المراكز الثقافية
في بلاد ما بين النهرين
في القرنين السادس والسابع
بقلم مار غريغوريوس يوحنا إبراهيم متروبوليت حلب
قبل أن أخوض في موضوع المراكز الثقافية في بلاد ما بين النهرين في القرنين السادس والسابع للميلاد أود أن أشير إلى بعض الحقائق التي عاشتها المنطقة في هذين القرنين
كنسياً كانت العلاقات متوترة بين أبناء الكنيسة الواحدة، فبسبب المجمع الخلقيدوني المنعقد سنة (451م) انشقت الكنيسة إلى شطرين، وشكل الصراع الكلامي بين الخلقيدونيين واللاخلقيدونيين فجوة كبيرة بين الأخوة، ولم يستخدم كلا الفريقين الحوار الموضوعي في أصل الخلاف.
فبينما بدت ظواهر الخلاف واضحة في قرارات مجمع خلقيدونية حول عقيدة التجسد الإلهي، كانت بواطنه سياسية، اجتماعية، اقتصادية، فروما عاصمة الامبراطورية الرومانية، والقسطنطينية أو روما الجديدة عاصمة بيونطة، كانتا متفقتين في روح الهيمنة على ابناء هذه المنطقة، وإن اختلفت اشكال السيطرة بحسب الظروف المكانية والزمانية. ولكن بسط النفوذ وسلب الموارد كانت من صميم سياسة الاستعمار الروماني والبيزنطي، ولم يتفق قادة الكنائس ـ يومئذ كان اصطلاح الكراسي هو السائد، وكانت خمسة روما والقسطنطينية والاسكندرية وأنطاكية وأورشليم ـ لم يتفق بطاركة هذه الكراسي على فصل السياسة عن الدين. وأضعف الكراسي كان كرسي أنطاكية، لأن أنطاكية كمدينة فقدت مكانتها السياسية، ووزنها القديم بالنسبة إلى روما والقسطنطينية. فجرح أنطاكية كان أكبر من أي جرح آخر في جسم الكنيسة المسيحية جمعاء. فبينما بقي كرسي روما واحداً موحداً حتى يومنا هذا، وكذلك القسطنطينية ونوعاً ما الاسكندرية، ثم أورشليم، نرى كرسي أنطاكية يتضاءل حجماً، ويخسر مكانة، ويضعف وزناً، ويجلس على كرسيه خمسة بطاركة يحملون لقب بطريرك أنطاكية وسائر المشرق. وهذا له تأثير كبير في المراكز السريانية الثقافية عبر العصور والأجيال رغم أن هذا التقسيم الكنسي قد حصل بدءاً من النصف الأول من القرن السادس وانتهاء بالقرن السابع عشر.
سياسياً في القرنين السادس والسابع للميلاد كانت الأحوال غير مستقرة بين بيزنطة وفارس، واتسفت بالتأزم والاصطدامات الحربية، رغم أن البيزنطيين انشغلوا بمحاربة البرابرة (القوط) في الجبهة الشمالية الغربية من جهة، والفرس تصدوا لغارات قبائل (الهون) على حدودهم الشمالية الشرقية. ولهذه الأسباب اتصفت هذه المرحلة الزمنية بالصداقة الظاهرية المتبادلة. ولكن الحروب بينهم بقيت مستمرة حتى سنة (561م).
عندما عقد جوستنيانوس الكبير معاهدة سلام مع الفرس لمدة خمسين عاماً، ولم تدم هذه المعاهدة طويلاً. ففي سنة (573م) احتل الجيش الفارسي مدينة دارا، حصن بيزنطة الحصين، وتقع في بلاد ما بين النهرين، فتمت هدنة بين الطرفين لمدة سنة واحدة. تجددت الحرب بينهما في سنة (575م) وحتى سنة (591م). وهكذا بين علاقات هدنة وسلام، إلى حروب مدمرة، كانت تسقط مدن وبلدان في بلاد ما بين النهرين وتدك أسوار الحضارة فيها.
أما علاقة الكنيسة بالسلطة فكانت علاقة مصلحة. يعمل الحكام على استخدام نفوذ رجال الدين وأملاك الكنائس والأديرة التي أعطيت لها امتيازات ملكية كقوة اقتصادية كبيرة. إضافة إلى القوة المعنوية وفعالية تأثيرها على الجماهير، فلم يلعب الإيمان الديني دوراً كبيراً في العلاقات بين الدين والدولة، بقدر أن وقوف الكنيسة إلى جانب السلطة من أجل تنفيذ مشاريعها التوسعية. فكل الظروف الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية ضمن الحدود الجغرافة الكنسية، شكلت عنصراً هاماً في إبراز دور المراكز الثقافية في القرنين السادس والسابع للميلاد.
وحديثنا اليوم ينحصر في بقعة جغرافية تمتد من نبع النهرين: الفرات من أرمينيا، ودجلة من شرق جبال طوروس في تركيا، إلى أطراف تكريت المدينة الواقعة في أواسط العراق على شاطئ دجلة الايمن شمالي السامراء، وقد سميت أرض سنعار وبيث نهرين وميزوبوتاميا MESOPOTAMIA، وعند العرب بالجزيرة أو إقليم الجزيرة، وكانت فيها مضارب ديار ربيعة ومضر وبكر، وكانت مركزاً مسيحياً مهماً، حيث أحتضنت كرسي مفريانية المشرق، وهي الرتبة التي تلي البطريركية عهداً طويلاً من الزمن.
ولا نريد أن نخوض في اثنية الشعب القاطن في هذه البقعة الجغرافية، وذلك لأن موضوعاً كهذا يشكل حساسية معينة، طالما لا تتوافر لدينا المصادر الموثوق بها، والتي تعود تاريخياً إلى الفترة الزمنية التي نتحدث عنها. علماً أن مصادرنا السريانية تؤكد على أن الآراميين كانوا يشكلون الأغلبية الساحقة. ولا توجد مبالغة في أن يقال بأن الآراميين هم ورثة حضارات سادت ثم بادت في بلاد ما بين النهرين، ولكننا مع هذا نؤكد على أن السريانية لغة وهي الآرامية في نظرنا، وقد تكون متطورة، كانت لغة المعاهد والمدارس ودور الثقافة، خاصة في المرحلة التي تلت انتشار المسيحية وحتى دخول الاسلام إلى بلادنا. وليست السريانية لغة كنيسة فحسب ولكنها لغة التراث الفكري والعلمي والأدبي والفني، وغيرها كما يظهر جلياً من تاريخ الفكر السرياني في العهد المسيحي الأول، وبعد الاسلام. وقد ظلت السريانية منافسة لليونانية حتى عندما كانت بلاد ما بين النهرين ولاية رومانية وبيزنطية.
وفي العهد البيزنطي الأول بقيت السريانية اللغة الأم للأغلبية الساحقة لسكان بلاد ما بين النهرين، ولا سيما بعد القرن الرابع للميلاد. وحيث انتصرت المسيحية على الوثنية في أغلب مدن وقرى بلاد ما بين النهرين، نبذ المسيحيون اللغة اليونانية، وانفردوا بالسريانية، وقاوموا الكتابات الوثنية ما أمكن، وقاموا بنشاط ديني وفكري لا مثيل له في التاريخ. إذاً حديثنا عن المراكز الثقافية في بلاد ما بين النهرين لا يأخذ صبغة اثنية، أو مذهبية، فالكنيسة كانت سريانية، ولغتها كانت السريانية، والشعب كان واحداً تاريخاً وحضارة وفكراً وتراثاً، ولكنه منقسم إلى كنيسة أرثوذكسية عرفت خطأً باليعقوبية، ونسطورية وتسمى اليوم آشورية. وفي هذه المراكز كان أصحاب كل مذهب يعمل على الدفاع عن مذهبه من وجهة نظره، دون الطعن في اللغة أو التراث لا بل هذه الصفحة الحوارية، أو بالاصح كما تسمى في الأدب السرياني بأدب المجادلات، بقيت صفحة غنية سجلت وقائع كثيرة تاريخية واجتماعية يمكن أن يعتمد عليها في كتابات تاريخ المنطقة وشعبها.
إذا ألقينا نظرة إجمالية على خريطة بلاد ما بين النهرين لوجدنا أن أغلب المدن أصبحت في فترة من الفترات مقراً لمراكز ثقافية، أغنت صفحات التراث بعطاءاتها الثرة المختلفة. وقد لا يستع المجال للتوقف عند كل هذه المدن أو المراكز التي تأسست فيها، في بحث لا يسمح الوقت بذكر تفاصيلها من كل الجوانب. فهذه آمد مثلاً المعروفة اليوم بدياربكر، سجل تاريخها الطويل قبل الاسلام وبعده صفحات مليئة بالجهاد والعطاء. وانجبت المدينة والقرى المجاورة لها والأديار التي كانت قريبة منها وأشهرها دير مار يوحنا الأورطي الذي أنشئ في أواخر القرن الرابع، أفرز علماءً رجالاً خدموا الكنيسة والمنطقة خدمات جليلة، ونذكر منهم بشكل خاص يوحنا الأفسسي الذي ولد حوالي سنة (507م)، واتقن اللغتين السريانية واليونانية، ورسمه مار يعقوب البرادعي (558م) مطراناً لأفسس فنسب إليها. هذا العلامة ترك لنا تاريخاً كنسياً يقع في ثلاثة مجلدات يشتمل كل منها على ستة أبواب، الأول والثاني من عهد يوليوس قيصر حتى (571م)، والثالث ضمنه أخبار الكنيسة والعالم من سنة (517) حتى (585) وهو في (418) صفحة، وقد نقل إلى الانكليزية والالمانية واللاتينية. وفي هذا التاريخ الذي يعتبر وثيق مهمة لأن فيه أحداثاً لا نجدها في تاريخ آخر سابق لعهده، منها ما يتعلق بملوك الغساسنة وبلاد السقالبة والأرمن، وتنصير بلاد النوبا وبعض القبائل الحبشية والولايات الأربعة في آسيا الصغرى، وفيه أيضاً تفاصيل الأوبئة التي اجتاحت غالب البلاد في عهده. وعمل تاريخاً آخر فصّل فيه سير النساك الشرقيين، وفي هذا التاريخ صفحات عن السيرة النسكية والعادات الرهبانية وسير الديارات في عصره. وهو في كل كتاباته شاهد عيان لأحداث كنسية خطيرة بقيت وثيقة تاريخية للمؤرخين والمهتمين بشؤون المنطقة. وبما أن عهده كان عهد اضطهاد ألّف كتاباً آخر في الاظطهادات التي جرت في عهده.
ومؤرخ آخر من المنطقة هو الراهب يشوع العامودي تلميذ دير زوقنين وصاحب الوثيقة التاريخية التي تزودنا بتاريخ العلاقات المظطربة بين الامبراطوريتين الفارسية والبيزنطية من سنة (502) حتى سنة (506). هذه الوثيقة تحتوي على مواد ومعلومات فريدة من نوعها، وتزودنا بتفاصيل دور العلاقات الاقتصادية والاجتماعية المبنية على الأحداث السياسية لتلك الفترة الزمنية.
وهذه ماردين المعروفة بقوتها وشموخها، المشهورة بحصنها وقد دخلتها المسيحية مع نهاية القرن الثالث للميالد، أضحت مع الجبال المحيطة بها والأديرة الموجودة فيها قلعة من قلاع المسيحية.
وهنا لابد أن نأتي على ذكر طورعبدين المنطقة الجبلية التي تقع فيما بين النهرين من الشمال الشرقي لمدينة ماردين والجانب المطل على المنطقة المعروفة قديما بـ باعربايا، أو المنطقة العربية، وتعرف باسم جبل ايزلا، وقد سماه اليونان باسم ماسيوس، ولها تاريخ حافل بالانتصارات حاربها شلمناصر الأول ملك آثور بين سنة (1276 ـ 1256 ق.م)، والملك هودناواي أو نيراري الثاني ابن الملك فتحها في القرن التاسع للميلاد، ودخلت فيها المسيحية في أواسط القرن الثاني للميلاد. وقد عرفت هذه المنطقة أديرة مشهورة أصبحت مراكز ثقافية مهمة تخرّج فيها علماء كبار تركوا آثاراً خطية في ميادين علمية وأدبية مختلفة. ومن أشهر هذه الأديار دير مار كبرئيل المعروف بدير قرتمين وهو عماد أديرة طورعبدين تأسست مدرسته سنة (397م) وقد ضم في أوائل القرن السادس ثمانمائة راهب. ومن أشهر خريجيه مار فيلكسينوس المنبجي أحد العلماء السريان ومن كبار الأئمة في اللغة، ولد بين منتصَف المئة الخامسة وتوفي سنة (523م) بعد أن ترك مؤلفات تفسيرية ولاهوتية وجدلية وأدبية نسكية وطقسية ورسائل وخطب، تركت له مكانة مرموقة في صفحات تاريخ السريان حتى هذه الأيام. هذا إلى جانب جهاده من أجل نشر الإيان وسعيه في سبيل وحدة الصف بين مختلف المذاهب في ذلك العصر. وهكذا يمكن الحديث عن مدن أخرى مثل تل موزلت، وحران، وسنجار، والموصل، وتكريت، التي أحاطت بها أديارٌ أصبحت بمكتباتها الغنية بالمخطوطات مراكز ثقافية أعطت للحضارة والإنسانية علماء كباراً تركوا بصمات خالدة في صفحات الحضارة المشرقية.
والآن نتوقف عند بعض أهم المراكز الثقافية في بلاد ما بين النهرين. ونبدأ بدير قنسرين وقد ذكره ياقوت الحموي في معجم البلدان إذ قال: «دير قنسرين على شاطئ الفرات من الجانب الشرقي من نواحي الجزيرة وديار مضر، مقابل جرباس الشامية، ويريد بجرباس مدينة جرابلس، وكانت تسمى قديماً اغرفوس» ويكمل ياقوت: «هو دير كبير كان فيه أيام عمارته ثلاثمائة وسبعون راهباً أنشيء حوالي سنة (530) وبقي مزدهراً حتى القرن التاسع للميلاد. وكان التعليم في مدرسته باللغتين اليونانية والسريانية. وكانت تدرس معها آداب اللغة اليونانية بشكل خاص. وتعلم فيها العلوم اللغوية والأدبية والكتابية والمنطقية والفلسفية والطبيعية واللاهوتية والفقهية».
وقد اعتبر بعض المؤرخين أنها بحق المركز الخَلف لـ مدرسة الرها التي اتنهى عمرها سنة (489). بل ربما فاقتها في كثير من المجالات، خاصة وقد عاشت مدرستها نحو ثلاثمائة وخمسين سنة. فإلى جانب البطاركة والمطارنة والرهبان الذين عاشوا تحت ظلال الدير. اعطت مدرسته علماء كبارً للوطن، تركوا مؤلفات ما زالت بعضها مخطوطة ومبعثرة في مكتبات عالمية مثل لندن وباريس وروما وغيرها. ويهمنا أن نقف عند اثنين منهم: الأول ساويرا سابوخت المولود في نصيبين يف الربع الأخير من المئة السادسة، ثم انتقل إلى مدرسة دير قنسرين فدرس فيها اليونانية والسريانية والفارسية، وبعد انتهاء دراسه تصدر للتعليم فيها بعد أن ترهب وسيم اسقفاً لقنسرين وللدير ذاته. وقال فيه البطريرك أفرام برصوم: «أوحد الفضلاء، وكوكب العلماء اللامع، وبدرهم الزاهر، أستاذ حاذق طائر الشهرة، وفيلسوف رياضي بل أول علماء البيعة الذي استجلوا غوامض العلوم الفلكية والطبيعية». وقد قضى حياته المديدة في هذه المدرسة في مطالعة أسفار وكتب الفلسفة والعلوم اللاهوتية والرياضية والفلكية، ثم درس هذه المواد، واستطاع بفعل انكبابه على هذه العلوم أن يتفوق فيها حتى على اليونانيين أنفسهم بحسب شهادة بومشتارك العالم والمستشرق الالماني المعروف، وقد ترك لنا المؤرخون عناوني مختلفة لمؤلفات هامة في العلوم المذكورة منها مقالة مختصرة في أقيسة (الانالوطيقا) أي تحليل القياس الثاني لارسطو ورسالة فيها تفسير بعض نقاط من كتاب الفصاحة لارسطو أيضاً، وأخرى في تفسير بعض القضايا المنطقية، ورسالة في شرح مقالة بريرمينياس أي العبارة والحساب والمساحة والفلك والموسيقى، ومقالة أخرى في الاستطرلاب وقد نقلها بكاملها إلى الفرنسية المستشرق نو سنة (1899)، وكتاب في صور البروج، ومقالة جوابية على أسئلة فلكية ورياضية وكرونولوجية، وقد نسبت إليه ترجمة تتربيلون في تركيب الكلام الرياضي، وله مقالة في الكسوف والخسوف، وفي الأرض المأهولة وغير المأهولة، وفي قياس السماء والأرض، والفضاء الذي في الوسط، وفي حركات الشمس والقمر. أما كتاب الاستطرلاب ففيه ذكر الأعداد العشرية الجارية عند الهنود، ويبين أن أهل الهند يفضلون فيها هذه الطريقة لحساب الأعداد على اليونان، ويستنتج الابنون ذلك أن العرب لم ينقلوا الأرقام الهندية مباشرة من بلادهم الأصلية أثناء العصر العباسي، وإنما أخذوها عن السريان. فلا يبعد أن يكون هذا الاستنتاج صحيحاً لأن السريان عرفوا هذه الأرقام وكانوا قد وصلوا إلى الهند، ونقلوا منها وعنها الكثير من العلوم.
والعالم الثاني وهو أحد خريجي هذه المدرسة هو العلامة مار يعقوب الرهاوي([1]) الذي يؤكد أغلب المؤرخين أن ولادته كانت في نحو سنة 633م في قرية عن دابا ومعناها عين الذئب القريبة من بلدة عفرين وكانت قديماً تابعة لولاية أنطاكية. وفي ريعان شبابه توجه إلى دير قنسرين «عش النسور» حيث تابع دراسته العالية على يد اساتذة الدير، وخاصة الفيلسوف والعالم مار ساويرا سابوخت. ولمار يعقوب الرهاوي فضل كبير على الأدب السرياني فرغم أنه عاش في عالم مضطرب قلق كانت تتقاذفه أمواج التحديات والفتوحات، وحروب نم أجل الوجود والحدود، وعايش جيلاً خائراً مرتبكاً ملفحاً بالأخطار المصيرية، مع كل هذا اتخذ له من القلم سلاحاً في حلبة هذا الصراع بين القديم والجديد، حمل رايات العلم والفكر والمعرفة إلى أبناء جيله والأجيال القادمة. وبعد إتمامه دراسته كان شغله الشاغل أن يدور في الأرض وينتقل من مكتبة في يدر إلى أخرى في كنيسة، ومن مركز علمي إلى مدرسة في أرض الرافدين وبلاد الشام ومصر،وهو بحق لاهوتي وفيلسوف ولغوي ونحوي وشاعر ومؤرخ ومدقق ومحقق ومترجم اتقن لغته الأم السريانية ثم اليونانية فالعبرية، وترك ثلاثين مؤلفاً بعضها عصف الدهر بها، والآخر مازال مخطوطاً في أمهات المكتبات العالمية، وقسم تناوله المستشرقون والباحثون بالدراسة والتحقيق ونشروه مترجماً إلى لغات أبناء حضارة القرن العشرين. بعض المؤلفات وضعها، ومصادره كتابات الآباء السريان واليونان، والبعض الآخر حققها وصحّحها وضبطها، وجزء مهم نقلها من لغة اليونان إلى السريانية. وفي مجال اللغة والنحو يعتبر مار يعقوب صاحب أول مؤلف للنحو عند السريان الذي من خلاله وضعت القواعد والضوابط للغة السريانية وإليه تنسب الحركات الخمس المعبر عنها بصور أحرف يونانية صغيرة وهي ( َ ُ ِ ٌ ٍ ). ويقال أنه حاول إدخال أحرف جديدة على اللغة السريانية ولكن محاولته باءت بالفشل بعد موته. وربما إليه يشير الزيات في كتاب الأدب العربي بقوله: «والغالب في ظننا أن أبا الأسود الدؤولي المتوفي سنة 688 ميلادية لم يضع النحو والتنقيط من ذات نفسه وإنشائه، وإنما يظن أنه ألم بالسريانية أو اتصل بقساوستها وأحبارها فساعده على ذلك على وضع ما وضع». ويؤسفنا أن نقول بأنه وضع كتاباً في التاريخ من السنة العشرين لقسطنطين الملك وحتى سنة (692م) ولكن لم يفضل منها سوى ست واربعين صفحة. ولو كان في متناول اليد لبقي وثيقة هامة تتحدث عن الفتح الاسلامي لهذه البلاد، سيما وأنه كان شاهد عيان. ومؤلفاته كثيرة وهي تفسيرية للكتاب المقدس ولاهوتية وتاريخية ونحوية وقانونية وفلسفية. وكتابه الأيام الستة يعتبر أعظم كتاباته، ويعد أول محاولة عند السريان لوصف العالم وظواهره الطبيعية في إطار صة الخليقة في التوراة، يقع في سبعة أبواب وهي: الخلقة الأولى العقلية غير المحسوسة، السماء والأرض والبحار والجبال، الأنوار في فلك السماء، الحيوانات الزحفات والطيور المائية بهائم ووحوض الأرض، الإنسان، وفي الفصل السابع وقبل الحديث عن الدينونة فاجأ الموت مار يعقوب. وقد نشرنا هذا الكتاب في سلسلة التراث السرياني باللغة العربية.
والجدير بالذكر أن مار يعقوب الذي لا نعرف موقفه الصريح من الفتح الاسلاي افتى رجال الدين من النصارى بأنه يحل لهم أن يعلموا أولاد المسلمين التعليم الراقي وهذه الفتوى وكما يقول أحمد أمين تدل من يغر شك على إقبال بعض المسلمين في ذلك العصر على دراسة الفلسفة وتردد النصارى أولاً في تعليمه.
مدرسة رأس العين
لا توجد لدينا تفاصيل تاريخ مدرسة رأس العين التي هي ثاودوسيوس بولس، ولكننا نستطيع أن نتبين أهمية هذه المدرسة من خلال بعض العلماء الذين تخرجوا فيها وبشكل خاص الفيلسوف سرجيس الرأسعيني الذي أصبح رئيس أطباء رأس العين، وذاع صيته ببلاغة منطقة. وقد وضع جملة كتب تبين إطلاعه الواسع على العلوم في اللغتين اليونانية والسريانية رغم أن ترجماته عندما كان شاباً جاءت ركيكة كما يؤكد حنين بن اسحق في رسالته إلى علي بن يحيي. وقد اختص الرأسعيني في العلوم الطبية ونقل مجاميع الاسكندرانيين وكتب أبوقراط وجالينوس وكتب المنطق لارطو. وقد تبسط في العلوم الفلسفية والطبية بالاضافة إلى أعماله الرعوية. ومن أهم مؤلفاته كتاب في الأدوية البسيطة ومقالات في المنطق وسبع7ة أجزاء في السلب والإيجاب في أسباب المعمورة بحسب مبادئ ارسطو في الجنس والنوع والشخص. وأبرز ما نقله من اليونانية إلى السريانية ايساكوجي برفيريوس الصوري ومقولات ارسطو وكون العالم ومقالة في النفس، وتنسب إليه مقالات في الزراعة. ومصنفاته حافلة بالفوائد اللغوية والجغرافية وحاوية كثيراً من الألفاظ والأسماء النباتية.
مدرسة دير مار زكا
كان هذا الدير قريباً من الرقة الحالية، وكان ديراً عظيماً زاره هارون الرشيد عدة مرات وهو في طريقه من بغداد إلى الرقة. وفي مخطوطة عربية حدث أحمد الخزاعي عن أبيه فقال: قدم هارون الرشيد مدينة الرقة وخارج الرقة دير يقال له دير زكا فلما اقبلت المراكب أشرف أهل الدير ينظرون فلما أقبل هارون رمى مجنون مسلسل بنفسه وقال: يا أمير المؤمنين قد قلت فيك ثلاثة أبيات أما أنشدك قال:
لحظات طرفك في العدى | تغنيك عن سل السيوف |
وعزيم رأيك في النهى | يكفيك عاقبة الصروف |
وسيول كفك بالندى | بحر يفيض على الضعيف |
ثم قال: يا أمير المؤمنين هات ثلاثة آلاف دينار اشتري بها كسبا وتمراً. فقال هارون: يدفع إليه ثلاثة آلاف دينار فحملت إلى أهله وأخرج من الدير.
وهذا الدير أعطى للكنيسة بطريركاً وعشرين أسقفاً حتى سنة (954). أما علماؤه فكثيرون أشهرهم مار يوحنا التلي وهو من ولادة مدينة الرقة ذاتها عام (483)، تلقى في مدرسة الدير العلوم اللاهوتية والفقهية، وجاهد في سبيل مقتعد كنيسته. ورغم كل الظروف الصعبة المحيطة به، ترك مؤلفات في الشرع الكنسي وفي أمور أخرى تتعلق بالعقيدة الأرثوذكسية. وعالم آخر عاش في النصف الثاني من القرن السادس هو قرياقس مطران آمد وكان ملفاناً ذاع صيته لعلمه الواسع. وماروثا التكريتي الذي أمضى فترة مهمة في دير مار زكا طلباً للعلم ثم أقام فيه عشر سنين يدرس في مدرسته مختلف العلوم. وقد ترك للكنيسة كتباً تفسيرية للإنجيل المقدس، وخطباً للأعياد، وكتاب جدلي ضد النساطرة وآخر تاريخي يتضمن قصة برصوم النصيبيني والنساطرة التي دهمت بلاد الفرس.
وننتقل الآن إلى مدرستين مهمتين في تاريخ الثقافة السريانية في بلاد ما بين النهرين الأولى مدرسة نصيبين. والثانية مدرسة الرها، علماً أن مدرسة نصيبين مرت في مرحلتين زمنيتين مختلفتين، يهمنا نحن المرحلة الثانية. أما مدرسة الرها ورغم أنها انتهت قبل بداية القرن الخامس ببضعة سنوات ولكنها تركت أثراً كبيراً من خلال تلامذة هذه المدرسة استمر حتى القرن الخامس والسادس للميلاد.
مدرسة نصيبين
تقع نصيبين اليوم على الحدود التركية السورية في أقصى شمالي سورية. وكانت دائماً هذه المدينة من مدن الحدود، وكانت أيضاً تشرف على الطريق الرئيس بين شمالي ما بين النهرين، وبين دمشق. وقد دخلت المسيحية فيها حوالي القرن الثاني للميلاد وكان فيها عدد لا بأس به من اليهود بل كانت لهم فيها مدرسة أنشأها الحبر يهوذا ابن باثيرا وهو راوية شهير. وكانت مركزاً مهماً من مراكز اليهود في بلاد ما بين النهرين ردحاً من الزمن. وقد عدت مقر كرسي أسقفي حوالي سنة (300) واشتهر على كرسيها الأسقف يعقوب المعروف بمار يعقوب النصيبيني الأب الروحي لمار أفرام السرياني ومؤسس مدرسة نصيبين، التي حذا في تأسيسها حذو البطريرك اسطاثيوس مؤسس مدرسة أنطاكية على نمط مدرسة الاسكندرية الشهيرة.
وخرّجت عدداً من التلامذة أشهرهم مار أفرام السرياني الذي علّم في هذه المدرسة مدة ثمان وثلاثين سنة. ونظم فيها بعض قصائده المعروفة، وقد وصف فيها حالة المدينة ومعاناتها من الحصار الفارسي سنة (350). وعندما حاصرها سابور سنة (363) أي قبل وفاة العلامة مار أفرام بعشر سنوات، سلمت إليه المدينة فأضطر مار أفرام أن يجلو عنها مع أساتذة المدرسة وبعض أعيان المدينة، وتوجهوا أولاً إلى آمد ثم الرها. ولا نستطيع أن نتحدث عن هذا الدور الأول لهذه المدرسة كثيراً، أولاً: لأن المرحلة التاريخية ليست قريبة من الأمر الذي نتحدث فيه عن المراكز الثقافية. وثانياً: لأن شهرة المدرسة ارتبطت بشكل مباشر بشهرة مار أفرام السرياني وهو من علماء القرن الرابع للميلاد. ولا نستطيع أن نتصور هذه المدينة الهامة بدون مدرسة، ولو كانت صغيرة تضم بعض طلاب العلم والمعرفة. ومهما يكن من أمر هذه المدرسة فإن هجرة أساتذة مدرسة الرها إليها في النصف الثاني من القرن الخامس قد جعل لمدرسة نصيبين الثانية دوراً مهماً في تاريخ الثقافة السريانية فيما بعد. فعندما رحل العلامة نرساي مدير مدرسة الرها إلى نصيبين، بعد الخلاف المذهبي المرير الذي وقع في المدرسة بسبب أفكار نسطور، الراهب الأنطاكي وبطريرك القسطنطينية، الذي حرمه مجمع أفسس عام (431)، فأنقسمت جماعة الرها إلى قسمين، ودبت الفوضى في أرجاء المدينة، فحرقت كتب كثيرة. وبسبب الخلاف الفكري في المدرسة جمدت برامجها وهجر اساتذتها وتلاميذها مدينة الرها، وعمل بعضهم على تأسيس مدراس أخرى، أو تقوية مدارس كانت موجودة في المناطق الخاضعة للملكة الفارسية وبالتالي لنفوذ كنيسة المشرق التي تبنت الفكرة النسطورية. وبما أن زينون الأمبراطور الروماني أغلق مدرسة الرها، جذبت مدرسة نصيبين الثانية عدداً كبيراً من التلامذة، فواصلت مهمة مدرسة الرها في نشر النتاج الفكري في أرجاء كل المنطقة. وللملفان نرساي مؤلفات كثيرة في شروح الكتاب المقدس واللاهوت والطقوس الكنسية، وفي كتاباته نفس شرقي يدل على سمو أفكاره، وفيض حكمه، وطلاوة أسلوبه، وسحر منطقه.
وقد تعاقب على رئاسة مدرسة نصيبين بعد نرساي اساتذة كبار منهم اليشاع برقوزباية ترك مؤلفات فيا ردود ضد المجوسية وجدالات ضد الهراطقة. وابراهيم بيث رابان الذي هو الآخر تسلم إدارة مدرسة نصيبين مدة ستين عاماً، فازدهرت في عهده مدرسة نصيبين الثانية حتى بلغ عدد طلابها الألف، ولهذا السبب أجرى توسيع بنايتها. ويوحنا بين رابان وربما يكون شقيق ابراهيم بيث رابان، الذي ساهم كثيراً في النهضة الثقافية التي امتازت بها تلك الحقبة حتى أن أحد المؤخين قال: إن النظم البديعة الموجودة كان مصدرها الحقيقي يوحنا بيث رابان ويوسف اوزايا الذي حمل لقب المفسر في مدرسة نصيبين، نقل من اليونانية كتاب تكني لديونيسيوس الطراقي في النحو اليوناني. وعنه يقول ابن العبري: بأنه هو الذي غير القراءات الرهاوية بالقراءات الشرقية.
علماً أن الشرقيين يعتقدون بأن اللفظ الشرقي أقدم من اللفظ الغربي، وبولس النصيبيني الذي تلقى العلم في مدرسة نصيبين وعلم فيها وقيورا الرهاوي الذي ألف كتاب سبب الأعياد، ونقل شروحاً وتراجم عن اليونانية والجاثليق يشوع ياب الأول الذي ولد في مقاطعة بيث عربايا ودرس على يد ابراهيم بيث رابان وتولى هو نفسه إدارة المدرسة من سنة (569) إلى سنة (571)، ترك هو الآخر بعض الكتب والمؤلفات. وغيرهم كثيرون أشهرهم باباي الكبير الذي يعد من مشاهير الكتاب النساطرة الذين جالت قرائحهم، وكثرت مؤلفاتهم. وذكر عبد يشوع الصوباوي أن باباي الكبير وضع 83 كتاباً، ويمتد نشاط باباي الأدبي حوالي (33) سنة، ودارت مواضيع مؤلفاته في فلك اللاهوت وخاصة اللاهوت الجدلي الذي كان الغالب على الفكر في ذلك العصر.
ومجمل القول بأن مدرسة نصيبين كانت تشبه كلية لاهوتية من الدرجة الأولى. رغم أنها تخصصت باللاهوت العقيدي ولكن وجدت هنالك علوم أخرى مكملة كالفلسفة والمنطق واللغة والخط والموسيقى والطقوس وبعض العلوم التي تخدم الدراسات اللاهوتية. وقد استمرت مزدهرة بعد الفتح العربي ترة من الوقت، ثم ضعفت فأغلقت. ولا ريب في أن الفكر الذي ساد في مدرسة نصيبين كان فكراً شرقياً ولكنه تأثر إلى حد ما بالهيلينية، كما أثر بشكل واضح على الفكر البيزنطي. ولولا فقدان معظم النتاج الثقافي بسبب الخلافات والنشاطات والمشاحنات والحروب، لبقيت اليوم بين أيدينا مصنفات فكرية وعلمية غيّرت في مجرى الفكر السرياني فيما بعد. ولن يقتصر نشاط هذه المراكز على المعرفة والعلم، بل يتعداه إلى سائر مجالات الحياة العمرانية والفنية والصحية.
ولابد لنا أن نمر مرور الكرام على مدرسة الرها التي يعزو بعضهم تأسيسها إلى مار أفرام السرياني المتوفى سنة (373). علماً أن بعض الباحثين والمؤرخين ينسبون إليه رفع مستواها إلى مصاف عال فقط. ومدينة الرها وبالسريانية أورهؤي آورؤي واليوم أورفا وهي كلمة سريانية مركبة من (آور فايا) في تركيا، كانت عاصمة اقليم اسروين وواحدة من أمهات مدن بلاد ما بين النهرين، من حيث موقعها الاستراتيجي ومكانتها العلمية والأدبية، ومركزها كنقطة انطلاق للحركة التجارية في كل المنطقة، ودورها المتميز في نشر تعاليم الديانة المسيحية. والسريان من كل المذاهب يعتزون بمآثر هذه المدينة الخالدة، ويمجدون ذكر ماضيها التليد، ويهللون لمواقف آبائهم من أمثال: مار أفرام النصيبيني ومار رابولا القنسريني ومار يعقوب العندابي، ويؤمنون أن التقاليد والأمجاد والبطولات السالفة يمكن أن تشكل في وقت من الاوقات عنصراً هاماً لوحدتها. وكما قيل قديماً أن لا إنسان بلا تاريخ، ولا تايخ بلا إنسان، هكذا نرى أن تاريخ نشوء المسيحية وظهورها في بلاد ما بين النهرين يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتاريخ هذه المدينة. وكما كان للرها أهمية استراتيجية وعسكرية، هكذا أيضاً برز فيها النشاط الثقافي عبر تاريخها الطويل. فالأديرة التي كانت موطن الرهبان أصبحت مراكز العلم والتهذيب. وقد كتب يوحنا التلي في قوانينه: أن على الأولاد الذي يصبحون بناي قيومو (بنًي قيما) ـ أبناء العهد ـ وبنوث قيومو (بنًة قيما) ـ بنات العهد ـ أن يرسلوا إلى الأديرة ليقرأوا الكتب ويتعلموا السلوك الورع. ويشير سيغال صاحب كتاب الرها المدينة المباركة الذي نشرناه في دار الرها بحلب، إلى أن المدارس في المدن كانت داخل الأسوار حتى ولو أن الدير الذي تنتمي إليه المدرسة كان خارج المدينة. وفي مدرسة من مدارس الرها كان الصبيان والبنات يعلمون سوية. والانتقال من المدرسة إلى إحدى أكاديميات المدينة أو أحد الأديرة الأكثر شهرة في المنطقة كان يعود إلى ذكاء الطالب ومثابرته. وكان في هذه المدينة مؤسسات تعرف باسم مدرسة الأرمن، ومدرسة الفرس، ومدرسة السريان، ولكل مدرسة نظامها الخاص. ومن تلامذة الرها الذين وصلتنا أخبارهم في القرن السادس للميلاد مار يعقوب السروجي الذي درس الكتب المقدسة في الرها يوم كانوا يترجمون مؤلفات تيودورس وثيودورس وتيودوريطس وقد ذكر هو نفسه عن هذه الفترة فقال: (أظن أن عليّ أن أقول لابوتك إنني كنت في الرها منذ خمسة وأربعين عاماً كانوا يترجمون مؤلفات ثيودورس من اليونانية إلى السريانية ووجدت في المدينة مدرسة الفرس التي التحقت بتعليم ثيودورس وتعلقت به تعلقاً شديداً. فهذه المدرسة أفسدت الشرق كله مع أنها بنيت بعناية مار قورش أسقف الرها بأمر الأمبراطور المؤمن زينون وإذ كنت فتى واحتجت إلى التعليم وقع نظري على أحد مؤلفات ثيودورس فوحدت فيه عدة آراء وأفكار تناقض الحقيقة وبعد وقت قليل وقع بين يدي خطب تيودورس وثيودورس وتيودوريطس فرأيت كلهم شربوا سم التنين المر). وقد اشتهر مار يعقوب السروجي بكتاباته المنظومة وأشعاره فلقبه السريان بحق كنارة الروح القدس وقال العلامة ابن العبري: (إن سبعين ناسخاً كانوا يكتبون القصائد التي كانت تجود بها قريحته الخصبة وقد جمعت القصائد فبلغت 763 قصيدة أما كتاباته النثرية فله 43 رسالة في مواضيع مختلفة كما له مواعظ وغيرها).
وهكذا نصل إلى ختام حديثنا عن المراكز الثقافية ومواطن التعليم في بلاد ما بين النهرين في القرنين السادس والسابع الميلاديين. وهي سلسلة متصلة بما في تاريخ المنطقة القريب منه والبعيد. فكل الأديرة والمدارس والجبال المحيطة بالمدن والتي كانت مكتظة بأعداد كبيرة من الرهبان مع خزائن كتبها ومخطوطاتها التي كانت نفيسة بتنوع مواضيعها،شكلت صرحاً من صروح الحضارة في بلاد ما بين النهرين،وكل العلوم والمعارف التي بعضها كانت دور حول شروح العهدين القديم والجديد والطقوس والموسيقا الكنسية وهي غزيرة أيضاً بتنوعها، وبعضها الآخر تناولت الخط والصرف والنحو والشعر بأبوابه المتعددة، وبعضها الآخر التي احتوت على التاريخالعام والخاص وسير الآباء والشهداء والرهبان والنسك والعوابد، ثم منها ما اختص في القصص والفلسفة وعلم الطب والطبيعيات والفلك والجغرافيا والرياضيات والكيمياء، كلها كانت لتؤكد أن استمرارية رسالة العطاء على مختلف الجبهات ضرورة ملحة في سبيل التواصل الحضاري في كل المنطةق. وربما هذه الأمور هي التي كانت وراء نشر الوعي الفكري بين مختلف طبقات الشعب الأمر الذي سهل موضوع التلاحم بين ابناء الشعب الواحد للوقوف صفاً واحداً في خندق واحد ضد أعداء المنطقة. فلولا هذا النتاج الفكري الغني بالمعرفة والعلم، لما استطاعت المنطقة أن تستعيد مكانتها في ظل الحروب المدمرة التي خططت لهدر كرامة الإنسان ولمنع المسيرة الحضارية من الاستمرارية. فهذا الابداع والرقي الذي لف تاريخ هذه المراكز الثقافية في بلاد ما بين النهرين كان وراء الأجيال الكاملة من الاساتذة والعلماء والملافنة الذين أغنوا الحضارة المشرقية بنتاج أفكارهم وأعمالهم القلمية.
بعض المراجع
1ـ مار يعقوب الرهاوي:
– الأيام الستة ترجمة: غريغوريوس صليبا شمعون سلسلة ت. س(4) ط1 ـ دار الرها ـ حلب 1990
2ـ مار إغناطيوس أفرام الأول برصوم:
- اللؤلؤ المنثور في تاريخ العلوم والآداب السريانية سلسلة ت. س1 دار الرها ط5 حلب 1987
- منارة أنطاكية السريانية سلسلة ت. س6 ط1 دار ماردين ـ حلب 1992
- الدرر النفيسة في مختصر تاريخ الكنيسة ج1 حمص 1940
- تاريخ طورعبدين طب جونيه 1962
3ـ ج. ب. سيغال:
- الرها المدينة المباركة ترجمة: يوسف ا. جبرا سلسلة ت. س2 ط1 1988
4ـ إغناطيوس يعقوب الثالث:
- الأحاجي في جهاد مار فيلكسينوس المنبجي دمشق 1970
- نفح العبير أو سيرة البطريرك مار سويريوس الكبير دمشق 1970
- هبة الإيمان أو مار يعقوب السروجي أسقف بطنان دمشق 1971
- الحقائق الجلية في الأبحاث التاريخية دمشق 1973
5ـ إغناطيوس زكا الأول عيواص:
- صفحات مشرقة من تاريخ الأدب السرياني في القرن السادس للميلاد المجلة البطريركية الدمشقية الأعداد 27و28و29 ص15و23و25ــ35
هامش
([1]) ـ لقد قدّرت بلدية حلب هذا العلامة فاطلقت اسمه على شارع مهم في حي العروبة.