا عطشان , الذي يسقي البشرية نراه يقول أنا عطشان ولكن ذلك لم يكن إلا لأجلنا , وهنا كلمات أخرى طلب بها الرب المغفرة لصالبيه قائلاً : (( يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون )) إن هذه الكلمة تبرهن عن حب يسوع للبشر في حين المحنة يطلب المغفرة للمسيئين إليه , وعلمنا أن نكون مثله نطلب المغفرة للمسيئين إلينا , ونراه كذلك في غمرة الآلام يفكر بوالدته المسكينة وهي عند الصليب بعد ذهابه وقد أصبحت وحيدة شريدة لا معين لها ولا من يسند شيخوختها , فنراه أن يضمد جروح قلبها فنظر وقال مشيراً إلى تلميذه الحبيب يوحنا : هذه أمك وقال لها يا امرأة هذا ابنك , ومنذ ذلك الوقت أخذها ذلك التلميذ إلى خاصته وبعد ذلك نراه ينطق بكلمتين أخريين إذ قال : قد أكمل , هنا في اللحظة تمَّ فداء البشرية , كملت النبؤات كلها خرج الصليب منتصراً , لم يبقى آنذاك شيء بعد أن جلب النصر للمؤمنين به , فختم كلماته إذ صرخ بصوتٍ عظيم يا أبتاه بيديك استودع روحي , وهذه كانت خاتمة كلام يسوع فأسلم روحه بيد أبيه , وتخطئ البشرية أن يسوع مات ضعيفاً لكنه مات قوياً فيجب عليها أن تجد قوة لاهوتيته , نعم في تلك الساعة غضبت الطبيعة , تزلزلت الأرض , تفتحت القبور , وانشق حجاب الهيكل , فلنترك كل شيء ولنترك القبور والأرض ولنرجع إلى حجاب الهيكل , فقد انشق إلى اثنين مشيراً بذلك على تمزق ناموس موسى , هناك تمزق الناموس وتمزق كل شيء , كان يرمز إلى يسوع , وآنذاك انفتح باب السماء وأصبح الدخول منه , ولقد قال الرب لذلك اللص : اليوم تكون معي في الفردوس , واختتمت أعمال المسيح على الصليب .
فلنستعرضنَّ الآن أعمال الفداء , كان الفداء ضرورياً , لأن الخطية التي ارتكبها الأبوان الأوليان كانت غير متناهية لأنها كانت موجهة إلى الله غير المتناهي , وهكذا عمت هذه المعصية الجنس البشري بأسره فمن ثم كان ينبغي فديه غير المتناهية هي المسيح .
مررنا على المراحل الأربع ورأينا كيف مات المسيح لأجلنا فلنحرص إذن ولنلقي أوجاعنا وما أصابنا تحت أقدامك فاحملها عنا واجعلنا أمناء نسير ورائك حتى الدم وحتى الرمق الأخير يا من يأتي مرة ثانية لدينونة العالم .
———————————————
العظة التي القاها الملفان مار غريغوريوس بولس بهنام ، عندما كان راهبا ومديرا للمدرسة الاكليريكية الافرامية ، سنة ١٩٤٧م في مدينة الموصل ، تجدونها أدناه بخط المرحوم الشماس ابراهيم ميشاخ على شكل صورة
منقول من الموقع الرسمي لمحبي المطران بولس بهنام