المقال التاسع والسبعون
الكتبة والفريسيون
تمهيد القديس لتفسير الآية
قد مرّ وقت طويل منذ ان تحدثت اليكم في الكنيسة، لأني كنت منشغلا في شن الحرب على الهراطقة او المتمردين. فلو كنت مالكا لناصية البيان الملزم كما يقول قانون بولس الرسول، ان اقنعكم حسب التعليم الصحيح وفي نفس الوقت ادحض آراء المعارضين. (ملازما للكلمة الصادقة التي بحسب التعليم لكي يكون قادرا ان يعظ بالتعليم الصحيح ويوبخ المناقضين) (تي1: 9).
ان بعد العودة من اسر بابل كان هناك من يعملون بهمة بكل قوتهم وكل قدرتهم لكي يعيدوا بناء الهيكل المقدس واسوار اورشليم، بينما كان البربر حولهم يحسدونهم. فكانوا يريدون اولا وقبل كل شيء ان يشتركوا في هذا العمل نفاقا منهم ورياء لإظهار تديّنهم الذي لا وجود له، وبذلك يخفون مكرهم الشرير، وكانوا يسمعون القول: (ليس لكم ولنا ان نبني معا بيتا لألهنا) (عز4: 3). ثم كانوا يحاولون ايضا ان يقلبوا لهم ظهر المجن بجسارة ويحاربوهم ويحولوهم عن نشاطهم. لكنهم كانوا يجدونهم يعرفون كيف يبنون ويحاربون في نفس الوقت.
وبما انه يبدو لنا انه ليس في الاستطاعة ان نقوم بهذين العملين في وقت واحد. فإما ان نحارب ونكون على اهبة القتال من اجل معركة الرب، وإما ان نبني الكنيسة بتعاليم وارشادات. واشرع الان، وقد اخذت بعض الراحة. في ان افتح فمي الروحي لأقبل الروح القدس: ( فغرت فمي ونهشت لاني الى وصاياك اشتقت) (مز118: 121). وحسب قول بولس الرسول، اقولها كلمة قصيرة بذهني ويمكن ان تعلم الاخرين وان لم نتميز بالغزارة بل تفيض حسب الحال ولها دوي هائل بواسطة اللسان. (ولكن في كنيسة اريد ان اتكلم خمس كلمات بذهني لكي اعلم اخرين ايضا اكثر من عشرة الاف كلمة بلسان) (1كو14: 19).
بعض الناس فعلا، يلومون صمتي ويقولون بأنه ليس من الرجاحة في شي ان نصمت، فيسألوننا اسئلة عديدة بعضها شأن الاطفال الصغار جدا، والبعض الاخر من ناحية، ممن هم اكثر تقدما في السن واشد قوة، ولكنهم مع ذلك يحتاجون إما الى اللبن او الى قطعة خبز، بل قطعة خبز مفتتة ومقطوعة الى اجزاء صغيرة كان يلزمهم ان تكون لهم حواس مدربة قد صقلها التعليم المحكم فيكون في استطاعتهم ان يأخذوا طعاما كاملا: (لانكم اذ كان ينبغي ان تكونوا معلمين لسبب طول الزمان تحتاجون ان يعلمكم احد ما هي اركان بداءة اقوال الله وصرتم محتاجين الى اللبن لا الى طعام قوي. 13 لان كل من يتناول اللبن هو عديم الخبرة في كلام البر لانه طفل. 14 واما الطعام القوي فللبالغين الذين بسبب التمرن قد صارت لهم الحواس مدربة على التمييز بين الخير والشر) (عب5: 12-14).
واننا نخشى من سكوتنا ان نعطي مكانا لمرثاة ارمياء التي تقول: ( لصق لسان الراضع بحنكه من العطش. الاطفال يسألون خبزا وليس من يكسره لهم) (مراثي ار4: 4).
يحسن إذن ان نقدم جهرا إحدى هذه النقاط التي تشكك فيها بعض الافراد خاصة، وان نفعل ذلك بعناية ونقدم طعاما ونعد للآذان تعاليم عامة امام الكنيسة.
في يوم الاحد الماضي، بعد ان سمع البعض قراءة الانجيل المقدسة ( وما كانت آذانهم غير مبالية) سألوا هذا السؤال: ماذا يعني ما قاله ربنا للكتبة والفريسيين: (واما انتم فتقولون من قال لابيه او امه قربان هو الذي تنتفع به مني فلا يكرم اباه او امه. فقد ابطلتم وصية الله بسبب تقليدكم) (مت15: 5-6).
ويشرح القديس في الرد بهذا الترتيب البديع.
فرائض الشريعة الموسوية
بما ان بني إسرائيل كانت لهم استعدادات بدائية جدا، ونمت فيهم عادات بربرية، وكانوا لا يستطيعون ان يفيدوا بالقوانين طهارة الروح، لذلك عنيت شريعة موسى بأن نجعلهم يتقدمون بواسطة تطهيرات جسدية، حتى ان من يمتنع عن تدنيس جسده ربما يصل بذلك اخيرا، حينما يكون قد تعلم بنفسه، الى ان يهرب ايضا من دنس الروح وان يبتعد عن الاعمال الميتة في الخطايا.
لهذا السبب بالحقيقة، فأن موسى نفسه كان يأمر قائلا: (من مسَّ ميتا ميتة انسان ما، يكون نجسا سبعة ايام) (عد19: 11).
ومن ناحية اخرى، إذ يتقدم داود ويخطو الى الامام ويسمو في فهمه الوصايا وروحها، ويغلو عن حرفية الكلام، كان يرّنم: ( اليك وحدك اخطأت والشر قدام عينيك صنعت لكي تتبرر فيَّ اقوالك وتزكو في قضائك) ( مز51: 4).
(طهرني بالزوفا فأطهر، اغسلني فأبيض اكثر من الثلج) (مز51: 7).
( رد لي بهجة خلاصك وبروح منتدبة اعضدني) (مز51: 12).
لكن شيوخ الشعب الذين كانوا بعدين عن هذه الروح، وقد اعماهم الحرف، وكانوا يتوقفون ويلتزمون بأكثر عناية وبأكثر تدقيق بفرائض الناموس المتعلقة بالجسد، لدرجة انهم كانوا يطبقونها حتى على الاشياء الجامدة، ويصرون على تطهيرها او غسلها وتغطيها في الماء، سواء السرير او الارض او السبت او القلاية، إذا سقطت هذه الاشياء إحدى هذه الجثث، او إذا تدنست بلمس اي سائل او اي جسم من هذا النوع.
تفسير الآية
وكان نفس الشيء ايضا بالنسبة لعدم السماح لهم بأن يأكلوا بأيادي غير مغسولة. ان مرقس البشير قد ذكر كل هذه العادات في مجموعها وكل واحدة منها حسب نوعها، حينما كتب قائلا: (لان الفريسيين وكل اليهود ان لم يغسلوا ايديهم باعتناء لا يأكلون متمسكين بتقليد الشيوخ. 4 ومن السوق ان لم يغتسلوا لا يأكلون واشياء اخرى كثيرة تسلموها للتمسك بها من غسل كؤوس واباريق وانية نحاس واسرة) (مر7: 3-4).
كان الكتبة والشيوخ والفريسيون المملوئون غيرة من اجل هذه العادات يتمسكون بها بهدف الكسب الحرام اولا، حتى ان الذين كانوا يقعون في حبائلهم كان يلزمهم ان يترددوا عليهم كثيرا بحجة انهم تدنسوا، وذلك ليقدموا ذبيحة لتطهيرهم، او لكي يسألونهم ويتعلموا ويدفعوا ايضا اجرا عن التعليم الاضافي اللازم لهذه المسائل لذلك كان ربنا نفسه يندد بأمثال هذه التعاليم قائلا: ( ويل لكم ايها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تنقون خارج الكاس والصحفة وهما من داخل مملوآن اختطافا ودعارة. ايها الفريسي الاعمى نق اولا داخل الكاس والصحفة لكي يكون خارجهما ايضا نقيا) (مت23: 25-26).
وكانوا يكثرون كلماتهم طلبا للمجد الباطل، ظنا منهم انه بفرائض وتقاليد ينالون درجة المشرعين وسلطانهم.
وإذ كانت لهم مثل هذه الاستعدادات القاسية: (حينئذ جاء الى يسوع كتبة وفريسيون الذين من اورشليم قائلين. لماذا يتعدى تلاميذك تقليد الشيوخ فانهم لا يغسلون ايديهم حينما يأكلون خبزا) (مت15: 1-2).
يجدر بنا ان نعلم لماذا قال: ( كتبة وفريسيون الذين من اورشليم)، ولم يقل فقط: ( كتبة وفريسيون)؟ وسنذكر سبب ذلك فيما يلي: كان هناك اثني عشر سبطا موزعة في ارض الميعاد، وكان سبط يهوذا وسبط بنيامين يشغلان الجزء الموجود منها حول اورشليم بينما كانت العشرة اسباط الاخرى متفرقة في الاجزاء الباقية. وقد تمردت هذه الاسباط الاخيرة وانفصلت وابتعدت مع يريعام، بينما كان سليمان يملك، وجعلوا العبادة لعجول الذهب بدلا من الله.
وبعد امر سبط يهوذا وسبط بنيامين وبعد ان نقلهم نبوخذ نصّر الى الحبشة ورجعوا منها وكان لا يزال من ينتمون الى هذين السبطين يشغلون نفس بقعة الارض وبالتالي مدينة اورشليم ايضا، وكان لهم ايضا اهتمام بحفظ الناموس وتقاليد آبائهم حفظا كاملا. اما العشرة اسباط الاخرى فقد اسرهم شلنصّر الاشوري في ايام هوشع ملك اسرائيل، واسكنهم على الحدود وارسل بدلا منهم قوما الى بلادهم من بابل والامم والناطق المجاورة كانت الوحوش قد اهلكتهم حتى جاء احد الكهنة الاسرى اليهم وعلمهم ناموس موسى.
هؤلاء المستعمرون كانوا يخدمون بدون تمييز اله الناموس والشياطين، كما يقول الكتاب المقدس: (فكان هؤلاء الامم يتقون الرب ويعبدون تماثيلهم وايضا بنوهم وبنو بنيهم فكما عمل اباؤهم هكذا هم عاملون الى هذا اليوم) (2مل17: 41).
هكذا كان كل الذين سكنوا فيما بعد جعلوا مقامهم في هذه المناطق، وكانوا هم ايضا مرضى ضرورة بغلاظة العبادة المتعجرفة وما بها من تشويش وارتباك. هذا ما اختص به الكتبة والفريسيون في اورشليم في الاية: ( حينئذ جاءوا الى يسوع كتبة وفريسيون الذين من اورشليم) فكانوا في إحدى امهات المدن، حيث الهيكل وحيث توجد الذبيحة القانونية، ونظام التطهيرات الاخرى، والاقامة في الاشياء المقدسة، وهم الذين كانوا ينادون عاليا بحفظ هذه التقاليد حفظا تاما ويحملون بين اضلعهم العجرفة والكبرياء الذي يأتي عنها، ويسمنوها وقار الشيوخ ويدينون الانسان الذي يأكل دون ان يغسل يديه ويعتبرون ذلك غلطة كبيرة جدا.
فماذا كان رد يسوع، الله، الكلمة، حكمة الاب؟ انه لا يعفيهم من التوبيخ يعلنهم به. وكان يمكنه ان يقول لهم: ( ان الرسل لا يحتاجون لغسل الايدي الجسدية، بعد ان حملوا صليبهم وتبعوني، وهم اطهار من كل عمل شرير، وقد غسلوا في الطهارة ايدي قلبوهم العقلية وانهم يعيشون حياة بسيطة، لا تقيدهم المهنة وإنما تتقدم اليهم تلقائيا حسبما يتفق، لدرجة انهم ايضا احيانا يفركون بعض السنابل وهكذا يسدون حاجتهم الى الطعام.
لا يحق إذن ان نلوم البعض في هذه الحالة إذا كانوا يأكلون دون ان يغتسلوا، كما لا يحق ان نلوم العصافير التي تجمع الحبوب لانهم بعد ان استحموا في سمو الكمال وغسلوا وطهروا الانسان الداخلي من كل شر. قد بينوا ان تقليد الشيوخ الذي يغسل الايادي الخارجية غير ضروري.
بنفس الاسلوب كان بطرس الرسول فعلا يسمع القول: (الذي قد اغتسل ليس له حاجة الا الى غسل رجليه بل هو طاهر كله) (يو13: 10).
وايضا كان يمكن ان يقول لهم: ولكن التلاميذ لم يتعدوا التقليد كما تقولون انتم انفسكم، لانه ليس عن احتقار ولا عن كسل ولا عن خيانة ولا عن حياة متعة، قد تخطوا التقليد، لكنهم احاطوا قصور التقليد الذي ينحصر فقط في طهارة الجسد، بسمو الروح وتألقها، كما ان من يقبل الوصية التي تنهي عن الفشل (خر20: 13) تكون ناقلة، لان من لا يصل الى حد الغضب، كيف يصل الى القتل؟
إذا لم يقل ربنا بهذه العبارات، بل اشار الى العكس كما سنبين ذلك بعد فهبّ ينقص اللوم الذي حمله الكتبة والفريسيون للرسل، ولامهم هم انفسهم بدوره بشدة. لانه بعد ان ذكرهم تقليد الشيوخ. لم يقل ( لماذا يتعدى الشيوخ هم انفسهم ايضا وصية الله بسبب تقليدهم؟ ــ وإلا كان يتصور الفريسيون انفسهم ان الامر لا يتعلق بعيب هو فيهم، وانهم اخذوا على عاتقهم الدفاع عن الاخرين، وبذلك يدفعون السامع لتأييدهم.
لكنه قال: ( وانتم ايضا لماذا تتعدون وصية الله بسبب تقليدكم) ( مت15: 3). هكذا ارجع الاتهام ضدهم وتجنب سماع اللوم والحكم ضد الشيوخ، حتى البعيدين منهم.
وصية إكرام الوالدين
لننظر إذن في اي شيء كان تعدى الوصية. قال السيد: (فأجاب وقال لهم وانتم ايضا لماذا تتعدون وصية الله بسبب تقليدكم. فان الله اوصى قائلا اكرم اباك وامك ومن يشتم ابا او اما فليمت موتا. واما انتم فتقولون من قال لأبيه او امه قربان هو الذي تنتفع به مني فلا يكرم اباه او امه. 6 فقد ابطلتم وصية الله بسبب تقليدكم) (مت15: 3-6).
ترى كيف انه في البداية وفي النهاية يوجه إليهم سبب الاتهام فيقول تارةً: (واما انتم فتقولون) وطورا: (بسبب تقليدكم)، دون ان يذكر الشيوخ بتاتا.
ورب معترض يقول: ( يبدو ان الاشياء المكتوبة ليست لها علاقة بعضها ببعض، فما هو العامل المشترك بين لوم الفريسيين والكتبة للتلاميذ لانهم لا يغسلون ايديهم، وبين الوصية التي تأمر بإكرام الاب والام.
لكن إذا انت امعنت النظر، فلسوف ترى ان الاشياء المكتوبة تتفق جيدا جدا فيما بينما وانها قريبة جدا من بعضها وليست بعيدة على الاطلاق.
كان الشيوخ الفريسيون والكتبة مرضى بداء البخل، كما قلت، فكانوا يرتاحون الى البحث الذي يدور حول التقاليد، وحينما وجدوا ان الوصية التي تقول: (اكرم اباك وامك لكي تطول ايامك على الارض التي يعطيك الرب الهك) (خر20: 12).
تضّرهم او تسحب منهم الربح الذي كانوا يحرصون عليه، حينئذ فكّروا ماذا يخترعون والى اين يذهبون هم يعترضون ويقيمون ضدها اكبر الوصايا في الرتبة والقوة، تلك الوصية التي شرعت وامرت: ( الرب إلهنا رب واحد. فتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوتك) (تك6: 4-5). وذلك بقصد هدم الوصية الاخرى.
كان البنون فعلا يبصرون لآبائهم النفع وكل ما عسى ان يجدوه وكانوا يعطونهم إياه، لدرجة ان ما كانوا يحصلون عليه كان يبدو كأنه ملك للآباء، إذ ان شمعون ولاوي نهبا مدينة سخيم بعد ان اخذها حسب قانون الحرب، وكان ابوهما هو الذي تركها عند موت يوسف، كما لو كان حصل عليها هو ذاته، قائلا: ( وانا قد وهبت لك سهما واحدا فوق اخواتك اخذته من يد الاموريين بسيفي وقوسي) (تك48: 22).
ومع ذلك كان البنون انفسهم يعتبرون انفسهم انهم لا يملكون شيئا من مكاسبهم الشخصية ومن ارباحهم، وفي كل شيء كانوا يتنازلون الى والديهم خشية ان يتعدوا بذلك بعض الشيء الناموس الذي يأمر بإكرامهم.
فقّيم إذا كان الاعتراض في تقليد الشيوخ الموقر؟ في انه للأبناء ان يعلنوا مقدما ويشهدوا مقدما بطريقة ما إذ يقولون لأبيهم وامهم: ( كل ما يمكن ان تستفيدوا منه متى او كل ما يمكن ان تنتفعوا به منا او يزول الى المنفعة، هو قربان سبق ان قدمته وقد جعلته جانبا وكرسته لله)، فكان الاباء في ارتباكهم يجدون انفسهم داخلين في معركة ضد الناموس الخطير الذي يأمر بأن يكون الله مكرما ما فوق الكل، فيلتزمون بالموافقة، ولا يجرأون حتى على لمس الاشياء التي سبق اعطاؤها بموجب وعد الاشياء المنذورة التي وضعت جانبا لأنها اشياء مقدسة. بهذه الطريقة المكرة كان يشتركون مع الشيوخ في هذه العطايا الممقوتة.
وقد اوضح مرقس البشير بأكثر وضوح ما كتبه متى البشير بقوله: (واما انتم فتقولون ان قال انسان لابيه او امه قربان اي هدية هو الذي تنتفع به مني. فلا تدعونه في ما بعد يفعل شيئا لابيه او امه) (مر7: 11-12). وفي اللغة العبرية، كلمه (قربان) معناها تقدمة او عطية موضوعة جانبا ومكرسة لله.
لهذا السبب فإن رؤساء الكهنة الذين دفعوا ليهوذا ثمن خيانته واعتبروها ضد الله إذا لم يريدوا ان يشتركوا في نجاسة الثلاثين من الفضة قالوا: ( لا يحل ان نلقيها في الخزانة لأنها ثمن دم) (مت27: 6). وهكذا كانوا يعطون اسم (قربان) لصندوق العطايا والتقدمات التي تقدم لله. وجاء في رسالة يهوذا: (ويل لهم لانهم سلكوا طريق قايين وانصبوا الى ضلالة بلعام لأجل اجرة وهلكوا في مشاجرة قورح) (يهوذا1: 11). وايضا بعد ذلك بقليل: (هؤلاء هم مدمدمون مشتكون سالكون بحسب شهواتهم وفمهم يتكلم بعظائم يحابون بالوجوه من اجل المنفعة) (يهوذا1: 16).
فتأمل إذا الان كيف يدفع مخلصنا اتهام الفريسيين بطريقة لائقة ومستورة، بتبكيتهم وتوجيه اللوم اليهم بدوره. فكما كان هؤلاء يأخذون على الرسل انهم لم يتطهروا لأنهم كانوا يأكلون دون ان يغسلوا ايديهم، كذلك اظهر ربنا له المجد انه ايضا كان ينقصهم الطهارة الحقيقية، لانهم كانوا يهدمون وصية الله ببخلهم، بينما كان الرسل يجتهدون ليس فقط حتى لا يكونوا بخلاء، بل ايضا لكي يكونوا فقراء تماما. لان من له مقل هذا الاستعداد هو ذاته الذي تكون يداه طاهرتين. اسمع اشعياء النبي الذي يقول: (السالك بالحق والمتكلم بالاستقامة الراذل مكسب المظالم النافض يديه من قبض الرشوة الذي يسد اذنيه عن سمع الدماء ويغمض عينيه عن النظر الى الشر. 16 هو في الأعالي يسكن حصون الصخور ملجاه يعطي خبزه ومياهه مامونة) (اش33: 15-16).
فهذا يتفق ايضا مع دحض البخل وكأنه يقول: ( اذا كنتم انتم ايها الفريسيون والكتبة قد اخترعتم في قساوتكم ان تخفوا تحت الوصية العظمى التي تأمر بأن: (تحب الرب الهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوتك) (تث6: 5). الوصية الاصغر التي تأمر بإكرام الاباء قائلين بتقليدكم سادرين في طمعكم في الربح: (من قال لابيه وامه قربان هو الذي تنتفع به مني. فلا يكرم اباه وامه) (مت15: 5). فكيف لا تتركون الرسل الذين تتمثل فيهم عظمة الكمال الشامل حسب الانسان الداخلي ليتركوا تقليدكم غير الخالص حقيقة بشأن طهارة اليدين وحسّيه البياض الخارجي ولا يعبأ بما في الداخل، كما يحدث للقبور المبيضة (تظهر من خارج جميلة وهي من داخل مملوءة عظام اموات وكل نجاسة) (مت23: 27). كما يقول الانجيل في مكان آخر؟
بعد ان لاشى الرب يسوع بهذه الكلمات اتهام الفريسيين، ولم يفعل الرب ذلك فحسب بل اظهر انهم هم انفسهم ممسكون بموضوع اتهامهم، مسهم بطريقة حكيمة إلهية واظهر انه بالقلب وليس بالحميم الخارجي تحكم بالطهارة وغيرها، مشيرا ايضا الى النبي إشعياء بقوله: (يا مراؤون حسنا تنبا عنكم اشعياء قائلا. يقترب الي هذا الشعب بفمه ويكرمني بشفتيه واما قلبه فمبتعد عني بعيدا. وباطلا يعبدونني وهم يعلمون تعاليم هي وصايا الناس) (مت15: 7-9).
بعد ان اظهر ان النبي قد دعا تعاليم الفريسيين تعاليم بشرية ليس فيها ما يهتم بالناموس او بما لله، وكل ما فيها بشرى، وبعد ان ذكر الشعب ايضا، ينقل اليه في الحال في ذلك الزمان معلما إيانا كما هو مكتوب: ( اريتك طريق الحكمة. هديتك سبل الاستقامة) (ام4: 11)، فهو يقول مخاطبا الجمع: (ثم دعا الجمع وقال لهم اسمعوا وافهموا. ليس ما يدخل الفم ينجس الانسان بل ما يخرج من الفم هذا ينجس الانسان) (مت15: 10-11).
يقول ان الفريسيين إذ يهتمون بوصايا الشيوخ البشرية كانوا يلمونني بسؤالهم: ( لماذا يتعدى تلاميذك تقليد الشيوخ فأنهم لا يغسلون ايديهم حينما يأكلون خبزا) (مت15: 2).
وانا اقول ليس فقط ان الرسل ارفع من هذه الوصايا، لكن ايضا ان الوقت قد حان فلن نعود نهتم بتعاليم الناموس يأمرنا ان نأكل من هذا الشيء او ذاك وان تبتعد عن هذا الشيء او ذاك، ليس لأن في الاطعمة الطهارة التي هي حسب الروح، او النجاسة، لكن كي لا تقبل على كل شيء مثل البهائم المتوحشة بفم ليس له ضابط، ولكي لا نجعل الله غاية للطعام لذلك قال ايضا: (فرضة دهرية في اجيالكم في جميع مساكنكم لا تأكلوا شيئا من الشحم ولا من الدم) (لا3: 17). ذلك لانه يسمن الجسد ويؤدي الى الفسق، بما يذكر بالحيوان المتوحش والبربرية. وبما ان كلمة الانجيل تأمرنا ان ننظر الى طيور السماء، (انظروا الى طيور السماء انها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع الى مخازن وابوكم السماوي يقوتها ألستم انتم بالحري افضل منها) (مت6: 26). وان نسعى مثلها نحو الطعام البسيط الذي يأتي بدون تكلف، فلذلك يكون زائدا عن الحاجة ان تعمل ترتيبا خاصاً بأنواع الاطعمة. لانه يقول: (ليس ما يدخل الفم ينجس الانسان بل ما يخرج من الفم هذا يتنجس الانسان) (مت15: 11). اي ما يخرج من القلب، (لان من القلب تخرج افكار شريرة قتل زنى فسق سرقة شهادة زور تجديف) (مت15: 19).
ماذا ينفعك اذا ايها الفريسي الا تأكل شحما ومع ذلك تصل الى الشهوات التي تخرج من القلب تأتي اولا حركة اللذة عمدا. او اي منفعة تكون لك حينما تمتنع عن دم الحيوانات الغير عاقلة، بينما تصير قاسيا مثل حيوان المتوحش وتهرق دم الانسان؟ وهكذا تنسى حقا ما يريده الناموس لأنك تبحث عما يدخل الفم ولا ينجس الانسان، ولا تبالى بما يخرج من الفم وينجس الانسان. لانه من اجل ما يخرج من الفم وينجس الانسان. لانه من اجل ما يخرج من الفم كان الناموس من البدء، ومن اجل هذا قد امرت ان تمتنع عما يدخله.
فإذا قال احد: (لو كان ما يدخل الفم لا ينجس، فماذا فيما كان يطلب من الشهداء ان يأكلوا ما ذبح للأوثان).
نجيب ان من كان له هذه المشاعر قد نسي ان الطعام لم يذكر لذاته، بل لأنه ممتزج بالتجديف والنجاسة، واما كون التجديف يخرج من القلب فهذا شيء معلوم. ولا سيما إذا كان لا يقرّ سلفا ان يقدم الخضوع لله، وكان مستعدا للتجديف، فما كان ان يتذوق تلك الذبيحة النجسة. وقد شهد بولس الرسول في رسالته الى كورنثوس ان الطعام ذاته لا يستطيع ان ينجس، بل ان الاستعداد الروحي الذي به يؤخذ الطعام هو الذي ينجس، فقال: (وان كان احد من غير المؤمنين يدعوكم وتريدون ان تذهبوا فكل ما يقدم لكم كلوا منه غير فاحصين من اجل الضمير. ولكن ان قال لكم احد هذا مذبوح لوثن فلا تأكلوا من اجل ذاك الذي اعلمكم والضمير لان للرب الارض وملاها) (1كو10: 27-28).
لهذا السبب قد جاهد المكابيين جيدا في المعركة وفقا للناموس، لانهم لم يريدوا ان يتعدوا الناموس ويأكلوا لحم الخنزير بطريقة نجسة.
كانت الفرائض الرمزية سائدة الى ذلك الوقت، وكان السلوك بحسب حرفية الناموس هو المعمول به، لان كل من كان يأكل ما هو محرم كان يتدنس ويصير نجسا ليس لمجرد تناوله طعاما، لكن لانه كان يأكل شيئا محرما.
إلغاء حرفية الناموس
وبعد مجيء المسيح الغى الحرف واكد ما يخرج روح الناموس بالحياة الانجيلية السامية، فضبط ما يخرج من الفم وما يخرج من القلب ويدنس الانسان ايضا، وحقق نظرة الشهوة بعقاب الزنا، وحقق حركة الغضب بعقاب الفشل. فمنذ ذلك الحين ما يدخل الفم ولا يدنس الانسان بعد، لان الذي يحيا في المسيح بطريقة انجيلية سامية ليس تحت فرائض ناموسية بخصوص الاطعمة.
اما مع الفريسيين الذين لم يفهموا في ذلك الوقت هذه الكلمة، وكانوا يظنون ان حفظ الناموس ينحصر في الاطعمة، فكانوا من العاثرين، وكذلك مع الرسل الذين اختبروا نفس الشعور ايضا، فكان يتصرف بحلم وبهدوء.
وفي حديثه عن هذا الموضوع اخيرا فصل الخطاب: (واما الاكل بأيد غير مغسولة فلا ينجس الانسان) (مت15: 20). حتى ليتبين قوله عن موضوع ما ينجس الانسان وليس عن حفظ الوصية الخاصة بالاطعمة.
وقد بيَّن بطرس الرسول في سفر الاعمال انه منذ البدء كان يبدو ذلك صعبا حتى على الرسل، وذلك حينما رأى في رؤياه الملاءة المملوءة من كل الطيور والزواحف والدواب وسمع الكلمات القائلة: ( قم يا بطرس اذبح وكل ) (اع10: 13): فردَّ ( كلا يا رب لأني لم اكل قط شيئا دنسا او نجسا) (اع10: 14).
وقد اوضح الرسل بطريقة مميزة انهم عثروا. قالوا: (اتعلم من الفريسيين لما سمعوا القول نفروا) (مت15: 12).
لذلك فقد هاجم يسوع الفريسيين بشدة قائلا: (فأجاب وقال كل غرس لم يغرسه ابي السماوي يقلع. اتركوهم هم عميان قادة عميان وان كان اعمى يقود اعمى يسقطان كلاهما في حفرة) (مت15: 13-14).
اطلق على الفرع من فروع التقاليد الفريسّية التي تتمسك بحرفية الناموس (غرس لم يغرسه الله). تلك تثير الجدل، جوفاء ليس لها مغزى، وهي لا تتفق مع الناموس الذي وضعه الله تعالى.
وفعلا نجد ان الكفرة لم تنقصهم طلاقة اللسان النجس الذي يحارب الله. ولهذا السبب قد وصف السيد المسيح الفريسيين بلعميان لانهم ثبتوا عينهم على الحرف ولم يريدوا ان ينظروا الى الروح والمعنى الداخلي. وقد ترتب على ذلك ايضا انه تعالى الامر بالأعراض عنهم حينما عثروا بدون سبب، إذ قال: (اتركوهم هم عميان قادة عميان وان كان اعمى يقود اعمى يسقطان كلاهما في حفرة) (مت15: 14). ولكي يبعد الجموع ايضا عن تعليم الفريسيين المهلك، فقد بيَّن انه ثمة خطورة كبيرة في اتخاذنا قادة عميان للاسترشاد بهم في طريق الاعمال الواجبة.
الا انه حينما قال جباة ضريبة الدرهمين للرسل: (اما يوفي معلمكم الدرهمين) (مت17: 24). بعد ان بيَّن انه معنى وغير خاضع للضريبة لانه ابن حقيقي لذلك وإله من إله قال لبطرس: (ولكن لئلا نعثرهم اذهب الى البحر والق صنارة والسمكة التي تطلع اولا خذها ومتى فتحت فاها تجد استارا فخذه واعطهم عني وعنك) (مت17: 27). معلما إيانا في الاعمال الدنيوية وفي كل ما يتعلق بالخيرات والاموال، الا نحتقر الذين يعثرون، والا نعبأ بالذين هم اشبه بالفريسيين يحفظون التعليم الالهي ويتذكرونه بغيرة حينما يعثرون.
لانه حينما كان اليهود والوثنيون يعثرون ويستهزئون بالبشارة وبالصليب، لم يكن بولس الرسول في ذلك ليسكت بل بالعكس كان يقول: ( ولكننا نحن نكرز بالمسيح مصلوبا لليهود عثرة ولليونانيين جهالة) (1كو1: 23). هكذا يجب علينا اذا ان تؤدي اعمالنا الروحية اللاهوتية حتى لو كان الوثنيون واليهود او اي عدو آخر لله، يتمزق من جراء عثرته.
يجب ان نبتعد عن تقاليد الفريسيين وما يشبهها ايضا، فإن منها تنحدر تلك الاشياء التي تدعى احجية، وتلك السيور الجلدية المربوطة بخيوط الكتان، يعلقها بعض الناس في رقابهم او في اي عضو آخر، لان المسيح ربنا المسيح يقول في الانجيل عن الفريسيين: (وكل اعمالهم يعملونها لكي تنظرهم الناس فيعرضون عصائبهم ويعظمون اهداب ثيابهم) (مت23: 5).
ويروي سفر الاعمال ان المناديل والعصائب التي كانوا يأخذونها من على جسد بولس الرسول كانت تذهب الامراض إذا وضعوها على المرضى، (حتى كان يؤتى عن جسده بمناديل او ما زار الى المرضى فتزول عنهم الامراض وتخرج الارواح الشريرة منهم) (اع19: 12). لكنهم كانوا يفعلون ذلك بحسب عادة من عادات الشعب بدون علم بولس ولم يكن بولس يعلم ذلك والكتاب المقدس يوصي: (أمريض احد بينكم فليدع شيوخ الكنيسة فيصلوا عليه ويدهنوه بزيت باسم الرب. وصلاة الايمان تشفي المريض والرب يقيمه وان كان قد فعل خطية تغفر له) (يعقوب5: 14-15).
ترى ان زيت القديسين الذي ندهن به حسب الوصية يخلص ليس فقط من المرض بل ايضا من كثرة الخطايا، اذا فما يكون مسموحا بعمله بطريقة صحيحة وما يمكن ان نكون له منفعة مثل هذه، لماذا تخطئ في فعله وتخسره حينما ينصب اهتمامك على الاربطة والشرائط التي تضعها حول يدك او حول عنقك؟ ربما تعلقها انت على جسدك بعد ان نكون قد اخذتها من القديسين فعلا، اما اخرون فقد يعلقونها بعد ان يكونوا قد اخذوها من اختراع شيطاني او سحر.
بم اذا نميز الفرق لنتفادى الخسارة؟ في الواقع حتى لو كنت انت نفسك لا تخسر شيئا كما قلت، الا انك تسبب للآخرين ما يجرحهم بقدوتك. لذلك كان بعض المسيحيين في كورنثوس، ليس عن طريق عبادة الاصنام، بل بحسب عادة غير معقولة، يذهبون الى الولائم ويجلسون على الموائد ويقولون مثلكم انهم لا يخسرون شيئا البتة بذلك، فنجد بولس الرسول يكتب لهم: (لانه ان راك احد يا من له علم متكئا في هيكل وثن افلا يتقوى ضميره اذ هو ضعيف حتى يأكل ما ذبح للأوثان. فيهلك بسبب علمك الاخ الضعيف الذي مات المسيح من اجله. وهكذا اذ تخطئون الى الاخوة وتجرحون ضميرهم الضعيف تخطئون الى المسيح. لذلك ان كان طعام يعثر اخي فلن اكل لحما الى الابد لئلا اعثر اخي) (1كو8: 10-13).
يجب إذا ان نقطع هذه العادات الغير معقولة اذا عرفنا ان بها نتسبب للغير ان يصيبهم الضرر. قلت لكم هذا، ليس لكي انصب لكم فخّاً بل لكي اجعلكم وقت تعليمكم قادرين على فحص الامور ومتمكنين مما يليق بكم ان تفعلوه، ولكي اقنعكم الا تحكموا على شيء قبل الوقت.
ولا تقولوا ان هذا البطريرك قد اعطاكم وصية شديدة جدا وصعبة جدا لان عظمة هذا اللقب تزيد ايضا من مسئوليتي، واني ارتاح بالرغم من ذلك، منتظرا وقت الكلام بمثابرة، كقول سليمان في سفر الجامعة: (للسكوت وقت وللتكلم وقت) (جامعة3: 7).
فكل ما نفعله اذا فإننا نفعله رأفة بأرواحكم حتى اذا فعلتم الخير ليس عن اضطرار بل برضاكم تصيرون كاملين، (فتكونوا انتم كاملين كما ان اباكم الذي في السموات هم كامل) (مت5: 48) له يليق المجد مع المسيح والروح القدس الآن وكل اوان والى دهر الداهرين امين.