مواعظ أعياد الميلاد
لنيافة الحبر الجليل مار غريغوريوس يوحنا إبراهيم
متروبوليت حلب وتوابعها
من عام 1997 لعام 2011
1997
أيها الأحباء ….
يحتفل العالم المسيحي في هذه الليلة المباركة بعيد ميلاد ربِّـنا يسوع المسيح في مغارة متواضعة في بيت لحم. هذا الميلاد العجيب الذي في نظرنا نحن المسيحيين غيَّـر الكثير من المفاهيم في حياة الإنسان وأعطى للبشرية نظاماً جديداً أدخل بواسطته البهجة إلى القلوب. والسعادة إلى النفوس. والراحة الكاملة إلى ضمائر الناس. فحالات التمزّق والصدع والانقسام والتشتّت والغربة التي عاشها الإنسان قبل حدث الميلاد العجائبي، وحالة الانتظار التي استغرقت عدة قرون لتحقيق نبـوّات فاه بها أنبياء العهد القديم، وحالة الفراغ الروحي التي عاشها الإنسان في الأجيال السابقة لتجسد ابن الله، كّلها شكّـلت صفحة مأساوية في تاريخ البشرية لهذا فالإنسان تمرّغ في الخطيّـة وتشبّـث بالشرور وتمسّـك بالرذيلة، وتغيَّرت المفاهيم الأخلاقية في ذهنه واستبدل اللين بالقسوة، والعدل بالظلم، والمحبة بالكراهية والحقد، وكل أنواع الفضائل بالشرور المختلفة.
هذه الأمور مجتمعة كوّنـت صفحة قاتمة في حياة الإنسان قبل الميلاد، فجاء ابن البشر، على حد كلام الإنجيـل، وفتح صفحة جديدة من العلاقات بين الله والإنسان.
ونحن منذ عشرين قرناً نعيش في الكنيسة المقدسة على هذا الرجاء. وعن هذه المرحلة يتحدّث القديس بولس في رسالته إلى أهل غلاطية قائلاً: ” ولكن لمّا جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة، مولوداً تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني. ثمّ بما أنكم أبناءٌ أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخاً يا أبا الآب. إذاً لستَ بعدُ عبداً بل ابناً، وإن كنت ابناً فوارثٌ لله بالمسيح”.
يختلف القديس يوحنا عن بقية الإنجيليين في عرضه لموضوع التجسد الإلهي. إننا نقرأ في افتتاحيته كما يلي:
” في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله. هذا كان في البدء عند الله. كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان “. بعد هذه الشهادة القويّـة للكلمة الذي كان عند الله، وكان هو الله، يُعلن أنّه ” فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس. والنور يضيء في الظلمة، والظلمة لم تدركه “.
وعند حديثه عن هذا الإنسان المرسل من الله أي يوحنا المعمدان ابن زكريا الكاهن واليصابات، يؤكد أنه جاء فقط للشهادة، ليشهد لمن ؟ ليشهد للنور، لكي يؤمن الكلّ بواسطته.
يوحنا الإنجيلي أيها الأحبة في حديثه عن الميلاد بأسلوبه المميَّـز يكشف لنا هذا العمق الإلهي من أعماق الكلمة. في الكلمة أي في يسوع المسيح ابن الله الوحـيد كما نردد في قانون الإيمان النيقاوي ـ القسطنطيني، الحياة أصلاً وأساساً كإحدى خصائص الجوهر الإلهي الأزلي.
أجل، ” فيه كانت الحياة لأن كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان “.
ما هي علاقة الحياة بالنور ؟
يستعمل يوحنا كلمة الحياة في إنجيله أكثر من ثلاثين مرة وهو يريد أن يعطي فكرة جديدة لمفهوم الحياة الأبدية عند المسيحيين، خاصة وأنّـه سمع يسوع المسيح يقول يوماً وبصوتٍٍ عالٍ وأمام جماهير غفيرة جاءت لتسمع له: ” أنا هو الطريق والحق والحياة، أنا هو نور العالم ” وبإعلانه الصريح للحياة يريد أن يَـنفي معنى الموت الذي طغى على فكر الإنسان. وعندما يتحدث صاحب الإنجيل مار يوحنا عن النور يقول : ” والنور يضيء في الظلمة والظلمة لم تدركـه “. يضع النـور في مقابل الظلمة أي يضع الوجود في مقابل العدم.
إن يوحنا الرسول وإن ابتعد في إنجيله المقدس عن هذا السرد الكرونولوجـي التاريخي في موضوع ميلاد ربنا يسوع المسيح كما فعل غيره من الإنجيليين، لكنه باستخدام عبارات مثل الطريق والحق والحياة والنور يريد أن يعبَّر عن المعنى الحقيقي لما حصل للإنسان بعد ميلاد ربنا يسوع المسيح في مغارة بيت لحم.
في مكان آخر وعندما يتحدّث الرائي يوحنا عن الدينونة يشرح بعبارة واضحة مفهوم الكلمة في المسيحية ويقول: وهذه هي الدينونة أن النور قد جاء إلى العالم. وبدخول النّـور إلـى ظلمة العالم انقسم عالم الإنسان إلى إنسان النور وإنسان الظلمة. وإن كان إنسان الظلمة يعيث فساداً وتخريباً ولكن لن يتغلب غير الموجود على الموجود فإنسان النور اكتسـب وجوداً أزليـاً، أما الظلمة فتنتهي إلى العدم ولن يبقى إلا النور.
أيها الأحباء….
في هذه الليلة المباركة التي فيها نعيش حدث الميلاد وما رافق الميلاد من ظهور الملائكة لزكريا الكاهن، ومريم العذراء، وظهور الملائكة أيضاً للرعاة في ليلة الميلاد. ومع ذلك النشيد الخالد الذي ردّدته ملائكة السماء :
ةشبوحة لالؤا بمروما وعل ارعا شلما وشينا وسبرا وطبا لبنينشاه.
” المجـد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البـشر”، ومع كل الأحداث الأخرى التي تذكرها الكنيسة وتتخذ منها عبراً ودروساً في مسيرتها الطويلة، نحن نعيش مع أفكار يوحنا الإنجيلي في أن الذي حصل لنا بالميلاد كان أمراً استثنائياً في تاريخ البشرية لأن هذا النور أي يسوع المسيح الإله المتجسّد أبعد الإنسان عن الظلمة، وبالحياة، ابتعدنا نحن بني البشر عن الموت.
أيها الأحباء….
أود أن انتقل معكم إلى موضوع آخر بمناسبة نهاية هذا العام وبدء العام الجديد سنة /1998/، وقبل كل شيء أتمنى للحاضرين والسامعين ولكل ذوي الإرادة الطيبة عاماً جديداً حافلاً بالمسرات والأفراح والنجاح في كل ميادين الحياة.
في نهايات السنة القادمة وتحديداً في كانون الأول القادم سيكون لقاءٌ كبيرٌ لأكثر من ثلاثمئة كنيسة تمثل كل الكنائس الأرثوذكسية ومعظم الكنائس البروتستانتية، في جمعية عمومية ثامنة لمجلس الكنائس العالمي التي ستنعقد في مدينة هراري في زيمبابوي. وبما أن كنيستنا هي عضو فعّال في هذا المجلس وموضوع هذه الجمعية هام بالنسبة إلينا، لذلك أريد أن أتحدث عن هذا الموضوع باختصار طالباً أن تصلّـوا إلى الله تعالى عزّ وجلّ ليوفّـق كنيسته المقدسـة التي افتداها بدمه الزكي ويكون مع قادتها الذين كرّسهم للخدمة والعطاء في هذا المسعى الوحدوي الذي يدعو إلى إعادة اللُّحمة بين مختلـف كنائس المسيحيين وإبعاد كل أسباب الشقاق والانقسام لتحقيـق رغبة ربنا يسوع المسيح في إنجيله الطاهر بأن نكون ” رعية واحدة لراع واحد” يسوع المسيح “.
إن موضوع هذا اللقاء مُـتوَّج بشعار : إلى الله توجهوا وبالرجاء ابتهجوا. وهل من ملجأ آخر للكنائس المسيحية في حالات انقساماتهم سوى الله، وهل من منفذ آخر لمؤمني ومؤمنات هذه الكنائس سوى الرجاء، خاصةً عندما تعيش كنائس المسيح لحظات عصيبة في زمن تتقاذفه أزمات وتحديات كثيرة.
إن هذا الشعار يدعو كل الكنائس دون استثناء إلى عملية حضّ، يدعوهم إلى المناداة معاً بالإيمـان المسيحي الحقيقي، يدعوهم إلى إعطاء رسالة رجاء وحياة جديدة، إلى عالم يسيطر عليه الشّـك واليأس والعدمية. إنها رسالة تدعو المسيحيين جميعاً إلـى عيش هذا الإيمان من خلال الشهادة والدعوة والخدمة رداً على الظلم والألم اللذين ترزح الإنسانية وعالم الطبيعة معاً تحت وطأتهما.
وباختصار أيضاً أقول لكم أيها الأحباء أنّ هذا الشعار يدعو الناس من مختلف الكنائس إلى الطاعة المسيحية التي فقد معانيها الحقيقية المسيحيون عبر الأجيال والدهور.
التحدي الذي نتحدث عنه اليوم في كنيسة المسيح يتمثل بوجود وضع مسكوني متوازن ما بين الثبات والتسليم. والكنائس المسيحية في المئة السنة الأخيـرة من هذا القرن تعـلّـمت التأمل والعبادة والشهادة والخدمة معاً. هناك علاقات كما تقول دراسة حديثة في موضوع المسكونيات تؤكد بأن الكنائس أصبحت مستعدة لدخول مرحلة تالية من الحركة المسكونية، مرحلة تتحرك من الآن مع بعضها وقد تقدّمت من المقارنة إلى النقاش نحو قرار بشأن الخطوات التالية في مسيرتها إلا أنها تتردد.
ونحن في هذا الشرق لا نرى أنفسنا مضطرين خاصة ككنائس وقد متـنت العلاقات المسكونية بيننا بمختلف مذاهبها وطوائفها، ورغم تعدد ثقافاتها ومصادر حضاراتها وخلفياتها التاريخية والليتورجية واللغوية وغيرها، لا نرى أن ما تسميه كنائس الغرب بالشتاء المسكوني ينطبق على كنائسنا المسيحية هنا في هذا الشرق الحبيب. إلى أن موضوع اللجوء إلى الله والفرح بالرجاء يجعلنا أن نتشجع أكثر فأكثر ونشعر أنه بالنعمة يتوجه الله إلينا في هذه الأيام العصيبة وبالإيمان نستجيب عاملين بالمحبة ونتطلع إلى ملء وجود الله الآتي والنهائي في كل الخليقة.
يليق بنا أيها الأحباء، ونحن نودع هذا القرن ونستعد لملاقاة قرن جديد نأمل أن يكون فيه كل الخير للبشرية جمعاء. يليق بنا أن نعيش هذا الرجاء بفرح وأن نتوجه إلى الله خاصة وأننا نحتفل في هذه الليلة بعيد الميلاد في مغارة بيت لحم. هذا الميلاد الذي أعادنا إليه تعالى اسمه وتقدّس بعد غربة طويلة وأدخل رجاءه الحي إلى قلوبنا بعد أن كنّـا نعيش أزمات اليأس والفشل.
إنّـني من على هذا المذبح المقدّس من كاتدرائية مار أفرام السرياني أرفع التهاني إلى راعي رعاة كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية قداسة سيدنا البطريرك المعظم مار اغناطيوس زكا الأول عيواص الكلي الطوبى سائلين مولود بيت لحم القدوس أن يمدّ في عمره لسنين عديدة وأعوامٍ مديدة، ليرعى كنيسة المسيح رعايةً أبوية صالحة.
وقداسته في هذه الأيام يستعدّ للسفر إلى استراليا، هذه القارة البعيدة ليلتقي أبناءه الروحيين ويباركهم ويعزّز الإيمان في قلوبهم ليبقوا أبـناءَ بررة في كنيسة الآباء أوفياء لتراثهم السرياني ولغتهم التي تقدّست بفم يسوع المسيح وأمّه الطوباوية ورسله القديسين. كما أننا نصلي في هذه الأيام من أجل بلدنا سورية الحبيبة البطلة التي تنعم بالأمن والراحة والعلاقات الطيبة بين مواطنيها بفضلٍ من الله وبرعاية المسؤولين وعلى رأس الكل سيادة الرئيس المناضل القائد العربي الفذّ الرئيس حافظ الأسد أطال الله في عمره وحفظه بالصحة والعافية ليرعى سوريا ومواطنيها رعايةً صالحة لتبقى دائماً في مكان الصدارة بين بقية الدول وتنعم بالازدهار والتقدّم في المجالات والميادين كافةً.
وإليكم أنتم أيها الأحبة يا من حضرتم لهذه الكنيسة ومن يسمع إلينا وإلى كل الطّـيبين والأوفياء والمخلصين تهنئتنا بالأعياد السعيدة والعام الجديد المبارك لكم ولنا وللجميع نتمنّى عاماً جديداً حافلاً بالمسرّات.
عيد الميلاد
1997
1998
ܒܫܶܡ ܐܒܐ ܘܒܪܐ ܘܪܘܚܐ ܩܕܝܫܐ ܚܰܕ ܐܠܗܐ ܫܰܪܝܪܐ ܀ ܐܰܡܝܢ
ܒܪܝܟ̣ ܡܘܠܕܗ ܕܡܪܢ
قال مار أفرام شمس السريان ونبيّهم في إحدى أناشيد الميلاد عن التجسّد ومفاعيله: ” قد صنع الرحوم حقاً كل هذه التغييرات متعرّياً عن المجد ولابساً جسداً إذ كان قد أوجد طريقةً ليخلع على آدم ثانيةً ذلك المجد الذي كان قد خلعه. لُفَّ المسـيح في أقمطةٍ تُماثل أوراق آدم، لبس المسيح ثياباً بدلاً من جلود آدم، عُمِّد من أجل خطيئة آدم، حُنِّط جسده من أجل موت آدم، قام وأقام آدم في مجده، تبارك مَن نزل ولبس آدم وصعد “.
هذا هو أيها الأحبة تاريخ الخلاص بأكمله. مار أفرام السرياني يبدع بكلماته وهو يتحدّث عن التجسد الإلهي، متّخذاً صورة ارتداء ونزع الثياب طريقاً للعبور إلى المعاني العميقة التي تكمن وراء التجسد الإلهي. فهنالك سقوط وارتفاع، السقوط الذي حصل في جنة عـدن بالخطيئة وفيه تجاوزٌ للوصية الإلهية، هذا السقوط أدى إلى نزع ثياب عن آدم أو بعبارة أخرى إلى التعري من المجد ـ المجد الإلهي الذي كان يحيط بآدم وحواء، السقوط الذي فتح أعين آدم وحواء فعرفا أنهما أصبحا عريانين أي خاطئين وبالتالي بعيدين عن الله. وهذا ما يُعرف بحلّة المجد بحسب تعبير الكتاب المقدس.
أما الارتفـاع، فجاء عند عملية الارتداء. وكما يقول الكتاب أيضاً: ” لابساً جسداً ” فمار أفرام السرياني بعبارته: ” لبس المسيح ثياباً بدلاً من جلود آدم” يريد أن يغوص في أعماق معنى التجسّـد الإلهي.
صورةٌ رائعة متماسكة معبّرة عن تاريخ الخلاص من التكوين ـ أي خلقة آدم الأول ـ إلى السقوط بسبب الخطيئة، عبر التجسد الذي حصل في مغارة بيت لحم قبل حوالي ألفي عام إلى سرين مقدسين تعيشهما الكنيسة: سر المعمودية، ” فالمسيح عُمد من أجل آدم “، وسر الافخارستيا الذي به نحيا ونبتعد عن الخطيئة، حتى القيامة المظفرة التي حصلت بعد أسبوع طويل من الآلام ” فقام المسيح وأقام آدم في مجده تبارك من نزل ولبس آدم وصعد “.
أيها الأحباء: في عيد ميلاد ربنا يسوع المسيح، لسنا أمام حدث تاريخي أو قصة تروى كباقي القصص بل نحن أما مسـيرة طويلة عرفتها البشـرية انتقلت خلالها من عصور الجهل والتخلّف والتمرّغ بالخطيئة إلى عصر النور والمجد الذين عاشتهما البشرية بعد طول انتظار.
من هنا نرى أن مار أفـرام، وهو واحدٌ من آبائنا السريان، يتناول موضوع التجسد من خلال حديثه عن حلّة المجد أو النور وكأنه يريد أن يعطي تفسيراً لقول سفر التكوين: ” وصنع الرب الإله لآدم وامرأته قمصاناً من جلدٍ وألبسهما “.
لقد تساءل مفسرو الكتاب المقدس القدماء عن معنى القمصان فيما إذا كانت قبل السقوط أو بعد السقوط، وبحسب شروحات الكتاب المقدس أن هذه القمصان كانت تعبر عن ثوب المـجد أي حلة المـجد. ولهذا عندما يقول الكتاب في مكان آخر: ” كان كلاهما عريانين وهما لا يخجلان ” كان هذا بسبب المجد الذي به كانا متسـربلين. فعندما أخطأا جُرِّدا من هذا المجد، فهرعا إلى أرواق التين ليأتزرا.
ففي التجسد الإلهي، استعاد الإنسان تلك الحلة التي تَجَرّد منها بسبب الخطيئة. يقول مار أفرام أيضاً في مكان آخر من أناشيده: ” جاء المسيح ليجد آدم الذي كان قد ضلّ، جاء ليرجعه إلى جنة عدن في ثوب النور.” إذاً ما دام التجسد طريقاً إلى إعادة حلة المجد والنور إلى الإنسان ينبغي أن نتأمل في عيد ميلاده المجيد كيفية تجدّد هذه الحلة عند الإنسان.
تأملوا أيها المؤمنون سر المعمودية، الذي هو واحد من الأسرار السبعة، بل هو الباب الوحيد للولوج إلى حظيرة المسيح. بدون العماد لا يستطيع الإنسان أن يدعى مسيحياً. الذي حدث على نهر الأردن عندما جاء يسوع المسيح إلى يوحنا المعمدان تسجّـل في تاريخ الكنيسة كصفحةٍ جديدةٍ تُـفتَح بين الإنسان والله. ففي نهر الأردن، افتتح المسيح المعمودية وظهر الثالوث الأقدس للحواس البشـرية. كان ظهور الآب بحاسة السمع بواسطة الصوت الإلهي، والابن يعتمد بحاسة اللمس، والروح القدس بحاسة النظر إذ نزل بشكل الحمام الجسماني. ففي المعمودية الكلمـة ليس فقط يلبس جسداً وإنما يلبس أيضاً مياه المعمودية. يقول مار أفرام : ” رغم أن المسيح منزّهٌ عن الموت بطبعه فقد ألبس نفسه جسداً مائتاً. لقد اعتمد أو غاص واستخرج من الماء كنز الخلاص لجنس آدم “. ونحن في المسيحية عادةً نربط بين معمودية المسيح ومعموديتنا، معمودية المسيح في أحشاء الأردن وهذه هي الولادة الجديدة ومعموديتنا في جرن المعمودية وهو الميلاد الثاني للإنسان. المسيح جاء بميلاده بالجسد ليرفع الحاجز بين الله والإنسان. ودرب الخلاص بعد التجسد يأتي من المعمودية التي تزيل بقع الخطايا لتجعل من الأجساد الملطخة بأوساخ الدهور أجساداً مؤهلة لحلة الروح المعطاة من قبل ربنا.
نحن في هذا اليوم إذ نحتفل بعيد ميلاد ربنا يسوع المسيح بالجسد في مغارة بيت لحم ونتأمل مسيرة البشرية قبل التجسد، تلك البشرية التي كانت بحاجة إلى حلة المجد والنور لأنها كانت ممرّغة بالخطايا.
ونتأمل من ناحية ثانية، كيف أن التجسد الإلهي أزاح عن كاهل البشرية ثقل الخطية، لهذا نفرح عندما نقترب من جرن المعمودية ونحن نتصور ميلاد الرب في مغارة بيت لحم، لأننا بالمعمودية نستعيد حلة المجد المفقودة، أو كما يقول بولس الرسول: ” نلبس المسيح فنصبح أبراراً ” يقول أيضاً مار أفرام السـرياني : ” الجسد والروح سويةً يعظمانِـك لأنهما قد اعتمدا بك ولبسا إياك. يا أبناء جرن المعمودية، أيها الأطفال الذين لبستم النار والروح بدون بقع، صونوا الحلة المجيدة التي لبستموها من الماء. من يلبس حلة المجد من الماء والروح سيقضي باحتراقها على نموّات أشواك خطايـاه “.
ففي الميلاد، لا نتحدّث فقط عن بشارة العذراء وحلم يوسف وزيارة مريم لإليصابات والذهاب إلى بيت لحم والولادة في المغـارة وظهور الملائكة في تلك الليلة منشدين ” المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السـلام والرجاء الصـالح لبني البشر “، ولا عن زيارة المجوس أو العجائب التي رافقت الأحداث الإنجيليـة، وإنما نتأمل المعاني العميقة وراء الميلاد عندما نتصور أبوينا الأولين آدم وحواء وكيف تمرّغا بالخطيئة وكانت الحاجة تدعو إلى هذا الحدث العجائبي، إلى الميلاد الإلهي، إلى مجيء ابن الله ـ الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس ـ عند ملء الزمان، لابساً جسداً مثلنا ما عدا الخطيئة، ليحررنا من الخطيئة.
إذاً ميلاده يدعو كل خاطئ ليفكر في حلة المجد والنور التي يحتاجها لحضور حفلة الزفاف عندما يأتي العريس الرب يسوع في آخر الأيام ليدعو الناس إلى وليمة العرس. فبدون حلة المجد والنور لا يكون لنا نصيب في ذلك اليوم.
يقول أيضاً مار أفرام : ” أن البكر لفّ نفسه في جسدٍ بحجابٍٍ ليحجب مجده، هوذا العريس المنزّه عن الموت يتألق في تلك الحـلة، دعِ المدعوين لثوبهم يشابهونه في ثوبه المتألق، فلتتألق أجسادكم التي هي ثوبكم لأنها تقيّد بالانحلال ذلك الإنسان الذي كان قد تلطّخ جسده، بيّض يا رب بقعي في وليمتك بشعاعك “.
أيها الأخوة والأخوات، أعرف أن هناك صعوبة في فهم هذه المعاني ولكن حقيقة الميـلاد تكمن وراءها. فلولا الخطيئة التي اقترفها آدم وحواء لما كان التجسد الإلهي، فآدم مات بسبب الخطيئة، والذي كان متجسّداً أبطل الخطيئة أي أبطل الموت وأعاد الحياة للإنسـان. إذاً نحن نفتش في ميلاد ربنا يسوع المسيح عن علاج الحياة. يقول مار أفرام أيضاً: ” عَمّد ربنا الجنس البشري بالروح القدس وغذّاه بعلاج الحياة ـ علاج الحيـاة هو سر الافخارستيا ” فالدخول إلى الكنيسة عند المعمودية هو عودة إلى الفردوس، ولكن فردوس الآخرة التي ترتقبها الكنيسة هو أبهى مجداً بكثير من الفردوس الأولي الذي ينقلنا إلى فردوس الآخرة هو سر الأفخارستيا.
وكما يقول مار أفرام أيضاً : ” بواسطة الخبز الروحي يصير كل إنسان نسراً يصل حتى الفردوس، من يأكل خبز الابن يطير ليلقاه في الغيوم بذاته “. هكذا يعبر مار أفرام السرياني عن العلاقة الوثيقة بين التجسد والمعمودية من ناحية، والتجسد والافخارستيا من ناحية أخرى. يقول: ” النار والروح هما في أحشاء التي حملتك، انظر النار والروح هما في النهر الذي اعتمدت فيه، النار والروح هما في جرن معموديتنا، في الخبز والكأس النار والروح “.
فمهما حاولنا أيها الاخوة والأخوات أن نعبر عن فرحتنا الروحية بهذه الأمسية، يقف لساننا عاجزاً لأننا لا نستطيع أن نتصور الميلاد دون أن نتطرّق إلى مفاعيله خاصةً في سري المعمودية والافخارسيا. مريم العذراء في هذه الليلة أعطتنا خبز الراحة بدلاً من خبز الشقاء الذي أعطته حواء.
إذاً أيها الأخوة، مرةً أخرى نحتفل بعيد الميلاد في هذه السنة المباركة، ونضع أمام أعيننا خطايانا متأملين في ذلك الحدث الذي يغير كل المفاهيم في تلك الليلة في مغارة بيت لحم، وآملين أن سر التجسد الإلهي سيكون درباً يوصلنا إلى ملكوت الله. فإذا عرفنا غاية التجسد وتأملنا في مفاعيله، أي كل الأسرار المقدسة التي وجدت في الكنيسة وخاصةً في سري المعمودية والافخارستيا، نكون حقاً مؤهَّـلين لنستقبل يسوع المسيح الطفل ليس في مغارة بيت لحم وحسـب بل في قلوبنا، في ضمائرنا، في أجسادنا التي يجب أن تكون طاهرة ومُعدَّة لتصبح هياكل لسكنى الله. فكما حلّ الروح القدس على مريم العذراء وطهّرها وقدّسـها وأعدّها لتكون أماً لابن الله، هكذا يحلّ الروح القدس علينا من خلال الأسرار الإلهية، ويُـعدّنا لنكون أطهاراً أبراراً قديسين مؤهلين لبنوة الآب وأخوة للسيد المسيح وورثة للروح القدس.
جعل الله عيد الميلاد هذا عيد الأفراح والمسرات والبركات، ليتزين به كل مدخل قلب الإنسان بالأكاليل ولتتقدس أنفسنا بنعمه وبركاته آمين.
أيها الأحبة، نحن في هذا العيد نتذكر السلام الذي عم البشرية، والخلاص الذي كان لكل إنسان آمن بالمسـيح. وفي هذه الأيام نرى أن تلك الأرض التي تقدست بأقدام المسيح رب السلام وتلاميذه الأبرار تتدنس بأعمالٍ منافية للأخلاق. فما زال المسيحيون خاصة في هذا الشرق العزيز محرومين من زيارة الأراضي المقدسة، وخاصةً المغارة المتواضعة التي احتضنت يسوع الطفل والقبر المقدس الذي منه قام المسيح وأقامنا معه.
إننا نصلي إلى الطفل يسوع مولود مغارة بيت لحم لكي يعيد السلام إلى أرض السلام وينشر الأمن والاستقرار في كل دول منطقتنا. فأهوال الحروب وأخبار الويلات والمجاعات والفقر والأمراض تخدّش أسماع البشـرية نتيجة تكالب الإنسان ضد أخيه الإنسان. فكل المحرمات تشرع باسم الإنسانية، والإنسانية براء من أعمال القرصنة والوحشية التي تنتهك أعمال الله وتفتك بخليقته وتدخل الرعب والجزع إلى قلب الإنسـان في منطقتنا.
إنها جريمةٌ، بل خطيئة عندما يحلل الإنسان قتل أخيه الإنسان. فالمسيح جاء بالجسد لكي يحرر الإنسان من الخطيئة، ولكن الإنسـان البعيد عن نور المسيح يقوم بأعمال منافية للأخلاق ومناقضة لتعاليم الكتب المقدسة ضد أخيه الإنسان.
إننا في هذه الليلة المقدسة، نطلب من رب السلام لكي يكون مع قادتنا ورؤسـائنا والمسؤولين عنا في هذا البلد، ليباركهم، ويكون معهم ويشـدّ من أزرهم، ويقويهم ليعملوا من أجل السلام العادل والشامل في كل المنطقة. وبصورةٍ خاصة نتطلع إلى رئيس بلادنا القائد حافظ الأسد، الذي يبذل قصارى جهده من أجل تثبيت دعائم السـلام في بلدنا بصورة خاصة، وفي كل منطقتنا عامة.
ونسأل الله أن يمدّه بالصحة والعافية، ويحفظه فخراً لنا، ويسدّد خطاه لكي تتحقق أماني وآمال العرب فيه، فنرى السلام والأمن والاستقرار والطمـأنينة قد حلت محل الحرب والزعزعة والتشتت والتشرذم وعدم الاستقرار.
إننا بمناسبة صوم رمضان، نهنئ اخوتنا المسلمين في هذا البلد والعالم أجمع، نطلب لهم صومـاً مباركاً، ونسأل الله أن يجعل ثمرات هذا الصيام لخير الأمة والوطن.
نهنئكم ونهنئ السامعين والمسيحيين في كل مكان، ونقول لكم ولهم جميعاً:
كل عيد وعام جديد وأنتم بخير.
عيد الميلاد
1998
1999
ܒܫܶܡ ܐܒܐ ܘܒܪܐ ܘܪܘܚܐ ܩܕܝܫܐ ܚܰܕ ܐܠܗܐ ܫܰܪܝܪܐ ܀ ܐܰܡܝܢ
ܒܪܝܟ̣ ܡܘܠܕܗ ܕܡܪܢ
أيها المؤمنون:
ملافنة الكنيسـة السريانية قبل القرن السابع للميلاد، تغنّوا في قصائدهم في حدث الميلاد المقدس، وعبّروا بأشعارهم وميامرهم عن أفكارهم في الأسرار المحيطة بميلاد الرب يسوع المسيح بالجسد. وتطول سلسلة الآباء الذين نتحدّث عنهم في هذا المسـاء؛ منهم مار أفرام السرياني، المعروف بملفان الكنيسة المقدسة وشماس الرهـا وقيثارة الروح القدس ونبي السريان وشمسهم، وهو من آباء القرن الرابع للميلاد؛ ومار يعقوب السروجي، هذا الملفان اللاهوتي الذي حلّق في أجواء السماء، وأبدع في قصائده وأناشيده، وهو من آباء القرن السادس، وغيرهما من الآباء مثل مار اسحق الانطاكي ومار بالاي ومار شمعون الفخاري.
وقد استطاع العلاّمة مار يعقوب الرهاوي، تلميذ مدرسة تلعدا وصاحب المؤلفات الشهيرة في اللاهوت وشروحات الكتاب المقدس والعلوم الكنسية، أن يجمع لنا في كتابٍ معروف في التقليد السرياني ܫܚܝܡܐ بالاشحيم، ويتضمن صلوات الأيام الأسبوعية البسيطة، وهي التي يرددها السريان بمختلف مذاهبهم صباح مساء.
في هذا الكتاب الطقسي نحن نقف مع حدث الميلاد في كل يوم من خلال ترديدنا للصلوات والتراتيل والابتهالات والدعوات. أنقل إليكم أيها الأحباء في هذا المساء بعض الصلوات لتتأملوا كيف نحن نعيّد للميلاد المقدس في حياتنا اليومية.
في صلاة الصباح ليوم الاثنين، نحن نردد في صلواتنا قائلين :
ܡܶܢ ܐܰܒ݂ܳܐ ܡܳܪܳܐ ܕ݂ܢ̣ܰܚ ܠܰܢ. ܘܡܶܢ ܒ݁ܰܪ̱ܬ݂ ܕ݁ܰܘܺܝܕ݂ ܦ݁ܳܪܽܘ̇ܩܳܐ. ܘܡܶܢ ܒ݁ܶܝܬ݂ ܠܚܶܡ ܠܰܚܡܳܐ ܕ݂ܚܰܝ̈ܶܐ. ܠܥܰܡ̈ܡܶܐ ܕ݂ܗܰܝܡܶܢܘ̱ ܒ݁ܶܗ. ܣܓ݂ܺܝ̣ܕ݂ ܐܰܒ݂ܳܐ ܕ݂ܫܰܕ݁ܰܪ ܠܰܒ݂ܪܶܗ. ܒ݁ܪܺܝ̣ܟ݂ܳܐ ܗ̱ܝ ܡܰܪܝܰܡ ܕ݁ܺܝܠܶܕ݂ܬ݂ܶܗ. ܘܛܽܘ̣ܒ݂ܳܐ ܠܥܺܕ̱݁ܬ݁ܳܐ ܕ݂ܩܰܒ݁ܶܠܬ݂ܶܗ. ܘܗܳܐ ܙܳ݀ܡܪܳܐ ܫܽܘ̣ܒ݂ܚܳܐ ܀
ترجمته : من الآب: أشرق لنا الرب، ومن بنت داود: أشرق المخلص، ومن بيت لحم: أشرق خبر الحياة للأمم التي آمنت به، فالسجود للآب الذي أرسل ابنه، والتبريك لمريم والدته، الطوبى للبيعة التي اقتبلته، وهي تنشـد له المجد.
” مررتُ ببيتَ لحم وسمعتُ صوتَ مريم، وهي تناغي ابنها في المغارة، وتقول له: الطوبى لي يا بنيّ، لأني صرتُ أمَّك! الطوبى لي، لأني أرضعتُكَ الحليبَ، وإذا لم تومِئ إليّ وتسمح لي، فلن أدنو منك “.
القبائل والشعوب بأسرها تغبّط مريم، لأنها استحقت أن تكون أمَّ ابنِ الله، أشرق منها دون أن يمسّ الأختـام التي تقي بتوليتها؛ وها إن يوم ذكرها مكرّمٌ في السماء وعلى الأرض.
” تشبه البتول القديسة والدة الله الجوهرة المغروسة في تاج الملك، ولا عـيبَ فيها، وحيثما تتّجه يضيء نورها مثل الشمس؛ وها إن يوم ذكرها مكرّم في السماء وعلى الأرض “.
ماذا يريد أن يقول لنا الملفان في هذه الأبيات الشعرية؟ أولاً يربط حدث الميلاد بنبـوات العهد القديم، فمن الآب أشرق لنا الرب، ومن بنت داود الملكَ، أشرق المخلص، ومن بيت لحم أشرق خبز الحياة؛ ونحن كمسيحيين نرى كل هذه الأمور مجسّدة في قانون الإيمان النيقاوي القسطنطيني : إيماننا بالآب الاقنوم الأول خالق السموات والأرض، وإيماننا بالابن الأقنوم الثاني، الذي نزل من السماء، وتجسّد من بنت داود أي مريم العذراء في آخر الأزمان في مغارة بيت لحم، وإيماننا بأن كل ما حدث كان من أجل خلاصنا.
وهنا نسأل هل تحقق هذا الخلاص بميلاد يسوع المسيح؟ جوابنا هو نعم. بولس فيلسوف النصرانية ورسول الأمم كتب إلى العبرانيين يقول في هذا الصدد : ” الله بعدما كلّم الآباء بالأنبيـاء قديماً بأنواعٍ وطرقٍ مختلفة، كلّمنا في هذه الأيام الأخيـرة في ابنه الذي جعله وارثـاً لكل شيء الذي به أيضاً عمل العالمين “.
فنحن عندما نُعيِّـدُ عيد الميلاد، نعيـِدُ إلى أذهاننا تاريخ الخلاص كما ورد على لسان الأنبياء في العهد القديم، الذي يقصّ لنا قصة تنازل الله المستمر واتصاله بالإنسان لرفعِهِ فوق حركة الزمان المَيْت، وأقوال الأنبياء الصغار والكبار في العهدين ونبوّاتهم تشهد أنها كانت من سياق الروح القدس مولود بيت لحم القدوس يسـوع المسيح، الذي هو ملكٌ وكاهنٌ ونبيٌّ؛ وعبّر اشـعياء النبي عن شـخصية مَن نحتفـلُ اليومَ بعيد ميلاده بقوله: ” لأنه يولد لنا ولدٌ، ونعطى ابناً وتكون الرئاسة على كتفه، ويدعى اسمُهُ عجيبـاً مشـيراً إلهاً قديـراً أباً أبدياً رئيس السـلام، لنمو رئاسـته وللسـلام لا نهاية على كل كرسي داود “.
ولا نستغرب إذا وجدنا في كتبنا الطقسية والليتورجية عباراتٍ تشـرح هذه النبوات، وحواراتٍ من خيال الآباء والملافنة جرت بين شخصيات كتابية مثل يوسف البار ومريم العذراء مع يسـوع الطفل والملائكة وغيرهم، كلها لكي ترسِّخَ في أذهانِنا المعانيَ الحقيقيةَ لميلادِ يسوعَ المسيح.
ألا نقرأ في إنجيل لوقا عن المسيح ذاته عندما : ” ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر لهما الأمور المختصة به جميع الكتب “. كان هذا الكلام بعد القيامة المظفرة، وكان يسوع الناهض من بين الأموات يسير مع التلميذين إلى عماوس، وقد ارتجّت أورشليم والمدن اليهودية كافةً لخبر قيامته، فانتهزَها مناسبة وأعاد إلى أذهانهم ما قاله الأنبياء في العهد القديم.
إذاً صدق الملفان عندما قال عن مريم العذراء بأنها ” تشبه الجوهرة المغروسة في تاج الملك ولا عيب فيها، وأنها حيثما اتجهت يضيء نورها مثل الشمس ” فلقد أعطت نوراً للعالم في مثل هذا اليوم العـجيب. عيد الميلاد أيها الأحبة الذي هو عيد الخـلاص يجعلنا أن نعيش نبـوات العهد القديم، ونتذكر مسيرة هذا التاريخ الطويل للوصول إلى هذا اليوم البهيج.
أيها الأحباء، أيها السامعون الكرام،
هذا العيد، ونحن في نهايات عام 1999 يختلف عن بقية الأعياد لأننا نقترب من الصفحات الأخيرة لهذا العام لندخل عام الألفين، ونسـتعد لاستقبال الألفية الثالثة للميلاد! أين هو الجديد في هذا العيد ؟
نحن مع اقترابنا، نودع الألفية الأولى والثانية للميلاد. في المسيحية كانت هنالك صفحات مشرقة نمت فيها الحياة الروحية في مراكز ومعابد وكنائس تجلّى فيها دور الروح القدس في قيادة الكنيسة، فتعالت رايات المحبة بين المسيحيين، وتوحّدت جهودهم في سبيل نشر الإنجيل في كل مكان، وهكذا انتقلت بشرى الخلاص من الناصـرة وبيت لحم وأورشليم إلى كل أنحاء العالم، وزرع التلاميذ الإيمان بيسـوع المسيح في قلوب المؤمنين من البشر من مختلف الأديان القديمة والتيارات الفكرية والخلفيات التاريخية واللغوية والعرقية.
فكنيسة مولود بيت لحم القدوس لم تبقَ محصورة جغرافياً في بقعةٍ صغيرةٍ من العالم بل تحققت كلماته إلى رسله، وهو ينتدبهم لحمل البشارة إلى العالم ” اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم “.
وفي هذه الصفحات المشـرقة أيضاً، المساهمة الكبيرة التي أدّتها المسيحية في بناء صرح الحضـارة في أكثر من منطقة في العالم، ولا ننسى صفحة التآخي والتعايش مع كل الناس من مختلف الأجناس؛ ومكتبات العالم بمختـلف اللغات تتحدّث عن هذه الصفحات المشرقة من المسيحية في الألفين الأول والثاني.
أما الصفحات المظلمة، فتتمثَّل في الانقسامات التي دبّت في جسم الكنيسة الواحد، هذه الانقسامات تعمّقت بالجروحات الأليمة التي فرّقت الإنسان ضد أبيه والابنة ضد أمها والكنّة ضد حماتها وجعلت ” أهل البيـت من أعداء الإنسان نفسه ” على حدّ تعبير الإنجيل المقدس.
إذاً، أين هو الجديد، ونحن نعبُرُ إلى الألف الثالث للميلاد؟ الجديد هو عندما تتأمل الكنيسة المجزّأة اليوم مواقفها في الماضي وتعمل مجتمعةً رغم تشتتها وخلافاتها على إعادة اللُّحمة بين الكنائس المختـلفة كافةً.
بعبارةٍ أخرى، عندما تعود الوحدة الكنسية بكل رونقها وجمالها إلى هذا الجسم المجزّأ المتفـتت، فتسيطر آمال المسيحيين وطموحاتهم في نمو الحياة الروحية في كل جنبات الكنيسة على أي خلاف مهما كان لونه أو نوعه. وميلاد يسوع المسيح محطةٌ مهمةٌ من محطات التأمل، خاصةً ونحن على استعداد لاستقبال يسوع المسيح في الألف الثالث.
أما على صعيد المنطـقة، فأين الجديد في العام الجديد وفي الألفية الثالثة ؟
لقد عرفَتْ منطقتُـنا منذ ألفي سنةٍ، حقبات تاريخية، جرت فيها محاولاتٌ جادّة من أجل بناء الحضارة لخدمة الإنسان؛ وتخللتها أزمنةٌ تلبّدت فيها الغيوم، وتطايرت منها الشرور، وتساقطت على رأس الإنسان الذي تحمّل الكثير الكثير من ويلات الحروب والفتوحات والهزّات السياسية والأمنية والاجتماعية.
ونحن في البلاد العربية، خاصةً في النصف الثاني من القرن العشرين ناضلنا وحاربنا من أجل استقلال بلادنا ولترسيخ دعائم الحرية والسلام على كل شبر من أرضنا الطيبة، لا ننسى الصفحات المأساوية التي خلّفتها الحروب المتنوعة في الأراضي المقدسة وبقية بلدان هذا الشرق الحبيب، وكانت الخسارة كبيرة جداً على المستويين النفسي والإنمائي.
اليوم، ونحن نودّع الألف الثاني، نرى بان جهوداً كثيرةً وكبيرةً تُبذَل من أجل إعادة السلام إلى هذه البلاد التي رزحت تحت أعباءٍ جسيمةٍ خلّفـتها الحروب والانتهاكات المتعددة. ألا يليق بنا، ونحن في عيد الميلاد أن نردد مرةً أخرى نشيد الملائكة إلى الرعاة ” المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر “.
أملنا أن يكون هذا السلام حقيقياً عادلاً وشاملاً مبنياً على أسسٍ قوية، لكي يعمَّ وينتشرَ ويرسَّخَ في حياة كلِّ الشعوب. إذاً، إذا عاد السلام ورفرفت راياته في منطقـتنا، نكون في عامٍ جديد وألفية جديدة، خاصةً إذا كان هذا السلام مقروناً بالرجاء الصالح الذي أشارت إليه الملائكة.
أيها الأحبة، أيها السامعون الكرام،
في سورية الحبيبة، في هذا البلد الآمن حيث ينعم المواطنون مسيحيون ومسلمون بالطمأنينة والاستقرار والأمن والسلام، نرى أن الوحدة الوطنية والعيش المشترك والحوار المفتوح بين المواطنين هو من أهم أسباب هذه العلاقات التي ننعمُ بها.
قبل أن نعيّد عيد الميلاد، كنا في صومٍ لمدة عشرة أيام، واخوتنا المسلمون كانوا وما يزالون في صوم رمضان الكريم. لقد التقينا سويةً في دربٍ من دروب التقوى والفضـيلة والمحبة والخدمة والعطاء، وها نحن نعيّد، وننظر إلى ذلك اليوم الذي فيه سيعيّد اخوتنا المسلمون، ونتمنى لهم عيداً سعيداً ومواسم الخير والعطاء لبلدنا العزيز.
نهنئ أيضاً من على هذا المنبر قداسة البطريرك سيدنا مار اغناطـيوس زكا الأول عيواص، وجميع الأحبار الأجلاء في البلاد العربية وتركية وبلاد الاغتراب.
ونهنئ رئيسنا المحبوب القائد المناضل حافـظ الأسـد متمنين لسيادته دوام العافية وكمال الصحة ليقود البلاد إلى شواطئ الأمان وليتحقق السلام العادل والشامل في بلدنا ومنطقتنا بجهوده الجبارة وتوجيهاته الحكيمة.
ونهنَّـئُكم وقد اشتركتم معنا في هذه الصلوات، ونهنئ أبناءنا وأحباءنا واخوتنا في كل مكان.
وكل عيد وأنتم بخير.
عيد الميلاد
1999
2000
ܬܫܒܘܚܬܐ ܠܐܠܗܐ ܒܡܪ̈ܘܡܐ ܘܥܠ ܐܪܥܐ ܫܠܡܐ ܘܫܝܢܐ ܘܣܒܪܐ ܛܒܐ ܠܒܢܝ̈ܢܫܐ
المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر
جميل بنا أيها الأحباء أن نختم صيامنا المبارك بمناسبة عيد ميلاد ربنا يسوع المسيح بالجسد، وهو عيد ميلاده في مغارة بيت لحم بهذا النشيد الرائع الذي رددته أفواه جوقة الملائكة في مثل هذه الليلة المباركة قبل آلفي سنة.
نحن كمسيحيين نؤمن بأن ميلاد يسوع المسيح كان منعطفاً تاريخياً مهماً لكل البشرية، وإيماننا ينطلق من أسس وبراهين تُعتبر من الشواهد الهامة في إثبات هذه الحقيقة، نتساءل في هذه الليلة ترى على ماذا نعتمد ؟
نعتمد على المسيرة النبوية التي بدأت منذ سقوط الإنسان الأول، وما رافقها من أحداث كتابية معروفة، ومرت في مراحل متعددة تباينت فيها طموحات الإنسان، تخللتها نبؤات العهد القديم وأقوال الأنبياء، هؤلاء الذين سبقوا مجيء الوعد، وكلُّها تؤكد قول بولس الرسول: “لما جاء ملء الزمان أرسل الله أبنه مولوداً من امرأة، مولوداً تحت الناموس ليفتدي الذين هم تحت الناموس لننال التبني”. (غلا 4:4)، وكان بولس الرسول يتكلم عن الوارث الذي به كمل الزمان، وتحققت كل تطلعات الأنبياء التي تجلت في أقوالهم ونبؤاتهم وما زالت محفوظة في أسفار العهد القديم وأنتهت هذه المسيرة النبوية في مثل هذا اليوم الذي فيه جاء الوارث بالجسد. ولهذا نفرح ونبتهج لأن الوارث صار بيننا.
أيها الأخوة أيتها الأخوات أيها السامعون الكرام:
الله الخالق أعطى الإنسان المخلوق بعد تعديه على الوصية أملاً بالخلاص، وهيأ ذلك بالمواعيد الزمنية والوصايا والشرائع، واعد الأنبياء لينقلوا موعد الخلاص عن طريق نبؤاتهم وإرشاداتهم الروحية وحتى القضاة والولاة والملوك الذين سبقوا مجيء يسوع المسيح بالجسد كانوا شهوداً على ان قصد الله هو واحد وهو أن يأتي اليوم الذي فيه سيرسل الله إلى العالم النبي كما أشار موسى إلى أخوته، ليتم الخلاص الحقيقي، وتعود العلاقة التي ربطت الإنسان المخلوق بالله الخالق. تأملوا أقوال اشعياء النبي وهو يصور لنا مجيء المخلص بكلمات تشعرنا وكأن أشعيا قد رأه وعاش معه وتحقق من أن نبؤات الأنبياء الذين سبقوه قد تمت يقول: “لأنه قد ولد لنا ولد اعطي لنا أبناً فصارت الرئاسة على كتفه ودعي اسمه عجيباً مشيراً إلهاً جباراً أبا الابد رئيس السلام لنمو الرئاسة ولسلام لا القضاء له على عرش داود ومملكته يقرها ويوطدها بالانصاف والعدل من الآن إلى الأبد “. (اشعياء 9: 6و7) وصورة السيد المسيح الآتي إلينا بالجسد تتكرر في نبؤات الأنبياء فهو الملك وهو الكاهن وهو النبي، وكل كاهن إنما كان على صورة المخلص الوسيط بين الله والإنسان لغفران الخطايا والصلح الدائم. وأن كل نبي إنما باسمه تنبأ وإلى مجيئه بالجسد أشار، ولا سلطان ولا ملك ألا به ومن خلاله. لقد استطاع بعض علماء الكتاب المقدس والباحثين أن يحصروا الحوادث والنبؤات التي أشارت إلى المخلص كما جاءت في الأسفار المقدسة فبلغت اكثر من 450 إشارة وهذه من الشواهد والثوابت التي تربط بين العهدين القديم والجديد وتؤكد بأن كل النبؤات التي وردت على لسان الأنبياء وتناولت كل الأحداث الإنجيلية من البشارة والميلاد والمغارة والرعاة والمجوس وغيرها من الأحداث التي رافقت الكرازة وأسبوع الآلام والموت والدفن والقيامة حقائق تؤكد عمل الخلاص الذي من أجله جاء يسوع المسيح بالجسد.
أيها الأحبة : تذكروا حادثة وجود يسوع المسيح في الهيكل وهو ابن اثنتي عشرة سنة كيف أنه بقي ثلاثة أيام جالساً بين المعلمين يسمعهم ويسألهم، تُرى عن ماذا كان يتكلم الفتى يسوع المسيح حتى جعل الذين يسمعونه مندهشين من فهمه وأجوبته؟ لوقا البشير في مكان آخر يشرح لنا بماذا كان يتكلم أبن الوعد ويقول: انه بعدما رجع يسوع بقوة الروح إلى الجليل أتى إلى الناصرة حيث نشأ، ودخل كعادته إلى المجمع يوم السبت، وقام ليقرأ، قدموا إليه سفر أشعيا النبي ولما فتح السفر وجد الموضع المكتوب فيه: ” إن روح الرب عليَّ ولأجل ذلك مسحني وأرسلني لأبشر المساكين واشفي منكسري القلوب وأنادي للمأسورين بالتخلية وللعميان بالبصر واطلق المهشمين إلى الخلاص وأكرز بسنّة الرب المقبولة ويوم الجزاء ” (لو4: 16_19).
ويعلن لوقا البشير هذه الحادثة الإنجيلية المعروفة بقوله: “ان عيون جميع الذين في المجمع كانت شاخصة إليه أما هو فقال لهم: اليوم تمت هذه الكتابة التي تُليت على مسامعكم. وكان الجميع يشهدون له ويتعجبون من كلام النعمة البارز من فيه. ونتذكر ايضاً ونحن نجول في أسفار العهد القديم مؤكدين بأن نبؤاته قد تحققت بمجيء يسوع المسيح بالجسد، ما وقع للتلميذين المتجهين بعد القيامة إلى عمواس وكانا يتحادثان عما حصل في أورشليم فدنا منهما يسوع نفسه وقد أمسكت أعينهما عن معرفته. وبعد أن فسر لهما ما حصل دونا أن يفهما حقيقة الوقائع قال لهما: يا قليلي الفهم وبطيئي القلب في الإيمان بكل ما نطقت به الأنبياء أما كان ينبغي للمسيح أن يتألم هذه الآلام ثم يدخل إلى مجده، واخذ يفسر لهما من موسى وجميع الأنبياء ما يختص به في الأسفار كلها.
من هنا نرى ان بولس الرسول عندما أراد أن يختصر هذه الطريقة النبوية كتب إلى أهل كولوسي قائلاً : ” أن به خلق جميع ما في السموات وعلى الأرض ما يرى ولا يرى، عروشاً كان أو سيادات أو رئاسات أو سلاطين به إليه خلق الجميع ” (كولوسي 1: 16).
أيها الأحبة : هذه جولة سريعة لأقوال سبقت ميلاد يسوع المسيح بمئات من السنين تحققت في مثل هذه الليلة المباركة. فدعونا نعود إلى النشيد الرائع الذي أرتبط بهذه الليلة المباركة المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر. إن العالم المسيحي كله يرنم وينشد عبارات الملائكة، وكل تقليد يعبر بطريقته الخاصة عن مباهج هذا العيد وسعادته. نحن في طقسنا الانطاكي وفي الكنيسة السريانية الأرثوذكسية وعندما نعود من دورة العيد في الكنيسة حيث ننقل بشرى الميلاد إلى المؤمنين والمؤمنات، وأثناء تلاوة الإنجيل المقدس هذا النشيد نوقد شعلة من النار أمام منبر الإنجيل معتقدين بأن الرعاة الذين كانوا يبيتون في البادية ويسهرون على رعيتهم في هجعات الليل كانوا يوقدون شعلة من النار في الليلة التي ظهر فيها الملاك مبشراً، ثم نُرنم مع جوقة الملائكة هذا النشيد الرائع: “المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام، والرجاء الصالح لبني البشر”. هل تعرفون أنه لأول مرة يظهر الملائكة مجتمعين في ليلة الميلاد بينما ظهر الملائكة منفردين مرات كثيرة قبل مجيء السيد المسيح بالجسد ولكن مجتمعين لم يظهروا إلا هذه المرة ولم نسمع ولم نقرأ أن الملائكة ظهروا بجوقة مرنمين مع بعضهم البعض إلا في تلك الليلة المباركة. ماذا أرادوا أن يقولوا لنا في تلك الليلة السلام على الأرض والرجاء الصالح لبني البشر. أمران كانت البشرية بحاجة ماسة إليهما. فالإنسان عاش في فترة قبل الميلاد أحداثاً أليمة واحيط من كل جانب بالحروب والدمار والقتل ورافقها مجاعات وأوبئة وهلاك. وكان السلام أمراً مفقوداً يتطلع إليه الإنسان ولم يعرف أحد متى سيأتي السلام إلى أن أعلن الملائكة بصوتهم الجهوري أن رب السلام جاء إلى الأرض بالجسد ليحمل السلام إلى الإنسان. وفي كل المراحل التي رافقت الحروب والدمار فقد الإنسان الأمل وبقي بلا رجاء. كيف يستطيع الإنسان أن يعيش بلا أمل بلا رؤية واضحة بلا رجاء، وهو ينتقل من جيل إلى جيل إنها مهمة صعبة جداً أدت إلى خيبة أمل عند هذا الإنسان الذي كان يتطلع إلى اليوم الذي فيه يتحقق الوعد وجاء الملائكة ليؤكدوا بأن ملك السلام جاء ليوطد السلام بين السماء والأرض وبين الخالق والمخلوق بين الله والإنسان وبالتالي بين الإنسان وأخيه الإنسان وجاء ليلق رجاءً بين الإنسان فيبعث الطمأنينة والأمن والهدوء والاستقرار إلى نفسه المتزعزعة لتكون مطمأنة هادئة تعيش في أجواء السلام والأمن، والملائكة بنشيدهم جعلوا من المجد الذي يرفع لله تعالى جسراً بين هذا السلام المفقود وهذا الرجاء غير الموجود فمن خلاله تحقق السلام على الأرض ووجد الرجاء في قلوب الناس. هكذا نفهم نشيد الملائكة عندما نربط بين العهدين، بين الأنبياء الذين سبقوا السيد المسيح بأقوالهم ونبؤاتهم وكلمات الملائكة في ليلة الميلاد وعلى هذا الرجاء نحن اليوم نطوي صفحة مهمة من صفحات حياتنا نعيد آخر عيد للألفية الثانية للميلاد ونستعد للولوج للرجاء والأمل اللذين وضعهما الله في قلوبنا إلى الآلف الثالث راجين أن يكون الآلف الثالث ألف سلام وطمأنينة وفرح ومحبة ورجاء وأمل وعطاء وخير لنا ولجميع الناس.
أيها الأحبة : لا نستطيع أن ننسى في هذه السنة ونحن نحتفل بعيد ميلاد يسوع المسيح بالجسد في مغارة بيت لحم تلك الأرض الطيبة التي ولد وعاش فيها السيد المسيح وتقدست بأقدامه فبينما نتحدث عن السلام نرى ان السلام غير موجود في أرض السلام، ونتحدث عن الرجاء ونسمع أن الرجاء قد خفَّ في قلوب من يعيش في الأراضي المقدسة ذلك لأن عدد شهداء انتفاضة الأقصى الأخيرة تجاوز الثلاثمائة والجرحى بلغ عددهم حتى هذا اليوم أكثر من ستة عشر ألفاً، فالحزن لف تلك العائلات التي خسرت أبناءها وتضررت بأشكال مختلفة من المخاطر التي احيطت بها، والعدو الغاشم لا يتوانى في سبيل مطامعه من ارتكاب الجرائم منها: قتل الأبرياء وتدمير البيوت فوق ساكنيها وتشريد الأطفال واقتلاع الأشجار وتخريب البساتين وفرض الحصارين العسكري والاقتصادي على الناس وإلحاق الأذى بهم خاصة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولهذا كان من حق المسيحيين في الأراضي المقدسة وفي سوريا أيضاً إلغاء الاحتفالات بمناسبة عيد الميلاد واقتصارها على الشعائر الدينية، احتجاجاً على استمرار الاعتداءات الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني وتخليداً لأرواح الشهداء واحتراماً للجرحى وتضامناً مع أصحاب المنازل التي هدمها القصف الإسرائيلي. إننا نناشد العالم بأسره بوضع حدٍ لاستفزازات إسرائيل حفاظاً لقواعد حقوق الإنسان لكي تعود البهجة إلى قلوب الناس والسعادة إلى بيوتهم والفرح إلى شوارع بيت لحم التي استقبلت قبل ألفي عام يسوع المسيح في مغارتها المتواضعة.
نهنئكم أيها الأحباء ونسأل الله أن يبارك سورية العزيزة وقائدها الرئيس الدكتور بشار الأسد ويقويه ليعمل من أجل خير الإنسان والوطن. وأن يحفظ حياة رئيسنا الأعلى قداسة البطريرك مار اغناطيوس زكا الأول عيواص ويؤيد خطواته لخدمة كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية في كل مكان. وبما أن عيد الميلاد المجيد يعانق عيد الفطر السعيد في هذه السنة وكلا العيدين يحملان رسالة التسامح والمحبة والعيش المشترك والوحدة الوطنية إلى أبناء الديانتين المسيحية والإسلامية يسرنا أن نبعث بتهنئتنا القلبية إلى أخوتنا في الوطنية والجهاد والعمل المشترك إلى المسلمين في سوريا العزيزة وفي كل مكان سائلين الله أن يعيد هذا العيد على الجميع باليمن والبركة والخيرات السماوية والأرضية ونهنئ جميعكم قائلين: كل عيد وعام ومناسبة روحية ووطنية وانتم بخير.
عيد الميلاد
2000
2001
ܬܫܒܘܚܬܐ ܠܐܠܗܐ ܒܡܪ̈ܘܡܐ ܘܥܠ ܐܪܥܐ ܫܠܡܐ ܘܫܝܢܐ ܘܣܒܪܐ ܛܒܐ ܠܒܢܝ̈ܢܫܐ
المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر
أيها الأحباء…
نلتقي مرة أخرى في هذه الليلة المباركة، لكي نُعيد مع العالم المسيحي بعيد ميلاد ربنا يسوع المسيح بالجسد. ونُعيد إلى أذهاننا ذلك الحدث التاريخي الهام الذي غيَّر من مفهوم القيم والأخلاق، وأعطى معنىً جديداً للعلاقة بين الإنسان وخالقه، والإنسان وأخيه الإنسان، والإنسان ونفسه. ونحن في المسيحية نعتبر الميلاد نقطة فاصلة بين عهدين: عهدٌ أصبح جزءاً من الماضي، نقول عنه العهد القديم وفيه إشارات ورموز إلى هذا اليوم بالذات يوم الميلاد. فالأنبياء تحدثوا عن العذراء مريم والطفل يسوع وبيت لحم، وأحداث ومواقف أخرى لها مساس بحدث الميلاد. وعهدٌ آخر هو الذي ابتدأ منذ لحظة الميلاد في مغارة بيت لحم، نعرّفه بالعهد الجديد وهو العهد الذي قطعه الله مع الإنسان لكي يكون قريباً منه بقلبه وفكره وجسمه. هذا هو العهد الجديد الذي يتضمن تعاليم جديدة اقترنت بتوضيح أفضل للوصايا والسنن والشرائع والقوانين التي وضعها الله للإنسان.
عيد الميلاد إذن هو عيد الإنسان الجديد الذي يرتبط بعهدٍ جديد مع الله، عيد الميلاد هو عيد الإنجازات الكبيرة التي حققها مولود بيت لحم للبشرية، عيد الميلاد هو الصفحة الجديدة من تاريخ الإنسان المبنية على التعاليم الإلهية الواردة في العهد الجديد، أي في الإنجيل المقدس، في رسائل الرسل، في تعاليم الآباء، في التعليم الصحيح، للكنيسة المقدسة. عيد الميلاد هو ميلاد الإنسان الولادة الروحية التي تحدث عنها وأشار إليها السيد المسيح، وهي غير الميلاد الطبيعي المعروف بين البشر.
دعونا اليوم أيها الأحباء أن نرى ماذا كانت تحمل لنا رسالة الميلاد، وكيف استطاع يسوع المسيح أن يقنع العالم بدءاً من عائلته الصغيرة مريم ويوسف، وأخوته بالجسد يعقوب ويوسي ويهوذا، وتلاميذه الأطهار بطرس وأندراوس، وزملائهم، ومروراً بالذين عاشوا حدث البشارة في الميلاد، في العماد، في الكرازة، والذين عاينوا الأعاجيب والمعجزات والآيات، وكلها شفت ذوي العاهات والأمراض المستعصية، والذين سمعوه وهو يتحدث كمن له سلطان في مواقف مختلفة: منذراً، موبخاً، مرشداً، واعظاً ناصحاً، محـدثاً، إلى أن وصل بإرادته إلى الجلجلة، وكان على الصليب، ثم مات ودُفن وقام في اليوم الثالث. هذه السيرة الإنجيلية الطويلة التي نعيش بُعدَها يوماً بعد يوم وجيلاً بعد جيل. تُرى ما الذي أعطته للبشرية، وكيف استطاع الإنسان أن يُدرِك كنه رسالة الخلاص، ويفهم عمق مفهوم تعاليم يسوع المسيح.
لنعود أيها الأحبة إلى المغارة إلى المشاهد التي رافقت يوسف البار ومريم العذراء، وهما يتجهان عن غير قصد إلى بيت لحم ليكتتبا حسب الأمر الصادر عن أغسطس قيصر لإجراء إحصاء عام لكل المسكونة، وكان ملء الزمان الذي أشار إليه بولس الرسول في رسالته إلى أهل غلاطية، فولدت مريم ابنها البكر في مكان نكرة غير معروف متواضع جداً، في مغارة لا أحد يستطيع أن يصفها نظراً لصغرها وعدم تأهيلها لتكون المكان المطلوب لهذا الآتي من السماء، لم يشهد أحدٌ حدث الميلاد ولكن الملائكة في السماء عرّفته لمجموعة تتناسب مهنتهم مع ما حدث في تلك الليلة أنهم الرعاة الذين كانوا متبدين يحرسون حراسات الليل على رعيتهم في تلك الكورة، فإذا ملاك الرب وقف بهم، ومجد الرب أضاء حولهم، فخافوا خوفاً عظيماً! يا للمنظر المهيب الذي رآه الرُعاة في تلك الليلة، ربما خطرت على بالهم أمورٌ كثيرة، وتخيلوا مشاهد متعددة، ولكن كان من المحال أن يفكر واحدٌ منهم بهذا الظهور السماوي العلني الذي رافقه حديثٌ شيقٌ أبعد عنهم كل معاني الخوف، قال لهم الملاك:“لا تخافوا (نعم لا تخافوا) ها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب “. ترى ما هذا الخبر الذي سيفرح الناس كلهم وسيدخل السعادة والبهجة في قلوب الجميع، إنه وُلد لكم اليوم في مدينة داود الشهير مخلصٌ هو المسيح الرب.
ذكر داود ومدينة داود ربما لم يكن على بال الرُعاة وبيت لحم بية لحم الكلمة التي تعني بالسريانية بيت الخبز معروفة بالنسبة لليهود أنها مدينة داود لأن داود الملك اشتاق مرة أن يشرب ماءً من بئر بيت لحم لأنه كان قد أعتاد عليها حينما كان صبياً يرعى غنم أبيه، ولكن ما هو الرابط في هذه الليلة بين بيت لحم المغمورة المتواضعة، وبين داود الملك العظيم الذي خلدته مزاميره في حياة شعبه. المخلص الذي انتظروه طويلاً وقالت عنه الأنبياء وجاء ذكره في أسفار العهد القديم يولد اليوم على حد تعبير المـلاك. ولم يكتفِ الملاك بهذا القول وإنما أعطاهم علامةً لا تقبل الشك، فهوذا الطفل المخلص مسيحُ الرب مقمطٌ ومضجعٌ في مذود، وحوله مريم ويوسف، وبعد هذه العلامة ظهر جمهورٌ من الجند السماوي، ملائكة آخرون وبصوتٍ واحدٍ ونغمةٍ واحدة سبحوا الله قائلين : ” المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر “. ما أجمل هذه الأنشودة وما أروعها، لأنها ربطت السماء بالأرض، هذا المجد الذي يرفعه الناس من الأرض إلى السماء هو دائم، والسلام الذي تريده السماء للأرض قد حلَّ في هذه الليلة، والرجاء الذي بدونه لا يعيش الإنسان قد أصبح واقعاً في حياة بني البشر.
أيها الأحباء…
في هذه الليلة ما دمنا نتحدث عن الميلاد ومعانيه أريد أن أضعكم في جو معاني السلام الذي يحتاجه العالم بأسره، السلام وبالسريانية (شلما)، كلمة لا تحتاج إلى شرح، أو تـفسير أو توضيح، ففي الكتاب المقدس وفي أكثر من مكان نرى أن الله هو إله سلام بل هو نفسه سلام.
يقول صاحب سفر المزامير : ” طال على نفسي سَكَـنُها مع مبغض السلام. أنا سلامٌ وحينما أتكلم فَهُم للحرب “. (مز 120: 6 ـ 7). ويقول بولس الرسول في رسالته إلى أهل رومية : ” إله السلام معكم أجمعين “ (35: 33). وفي الحديث عن السلام نرى أن العدالة تأتي كأختٍ توأم لهذه العبارة كقول الكتاب: ” الرحمة والحق تلاقيا، البر والسلام تعانقا “ (مز 85: 11).
وفي المسيحية وبناءً على تعاليم مؤسس السلام يسوع المسيح الذي بعث الأمل والرجاء في قلوب الناس، نرى أن ملكوت الله مرتبط بالسلام لأن : ” ملكوت الله ليس أكلاً وشرباً، بل هو برٌ وسلامٌ وفرحٌ في الروح القدس ” (رو 14: 17). ولا نريد أن نسترسل معكم في معاني السلام بحسب المفهوم المسيحي، ولكن لا بد أن نُـشير إلى أن السلام في تعاليمنا هو ضد الحرب والعنف، والاضطهاد، والقتل والسبي، وغيرها من الأفعال الشنيعة التي يأتيها الإنسان البعيد عن الله ضد أخيه الإنسان.
السيد المسيح هو صاحب القول الشهير : ” طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناءُ الله يدعون “. فكل صانع السلام ينال الطوبى خاصة إذا كان من ذوي السلطة والحكم، الذي بإرادتهم وقرارهم يمكن أن يثبت دعائم السلام في مجتمعه وفي بقية المجتمعات. إنها إذاً مسؤوليتنا نحن المسيحيين بل هي مسؤولية أبناء الديانات السماوية، للقيام بعمل مشترك من أجل السلام في العالم. إذا كنا نعتبر أنفسنا أبناء الله ونُعبر عن هذه البنوة بعملنا وعلاقاتنا مع بعضنا البعض، إذاً يجب أن نُفهم أنفسنا والآخرين بأن طاعة الله هي أهم من طاعة الناس، والإصغاء إلى الله وكلمته، هو الأنفع والأسلم لأنه يبعدنا عن ممارسة أعمال فيها إهانة للآخر، والتعرف إلى مشيئة الله اعترافٌ بسلطته اللامحدودة ومثاله. لقد خلق الله الإنسان على صورته، فمن منا يجرأ على أن يشوه هذه الصورة بل يقضي عليها طالما هي خليقة الله. لقد أكدت كل الشرائع الإلهية بأن سلطة الله هي مُطلقة على النفس. فكل معاني العنف والقتل، ضد الإنسان تكون ضد إرادة الله.
عيد الميلاد في هذه الليلة يدعونا إذاً للعمل معاً في المحبة التي هي أقوى قوة تصد العنف بكل أشكاله، بل هي أول باب من أبواب السلام. السلام الذي هو عطية الله ولا يجب أن يرفضها الإنسان بل أن يقبلها ويوزعها على الآخرين. والإنسان قادرٌ على تعلّم السلام، لأنه قادرٌ أيضاً على المصالحة في الله. وطالما نؤمن بأن لا سلام دون العدالة وان المصالحة مع الله ضرورية، إذاً يبقى السلام مطلباً هاماً في حياة الإنسان المؤمن. تذكروا أيها الأحبة بأن أنشودة الميلاد كانت: “ المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام ” وهذا السلام يبقى عطية الله للإنسان وبدونه أي بدون السلام لا يمكن أن تستمر حياة الإنسان على الأرض.
أيها الأحبة : إن السلام الذي نتحدث عنه في هذا المساء مفقود في العالم، وأخبار الدمار، والخراب، والقتل، وبث روح التشاؤم في كل أنحاء العالم تسيطر على وكالات الأنباء. وفي كل يوم تنتقل كاميرا التلفزيون من جهة إلى جهة أخرى في العالم لكي تبث أخباراً مريعة مخيفة تقلق الإنسان. لأن المناظر التي نشاهدها على شاشة التلفاز تتصاعد معها روائح الكراهية والبغض والحقد والضغينة وكلها تغذي ثافة العنف التي تتلازم مع أعمال لإبادة في بقاع مختلفة من العالم والذين يتعرضون لأبشع أنواع التعذيب والتنكيل باعتراف مؤسسات إنسانية يزداد عددهم في كل مكان ونحن أبناء هذه المنطقة بالذات نعاني لأكثر من نصف قرن لهجمة شرسة يقودها الصهاينة الذين احتلوا أراضينا ودكّوا أسوار الحضارة الإنسانية فيها مستخدمين كل الطرق والأساليب اللاإنسانية، يدعمها إدعاء التفوق والاستعلاء وعدم الاعتراف ولا يعرفون قيمة ثقافة التنوع والعيش المشترك والتفاعل الحضاري والانفتاح الإنسـاني، يشنون حرباً عدوانية بحق شعبنا الأعزل في فلسطين الحبيبة. ومنذ سنة ونيّف وبسبب العدوان الغاشم والاحتلال الإسرائيلي سقط أكثر من ألف شهيد وعشرات الآلاف من الجرحى وأكثر من ألفي معاق بينهم نساء وأطفال بعضهم أصبحت لهم إعاقات دائمة. ورغم أن دولاً صديقة ومحبة للسلام ناشدت المجتمع الدولي للوقوف بقوة في وجه الهجمة الإسرائيلية الشرسة وإدانة الجرائم والمجازر الإسرائيلية ومقاطعة القادة السياسيين ومجرمي الحرب من العسكريين وضرورة محاكمتهم على الجرائم التي يرتكبونها بحق الإنسانية ولكن مع هذا تستمر إسرائيل بعدوانها وتستغل كل ظرف لترسيخ تيار التعصب في أذهان المحتلـين وصورة الطفل محمد الدرة الذي قُتِل في حضن أبيه أمام عدسات كاميرات التلفزيون تتكرر في أطفال فلسطينيين آخرين كل يوم، هذا بالإضافة إلى الخسائر المادية منها: هدم المنازل واقتلاع الأشجار وشل حركة الحياة الاقتصادية والزراعية والتعليمية والصحية في الأراضي المحتلة، فمع التحية التي نوجهها من هنا للانتفاضة الباسلة نقول أن السلام الذي نناشده نحن في هذه الليلة هو أن يحافظ الإنسان على كرامة أخيه الإنسان، ويبتعد عن كل الجرائم التي تمس هذه الكرامة. إن أنظارنا تتجه إلى القدس، إلى الناصرة، إلى كل شبرٍ في الأراضي المحتلة، وبصورةٍ خاصة إلى بيت لحم، التي تبكي اليوم لأنها محاصرة ولا تمارس حريتها ولا تستطيع أن ترفع التمجيد والتسبيح لله الخالق الواحد الأحد رب السموات والأرض، ولا أن تحتفل كما يليق بعيد ميلاد مؤسس السلام يسوع المسيح، وإلى مولود بيت لحم نتجه بصلواتنا لكي يباركنا بحضوره، ويثبت دعائم السلام في كل العالم، وخاصة في الأراضي المقدسة وفي كل شبرٍ من منطقتنا، لكي نبي علاقاتٍ مميزة مع بعضنا البعض، يكون فيها الاحترام المتبادل والعيش المشترك والوحدة الوطنية من أهم المبادئ التي نؤمن بها ونعتقد كما نسأله أن يبار سورية البطلة الداعية للسلام والمحبة للأمن، ويبارك رئيسنا المبجل الدكتور بشار الأسد الذي في فترةٍ قصيرة من حكمه استطاع أن يلفت أنظار العالم بأن سورية الحضارة، والعطاء، والإخاء الديني، والوحدة الوطنية، ستبقى هكذا وستكون أنموذجاً لبلد التعايش والمحبة، وأن يبارك حكومتنا الجديدة التي تضم اليوم نخبةً مميزة من حملة الشهادات العليا والخبرات الواسعة وكل واحد منهم جاء لكي يعطي ما لديه من علم وخبرات وأفكار لخير سورية وأبنائها، وأن يبارك جيشنا الباسل الصامد في وجه العدو وأن يمتعنا جميعاً بأزمنة الخير والرفاء والسعادة، وأننا بالمناسبة نهنئ أخوتنا المسلمين في سورية وفي كل مكان في أعيادهم ومناسباتهم الدينية وقد احتفلوا بعيد الفطر السعيد بعد أن صاموا صوم رمضان المبارك وأيضاً نهنئ المسيحيين في سورية وفي كل العالم بعد أن صاموا صوم الميلاد واستعدوا استعداداً كاملاً لاستقبال يسوع المسيح المولود في مغارة بيت لحم.
ܒܪܝܟ̣ ܡܘܠܕܗ ܕܡܪܢ وكل عام وأنتم بألف خير.
عيد الميلاد
2001
2002
ܬܫܒܘܚܬܐ ܠܐܠܗܐ ܒܡܪ̈ܘܡܐ ܘܥܠ ܐܪܥܐ ܫܠܡܐ ܘܫܝܢܐ ܘܣܒܪܐ ܛܒܐ ܠܒܢܝ̈ܢܫܐ
المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر
أيها الأخوة والأخوات…
ما أجمل هذه التحية السماوية التي نقلها الملائكة إلى الأرض وهي تختصر مسيرة نبوية طويلة خاضها الآباء والأنبياء، عبّر عنها الرسول بولس في رسالته إلى العبرانيين بقوله : ” الله بعدما كلّم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة ” (عبرانيين 1: 1)، وكأنه يتذكر بطاركة العهد القديم والآباء والأنبياء مثل موسى كليم الله، ويشوع بن نون، وداود المرتل الإلهي، وباقي الأنبياء الذين سبقوا مجيء السيد المسيح بالجسد، وتحدثوا عنه بأنواع وطرق كثيرة، أي بالرموز والإشارات والنبوات التي مهدت لمجيء السيد المسيح بالشكل الذي صار. ونحن من خلال المشاهد الإنجيلية التي سبقت ورافقت حدث الميلاد، نرى وكأن تلك الصور والرموز والإشارات والنبوات تتحقق واحدة فواحدة، لأن رسالة الخلاص كانت الأهم في تلك المسيرة النبوية. بولس الملقب بفيلسوف الأمم نفسه في رسالته إلى أهل غلاطية يُـشير إلى الزمن الذي حصل فيه الخلاص بقوله : ” لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة مولوداً تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني ” (غلا 4: 4-5). والذي يعنيه بملء الزمان هو هذه الليلة المباركة التي فيها، حقيقةً أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة لغاية عرفها الآباء والأنبياء سابقاً، وتحدثوا وأفاضوا في الكلام عنها وهي أن يفتدي المخلص يسوع المسيح كل الذين هم تحت الناموس لكي يُصبحوا أبناءً لله والذي يكون ابناً يكون أيضاً وارثاً لله على حد قول بولس الرسول أيضاً. وكلمة الوارث جميلة ومعبرة جداً عن مفهوم الخلاص عندنا، لأن فيه استعلان العلاقة التي ستنتهي إليها الخليقة كلها بالنسبة لله، وذلك حينما تؤول كلها للابن، بالإضافة إلى ميراث نبوته في كل ما لله، والميراث لا يحق للغريب أو للعبد، بل لهذا الابن الشرعي لوالده، بولس الرسول بعد أن يتصور الآباء والأنبياء وهم يبشرون العالم بالمخلص يصل إلى هذا اليوم يوم الخلاص، يوم الفداء، يوم العطاء، يوم الميلاد في مغارة بيت لحم فيكتب عن هذه العلاقة التي تربط بين الآب والابن فيقول : ” كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثاً لكل شيء الذي به أيضاً عَمِـلَ العالمين الذي وهو بهاء مجده ورسم جوهره وحاملٌ كل الأشياء بكلمة قدرته بعدما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا جلس في يمين العظمة في الأعالي صائراً أعظم من الملائكة بمقدار ما ورث اسماً أفضل منهم ” (عبرانيين 1 : 2 -4).
جميلٌ إذاً هذا الخط البياني الذي يرسمه لنا مار بولس وهو ينتقل من حالة الرموز والإشارات والنبوات، إلى حالة الحقيقة التي حصلت بميلاد الابن الذي أصبح وارثاً وبه صنع الآب العالمين. إذاً نحن في عيد الميلاد ننطلق من مُسلّمةٍ إيمانية أساسية، وهي أن وعد الله بالدخول إلى راحته قائمٌ (اليوم)، لأن راحة الله حصلت عندما تحقق الخلاص للإنسان.
في رسالة جميلة وجهها ملفاننا الشاعر السرياني المعروف مار يعقوب السروجي إلى مار أنطونيوس أسقف حلب، في القرن السادس للميلاد وهو من المناضلين الكبار من أجل الإيمان الأرثوذكسي يعطي صورةً واضحةً لهذا الحدث العجائبي حدث الميلاد الذي ربط بين العهدين القديم والجديد، وبه مجّد الإنسان الله، وكان الرجاء الصالح لبني البشر، وبواسطته تأسس السلام على الأرض، يقول مار يعقوب السروجي عن الإله المتجسد يسوع المسيح، وعن رسالة التدبير الإلهي يقول : ” وسمي ابن البتول عجباً وهيأ وأعطانا الآب ما لم تره عين، ولم تسمعه أذن، ولم يخطر على قلب إنسان متى رأت العين الله يولد من امرأة ؟ أو متى سمعت الأذن أن المياه تحفظ في المنديل ؟ والنار تُلفُ بالأقماط، أو على بال من خطر أن واحداً من الثالوث يُعد واحداً من البشر ؟ “. كل ذلك حصل لأننا كنا عجيناً فطيراً فصار لنا خميرةً، وجعلنا نقتني طعم لذته، ولأن الموت كان قد سبانا وأدخلنا وسجننا في شقوق الهلاك العميقة، نزل وراءنا إلى الأعماق السفلية وأصعدنا معه ليُورثنا يمين والده. هذا هو في مفهومنا نحن المسيحيين عندما نحتفل بعيد ميلاد ربنا يسوع المسيح بالجسد، أي أننا ارتقينا إلى مكانة الولد في العائلة المقدسة، والوارث للآب السماوي، فإذا وعي كل منا هذا الدور الذي أعطاه التجسد الإلهي له عرف كيف يسلك في طريق الصلاح، ويعمل من أجل خلاص نفسه ليكون على الدوام ابناً يحق له أن يدعو الله أبانا كما نقول في الصلاة الربية، وأن ينتظر الميراث في يوم الدينونة، فيرث مع الوارثين تلك المواهب السماوية والنِعم الإلهية التي أعطاها الإله المتجسد لكل مؤمن برسالته.
أيها المؤمنون… الأنشودة الخالدة التي رافقت حدث الميلاد حملت بُعداً جديداً للعلاقة بين الخالق والمخلوق، بين الله والإنسان. فالرعاة الذين كانوا يحرسون حراسات الليل على رعيتهم كما يقول الإنجيلي لوقا، لم يخطر على بالهم بأنهم سيكونون شهوداً لحدثٍ عظيم انتظرته الأجيال، كما لم يفكروا بملاك يتراءى لهم، ويتحدث معهم، والأهم أن يبدد من خوفهم، ويبشرهم ببشارة الخلاص التي صارت بشارة فرح كان لجميع الشعب. وبعد أن أُعطوا العلامة ” تجدون طفلاً مقمطاً مضجعاً في مذود ” (لوقا 2: 12). ظهر جمهورٌ من الجند السماوي مسبحين الله وقائلين : ” المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر”. يا لها من أنشودة خالدة وترنيمة جميلة حفظها الرعاة ونقلوها حرفياً، أولاً إلى يوسف البار ومريم العذراء في مغارة بيت لحم، ثم إلى كل من عرفوه وبلَّغوه رسالة السماء. والسؤال الذي يُطرح بهذه المناسبة هل قدّر أولئك الرعاة معنى هذه الرسالة السماوية وهم لم يعرفوا بعد ماذا سيكون من أمر هذا الطفل الذي بشرت به الملائكة ؟ هل تصور الذين سمعوا الرعاة بأن ملء الزمان قد جاء حقاً وابن الله قد تجسد، والوارث قد أتى، فكل نبوات أنبيائهم، ورموز وإشارات آبائهم قد تحققت في تلك الليلة؟ نعتقد أنه لم يكن في تصور الكل المعاني الكبيرة التي حملها حدث الميلاد في تلك الليلة التاريخية، ولكن كل ما حصل كان تمهيداً للذي سيحصل، وتأكيداً لأحداث أخرى سبقت فجعلت مريم العذراء أن تُضيف إلى ذاكرتها حدثاً جديداً بعد البشارة في الناصرة، والحبل الإلهي، والحلم الذي كان ليوسف، والسفر إلى بيت لحم، وهكذا تتابع الأحداث الإنجيلية الواحدة بعد الأخرى لتصل إلى قمتها عندما يُعلق مُحقق هذه النبوات على خشبة العار فيتحقق الخلاص لكل إنسان يؤمن برسالة يسوع المسيح الإله المتجسد. هكذا نفهم ربط الأحداث بين العهدين القديم والجديد، وهكذا نؤمن عندما نقرأ في رسالة بولس الرسول إلى تلميذه تيموثاوس : ” بالإجماع عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد. تبرر في الروح تراءى لملائكة كرز به بين الأمم أُؤمِنَ به في العالم رُفع في المجد ” (1 تيمو 3: 16)، فالمؤمنون بإعلان هذا السر عليهم، يجب أن ينتهوا جميعاً إلى وحدانية الإيمان ومعرفة ابن الله، إلى إنسان كامل، إلى قياس قامة ملء المسيح (أفسس 4: 13).
أيها الأخوة والأخوات…
ونحن في هذه السنة ومع أنشودة الملائكة نتذكر بأن إلهنا قد أعطانا السلام بتجسده وميلاده في مغارة بيت لحم، دعونا نتأمل معنى هذا السلام في هذه الأيام بالذات التي فيها تنقلنا الأخبار إلى حالات الاضطراب، والتوتر، والحروب الطاحنة، وتُعيد إلى أذهاننا صور الحواجز التي تقطع كل الدروب، والحصار الذي قد يلف حول أوطاننا فيدخل القلق والخوف والريبة إلى قلوب الناس. إن مصالح الإنسان أصبحت فوق كل المصالح، وجشع الإنسان أصبح في قائمة أوليات فكره، وصورة هيرودس المنغمس في المال، والفسق، والمادة، وانحلال الأخلاق، تتكرر في هذه الأيام ويبقى الإنسان ضعيفاً أمام مخططات قوى الشر التي تخطط وتنفذ كل ما يدك أسوار حضارة الإنسان ويقضي على كيانه.
نحن في طقسنا التفت آباؤنا السريان إلى معاني السلام شلما، وخصصوا له قراءات منفصلة، ففي مثل هذه الليلة نردد : ” اللهم يا من أنت أمنٌ لا حد له وسلامٌ لا ينفصل، ومحبةٌ لا ينقض عهدها، يا من بفضلك العميم خلقت الإنسان غير صائر إلى الفساد، ولما خالف أمرك بحسد الشيطان، إياه شُجب بحكم الموت. وبمجيء ابنك الوحيد ربنا وإلهنا المحيي، مُلئت الأرض سلاماً من السماء. اجعلنا أهلاً لنعطي بعضنا بعضاً سلاماً صافياً بقبلة مقدسة “. هذا الكلام نردده في أول القداس في كل مرة لنؤكد بأن السلام من أهم العناصر التي أرادها يسوع المسيح لتلامذته، لقد هدم العداوة والسياج القائم بين السماء والأرض، وجاء يحمل السلام إلى البعيدين والقريبين، فجدير بنا في هذه الليلة المباركة وفي هذا العام بالذات ونحن أمام مخاض جديد تُـنذر به الأخبار، ويتحدث عنه الناس شرقاً وغرباً، أن نتوقف عند معاني السلام، ونتأمل مواقف الكنيسة المقدسة من الحروب والاضطرابات والتوترات التي يخطط لها وينفذها أعداء الإنسان، تذكروا أيها المؤمنون قول الملاك للرعاة : ” لا تخافوا ها أني أبشركم بفرح عظيم “. فالمسيح المولود جاء لينزع كل معاني الخوف من قلوبنا وليبعث فينا الرجاء الكامل، بعد أن بشرنا بفرح الميلاد، السلام هو رسالة ميلاد يسوع المسيح في هذا اليوم، رغم أنه مفقود في مناطق كثيرة من العالم خاصة في الأراضي المقدسة التي عرفت يسوع المسيح من خلال أعماله الباهرة، وبخاصة بيت لحم التي قال عنها النبي : ” وأنتِ يا بيت لحم لست الصغرى لأن منك يخرج مدبر يرعى شعبي ” (متى 2: 6)، هذه الأماكن المقدسة أكثر من أي مكان آخر تحتاج اليوم إلى السلام، أن مدينة بيت لحم والعالم يتذكر مغارتها حيث وُلد يسوع المسيح تئن وتتوجع وتتألم من جراء الأعمال التعسفية التي يأتيها أعداء السلام ضد الإنسان وموطن السلام.
من حلب الشهباء مدينة الإخاء الديني والمحبة والسلام، وباسم جميع المواطنين مسلمين ومسيحيين نناشد العالم بأسره، وخاصة القادة الذين يصنعون القرار ليلتفتوا إلى الأبرياء الذين يُضطهدون ويُعذبون ويتألمون من أجل نصرة الحق، ويدفعون ثمناً باهظاً لدفاعهم عن حقوقهم وحمايتهم لأراضيهم، وأن يعملوا من أجل السلام العادل والشامل في كل منطقتنا، خاصة في فلسطين الجريحة، والعراق المتألم والعمل من أجل تثبيت دعائم السلام في كل مكان لخير الإنسان والأوطان. ونوجه التحية والتهنئة إلى قائد بلادنا ورئيسنا المحبوب بشار الأسد الذي أكّد للعالم في أكثر من مناسبة بأن سورية الحضارة والعطاء، سورية الصامدة في وجه الطغيان والاستعمار، سورية التي آمنت بالوحدة الوطنية والعيش المشترك بين كل الموطنين، ستبقى دائماً حاملة لواء المحبة لكل إنسان، ورافعة راية السلام والعدالة في كل مكان.
ونسأل الله أن يبارك سورية العزيزة رئيساً، وحكومةً، وجيشاً، وشعباً، وأن يوطد أركان السلام والأمن والطمأنينة في كل مكان. وإليكم أيها الأخوة والأخوات، أيها السامعون الكرام نقول : كل عام جديد وميلاد مجيد وأنتم بألف خير.
عيد الميلاد
2002
2003
ܬܫܒܘܚܬܐ ܠܐܠܗܐ ܒܡܪ̈ܘܡܐ ܘܥܠ ܐܪܥܐ ܫܠܡܐ ܘܫܝܢܐ ܘܣܒܪܐ ܛܒܐ ܠܒܢܝ̈ܢܫܐ
المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر
أيها الأحباء…
في مثل هذه الليلة من كل سنة، تحتفل الكنيسة المسيحية بعيد الميلاد المجيد، أي ميلاد ربنا يسوع المسيح بالجسد في مغارة بيت لحم، ونعتمد نحن المسيحيين في حدث الميلاد على ما ورد في الإنجيل المقدس بحسب الإنجيليين الأربعة : متى ومرقس ولوقا ويوحنا. ولكل منهم أسلوب خاص عبَّر من خلاله عن هذا السر العظيم الذي قال عنه بولس الرسول : ” عظيم هو سر التقوى الله ظهر بالجسد “. 1تي 3 : 16
فمتى الرسول بعد أن سرد نسل يسوع المسيح بدءاً من داود الملك، ثم ابراهيم وإلى يوسف خطيب مريم العذراء. حدثنا عن بشارة الملاك للعذراء وموقف يوسف البار وظهور الملاك له في الليل بقوله : ” يا يوسف بن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك لأن الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس، فستلد ابناً وتدعو اسمه يسوع لأنه يخلص شعبه من خطاياهم. وهذا كله كان لكي يتم ما قيل بالرب بالنبي القائل هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا “. متى1: 20 ـ 23
ومرقس البشير ينتقل في أول إصحاح من الإنجيل إلى الصوت الصارخ في البرية، وظهوره على نهر الأردن، ودعوته الناس للتوبة. أما لوقا الإنجيلي فقد دخل في تفاصيل الميلاد أكثر من غيره، فقبل الميلاد كانت البشارة بيوحنا المعمدان وما حصل لزكريا أبيه في الهيكل، وكيف وُلد يوحنا، وظهور الملاك للعذراء، والحوار القصير بينهما، وزيارة مريم لنسيبتها أليصابات، والنشيد الذي تلته أمامها، ثم كل الأحداث التي دارت قبل وبعد الميلاد، منها : الاكتتاب الذي حصل في أيام أغسطس قيصر، ووجود الرعاة في كورة بيت لحم، وظهور الملائكة لهم في ليلة الميلاد، والنشيد الذي اصبح ملازماً لمناسبة مثل هذه، وقد ردده الملائكة قائلين : ” المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر “. لوقا2: 14 ثم ختانة يسوع في الهيكل، وصعوده بحسب شريعة موسى مرة أخرى ليقدم للرب، وظهور سمعان الشيخ وحنة بنت فنوئيل التي كانت من سبط أشير.
ويبقى يوحنا الرسول ـ الإنجيلي المتميز الذي حلق في أجواء روحية عالية، وافتتح إنجيله بقوله : ” في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله ” يوحنا1: 1، وبعد أن عرّف بيوحنا الآتي للشهادة ليشهد للنور لكي يؤمن الكل بواسطته. يقول يوحنا : ” والكلمة صار جسداً وحلَّ بيننا ورأينا مجده، مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً “. يوحنا1: 14
أيها الأحباء …
كل هذه التفاصيل الواردة في الإنجيل المقدس بحسب الإنجيليين الأربعة نختصرها في قانون الإيمان، بعبارة واحدة ونقول : ” نزل من السماء وتجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء وصار إنساناً “. وعندما نوصي بترديد قانون الإيمان وتعليمه في مدارسنا وبيوتنا، نعتبر هذا القانون جزءاً مهماً من عقيدتنا بسر التجسد الإلهي، لهذا فعلى المسيحي المصلي سواء كان في البيت أو في الكنيسة وهو يردد قانون الإيمان أن يتأمل بهذه العبارة، ويدرك ما معنى نزول الله إلى الإنسان وإلى أرض الإنسان. فإذا كنا بعيدين عن الخلفية الكتابية، والبعد التاريخي الذي ترآى في العهد القديم، ومهد لتجسد ابن الله، نكون منكرين لحقيقة هذا النزول الذي نتحدث عنه. صحيح أنه أخذ جسداً ونفساً وروحاً وعقلاً ووجداناً، وكل شيء (ما خلا الخطيئة وحدها)، ولكن هذا كان لكي يتم ما قيل بالنبي القائل : ” ويُدعى اسمه عمانوئيل أي الله معنا “، وهذا يختصر كل المسافات عندما نعلم بأن التجسد الإلهي كان من أجلنا.
أيها الأحباء…
أريد اليوم أن أتوقف معكم باختصار شديد عند شهود سر الميلاد، وأبدأ بالعذراء مريم. تصوروا أن بنات داود اللواتي عشن في القصور، كنَّ يحلمْن بأن تكون إحداهنَّ أماً للمخلص، فأختار الله مريم العذراء المخطوبة لرجل وهي تعيش في منزل متواضع جداً لتكون أماً للمخلص. ماذا كنا نتوقع من فتاة بعمرها ووضعها ومكانتها، وهي تقابل ملاكاً في الهيكل يخبرها بصريح العبارة بأنها هي التي انتظرتها الأجيال، لأنها وجدت نعمة عند الله، وهذا الذي سيولد منها ” يكون عظيماً وابن العلي يُدعى ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا يكون لملكه نهاية ” لوقا1: 32. كيف لا تضطرب هذه الفتاة من كلام الملاك، ولا تفكر بتحيته تفكيراً عميقاً. ولكن جواب مريم بعد أن أدركت سر التحية عرفت أنه ليس شيء غير ممكن لدى الله، لهذا أحنت هامتها وقالت أمام الملاك، ” هوذا أنا أمة الرب ليكن لي كقولك ” لوقا1: 38.
والشاهد الثاني هو يوحنا المعمدان ابن العجائب، قبل أن يولد هزت قصة والده ضمائر الناس، هو الآخر ظهر له الملاك على غير موعد بينما كان يكهنُ في نوبة فرقته أمام الله. زكريا الكاهن لم يخطر على باله بأنه سيكون أباً، وابنه يوحنا سيكون عظيماً أمام الرب، ومن بطن أمه يمتلئ من الروح القدس، ويرد كثيرين من بني إسرائيل إلى الرب إلاههم، ويتقدم بروح ايليا وقوته ليردَّ قلوبَ الآباء إلى الأبناء، والعصاة إلى فكر الأبرار لكي يهيئ للرب شعباً مستعداً لوقا1: 16 و 17.
يوحنا هو أول من قابل يسوع، إذ ارتكض وهو الجنين بابتهاج في بطن أمه عندما سمع صوت سلام العذراء لأمه أليصابات. يوحنا أصبح ظاهرة في تاريخ اليهود المعاصر لأيام السيد المسيح، إنسان كان ينمو ويتقوى بالروح وكان في البراري إلى يوم ظهوره على نهر الأردن، فعندما جاء إلى جميع الكورة المحيطة بالأردن يكرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا تذكر اليهود كلمات نبيهم أشعياء القائل : ” صوت صارخ في البرية أعدوا طريق الرب اصنعوا سبله مستقيمة. مرقس1:3 كل وادٍ يمتلئ وكل جبل وأكمة ينخفض وتصير المعوجات مستقيمة والشعاب طرقاً سهلة ويبصر كل بشر خلاص الله ” لوقا3: 5 و6.
لم يسمع اليهود توبيخاً حاداً مثل توبيخ يوحنا للجموع إذ بأعلى صوته ناداهم قائلاً : ” يا أولاد الأفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي فاصنعوا أثماراً تليق بالتوبة ولا تبتدئوا تقولون في أنفسكم لنا ابراهيم أباً لأن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولاداً لابراهيم، والآن قد وضعت الفأس على رأس الشجر فكل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً تقطع وتلقى في النار ” لوقا3: 7 ـ 9.
يوحنا يمثل الضمير الإنساني الذي ينبغي أن يولد بميلاد المسيح. شاهد آخر للميلاد ألقى تبعية مسؤولية رسالة الميلاد على من ابتعد عن خط المسيح ودربه.
الشاهد الثالث يتمثل في الملاك والرعاة، الإنجيلي لوقا ببساطة متناهية يحدثنا عن ذلك المشهد في تلك الليلة، ويقول : ” وكان في تلك الكورة رعاة متبدين يحرسون حراسات الليل على رعيتهم ” لوقا2: 8. مساكين أولئك الرعاة، كانوا يفكرون في كل شيء وهم يحرسون حراسات الليل على رعيتهم، ما عدا أن يظهر لهم ملاك من السماء وان يتحول الليل إلى نهار، والظلام إلى نور، لأن مجد الرب أضاء حولهم، مشهد ولا أروع أدخل الرعاة في حيرة من أمرهم لهذا يقول الإنجيلي لوقا بعد أن شاهدوا هذا المنظر بأنهم خافوا خوفاً عظيماً وكانت أولى مهمات الملاك أن يزيل عنهم الخوف بكل معانيه. فقال لهم : ” لا تخافوا هأنذا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب ” لوقا2: 10.
الحقيقة التي يجب أن تُقال أن البشرية كلها خافت وارتعبت لأنها كانت أمام هزة كبيرة غيرت مجرى التاريخ، ولكن الفرح أيضاً قادم، خاصة وأن الملائكة أعلنوا طبيعة رسالة السيد المسيح، صحيح أن الرعاة الأميين تعرّفوا على المخلص مسيح الرب، في شخص طفل مسكين فقير مُعدم، نائم على التبن في مذود للبهائم وبجواره أم فقيرة صغيرة غريبة، كأن لا أهل لها ولا معين، ولكن الجند السماوي الذي أعلن عن فرحة السماء والأرض بهذا المولود سبح الله بترنيمة الميلاد : ” المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر ” لوقا2: 14.
ولم تقف سلسلة شهود الميلاد عند الرعاة في بقعة جغرافية محصورة، ولكنها انتقلت إلى المشرق بلاد بعيدة في المسافات، إلى أرض عاش أهلها بأمل ليروا ذلك اليوم الذي فيه ستتحقق النبؤات وسيأتي المخلص رغم أنهم كانوا بعيدين عن أنبياء العهد القديم فكراً، ورؤيةً، ولكن اهتمامهم بالأفلاك هيأ لهم نجماً ساطعاً في السماء فراقبوه وإذا به يتحرك مشيراً إلى حدثٍ مميز فجاءوا إليه مسرعين وعندما دخلوا أورشليم، مدينة السلام أعلنوا لكل الناس قائلين : ” أين هو المولود ملك اليهود، إننا رأينا نجمة من المشرق وأتينا لنسجد له ” متى2: 2، مما جعل هيرودس الملك أن يخاف ويجزع ويضطرب ومعه جميع أهل أورشليم متوجسين بانقلاب كبير يحدث في مجتمعهم، وهذا هو الذي دفع رؤساء الكهنة وكتبة الشعب ليفتشوا في الكتب أي ليعودوا إلى ينابيع النبؤات، ويعيدوا قراءتها واحدة فواحدة، ويتأكدوا أن الزمن قد أتى والمسيح المخلص ظهر فعلاً، وعهدٌ جديد قد بدأ، يختلف عن العهد القديم الذي مارسوا فيه كل الطقوس بحسب عاداتهم. والمجوس رغم أنهم فوجئوا باستقبال هيرودس لهم، وإن كان سراً، ولكنهم بعد أن أدوا واجباتهم وهم يقدمون هداياهم ذهباً ولباناً ومراً في البيت الذي فيه رأوا الصبي مع مريم أمه، انصرفوا في طريق أخرى إلى كورتهم دون أن يعودوا إلى هيرودس بحسب طلبه.
وختمت شخضيتان معروفتان عند اليهود سلسلة شهود الميلاد، الأولى شخصية سمعان، هذا الرجل الذي وصفه لوقا البشير بأنه كان باراً تقياً ينتظر تعزية إسرائيل والروح القدس كان عليه وكان قد أوحي إليه بالروح القدس أنه لن يرى الموت قبل أن يرى المسيح الرب لوقا2: 25 و26، عندما أخذه على ذراعيه في الهيكل تطلع إليه وقال : ” الآن تطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام، لأن عيني قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته قدام وجه جميع الشعوب “.
أما الشخصية الثانية فكانت حنة بنت فنوئيل، نبية من سبط أشير متقدمة في أيام كثيرة عاشت أرملة نحو /84/ سنة لا تفارق الهيكل عابدة بأصوام وصلوات وطلبات ليلاً ونهاراً، فهي الأخرى في تلك الساعة وقفت تسبح الرب وتكلمت عنه مع جميع المنتظرين فداء في أورشليم.
أيها الأحباء…
بعد أن عِشنا مع هؤلاء الشهود ماذا كان يقصد يوحنا الرائي في فاتحة إنجيله وهو يحدثنا بأسلوبه اللاهوتي عن سر التجسد الإلهي عندما قال : ” والكلمة صار جسداً وحلَّ بيننا ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً ” يوحنا1: 14. والكلمة صار جسداً هذه العبارة تجعلنا أن نعود إلى عبارة أخرى مرتبطة بها وهي في البدء كان الكلمة.
الله في مفهوم يوحنا الرائي ينزل إلى الأرض كإنسان، ليعيش مع الإنسان كإنسان، ويتكلم مع الإنسان بعد أن فشلت وأخفقت كل الطرق والوسائل في الماضي لإعادة الحياة إليه من خلال توصيل الكلمة، نحن هكذا نؤمن بأن الإله المتجسد قد جاء لمّا بلغ ملء الزمان من أجلنا ومن أجل خلاصنا.
ومع يوحنا الرائي أيضاً نرى كيف أن الكلمة يحتضن الأزلية والزمان معاً ” في البدء كان الكلمة… والكلمة صار جسداً ” يوحنا1: 1 و 1: 14.
فشهودنا في هذه الليلة متفقون بأن هذا الذي تنبأ عنه الأنبياء، وأخبرت عنه الكتب، وانتظرته الأجيال قد جاء حقاً ومجيئه سبَّب رعباً وفزعاً. لكثيرين من المتضررين أمثال هيرودس والفريسيين والكتبة والناموسيين ومن يتبعهم وقد سمّاهم يوحنا المعمدان ” بأولاد الأفاعي “، مع آخرين من اليهود. وغيرهم دخل الفرح إلى قلوبهم واستعادوا الحياة بعد أن كانوا في عداد الموتى، لأنهم تيقنوا وآمنوا بأن كل ما حدث في هذه الليلة وما سبقته وتبعته من أحداث كانت محفوظة في قلب أمه مريم العذراء وكان من أجل أن يعلّق المسيح على الصليب لخلاص البشرية.
ونحن اليوم إذ نعيَّد هذا العيد بفرح ونردد أنشودة السلام:
المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر
نتطلع إلى كل مكان فنرى كيف أن السلام قد انتُهِك في بقاع كثيرة من العالم خاصة في منطقتنا وفي البلاد العربية وما جاورها.
ففلسطين ما زالت تئِن، والعراق أُصيب في الصميم وسوريا تُهدد بشكل مباشر وغير مباشر، وعلى الطريق أكثر من بلد تدق فيه أجراس الحرب.
وهكذا نرى أيضاً كيف أن الإنسان يستغل قوته لضرب أخيه الإنسان، ولاحتكار موارده، والتسلط على خيرات أرضه، وتشريده، وتهميشه في بيته وفي مجتمعه. هؤلاء الذين امتهنوا السلب والنصب والضرب والحرب بكل تأكيد هم بعيدون عن الله وشرائعه ووصاياه وإن كانوا يأتون باسم محاربة العنف والإرهاب، ومساعدة الإنسان للعيش بكرامة وحرية.
إننا نناشد من على هذا المنبر الضمير العالمي وذوي الإرادة الصالحة من أجل التظافر لوضع حدٍ للانتهاكات التي تقع في بلادنا، ولكي نعيش بأمان وسلام أخوةً وأخوات تحت ظل وصايا الله الواحد الأحد الذي هو خالقنا وله كلنا نعبد وبه نستعين.
أيها الرب يسوع، في ليلة ميلادك المجيد، نتضرع إليك لكي تباركنا، وتحمي بلادنا، وتبعدها عن كل سوء، وتبارك رئيسنا الدكتور بشار الأسد وتقوّيه، وليتعاون معه كل رجال السلطة من أجل خير البلاد والعباد، وأن تعيد هذا العيد وأمثاله علينا وعلى جميع العالم باليُمن والبركة.
وكل عام وأنتم بخير
عيد الميلاد
2003
2004
ܬܫܒܘܚܬܐ ܠܐܠܗܐ ܒܡܪ̈ܘܡܐ ܘܥܠ ܐܪܥܐ ܫܠܡܐ ܘܫܝܢܐ ܘܣܒܪܐ ܛܒܐ ܠܒܢܝ̈ܢܫܐ
المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر
أيها الأحباء…
تبقى أنشودة الملائكة الذين سبحوا الله في ليلة الميلاد قائلين: ” المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام، والرجاء الصالح لبني البشر “. تبقى في قائمة أولويات هذه المسيرة التي قادها يسوع المسيح بالجسد، بعد ولادته في مغارة بيت لحم، وكلمات الأنشودة تعبّر عن طبيعة الرسالة ومكنوناتها وأهدافها.
ففي تلك الليلة الفريدة من نوعها، وبينما كان السكون يخيّم على العالم كله، والإنسان ينتظر بفارغ الصبر وقوع الحدث الهام، إذا بضياء من نوع آخر، ظهر فجأة ولفَّ الكورة التي كان فيها رعاة متبدين يحرسون حراسات الليل على رعيتهم (لوقا 2: 8)، لم يخطر على بال أولئك الرعاة أن السماء تدعوهم ليكونوا من أوائل المبشرين لرسالة الميلاد الخلاصية، فإذا ملاك الرب وقف بهم ومجد الرب أضاء حولهم. تُرى هل عرفوا قصة ظهور الملاك ثلاث مرات خلال ستة أشهر ؟ المرة الأولى : عندما كان زكريا واقفاً عند يمين مذبح البخور، فظهر له ملاك الرب، ولأنه لم يكن قد رأى الملاك قبلاً اضطرب ووقع عليه خوفٌ ؟ (لوقا 1: 10-13)، والمرة الثانية: عندما كانت العذراء مريم في ناصرة الجليل، فدخل إليها الملاك وهي الأخرى عندما رأته اضطربت من كلامه ؟ (لوقا 1: 29 و30)، والمرة الثالثة: إذ كان يوسف خطيّب السيدة العذراء باراً ولم يشأ أن يشهرها بل أراد تخليتها سراً، وفيما هو مفتكر في هذه الأمور ظهر له ملاك الرب في حَلْم قائلاً : يا يوسف لا تخف ؟ (متى 1: 18-20)، وها هي المرة الرابعة يظهر فيها ملاك الرب، في أقل من سنة ويُعلن لأولئك الرعاة البسطاء بشارةً غريبة بالنسبة إليهم، ولكن قبل إعلانها يقول بقوة : لا تخافوا (لوقا 2: 10).
نتساءل في هذه الليلة، وفيها تتذكر ليلة ميلاد ربنا يسوع المسيح في مغارة بيت لحم، تُرى لماذا يقول الملاك لزكريا : لا تخف. ولمريم العذراء : لا تخافي. وليوسف البار لا تخف ؟ وهوذا الملاك للمرة الرابعة يوجه كلامه بصراحة متناهية إلى رعاة بسطاء ويقول : لا تخافوا ؟ هل طبيعة رسالة الميلاد ومكنوناتها وأهدافها كانت مخيفة للبشرية إلى هذا الحد ؟ وهل حقاً خاف زكريا، وخافت مريم العذراء، وخاف يوسف، وخاف الرعاة، لأنهم رأوا الملاك ؟ هل الخوف كان من منظر الملاك أم من طبيعة الرسالة التي حملها الملاك إلى أولئك جميعاً ؟
عالمٌ مضطرب يعيش القلق بكل أبعاده، ضائعٌ، لا يعرف من أين يبدأ وإلى أين ينتهي. لقد عرفت السماء حقيقة حالة الإنسانية، التي تمثلّت في شخص زكريا الكاهن الورع التقي، ولكنه مع كل ذلك كان خائفاً. وفي شخص مريم العذراء قمة الطهارة والقداسة والنقاوة، والتي جسدت أبعاد البرارة في سيرتها، تصوم، تصلي، تعبد الله، تعيش التعاليم والوصايا، لا تفارق الهيكل، ولكن مع هذا شعرت بخوف ورعدة وهي تتلقى دعوةً من السماء لتكون أماً لعمانوئيل. وفي شخص مار يوسف البار، الذي حافظ على هدوئه ورصانته وإيمانه وصبره، ولكن مع كل ذلك يقول له الملاك: لا تخف. أما الرعاة فمظاهر الخشونة والقساوة والبداوة كانت قد نخرت عظامهم، لم يفهموا معنى الحياة إلا من خلال الظلام، ولم يعرفوا طعم العيش إلا من خلال حراسات الليل، ورغم هذا كله خافوا وجزعوا من طبيعة الرسالة التي فاجأتهم بها السماء، وفي كل المواقف المذكورة نسمع قول الملاك : لا تخف، لا تخافي، لا تخافوا، إنه تأكيد جديد على أنه في طبيعة رسالة الميلاد مؤشرات إلى قوة جديدة يتسلح بها الإنسان، هذه القوة تتجسد في عدم الخوف والهلع والجزع، لأن إله السلام جاء لكي يثبِّت أركان السلام في البشرية.
أيها الأخوة المباركون…
لا يمكننا أن نفهم رسالة الميلاد إلا إذا عُدنا إلى معانيها الحقيقية. أنتم عرفتم ما قاله القديس متى في بدء إنجيله : كتاب ميلاد يسوع المسيح … (متى 1: 1)، وأما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا… (متى 1: 18)، ولما وُلد يسوع في بيت لحم اليهودية… (متى 2: 1). وقرأتم في إنجيل لوقا قوله عن الميلاد: وبينما هما هناك تمت أيامها لتلد فولدت ابنها البكر… (لو 2: 6-7).
أما يوحنا الرائي فيبقى مطلع إنجيله معبراً عن طبيعة رسالة الميلاد ومكنوناتها وأهدافها بأسلوب لاهوتي مميز، فيقول : في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله، هذا كان في البدء عند الله، كلُ شيءٍ به كان، وبغيره لم يكن شيءٌ مما كان. فيه كانت الحياة، والحياة كانت نورَ الناس، والنورُ يضيء في الظلمةِ، والظلمةُ لم تُدركه (يو 1: 1-5).
هذا هو يسوع المسيح الذي كان عند الله قبل أن يجيء ملء الزمان، حين أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني (غلا 4: 4). ويوحنا الرائي عندما استهل إنجيله برؤية يسوع المسيح في طبيعة الله الكلية تحدث عن وحدته مع الآب، وحدةٌ لا تقبل أي نوع من أنواع النقاش، فلم يكن الكلمة عند الله فحسب، بل كان الكلمة الله، يا لها من رؤية تفوق كل وصفٍ. فالكلمة الذي صار جسداً وحل بيننا (يو 1: 14) يراه يوحنا أولاً خارجاً عن الزمن، ألا تذكرون كيف كان الزمن في وصف صاحب سفر التكوين عندما يقول : في البَدء خلقَ اللهُ السمواتِ والأرضَ… وقال الله ليكنْ نورٌ فكان نورٌ، ورأى الله النورَ أنه حسنٌ، وفَصَل اللهُ بينَ النورِ والظلمةِ، ودعا الله النورَ نهاراً، والظلمةُ دعاها ليلاً، وكان مساءٌ وكان صباحٌ يوماً واحداً (تك 1: 1-5).
من هنا بدأت علامات الزمن، وقد أشار يوحنا الرائي في مستهل إنجيله بأن الكلمة هو خالق هذا الزمن، فعندما نظر إليه، رآه قبل أن تكون الخليقة. ونحن عندما نقرأ هذا الفصل بالذات في طقسنا الأنطاكي السرياني في عيد الميلاد المجيد، إنما نريد أن نؤكد بأن الولادة الأولى التي كانت خارجاً عن الزمن وقبل أن تكون الخليقة، لا يمكن أن تنفصل عن الولادة الثانية التي وقعت تحت الزمن. ولا اعتقد أن أحداً منا يستطيع أن يُدرك المعاني اللاهوتية العميقة لمقدمة إنجيل يوحنا إلا إذا ربطها بالميلاد، فمرورُ الخليقة في غياهب الجهل والتخلف والظلمة، وابتعادُ الإنسان عن عبادة الله، وانغماسُه في ملذات الحياة ومادياتها، أبعدت عن الإنسان مفهوم السلام الحقيقي الذي كان بمثابة جسر يربط بينه وبين الخالق، وبينه وبين نفسه، وبينه وبين أخيه الإنسان. فعندما أعلن الملائكة للرعاة البسطاء في تلك الليلة الغارقة في الظلام خبرَ الميلاد كانت رسالتُهم تُشير إلى الله الكلمة الذي كان عند الله، والإله المتجسد الذي وُلد عندما جاء ملء الزمان في مغارة بيت لحم.
أيها الأخوة أيتها الأخوات :
طبيعة رسالة الميلاد، ومكنوناتها، وأهدافها تتوضح عندما نعلم أن سياج العداوة بين الإنسان وربه، وبين الإنسان ونفسه، وبين الإنسان وأخيه الإنسان، كان قد أصبح أهم سبب لانتقال الإنسان من حالة البرارة إلى حالة الخطيئة. كل آباء الكنيسة يؤمنون ويعتقدون بأن تجسد يسوع المسيح، كان لسببين. الأول : لأن البعد أصبح شاسعاً بين الله والإنسان. والثاني: هذا البعد عن الله أبعده عن كل شيء، عن الإيمان بكل معانيه، عن القيم والأخلاق والواجبات والحقوق. وهكذا أضحى الإنسان مهمشاً في المجتمع، لا يحترم فيه روح المسؤولية، ومفهوم العطاء، ورسالة الخدمة. فالملاك الذي ظهر لزكريا، والعذراء مريم، ويوسف البار، والرعاة، كان يُشير إلى أن رسول السلام وهو الآتي بعد ملء الزمان (غلا 4: 4) جاء لكي يهدم هذا السياج، لأن سياج العداوة الذي كان يجب أن يُهدم وينتهي إلى الزوال لتعود العلاقة بين الله والإنسان كما كانت قبل الخطيئة.
وهذه العلاقة قبل الفداء، أدت إلى حرب بين الإنسان ونفسه. الأمر الذي دفع بولس الرسول ليشرحه في رسالته إلى أهل رومية بقوله: أما أنا فجسدي مبيعٌ تحت الخطيئة لأني لست أعرف ما أنا أفعله، إذ لست أفعل ما أريده بل ما أبغضه فإياه أفعل (رو7: 15).
إذاً العداوة التي بنتها الخطيئة بين الإنسان وربّه، أدت إلى قلق ذاتي، امتد إلى كل مشاعر الإنسان وأحاسيسه. فبعد أن كان يعيش حالة البرارة، دخل في عالم الخطيئة، وأصبح يخاف كل شيء.
وهكذا على لسان الإنسان يُعلن بولس الرسول: لأني لست أفعل الصالح الذي أريد بل الشر الذي لست أريده فإياه أفعل فكنت ما لست أريده إياه أفعل، فلست بعد أفعله أنا بل الخطيئة الساكنة فيَّ (رو7: 20).
ومن العداوة بين الإنسان وربّه، والإنسان ونفسه، انتقل الإنسان إلى عداوة مع أخيه الإنسان. تذكروا ما فعله الإنسان بأخيه الإنسان في كل المراحل التاريخية.
والذي قاله السيد المسيح عن علاقة مجيئه وانقضاء الدهر، أمام تلاميذه بينما كان جالساً على جبل الزيتون (متى 24: 3)، قد تحقق في أكثر من زمان ومكان. فقد سمعنا بحروب وأخبار حروب، وعرفنا أن أمماً قامت على أمم وممالك على ممالك، وتعرّفنا على مجاعات وزلازل وأوبئة في أماكن كثيرة. وبالنسبة إلى المؤمنين فلقد أُسلموا إلى ضيق، وقُتلوا، وأصبحوا مُبْغَضين من جميع الأمم، وقام أنبياءٌ كذبة كثيرون، وأضلّوا كثيرين، ولكثرة الإثم بردت محبة الكثيرين (متى 24: 3-9). من قام بكل هذه الأعمال ؟ الإنسان الذي دخل في عداوةٍ مع أخيه الإنسان. مؤسس السلام ورسوله وهو يتحدث عن كل ذلك أيضاً قال لنا بصوت جهوري: لا ترتاعوا، لا تخافوا، لا تجزعوا، لأنه لا بدّ أن تكون هذه كلها. ثم قال أيضاً: والذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص (متى 24: 13). والذي يخلص يدخل في عالم السلام الذي من أجله جاء يسوع المسيح بالجسد.
أيها الأخوة أيتها الأخوات :
في هذه الأيام العصيبة التي تمرُّ على منطقتنا، نشهد كيف أن الأحداث تتسارع، ورياح التغيير تتفاعل، مع مخططات تُرسم من قبل الآخرين، ويدفع الإنسان ضريبة باهظة نتيجة مواقفه الصحيحة والصلبة، وأنباء الحروب والقتل والدمار وأخبار الفساد والأعمال اللإنسانية، والنهب، والسلب، والنصب، والاحتيال، والاحتلال، ويؤسفنا أن نقول أنه في بعض الأحيان يشترك الإنسان من منطقتنا بالذات مع عناصر الشر التي تتآمر على وحدتنا وقيمنا ومبادئنا النابعة من تعاليمنا.
ولا نرى من يستطيع أن يضع حداً للأعمال الشنيعة التي تنتهك كرامة الإنسان، وتريد أن تقضي على مقدساته، وتهدد كيانه وهُويته، وتزعزع ثقته بنفسه، وتريد أن تبعده عن أصالته وجذوره.
نحن في هذه الأيام في عيد ميلاد مؤسس السلام الرب يسوع المسيح، نتعلم من قوله الملاك لزكريا الكاهن، والعذراء مريم، ويوسف البار، والرعاة أن لا نخاف. ورغم الاضطراب الذي يعمّ المنطقة نشعر كمؤمنين بأن ثقتنا هي كبيرة بالله تعالى، وأن رسالة السلام التي من أجلها جاء يسوع المسيح، تتفاعل في داخلنا، فنحن تلامذته، وصناعة السلام هو من واجبنا، والمساهمة في تحقيقه وثباته وترسيخه في قلوبنا وفي قلوب الآخرين أيضاً هو واجبٌ لنا وعلينا، وإلا فما معنى أن نعّيد الميلاد بكل معانيه ؟ خاصة ونحن ننادي بأن طبيعة رسالة الميلاد ومكنوناتِها وأهدافَها تتلخص في نشر السلام ودعمه في كل مكان ؟
أجل لا ولن نخاف، أو نتزعزع، ولن نشعر بأن نهاية العالم ستأتي على أيدي صانعي الشرّ.
نحن نؤمن إذا ما دخلنا في التجربة أن الله سينجينا من الشرير (متى 6: 13)، وأن الذين يقتلون الجسد مهما كانوا أقوياء لا يستطيعون أن يقتلوا النفس. نحن المؤمنين نخاف فقط ولكن من الذي يقدر أن يُهلِك النفس والجسد، وفي الوقت نفسه نؤمن بقول السيد المسيح: أليس عصفوران يباعان بفلس، وواحدٌ منهما لا يسقط على الأرض بدون أبيكم. وأما أنتم فحتى شعورُ رؤوسِكم جميعُها مُحصاةٌ، فلا تخافوا أنتم أفضلُ من عصافيرَ كثيرةٍ (متى 10: 29-31).
بهذه الروح نحن نحتفل في هذه الليلة بعيد ميلاد ربنا يسوع المسيح، ونرجو أن يكون عيداً سعيداً لكم ولكلّ السامعين، مِلْئُهً النعم والخيرات والبركات، لكم ولنا وللعالم أجمع.
وفي الختام لا بد أن نرفع التهاني القلبية لكل أخوتنا في سورية مسلمين ومسيحيين بالأعياد المجيدة، ورأس السنة المباركة، وبخاصة رئيسنا الدكتور بشار الأسد، طالبين من مولود مغارة بيت لحم أن يباركه مع عائلته والعاملين معهم في الخدمة والسلطة، ويمد في عمره، ويحفظه من كل مكروه، ويقويه ليدير دفة سورية العزيزة إلى شواطئ الأمان والاستقرار، وكل عام وأنتم بخير.
ܒܪܝܟ̣ ܡܘܠܕܗ ܕܡܪܢ ܘܕܪܝܫ ܫܢ̱ܬܐ ܚܕܬܐ
عيد الميلاد
2004
2005
ܬܫܒܘܚܬܐ ܠܐܠܗܐ ܒܡܪ̈ܘܡܐ ܘܥܠ ܐܪܥܐ ܫܠܡܐ ܘܫܝܢܐ ܘܣܒܪܐ ܛܒܐ ܠܒܢܝ̈ܢܫܐ
المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر
ܒܪܝܟ̣ ܡܘܠܕܗ ܕܡܪܢ
(1)
المسيحيون هم في عيد ميلاد الرب يسوع المسيح بالجسد، وفي 25 كانون الأول من كل سنة يحتفلون بهذه الذكرى العطرة، وبذلك يعيدون إلى أذهانهم تلك الأحداث الإنجيلية التي سطّرها الإنجيليون الأربعة القديسون متى ومرقس ولوقا ويوحنا، بإلهام من الروح القدس، وقد بقيت كتاباتهم مصادر حية يُعتمد عليها. فمتى الإنجيلي يبدأ أولاً بنسب السيد المسيح بن داود بن ابراهيم (1)، ويصل إلى يوسف رجل مريم التي وُلد منها يسوع الذي يُدعى المسيح (2). ثم يتحدث عن ولادة يسوع، بدءاً من خطوبة مريم أمه ليوسف، وكيف أنه قبل أن يجتمعا وُجدت حُبلى من الروح القدس (1)، ولأن يوسف كان باراً تقياً ورعاً لم يشأ أن يُشهرها، ولكنه أراد تخليتها سراً، فكانت كلمة الله عليه بواسطة ملاك الرب الذي ظهر له في حلم وأعلمه بحقيقة هذا السر الإلهي، وبأن المولود سيخلص شعبه من خطاياهم، تحقيقاً لما قيل من الرب بالنبي القائل : ” هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا ” (2). ففعل كما أمره ملاك الرب وأخذ امرأته.
ثم يستطرد متى الإنجيلي فيكتب عن ولادة يسوع في بيت لحم (3)، وظهور المجوس الذين أتوا من المشرق وسألوا أهل أورشليم أين هو المولود ملك اليهود ؟ والسبب كان لأنهم رأوا نجمه في المشرق وجاؤوا ليسجدوا له (4)، وكيف أن هيرودس الملك اضطرب وجميع أورشليم معه، وجَمَعَ كل رؤساء الكهنة وكتبة الشعب وسألهم أين يولد ملك اليهود؟ وكان هيرودس في عالم، والمجوس في عالم آخر، لأن هيرودس كان يبيّت الشر لهذا الذي نجمه دعا المجوس من المشرق إلى أورشليم، بينما المجوس بعد أن رأوا النجم يتقدمهم فجاؤوا ووقفوا حيث كان الصبي وأتوا إلى البيت ورأوا الصبي مع أمه، فخروا وسجدوا له، ثم فتحوا كنوزهم وقدموا له هدايا ذهباً ولباناً ومراً (5)، وعندما أوحي إليهم في حلم أن لا يرجعوا إلى هيرودس انصرفوا في طريق أخرى إلى كورتهم.
أما العائلة المقدسة المؤلفة من الصبي يسوع وأمه مريم ويوسف البار، فلقد هربت إلى مصر بعد أن ظهر الملاك مرة ثانية ليوسف، وكان هذا أيضاً لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل : ” من مصر دعوت ابني ” (6).
وينفرد متى الإنجيلي في سرده لحدث الميلاد في تسليطه الأضواء على هيرودس وشخصيته. هذا الملك كان يحكم في تلك الأيام، ولكنه كان خائفاً على ملكه، لهذا عندما عرف أن ملكاً آخر قد وُلد، انغمس في الشر، وقرر أن يقتل جميع الصبيان الذين في بيت لحم، وفي كل تخومها من ابن سنتين فما دون بحسـب الزمان الذي تحققه من المجوس، وهكذا أيضاً تحققت كلمات ارميا النبي القائل : ” صوتٌ سُمع في الرامة، نوحٌ وبكاءٌ وعويلٌ كثير، راحيل تبكي على أولادها، ولا تريد أن تتعزى لأنهم ليسوا بموجودين “ (7). ويختم الإنجيلي متى قصة الميلاد بظهور الملاك للمرة الثالثة في حلم ليوسف، وطلبه بأن يأخذ الصبي وأمه ويذهب به إلى ارض إسرائيل، لأن هيرودس قد مات (8)، ولكن بما أن ابن هيرودس ارخيلاوس مَلَكَ على اليهودية عوضاً عن أبيه، خاف يوسف أن يذهب إلى هناك، فظهر الملاك للمرة الرابعة له، فأوحى إليه في حلم فقرر أن يسكن في نواحي الجليل وتحديداً في بلدة الناصرة، وهكذا تم ما قيل بالأنبياء أنه سيُدعى ناصرياً (9).
(2)
أما مرقس الإنجيلي، فأنت تقرأ الآية الأولى في الإنجيل كالتالي : ” بدء إنجيل يسوع المسيح ابن الله ” (10). بعد هذا الإعلان اللاهوتي يتحدث عن الصوت الصارخ في البرية أي يوحنا المعمدان ابن زكريا واليصابات، وعماد يسوع، ولا ترى إشارات إلى حدث الميلاد، كما فعل قبله متى الإنجيلي.
(3)
أما الرائي يوحنا صاحب الإنجيل الرابع وسفر الرؤيا، فإنه يتحدث عن الولادتين، الأولــى عندما يقول : ” في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله، هذا كان في البدء عند الله، كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان، فيه كانت الحياة والحياة كانت نورَ الناس ” (11). وعن الولادة الثانية، يعبّر بقوله : ” فالكلمة صار جسداً وحل بيننا ورأينا مجده، مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمةً وحقاً ” (12).
وفي التعبيرين: الولادة من الآب قبل كل الدهور، والكلمة صار جسداً وحل بيننا، القديس يوحنا الذي يحلق في الأجواء اللاهوتية العالية، ويلخص مجريات التاريخ فيجمع بين الولادتين، كان يريد أن يصل إلى نتيجة وهي : ” أن الله لم يره أحدٌ قط، الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبّر “.
(4)
والآن جاء دور الإنجيلي لوقا، هذا المصور البارع الذي رسم لنا بريشته أجمل اللوحات عن حدث الميلاد وكتب في إصحاحين طويلين في بدء إنجيله عن يسوع المسيح حتى لما كانت له اثنتا عشرة سنة. و ينفرد لوقا البشير في أحداث إنجيلية توخى من خلالها ربط العهد القديم بالعهد الجديد، وهو يقر ويعترف بأن كثيرين قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة، وهو نزولاً عند رغبة العزيز ثاوفيلـوس، إذ قد تتبع في الأول كل شيء بالتدقيق، صمم أن يكتب على التوالي سيرة يسوع المسيح ليعرف الكل صحة الكلام الذي عُلِّم به.
فيبدأ لوقا المصور بزكريا الكاهن وزوجته أليصابات، وكانا كلاهما بارين أمام الله، سالكين في جميع وصايا الرب وأحكامه بلا لوم (13)، ولكن لم يكن لهما ولدٌ إذ كانت أليصابات عاقراً، وكانا كلاهما متقدمين في أيامهما. ثم كيف ظهر الملاك له بينما كان يكهن في نوبة فرقته أمام الله حسب عادة الكهنوت، وكيف اضطرب زكريا ووقع عليه خوفٌ، والحوار الذي جرى بينه وبين الملاك الذي كان واقفاً عن يمين مذبح البخور، والبشارة التي حملها إليه من خلال استجابة السماء لطلبته، ورسالة هذا الصبي الأساسية، فهو الذي سيرد كثيرين من بني إسرائيل إلى الرب إلههم، ويتقدم أمامهم بروح ايليا وقوته ليرد قلوب الأبناء إلى الآباء، والعصاة إلى فكر الأبرار لكي يهيئ للرب شعباً مستعداً (14).
ثم يرسم لنا لوقا صورة هذا الحدث بريشة واضحة، ويربط بينهما وبين بشارة أمنا مريم العذراء في الناصرة، وكيف ظهر الملاك لها بعد ستة أشهر من ظهوره لزكريا (15)، والحوار الذي جرى بين الملاك وبين مريم العذراء الصبية التي هي الأخرى اضطربت من كلامه وفكّرت ما عسى أن تكون هذه التحية. ولوقا صاحب الإنجيل الذي قال في بداية إنجيليه أنه قد تتبع كل شيء من الأول بتدقيق، يكتب بالتفصيل عن هذا الحدث الهام، وعن زيارة مريم لنسيبتها أليصابات، وفرح أليصابات بهذه الزيارة، والنشيد الذي قالته بصوت عظيم : ” مباركةٌ أنتِ في النساء، ومباركةٌ هي ثمرةُ بطنكِ، فمن أين لي هذا أن تأتي أم ربي إليَّ ” (16)، ثم نشيد مريم البتول الذي رددته الأجيال، وتردده وهي تطّوب هذه الأم الفـــاضلة (17)، وولادة يوحنا (18)، وكيف امتلأ زكريا أبوه من الروح القدس. وتنبأ أيضاً أن ولادته ستكون سبب خلاص من أعدائنا ومن أيدي جميع مبغضينا، وأن هذا الصبي يتقدم أمام وجه الرب ليعد طرقه، وليعطي الشعب معرفة الخلاص لمغفرة خطاياهم (19).
(5)
ويتناول لوقا الإنجيلي حدث الميلاد خطوةً خطوة، يبدأ بأمر الاكتتاب الذي صدر عن أغسطس قيصر (20)، ثم صعود يوسف من الجليل من مدينة الناصرة إلى اليهودية (21)، كونه من أبناء داوود وعشيرته ليكتتب مع مريم امرأته المخطوبـة وهي حُبلى، والولادة في مذود للحيوانات، في مغارة مغمورة (22)، وظهور الملائكة للرعاة المتبدين الذين كانوا يحرسون حراسات الليل على رعيتهم، والنشيد الذي نردده في هذه الأيام : ” المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر “، وزيارة الرعاة للمغارة (23).وأخيراً زيارة الطفل يسوع للهيكل وهو ابن أربعين يوماً بحسب شريعة موسى (24).
(6)
ما معنى هذه الزيارة بالذات، زيارة مريم ويوسف ومعهما الطفل يسوع بعد أن تمت أيام تطهير العذراء حسب شريعة موسى إلى الهيكل؟ إن المشهد هو حدث غير متوقع. لأن الشخصين اللذين استقبلا يسوع المـسيح الطفل، وتحدثا مـعه،كان أمرهما غريباً وعجيباً بالنسبة لأمه مريم وخطيبها يوسف على السواء، فسمعان البار والشيخ الذي كان قابعاً في إحدى زوايا الهيكل، وقد تقدم في السن، لا أحد يستطيع أن يدخل في تفاصيل حياته، ولماذا تقدم في السن، لا من الفريسيين، ولا الكتبة، ولا الصدوقيين، ولا أحد من الشعب الذي كان يعرفه على مدى عقود من الزمن. وكل ما كتبه عنه لوقا البشير أنه كان باراً تقياً ينتظر تعزية إسرائيل، والروح القدس كان عليه، وكان قد أوحي إليه بالروح القدس أنه لا يرى الموت قبل أن يرى مسـيح الرب، ولحظة دخول الصبي يسوع إلى الهيكل، أتى سمعان الشيخ بالروح إلى المكان (25).
أما الشخصية الثانية فكانت النبية حنّة بنت فنوئيل من سبط آشير، وهي أيضاً كانت متقدمة في أيام كثيرة، عاشت أولاً مع زوج سـبع سنين بعد بكوريتها، ثم بقيت نحو أربـــع وثمانين سنة لا تفارق الهيكل عابدة بأصوام وطلبــات لــيلاً ونهاراً. كيف يفسّر اليهود وجود هاتين الشخصيتين في هيكل سليمان بالصفات التي صورها لوقا البشير ؟ وماذا كان موقف الناس الذين كانوا في تلك الساعة في الهيكل ينظرون ويسمعون، أكبر شهادة تعطى لذلك الطفل ابن الأربعين يوماً، الذي يحمله سمعان الشيخ على ذراعيه ويكلم الله، ويخاطبه قائلاً : ” الآن تطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام، لأن عيني قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته قدّام وجه جميع الشعوب، نورَ إعلان للأمم ومجداً لشعبك إسرائيل ” (26)، فالعجب الذي أخذ يوسف وأمه من هذا المنظر غير الطبيعي أثّر في الحضور كثيراً.
وحنّة النبية أيضاً بعد أن سبّحت الرب على هذا اللقاء، تكلّمت عنه مع جميع المنتظرين فداء في أورشليم.
(7)
إن كلام سمعان الشيخ لمريم أم يسوع: ” ها إن هذا قد وضع لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل ولعلامة تقاوم، وأنت أيضاً يجوز في نفسك سيف لتعلن أفكارٌ من قلوب كثيرة “ (27)، يُذكِّر بكل أحداث الميلاد، ومعها صفحة الآلام التي رافقت هذا الحدث العجائبي. آلام يوسف البار بعد أن عرف أن مريم قد وُجدت حُبـلى قبـل أن يجـتمعا. وآلام المجوس الذين تكبدوا مشقة الطريق، ووجدوا الرفض عند اليهود وملكهم هيرودس. آلام أهالي بيت لحم وكل تخومها، الذين قدّموا أوائل الشهداء الأطفال من ابن سنتين فما دون، إشباعاً لرغبة هيرودس الشريرة. آلام يوحنا الرائي الذي يكتب إلى قومه عن هذا المولود من الآب قبل كل الدهور، وأخيراً هو هو قد صار جسداً وحلَّ بيننا، ولكن قومه رفضوه واضطهدوه وصلبوه. ثم آلام زكريا الكاهن الورع وأليصابات البارة التقية، وكانت قد ملكت قلبيهما ولم يستجب السماء إلى صلاتهما إلا بعد أن تقدّما في السن! وجاء يوحنا فرافقته الآلام في حياته التمهيدية، ثم خلال ظهوره على نهر الأردن، ولكن هذا الصوت الصارخ الممزوج بالآلام هزّ أركان اليهود وعروشَهم وطالب بالتغيير الجذري للتقاليد والعادات والطقوس الشهيرة وأطلق عبارته ” يا أولاد الأفاعي” على كل اليهود دون استثناء، فاضطهدوه وأطلقوا عليه تسميات وعبارات مخالفة لواقع واتهموه بالجنون، ثم سجنوه، وختم صفحة الآلام بقطع رأسه على إثر حفلة سادها المجون.
وجاءت أمنا مريم العذراء لتدخل في عالم الآلام والأوجاع بدءاً بلحظة بشارتها بواسطة الملاك، ثم ولادة يسوع المسيح، ومروراً بالهروب إلى مصر، فالعودة إلى الناصرة، وختمت تلك الآلام عندما شاهدت ابنها الوحيد البكر معلّقاً على الصليب.ويوسف الحارس الأمين لها، هو الآخر ذاق كأس المرارة قبل أن يعرف حقيقة ما جرى لخطيبته مريم. والسؤال في هذه الليلة، لماذا قال سمعان الشيخ لأمنا مريم العذراء: وأنت أيضاً يجوز في نفسك سيف لتعلن أفكار من قلوب كثيرة ؟
(8)
شرّاح الكتاب المقدس يؤكّدون بأن مار سمعان البار باستعماله عبارة سيف كان يريد أن يؤكد لأمنا مريم العذراء في يوم أربعينها بأن اليهود سيستخدمون صنوف الشتائم وضروب التعيير الموجهة إليها، وأنّ ابنها ووحيدها الطفل يسوع الذي حمله على ذراعيه سيتلقى الضربات وستكون حياته منذ بدايتها مقترنة بإهانات واتهامات وأقاويل كاذبة، وقصص فيها الكثير من الافتراءات، وسيطلب اليهود كباراً وصغاراً، من الوالي والحاكم في ذلك الوقت، وبصوت عالٍ أن يُصلب على عود الصليب. وكأنّ سمعان كان يرى بعين الروح تلك الأيام المرعبة المخيفة التي فيها دخل يسوع في مجد آلامه ولكن الرابط بين مغارة بيت لحم والقبر الفارغ بعد القيامة، هو أن تسبق الآلام والأوجاع صفحة النهوض من بين الأموات. فكل هذه الأحداث الإنجيلية قبل وبعد حدث القيامة، ليست إلا تمهيداً لاستيعاب معنى القيامة، واستعداد الإنسان لنيل بركاتها ونعمها التي ستُمنح لكل من يؤمن برسالة المسيح، وأيضاً من يقتدي بسمعان الشيخ من حيث انتظاره ولو طال الأمد، أو رؤيته بحكمة لتحقيق نبؤات الأنبياء وأخيراً رجاؤه وأمله بأن الساعة قد أتت، وعلى المؤمن أن يردّد مع سمعان الشيخ ها إن عيني قد ابصرتا خلاصك الذي أعددته قدام وجه جميع الشعوب.
قوّانا الله وحمانا من شظايا الآلام والأوجاع. وأعَدَّ قلوبنا، وهيّأ نفوسنا وجعل ضمائرنا راضيةً في قبول كلمة الخلاص لننعم ببركات مولود بيت لحم القدوس الرب يسوع المسيح. ونحن أيضاً مع ملائكة السماء نردد ” المجد للله في الأعالي وعلى الأرض السلام، والرجاء الصالح لبني البشر”.
أيها الأخوة، أيتها الأخوات…
لا بد لنا في هذا المساء ونحن نحتفل بعيد ميلاد ربنا يسوع المسيح في مغارة بيت لحم، من أن نشكر الله أولاً بأنه أهّلنا بعد فترة الصيام التي أسأل الله أن تكون مناسبة لنعيد رؤيتنا إلى ما له علاقة بخلاصنا، وما يمكن أن يقرّبنا أكثر وأكثر من الله تعالى، من خلال وقفة تأمل مع وصاياه وتعاليمه الواردة في الكتاب المقدس، ونشكره أيضاً لأنه كان مع بلدنا، مع وطننا العزيز الغالي الذي مر قبل فترة في حالة حرجة، مما دفع أعداء الوطن لنشر الأقاويل، والادعاءات ضد سورية الوحدة الوطنية، وبلد الإخاء الديني، والمساواة بين المواطنين. فنحن كمسيحيين نشهد بأننا نعيش في أمان وحريتنا مصونة في الدستور، ثم من خلال الممارسة، ونعتبر العلاقات التي تربطنا بالأخوة المواطنين مسلمين ومسيحيين هي الأنموذج لبلدٍ يسوده العيش المشترك، ونسأل الله أن يتواصل هذا الروح الذي يجمعنا تحت سقف الوطن الواحد، ونصلي إليه في هذه الليلة أيضاً ليبارك سورية بالأمان والاستقرار، ويرعى ويبارك رئيسنا الشاب والمحبوب من الجميع سيادة الرئيس الدكتور بشار الأسد، وأن يكون مع حكومتنا الرشيدة لتكمل مسيرة الإصلاح، وتقضي قضاءً مبرماً على الفساد، ويشعر المواطن بأن سلطة الحكومة تُطال كل المفسدين والفاسدين، فتتعالى رايات القيم والأخلاق والمُثل في كل مكان، ويسود السلام فتتشابك الأيادي معاً للعمل من أجل خير الوطن وازدهاره. إننا نهنئكم في هذه الليلة وجميع المحتفلين بهذا العيد المجيد، ونسأل لكم ولهم وللجميع ميلاداً مباركاً، وعاماً جديداً حافلاً بالمسرات وكل عام وأنتم بخير.
المراجع :
1- متى 1: 1 2- متى 1: 16 3- متى 1: 19
1- متى1: 19 2- متى 1: 23 3- متى 2: 1 4- متى 2: 2
5- متى 2: 11 6- متى 2: 15
7- متى 2: 18 8- متى 2: 19 9ـ متى 2: 23 10- مرقس 1: 1
11- يوحنا 1: 1-4 12- يوحنا 1: 14 13ـ لوقا 1: 6 14ـلوقا1: 15 و16 15ـ لوقا1: 26
16- لوقا1: 43 17ـلوقا1: 46ـ55 18ـلوقا1: 57 19ـلوقا1: 77 20ـلوقا2: 1
21ـلوقا2: 4 22ـلوقا2: 6 و7 23ـلوقا2: 16 ـ 18 24ـلوقا2: 22 25- لوقا 2: 25 ـ 35
26ـلوقا2: 29 ـ 33 27ـلوقا2: 34 و 35
عيد الميلاد
2005
2006
ܬܫܒܘܚܬܐ ܠܐܠܗܐ ܒܡܪ̈ܘܡܐ ܘܥܠ ܐܪܥܐ ܫܠܡܐ ܘܫܝܢܐ ܘܣܒܪܐ ܛܒܐ ܠܒܢܝ̈ܢܫܐ
المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر
ܒܪܝܟ̣ ܡܘܠܕܗ ܕܡܪܢ
أيها الأحبة…
كتب الإنجيليون الأربعة سيرة السيد المسيح بحسب الوحي الإلهي، ولكن القديسين متى ولوقا ويوحنا، فصّلوا لنا المراحل الأولى من حياته. فيوحنا الرائي حلق في الأجواء اللاهوتية، وبعبارات قليلة نقلنا إلى أجواء الميلاد رابطاً بين ما حصل في العهد القديم وما جاء في العهد الجديد، وافتتح إنجيله بقوله : في البدء كان الكلمة (1)، ثم أخذ يفسر لنا هذه العبارة الغنية بالمعاني، هذا الكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله (2). أما عن مكان هذا الكلمة فيقول : أنه في البدء كان عند الله (3)، وعن قوة هذا الكلمة يقول : كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء قد كان (4)، ويفسـر هـذا القول بقول آخر في بدء إنجيله وهو : فيه كانت الحياة، والحياة كانت نورَ الناس، والنور يضيء في الظلمة والظلمة لم تدركه (5)، أما عن التجسد الإلهي فيذهب بعيداً ويُعيد إلى أذهاننا كل مراحل تاريخ الخلاص بآية واحدة بقوله : والكلمة صار جسداً وحلَّ بيننا، ورأينا مجده، مجداً كما لوحيدٍ من الآب مملوءاً نعمةً وحقاً (6).
أما القديس متى فنراه يعيش في أجواء يهوديته، وهمُّه أن يؤكد لأبناء جنسه، بأن هذا يسوع المسيح ينحدر في نسله من شخصيتين عظيمتين، لهما تأثيرٌ كبيرٌ في التاريخ اليهودي، وهما : داود وابراهيم (7). داود الملك، والمرتل الإلهي الذي استنجد في وقتٍ من الأوقات بربِّ السماء والأرض عندما سقط في الخطيئة، فصرخ قائلاً : قلباً نقياً أخلق فيَّ يا الله وروحاً مستقيماً جدد في أحشائي (8).
أما ابراهيم فهو الذي قال عنه بولس الرسول في رسالته إلى أهل رومية : فآمن ابراهيم بالله فحسب له براً (9). وقال عنه أيضاً : قد جعلتُكَ أباً لأممٍ كثيرةٍ. أمام الله الذي آمنَ بهِ الذي يُحيي الموتى ويدعو الأشياءَ غيرَ الموجودةِ كأنها موجودةٌ (10). وذِكرُ داود وابراهيم بحسب إنجيل متى كان ليصل الإنجيلي إلى يوسف الصدّيق رجل مريم، التي وُلد منها يسوع الذي يُدعى المسيح.
أما عن ولادة يسوع المسيح، فالرسول متى يتوقف عند حلْم يوسف البار الذي لم يشأ أن يُشهرها بل أراد تخليتها سراً، عندما عرف أنها حُبلى (11)، وبعد الولادة، يسرد لنا قصة هيرودس الملك مع المجوس القادمين من المشرق الذين جاؤوا إلى أورشليم قائلين : أين هو المولود ملكُ اليهود، فإننا رأينا نجمه في المشرق، وأتينا لنسجد له (12).
ويبقى لوقا البشير صاحب أصدق ريشة في لوحته الجميلة التي يرسمها لنا عن الميلاد المجيد. ويُعتقد أنه كتب ما سمعه من الرسل الأطهار، وأخوة يسوع بالجسد، والآخرين الذين عاشوا حتى بعد القيامة المظفَّرة، فلم يأتِ غيره من الإنجيليين على ذكر قصة ولادة يوحنا المعمدان من زكريا الكاهن الذي كان من فرقة أبيا وامرأته أليصابات إحدى بنات هارون (13). ثم اللقاء الذي حصل بين مريم العذراء وأليصابات.
أما حكاية الميلاد فتبدأ مع صدور أمر من أغسطس قيصر بأن يُكتتب كل المسكونة، وهذا دعا يوسف الذي كان من الجليل، من مدينة الناصرة، أن يصعد إلى اليهودية إلى مدينة داود التي تُدعى بيتَ لحم، لكونه من بني داود وعشيرته، ليكتتب مع خطيبته مريم وهي حُبلى. وهنا نرى أن لوقا المصور البارع، يصف بكلمات قليلة جداً كيفية ولادة يسوع فيقول : وبينما هُما هناكَ تمَّتْ أيامها لتلدَ فَوَلدت ابنها البكرَ، وقمَّطتهُ، وأضجعتهُ في المذودِ، إذ لم يكن لهما موضعٌ في المنزلِ (14).
إذا لوقا الإنجيلي يحدد لنا مكان ولادة يسوع المسيح، ويذكِّرنا بنبؤة ميخا النبي القائلة : أما أنتِ يا بيت لحم أفراتة وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا، فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطاً على إسرائيل، ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل (15)، فهذه بيت لحم رغم ما فيها من سعة، لا يجد يسوع له مكاناً ليلد فيها سوى هذا المذود المتواضع، وفي تلك المغارة المغمورة بالذات ! ألا نقع في عجب وحيرة من أمر هذه الولادة التي سبقتها أحداث إنجيلية خطيرة الواحدة تلو الأخرى، وختمت بحدث ميلاد المولود في بيت لحم. وإذا أردنا أن نتابع مع لوقا التلميذ لنرى ماذا حصل بعد ذلك المذود المتواضع، لوجدنا أن الرعاة المتبدِّين في تلك الكورة الذين كانوا يحرسون حراسات الليل على رعيتهم قد خافوا خوفاً عظيماً من ملاك الرب الذي وقف بهم، ومجد الرب الذي أحاط بهم، وعندما بشّرهم بالفرح العظيم الذي سيكون لكل الشعب بولادة مخلص أي المسيح الرب، وسمعوا جوقة الملائكة من السماء تنشد قائلة : المجد لله في العُلى وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر (16). ذكّرهم الملاك بأن العلامة لهم هي عندما يجدون ذلك الطفل مقمطاً مضجعاً في مذود. وصدق قول الملاك عندما جاؤوا إلى بيت لحم، ووجدوا يوسف ومريم والطفل مضجع في المذود. إذاً المذود أصبح العلامة الفارقة في تلك الليلة، هل تعلمون لماذا ؟ الجواب : لأن يسوع المسيح الطفل أراد بدءاً من تلك الليلة أي في لحظة ميلاده بالذات، أن يعطي أول درس من دروسه السماوية لكل البشرية.
كل شيء كان يسير بهدوء، لا أحد ينكر بأن أمه من نسل الملوك ومنهم داود الشهير، ولكنها رغم ذلك تعيش حياة بساطة كاملة، وتكاد تكون شبه مغمورة في مجتمعها، لا تملك لا مالاً، ولا عقاراً، لا جاهاً، ولا سلطان، وكأنها ليست من عشيرة داود الملك ولا من ذرية يهوذا، وكل ما تملكه هو هذا الإيمان المليء في قلبها، ولا تفتخر إلا بتلك البساطة التي أصبحت من أهم سماتها. وخطيبها يوسف البار الذي عاش حياة صدق وأمان ومحبة، وبرهن على الفضائل الجمة التي زيَّن بها نفسه إذ أراد أولاً أن يتخلى عنها سراً وأن لا يشهرها ولكن حلْم الملاك غيَّر مجرى تفكيره، هو الآخر رغم انتسابه إلى داود وابراهيم ولكنه كان من محيط فقير، واختار له حياة تتلاءم مع بيئته، وها هو ابن الله مالك السماوات والأرض يعطي أعظم درس في التواضع فيولد في مكان لا يمكن الإنسان أن يتصور مكاناً أكثر تواضعاً، مشاركاً بذلك أفقر الفقراء فقرهم وبئسهم.
ويبين مولود بيت لحم القدوس في تلك الليلة بأن العظمة الحقيقية لا تكمن في ما يملك الناس على الأرض من الثروات الضخمة، أو القصور الفخمة، أو أي شيء من تلك الأمور الزائلة الزائفة التي يتكالب الناس عليها، ويحارب بعضهم بعضاً للحصول عليها وللاستئثار بها، ولو أراقوا من أجل ذلك بحوراً من الدماء، وإنما العظمة الحقيقية تكمن في نقاء النفس، وصفاء الضمير، وفي التطلع لا لأمجاد الأرض الوقتية الفانية، وإنما لأمجاد السماء التي لا فناء لها ولا انتهاء.
لقد عبَّر صاحب المزامير عن كل ذلك في قوله : الذبيحة لله روح منكسرة، القلب المنكسر والمنسحق يا الله لا تحتقره (17).
وعندما نتحدث عن التواضع نتصور من جهة أخرى الكبرياء الذي صار كمدخل أساس إلى أعظم الشرور، وقد حطت الشيطان إلى أسفل الدركات، فبالتواضع نربح أنفسنا، وندخل في دائرة المساكين بالروح الذين طّوبهم الرب يسوع. وإذا أردنا أن ننتقل إلى مكان آخر في الإنجيل المقدس يُشير إلى حالة الفقر التي اختارها يسوع المسيح لكنيسته نراه عندما تقدم إليه كاتب وقال له : يا معلم أتبعك أينما تمضي، فقال له : للثعالبِ أوجرةٌ ولطيورِ السماءِ أوكارٌ. وأما ابن الإنسانِ فليسَ لهُ أينَ يُسنِدُ رأسهُ (18). كأنه يقول : لست من جامعي الأموال، ولا من مالكي العقارات، ولا من هواة الثروات، أنا ليس لي أي مكان أسند إليه رأسي. وحتى عندما قالوا له : أمك وأخوتك واقفون خارجاً طالبين أن يكلموك، تخلى عن المباهات بعلاقته معهم وعلاقتهم به وقال : من هي أمي ومن هم أخوتي ؟ (19). ولم يكتفِ يسوع المسيح في تطبيق مبادئ الفقر على نفسه، ولكنـه علّم تلاميذه معنى التجرد، وعدم الارتباط بمال العالم وممتلكاته وملذاته !! فعندما عيّـن السبعين تلميذاً من الذين آمنوا به إيماناً صادقاً وعميقاً، ذكّر بهم السبعين شيخاً الذين أمر الله موســى النبي بتعيينهم ليعاونـوه في إدارة شؤون بني قومه (20). فقبل أن يرسلهم إلى المدن والمواضع ليهيئوا أذهان أهلها لمجيئهم، زوّدهم بتعاليمه وتوجيهاته وإرشاداته ووصاياه كي يؤدوا الرسالة.
إذاً ليلة ميلاد ربنا يسوع المسيح انطلاقاً من المذود والمغارة تدفعنا أن نتلمس سمة الكنيسة التي أراد أن يؤسسها على الأرض. فبعد عماده من يوحنا بن زكريا نراه في البرية يصوم أربعين نهاراً وأربعين ليلة ويقول الإنجيل : أنه جاع أخيراً (21) ! وهذه إشارة واضحة إلى الجياع في العالم. والجوع يفسح للشيطان مجالاً ليقترب من صاحبه ويمسك به، ولكن ليس كل جائع حجر عثرة في طريق الأبرار. فها يسوع المسيح يرد على المجرِّب عندما قال له : إن كنت ابن الله فقل لهذه الحجارة أن تصير خبزاًَ (22)، أخزى كبرياء الشيطان وردَّ عليه بكلمات قليلة قائلاً : ليس بالخبز وحده يحيى الإنسان (23) أي أن حاجة البطن لا يجب أن تكون درباً إلى الخطيئة كما حصل مع الإنسان الأول، إذ بشهوة البطن طُرد من الفردوس، وهذا أول درس يعطيه السيد المسيح للمتضورين جوعاً، إذ بيّن لهم بأن كلمة الله تستطيع أن تعوض عن جوع الجسد، وهكذا لم يذهب عن باله فقراء الروح الذين يحملون أنفسهم بالتواضع والفضائل الحسنة، وقد أختار الرب يسوع كلمة المساكين بالروح، أو الفقراء بالروح، لأن كلمة المساكين أو الفقراء لها مدلول أكبر من كلمة متواضعين، وكأن به يُـشير إلى قول إشعياء النبي : إلى هذا أنظر إلى المسكين والمنسحق الروح، والمرتعد من كلامي (24).
فيسوع المسيح رسم لتلاميذه صورة العمل الرسولي في كنيسته مستقبلاً، ولهذا قال : إن الحصاد كثير أما العمّال فقليلون (25) فاضرعوا إلى رب الحصاد ليرسل عمالاً لحصاده، وحذّرهم من خطط الذئاب الخاطفة أي من أناس يشبهون الذئاب في شراستهم وشرّهم وغدرهم. ولكن الأهم كان عندما قال لهم : لا تحملوا كيساً ولا مزوداً ولا أحذية (26)، أي لا تفكروا بحطام الدنيا ومتاعه ولا تدخلوا في صلب رسالة المسيح الخلاصية أموراً، فالاكتفاء هو عنوان هذه الرسالة الجديدة. ألم يعلمنا في الصلاة الربية أن نقول أعطنا خبزنا كفافنا أعطنا كل يوم (27)، وأن لا نهتم بالغد ونقول : ” ماذا نأكل أو ماذا نشرب أو ماذا نلبس فإن هذه كلها تطلبها الأمم لأن أباكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون لهذه كلها لكن أطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه وهذا كله يُزاد لكم فلا تهتموا بالغد لأن الغد يهتم بما لنفسه. يكفي اليوم شرهُ ” (28).
هذه هي سمات كنيسة الفقراء التي من أجلها جاء يسوع المسيح بالجسد وولد في ذلك المذود المغمور وفي تلك المغارة المتواضعة في بيت لحم اليهودية. ولكي تتوضح معالم هذه الكنيسة سنعود للإنجيل مرة أخرى، ونقرأ بتمعن عن لقاء ذلك الرئيس الذي جاء إلى يسوع وهو يريد أن يعرف منهاج العمل الذي عليه أن يتبعه ليرث الحياة الأبدية. فسأله قائلاً : أيها المعلم الصالح أي صلاح أعمل لأرث الحياة الأبدية ؟ (29). هل يصعب على أحد الرؤساء ذوي المكانة الرفيعة والعلم الواسع أن لا يعرف طريق الحياة الأبدية. فالناموس واضح جداً، والوصايا فيه لا تحتاج إلى شرح. لا تزنِ، لا تقتل، لا تسرق، ولا تشهد بالزور، أكرم أباك وأمك (30). كل وصية من الوصايا العشر هي جزء أساس من شريعة العهد القديم. وكان صاحبنا صادقاً في جوابه، لأنه قد حفظ كل هذه الوصايا منذ حداثته. ويظهر لنا أنه قد فهم وصايا شريعة موسى فهماً لفظياً سطحياً ظاهرياً، وأبتعد من الفهم الروحي العميق والأهم لوصايا الله. وأخذه الرب يسوع على بساطته في نظرته إلى الوصايا، وقال له : إذاً يعوزك مع ذلك شيءٌ آخر (31) هذا الشيء الآخر يضاف لحفظه لوصايا موسى العشر منذ حداثته. بِع كل ما تملك، ووزِّعه على الفقراء (32) إذا فعلت ذلك تكسب أجرين، الأجر الأول : تقتني لك كنزاً في السماء ! والثاني : تصبح واحداً من أتباعي ! فلما سمع صاحب السؤال هذا الجواب أغتم لأنه كان غنياً جداً، ولأنه كان يتمسك بالأرضيات ولا يلتفت إلى السماويات، ولأنه كان يتشبت بالحياة الأرضية التي لها زمان وحدود، ويضحي في سبيل ذلك بالحياة السماوية، ولأنه كان يعز عليه جداً أن يتخلى عن ممتلكاته من متاع الدنيا ليتصدق بها على الفقراء. صعب أن يعبدَ الإنسان ربِّين، أو أن يكون في خدمة سيدين، وفي نفس الوقت يساوم بين أمرين متضادّيِّن، فإما أن ترضي الله وتعبده من كل قلبك، وإما أن تعبد المال، وتنغمس في شهوات الدنيا ومتاع الحياة !! مشكلة صاحب ذلك السؤال كانت في أنه لم يرَ الفقراء حوله، ولكنه كان حريصاً أن يكسب خيرات الأرض بكل أبعادها، وأن تكون له حصة في الحياة الأبدية. السيد المسيح المولود في ذلك المذود المخصص للحيوانات في مغارة متواضعة في بيت لحم. أعطى جواباً قاسياً لصاحب السؤال لهذا يقول عنه الإنجيليون : أنه مضى حزيناً (33).
هذا ما نتعلمه اليوم من ولادة ربنا يسوع المسيح في ذلك المذود، وتلك المغارة أي أن نعيش في جو أخوتنا الفقراء في الروح، وأيضاً الفقراء في الجسد، فنلتفت إليهم، ونمد يدنا لمساعدتهم، ونحرص على خدمتهم. يعقوب الرسول بأعلى صوته يقول : اسمعوا يا أخوتي الأحباء، أما اختار الله فقراء هذا العالم أغنياء في الإيمان، وورثة الملكوت الذي وعد به الذين يحبونه، وأما أنتم فأهنتم الفقير (34).
نشعر اليوم أن الفقراء في بلدنا يزداد عددهم، والظروف المحيطة بنا كلها تُشير إلى أن أعداء الإنسان يريدون إهانة أخيهم الإنسان بالفقر، فالمولود في المذود يسوع المسيح حامي الفقراء يدعونا في هذه الليلة لخدمتهم. يقول الملفان السـريانـي مار يعقوب السروجي : إن المسكين ضعيف ومكانته في البدن كاليد اليسرى، فبادر أيها الثري وأسنده كاليد اليمنى لا تظن أن الله قد خصَّك بمحبته، فأجزل لك العطاء، في حين أنه أبغض ذلك فبرأه مسكيناً. لنبق مع يسوع المسيح المولود في مغارة بيت لحم وحامي الفقراء في هذا العيد.
نهنئكم جميعاً بعيد ميلاد يسوع المسيح، وبعيد رأس السنة الجديدة، كما نهنئ أخوتنا المسلمين بعيد الأضحى المبارك الذي يتزامن مع أعيادنا السعيدة، ونهنئ وطننا العزيز والغالي علينا جداً رئيساً، وحكومةً، وجيشاً، ومؤسسات، وشعباً، ونسأل الله أن يحمي بلدنا من كل أذى أو مكروه يأتينا من هنا أو هناك، ويجعل الأمن في المسكونة زاهراً، والسلام في المعمورة مالكاً، وأن تخيم رايات السلام على منطقتنا، خاصة في البلاد التي تعاني من الحروب والانقسامات في العراق وفلسطين ولبنان، حيث يدفع الإنسان ضريبة ذلك فكراً، وصحةً، ورؤيةً، فليبارك الرب جميعنا.
وكل عام وأنتم بخير
المراجع :
1- يوحنا 1 : 1 2- يوحنا 1 : 2 3- يوحنا 1 : 1 4- يوحنا 1 : 3
5- يوحنا 1 : 4 6- يوحنا 1 : 14 7- متى 1 : 1 8- المزمور 51 : 12
9- رومية 4 : 3 10- رومية 4 : 17 11- متى 1 : 18 – 23 12- متى 2 : 2
13- لوقا 1 : 1/5 – 22 14- لوقا 2 : 6 15- ميخا 5 : 2 16- لوقا 2 : 8 – 14
17- المزمور 51 : 17 18- متى 8 : 20 19- متى 12 : 47 – 48 20- سفر العدد 11 : 16 و 17
21- لوقا 4 : 2 22- لوقا 4 : 3 23- متى 4 : 4 24- إشعياء 66 : 2
25- لوقا 10 : 2 26- لوقا 10 : 4 27- لوقا 11 : 3 28- متى 6 : 31 – 34
29- متى 19 : 16 30- متى 19 : 18 و 19 31- متى 19 : 20 32- لوقا 19 : 21
33- لوقا 19 : 22 34- يعقوب 2 : 5 و 6
عيد الميلاد
2006
2007
ܬܫܒܘܚܬܐ ܠܐܠܗܐ ܒܡܪ̈ܘܡܐ ܘܥܠ ܐܪܥܐ ܫܠܡܐ ܘܫܝܢܐ ܘܣܒܪܐ ܛܒܐ ܠܒܢܝ̈ܢܫܐ
المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر
ܒܪܝܟ̣ ܡܘܠܕܗ ܕܡܪܢ
أيها الأحبة…
إنها ليلة مباركة، والعالم المسيحي كلهُ يُعيد إلى الأذهان ما ذكره الإنجيليون عن ولادة السيد المسيح في مغارة بيت لحم، قبل حوالي ألفي سنة.
وفي كل سنةٍ يواجه المسيحيون تحديات جديدة أمام عبارات الإنجيل التي تدعوهم ليكونوا لها مخلصين أوفياء أمناء بحسب ما يريده ربُ الكنيسة ومعلمُ المؤمنين. قال بولس الرسول في رسالته إلى أهل غلاطية : ولكن لما جاء ملء الزمان أرسلَ اللهُ ابنهُ مولوداً من امرأةٍ مولوداً تحت الناموس. ليفتدي الذين تحت الناموسِ لننال التبني 1. فهذا ملء الزمان الذي يتحدث عنه الرسول بولس ويصفه لنا الإنجيليون كل بأسلوبه.
فمتى الرسول يُعلن بقوله : أما ولادةُ يسوعَ المسيحِ فكانت هكذا… ولما وُلد يسوعُ في بيتِ لحمِ اليهوديةِ 2. ويرى مرقس البشير يسوع المسيح عندما جاء إلى نهر الأردن ويكتب عنه : في تلكَ الأيامِ جاءَ يسوعُ من ناصرةِ الجليلِ 3. أما يوحنا الرائي فإنه يربط بين الولادتين. يتحدث أولاً عن الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب بقوله : في البدءِ كانَ الكلمةُ والكلمةُ كانَ عندَ اللهِ وكانَ الكلمةُ الله. هذا كانَ في البدءِ عندَ اللهِ. كلُّ شيءٍ بهِ كانَ وبغيرهِ لم يكن شيءٌ مما كانَ 4.
أما عن الولادة بالجسد فكلماته في الإنجيل المقدس واضحة : والكلمةُ صارَ جسداً وحلَّ بيننا ورأينا مجدهُ، مجداً كما لوحيدٍ من الآبِ مملوءاً نعمةً وحقاً 5.
ويبقى لوقا البشير الأعمق في معلوماته عن ولادة يسوع المسيح. ففي الإصحاحين الأول والثاني من إنجيله، وبعد أن يُفصِّل لنا البشارة بيوحنا المعمدان، يتناول البشارة بميلاد يسوع المسيح بشكل دقيق، يحدد في وصفه الزمن الذي أُرسِل جبرائيل الملاك إلى مدينة في الجليل اسمها ناصرة، إلى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف. وينقل بأمانة الحوار القصير الذي دار بين العذراء والملاك، فبينما نسمع الملاك يؤكَّد للعذراء مريم أن هذا يسوع سيملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ترددت مريم في رسالة السماء أولاً، وتساءلت كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلاً، فعلّل الملاك هذا الحدث الجلل بقوله : الروحُ القدسُ يحلُّ عليكِ وقوةُ العلي تظللكِ، فلذلكَ أيضاً القدوسُ المُولودُ منكِ يُدعى ابنَ اللهِ 6. ولكن لكي تكمل اللوحة التي رسمها لنا لوقا المصّور بريشته المعروفة، يدخل إلى مغارة بيت لحم فيكون شاهداً على ميلاد يسوع الطفل، لهذا يذكر شهود تلك الليلة، الملائكة أولاً الذين ظهروا مع الملاك المبشر الذي نقل البشارة للرعاة بقوله : لا تخافوا. فها أنا أُبشرُكم بفرحٍ عظيمٍ يكونُ لجميعِ الشعبِ 7، وبعد هذه البشارة سبّح جمهورٌ من الجند السماوي الله قائلين : المجدُ للهِ في الأعالي، وعلى الأرضِ السلامُ، والرجاءُ الصالحُ لبني البشرِ 8.
أيها الأحبة…
اليوم سنقف مع بعضنا أمام الطفل يسوع المسيح، وسنرى ما معنى أن تحتفل الكنيسة بعيد الطفل يسوع، وعلاقة مريم العذراء أولاً، ثم يوسف البار بهذا الطفل. ثم رؤية الرعاة للطفل يسوع في المغارة، وبعدها شهادة المجوس في الطفل يسوع وقد جاؤوا من المشرق بعد أن رأوا نجمه في المشرق. ومن خلال المجوس سنتعرف على هيرودس وموقفه من الطفل يسوع وأطفال بيت لحم. وأخيراً الطفل يسوع وقد أخذه على ذراعيه سمعان الشيخ في الهيكل. كل هذه المشاهد الإنجيلية حدثت في سنتين وكان لكل مشهدٍ أكثر من موقف، وأخيراً علاقة الطفل يسوع بالأطفال عامةً.
لو تتبعنا علاقة مريم العذراء وخطيبها يوسف بالطفل يسوع، لوجدنا أن الاثنين قد مرا بتجارب صعبة جداً، ولولا يد الرب لوقع كلٌ منهما في ما لا يخطر على بالنا. فالعذراء مريم وهي تحاور الملاك، دخلت في حالة اضطراب وتوتر، أدّى إلى تفكير عميق ولو للحظة واحدة في التحية التي جاء بها الملاك من السماء، وكان من حقها أن تتساءل وهي تسمع بالحبل قبل أن تعرف رجلاً، كيف يكون هذا ؟ ولكن كان الزمن قصيراً جداً أمام هذا المشهد السماوي، فالعذراء مريم أدركت عمق رسالة السماء، فأحنت هامتها للرب موافقة على كلام الملاك، وعبّرت عن موافقتها عندما حيّرتها أليصابات التي رحبت بها بقولها : من أينَ لي هذا أن تأتي أمُّ ربي إليَّ ؟ 9 ففاهت بإلهام النبوة بذلك النشيد الذي افتتحته بقولها : تُعظمُ نفسي الربَّ وتبتهجُ روحي باللهِ مخلصي 10.
ولو سرنا مع أمنا العذراء إلى تلك المغارة المتواضعة في بيت لحم، لوجدناها صابرة على كل حركة وقعت معها وأمامها في تلك الليلة. عندما استقبلت الرعاة وسمعت منهم عن شهادة السماء في هذه الليلة التاريخية بولادة الطفل يسوع، كان رد فعلها مباشر أن تحفظ جميع هذا الكلام متفكرة به في قلبها. وبعد أربعين يوماً كان مشهدٌ آخر، لا يقلُ أهميةً عن المشاهد التي سبقتها، ذهبا معاً العذراء ويوسف بساطة متناهية إلى الهيكل لكي يتمما شريعة موسى بحذافيرها، وحملا معهما الطفل يسوع، وهدية الهيكل أي الذبيحة، كانت عبارة عن زوجي يمام أو فرخي حمام. ولكن المفاجأة كانت غير ما كانا يتخيلانه، الشيخ المسن البار التقي الذي كان ينتظر تعزية إسرائيل، وكان قد أوحي إليه بالروح القدس أنه لا يرى الموت قبل أن يرى مسيح الرب يظهر فجأة، قويٌ في بنيته، جريءٌ في حركته، مملوءٌ بالحيوية والنشاط، ويتقدم بخطى ثابتة، ويأخذ الطفل يسوع على ذراعيه، ويبارك الله ويقول : الآنَ تُطلقُ عبدكَ يا سيدُ حسبَ قولكَ بسلامٍ 11. ولكن سمعان تطلع إلى مريم وقال لها : وأنتِ أيضاً يجوزُ في نفسكِ سيفٌ. لتُُعلنَ أفكارٌ من قلوبٍ كثيرةٍ 12. وشاهدة أخرى كانت في ذلك الهيكل، وهي نبية، حنة بنت فنوئيل من سبط أشير، هي أيضاً وقفت وسبّحت الرب. والموقف الأخير قبل أن يظهر على نهر الأردن كان بين يسوع الصبي وأمه مريم كان له اثنتا عشرة سنة عندما صعدوا إلى أورشليم كعادة العيد فاختفى، بينما يوسف ومريم عادا مسيرة يوم واحد ولما لم يجداه رجعا إلى أورشليم فوجداه بعد ثلاثة أيام في الهيكل، جالس في وسط المعلمين يسمعهم ويسألهم، فلما أبصراه اندهشا، ويقول لوقا البشير عن هذا المشهد الإنجيلي، وكانت أمهُ تحفظُ جميعَ هذهِ الأمورِ في قلبها 13.
إن تسليط الضوء على طفولة السيد المسيح يدعونا للتفكير بالتربية والتعليم، ومدى اهتمام الكنيسة منذ فجر المسيحية بهما لإنشاء أجيال مؤمنة، بما أراده الله للإنسان. والكنيسة تميز بين التربية والتعليم، وفي هذا المجال تتذكر تلك الجلسة النادرة في الهيكل يسوع المسيح الصبي ابن اثنتي عشرة سنة يجلس وسط المعلمين يسمعهم ويسألهم. هنا يكشف الإنجيلي عن سرِّ لم يعرفه أحد، وهو أن يسوع يقرأ الناموس والأنبياء قراءة متأنية، ويستخرج من القراءة ما لم يخطر على بال المعلمين الذين جلس بينهم، بل يوضح لهم من لمسات الله الخفية ومقاصده العالية وكأنه يريد أن يقول لتلاميذه ولنا أن من واجبات الكنيسة مستقبلاًَ أن يُعيد النظر في قراءة الكتاب المقدس بدءاً من خلق الله للإنسان. هذه الصورة الإلهية التي هي أول صورة الخلق، فبعد أن أعطاه نسمة الحياة منحه سلطاناً على الطبيعة فاكتشف فيها من أسرار وقام بإعادة صياغتها، فكل هذه الحيوية التي تجلّت بعقل الإنسان، يجب أن تكون مستمرة لخدمة الإنسان، وعليه أن يبتعد في فكره وبعد نظره عن القوالب الجامدة التي تبعده عن المفهوم الحقيقي لواقع الكلمات الإلهية.
إن الطفل يبدأ حياته في انطلاق لا حدود له، فالتساؤلات الكثيرة التي يطرحها قبل أن يدخل إلى المدرسة هي دلالة على حرية الفكر عنده، ونرى عادة مجتمعاتنا بأساليبها التعليمية وكأنها تريد أن تقمع حركة الطفل وتفكيره في البيت والمجتمع، وتأتي المدرسة في بعض الأحيان بأساليبها التقليدية فتخلق شكّاً عند الطفل، وفي بعض الأحيان تخفف من وهج الانطلاق الذي يكون في داخله. ونحن من سيرة يسوع المسيح الطفل نرى أن هذا الأسلوب التعليمي لم يؤثر عليه، وإلاّ لما وجدناه وهو ابن اثنتي عشرة سنة يجلس في وسط المعلمين، ويسأل، ويحاور، ويجيب، ويفسّر، لمن ؟ للعلماء أي حكماء اليهود ومشرعي الناموس وكبار القياديين عند اليهود الذين جلسوا حوله كتلاميذ يسمعونه ويتعلمون منه.
إن التفافتنا في يوم عيد الميلاد إلى الطفل يسوع يدعونا للتفكير بجدية بدور المدارس في تربية الأطفال.
موضوع الطفل والتربية أخذ حيّزاً من حياة يسوع المسيح العملية، فمرة عندما كان نازلاً من الجبل قدم إليه واحد من الجمع ابنه الذي كان به روح أخرس، فسأل أباه : وكم من الزمان أصابه هذا ؟ فأجابه منذ صباه، فانتهر يسوع الروح النجس قائلاً له : أيها الروحُ الأخرسُ الأصمُ أنا آمركَ أخرج منهُ ولا تدخله أيضاً 14، كان هذا طفلاً أحبه يسوع فشفاه. وامتدح يسوع الأطفال عندما شكر الآب رب السماء والأرض بقوله : لأنكَ أخفيتَ هذا عن الحكماءِ والعلماءِ وأعلنتها للأطفالِ 15. والإنجيلي لوقا بيّن الفرق بين التلاميذ ونظرتهم للأطفال ونظرة يسوع المسيح إليهم، فعندما قدموا إليه الأطفال ليلمسهم، انتهرهم التلاميذ، أما يسوع فانتهر تلاميذه وقال : دعوا الأطفالَ يأتونَ إليَّ، ولا تمنعوهُم لأن لمثلِ هؤلاءِ ملكوتَ اللهِ، الحقَ أقولُ لكم من لا يقبلُ ملكوتَ اللهِ كولدٍ فلا يدخلهُ 16.
لقد كانت فرصة سانحة أمام يسوع المسيح ليُعلن للعالم أن قامة الطفولة مقبولة لدى الله، وأن الأطفال بكل ما عندهم من بساطة ووداعة وبراءة هم أهلٌ ليدخلوا ملكوت الله. ولهذا نسمع بطرس الرسول أيضاً انطلاقاً من قول السيد المسيح يقول : من لا يقبل ملكوت الله كطفل فلا يدخله. يقول في رسالته الجامعة الأولى : وكالأطفال مولودين الآن اشتهوا اللبن العقلي العديم الغش لكي تنموا به أي أن نكون كالأطفال مولودين جدد للمسيح ولله راضعين اللبن العقلي عديم الغش 17. وينقل لنا الإنجيلي متى صورة الأعظم في ملكوت السموات ويقول : أن يسوع دعا إليه ولداً وأقامه في وسطهم وقال : الحق أقول لكم إن لم ترجعوا وتصيروا مثلَ الأولادِ فلن تدخلوا ملكوتَ السمواتِ. فمن وضعَ نفسه مثلَ هذا الولدِ فهو الأعظمُ في ملكوتِ السمواتِ. ومن قَبِلَ ولداً واحداً مثلَ هذا باسمي فقد قبلني. ومن أَعثرَ أحدَ هؤلاءِ الصغارِ المؤمنينَ بي فخيرٌ له أن يُعلقَ في عنقهِ حجرُ الرحى ويُغرق في لجة البحر 18.
كان يسوع المسيح كان يتحدث عن هذا الطفل المقياس لدخول ملكوت الله، فرأى في الطفولة الباب الوحيد للولوج للحياة الأبدية. لأنه رأى في عمقها الوداعة ونقاء القلب والطاعة والمحبة الصادقة والبراءة. وهذه صفات من يريد أن يكون عضواً في ملكوت الله. وهذا يذكرنا أيضاً بالحوار الذي جرى بين السيد المسيح ونيقوديموس عندما قال يسوع : إن كانَ أحدٌ لا يولدُ من فوقُ لا يقدرُ أن يرى ملكوتَ اللهِ 19، وظهرت دهشة نيقوديموس في موضوع الولادة الجديدة وتسآل: ألعل شيخ يقدرُ أن يدخلَ بطنَ أمهِ ويولدَ 20. المهم أن يسوع المسيح كان يتحدث عن الأولاد وأهميتهم بالنسبة لملكوت السموات.
لقد أصبح التعليم العام جزءاً مهماً من عمل الوطن. والمدارس التابعة للدولة والخاصة كلها تقوم بواجباتها لحماية الوطن من الآفات المتنوعة التي قد تأتي من هنا وهناك، ونشكر الله أن الاهتمام يزيد يوماً بعد يوم بمحو الأمية، وبأن لا يُقتصر التعليم على أبناء طبقة معينة في المجتمع.
ولكن يبقى أن نميّز بين التعليم والتربية، ولا يجب أن نتجاهل دور كلٍّ منّا في العمل التربوي. فالمهّمشون في المجتمع يحتاجون إلى تنمية في الوعي لكي ينتقلوا من الهامشية إلى حياة الشركة الملتزمة، وهذا لا يحصل إلا إذا جعلنا الفكر والعمل من مقومات المنهج التربوي في المجتمع. الحياة ليست فقط أن يأكل الإنسان أو يشرب ويمتلك ويتسلّط. لقد ميّز السيد المسيح بين أولئك الذين كانوا في الأيام التي قبل الطوفان يأكلون ويشربون ويتزوجون ويزوجون، وبين من سيكون في مجيء ابن الإنسان مستعداً للولوج إلى ملكوت الله. حينئذٍ يكونُ اثنانِ في الحقلِ. يُؤخذُ الواحدُ ويُتركُ الآخرُ. اثنتانِ تطحنانِ على الرحى. تُؤخذُ الواحدةُ وتُتركُ الأخرى 21. أو كما أشار اشعياء إلى أولئك المهّمشين في الحياة بقوله : فَهُوَذَا بَهْجَةٌ وَفَرَحٌ ذَبْحُ بَقَرٍ وَنَحْرُ غَنَمٍ أَكْلُ لَحْمٍ وَشُرْبُ خَمْرٍ! لِنَأْكُلْ وَنَشْرَبْ لأَنَّنَا غَداً نَمُوتُ 22.
وقد ردد بولس الرسول هذا الكلام عندما كان يتحدث عن القيامة، كأنه يوجه الكلام إلى من يهّمش نفسه في المجتمع. فلا يرى منفعة في العطاء، أو فائدة في الأخذ، أو فكراً في التفاعل في المجتمع، يعمل فقط ليعيش. يقول بولس الرسول : فما المنفعةُ لي. إن كانَ الأمواتُ لا يقومونَ فلنأكلْ ونشربْ لأننا غداً نموتُ. لا تضلُّوا. فإنَّ المعاشراتِ الرديةَ تُفسِدُ الأخلاقَ الجيدةَ، أصحوا للبرِ ولا تخطئوا 23.
مادام الحديث يدور حول الطفل يسوع المسيح، لا بد من الإشارة على أن الطفل يمر عندنا في مراحل زمنية. فمن المهد إلى الطفولة المبكرة، فالمتوسطة، والمتأخرة وصولاً إلى المراهقة، فبلوغ الاكتمال والنمو، كل هذه المراحل تحتاج إلى رعاية يبذلها المجتمع كله والعائلة والمدرسة، في سبيل بناء جيل مؤمن بالله والوطن والإنسان، وفي كل هذه المراحل يجب أن تعمل كل الجهات من أجل أن يكتشف الطفل ذاته، فيبني نفسه من خلال السلوك المقبول بشكل خاص كمّاً هائلاً من القيم والأخلاق، ونحن نشعر أن عدم الالتفات إلى مجتمع يحاط بالقيم والأخلاق كأننا نضع لبنة في بناء الفساد الذي ينتشر في العالم كله. ويأتي الوالدان في الدرجة الأولى من الأهمية في البناء الصحيح للبنية الكامل الأهلية، البعيد النظر، القوي الفكر، إذا عرف الوالدان أن يكونا قدوة صالحة للطفل. فالمعاملة الجيدة للطفل تبعده عن المعاشرة السيئة أولاً وفي وضع صحي للتربية البيتية والمدرسية نبعده عن كل أنواع الانزلاق مستقبلاً. ودور الدين مهم جداً هنا، فمع التعاليم الصحيحة، والالتزام بأهداب الدين، وممارسة الفضائل والاهتمام بالأمور التقوية، وقراءة الكتب الدينية التي فيها ينبوع التعاليم الصحيحة كلها هي الضمان لإبعاد الطفل عن حالات الانغلاق والتقوقع والعيش ضمن المجتمع المنفتح على الآخر، والذي يقبل الآخر، ويدعو إلى العيش المشترك، انطلاقاً من هُوِّية الانتماء الصحيح أي الانتماء للوطن الغالي على كل فرد في المجتمع، لقد وضع العلماء المختصون بتربية الطفل أسساً لبناء عالم للأطفال خالٍ من الآفات، وبعيد عن الأمراض التي قد تصيب الأطفال خلال المنهاج التربوي، من المفيد جداً أن تستأنس العائلة بهذا المنهاج التربوي الذي يشجع لبناء مجتمع كامل فيه كل صفات العطاء والخدمة.
لو عدنا لحادثة ظهور يسوع الفتى في الهيكل والعتاب الذي حصل بين أمه مريم ويسوع المسيح لوجدنا أن البشير لوقا يختم هذا الفصل بقوله : ثم نزل معهما وجاء إلى الناصرة، وكان خاضعاً لهما 24.
إن رسالة الطاعة مهمة جداً بالنسبة للأطفال. فهذه بداية الطريق من أجل تدريب النفس على الطاعة، أليست الطاعة باب من أبواب الكرامة التي يقدمها الطفل لوالديه، وفي هذا تحقيق للوصية القائلة : أكرم أبكَ وأمكَ لِتَطُولَ أَيَّامُكَ عَلَى الأَرْضِ 25. فلا تحصل الكرامة دون الطاعة. الإنجيلي يقول أيضاً : أما يسوعُ فكانَ يتقدمُ في الحكمةِ والقامةِ والنعمةِ عندَ اللهِ والناسِ 26، وهذه الطاعة التي نحن ندعو إليها هي طاعة بالتفاهم لا بالقهر، وهي التي تؤكد احترام رأي الآخر أو احترام حرية الآخر، وهذا ما نجده في حياة يسوع المسيح العملية خاصة أمام المعجزات، وسؤاله الشهير للمتقدم بطلب الشفاء منها : الأبرص، والمخلّع.. وغيرهما. هل أنت تريد ؟ هل أنت ترغب ؟.
إن بناء الطفل بناءً صحيحاً مبنياً على القواعد والأساليب التربوية يجعلنا أن نتفاهم مع أطفالنا وأولادنا في القضايا التي تشغل بالهم، فإذا منح الوالدان خبرتهما الناجحة بالحياة والحب والإقناع نكون قد أبعدنا عن الأولاد مفهوم الآمر. رؤية الأخذ والعطاء في المجتمع هو أسلوب الحوار الذي ينبغي أن يسود في مجتمعاتنا، فلا تكون الشخصية عندنا مستقلة بالقمع أو بفرض الرأي، ولا بالأمور العصبية الأسرية والقبلية عند الطفل، وإنما النمو بالمعرفة. فيسوع الفتى لأنه كان خاضعاً لمريم ويوسف، ضمن الأصول المجتمعية في تلك الأيام، كان ينمو في الحكمة والقامة والنعمة عند الله. إن مجتمعنا قد غلفته آفات جديدة بعضها مستوردة من مجتمعات ليبرالية ابتعدت عن الدين وتعاليمه، واتخذت لها مفهوماً جديداً في الحياة لا يتماشى وروح هذه التعاليم السماوية منها : السطحية في الحياة التي تبعد الأطفال عن الجدية، وتدخله في عالم اللامبالاة والتوكل والتزلف والرياء والخوف بل في حالة تشنج وهوس وإغراق فيرفض الطفل الحكمة، ويتخلى عن الإيمان، ويشجب المنطق، ويُبعد عن نفسه كل معاني الألفة والمحبة والمودة، والعيش مع الآخر، وقبول الآخر، وغيرها من القواعد التي تولّد القيادات الناجحة، وتنمّي المواهب، وتخصب الكفاءات، وتشجع الموهوبين. إن التفاتنا في هذا اليوم بالذات أي في عيد ميلاد الطفل يسوع في مغارة بيت لحم إلى الطفل والطفولة، هو نتيجة إحساسنا بأن المجتمع يفقد رويداً رويداً معاني التربية الصحيحة للطفولة. بولس الرسول يمتدح التربية الدينية في الطفولة بقوله لتلميذه تيموثاوس : وأنكِ منذُ الطفوليةِ تعرفُ الكتبَ المقدسةَ القادرةَ أن تُحكمكَ للخلاصِ بالإيمانِ الذي في المسيحِ يسوعَ 27، ويرى أن سرِّ هذا الإيمان الراسخ هو رعاية الأم. وفي مكان آخر يؤكد بولس الرسول أن تربية الأطفال تربية روحية سليمة أمر أساس في خلاص الأم. يقول : ولكنها ستخلصُ بولادةِ الأولادِ، إن ثبتنَ في الإيمانِ والمحبةِ والقداسةِ مع التعقلِ 28، ونحن في الكنيسة نشدد على أن أهم شروط اختيار الأسقف والشماس هو أن يكون مدّبراً بيته بشكل حسن، وله أولاد يعيشون بالخضوع بكل وقار صحيح. وبولس الرسول يوصي الأولاد بالطاعة لوالديهم في الرب ولكنه في الوقت ذاته يوصي الآباء أيضاً أن لا يغيظوا أولادكم ويفشلوا بل تكون تربيتهم بتأديبِ الربِ وإنذارهِ 29.
إذا كان حديثنا اليوم في عيد ميلاد ربنا يسوع المسيح هو عن الطفولة، فلا ننسى ماذا يحدث في منطقتنا. فكل الأحداث المأساوية التي عشناها بعد منتصف القرن الماضي وحتى هذه الأيام، في فلسطين، وفي لبنان وفي العراق، وفي كل مكان يشنُّ الاستعمار بكل أشكاله حروباً على الشعوب الآمنة والقاطنة بسلام مع بعضها، نرى أن بين الضحايا عشرات الآلاف من الأطفال، بعضهم يفقدون آباءهم وأمهاتهم، وبعضهم الآخر يدفعون ثمناً باهظاً لإصابتهم بأمراض متنوعة، تقضي على مستقبلهم. فحماية الطفل يبقى واجباً علينا جميعاً، لأننا بذلك نحمي جيلاً كاملاً نريد أن نشترك في بنائه ليكون فاعلاً في المجتمع بعطائه ونشاطه وحيويته، خاصة في بناء جسور الحنان والمحبة في المجتمع.
إن الطفل يسوع يدعونا اليوم في عيد ميلاده في مغارة بيت لحم، لنلتفت من خلال إنسانيتنا وتعاليمنا السمحة إلى الأطفال في مجتمعاتنا.
نهنئكم أيها السامعون الكرام بعيد ميلاد الطفل يسوع المسيح، ونسأل لكم ولجميع أخوتنا في العالم البركة والنعمة والعافية التامة.
إن تزامن العيدين في هذه السنة، الأضحى المبارك والميلاد المجيد هو فأل خير، فبينما نهنئ أخوتنا المسلمين بعيد الأضحى المبارك، ونهنئ أخوتنا المسيحيين بعيد الميلاد المجيد، نسأل الله أن يجعل من هذه الأعياد سبباً ليعم الأمن والسلام في كل العالم، وخاصة في منطقتنا ولتعود راحة البال إلى أخوتنا في لبنان والعراق وفلسطين، فيعيش الناس هناك بسلام مع بعضهم، ويهنأوا بمباهج وأفراح هذه الأعياد.
إننا نهنئ السيد الرئيس الدكتور بشار الأسد، ونسأل الله أن يباركه في كل خطوة يقوم بها من أجل خير الوطن والمواطن، كما نهنئ جميع العاملين معه في السلطة والحزب، ونهنئكم ونقول لجميعكم كل عام وأنتم بخير.
المراجع :
1- غلاطية 4 : 4 2- إنجيل متى 1 : 18 و 2 : 1 3- إنجيل مرقس 1 : 9 4- إنجيل يوحنا 1 : 1 – 3
5- إنجيل يوحنا 1 : 14 6- إنجيل لوقا 1 : 35 7- إنجيل لوقا 2 : 10 8- لوقا 2 : 14
9- إنجيل لوقا 1 : 43 10- إنجيل لوقا 1 : 46 – 47 11- إنجيل لوقا 2 : 29 12- إنجيل لوقا 2 : 35
13- إنجيل لوقا 2 : 51 14- إنجيل مرقس 9 : 25 15- إنجيل متى 11 : 25 16- إنجيل لوقا 18 : 16
17- 1 بطرس 2 : 2 18- إنجيل متى 18 : 3 ـ 6 19- إنجيل يوحنا 3 : 3 20- إنجيل يوحنا 3 : 4
21- متى 24: 38 ـ 44 22- اشعيا 22: 13 23- 1 كور 15: 32 ـ 34 24- إنجيل لوقا 2 : 51
25- خروج 20 : 12 26- إنجيل لوقا 2 : 52 27- 2 تيموثاوس 3 : 15 28- 1 تيموثاوس 2 : 15
29- أفسس 6 : 2 ـ 5
عيد الميلاد
2007
2008
ܬܫܒܘܚܬܐ ܠܐܠܗܐ ܒܡܪ̈ܘܡܐ ܘܥܠ ܐܪܥܐ ܫܠܡܐ ܘܫܝܢܐ ܘܣܒܪܐ ܛܒܐ ܠܒܢܝ̈ܢܫܐ
المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر
ܒܪܝܟ̣ ܡܘܠܕܗ ܕܡܪܢ
أيها الأحبة…
كبير أنت يا يوسف البار في موقفك !
يبقى عيد الميلاد حدثاً إنجيلياً وتاريخياً هاماً، ففي ليلة الميلاد دخل الله في تاريخ الشعوب والأمم، وتحققت بذلك النبؤات والرموز والإشارات التي وردت على لسان الأنبياء في العهد القديم. وهكذا فحالة الانتظار التي طال أمدُها، وترقّبها العالمُ كلُّه، خلقت في بعض الأحيان قلقاً في نفوس الكثيرين من الذين كانوا يريدون أن يعيشوا برجاء وأمل، وربما بعضهم قطع هذا الرجاء، واعتقد أن الحدثَ المنتظر لن يتم، والتاريخَ لن يشهد هذا التحول الكبير الذي سيرفع من معنويات الإنسان المتألم، بل يُزيل كل معاني الخوف والرعب والتوتر عنده. لهذا نسمع يوحنا الإنجيلي وهو يشهد بكلمات قليلة ولكن ذات معنى كبير عن حقيقة هذا الحدث الإنجيلي ويقول : الذي رأيناه بعيوننا، والذي شاهدناه، ولمسته أيدينا، من جهة كلمة الحياة 1.
ويوحنا الرائي هو أفضل من عبّر عن الإله المتجسد، بطريقة جعلت القائمين على مسيرة الناموس عند اليهود، أن يفهموا حقيقة حدث الميلاد المجيد، فهو صاحب الاستهلال الإنجيلي : في البدء كان الكلمة 2 وهو الذي بيّن أن يوحنا بن زكريا الكاهن جاء ليشهد للنور 3، النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان آتياً إلى العالم. ويتجاوز اللاهوتي يوحنا في حدث الميلاد الوصف التقليدي الذي عرفناه في بقية الأناجيل، ويبيّن بأن العالم كان في هذا الذي وُلد في مغارة بيت لحم، وبه كُّّوِن العالم 4. أما رسالة الميلاد فكانت أن الذين قبلوه أعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله 5. ويختصر يوحنا اللاهوتي المسافات، فيعلن عن حدث الميلاد بأسلوبه اللاهوتي العالي جداً قائلاً : الكلمة صار جسداً، وحلّ بيننا، ورأينا مجده، مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمةً وحقاً 6.
ولكن حدث الميلاد كما يظهر، لم يأتِ من دون مقدمات. فكل الذين تنبأوا عن هذا الحدث من أنبياء كبار وصغار في العهد القديم، كان هدفهم أن يُقنعوا العالم بإيمان، بهذا الحدث الذي غيّر وجه التاريخ ! فالمظهر الخارجي لميلاد الطفل يسوع في مغارة بيت لحم كان بسيطاً جداً، وإذا ذهبنا إلى مغارة تلك الأيام، لوجدنا أن كل شيء كان فيها متواضعاً، الموقع الجغرافي، المدخل إلى المغارة، داخل المغارة، ثم المذود الذي رتّبه يوسف استعداداً للولادة. ولكن أنوار السماء أضاءت ظلمة تلك الليلة، والملائكة الذين ظهروا في السماء كانوا من كبار الشهود، وترتيلة الميلاد : المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، والرجاء الصالح لبني البشر 7، دَوَّت في أرجاء المعمورة كلها : المسيح أتى، المسيح أتى. فالنبوءات تحققت، والرعاة الذين كانوا متبدِّين يحرسون حراسات الليل على رعيتهم استيقظوا، لأن رسالة السماء ظهرت في شخص ملاك الرب الذي مجده أضاء حولهم، فكان الحدث الذي انتظرته الأجيال. هذا المنظر كان غريباً جداً عليهم. لقد اعتادوا أن يُمضوا الليل كلَّه في يقظة تامة للحراسة، ولكنهم أمام منظر الرب الذي وقف بهم خافوا خوفاً عظيماً 8. هل كان هذا الخوف يعبّر عن خوف كل العالم ؟
هذا هو السؤال الذي يُطرح في هذه الليلة، ونحن نحتفل بعيد ميلاد الطفل يسوع المسيح في مغارة بيت لحم.
كما سبقت النبوءات حدث الميلاد استعداداً لقبول هذا الآتي من ملء الزمان، هكذا تستعد الكنيسة من خلال ثمانية آحاد تسبق عيد الميلاد. وفي كل أحد يقف المؤمنون أمام حدثٍ إنجيلي له علاقة بحدث الميلاد. فظهور الملاك لزكريا الكاهن في الهيكل بينما هو يَكهَنُ في نوبة فرقته أمام الله، ثم ظهوره لأمنا مريم العذراء في مدينة من الجليل اسمها ناصرة، وزيارتها لنسيبتها أليصابات في الجبال إلى مدينة يهوذا، وتسبحة العذراء بعد أن فرحت أليصابات مرحّبة بها وقائلة : مباركة أنت في النساء ومباركة ثمرة بطنك يسوع 9، وبعدها ولادة يوحنا المعمدان الذي عندما سمع جيرانها وأقرباؤها عرفوا أنّ الربّ قد عظّم رحمته لها 10، وأخيراً ظهور الملاك في الحُلْم ليوسف كما يصفه لنا الإنجيلي متّى.
كل هذه الأحداث الإنجيلية مرتبطة بحدث الميلاد. فزكريا الكاهن وابنه يوحنا وأمّه أليصابات كلُّهم بشّروا بالميلاد في تلك البيئة اليهودية الضيقة، وبشارة الملاك لأمنا العذراء مريم هزَّ العالم اليهودي، لأن الحبل كان من الروح القدس، وكما قيل من الرب بالنبي القائل : هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً، ويَدعوُن اسمَه عَمَّانوئيل الذي تفسيره الله معنا 11، قد تم وتحقق.
ولكن دعونا نتوقف اليوم عند شخصية يوسف البار خطِّيب مريم العذراء، الذي كان الشاهد الأكبر على هذا الحدث الإنجيلي الخطير، ولنتأمل معاً كيف قدّم يوسف شهادته للعالم وهو الذي لم يدرك بدايةً أن يد الله كانت معه وعنايته رافقته، فبدل أن يصبح ربَّ عائلة بسيطة مغمورة مكّونة من والدين وأولاد فقط، أصبح شخصية كتابية شهيرة، ودخل التاريخ من أوسع أبوابه. إذاً في الأحد السابع السابق للميلاد تقف الكنيسة بحسب طقسها أمام شخصية يوسف البار. والإنجيلي متى بعد ذكر نسب يسوع المسيح يقول : أما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا 12، ويدخل مباشرةً في موضوع هام سبق الميلاد.
تعطي القراءة من الإنجيل للوهلة الأولى طابع البساطة، إذ يظهر أن يوسف البار لم يسمع بظهور الملاك لزكريا، ولا بحبل أليصابات، ولم تُعلْمه العذراء مريم ببشارة الملاك لها، ولا الحوار الذي جرى بينها وبين الملاك، ولم يصغ إلى نشيد العذراء الذي فيه عظّمت الرب لأنه نظر إلى أتضاع أَمَتِه 13 ولا نعلم شيئاً عن موقف يوسف البار من مكوث خطِّيبته مريم عند أليصابات نحو ثلاثة أشهر. ولكن يبيّن لنا متى الرسول بعض صفات يوسف الذي عَرَف بحبل خطِّيبته، وأهم صفة كانت البرارة، ولأنه كان باراً لم يشأ أن يُشهِرَها، ولكنه أراد تخليَتها سرّاً 14. حتى هذه اللحظة كل شـيء كان يسير ضمن المعقول والطبيعي، ولو عرف يوسف بالأحداث الإنجيلية المذكورة سابقاً، لما تجرّأ في التخطيط للتخلي عن خطِّيبته سرّاً. ولكن عبارة الإنجيلي متّى أنّ يوسف البار فيما هو متفكّرٌ في هذه الأمور، تبيّن أن يوسف الذي ظهر على مسرح التاريخ اليهودي فجأة، لم يكن متسرعاً في تنفيذ الخطة التي رسمها لنفسه. كم كانت مدة هذا الزمن، وكم استغرق هذا الوقت ؟ لا أحد يعرفه. ولكن ملاك الرب ظهر ليوسف في حُلْم، وناداه بقوله : يا يوسفُ بنَ داود، هذه المناداة كانت كافية أن تحرك يوسف البار ليدرك كُنه رسالة السماء، فـ : داود النبي مرةً أخرى يُبعثُ حياً في شخص يوسف، وهذا المنتظر من قبل الأجيال لما بلغ ملء الزمان، أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة، ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني 15، فعلاً قد جاء بالجسد إلى الأرض !!
فإذا نادى ملاك الرب الرعاة في ليلة الميلاد، وقال لهم : لا تخافوا !! ها هي نفس العبارة يستعملها الملاك قبل أشهر مع يوسف لا تخف !! إنّها عبارة ذات مدلول كبير، إن الموقف خطير جداً، والذي لا رجاء له، ولا معرفة له بالكتب المقدسة يصبح الخوفُ عنصراً هاماً في حياته. ولكن هل فعلاً بدّد كلام الملاك الخوف من نفس يوسف ونفوس الرعاة ؟ إنّ عبارة لا تخف ! و لا تخافوا ! تدلّ على خطورة الموقف، خاصةً عند الذين ضعف رجاؤهم، وخفَّ إيمانهم للمنتظر الآتي من ملء الزمان. إنّ يوسف البار بموقفه بعد ظهور ملاك الرب له في الحلم يدعونا إلى أكثر من عمل. فهو أولاً ينبئنا بأن الطاعة الحقيقة لا تكون إلاّ بالعمل بحسب إرادة الله. ونحن نؤمن بأن الطاعة هي إحدى ميزات الحياة الروحية في المسيحية. يوسف من جانبه قبل أن يسمع نداء الله، لم يَحِد عن طريق البرارة، لقد أراد أن يجنّب العذراء مريم أي سوء، رغم أنّه لم يعرف حقيقية ما جرى معها يوم البشارة، لهذا خطّط لأمرين : أولاً، لم يشأ أن يُشهرَها، وثانياً، أراد تخليتَها سرّاً. كم هو عظيم هذا الموقف من يوسف وأمثاله، فكأنّه يعطينا درساً ضدّ الإشاعات والاتهامات وقطع الرجاء والغوغائية بكلّ أشكالها، ولكن يوسف البار أظهر أن برارته تكمن أيضاً في طاعة حقيقية لرسالة السماء، فبعد الحلم الذي ظهر ملاك الرب فيه وبشّره بالذي حُبل به فيها هو من الروح القدس، والتي ستلد ابناً وتدعو اسمه يسوع لأنّه يخلّص شعبه من خطاياهم، استيقظ من النوم، ونفّذ أمر الملاك. وهذه هي قمّة الطاعة التي تتجلّى في هذا الموقف النابع من برارة يوسف. تُرى هل نرى من أمثال يوسف، من يسمع كلام الله ثمّ ينفّذ ما يريده الله منه ؟ أم يبقى الإنسان متمسّكاً بعناده، ورؤيته الضيّقة، ويتجاهل رسالة السماء، فينغمس أكثر وأكثر في الانغلاق على ذاته، خاصة ما له علاقة بأمور الحياة ؟
والطاعة التي قدّمها يوسف البار أصبحت شهادة للأجيال، فالملاك يُعلمه بأن هذا الذي حصل، كان كلّه لكي يتمّ ما قيل بالرب بالنبي القائل : هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً ويدعون اسمه عمّانوئيل الذي تفسيره الله معنا.
إنّ ابن داود من خلال ما ورد على لسان الملاك، عرف بأنّ نبؤة إشعياء قد تحقّقت في أيامه، وكأنّه غاص في أعماق النبؤات التي جاءت على لسان الأنبياء في العهد القديم، ويوسف بن داود عرف من خلال مريم ابنة داود إمكانية أن تحبل العذراء وتلد، وهذه حقيقة أولى رآها بعينيه، وشاهدها، ولمستها يداه، من جهة كلمة الحياة، كما أشار يوحنا الرائي. والحقيقة الثانية هي أن هذه الولادة كانت لكي يصير الله معنا، فطاعته أصبحت شهادة حيّة، في جيل لا يعتقد أن الإيمان هو الثقة بما يُرجى والإيقان بأمورٍ لا تُرى 16.
لقد عالج بولس الرسول علاقة الإيمان بالأحداث الإنجيلية في رسالته إلى العبرانيين، عندما تحدّث عن الإيمان الذي من خلاله نفهم أن العالَمِين أُتْقِنَتْ بكلمة الله حتى لم يتكوّن ما يُرى مما هو ظاهر 17.
فيوسف بن داود عرف أنّ حياة الأنبياء مثل : أخنوخ، ونوح، وإبراهيم، واسحق، ويعقوب، كلّهم، مع موسى وبقية الأنبياء، عاشوا بالإيمان، وهؤلاء كانوا شهوداً لما حصل في تلك الأيام، وكلّهم كانوا في انتظار حار لتحقيق الوعد الذي أصبح من صلب العلاقة بين الله والإنسان بمجيء السيد المسيح. وطاعة يوسف التي أصبحت شهادةً للأجيال اقترنت بـ الحرية. إن أهم نعمة أعطاها الله للإنسان هي الحرية، ولهذا ميّزه عن باقي المخلوقات بالحرية. وعندما يقول بولس الرسول في رسالته إلى أهل رومية : لذلك أنت بلا عذرٍ أيّها الإنسان 18، يريد أن يؤكّد بأنّ الإنسان مخيّر وليس مسيّراً، والخطيئة يختارها الإنسان بنفسه، لا تأتيه مبرمجة، تماماً كما أن الموقف يختاره الإنسان لنفسه.
ويوسف كان مخيّراً في أن يقبل رسالة السماء أو لا يقبلها. كان بإمكانه أن يستيقظ وينفّذ ما خطّطه لنفسه قبل الحلم، أي لا يستجيب لنداء السماء. ولكن الذي حصل أنّه اختار ما رآه صائباً لأنّ السماء كلّمته من تراثه الكتابي وتقليد آبائه، وكان حرّاً في قراره. صحيح أنّه أطاع وقدّم هذه الطاعة شهادة للأجيال، ولكنّه في الوقت نفسه استعمل نعمة الحرية، هذه الموهبة الكبيرة التي علينا أن نعرف مدى أهميّتها في حياتنا، فطاعته إذاً كانت مقترنة بفعل الحرية، التي رفعت من منزلته في عيون كلّ من عرفه. وقد عالج هذا الموضوع أيضاً بولس الرسول في رسالته إلى أهل رومية فهو القائل : لأنّي لستُ أعرف ما أنا أفعله، إذ لستُ أفعل ما أريده، بل ما أبغضه فإياه أفعل، فإن كنت أفعل ما لست أريده، فأنّي أصادق الناموس أنّه حسن، فالآن لست بعد أفعل ذلك أنا، بل الخطيئة الساكنة فيّ 19.
تحرّر يوسف البار من هذا الصراع، فلقد اختار الصالح بحريّته الكاملة، وعرف أنّ طاعته كانت نابعة من يقينه بأن نبؤات الأنبياء قد تحقّقت، وكل الرموز والإشارات التي جاءت على لسان الأنبياء تجسّدت اليوم في كلمات الملاك له. كم نحن بحاجة إلى أن نجعل من يوسف البار قدوةً لنا في الحياة، أي : أن نطيع الله، ونقدّم شهادة حقيقية لمجتمعاتنا، ونمارس حريّتنا لما فيه الخير لنا وللآخرين، تماماً مثلما صنع يوسف البار الذي عندما استيقظ من النوم، أوّلاً أزال الخوف من قلبه، فقول الملاك لـه : لا تخف أعطته قوة كبيرة لم تكن في نفسه، فخلع عنه نظرة الشك، وتخلّى عن خططه القديمة التي كادت تسيء إلى البرارة الكامنة فيه، واتخذ موقف حارس أمين، يسهر كل اليوم، لإبعاد الأذى عن العذراء مريم أولاً، وإعلامها ثانياً بأن السماء التي كلّمتها بواسطة الملاك يوم البشارة وأبلغتها بولادة عمّانوئيل، قد كلّمته هو أيضاً، فجاءه الملاك في الحلم وأمره بأن يرعاها حتى تلد مخلّصاً يرعى شعبه.
كبير أنت يا يوسف البار في موقفك !
لقد علّمتَنا اليوم ونحن نستقبل عيد ميلاد ربّنا يسوع المسيح في مغارة بيت لحم بأن نكمّل فرحة العيد بطاعتنا الحقيقية للربّ الإله، وأن نكون نحن أيضاً مستعدّين لتقديم شهادةٍ لائقة برسالة الميلاد إلى مجتمعاتنا المتعددة بأديانها ومذاهبها، بشرائحها وأطيافها، بتيّاراتها وانتماءاتها، لأنّ المجتمع لا يهنأ إلاّ بالعيش معاً، ولا يسعد إلاّ بالمشاركة لرفع شأن الأوطان، ولا يزدهر إلاّ لمدّ يد الواحد إلى الآخر من أجل أن نحافظ على هوية وطننا ونرفع رايات المحبة والمودّة في كل مكان ونفدي أرواحنا من أجل أن يبقى وطننا عزيزاً موحّداً مستقلاً يجمع كلّ أبنائه تحت جناحيه. إنّ خيارنا في هذه المناسبة نابعٌ من حريّتنا التي نعتبرها من نِعَمِ السماء علينا. فأنت اليوم علّمتنا كيف نعيّد بفرحٍ روحيٍّ كبير لميلاد طفل المغارة.
أيها الأحبة…
إنّها مناسبة ونحن نختتم في الأيام القليلة القادمة سنتنا باحتفالات عيدي الأضحى والميلاد، ونشعر بأننا كمؤمنين دائماً نتجه إلى الله العلى القدير، خالقنا وحارس أنفسنا ليحمي بلادنا من كلّ أذى قد يأتينا من هنا أو هناك. إنّ عام /2009/ ومع الأزمة الإقتصادية العالمية التي نواكبها منذ الآن لا يُبشّر بالخير، ولا بدّ أن تتطاير شظاياها فتصيب منطقَتنا. إنّ ثقتنا كبيرة بأنّ المسؤولين في سورية وعلى رأس هرم السلطة السيد الرئيس الدكتور بشار الأسد يعملون ليل نهار من أجل حماية الوطن والمواطن من مسبّبات مضرّة بسبب هذه الأزمة، ولكننا كمؤمنين أيضاً نؤكّد بأن أدعيتنا وصلواتنا إلى الله تعالى، تخفّف من آلام وأوجاع ومسبّبات هذا الضرر المادي، بسبب الأزمة المذكورة. وأمر آخر مهمّ هو أنّ تماسك شعبنا مع بعضه، كفيلٌ بأن يقي الوطن والمواطن من الأذى والضرر. وهذا لا يأتي إلاّ بالوعي الكامل لأنّ الوطن هو وطننا، والمواطن هو أخونا في الإنسانية، من أي دينٍ أو مذهبٍ أو انتماءٍ كان.
إنّنا نضرع إلى مولود بيت لحم القدوس في هذه الليلة بالذات، لكي يكون معنا، ويحمينا، ويبارك وطننا العزيز والغالي، ويحفظ بلدنا سورية، ويكون مع رئيسنا المبجّل السيّد الدكتور بشّار الأسد، ويقويه ليتمكّن من ترسيخ دعائم السلام في المنطقة كلّها.
رسالة الميلاد هي رسالة السلام ونحن نرجو أن يتحقّق هذا السلام في منطقتنا، كما أننا ندعو الله ليكون في عون حكومتنا الرشيدة، وينصر جيشنا الباسل، ويحقّق آمال المواطنين جميعاً في الوحدة والمساواة والعدالة والحرية، وتبقى رايات الوطن مرفرفةً فوق كلّ شبرٍ من أرض سورية، وينعم المواطن بالهناء والسعادة والسلام والأمن والطمأنينة، وتبقى سورية كما في تاريخها دائماً في موقع قياديٍ مميّز تقود عملية السلام لخير الإنسان في كلّ المنطقة.
وكل عيد وعام وأنتم بخير
المراجع :
- 1 يوحنا 1 : 1 2- يوحنا 1: 1 3- يوحنا 1: 8 4- يوحنا 1: 10 5- يوحنا 1: 12
6- يوحنا 1: 14 7- لوقا 2: 4 8- لوقا 2: 9 9- لوقا 42:1 10- لوقا 58:1
11- متى 1: 22 12- متى 1: 18 13- لوقا 1: 48 14- متى 1: 19 15- غلاطية 4 : 4
16- عبرانيين 11: 1 17- عبرانيين 11: 3 18- رومية 2: 1 19- رومية 7: 15 ـ 17
عيد الميلاد
2008
2009
ܬܫܒܘܚܬܐ ܠܐܠܗܐ ܒܡܪ̈ܘܡܐ ܘܥܠ ܐܪܥܐ ܫܠܡܐ ܘܫܝܢܐ ܘܣܒܪܐ ܛܒܐ ܠܒܢܝ̈ܢܫܐ
المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر
ܒܪܝܟ̣ ܡܘܠܕܗ ܕܡܪܢ
أيها الأحبة…
أنـا هـو
(1)
عندما نقرأ حدث الميلاد بحسب متى الرسول، ولوقا البشير، يبدو لنا كأن الحدثَ هو جزء من التاريخ فقط، دون الالتفات إلى المعاني الأخرى الكامنة وراء هذا الحدث اللاهوتي والروحي في آن !! فـ متى الرسول عندما يبدأ تسجيله للحدث يقول : أَمَّا وِلاَدَةُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ فَكَانَتْ هَكَذَا. وكلمة هكذا تفسّر واقعتين، الأولى : هي حبل مريم العذراء 1 من الروح القدس المخطوبة لـ يوسف وذلك قبل أن يجتمعا. والثانية : هي موقف يوسف عند معرفته بحبل مريم خطيبته. ربما يكون في هذا الوصف شيء من التأريخ، ولكن كلام الملاك ليوسف في الحلم يبيّن المعنى الروحي واللاهوتي للحدث، والملاك يقول ليوسف : لاَ تَخَفْ أَنْ تَأْخُذَ مَرْيَمَ امْرَأَتَكَ لأَنَّ الَّذِي حُبِلَ بِهِ فِيهَا هُوَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ 2. من الواضح أن يوسف التقي البار، لم يكن من صنف علماء الناموس، ولا الكتبة، ولا الفريسيين، ولا الصدّوقيين، أي لم يكن متعمّقاً في علم الكتاب المقدس، وهذه تجربة أولى جديدة له، إذ أنه يسمع للمرة الأولى بـ الروح القدس، ويتعرف على دوره في حبل خطّيبته مريم العذراء. وبعد برهةٍ قصيرة جداً ينتقل الملاك إلى موضوعٍ آخر أخطر من الأول، بقوله: لأن هذا المولود سيخلص شعبه من خطاياه 3.
(2)
ولكن الرسول متى لا يتوقّف في حدث الميلاد عند هذين الموقفين. فبعد الولادة في بيت لحم، ـ وهنا يحدد الزمان ـ أنه كان فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ الْمَلِكِ، ينقلنا إلى مشهدٍ جديد، وهو مجيء المجوس من المشرق، والسؤال المحيّر الذي طرحوه على سكان المدينة مما جعل هيرودس الملك، ومعه جميع أورشليم، أن يعيشوا حالة قلق وتوتّر واضطراب، فالمجوس يسألون : أَيْنَ هُوَ الْمَوْلُودُ مَلِكُ الْيَهُودِ 4 ؟ والملك هيرودس المنفرد بالحكم، والمعروف بالديكتاتورية، وخوفاً على عرشه من ناحية، ومن باب الفضول من ناحية ثانية، جمع كل رؤساء الكهنة وكتبة الشعب وسألهم : أَيْنَ يُولَدُ الْمَسِيحُ 5 ؟ ولم يذكر أنه ملك اليهود كما جاء على لسان المجوس الوافدين من المشرق، فقالوا له : بناءً على نبؤات الأنبياء، ستكون ولادته في بيت لحم اليهودية.
وعندما أوحي إلى المجوس في حلم أن يعودوا إلى بلادهم دون رؤية هيردوس وذلك بعد أن رأوا الطفل يسوع في بيت لحم، وقدّموا له الهدايا : ذَهَباً وَلُبَاناً وَمُرّاً، غضب جداً لأن المجوس سخروا به، فَأَرْسَلَ وَقَتَلَ جَمِيعَ الصِّبْيَانِ الَّذِينَ فِي بَيْتِ لَحْمٍ وَفِي كُلِّ تُخُومِهَا مِنِ ابْنِ سَنَتَيْنِ فَمَا دُونُ بِحَسَبِ الزَّمَانِ الَّذِي تَحَقَّقَهُ مِنَ الْمَجُوسِ 6.
وتجدر الإشارة أنه في الإصحاحين الأولين من إنجيل متى نرى براهين كتابية تؤكد حدث الميلاد، أي : نبؤات تحققت في هذا اليوم العظيم. أولاً : الملاك في حديثه مع يوسف في الحلم يُذكرِّه بقول إشعياء : هُوَذَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْناً وَيَدْعُونَ اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ ﭐلَّذِي تَفْسِيرُهُ اَللَّهُ مَعَنَا 7تلِد ابناً ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا . كتابة تؤكد حدث الميلاد، أولاً الملاك في حديثه مع يوسف في الحلم يذكره بق. وثانياً : أشار رؤساء الكهنة وكتبة الشعب إلى قول الكتاب وهي من سفر ميخا النبي : وَأَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمٍ، أَرْضَ يَهُوذَا، لَسْتِ الصُّغْرَى بَيْنَ رُؤَسَاءِ يَهُوذَا، لأَنْ مِنْكِ يَخْرُجُ مُدَبِّرٌ يَرْعَى شَعْبِي إِسْرَائِيلَ 8. وثالثاً : قول الملاك ليوسف : قُمْ وَخُذِ الصَّبِيَّ… لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ الرَّبِّ، بِالنَّبِيِّ، مِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ابْنِي 9. ورابعاً : في قتل أطفال بيت لحم، تمَّ ما قيل بالنبي أرميا : صَوْتٌ سُمِعَ فِي الرَّامَةِ نَوْحٌ وَبُكَاءٌ وَعَوِيلٌ كَثِيرٌ. رَاحِيلُ تَبْكِي عَلَى أَوْلاَدِهَا وَلاَ تُرِيدُ أَنْ تَتَعَزَّى لأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَوْجُودِينَ 10. وخامساً وأخيراً : بعد العودة من مصر واختيار الناصرة مكاناً للسكن ليتم ما قيل بالأنبياء : إِنَّهُ سَيُدْعَى نَاصِرِيّاً 11.
(3)
أما لوقا البشير، فريشته ـ وهو المصوّر البارع ـ ترسم لنا صوراً أخرى لحدث الميلاد. تبدأ المشاهد بـ زكريا الكاهن، وظهور الملاك له في الهيكل، وحبل أليصابات بيوحنا المعمدان، وهذا كمقدمة للبشارة التي حملها جبرائيل الملاك من الله إلى مدينة من الجليل اسمها ناصرة إلى عذراء مخطوبة لرجل اسمه يوسف واسم العذراء مريم. لقد جرى حوار قصير بين العذراء مريم والملاك، أكّد فيه الملاك لها بأن الروح القدس يحل عليها وقوة العلي تظلّلها 12، فلذلك أيضاً، القدوس المولود منها يدعى ابنَ الله. إذاً العذراء أيضاً، وهي الفتاة الصغيرة التي لم تعرف في حياتها سوى الصلاة في الهيكل، كما لم تكن على درايةٍ بما ورد على لسان الأنبياء في العهد القديم، تسمع كلاماً جديداً عليها. الروح القدس يحل عليها، وقوة العلي تظللها، والقدوس المولود منها يدعى ابن الله 13. ويربط لوقا البشير البشارة بزيارة العذراء لأليصابات في مدينة يهوذا. وهنا لا بد أن نمرَّ على نشيد مريم العذراء : تُعَظِّمُ نَفْسِي الرَّبَّ وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللَّهِ مُخَلِّصِي 14.
(4)
بعد الزيارة يُحدثنا لوقا البشير عن ولادة يوحنا، ثم ينتقل إلى حدث الميلاد مذكّراً بأمر صدر من أغسطس قيصر 15 بأن يكتتب كل المسكونة، وهذا ما دفع يوسف لكونه من بيت داود وعشيرته، ليكتتب مع مريم امرأته المخطوبة وهي حبلى، في مدينة بيت لحم، حيث ولدت ابنها البكر، وقمّطته وأضجعته في المذود، إذ لم يكن لهم موضع في المنزل 16.
وقبل أن ينطلق يسوع المسيح في رسالته الخلاصية يُشير لوقا إلى زيارة الرعاة للطفل يوم الولادة بعد أن بشّرهم الملاك بولادته، وسمعوا نشيداً من أفواه جمهور من الجند السماوي الذين سبّحوا الله قائلين : المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، والرجاء الصالح لبني البشر 17. وكان الرعاة من المبشرين الأوائل، لأنه بعد رؤية الطفل يسوع، والتحقق من كلام الملاك لهم، نقلوا البشارة إلى معارفهم وأقربائهم، ويأتي بعدهم المجوس الذين جاءوا من المشرق، وهؤلاء أيضاً في طريق عودتهم إلى بلادهم أعلنوا بفرح عظيم ولادة يسوع الملك. وبحسب إنجيل لوقا اختُتِن المولود بعد ثمانية أيام وسمي يسوع 18، وعندما كان ابن أربعين يوماً، وبحسب شريعة موسى أخذوه إلى الهيكل ليقدموه للرب. وفي الهيكل كان اللقاء مع سمعان الشيخ وحنة بنت فنوئيل من سبط أشير 19. إن لقاء الطفل مع الشيخ سمعان والنبية حنّة أيضاً له دلالات، على أن عمل الروح القدس كان بادياً في الولادة.
وبعد هذا الظهور الثاني في الهيكل يقول لوقا أن الصبي كان ينمو ويتقوى بالروح 20. وكان يذهب كل سنة إلى أورشليم في عيد الفصح، ولكن عندما كانت له اثنتا عشرة سنةً بقي جالساً في الهيكل، في وسط المعلمين، يسمعهم ويسألهم 21. إذاً هذا هو كل ما نقرأه عن حدث الميلاد بحسب ما ورد في الإنجيل المقدس للقديسَين متى الرسول، ولوقا البشير.
ماذا تكون انطباعاتنا نحن أبناء القرنين العشرين والواحد والعشرين من قراءة تفاصيل حدث الميلاد ؟
(5)
لقد عبَّر كل من متى الرسول، ولوقا البشير، عن حدث الميلاد بأسلوب بسيط، ونحن أبناء هذه الكنيسة المقدسة كما فعل آباؤنا وعلّمنا المعلمون وتعاليم الكنيسة آمنّا بما كتبه كلٌ منهما، وجعلنا الميلاد حدثاً روحياً هاماً في حياتنا، واعتمدنا على كل حركةٍ وردت على لسانهما، وبنينا ممارساتنا، ولكن نريد أن نعرف ماذا يقول السيد المسيح عن نفسه بعد كل هذه الأحداث الإنجيلية.
لقد بدأ يسوع المسيح كرازته بعد العماد في نهر الأردن من عبده يوحنا ابن زكريا الكاهن، وجاءت شهادة يوحنا الرائي له صريحة وواضحة : وَﭐلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً، وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً 22. ويقول اللاهوتي يوحنا أيضاً : اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ 23. هذه هي شهادة يوحنا صاحب الإنجيل وسفر الرؤيا والرسائل الثلاث في مولود بيت لحم.
أما يسوع المسيح فيشهد بطريقة خاصة عن نفسه، ويبدأ هذه الشهادة بعبارة أنا هو، لكي يقرّب إلى أذهان اليهود هذه الشخصية النادرة التي ظهرت على مسرح تاريخهم وأعلنت أن مملكته ليست من هذا العالم، فهو ليس واحداً من الأنبياء الذين سبقوه وتحدّثوا عنه، وإن شئتم فـ : هو حمل الله الذي سيرفع خطيئة العالم 24 كما صرح المعمدان.
(6)
ويبدأ السيد المسيح في تفسير رسالته في حواره مع اليهود بقوله : أنا هو نور العالم 25. الشعب اليهودي كان يعيش في ظلمة الخطيئة. والسيد المسيح بولادته جاء ليبدد أركان الظلمة، فكل من يتبعه لا يمشي في الظلمة، بل يكون له نور الحياة، وهذه الشهادة أربكت الفريسيين، لا بل أزعجتهم، وأدخلتهم في متاهات كثيرة، لهذا اعترضوا عليه قائلين : أَنْتَ تَشْهَدُ لِنَفْسِكَ. شَهَادَتُكَ لَيْسَتْ حَقّاً 26، فيجيبهم : أَنَا هُوَ الشَّاهِدُ لِنَفْسِي وَيَشْهَدُ لِي الآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي 27.
ولم يقف عند هذا الجواب، بل نراه يذهب إلى بعيد، فالميلاد في المغارة لن يُفهم من قِبَلهم إلاّ عندما يُصلب، لهذا قال لهم بعبارةٍ صريحة : مَتَى رَفَعْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ فَحِينَئِذٍ تَفْهَمُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ 28، هل تذكّر اليهود عمود النور الذي قادهم في البرية، وكان معهم لبرهة قصيرة من الزمن ؟ لو عرفوا ذلك لأدركوا هذا الذي يقوله لهم الآن : أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَم، إنه النور الحقيقي الدائم إلى الأبد. هل قرأوا من جديد ما كتبه لهم إشعياء النبي : أَنَا الرَّبَّ قَدْ دَعَوْتُكَ بِالْبِرِّ فَأُمْسِكُ بِيَدِكَ وَأَحْفَظُكَ وَأَجْعَلُكَ عَهْداً لِلشَّعْبِ وَنُوراً لِلأُمَمِ 29، لم يفهم اليهود أن يسوع المسيح حقيقةً هو نور العالم. حتى عندما فتّح أعين العميان بالفعل.
(7)
لم يفكر الفريسيون أو الصدّوقيون أو الكتبة، في إعادة قراءة كتب الأنبياء، فعندما قال لهم يسوع المسيح : أَنَا هُوَ الْبَابُ، إِنْ دَخَلَ بِي أَحَدٌ فَيَخْلُصُ وَيَدْخُلُ وَيَخْرُجُ وَيَجِدُ مَرْعًى… وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ 30. لم يتذكّر اليهود، وقادتهم، كلام صاحب المزامير هَذَا الْبَابُ لِلرَّبِّ. الصِّدِّيقُونَ يَدْخُلُونَ فِيه 31. وحتى عندما كلّمهم بأمثال كانت أذهانهم بعيدةً عن إدراك المعنى الحقيقي وراء المثل الذي ضربه يسوع لهم، فمثل الحكيمات الخمس، والجاهلات الخمس، اللواتي أخذْن مصابيحَهنَّ ووقفْنَ عند الباب، ولم تدخل إلاّ المستعدات، أمّا العذارى الجاهلات فطرقْنَ على الباب، قائلات : يَا سَيِّدُ يَا سَيِّدُ افْتَحْ لَنَا 32، ولم يُفتح الباب في تلك الساعة، لم يعرف الملتفون حول السيد المسيح أنه هو الباب الذي جاء من أجل خلاص الإنسان.
(8)
إن رسالة السيد المسيح إذاً كانت لتقرّب إلى أذهانهم شرح ما ورد في أسفار العهد القديم، فبعد أن قال لهم : أنا هو نور العالم، وأنا هو الباب ينتقل إلى صفةٍ أخرى من صفات المخلّص، فيقول : أنا هو الراعي الصالح !! أما كيف يكون الراعي صالحاً، وليس أجيراً، فالجواب هو عندما يبذل الراعي نفسه عن الخراف. غريبٌ عجيبٌ أمر اليهود، لا يفهمون كنه رسالة السيد المسيح، فهو جاء ليولد في مغارة بيت لحم، ولكنه في الوقت ذاته هو الذي سيُرفع على خشبة العار !! فقط ساعتئذٍ سيفهم اليهود عبارة : إني أنا هو.
وها الراعي الصالح يتحدث مرة أخرى عن البذل، الذي يعني قمة العطاء، وكيف يبذل الإنسان نفسه عن الخراف عندما يُصلب. فالصلاح لا يكون فقط في الرعاية وإنما في الثبات، فالأجير عندما يرى الذئب مُقبلاً يترك الخراف ويهرب، فيخطف الذئب الخراف ويبددها، أما السيد المسيح فليس بالأجير الذي لا يبالي بالخراف، إنه الراعي الصالح، صاحب الخراف ومالكها. وكما قال حزقيال : وَأُقِيمُ عَلَيْهَا رَاعِياً وَاحِداً فَيَرْعَاهَا 33، والرعاية الصالحة تكون في البذل، في التضحية، في نكران الذات، أي حتى إذا اضطر الراعي أن يقدّم نفسه فداءً عن أحبائه، يمكن أن يفعل ذلك دون تردد. ألا نتذكر هنا قول السيد المسيح لبطرس : أَتُحِبُّنِي أَكْثَرَ مِنْ هَؤُلاَءِ ؟ فعندما قال له : نَعَمْ يَا رَبُّ أحبّك، أكّد عليه ثلاث مرّات، ﭐرْعَ خِرَافِي ! ﭐرْعَ غَنَمِي ! ارع حملاني ! لأنه كان يريد أن يُعرِّف بطرس وأخوته الرسل، بأن الرعاية الصالحة للرعية المباركة قد تؤدّي إلى بذل الذات.
(9)
لم يكن من السهل أن يفهم اليهود السيد المسيح وهو يقول لهم : أنا هو 34، فعندما أشبع الآلاف من خمسة أرغفة شعير وسمكتين، فرح اليهود لأنهم أكلوا وشبعوا، ولكن عندما قال لهم : أنا هو الخبز النازل من السماء، تساءلوا أَلَيْسَ هَذَا هُوَ يَسُوعَ بْنَ يُوسُفَ الَّذِي نَحْنُ عَارِفُونَ بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ. فَكَيْفَ يَقُولُ هَذَا إِنِّي نَزَلْتُ مِنَ السَّمَاءِ 35، كان جواب يسوع لهم : لاَ تَتَذَمَّرُوا فِيمَا بَيْنَكُمْ… أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هَذَا الْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ. وَالْخُبْزُ الَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي الَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ الْعَالَمِ 36. نحن نتوقع كما كتب الإنجيلي يوحنا أن يخاصم اليهود بعضهم بعضاً، لأنهم لم يفهموا معنى البذل الذي من أجله جاء السيد المسيح. فولادته بالجسد عندما بلغ ملء الزمان على حد قول بولس الرسول في رسالته إلى أهل غلاطية، في مغارة بيت لحم، كانت لكي عندما يأكل المؤمن جسده، ويشرب دمه، عندئذٍ تكون له حياة أبدية. والسيد المسيح يقيمه في اليوم الأخير. وبوحنا الرائي يصف لنا حالة التلاميذ بعد سماع هذا الكلام، ويقول : كَثِيرُونَ مِنْ تلاَمِيذِهِ إِذْ سَمِعُوا إِنَّ هَذَا الْكلاَمَ صَعْبٌ ! مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَسْمَعَهُ، عرف يسوع أفكارهم فوبخّهم بعبارة أَهَذَا يُعْثِرُكُمْ 37.
(10)
ثم نقلهم يسوع ذاته إلى الجلجلة، إلى البذل الحقيقي، وإلى ما بعد القيامة عندما قال : رَأَيْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ صَاعِداً إِلَى حَيْثُ كَانَ أَوَّلاً 38. وبما أن هذا الكلام كان صعباً وغير مفهوم، لهذا يقول يوحنا أيضاً : مِنْ هَذَا الْوَقْتِ رَجَعَ كَثِيرُونَ مِنْ تلاَمِيذِهِ إِلَى الْوَرَاءِ وَلَمْ يَعُودُوا يَمْشُونَ مَعَهُ 39. المشكلة أنهم كانوا على مسافة بعيدة من المعاني الحقيقية لكلمات السيد المسيح. فعندما كان يقول لهم : أنا هو نور العالم، أو أنا هو الباب، أو أنا هو خبز الحياة، كانوا يستغربون، لأنهم لا يعيشون في أجواء العائلة الصغيرة، ولم يخرجوا من مغارة بيت لحم، إلى الناصرة، أو إلى الهيكل، ولم يعرفوا حقيقة رسالة يسوع المسيح الخلاصية.
(11)
ها هو يعلن فكرة جديدة لرسالته العلنية : أَنَا الْكَرْمَةُ الْحَقِيقِيَّةُ وَأَبِي الْكَرَّامُ... أَنَا الْكَرْمَةُ وَأَنْتُمُ الأَغْصَانُ…. كَمَا أَحَبَّنِي الآبُ كَذَلِكَ أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا… لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ 40. هكذا يصوّر السيد المسيح شكل الكنيسة بالكرمة، وعلاقته الدائمة بالمؤمنين، برسالة الخلاص. إن سر دوامها وديمومتها وقوتها يكمن في المحبة، وعندما تجابه التحديات الصعبة، وتدخل الكنيسة في عالم الاضطهاد، عندئذٍ هذه المحبة تتجلى في الفداء، لهذا فيسوع المسيح عندما يقول : أنا هو الكرمة، يُعيد إلى أذهانهم عبارة يوحنا الرائي، والكلمة صار جسداً ليصبح كنيسة، والكنيسة لها أغصان أي أعضاء، هذا الترابط العجيب، هو سر ديمومة الكنيسة، فكل غصن في هذه الكرمة لا يأتي بثمر يُنزع، وأما الذي يأتي بثمر فينقّى ويأتي بثمر أكثر 41.
(12)
لو أردنا أن نختصر رسالة يسوع المسيح الخلاصية لوجدنا أن قوله : أنا هو الطريق والحق والحياة، هو الحل المناسب لكل إشكاليات الانتماء إلى السماء، فالطريق لم تكن معبّدة أمام الإنسان ليصل فيها إلى الله من خلال علاقاته، لأن الحق كان بعيداً عن الإنسان، الذي عاش في ظلام كل الزمن الذي بقي فيه بعيداً عن الله ومعرفة الحق. السيد المسيح قالها بعبارة واضحة جداً لا تقبل الشك : أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي 42. من يستطيع أن ينكر هذا المفتاح الجديد الذي قدّمه السيد المسيح على طبقٍ من ذهب للإنسان أولاً : بدّد كل معاني القلق والاضطراب من قلوبهم لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ. أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فَآمِنُوا بِي 43. ثم تساءل : تعلمون حيث أذهب وتعلمون الطريق.
وعندما تقدّم توما الرسول وسأل سيده بجرأة قائلاً : يَا سَيِّدُ لَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ تَذْهَبُ فَكَيْفَ نَقْدِرُ أَنْ نَعْرِفَ الطَّرِيقَ 44، فجاء جواب قوي وواضح من السيد المسيح : أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي 45.
لا ننسى أن يسوع المسيح كان في موقفه الأخير، يستعد للذهاب إلى الجلجلة، وهو يُعد كل شيء أمام تلاميذه، فهو الطريق التي تقود إلى الملكوت، وإلى الإيمان به وبالآب والروح القدس معاً، وأنه الحق الذي ينير، النفوس ويطرد عنها ظلام الضلال، وأنه الحياة الحقيقية، لأن من وجده وجدها فيه، إذاً مولود بيت لحم يدعونا اليوم لنفهم ما هي رسالته إلى العالم إنها : الطريق والحق والحياة.
(13)
لا نستطيع أن نفهم كل هذا الكلام، إلاّ إذا توقفنا عند عبارة أخرى معبّرة جداً عن العلاقة بين الميلاد والفداء. السيد المسيح قبل أن يذهب إلى الصليب، ذهب إلى بيت عنيا لأن لعازر شقيق مريم ومرتا كان مريضاً. لم يكن مرضه للموت، كما ورد على لسان السيد له المجد، وهو يتحدّث إلى تلاميذه، بل لأجل مجد الله، أي ليتمجّد ابن الله به 46. وكانت مناسبة ليؤكّد الإله المتجسد لكنيسته المقدسة أنه إن كان أحد يمشي في النهار لا يعثر، ولكن إن كان أحد يمشي في الليل يعثر، لأن النور ليس فيه. وقبل أن يذهب إلى قبر لعازر عاتبته مرتا بمحبة كبيرة قائلة : يَا سَيِّدُ لَوْ كُنْتَ هَهُنَا لَمْ يَمُتْ أَخِي، قال لها يسوع : سيقوم أخوكِ ، قالت له مرتا : أنا أعلم أنه سيقوم بالقيامة في اليوم الأخير، قال لها يسوع : أنا هو القيامة والحياة من آمن بي وإن مات فسيحيا 47. مرةً أخرى يفاجئ يسوع المسيح مولود بيت لحم العالم اليهودي بعبارة أنا هو… أنا هو القيامة والحياة.
من منا يدرك أن يسوع المسيح بعد ولادته في مغارة بيت لحم، سيذكّرنا بالمغارة التي دفن فيها، وأنها ستكون طريقاً للقيامة والحياة. عندما نسمع الرب يسوع يقول عن نفسه : أنا هو نور العالم، أنا هو الطريق والحق والحياة، أنا هو الكرمة الحقيقية، أنا هو الباب، أنا هو خبز الحياة، كل هذه العبارات تدخل في صلب عمل السيد المسيح لبناء الإنسان، وقيادته إلى حيث الطريق والنور والحياة، هذا البناء الروحي سيؤدّي حتماً إلى الحياة الأبدية، أما عندما يقول : أنا هو القيامة، فهذا استعلان لحقيقة كائنة فيه، فالرب لا يحيي الأجساد فقط، بل يعطي الحياة الأبدية، فمن آمن بي ولو مات جسدياً، فسيحيا للأبدية المجيدة.
يقول شارح هذه الآية المطران مار يعقوب ابن الصليبي أن المسيح بهذا القول أعلن عن لاهوته بأجلى بيان، وتعني عبارته : أنا الله، بأمري تكون القيامة، وبسلطاني الخاص تكون الحياة، والمؤمن بي، وإن مات، فسأعطيه الحياة في السماء، وأقيمه أيضاً في آخر الأزمان. لا بل هذا المؤمن بالمسيح يسوع تزداد فيه حياة النعمة في الأرض، وينال أيضاً حياة المجد في السماء.
نحن نرجو عندما يسألنا الله، ونحن نحتفل بعيد ميلاد ابنه الحبيب الطفل يسوع في مغارة بيت لحم، إن كنّا مؤمنين بأن يسوع هو القيامة والحياة كما سأل مرتا، أن يكون جوابنا : نعم يا رب أنتَ ولدت في مغارة بيت لحم، وبعد أن سبحّك الملائكة في السماء، وزارك الرعاة وفرحوا بكَ، ثم جاءتك شهادة من المشرق من المجوس الذين تبعوا النجم، فعرفوا أن الملك قد ولد حقيقة، وزاروك في بيت لحم، نحن أيضاً مع مرتا آمنا أنّك أنت المسيح ابن الله الآتي إلى العالم.
أيها الأحبة…
مرة أخرى نهنئ العالم المسيحي الذي يحتفل بعيد ميلاد طفل المغارة، ونهنئكم أيها السامعون الكرام، أيها الأحبة، أنتم الذين حضرتم معنا هذا القداس الإلهي في كاتدرائية مار أفرام السرياني، لنسبِّح الله معاً، ونطلب منه العون ليقوي ضعفاتنا، ويمتع أزمنتنا بالخير، ويبارك هذا الوطن العزيز والغالي علينا جميعاً، ويعزز كل معاني التقدم والتطور والتحديث والازدهار في كل جنباته.
إننا متفائلون كثيراً لمواقف رئيس البلاد المحبوب جداً علينا، السيد الدكتور بشار الأسد رئيس الجمهورية، الذي في كل يوم يخطو خطوات واسعة نحو الأمام لرفع شأن الوطن عالياً في كل مجالات الحياة، وميادين العمل، ونشعر بفخر واعتزاز بعلاقات سورية مع الدول المجاورة، وهذه العلاقات هي بمثابة لبنة في صرح السلام الكبير، أي ما تصبو إليه نفوسنا وهو في نهاية المطاف الأمن والسلام، فإذا ما خيما على أجواء العلاقات يعيش المواطنون بخير وهناء.
ويهمنا أن نُعلن بأن أفراح هذا العيد المجيد تزامنت مع عيد الأضحى المبارك، وهكذا مرة أخرى التقى المواطنون بأفراح العيدين، وشعرنا بأن سورية هي لكل المواطنين مسلمين ومسيحيين، والأعياد الدينية والوطنية تجمعنا، ومناسبات الأفراح والاتراح تدفعنا لنكون مع بعضنا بعضاً، هذا الوطن بالتالي هو لكل مواطن شريف، مخلص، أبي، كريم، معطاء، يريد أن يعمل بتفانٍ من أجل إعلاء شأنه، ورفع رايات المحبة، والعيش المشترك، والوحدة الوطنية في كل شبر على هذه الأرض الطيبة.
لا نستطيع في مثل هذه الليلة أن ننسى فلسطين وفيها، بيت لحم، والناصرة، والقدس، وكل الديار المقدسة، كيف أن هذه الأراضي التي تقدّست بأقدام السيد المسيح ورسله الأطهار، دنّسها المحتلون بأعمالهم اللاإنسانية الشنيعة، والتي في كل يوم يتفننون في الأساليب الوحشية ضد الشعب العربي الفلسطيني، ويمنعون ملايين من الحجاج المسلمين والمسيحيين من أخذ بركة تلك الأماكن المقدسة، فإلى مولود بيت لحم يسوع المسيح نتوجه هذه الليلة ضارعين إليه، لكي يساعد أخوتنا الفلسطينيين على الخروج من مأزقهم الداخلي أولاً، والانطلاق إلى تحرير كل شبر من الأرض المحتلة.
وفي نفس الوقت مازلنا نراقب بألم وحزن شديدين، ما يجري على أرض بلاد الرافدين، أرض الحضارة والثقافة والعطاء الفكري، ونأسف لما نسمعه ونشاهده ونقرأه في الإعلام عن مشاهد مأساوية مازالت تعمل تعمل من أجل تحطيم أركان العلاقات الطيبة بين المواطنين الذين ينتمون إلى شرائح وأطياف واثنيات وأديان ومذاهب متعددة، ولكنهم في الأخير أبناء وطن واحد, ونقول لأخوتنا العراقيين مسلمين ومسيحيين عليكم تقع المسؤولية في هذه الأيام لتعملوا مع بعضكم ضد من يريد أن يخلق العراقيل بينكم، وعلى تمزيق بلدكم، وزرع الفتن والانقسامات بين أبناء الوطن الواحد.
إننا نرافقكم بصلواتنا وأدعيتنا، ونرجو من الله في هذا اليوم بالذات بأن يرفع عن بلدكم العراق العزيز هذه الغيمة السوداء التي تخيم على أجواء العلاقات بين المواطنين العراقيين.
ولكم أنتم في هذه الكاتدرائية أيها الأحبة ولكل السامعين الكرام، ولكل المواطنين في سورية وكل المحتفلين بهذا العيد المبارك نقول : كل عيد وأنتم بخير، ونتمنى أن يأتي العام القادم حافلاً بالمسرات، مليئاً بالبركات والنِعَم، لكم ولهم ولكل محبي السلام نقول : كل عام وأنتم بخير.
المراجع :
1- إنجيل متى 1 : 18 2- إنجيل متى 1 : 20 3- إنجيل متى 1 : 21 4- إنجيل متى 2 : 2
5- إنجيل متى 2 : 4 6- إنجيل متى 2 : 16 7- إنجيل متى 1 : 23 8- إنجيل متى 2 : 6
9- إنجيل متى 2 : 15 10- إنجيل متى 2 : 18 11- إنجيل متى 2 : 23 12- إنجيل لوقا 1 : 34 و 35
13- إنجيل لوقا 1 : 35 14- إنجيل لوقا 1 : 46 و 47 15- إنجيل لوقا 2 : 1 16- إنجيل لوقا 2 : 5-7 17- إنجيل لوقا 2 : 8-14 18- إنجيل لوقا 2 : 21 19- إنجيل لوقا 2 : 25-38 20- إنجيل لوقا 2 : 39
21- إنجيل لوقا 2 : 41-50 22- إنجيل يوحنا 1 : 14 23- إنجيل يوحنا 1 : 18 24- إنجيل يوحنا 1 : 26 25- إنجيل يوحنا 8 : 12 26- إنجيل يوحنا 8 : 13 27- إنجيل يوحنا 8 : 17 28- إنجيل يوحنا 8 : 27 29- إشعياء 42 : 6 30- إنجيل يوحنا 10 : 9-10 31- مزامير 118 : 20 32- إنجيل متى 25 : 11
33- حزقيال 34 : 23 34- إنجيل يوحنا 21 : 15-17 35- إنجيل يوحنا 6 : 42 36- إنجيل يوحنا 6 : 51 37- إنجيل يوحنا 6 : 60و61 38- إنجيل يوحنا 6 : 62 39- إنجيل يوحنا 6 : 66 40- إنجيل يوحنا 15 :1-13
41- إنجيل يوحنا 15 : 5 42- إنجيل يوحنا 14 : 6 43- إنجيل يوحنا 14 : 1 44- إنجيل يوحنا 14 : 5 45- إنجيل يوحنا 14 : 5 46- إنجيل يوحنا 11 : 4و5 47- إنجيل يوحنا 11 : 21-27
عيد الميلاد
2009
2010
ܬܫܒܘܚܬܐ ܠܐܠܗܐ ܒܡܪ̈ܘܡܐ ܘܥܠ ܐܪܥܐ ܫܠܡܐ ܘܫܝܢܐ ܘܣܒܪܐ ܛܒܐ ܠܒܢܝ̈ܢܫܐ
المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر
ܒܪܝܟ̣ ܡܘܠܕܗ ܕܡܪܢ
طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون
أيها الأحبة…
في ليلة الميلاد يلقي الإنجيليون الأربعة الأضواء على هذا الحدث التاريخي الفريد، بأسلوب متميز بالبساطة والروحانية، نأخذ مثلاً ما يقوله متى الرسول في بدء إنجيله المقدس : كتاب ميلادِ يسوع المسيح ابنِ داود ابنِ إبراهيم، وبعد أن يذكر نسب السيد المسيح بحسب الجسد من إبراهيم إلى يوسف رجل مريم، يورد ببساطة قولاً آخر فيقول : أما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا. ولا يختلف عنه كثيراً لوقا البشير الذي يكتب في إنجيله المقدس عن ميلاد يسوع المسيح : وَبَيْنَمَا هُمَا هُنَاكَ تَمَّتْ أَيَّامُهَا لِتَلِدَ، فَوَلَدَت ابْنَهَا الْبِكْرَ 1.
الذي غيَّر من أسلوب البساطة والروحانية، هو يوحنا الرائي، الإنجيلي الذي حلّق في أجواء لاهوتية، فبعد أن افتتح إنجيله بالآية الشهيرة : فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ. هَذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللَّهِ. كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ. فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ. وَﭐلنُّورُ يُضِيءُ فِي الظُّلْمَةِ وَالظُّلْمَةُ لَمْ تُدْرِكْهُ 2. نسمع يوحنا صاحب الإنجيل ذاته، وهو يصف ميلاد السيد المسيح بعبارة لاهوتية عميقة جداً، فكتب : وَﭐلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً، وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً 3. ولكن الميلاد ليس كأي حدث طبيعي آخر، يستطيع كل من يقرأ ما كتبه الإنجيليون الأربعة بفهمه بهذه البساطة.
فالأحداث الإنجيلية التي سبقت الميلاد، ورافقته، وجاءت بعده، تعطي مدلولاً حسياً بأن ولادة هذا الذي كتب عنه الإنجيليون الأربعة ليست كولادة آخر. فالإنجيلي متى يتحدث عن مريم العذراء، وهي مخطوبة ليوسف: قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَا وُجِدَتْ حُبْلَى مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ،فَيُوسُفُ رَجُلُهَا إِذْ كَانَ بَارّاً، وَلَمْ يَشَأْ أَنْ يُشْهِرَهَا، أَرَادَ تَخْلِيَتَهَا سِرّاً 4. ويوسف النجَّار ذاته عدل عن قراره، بعد أن سمع الملاك يخاطبه في الحلم قائلاً: يَا يُوسُفُ ابْنَ دَاوُدَ لاَ تَخَفْ أَنْ تـَأْخُذَ مَرْيَمَ امْرَأَتَكَ، لأَنَّ الَّذِي حُبِلَ بِهِ فِيهـَا، هُوَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ 5.
ويحدثنا البشير لوقا قبل أن تكون ولادة يسوع في مغارة بيت لحم، عن زكريا الكاهن وامرأته الطاعنة في السن إليصابات، وعن ولادة يوحنا الذي عُرف بالكاروز، والمعمدان، بعد أن رأى أبوه الكاهن زكريا الملاك. ثم ينقلنا إلى مدينة من الجليل اسمها الناصرة، ويُصوِّر لنا ظهور جبرائيل الملاك في الهيكل، حيث كانت العذراء المخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف، ويصف لنا حالة اللقاء والحوار الذي جرى بينها وبين الملاك.
وقبل الولادة، أيضاً ينقلنا لوقا البشير إلى الجبال إلى مدينة يهوذا، حيث قامت مريم بزيارة لنسيبتها إليصابات، ويحفظ لنا في الذاكرة أنشودة العذراء مريم : تُعَظِّمُ نَفْسِي الرَّبَّ 6. التي رددتها أمام إليصابات وهي تشير إلى مريم العذراء قائلة : فَطُوبَى لِلَّتِي آمَنَتْ أَنْ يَتِمَّ مَا قِيلَ لَهَا مِنْ قِبَلِ الرب 7، وأخيراً يصف لنا سعادة إليصابات وزكريا بولادة بكرهما يوحنا.
كل ذلك قبل أن يدخل متى ولوقا بعين الروح إلى مغارة بيت لحم، ويصفا الولادة التي تمّت بمنتهى البساطة، والذي يهمُّنا في هذا المساء : هو شهادة الرعاة المتبدِّين في تلك الكورة القريبة من بيت لحم، وكانوا يحرسون حراسات الليل على رعيتهم، وكيف ظهر الملاك في السماء، ومجد الرب أضاء حولهم، فخافوا خوفاً عظيماً : فقال لهم الملاك لاَ تَخَافُوا. فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ، أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ. وَهَذِهِ لَكُمُ الْعَلاَمَةُ، تَجِدُونَ طِفْلاً مُقَمَّطاً مُضْجَعاً فِي مِذْوَدٍ. وَظَهَرَ بَغْتَةً مَعَ الْمَلاَكِ جُمْهُورٌ مِنَ الْجُنْدِ السَّمَاوِيِّ مُسَبِّحِينَ اللهَ وَقَائِلِينَ ﭐلْمَجْدُ لِلَّهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَالرجاء الصالح لبني البشر 8.
لقد لخّصت ترنيمة الملائكة رسالة يسوع المسيح بمجيئه إلى الأرض، فالعالم بعد التجسد كان بحاجة ماسة إلى أمرين : الأول : هو السلام الذي بقي ناقصاً في رسالة كل الذين سبقوا مجيء السيد المسيح، وهو يشير إلى حالة الحروب وأخبار حروب، وكيف تقوم أمةٌ على أمة، ومملكة على مملكة، وتكون مجاعات وأوبئة، وزلازل في أماكن، وهذه كلها مبتدأ الأوجاع.
إنَّ ما ذكره السيد المسيح قبل أن يذهب إلى الجلجلة، نراه يتجسد في مناطق كثيرة من العالم، وأنَّه لكثرة الإثم تبرد محبة الكثيرين.
إنَّها صورة قاتمة يذكرها الإنجيل المقدس، ويصور فيها المآسي والويلات التي سيقاسى منها الإنسان، فالَّذِي عَلَى السَّطْحِ لاَ يَنْزِلْ لِيَأْخُذَ مِنْ بَيْتِهِ شَيْئاً، وﭐلَّذِي فِي الْحَقْلِ فَلاَ يَرْجِعْ إِلَى وَرَائِهِ لِيَأْخُذَ ثِيَابَهُ 9. حتى أنَّ : الشَّمْسَ تظلم، وَالْقَمَرَ لاَ يُعْطِي ضَوْءَهُ، وَالنُّجُومَ تَسْقُطُ مِنَ السَّمَاءِ، وَقُوَّاتِ السَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَعُ 10.
بكلمةٍ واحدةٍ نستطيع أن نصف هذه الحالة المرعبة التي تحدث عنّها السيد المسيح أثناء تجواله بين الناس. ولكن كل هذا لم يمنعه، من أن يشير إلى السعادة التي ستعطى لبعض الناس. ونقرأ في كلماته وهو على رأس الجبل، يلقي الموعظة الشهيرة المعروفة بالتطويبات، كيف أنّه يعيد إلى الأذهان ترنيمة الملائكة للرعاة. فالطوبى أعطيت : للمساكين بالروح، والحزانى، والودعاء، والجياع والعطاش إلى البر، والرحماء، ولأنقياء القلب، والمطرودين من أجل البر، ولكن أعطيت أيضاً لصانعي السلام، الحاجة الأولى الماسة التي أشار إليها السيد المسيح في تطويباته. وكان إشعيا النبي قبل الميلاد بقرون قد أكّد أنَّ المسيح هو رئيس السلام، وتنبأ قائلاً : لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ، وَنُعْطَى ابْناً، وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيباً، مُشِيراً، إِلَهاً قَدِيراً، أَباً أَبَدِيّاً رَئِيسَ السَّلاَمِ 11. والسيد المسيح له المجد علّم رسله الأطهار أنَّه عندما يدخلون البيت، ويسلِّمون على من فيه. فَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ مُسْتَحِقّاً فَلْيَأْتِ سَلاَمُكُمْ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقّاً، فَلْيَرْجِعْ سَلاَمُكُمْ إِلَيْكُمْ 12.
هذا واضحٌ جداً في أنَّ رسالة السيد المسيح الأساسية كانت تأسيس سلام دائم بين الله والإنسان، وبين الإنسان وأخيه الإنسان، وبين الإنسان ونفسه، ولكن صناعة السلام ليست بالأمر السهل. إنَّها مهمة صعبة جداً، وتحتاج إلى كفاءة عالية في عالم المحبة، والعطاء، والخير، والصبر، والبذل. صناعة السلام تستدعي قوةً كبيرةً، وطاقةً هائلةً من التقرب إلى الله تعالى. صناعة السلام تعني أن يكون طلابه فاعلي خير، يطفئون الحرائق والنيران بالعمل الصالح، ويبعدون الهلع والخوف بالمحبة، ويحملون رسالة المسيح في كل المجتمعات مجّاناً. صناعة السلام تعني أنَّ الذين يتبعون المسيح، ويعرفون تعاليمه، يجب عليهم أن يتحملوا كل شيء من أجل أن يُبعِدوا شرور الحرب، ونتائجه المخيبة.
إذاً فما جاء على لسان الملائكة إلى الرعاة كان كلاماً واقعياً، أرسلته السماء إلى الأرض.
تعالوا نتأمّل ما يحدث اليوم في العالم، فنحن صباح كل يوم ننهض من فراشنا لنسمع أنباء الحروب، وقصص المعارك، ونقف بدهشة أمام روح الخصام والعداوة التي تولّدها المصالح بين الشعوب والأفراد، وندرك أنَّ صناعة الحروب هي الصناعة الأولى الرائجة لدي الدول التي تدّعي أنَّها أكثر حضارة من دولٍ أخرى. فالدول العظمى هي التي تشرف على مصانع الأسلحة بكل أنواعها، وتضع الخطط الجهنمية لاحتلالاتٍ متنوعةٍ: منها لدولٍ فيها الخيرات والطاقات، ومنها لأفكار الشعوب التي تريد أن تدفعها إلى الشر، فتقتل روح الهمة، والعطاء، وتزرع كل معاني الحقد، والضغينة، والكراهية بين الجماعات والأفراد.
عندما أعطى السيد المسيح الطوبى لصانعي السلام، كان يشير إلى أنّ رسالته الخلاصية التي ستنتهي على الصليب، هي من أجل أن يعالج الإنسان ويلاته، ومصائبه بالخيرات والعطاءات النابعة من تعليم الله.
من السهل جداً أن ترمي فتنةً في المجتمع، ولكن من الصعب جداً أيضاً أن تجعل الاثنين واحداً، إلى هذا كان يشير بولس الرسول في رسالته إلى أهل أفسس بقوله : أَنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا، الَّذِي جَعَلَ الاثْنَيْنِ وَاحِداً، وَنَقَضَ حَائِطَ السِّيَاجِ الْمُتَوَسِّطَ أَيِ الْعَدَاوَةَ. مُبْطِلاً بِجَسَدِهِ نَامُوسَ الْوَصَايَا فِي فَرَائِضَ، لِكَيْ يَخْلُقَ الاثْنَيْنِ فِي نَفْسِهِ إِنْسَاناً وَاحِداً جَدِيداً، صَانِعاً سَلاَماً، وَيُصَالِحَ الاثْنَيْنِ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ مَعَ اللهِ بِالصَّلِيبِ، قَاتِلاً الْعَدَاوَةَ بِهِ 13. ويختم قوله : َفجَاءَ وَبَشَّرَكُمْ بِسَلاَمٍ، أَنْتُمُ الْبَعِيدِينَ وَالْقَرِيبِينَ 14.
أذكرّكم أيُّها الإخوة والأخوات!! أنَّ ما حصل لآدم الأول في الجنة عندما أخطأ، في نفس اللحظة فقد السلام مع الله، وعندما قتل قايين أخاه هابيل، فقد الإنسان السلام مع أخيه الإنسان. ولهذا بعد أن نهض السيد المسيح من بين الأموات، قال للرسل في العلّية حيث كانوا مجتمعين وخائفين عشية يوم القيامة : سلاَمٌ لَكُمْ. لقد صنع سلاماً على الصليب أولاً، وأعطى السلام لتلاميذه بعد القيامة ثانياً. ولهذا نرى أنَّ الرسل يتخلون عن كل معاني الخوف والهلع، ويدركون أنَّ التمتع بالسلام مع الله، يعني العيش في سلام مع الناس.
فنحن في هذه الليلة مدعوون لكي نفهم ما معنى السلام من خلال ترنيمة الملائكة للرعاة. ولماذا يركز السيد المسيح في واحدة من التطويبات على صانعي السلام ؟
فما أجمل أن يسود السلام وطننا، وأن يعمَّ السلام مجتمعنا، وأن ينتشر السلام في بيوتنا، وأن يكون السلام عنواناً لعلاقاتنا مع بعضنا بعضاً، وأن نتعلم من بولس الرسول معنى أن نعيش بالسلام : أَخِيراً أَيُّهَا الإِخْوَةُ افْرَحُوا. اِكمَلُوا. تَعَزَّوْا. اِهْتَمُّوا اهْتِمَاماً وَاحِداً. عِيشُوا بِالسَّلاَمِ، وَإِلَهُ الْمَحَبَّةِ وَالسَّلاَمِ سَيَكُونُ مَعَكُمْ 15. و : اِتْبَعُوا السَّلاَمَ مَعَ الْجَمِيعِ، وَالْقَدَاسَةَ الَّتِي بِدُونِهَا لَنْ يَرَى أَحَدٌ الرَّبّ 16. فإذا قال السيد المسيح : طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللَّهِ يُدْعَوْنَ 17. يقول محبو السلام : ويّلٌ لمحطمي السلام، ويّلٌ لصانعي الشقاقات والخصام، ويّلٌ لصانعي الفتنة وزارعي الضغينة بين الناس، كل أولئك أبناء إبليس يدعون.
بما أنّنا نعيش في وطن واحد مسيحيين ومسلمين، ونعتبر أنَّ هُوِّية هذا الوطن تتجسد في عمل المواطن، لا بد أن نشير إلى أنّ َالإسلام أيضاً له تصور في السلام الذي يريده لكل الناس. لا بل يُعلّمنا الفقهاء المسلمون، أنَّ كلمة إسلام مشتقة من نفس الأصل المشتق منه لفظ سلام. فالإنسان في نظر الإسلام بدل من أن يكون عدوانياً ومدمِّراً، عليه أن يكون مسالماً وبنّاءً بدعمه للسلام.
هذا الكلام يجرّنا إلى ما تنشره وسائل الإعلام المرئية، والمسموعة، والمقروءة كل يوم، عن اختراقات غير مقبولة دينياً، بل مرفوضة رفضاً قاطعاً في قيمنا، وتقاليدنا، وعاداتنا، وأخلاقنا.
ولهذا في عيد ميلاد السيد المسيح نرى أنَّ حاضرنا تشغله قضية السلام في كل مكان، وهو في نظر الكثيرين من الحكماء، والعقلاء، والمؤمنين بالله تعالى، الأمر الهام والضروري لبناء صرح الحضارة في العالم. وعكس ذلك نرى أنَّ أفعال بعض الناس تسير في اتجاه مضاد للسلام، لأن فكر أولئك لا يتماشى والتعاليم الدينية، التي يجب أن تكون ضمن منطق المحبة التي توصي بها تعاليم الديانات التوحيدية.
عيوننا في هذه الليلة تتجه نحو العراق، أرض الحضارة والتّاريخ، بلاد ما بين النهرين، هذا البلد الشقيق الذي عرف مجزرة مرعبة قبل ختام سنتنا /2010/. فما وقع في كنيسة سيدة النجاة في بغداد لم يكن عادياً. إنَّ المجرمين، والقتلة، دخلوا إلى بيت الله، وقتلوا من قتلوا، ودمّروا ما دمّروا، وطبعوا بصمة مسيئة جداً إلى عالمنا، لأنهم نقلوا صورة مشوَّهة إلى الإعلام في كل مكان عن علاقتنا مع بعضنا بعضاً. لم يكن الإسلام وراء هذا العمل الجنوني. فالقرآن الكريم يُشير إلى أنَّ النصارى هم أهل الكتاب، وهم أيضاً يعبدون الله مثل المسلمين، ولهذا يوصي : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا 18.
ونَهجُ الخلفاء الراشدين كان بحسب ما أوصى به القرآن الكريم : أنَّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا، وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً 19. فتعددية الديانات، و تنوع المذاهب هي شرعة، ومنهاج، في نظر الإسلام. لهذا نرى كيف أن الخليفة الراشدي عمر بن الخطّاب أعطى الأمان لأهل الكتاب من النصارى. والعهدة العمرية الشهيرة أعطت الأمان لأنفسهم وأموالهم، لكنائسهم وصلبانهم… أن لا تُسكَن ولا تُهدَم كنائسهم، ولا يُنتقص منها، ولا من حيِّزها، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون علي دينهم. فإذا كان هذا منطق الإسلام، فكيف يحلل المتهورون قتل أهل الكتاب، ويدنسون بيوت الله، وهم يدركون : إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ 20. لقد طعنوا مفهوم التقوى، عندما دخلوا إلى بيت الله، وقاموا بعمل شنيع، فقتلوا كل من كان يمارس التقوى من خلال الصلاة.
رغم كل ذلك نحن نؤمن بالله الواحد الأحد، ولا يمكن للمؤمن أن يعيش بدون رجاء. ففي بحر هذه السنة جاء الرجاء في حدثٍ مسيحيٍ هام له علاقة بالشرق، ألقى الضوء على الروابط التاريخية، والروحية، بين المسلمين والمسيحيين. هذا الحدث كان سينودس الأساقفة ـ الجمعية الخاصة من أجل الشرق الأوسط. الذي عقد في روما في بحر شهر تشرين الأول من هذا العام. وكان جميع بطاركة، ومطارنة، وأساقفة الكنيسة الكاثوليكية في الشرق الأوسط حاضرين، ومعهم ممثلو الكنائس الأرثوذكسية، و بني شعار هذا السينودس شركة وشهادة على آية وردت في سفر أعمال الرسل: وَكَانَ لِجُمْهُورِ الَّذِينَ آمَنُوا قَلْبٌ وَاحِدٌ وَنَفْسٌ وَاحِدَةٌ.21.
وجاءت توصيات هذا السينودس تعبيراً عن هذا الرجاء منها، توصية من أجل السلام تقول: تلتزم كنائسُنا الصلاة، والعمل لأجل العدالة والسلام في الشرق الأوسط، وتدعوا إلى تنقية الذاكرة، مفضّلة لغة السلام والرجاء على لغة الخوف والعنف. وهي تطالب السلطات المدنية المسؤولة بتطبيق توصيات الأمم المتحدة الخاصّة بالمنطقة، ولا سيّما تلك المتعلقة بعودة اللاجئين، والوضع الخاص بمدينة القدس والأراضي المقدسة. والتوصية الخاصة في الإسلام أعلنت أنّه : لا يمكن للحوار الديني والثقافي أن يقتصر على خيار عابر، لأنه في الواقع حاجة حياتية، يرتبط بها مستقبلنا ارتباطاً كبيراً. هذه التوصية تريد أن تؤكد على الحضور المسيحي الدائم في المنطقة، ولهذا نقرأ فيها أيضاً: يتشارك المسلمون والمسيحيون معا في الشرق الأوسط في الحياة والمصير. ومعاً يبنون المجتمع. لذلك من المهم تعزيز مفهوم المواطنة، وكرامة الشخص البشري، والمساواة في الحقوق والواجبات، والحرية الدينية، التي تتضمن حرّية العبادة وحرّية الضمير. هذا الأمر يلزم المسيحيين المشرقيين أن يثابروا على حوار الحياة مع المسلمين، ويجب أن تكون النظرة بينهم نظرة تقدير ومحبة، رافضين كل أحكام سلبية ضدّهم. وهم مدعوون إلى أن يكتشفوا معاً القيم الدينية عند بعضهم بعضاً، وأن تكون من خلالهم مناهضة مشتركة لكل أنواع الأصولية والعنف باسم الدين.
إذاً علامات الرجاء حاضرة في حياة المؤمنين، وعليهم أن يدركوا بأن الذي يجمع بين المسلمين والمسيحيين هو الإيمان بالله الواحد الأحد، والعمل بالمعروف، والنهي عن المنكر. ولا غرو فمنذ ظهور الإسلام في الشرق الأوسط في القرن السابع، والمسيحيون والمسلمون يعيشون معاً، ويتعاونون في بناء الحضارة المشتركة. وإذا حصل اليوم بعض الخلل في العلاقات بينهم، عليهم أن يزيلوا كل سوء فهم وخلل بالحوار.
وأختم كلامي بالعبارات التي وجهتها الرسالة إلى الأخوة المسلمين: نقول لمواطنينا المسلمين: إنّنا أخوة، والله يريدنا أن نحيا معاً، متحدين في الإيمان بالله الواحد، ووصية محبة الله، ومحبة القريب. معاً سنعمل على بناء مجتمعات مدنية مبنية على المواطنة، والحرية الدينية، وحرية المعتقد. معاً سنتعاون لتعزيز العدل، والسلام، وحقوق الإنسان، وقيم الحياة، والعائلة. إن مسؤوليتنا مشتركة في بناء أوطاننا، نريد أن نقدّم للشرق والغرب أنموذجاً للعيش المشترك بين أديان متعددة، وللتعاون البنّاء بين حضارات متنوعة، لخير أوطاننا ولخير البشرية جمعاء.
نهنئكم أيها السامعون الكرام، وأنتم يا من حضرتم معنا في هذه الليلة المباركة القداس الإلهي، ونسأل الله بأن يبارك مولود بيت لحم، سورية البطلة، وقائدنا الرئيس الدكتور بشار الأسد، وكل العاملين في السلطة والحزب، ونهنئ جيشنا الباسل وجميع المواطنين مسلمين ومسيحيين، آملين أن تحمل هذه الأعياد وأمثالها البركات والنعم لجميعنا.
وكل عام وأنتم بخير
المراجع :
1- لوقا 2 : 7 2- يوحنا 1 : 1 ـ 5 3- يوحنا 1 : 14 4- متى 1: 18 _ 19
5- متى 1: 20 6- لوقا 1: 47 7- لوقا 1: 45 8- لوقا 2: 10 _ 14
9- متى 24: 17 _ 18 10- متى 24: 29 11- اشعيا 9: 6 12- متى 10: 13
13- أفسس 2: 14 _16 14- أفسس 2: 17 15- 2 كورنثوس 13: 11
16- العبرانيين 12: 14 17- متى 5: 9 18- سورة الحجرات 49: 13
19- سورة المائدة 49: 5 20- سورة الحجرات 49: 13 21- سورة الحجرات 49: 13
22- أعمال الرسل 4: 32
عيد الميلاد
2010
2011
المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام
والرجاء الصالح لبني البشر
الــوارث
أيُّها الأحبّة، أيُّها السَّامعون الكرام…
نحتفل اليوم بعيد ميلاد ربّنا يسوع المسيح بالجسد في مغارة بيت لحم. إنَّه حدثٌ عجائبي، حقّق نبوءاتٍ وردت في العهد القديم على لسان الأنبياء العِظام، ويكفي أن يُشار إلى نسب السِّيد المسيح كما ورد في الإنجيل المقدّس بحسب الإنجيليّين
متّى ولوقا. فمن خلال هذا النسب، نُدرك أنَّ كلّ أسفار العهد القديم تجسّدت في يسوع الناصريّ.
وكما ورد على لسان السِّيد المسيح، وهو يتحدَّث عن يوحنَّا المعمدان عندما قال : لَكِنْ مَاذَا خَرَجْتُم لِتَنْظُرُوا؟ أَنَبِيّاً! ؟ 1، أكَّد بأنَّ جميع الأنبياء والنَّاموس إلى يوحنَّا تنبأوا، فإذا كان يوحنَّا نهاية هذا التنبؤ، ولكن الأنبياء الآخرين السَّابقين له كلَّهم قد تنبأوا، وبقيت نبوءاتهم أساساً لإيماننا بيسوع المسيح.
فهذا متّى الرَّسول، العشّار، اليهودي حتّى العظم، المتمسّك بتعاليم آبائه، والملتزم بكلّ كلمة وردت في التوراة والأنبياء، عندما انفتحت عيناه على يسوع المسيح رأى فيه التوراة والنّاموس الجديد، إذ تحققت كلّ نبوءات العهد القديم، بدءاً من هروب يسوع إلى مصر وهو يقرأ في هوشع : مِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ابْنِي 2. ثمَّ يسمع الرَّبّ، وهو يتحدَّث إلى موسى في مديان :اذْهَبِ ارْجِعْ إِلَى مِصْرَ لأَنَّهُ قَدْ مَاتَ جَمِيعُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَانُوا يَطْلُبُونَ نَفْسَكَ 3.
إن العهد القديم يؤكّد على أنّ نبوّات كثيرين من الأنبياء أصبحت تاريخاً للإنجيل. فإذا استعرضنا بعض هذه النبؤات، لوجدنا أنّ الرّابط بين مجيء السّيد المسيح بالجسد، والأنبياء كان قويّاً. فهذه إليصابات بعد الحَبَل الإلهي وهي تستقبل العذراء في بيتها، وكانت في شهرها السادس، تتنبّأ عن كرامة أمّنا مريم العذراء، وتُعلن : مِنْ أَيْنَ لِي هَذَا أَنْ تَأْتِيَ أُمُّ رَبِّي إِلَيَّ 4. وعبارة أمُّ ربِّي تعني تماماً ما قالته الكنيسة عن العذراء مريم أنَّها: والدة الإله (ܝܳܠܕܰܬ̥ ܐܠܗܐ). والعذراء ذاتها جاءت تسبحتها نبوَّةً، لأنّها عرفت أنّ جميع الأجيال ستطوبها، وأَنَّ القَديرَ صَنَعَ بِهَا عَظَائِم 5 . وهكذا زكريّا الكاهن بعد ولادة ابنه يوحنّا امتلأ من الروح القدس وتنبّأ قائلاً : مُبَارَكٌ إِلَهُ إِسْرائيل لأَنَّهُ افتَقَدَ وَصَنَعَ فِدَاءً لِشَعْبِهِ، وَأَقَامَ لَنَا أَرْضَ خلاصٍ فِي بَيْتِ دَاوُد فَتَاه، كَما تَكَلَّم بِفَمِ أَنْبِيائِهِ القِدِّيسِين الَّذِينَ هُم مُنْذُ الدهر…. وَأَنْتَ أَيُّها الصَّبيُّ نَبيَّ العليّ تُدعَى لأَنَّكَ تَتَقَدَّم أَمَامَ وَجْهِ الرَّبِّ لتُعِدَّ طُرُقَهُ، لِتُعْطِيَ شَعْبَهُ مَعْرِفَة الخَلاص لِمَغْفِرَةِ خَطَايَاهُم 6.
هذه كانت نبوّات الأقربين قبل ولادة يسوع في مغارة بيت لحم. أمّا بعد الولادة، فيظهر أمامنا بادئ ذي بدء سمعان الشيخ الطاعن في السن البّار والتقي الّذي كان ينتظر تعزية إسرائيل والرّوح القدس كان عليه، وإلى جانبه حنّة النبيّة بنت فنوئيل من سبط أشير وهي أيضاً متقدّمة في أيّام كثيرة وكلٌّ منهما تنبّأ عن الطفل يسوع. سمعان أخذه على ذراعيه في الهيكل وبارك الله وقال : الآنَ تُطْلِقُ، عَبْدَكَ بِسَلام، يا سيِّد، حَسبَ قَوْلِكَ. لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتَا خَلاصَك 7. وحنّة النبيّة كانت متقدِّمة في أيَّامٍ كثيرة، فهي من تلك الساعة وقفت تسبِّح الرّبّ وتكلّمت عنه مع جميع المنتظرين فداءً في أورشليم.
والذي يقرأ أسفار العهد القديم يجدُ نفسه أمام كمٍّ هائل من النبوّات عن مجيء السيّد المسيح بالجسد، فهذا أشعياء النبيّ، وعلى بُعدِ مسافةٍ زمنية طويلة يُطلق نبوّته الشهيرة في العذراء مريم، ويقول : وَلَكِنْ يُعْطِيكُمُ السَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً : هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْناً وَتَدْعُو اسْمَهُ ” عِمَّانُوئِيلَ “ 8.
وعندما أحرج المجوس أهل أورشليم وسكّانَها، وقد جاؤوا من بلاد المشرق إلى المدينة المقدّسة في أيام هيرودس الملك، يتسآلون : أَيْنَ هُوَ الْمَوْلُودُ مَلِكُ الْيَهُودِ، فَإِنَّنَا رَأَيْنَا نَجْمَهُ فِي الْمَشْرِقِ وَأَتَيْنَا لِنَسْجُدَ لَهُ 9. لم يرَ هيرودس صاحب السّلطان في ذلك الزمان، حلّ مشكلةٍ عويصةٍ أحرجته، وهي أنَّ شخصاً ما آتٍ ليُنافسَه على العرش، إلاَّ أن يجمع كلَّ رؤساء الكهنة وكَتَبة الشعب ويسألهم : أَين يُولَدُ المسيح ؟ 10، أي أين يولد الملك الجديد، الذي حسَب تصوُّره سينتزع منه المُلك، وسيجلس على عرش مجده. فأجابه ممثِّلو الشعب اليهودي قائلين : في بَيْتَ لَحمِ اليَهودِيَّة 11. وأشاروا إلى أنَّهُ هكذا هو مكتوب بالنبيِّ : وأَنتِ يا بَيْتَ لَحمُ، لَسْتِ الصُّغرَى بَيْنَ رُؤَساءِ يهوذا لأَنَّ مِنْكِ يَخْرُجُ مُدَبِّرٌ يَرْعَى شَعْبِي إِسرائيل 12. ولم يُخبروه أنّ صموئيل النبيّ أيضاً سمع صوت الرَّب، وذهب إلى بيت لحم ليمسح أحد أبناء يسَّى الثمانية، ومسح الأصغر بينهم وكان يرعى الغنم وهو داود، الذي حلَّ عليه الرَّب وأصبح فيما بعد الملك والنبيّ.فالمدبِّر منذ ذلك اليوم أراده الله أن يكون من بيت لحم بحسب النبوّتين.
ومن الأحداث الإنجيلية التي رافقت ميلاد السيِّد المسيح هو العمل الإرهابي والإجرامي، الذي قام به هيرودس الملك، بعد أن سمع رأيَ رؤساء الكهنة وكتبة الشعب، وبعد أن سَخِرَ منه المجوس الذين رأوا الصبي مع مريم أمّه، وخرّوا، وسجدوا له، وفتحوا كنوزهم، وقدّموا له الهدايا : ذَهباً، ولُبَاناً، ومُرّاً 13. ثم أُوحي إليهم في الحلم أن لا يرجعوا إلى هيرودس، بل عادوا في طريق أخرى إلى كورتهم، غضب حينئذٍ هيرودس جدّاً وأرسل، وقتل جميع الصبيان الذين في بيت لحم، وفي كلِّ تخومها، من ابن سنتين وما دون بحسب الزمان الذي تحقَّقه من المجوس. هنا مرَّةً أخرى، نرى أنفسنا أمام نبوَّةٍ جاءت على لسان إرميا النبيّ، وهي تُعلن : صَوْتٌ سُمِعَ فِي الرَّامَةِ، نَوْحٌ وَبُكَاءٌ، وَعَوِيلٌ كَثِيرٌ، رَاحِيلُ تَبْكِي عَلَى أَوْلاَدِهَا وَلاَ تُرِيدُ أَنْ تَتَعَزَّى لأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَوْجُودِينَ 14. ونحن نسمع هذه الآية، نتخيَّل كأنَّ راحيل فعلاً موجودة وهي حيّة، تأكل وتشرب، تعيش وتراقب. هذا العمل الشنيع الذي قام به سلطان ذلك الزمان، وربَّما تذكَّرت أنَّ واحداً من أحفاد الإسرائيليّين مُستقبَلاً سيكون سبب خوفٍ وقلق لفرعون مصرَ، الذي هو الآخر أمر بقتل الذكور من شعب إسرائيل بلا رحمة حتّى يفني الشعب فناءً بطيئاً. فالنيّة عند الاثنين فرعون وهيرودس واحدة وهي سيئة للغاية، والتنفيذ هو واحد لأنَّ الجريمة طبّقها الاثنان في أناسٍ أبرياء. وأيضاً نقرأ نبوءة هوشع بين الحدثين أي اجتماع هيرودس مع المجوس وقتلُه لأطفال بيت لحم، فالنبيّ تحقَّقت نبوءته وهو الذي أعلن أنَّه : مِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ابْنِي 15. وهذا الذي حدث. فمتّى الرّسول يُبيِّن بأنّ ملاك الرّب قد ظهر ليوسف في حلمٍ، وقال له : قُمْ وَخُذِ الصَّبيّ وأُمَّه واهرُبْ إِلى مِصْرَ…. وَكَانَ هُنَاك إِلى وَفَاةِ هِيرُودُسَ لِكَي يَتِمَّ مَا قِيل بِالنَّبِيّ القَائِل : مِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ابْنِي 16.
وإلى أين يعود يسوع الهارب من وجه السلطات الزمنية الغاشمة أإلى بيت لحم ؟ حيث كانت مسرحاً لولادة الرّبّ يسوع في مغارة بيت لحم، ومجيء الرّعاة، وظهور الملائكة في السماء، وهم يرتِّلون أنشودةَ الميلاد، المَجدُ للهِ في الأَعَالِي وَعَلَى الأَرْضِ السَّلام وَالرَّجاءُ الصَّالحُ لِبَنِي البَشَر 17. ومسرحاً لزيارة المجوس التي سبَّبت خوفاً ورعباً لهيرودس الملك، فقتل أطفال بيت لحم، أم إلى أين يعود ؟
هنا مرّةً أخرى، نقرأ نبوَّةً وردت على لسان إشعياء النبي وقد جاءت الكلمة تحت تسميةٍ أخرى وهي الغصن، فيقول في إشارةٍ إلى يسوع الناصريّ: وَيَخْرُجُ قَضِيبٌ مِنْ جِذْعِ يَسَّى وَيَنْبُتُ غُصْنٌ مِنْ أُصُولِهِ 18. فهذا الغصن هو ما يُعرف بالنسر الذي يخرج من أسفل الساق ولا يثمر بسهولة، وتُنطَق نصر، والصفة منها ناصريّ. ولهذا يقول أيضاً متّى الرّسول عندما أُوحي إلى يوسف في حُلُمٍ وانصرف إلى نواحي الجليل وليس إلى بيت لحم. أتى وسكن في مدينة يُقال لها ناصرة، لكي يتمَّ ما قيل بالأنبياء إنّه سيُدعى ناصِريّاً 19.
وتتوالى النبوّات الواحدة بعد الأخرى، قد لا تكون كلّها لها علاقة بحدث الميلاد العجيب، ولكن نرى بعضها مرتبطة بخدمة يوحنّا المعمدان، وبعضَها الآخر بما ورد على لسان السيّد المسيح من أقوال، وتحقَّقت بعض النبوءات، بعضها في عمل يسوع الخدمي، وبعض النبوّات عن أمثال السيّد المسيح، وأخرى عن الآلام، والموت، والقيامة، ومنها دخوله كملكٍ راكبٍ على جحش، وواحدة عن خراب الهيكل، وأخرى عن خراب أورشليم، وحتّى نبوّة عن الثلاثين من الفضّة ثمن المُثَمَّن، وأخرى عن اقتسام ثيابه عند صلبه.
إنّ مشكلة اليهود ورؤسائهم وقادتهم خاصّةً من الفريسيّين، والناموسيّين، والكتبة، تكمن في عدم معرفة حقيقة سرّ التجسّد الإلهي، ولم يفهموا ما قاله بولس الرّسول في رسالته إلى أهل غلاطية : ولَمَّا بَلَغَ ملء الزَّمان أَرسَلَ اللهُ ابَنه مَولوداً من امرأةٍ، مَولوداً تَحْتَ النَّاموس، لِيَفتَدِي الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوس لِنَنَالَ التَّبَنِّي 20. وهم لم يعرفوا أبعاد ملء الزمان، أي أنّ نهاية زمان الخطيّة والشقاء واللعنة قد دنت، وبداية مجيء أيّام الله قد بدأت.
إنّه انفتاح حقيقيٌّ من السماء على الإنسان، زمنٌ فيه روح حياة جديدة، ليس زمن النَّاموس، الذي يتمسّك أصحابه بالحرف إنّه زمن الرّوح الذي يُحيي. وقوله ليفتدي الذين تحت النَّاموس لننال التبني، أيضاً لمْ يُدرك معانيها اليهود وقادتهم، لأنّ الفدية كانت تعني دفع الديون أوّلاً، هذه الديون التي تراكمت على الإنسانيّة قروناً وأجيالاً، فكنّا بحاجةٍ لمن يستطيع أن يخرجنا بالقوّة من رباط الخطية والموت، هذا الرباط الذي كان يتحكّم بها النَّاموس الضاغط على الكلّ بلا رحمة.
اليهود وقادتُهم أيضاً لم يعرفوا أنّ حركة التبنِّي لها إجراءات لإعادة ما كان قد خسره الإنسان، بعد أن سيطرت عليه الخطيّة. فبعد عمليّة الفداء على الصّليب غسل الفادي خطايانا بدمه، فانتقلنا من حالةٍ كان فيها النّاموس يحكُمُنا، إلى حالةٍ أصبحنا نشعر فيها بالبنوَّة الحقيقيّة، ولهذا نرى ما قاله يسوع في مَن سيكونون بنين لأبيهم السماوي : أَنْتُمْ فِيَّ وَأَنَا فِيكُمْ (يو 14: 20). كلّ هذا كان ليؤكِّد بولس الرّسول أنّ الوارث قد جاء.
فعندما ضرب الرَّبّ يسوع مَثَل محاكمة الكرَّامين الأردياء، كان يُشير إلى التجسُّد الإلهيّ، فهذا الإنسان ربّ البيت غَرَسَ كَرْماً وَأَحَاطَهُ بِسِيَاجٍ وَحَفَرَ فِيهِ مَعْصَرَةً وَبَنَى بُرْجاً وَسَلَّمَهُ إِلَى كَرَّامِينَ وَسَافَرَ 21. وكان من الطبيعي جدّاً أنه عند دُنوِّ وقت الأثمار أن يرسل فعلة إلى الكرّامين ليأخذ أثماره، فأرسل على دفعتين عبيداً، ولكنَّ الكرَّامين أهانوا العبيد، ورجموا بعضهم، بل قتلوا بعضاً منهم، فأراد عندما جاء ملء الزمان أن يرسل ابنه لعلَّهم يهابونه، أي يُدركون معنى الوعي، ويعودون إلى الوراء، ليتأمّلوا في نبوّات وأقوال أنبيائهم، ويقرأوا أسفار العهد القديم بتمعُّن. ولكنَّ الكرَّامين كانوا أردياء، وجهلة، حتّى كانوا خارجين عن النَّاموس، فلمَّا رأَوا الابن قالوا فيما بينهم، هَذَا هو الوارِث، هَلُمَّ نَقْتُلْهُ ونَأخُذْ مِيرَاثَهُ. فأَخَذُوه وَأَخْرَجُوه خَارِجَ الْكَرم وَقَتَلُوه 22.
ولم يعرف الكرَّامون الأغبياء أنَّ ملء الزمان لهذا أرسل الله ابنه مولوداً من امرأةٍ، مولوداً تحت النَّاموس… ليُصبحَ الحجر الذي رفضه البناؤون رأس الزاوية. فالوارث جاء بالجسد، وقرَّب إليه من كانوا سابقاً بمثابة عبيد والآن هم أبناء. ويقول بولس الرّسول أيضاً إلى أهل غلاطية : إِذاً لَسْتَ بَعْدُ عَبْداً بَلِ ابْناً 23، وهو هنا يتكلَّم معنا نحن الذين آمنَّا برسالة الخلاص من خلال مجيء هذا الوارث بالجسد، ولهذا فإنْ كُنَّا بنين، فنحن ورثة لله بالمسيح، وهذا امتيازٌ عظيم أن نناله بعد الميلاد الوارث في مغارة بيت لحم. وهنا نراه لا يستعمل كلمة التبنِّي، وإنَّما الابن لأنَّنا حصلنا على وثيقة الميراث التي في يد الآب والمدفوعة إليه مجاناً، تكريماً بالإيمان الذي قدّمه.
وربّما يكون بولس الرّسول الأكثر إدراكاً للفصل ما بين التبني والبنوّة. ففي رسالته إلى أهل روميَّة يُعلن أنّنا بعد الميلاد لم نأخذ روح العبوديّة، بل أخذنا روح التبنّي. ولكنَّ هذا الرّوح نفسه يشهد لأرواحِنا أنّنا أولاد الله، هذا هو السرُّ الكامن وراء المعاني الحقيقيَة للتجسُّد الإلهي، إذ تحرَّرنا من العبوديّة تخلَّصنا من النّاموس. ولهذا، بعد التجسُّد أخذنا نصرخ بدالّة بنويّة عظمى يَا أبَّا الآبُ ! 24، لأنّنا وُلدنا لله الحيّ، وأصبحنا أبناء للآب، وإخوةً لابنه يسوع المسيح، وورثة حقيقيّين مع المسيح، وهذا ما عبَّر عنه بولس الرّسول إلى أهل روميّة قائلاً : فَإِنْ كُنَّا أَوْلاَداً فَإِنَّنَا وَرَثَةٌ أَيْضاً وَرَثَةُ اللهِ وَوَارِثُونَ مَعَ الْمَسِيحِ. إِنْ كُنَّا نَتَأَلَّمُ مَعَهُ لِكَيْ نَتَمَجَّدَ أَيْضاً مَعَهُ 25.
هل نستطيع أن نُدرك نحن أبناء القرن الحادي والعشرين كيف ارتفعنا بواسطة التجسُّد إلى مستوى البنين بالنسبة لله ؟ وهل عرفنا أنّنا كبنين لنا الحق في الإرث السماوي في ملكوته الأبويّ ؟ الوارث الذي قتله الكرَّامون الأردياء بعد أن جاء بالجسّد إلى الأرض، جعلنا شركاء في ميراثٍ في الحبّ، وميراثٍ في المجد، لأنّه هكذا خاطبنا يسوع المسيح ليكون فيهم الحبّ، الذي أحببتني به وأكون أنا فيهم 26، وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني. هذا هو الميراث الذي لا يَفنى، ولا يتدنَّس، ولا يضمحلّ، محفوظ في السموات لأجلكم 27.
إذاً، تكمنُ صورة ميلاد يسوع المسيح في شخص الوارث، الذي جاءنا بعد ملء الزمان، ليكون نوراً للعالم، حتّى أنَّ كلّ من يؤمن به لا يمكث في الظلمة 28.
أيُّها الأحبَّة، أيُّها الأخوة، أيَّتُها الأخوات، أيُّها السّامعون الكرام.
عيد ميلاد ربّنا يسوع المسيح بالجسد وهو عيد السّلام والعدالة والمحبّة، وهو عيد الرّجاء والأمل… كلّ هذه الرؤى النبويّة نحتاجها اليوم في عالمنا، لأنَّنا نشعر بأنّ فتوراً كبيراً حصل للمعاني الحقيقيّة لهذه الرؤى الإيمانيّة. فعسى أن يبارك مولود بيت لحم القدوس وطننا الغالي ويحفظه من المكاره والشرور، ويبعد عنه كلّ خراب ودمار، ويؤسّس فيه عالماً تسوده العدالة من كلِّ جانب، ويحيط به السّلام، ويبقى أبناء الوطن بمحبّة كبيرة لوطنهم، وأن يعيش كلّ مواطن على رجاء وأمل لينصر الله الخير على الشرّ وترفرف رايات المحبّة على ربوع سورية وطن الوحدة الوطنيّة والعيش المشترك.
إنّه سميع مجيب.
المراجع
1-لو7: 25 2- هو 11: 1 3- خر4: 19 4- لو 1: 43 5- لو 1: 48 و49
6- لو1: 68- 70/ 76 و77 7- لو2: 29 و30 8- أش 7: 14 9- مت 2: 2 10- مت 2: 4
11- مت 2: 5 12- مت2: 4-6/ مي5: 2/ 1صم16: 4-13 13- مت2: 11 14- مت 2: 18
15- هو 11: 1 16- مت 2: 15 17- لو 2: 14 18- أش 11: 1 19- مت 2: 23
20- غل 4: 4 21- مت 21: 33 22- مت 21: 38 و39 23- غل 4: 7 24- رو 8: 15
25- رو 8: 17 26- يو 17: 26 27- 1 بط 1: 4 28- يو 12: 46