الوحي الإلهي
بقلم قداسة البطريرك مار إغناطيوس زكا الأول عيواص
الوحي لغةً هو المكتوب أو الرسالة، وكل ما ألقيته إلى غيرك ليعلمه، ثم غلب في ما يلقيه اللّه إلى أنبيائه([1]).
أما في الاصطلاح الكنسي فالوحي الإلهي، هو إعلان اللّه تعالى للبشر، حقائق إلهية تفوق إدراك عقولهم، ومعرفتها ضرورية جداً لخلاصهم، ويتم هذا الإعلان على ألسنة أناس اصطفاهم اللّه ودعاهم وأنار الروح القدس عقولعهم وأوحى في قلوبهم كل ما أرادهم أن يعلنوه وصانهم من الخطأ والزلل أثناء ذلك وأرسلهم ليبلغوا البشر إرادته الإلهية. فكانوا بيد الروح القدس آلات حية، عاقلة، دون أن يفقدوا إرادتهم الحرة، وقواهم العقلية. فلم يغيّر الوحي شيئاً من طبيعتهم، لذلك فقد عبّر كل واحد منهم عن الحقائق الإلهية وأعلن النبوات الصادقة، بأسلوبه الخاص، وبحسب قابليته الذهنية والعلمية، مبلّغاً البشر مشيئة اللّه بأمانةٍ تامة.
ويُدعى الوحي وحياً إذا كان مداره النبوات الصادقة، والأسرار الإلهية، والشرائع السماوية، والنواميس والسنن التي القاها اللّه على الكتبة بألفاظها وعباراتها وأرشدهم إلى تنظيم الكلام للتعبير عنها، أما إذا كان الوحي يجري على الحوادث التاريخية التي سبق لهؤلاء الأنبياء والمرسلين، معرفتها من دون الوحي فيسمى وحياً.
وتظهر إمكانية الوحي الإلهي من محبة اللّه للإنسان، فقد خلقه تعالى على صورته كشبهه، كائناً خالداً، ذا عقلٍ راجح، وضمير ثاقب، وإرادة حرة، تواقاً إلى معرفة الحقائق الإلهية، وهو يحتاج إلى الوحي الإلهي ليتمكن من فهم ما يفوق إدراكه منها. وإن صفاته العقلية والأدبية تؤهله لتقبل الوحي الإلهي الذي يعلنه اللّه له.
فالله تعالى إذن جدير بأن يهب الإنسان نعمة الوحي والإلهام، والإنسان فطر على التوق والتشوق لمعرفة اللّه والاتصال به تعالى، بل هو يحتاج إلى ذلك، والوحي هو الوسيلة الفريدة لبلوغ هذا الأرب. فعقل الإنسان مثلاً دلّه طبيعياً إلى وجود اللّه فآمن به تعالى. ولكن الوحي كشف له عما لا يستطيع من دونه أن يعرفه كسمو ذات اللّه وتثليث أقانيمه ووحدانيته بالجوهر، وصفاته الإلهية السامية وبخاصةٍ محبته العميقة للبشر، وإرساله ابنه الحبيب الوحيد لخلاص العالم. كما سنّ الوحي للإنسان النواميس والشرائع والسنن وحدد له بذلك مبادئ معاملة اللّه له ومعاملته للّه ومعاملته لأخيه الإنسان، مبيناً له مصيره الأبدي الذي يتعلق بكيفية تمسّكه بالمبادئ الإلهية على الأرض.
وعن طريق الوحي الإلهي تسلمت الكنيسة المقدسة العقائد الدينية السمحة يتضح ذلك من جواب الرب يسوع للرسول بطرس بعد اعتراف الأخير بلاهوت السيد المسيح بقوله له: «أنت المسيح ابن اللّه الحي، فأجاب يسوع وقال له طوبى لك يا سمعان بن يونا، إن لحماً ودماً لم يُعلِن لك لكن أبي الذي في السموات وانا أقول لك أيضاً أنت بطرس وعلى هذه الصخرة ابني كنيستي وأبواب الجحيم لي تقوى عليها»(مت16: 16ــ18) فالعقيدة التي أعلنها الرسول بطرس، وسائر العقائد التي أعلنها الآباء القديسون والرسل الأطهار ودوّنوها في اسفار الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، وما تسلمناه من حقائق إلهية عن طريق التقليد الإلهي والرسولي والأبوي، ليس هو من عنديات البشر، بل هو وحي من اللّه أعلنه تعالى على ألسنة أناس اصطفاهم ليكونوا واسطة لإذاعته وتدوينه. وبهذا الصدد يقول الرسول بطرس: «لأنه لم تاتِ نبوة قط بمشيئة إنسان بل تكلّم أناس اللّه القديسون مسوقين من الروح القدس»(2بط1: 21) ولذلك أيضاً أوصى الرب يسوع تلاميذه قائلاً: «وتُساقون أمام ولاة وملوك من أجلي شهادةً لهم وللأمم فمتى أسلموكم فلا تهتموا كيف أو بما تتكلمون لأنكم تُعطون في تلك الساعة ما تتكلمون به، لأنكم لستم أنتم المتكلمين بل روح أبيكم المتكلم فيكم»(مت10: 18ــ20) وقال النبي أرميا: «فقال الرب لي لا تقل إني ولد، لأنك إلى كل مَن أُرسلك إليه تذهب وتتكلم بكل ما آمرك به… ها قد جعلت كلامي في فمك»(أر1: 7و8).
- كيفية الوحي الإلهي:
يبلغ اللّه تعالى إرادته الإلهية إلى من اصطفاهم إذ يوحي في قلوبهم بطرق شتى:
فإما مشافهة، أي فماً لفم، إذا صح التعبير، كما كلّم تعالى آدم وحواء في الفردوس (تك3: 9ــ19) وكلّم النبي موسى بصوتٍ مسموع شفاهاً (عد12: 6ــ8).
أو برؤيا، يراها النبي أو الرسول وهو بين يقظان ونائم، كما حدث مثلاً لإشعيا النبي (إش6: 8و9) وللرسول بطرس (أع10: 11).
أو بحلمٍ نبوي يلقيه على عبده، كما حدث ليوسف الصديق (تك37: 5).
وبهذا الصدد يقول كاتب الرسالة إلى العبرانيين: «اللّه بعدما كلّم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثاً لكل شيء الذي به أيضاً عمل العالمين»(عب1: 1) هكذا تدرّجت وسائل إيصال الوحي الإلهي إلى الإنسان فبعدما كانت بالمشافهة والرؤى والأحلام، صارت شخصياُ بتجسد ابن الله، واتحاد لاهوته بناسوتنا وهو الكلمة المتجسد. ففيه كلمنا الله، وهو مركز الدائرة، في الحقائق الإلهية الموحى بها من اللّه منذ البدء، والمدونة في أسفار الكتاب المقدس، فعنه تنبّأ الأنبياء وفيه تمت نبواتهم بحذافيرها. وبعد أن أتمّ الفداء وخلص البشرية أرسل روحه القدوس ليحل في المؤمنين به ولتظهر مفاعيله في أفكارهم وأقوالهم وأعمالهم وقد قال له المجد: «كل شيء دُفِع إليّ من أبي، وليس أحد يعرف الابن إلا الآب، ولا أحد يعرف الآب إلا الابن ومن يريد الابن أن يكشف له»(مت13: 11) وبحلول الروح القدس على التلاميذ أعلن الابن الوسيلة التي يكشف بها عن أسراره للمؤمنين به وبذلك تمت نبوة النبي يوئيل القائل على لسان الرب: «ويكون بعد ذلك أني اسكب روحي على كلّ بشرٍ فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويحلم شيوخكم أحلاماً ويرى شبابكم رؤى»(يؤ2: 28 وأع2: 17).
- دلائل الوحي الإلهي:
إن أخص العلامات التي تميز الوحي الإلهي من ادعاءات الكذبة، هي المعجزات والنبوات.
فالمعجزة: هي حادث خارق لنواميس الطبيعة يصنع بقوة اللّه إثباتاً لأمرٍ إلهي أو تأييداً لصحة الوحي والرسالة السماوية التي يحملها إنسان مُرسَل من الله، ليبلّغ الناس إرادته تعالى، فتساعدهم المعجزة على تصديقه، ويكون سر المعجزة فائقاً لإدراك البشر، كما أن صنعها يفوق قدرتهم، فلا يستطيع صنعها إلا اللّه وحده، ولكنها قابلة للامتحان، لتتميز من أعمال الشيطان وشعوذات الكذبة. وتسمى المعجزة أيضاً أعجوبة وقوة وآية.
وبصدد عمل المعجزات لإثبات رسالة سماوية قال الرب يسوع لليهود: «إن كنت لست أعمل أعمال أبي فلا تؤمنوا بي، ولكن إن كنت أعمل، فإن لم تؤمنوا بي فآمنوا بالأعمال لكي تعرفوا وتؤمنوا أنّ الآب فيّ وأنا فيه»(يو10: 27و28). وقال الرسول بطرس عن الرب: «يسوع الناصري رجلٌ قد تبرهن لكم من قبل اللّه بقواتٍ وعجائب وآيات صنعها اللّه بيده في وسطكم كما أنتم أيضاً تعلمون»(أع2: 22) فمن كان قد نال من الله موهبة اجتراح المعجزات يكون قد أُيِّد منه تعالى بهذه القوة التي تفوق تصور البشر ومقدرتهم، وهذا ما أنعم الرب به على تلاميذه لما أرسلهم للكرازة بالإنجيل، إذ كان يثبت الرسالة بالآيات والعجائب (مر16: 15و20 وعب2: 3و4).
أما النبوة: فهي إنباء يقين بحوادث مستقبلة لا يمكن أن يُهتدى إلى معرفتها بأسبابها ومقدماتها بمجرد استدلال العقل البشري، ويجب أن يعبر عنها بألفاظ واضحة وجمل صريحة تدلّ على معنى واحد معين ومسمى، غير ملتبس ولا مشترك بين معنيين.
بفعل الروح القدس يسري إعلان النبوة إلى عقول الأنبياء الصادقين الذين دعاهم اللّه إليه، وأطلعهم على الأسرار الإلهية، وكشف لهم عن المستقبلات، وأرسلهم لإعلان إرادته للبشر.
وتعد النبوة معجزة المعجزات، ولا تتدخل النبوة في حرية الإنسان، ذلك أن اللّه يعلم مقدماً ما سوف يعمله الإنسان بملء حريته، فما يحدث لا يحدث لأنه أُنبئ به، بل بالحري أنبئ به لأن اللّه عرف أنه سيحدث.
ومن دلائل صدق الأنبياء والمرسلين، أعمالهم الصالحة التي تشهد على صدق أقوالهم، فنقاء سيرتهم وصفاء سريرتهم، وتضحياتهم ونكران ذواتهم، وتأكدهم من أنفسهم أنهم مرسلون من اللّه كل هذا يدل على مصداقيتهم للرسالة السماوية التي يحملونها وصدق هذه الرسالة وأنها موحى بها من الله. ليبلغها هؤلاء إلى البشر لخلاص نفوسهم.
الهوامش :
—————————-