خلاصة العقائد الدينية وتحديداتها في كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية
بقلم قداسة البطريرك مار إغناطيوس زكا الأول عيواص
تمهيد:
بعد حمد اللّه تعالى نقول: مما لا يختلف فيه مؤمنان أن من أهم واجبات المسيحيين الذين يسعون إلى خلاص نفوسهم، وهم يترجون الحظوة بالحياة الأبدية، أن يلمّوا إلماماَ كافياً بمعرفة حقائق الدين المسيحي المبين، وعقائده السمحة ويؤمنوا بها. ويتحلّوا بالفضائل المسيحية كافة وفي مقدمتها محبة اللّه تعالى والقريب التي يقول فيها الرسول بولس: «إن كان لي كل الإيمان حتى أنقل الجبال… ولكن ليس لي محبة فلا أنتفع شيئاً، أما الآن فيثبت الإيمان والرجاء والمحبة هذه الثلاثة ولكن أعظمهنّ المحبة» (1كو 13: 2و3 و13)، ويحثّنا الرسول بطرس على دراسة عقائدنا الإيمانية جيداً لنستعد أن نشهد للمسيح يسوع ربنا بشجاعة وإيمان ومحبة، بقوله: «قدسوا الرب الإله في قلوبكم مستعدين دائماً لمجاوبة كل من يسألكم عن سبب الرجاء الذي فيكم بوداعة وخوف» (1بط 3: 15).
وحيث قد كثرت في أيامنا هذه البدع الخبيثة، واستغل الضالون والمضلون تطور علوم التكنولوجيا وتقدمها، فنشروا بنشاط وسرعة فائقة تعاليمهم الفاسدة بين المؤمنين، فأفسدوا أفكار بعضهم وبلبلوا عقائدهم الدينية والأدبية والأخلاقية فانساق قوم منهم وراء الرذائل واقترفوا الكبائر وعبدوا الشيطان عدو اللّه والإنسان، ونسوا اللّه وشرائعه الإلهية، فتمَّ فيهم ما قاله صاحب المزامير: «قال الجاهل في قلبه: ليس إله، فسدوا ورجسوا بأفعالهم، ليس من يعمل صلاحاً. الرب من السماء أشرف على بني البشر لينظر هل من فاهم طالب الله، الكل قد زاغوا معاً فسدوا ليس من يعمل صلاحاً ليس ولا واحد» (مز14: 1ـ3).
لذلك من باب المسؤولية الرّعوية رأينا أن نلخّص العقائد الدينية لكنيستنا السريانية الأرثوذكسية، وندوّن التحديدات اللاهوتية التي هي تعريف عقائد الإيمان التي ولئن كان بعضها لا تدركه عقولنا ولكننا تقبلناه بوساطة الوحي الإلهي وآمنا به وعبّرنا عنه بعبارات مختصرة سهلة الفهم بعيدة عن الالتباس، وأوضحنا أن على أعضاء كنيستنا المقدسة المؤمنين المسيحيين أن يؤمنوا بهذه العقائد السمحة ويتمسكوا بها وينبذوا التعاليم الفاسدة والبدع الخبيثة وأن يصونوا أنفسهم من ضلالات المضلين الذين يحاولون اصطيادهم في شباكهم. وفي كل ما ذكرناه في بحثنا هذا استنرنا بنور الكتاب المقدس، الذي يقول عنه صاحب المزامير وهو يناجي الرب: «سراج لرجلي كلامك ونور لسبيلي» (مز119: 105)، كما استندنا إلى تعاليم آبائنا الميامين الذين فسروا المبادئ الإيمانية الموحى بها من اللّه والمدوّنة في الكتاب المقدس ووضّحوها. سائلين اللّه أن يجعل هذا البحث سبباً لخلاص نفوس المؤمنين وحفظهم ضمن دائرة حظيرة الرب يسوع على الأرض ليحفظوا وصاياه ويعملوا بها بإيمان، وليكن هذا البحث أيضاً سبب بركة للقراء الكرام كافة.
- مصادر العقائد الدينية لكنيستنا:
تستند عقائد كنيستنا المقدسة الإيمانية أولاً: إلى تعاليم الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، وهو كلام اللّه الحي الذي أنزله تعالى على ألسنة رجال أبرار اختارهم ليكونوا وسطاء بينه وبين البشر، فتلقنوا الوحي منه وبلّغوه إلى البشر، كما أمرهم أيضاً أن يدوّنوه في كتاب ليكون مناراً للهدى، وهو ذو سلطان كامل فيما يتعلق بالإيمان لأنه كلمة اللّه الموحى بها من الله، بهذا الصدد قال الرسول بولس: «كل الكتاب هو موحى به من اللّه ونافع للتعليم والتوبيخ للتقويم والتأديب الذي في البر» (2تي 3: 16)([1])، وجاء في سفر ارميا: «هكذا تكلّم الرب… قائلاً: اكتب كل الكلام الذي تكلّمت به إليك في سفر» (إر30: 2)، وقال الرسول بولس: «وأعرّفكم أيها الاخوة الإنجيل الذي بشرت به أنه ليس بحسب إنسان لأني لم أقبله من عند إنسان ولا علمته، بل بإعلان يسوع المسيح» (غلا 1: 11و12)، وقال الرسول بطرس: «لأنه لم تأتِ نبوة قط بمشيئة إنسان بل تكلّم أناس اللّه القديسون مسوقين من الروح القدس» (2بط 1: 21).
كما يستند دستور إيمان كنيستنا المقدسة ثانياً: إلى التقليدين الرسولي والأبوي الصحيحين والمثبتين، وإلى قرارات المجامع المسكونية الثلاثة المنعقدة في نيقية عام 325 وقسطنطينية عام 381 وافسس عام 431، وإلى كتب الطقوس الكنسية. علماً بأن التقليد الصحيح والسليم لا يتعارض مع تعاليم الكتاب المقدس بل يشرحها ولذلك فالكنيسة تحكم في صحة التقليد بحسب مطابقته لتعاليم الكتاب المقدس الموحى به من الله، ويشهد الرسل أن كل ما كتبوه وعلّموا به كان بإرشاد الروح القدس. قال الرسول بولس بهذا الصدد: «نحن لم نأخذ روح العالم بل الروح الذي من اللّه لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من اللّه التي نتكلم بها أيضاً لا بأقوال تعلّمها حكمة إنسانية بل بما يعلّمه الروح القدس…» (1كو 2: 12و13)، وبإرشاد الروح القدس وضعت تعاليم آباء الكنيسة الميامين، ذلك أن الروح القدس هو مرشد الكنيسة وقائدها ومعلمها ومرشدها إلى جميع الحق على الدوام (يو 16: 13)، وهو يذكّرها بحقائق مراحل تدبير الرب يسوع بالجسد ودقائق أمورها، وما علّمه له المجد لتلاميذه كما أنه يصونها من الخطل والزلل.
من البديهي أنه ليس للعقل البشري مهما كان ثاقباً أن يحكم في العقائد الإلهية التي أعلنها اللّه تعالى عن طريق الوحي والإلهام، لأنها تفوق إدراكه، وعليه أن يسلّم بها طالما هي موحاة من اللّه وموثّقة في أسفار الكتاب المقدس وتعاليم آباء الكنيسة الميامين وأن يحفظها جملة وتفصيلاً.
1ـ اللّه تعالى، إله واحد بثلاثة أقانيم:
الله تعالى روح محض، بسيط غير مركب، قائم بذاته، واجب الوجود من ذاته وعلة كل موجود، خالق الأكوان، ومبدع جميع العوالم، أعلن ذاته بأنه الكائن السرمدي الأزلي الأبدي، غير المحدود، ولا المتغير في وجوده وقدرته وقداسته وعدله وحقه، عالم في كل شيء، حاضر في كل مكان وهو الحي الناطق، وإن حياته ونطقه منه لا من غيره وهما أزليان بأزليته، وأبديان بأبديته. والله تعالى إله واحد من حيث ذاته وجوهره وطبعه، ذو ثلاثة أقانيم متساوين في الجوهر والقدرة متميزين في الخواص الإلهية، لا يتعدى أحد الأقانيم بصفته الذاتية إلى الآخر بصفته الذاتية أي خاصته الذاتية الثبوتية، فالله ثلاثة خواص أي أقانيم وهذه الأقانيم الثلاثة هي الآب والابن والروح القدس. فوجود اللّه عبارة عن صفة الأبوة، ونطقه عبارة عن صفة البنوة، وحياته عبارة عن صفة الانبثاق، وإن الآب هو اللّه والابن هو اللّه والروح القدس هو اللّه وليس الثلاثة ثلاثة آلهة بل إلهاً واحداً وجوهراً واحداً وعظمة واحدة، وإن القول بثلاثة أقانيم لا يعني القول بثلاثة آلهة فإذا قلنا أن أحد الأقانيم هو اللّه فإننا نعني الأقنومين الآخرين ملازمين له وإن كلاً منهم مساوٍ للآخر في جوهره له كل ما له في كل شيء فالله قائم بذاته، ناطق بابنه، حي بالروح القدس، ويُعبد الثالوث في وحدانية والوحدانية في ثالوث.
إن الابن مولود من الآب وحده ميلاداً أزلياً، والروح القدس منبثق من الآب وحده بلا زمان، فالابن الإلهي والروح القدس صادران من الآب أما الابن فصادر من الآب وحده بالولادة، وأما الروح القدس فصادر من الآب وحده بالانبثاق أزلياً بلا زمان، ولا نستسيغ التعبير بأن الآب هو علّة، والابن والروح القدس معلولان، فأن الآب سرمدي غير مخلوق والابن سرمدي غير مخلوق والروح القدس سرمدي غير مخلوق، وهم إله واحد سرمدي، وليس فيهم من هو أسبق من الآخر في الزمن.
2ـ الرب يسوع المسيح:
إن الرب يسوع المسيح هو الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، وهو ابن اللّه الوحيد وكلمته الأزلية، وفي ملء الزمان تجسّد من الروح القدس ومن مريم العذراء ليفدي البشر، وهو كامل باللاهوت وكامل بالناسوت، إله تام وإنسان تام، وقد اتخذ من جسد العذراء مريم ناسوتاً كاملاً، ذا جسد كامل بنفس ناطقة أي عاقلة، واتحد بهذا الناسوت منذ اللحظة التي بُشرت العذراء مريم بالحبل به وقالت للملاك: «ليكن لي كقولك»، بعد أن قال لها الملاك: «الروح القدس يحلّ عليك وقوة العلي تظلّلك، فلذلك أيضاً القدوس المولود منك يدعى ابن الله…» (لو1: 35ـ37)، فحلّ عليها الروح القدس ونقّاها وطهّرها من الخطيئة، حينذاك حلّ نار اللاهوت في أحشائها واتّخذ منها ناسوتاً كاملاً اتّحد به، وهو وإن يكن إلهاً وإنساناً معاً لكنّه ليس اثنين إنما هو واحد، مسيح واحد بطبيعة واحدة من طبيعتين اتحدتا اتحاداً جوهرياً وطبيعياً بلا امتزاج ولا اختلاط أو تغيير أو انفصال أو تمييز، وهو أقنوم واحد من الأقنومين الإلهي والإنساني، وبوحدانية الأقنوم فهو مشيئة واحدة من مشيئتين([2])، ولذلك نصفه أنه مولود من الآب قبل كل الدهور، ومساو للآب في الجوهر وقد تجسد في ملء الزمان من الروح القدس ومن مريم العذراء وصلب عوضاً عنا وتألم ومات ودفن، ولم ينفصل لاهوته عن روحه ولا عن جسده لحظة واحدة، وقام من بين الأموات في اليوم الثالث، وظهر لتلاميذه مدة أربعين يوماً، ثم صعد إلى السماء وجلس عن يمين الآب، وأيضاً سيأتي بمجده العظيم ليدين الأحياء والأموات، وبه وحده الخلاص، فقد قدّم نفسه ذبيحة كفارية عن العالم، وبكفارته صالح البشر مع اللّه تعالى خالقهم ومدبّرهم، وبرّر المؤمنين به وقدّسهم وأهّلهم ليصيروا أولاداً للّه بالنعمة.
إن اتحاد اللاهوت بالناسوت في الرب يسوع هو اتحاد طبيعي جوهري أقنومي وليس خيالياً ولا عرضياً، ولا بالمشيئة والإرادة فقط بل هو اتحاد حقيقي، فليس للرب يسوع المسيح بعد اتحاد الطبيعتين والأقنومين، إلا طبيعة واحدة وأقنوم واحد، وللوحدة الكاملة بين اللاهوت والناسوت صحَّ أن يطلق عليه صفات اللاهوت والناسوت في آن معاً، ولذلك فالكنيسة في التسبيح التثليثي تقول للرب يسوع: «قدوس أنت الله، قدوس أنت القوي، قدوس أنت الحي الذي لا يموت، يا من صلبت عوضاً عنا ارحمنا»، والكنيسة بذلك توجه هذه الصلاة إلى الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس الرب يسوع الذي هو ابن اللّه الوحيد وهو الذي صلب عوضاً عنا بالجسد وفدانا من أعدائنا الثلاثة الموت والشيطان والخطيئة.
ولاتحاد الطبيعتين الإلهية والإنسانية في أحشاء السيدة العذراء مريم عندما حلّ نار اللاهوت في أحشائها وأخذ منها جسداً كاملاً نظيرنا في كل شيء ما عدا الخطيّة، واتحد به أي اتحد اللاهوت بالناسوت وولد الرب يسوع من العذراء مريم بنوع خارق الطبيعة فصحّ أن ندعو العذراء مريم والدة الإله يلدة ءلؤا لأنها ولدت الإله المتجسد الذي يصفه الرسول بولس بقوله: «وبالإجماع عظيم هو سر التقوى، اللّه ظهر في الجسد، تبرّر في الروح، تراءى لملائكة، كرز به بين الأمم، أومن به في العالم، رفع في المجد» (1تي 3: 16).
3ـ الروح القدس:
إن الروح القدس الأقنوم الثالث من الثالوث الأقدس وهو منبثق من الآب وحده دون زمن كما أن الابن مولود من الآب وحده دون زمن وهما متساويان بالجوهر مع الآب، وقد أعلن الرب يسوع هذه الحقيقة الإلهية بقوله للرسل الأطهار: «إذا جاء المعزي الذي أرسله أنا إليكم من عند الآب روح الحق الذي من الآب ينبثق فهو يشهد لي»(يو 15: 26)، وقد أثبت هذه العقيدة السمحة آباء الكنيسة الأولون القديسون وأعلنها مجمع القسطنطينية المسكوني الثاني عام 381م.
وقد لخص آباء الكنيسة في المجمعين المسكونيين، مجمع نيقية عام 325 والقسطنطينية عام 381 في دستور الإيمان، إيماننا بالله الواحد بأقانيمه الثلاثة، وصفات هذه الأقانيم وخواصها وعملها بقوله: «نؤمن بإله واحد الآب الضابط الكل، خالق السماء والأرض، وكل ما يرى وما لا يرى، وبرب واحد يسوع المسيح ابن اللّه الوحيد المولود من الآب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، مساو للآب في الجوهر الذي به صار كل شيء، الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء والدة الإله، وصار إنساناً وصلب عوضاً عنا في عهد بيلاطس البنطي، تألم ومات ودفن وقام في اليوم الثالث كما شاء، وصعد إلى السماء وجلس عن يمين الآب، وأيضاً سيأتي بمجد عظيم ليدين الأحياء والأموات ذلك الذي ليس لملكه انقضاء، ونؤمن بالروح القدس الرب المحيي الكل المنبثق من الآب ومع الآب والابن يسجد له ويمجّد، الذي نطق بالأنبياء والرسل…».
4ـ الإنسان:
خلق اللّه تعالى الإنسان الأول آدم من تراب الأرض، ونفخ في أنفه نسمة الحياة، فصار حيّاً ذا نفس عاقلة ناطقة خالدة، وخلق اللّه تعالى المرأة وهي حواء إذ أخذ ضلعاً من جنب آدم وصنع منه المرأة الأولى، وقد اسكنهما فردوس عدن وسلطهما على جميع الخلائق على الأرض.
إن الصورة الإلهية في الإنسان هي الروح التي هي نسمة من الله، وهي تمثَّل بالعقل والحرية اللذين وهبهما اللّه له عندما أبدعه تعالى، وقد وهبه أيضاً الحكمة والقداسة وخلود الروح، وإن هذا يسمى بالبر الأصلي والكمال الأصلي.
5ـ حقيقة الروح البشرية:
يعتبر الإيمان بحقيقة الروح وخلودها من أهم أركان العقائد المسيحية والكتاب المقدس يوضح ذلك في آيات عديدة منها:
أ ـ أعلن سفر التكوين أن اللّه تعالى لم يخلق آدم الإنسان الأول جسداً هيولياً فقط بل منحه روحاً إذ يقول: «وجبل الرب الإله آدم تراباً من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار آدم نفساً حية» (تك2: 17).
ب ـ وجاء في سفر الجامعة في وصف حالة الموت الذي هو انفصال النفس عن الجسد قوله: «فيرجع التراب إلى الأرض كما كان وترجع الروح إلى اللّه الذي أعطاها» (جا12: 7).
ت ـ ويميز الرب يسوع ما بين الروح والجسد إذ يقول: «أما الروح فنشيط وأما الجسد فضعيف» (مت26: 41)، كما أوصى الرب يسوع تلاميذه بقوله: «لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها، بل خافوا بالحري من الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما في جهنّم» (مت10: 28).
ث ـ وجاء في الإنجيل المقدس بحسب البشير مرقس عن إقامة ابنة يائيرس من الموت ما يأتي: «وأمسك (يسوع) بيدها وقال لها طليثا قومي الذي تفسيره: يا صبية لكِ أقول قومي، وللوقت قامت الصبية ومشت لأنها كانت ابنة اثنتي عشرة سنة فبهتوا بهتاً عظيماً» (مر5: 41و42).
ج ـ كما جاء أيضاً في الإنجيل المقدس حسب البشير لوقا (23: 46) عن الرب يسوع وهو على الصليب أنه: «نادى بصوت عظيم وقال: يا أبتاه في يديك أستودع روحي، ولمّا قال هذا أسلم الروح».
ح ـ وجاء في سفر أعمال الرسل عن استفانوس بكر الشهداء ما يأتي: «فكانوا يرجمون استفانوس وهو يدعو ويقول: أيها الرب يسوع اقبل روحي» (أع7: 59).
من هذه الآيات المقدسة والعديد أمثالها يقيم الكتاب المقدس الحجّة الدامغة على أن للإنسان روحاً تخلق مع الجسد وتعطيه الحياة، وهي خالدة لا تموت ولئن مات الجسد([3]).
6ـ الخطيّة الجدية:
إن الإنسان في فردوس عدن سقط في الخطية بمحض إرادته، وبسقوطه دخلت الخطيئة إلى العالم، وفسدت طبيعة الإنسان، وبدخول الخطية دخل الموت إلى العالم، ولذا احتاج الإنسان إلى الخلاص، يقول الرسول بولس بهذا الصدد: «كأنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموتُ وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع» (رو5: 12)، «لأنه إن كان بخطية الواحد قد ملك الموت بالواحد، فبالأولى كثيراً الذين ينالون فيض النعمة وعطيّة البر سيملكون في الحياة بالواحد يسوع المسيح» (رو5: 17).
إن الإنسان من جرّاء الخطية الأولى فقد البر الأصلي أي الخلود والحكمة الأولى والقداسة الأولى، وبقي فيه العقل والحرية، ولكن في درجة ضعيفة لأن العقل أظلم والإرادة ابتدأت تجنَح إلى الشر.
إن الخطية الأصلية أو الجَّدية هي جريمة آدم المتصلة بذريته، ولذلك فالإنسان يولد بشيء من الفساد ولا يستثنى منه أحد من المولودين من النساء، إلا ابن اللّه المتجسّد يسوع المسيح المولود من الروح القدس ومن مريم العذراء منزهاً عن الخطية الجدية والفعلية على الإطلاق.
إن يسوع المسيح بموته الذي تحمّله لأجلنا وعنّا أوفى حق العدل الإلهي الذي كان ساخطاً بسبب خطية آدم التي تدعى الخطية الأصلية أو الجدية، وصالح الإنسان مع الله، ولقد وهب السعادة الأبدية للمؤمنين وأنار البشر بتعاليمه وخلف لهم سيرته الكلّية الطهارة والقداسة مثالاً ليتمثلوا به.
7ـ التجديد أي الولادة الثانية من فوق:
إن التجديد أي الولادة الثانية من فوق (يو3: 3 ـ 9)، هو الشرط الذي به يتم تصالح اللّه مع الإنسان، ولا يتم إلا بالتوبة ونيل سر المعمودية وهي العلاقة المنظورة التي بها يعطى المؤمن نعمة الروح القدس بعد خروجه من جرن المعمودية ونيله مسحة الميرون المقدس فيحل عليه الروح القدس، فيتبرّر المؤمن من الخطيّة الجدية والخطايا الشخصية ويتقدس ويصير ابناً للّه بالنعمة، فهذا التجديد يسمّى أيضاً التبرير، وهو يغير الإنسان أدبياً، فبعد أن يكون عبداً للخطية وشريراً يصير حراً وباراً، وإن هذا التبرير يصير بالإيمان الحي الحقيقي بيسوع المسيح، وبالأعمال الصالحة، «هكذا الإيمان أيضاً إن لم يكن له أعمال ميت في ذاته» (يع2 :17)، ومن ثم فالأعمال الصالحة ضرورية للخلاص ولكنها لا تعتبر العلّة الأولية لخلاص الإنسان، فالخلاص يستلزم التوبة عن الخطية كما يستلزم الإيمان بالمسيح يسوع ابن اللّه الوحيد رباً وإلهاً ومخلصاً، ونيل سر المعمودية المقدسة باسمه.
8ـ الملائكة([4]):
خلق اللّه تعالى جميع الملائكة مباشرة بذاته أرواحاً عاقلة لطيفة مجرّدة عن الأجساد الكثيفة، وذات أجسام لطيفة جداً (1كو15: 40 و41) و(عب1: 7)، غير منظورة بالعين المجردة، ولا تخضع للحاجات التي تحتاجها أجسادنا البشرية، وغير قابلة للموت، وجعل مسكنهم السماء وبالأخص السماءين العلويتين، وقد يظهرون بأجسام وقتية مختلفة وأشكال شتى يستخدمونها لتؤهل الناس للاطمئنان إلى رؤيتهم والتحدث إليهم، بهذا الصدد يقول الرسول بولس: «الصانع ملائكته أرواحاً وخدامه لهيب نار» (عب1: 7)، لهم القدرة على التصرّف بحسب ما هو معيّن لهم، متأهبون على الدوام لتنفيذ أوامر اللّه ومراعاة أحوال العالم ويساعدون الناس ويحرسونهم.
وتجلّت عنايته تعالى بهم إذ شرّفهم بالتسبيح والتمجيد لذاته تعالى (مز103: 20). ولكن فريقاً منهم مع رئيسه (سطنائيل) تخلّى عن ذلك تكبراً فسقط عدلاً عن رتبته السمائية العليا إلى الحضيض (يه6) ومن ثم انقسم الملائكة إلى نوعين هما:
1ـ الملائكة الأخيار القديسون.
2ـ الملائكة الأشرار الساقطون وهم الشياطين (يه1: 6).
وكل من الفريقين مراتب وأجناس لا من حيث الطبيعة العامة بل من حيث المقام والعمل.
ورؤساء الملائكة الأخيار الأكثر شهرة هم سبعة، ورئيس الملائكة الأشرار هو إبليس (مت4: 24) و(يه1: 9).
وأعمال الملائكة الأخيار هي السجود والتقديس والتسبيح لله وخدمة القديسين وإمدادهم وحراسة الناس وتقديم صلوات القديسين له تعالى، ومحاربة الشياطين (يه1: 9)، وحمل أرواح الموتى الصالحين (لو16: 22)، وحراسة الممالك والكنائس وتدبيرها، وفرز الأبرار من الأشرار يوم الدينونة (مت13: 39 ـ 41).
أما أعمال الملائكة الأشرار فهي خداع البشر وإسقاطهم (تك3: 1)، وامتحان المؤمنين بالتجارب وبلايا شديدة بسماح من اللّه (أي1: 6ـ19)، والشكوى ضدهم أمام الله، والدخول ببعض الناس وإيذاؤهم ومساعدة المشتغلين بالسحر.
عددهم:
الملائكة لا يولدون ولا يُزَوَّجون ولا يزوِّجون ولا يتناسلون ولا يشيخون ولا يموتون (لو20: 36) و(مت22: 30)، وهم موجودون في السماء وبالأخص السماءين العلويتين، ويرسلون إلى الأرض لخدمة البشر، وقد سموا ملائكة لأنهم الرسل الذين يرسلهم اللّه في تدبير سائر الخلائق، وقد خلقهم اللّه بأعداد هائلة للعناية بالمؤمنين ورعايتهم وحراستهم وإنقاذهم.
قوتهم وقدرتهم وعملهم:
يفوق الملائكة بني البشر معرفة، وعلماً، وقوة، وقدرة، ولكمال طبيعتهم يعرفون الأمور المستقبلية التي لا بدّ من وقوعها، أما الأمور المقيدة بإرادة حرة سماوية أو أرضية فلا سبيل لهم إلى معرفتها، لأن معرفتها من خصائص اللّه تعالى، والكتاب المقدس مليء بذكر الخدمات التي قدمها الملائكة للبشر تنفيذاً لأوامر اللّه تعالى.
شاءت عناية اللّه ومحبته للبشر أن يقيم تعالى لكل إنسان مؤمن ملاكاً يحرس نفسه وجسده ويلازمه حالما يولد وإلى أن تنفصل نفسه عن جسده فتعود الروح إلى اللّه باريها.
والملاك الحارس يرافق المؤمن في هذه الحياة ويحمل صلاته إلى اللّه ويتشفّع به وإليه تعالى، والملاك الحارس ولئن كان يسكن السماء ولكن بإمكانه أن يهرع إلى الأرض بلحظات لإتمام خدمته بحراسة من أوكلت إليه حراسته (مت18: 10)، وعند انفصال النفس عن الجسد بالموت يحمل الملائكة أرواح الصالحين ويصعدون بها إلى العلا (لو11: 22) ليدخلوها إلى فردوس النعيم.
رتب الملائكة:
ينقسم الملائكة من حيث المقام والعمل إلى فرق منظمة ورتب ثلاث: عليا ووسطى وسفلى، في الرتبة الأولى: الكروبيم (تك3: 24) والسرافيم (اش6: 1ـ4) والعروش (كو1: 16)، وفي الرتبة الثانية: الأرباب والأجناد والسلاطين (1بط3: 22)، وفي الرتبة الثالثة: القوات ورؤساء الملائكة والملائكة (1بط3: 22)، وهذه الرتب ترمز إلى رتب الكهنوت المسيحي الثلاث وهي: الأسقفيّة والقسوسيّة والشماسيّة.
معرفتهم:
معرفة الملائكة عقلية ولا يوجد عندهم معرفة حسية كما يوجد عندنا لأن المعرفة الحسية تحصل بواسطة الجسم وهم لا جسم لهم ولا قوتهم العقلية أكمل من معرفتنا.
هذا ولا بد أن نذكر أنهم لا يعرفون كل شيء لأن لهم طبيعة محدودة، إنما اللّه تعالى وحده يعرف جميع الأشياء. يعرفون ما يحدث في العالم الخارجي، لكن لا يعرفون أفكار القلوب لأن هذه الأفكار اختيارية أي متوقفة على حريتنا واختيارنا، لا يعرف الملائكة المستقبلات ما لم يوح بها من اللّه إليهم، وبحسب طبعهم يوجد فيهم حبٌّ كاملٌ لله وأنفسهم ولجميع المخلوقات.
أسماء بعض الملائكة:
ورد في الكتاب المقدس أسماء ملائكة من الرتبة الأولى وهم:
1ـ جبرائيل: ومعناه رجل اللّه أو أظهر اللّه ذاته جبّاراً (دا 8: 16 و9: 21)، وهو ملاك بشارة سر التجسد والفداء وهو الواقف أمام اللّه (لو1: 19).
2ـ ميخائيل: ومعناه من مثل اللّه (دا 10: 13و21)، وهو الذي سيدعو الموتى للقيامة (1تس4: 16).
3ـ رافائيل: أي اللّه قد شفى (طوبيا 12: 15).
الملائكة الأشرار وسقوطهم في الخطية:
إن للملائكة إرادة حرة وقد دخلوا في تجربة فسقط بعضهم مع زعيمهم بخطية الكبرياء والتمرد والمعصية، وسموا الملائكة الأشرار وهووا إلى أسافل الجحيم، وحفظوا إلى دينونة اليوم العظيم بقيود أبدية تحت الظلام (يه 1: 6)، (2بط 2: 4). وهم عدد هائل من جميع الرتب ورئيسهم دعي إبليس أي المجرب والمشتكي (أش 14: 12) ويدعى أيضاً الشيطان أي المضاد أو المخاصم أو المقاوم وأطلق عليه أسماء عديدة، وقد احتفظوا بطبيعتهم من حيث القوة والفهم والمقدرة وعدم الهيولية، ولكن هذه الطبيعة إذ سقط صاحبها تحوّلت إلى الشر وابغضوا الإنسان وحسدوه ونسله لأنه نال حظوة لدى اللّه إذ خلقه تعالى على مثاله كشبهه عاقلاً ناطقاً وسلّطه على الكائنات.
الهوامش :
——————————————————–
([1]) ـ القانون العقيدي ـ للمؤلف ـ المجلة البطريركية ـ دمشق العدد 87 أيلول 1989.
([2]) ـ أنظر كتاب بحوث لاهوتية عقيدية للمؤلف ج2، ص 86 ـ 94، الطبعة الأولى، منشورات دير مار يعقوب البرادعي للراهبات ـ العطشانةـ لبنان سنة 1998.
([3]) ـ أنظر كتاب بحوث لاهوتية عقيدية للمؤلف ج2، ص 86 ـ 94، الطبعة الأولى، منشورات دير مار يعقوب البرادعي للراهبات ـ العطشانةـ لبنان سنة 1998.
([4]) ـ للمؤلف بحث مسهب في موضوع الملائكة، يجده القارئ الكريم في كتاب بحوث الجزء الثاني، ص 229 ـ 243، الطبعة الأولى، منشورات دير مار يعقوب البرادعي للراهبات ـ العطشانة ـ لبنان.