أطلبوا ملكوت الله وبرَّه
قال الرب يسوع:
«اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم» (مت 6: 33)
ضربت الفوضى أطنابها في عالمنا اليوم، وأخذ أغلب البشر يتخبطون خبط عشواء في الليلة الظلماء، وامتلأت رؤوسهم بالأفكار السوداء، واخضعوا قلوبهم لابليس الرجيم فقادهم إلى اقتراف الجرائم الشنيعة، والانحراف روحياً، والشذوذ جسدياً. ومما يؤسف له كثيراً أن العديد من المؤسسات التي تدّعي المسيحية، قبلت اللا أخلاقية، والشذوذ في سلوكية الانسان، وبهذا حكمت على ذاتها بأنها ضالّة ومضلّة وبعيدة عن الله تعالى وملكوته السماوي، حيث أنها فقدت المعاني السامية للقيم الأخلاقية والروحية فهيمنت عليها عوامل الخوف والفزع والاضطراب والقلق، وانجرف أتباعها بتيار المادية، وشرعوا في تحصيل المال بنهم وجشع وبوسائل مشروعة أو محرّمة. ونرى مأساة قتل قايين أخاه هابيل (تك 4: 8) تتكرر في كل يوم، حيث تنشب الخلافات العائلية، وينقسم البيت على ذاته فيخرب، وذلك لأسباب مادية تافهة، فقد تناسى الناس الدينونة وتكالبوا على تكديس المال وهم يتذرعون بما يحدث في الكون من مجاعات وأوبئة وأمراض مستعصية وكوارث طبيعية، فيستبد بهم القلق، وتساورهم الشكوك على مستقبلهم القريب والبعيد، ويظنون أن جمع المال سيكفل لهم حياة أفضل، وقد صمّوا آذانهم عن سماع تعليم الرب يسوع عن الغني الغبي الذي جمع المال وقال لنفسه: استريحي وكلي واشربي وافرحي، لك خيرات كثيرة موضوعة لسنين كثيرة… فقال له الله: يا غبي هذه الليلة تطلب نفسك منك فهذه التي أعددتها لمن تكون؟ (لو 12: 16 ـ 21). والرب يقول لنا أيضاً: «لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون ولا لأجسادكم بما تلبسون. أليست الحياة أفضل من الطعام والجسد أفضل من اللباس، انظروا إلى طيور السماء إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن وأبوكم السماوي يقوتها. ألستم أنتم بالحري أفضل منها… فلا تهتموا قائلين ماذا نأكل أو ماذا نشرب أو ماذا نلبس فإن هذه كلها تطلبها الأمم، لأن أباكم السماوي يعلم انكم تحتاجون إلى هذه كلها، لكن اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه وهذه كلّها تزاد لكم» (مت 6: 24 ـ 33).
أجل إن عبارة «لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون…» لا تعني عدم الاكتراث بما يجري حولنا وعدم المبالاة به، بل تعني ألاّ نقلق وألا تساورنا الشكوك بعناية الله فينا، كما أن تلك العبارة، لا تعلمنا أن نكون متواكلين وكسالى وبطالين، فإن العبد البطال يطرح إلى الظلمة الخارجية، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان (مت 25: 30). والله يريدنا أن نكون متّكلين عليه بكل أعمالنا، وشبه ذلك بما تقوم به طيور السماء التي لا تزرع ولا تحصد والرب يقيتها، وهذه الطيور تسعى بتعب كثير، وجهد جهيد (تك 3: 19) متكلين على الله، واثقين بمحبته تعالى، طالبين منه كما علّمنا أن نصلي قائلين: خبزنا كفافنا أعطنا اليوم (مت 6: 11) ومحبة الله تعالى عميقة جداً، يصفها الرب يسوع بقوله: «لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية»(يو 3: 16). ولخّص له المجد وصايا الله كلّها بوصية المحبة فقال مجيباً الفريسي الذي سأله قائلاً: «يا معلم أية وصية هي العظمى في الناموس؟ فقال له يسوع تحبّ الرب الهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك، هذه هي الوصية الأولى العظمى الثانية مثلها تحبّ قريبك كنفسك، بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء» (مت 22: 37 ـ 40). فهذه المحبة المتبادلة بيننا وبين خالقنا والتي نبرهن على صدقها بمحبتنا قريبنا، تولد الطمأنينة في قلوبنا، وتقوي إيماننا به تعالى وثقتنا بعنايته الربانية بعبيده البشر فلا نطلب إلا ملكوت الله وبرّه مؤمنين بأن كل احتياجاتنا الجسدية الضرورية تزداد لنا اتماماً لوعده الإلهي.
إن عبارة «ملكوت الله» وردت كثيراً جداً في أسفار العهد الجديد على لسان الرب يسوع ورسله الأطهار. فالرب يسوع بدأ تدبيره العلني في الجسد بالكرازة بملكوت الله، ويذكر البشير لوقا عنه أنه كان يجول من مدينة إلى أخرى «يكرز ويبشّر بملكوت الله»(لو 8: 1 و مر 1: 14) فقد أرسل لهذا (لو 4: 43 و مر 1: 38) أي للتبشير بملكوت الله. ويقول متى: «من ذلك الزمان ابتدأ يكرز ويقول توبوا لأنه قد اقترب ملكوت الله»(مت 4: 17).
إن ملكوت السموات أو ملكوت الله أيها الأحباء، هو المجتمع الذي تتم فيه مشيئة الله، لذلك لما علّمنا الرب يسوع أن نصلي أمرنا أن نطلب من الآب السماوي قائلين: «ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض»(مت 6: 10). وشبّه هذا الملكوت بخميرة صغيرة تخمّر العجين كلّه. كما شبّهه بحبة الخردل التي هي أصغر البقول والتي نمت وارتفعت فصارت شجرة باسقة تأتي طيور السماء وتستظل بين أغصانها. وهذا الملكوت هو كنيسته المقدسة المؤسسة على صخرة الإيمان به التي لا تقهرها أبواب الهاوية. وبهذا الموضوع ضرب الرب أمثلة عديدة، وقال لتلاميذه أن ملكوت الله في داخلكم (لو 17: 20).
فكل المؤمنين بالرب يسوع العاملين بمشيئته هم في عداد أبناء الملكوت، لأن ملكوت الله يتطلب خضوع الإرادة والفكر والقلب له تعالى، وتكريس الحياة للمسيح يسوع ربنا. وإننا عندما نصلي إليه قائلين: «ليأتِ ملكوتك» إنما نسأله ليساعدنا على اتخاذ القرار الحاسم بالخضوع لإرادته، لذلك نكرر الطلبة بعبارة اخرى قائلين: «لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض» فملكوت الله هو حياة يحياها المؤمن في البر والتقوى والقداسة ومخافة الله، فيكون بسلام مع الله ومع نفسه ومع أخيه الإنسان فيصير مثل سكان السماء وتتحول الأرض لديه سماء.
والرسول بولس يصف ذلك بقوله: «لأن ليس ملكوت الله أكلاً وشرباً، بل هو بر وسلام وفرح في الروح القدس، لأن من خدم المسيح في هذه فهو مرضيّ عند الله ومزكّى عند الناس» (رو 14: 17 و 18)، فالبر هو التمسك بكل ما هو حق، ومستقيم لنكون كاملين كما أن أبانا الذي في السموات هو كامل (مت 5: 44). وبهذا المعنى يقول الرب: «فإني أقول لكم ان لم يزد بركم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السموات»(مت 5: 20). أما السلام الذي هو أيضاً أحد أحوال ملكوت الله فهو تجنب الخصام والخضوع للمحبة التي من ثمارها المسامحة ونقاء القلب كما علّمنا الرب في الصلاة الربية أن نقول: «واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا» (مت 6: 12). وأخيراً فملكوت الله فرح روحي فإن محبتنا لله ومحبتنا للقريب، هذه المحبة تلد فرحاً وبهجة وسروراً في الأرض والسماء، ذلك أن ملكوت الله هو الحالة التي يرتاح إليها الله والمكان الذي يحل فيه تعالى، وقد وعدنا الرب قائلاً: «لأنه حيثما اجتمع اثنان او ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم» (مت 18: 20).
ولا نحصل على ذلك ما لم نكمل ما أوصانا به الرسول بولس بقوله: «فقط عيشوا كما يحق لإنجيل المسيح»(في 1: 27)، وقوله أيضاً: «أخيراً أيها الأخوة افرحوا، اِكمَلوا، تَعزّوا، اهتموا اهتماماً واحداً، عيشوا بالسلام، وإله المحبة والسلام سيكون معكم» (2كو 13: 11).
إنها لفرصة ذهبية أيها الأحباء ننتهزها ونحن نستقبل الصوم الأربعيني المقدس لنبرهن على محبتنا لله بإطاعته والعمل بوصاياه الإلهية، والتمسك بفريضة الصوم التي أمرنا بها له المجد، ونظّم الآباء أوقاتها وكيفية العمل بها وإن نقرنها بالصلوات وتوزيع الصدقات.
تقبل الله صومكم وصلواتكم وصدقاتكم وأهّلكم لتكونوا في عداد الذين يطلبون ملكوت الله وبره على الأرض، ويعملون بمشيئة الآب السماوي، فيستحقون أن يكونوا في عداد ورثة الملكوت في السماء، اتماماً لوعد الرب يسوع القائل: «ليس كل من يقول لي يارب يارب يدخل ملكوت السموات بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السموات»(مت 7: 21).
ليبارككم الرب الاله ويمد بحياتكم ويؤهلكم لتحيوا في البر والقداسة والسلام مع الله والناس كافة، وليبهجكم بعيد قيامته من بين الأموات، وبعد العمر الطويل يسمعكم صوته الإلهي في اليوم الأخير فتقومون قيامة الأحياء وتتنعمون معه في ملكوت السماء، والنعمة لكم. ܘܐܒܘܢ ܕܒܫܡܝܐ ܘܫܪܟܐ
صدر عن قلايتنا البطريركية
في اليوم العاشر من شهر شباط سنة ألف وتسعمائة وثلاث وتسعين
وهي السنة الثالثة عشرة لبطريركيتنا