الحجارة الحيّة في بيت الله الروحي

 

«كونوا أنتم مبنيين كحجارة حيّة، بيتاً روحياً، كهنوتاً مقدساً، لتقديم ذبائح روحية مقبولة عند الله بيسوع المسيح» (1بط  2: 5).

أيها الأحباء:

يُلقي علينا مار بطرس هامة الرسل  درساً نفيساً في موضوع الكنيسة المقدّسة، فالكنيسة هي البيت الروحي، وأعضاؤها هم الحجارة الحيّة المتحدة بالمسيح يسوع، الكاهن إلى الأبد على رتبة ملكيصادق، الذي منحها سرّ الكهنوت المقدس لتقديم الذبائح الروحية المقبولة عند الله الآب بوساطته. وهو أيضاً حجر الزاوية في بناء الكنيسة (أف 2: 20) وحجر الزاوية هو الحجر الرئيسي في أساس البناء أي هو الصخرة التي عليها يقام البناء كما أنه يربط أجزاء البناء بعضها ببعض، وقد أطلق الرب يسوع على ذاته صفة حجر الزاوية في مثل الكرّامين الأردياء (مت 21: 33 ـ 44  و مر 12: 1 ـ 12  و لو 20: 9 ـ 19) الذي فيه أعلن حقيقة كونه ابن الله كما كشف النقاب عن موته وقيامته، فهو الحجر الذي رفضه البناؤون وقد صار رأس الزاوية أي أهم حجر في بناء الدين المسيحي المبين، كما تنبأ عنه صاحب المزامير (مز 118: 22) فبالمسيح كملت النبوات بحذافيرها وتحققت المواعيد الالهية وتمَّ الخلاص، وقد وضّح مار بطرس هامة الرسل هذه الحقيقة الايمانية عندما وبّخ اليهود مذكراً إياهم بجريمتهم الشنعاء في صلبهم المسيح يسوع الذي اقامه الله من الأموات، ويصف بطرسُ المسيح بقوله: «هذا هو الحجر الذي احتقرتموه أيها البناؤون الذي صار رأس الزاوية وليس بأحد غيره الخلاص، لأن ليس اسم آخر تحت السماء قد أعطي بين الناس به ينبغي أن نخلص»(أع 4: 10 ـ 12)، وقد أسّس المسيح كنيسته ـ التي هي جماعة المؤمنين به ـ على مبدأ الايمان به الذي أعلنته السماء على لسان هامة الرسل بطرس عندما قال للرب يسوع: «أنت هو المسيح ابن الله الحي، فأجاب يسوع وقال: طوبى لك يا سمعان بن يونا، إنَّ لحماً ودماً لم يُعلن لك لكن أبي الذي في السموات، وأنا أقول لك أيضاً أنت بطرس، وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها، وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات، فكلَ ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السموات، وكلّ ما تحلّه على الأرض يكون محلولاً في السموات»(مت 16: 16 ـ 19). وليس من باب الصدفة أن يربط السيد المسيح موضوع تأسيس كنيسته بموضوع منحه لمار بطرس هامة الرسل سلطان سرّ الكهنوت المقدس، النظام الإلهي الذي وضعه الرب في كنيسته، وفيه يخوّل الرب الرسل لينوبوا عنه في إيصال نِعم الخلاص إلى أعضاء الكنيسة التي هي مخزن هذه المواهب الالهية، فهم أهل الحلّ والربط ولهم سلطان إدارة شؤون الكنيسة المقدسة. ولذلك حقَّ للرسول بطرس أن يقول للمؤمنين «كونوا أنتم أيضاً مبنيين كحجارة حيّة، بيتاً روحياً، كهنوتاً مقدّساً لتقديم ذبائح روحية» وفي رسالته الأولى يوضّح الرسول بطرس أن هذا البيت الروحي المؤسس على صخرة الإيمان بالرب يسوع قد استمدّ قوته وثباته باتحاده بالمسيح الذي هو حجر الزاوية، فأعضاؤه الذين هم حجارة حيّة يستمدّون حياتهم الروحية وثباتهم بالمسيح طالما هم متّحدون بحجر الزاوية، وما لم يكن العضو في الكنيسة جزءاً لا يتجزأ من بنيانها، مرتبطاً بالمسيح عن طريق ارتباطه بها، لا يعدُّ حجارة حيّ‍ة، لأن الفرد في الكنيسة ولئن اعتبر خلية حيّة، لا يمكن أن يستمر حيّاً ما لم يستمر متّحداً بالكنيسة في شركة الإيمان القويم والسيرة الفاضلة، وتنتهي هذه الحياة الروحية لديه حالما يفكّ ارتباطه من جسد المسيح وينفرد لوحده، منفصلاً عن الجسد، كالغصن إذا ما انفصل عن الكرمة جفَّ ويبس. والمسيح هو رأس الكنيسة وهو يدبر سائر أعضائها والأعضاء الحيّة السليمة الصحيحة تطيع أوامر الرأس وتعمل بتوجيهاته متعاونة مع سائر الأعضاء الحيّة.

أجل، إنَّ الكنيسة هي جسد المسيح السرّي، وإن المسيح هو رأسها، والروح القدس هو معلمها ومرشدها ومعزّيها ويذكّر رعاتها بتعاليم الرب يسوع الالهية. وهو الذي يختار رعاتها بطريقة الهية، وقد جاء في سفر أعمال الرسل عن التلاميذ أنهم: «بينما كانوا يخدمون الرب ويصومون قال الروح القدس: افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه»(أع 13: 2)، والرسول بولس يشير إلى ذلك بقوله: «ولكن لمّا سرَّ الله الذي افرزني من بطن أمي ودعاني بنعمته، أن يعلن ابنه فيَّ لأبشّر به بين الأمم للوقت لم أستشر لحماً ودماً…«(غلا 1: 15)، وما يزال الروح القدس يختار بطريقة الهية خفية خلفاء الرسل والتلاميذ وسائر خدّام الكنيسة الروحيين، ويدعوهم للخدمة. وبهذا الصدد يقول الرسول بولس: «لأن كلّ رئيس كهنة مأخوذ من الناس يقام في ما لله لكي يقدّم قرابين وذبائح عن الخطايا قادراً أن يترفّق بالجهال الضالّين، إذ هو أيضاً محاط بالضعف، ولهذا الضعف يلتزم أنه كما يقدّم عن الخطايا لأجل الشعب هكذا أيضاً لأجل نفسه» (عب 5: 1 و 2)، كما يوصي الرسول بولس الرعاة قائلاً «احترزوا إذن لأنفسكم ولجميع الرعية التي أقامكم الروح القدس فيها أساقفة لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه»(أع 20: 28). فقد فدى المسيح، الاله المتجسد كنيسته المقدسة بدمه الكريم واتخذها عروساً له «لكي يقدّسها مطهّراً إياها بغسل الماء بالكلمة، لكي يُحضرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن أو شيء من مثل ذلك، بل تكون مقدّسة وبلا عيب»(أف 5: 25)، فعلى الرعاة أن يعوا مسؤوليتهم الروحية بالحفاظ على الكنيسة مقدّسةً عقيدةً وسيرةً، وأن يهتموا بإرشاد المؤمنين للتمسّك بالإيمان المستقيم الرأي والتقاليد الرسولية والأبوية، والعمل بشريعة الله والقيام بالفروض البيعية الطقسية التي ورثناها من الرسل الأطهار وآباء كنيستنا السريانية الأرثوذكسية الأبرار. فعلى الرعاة أن يحافظوا عليها صحيحة سليمة، وألا ينقصوا منها شيئاً، وألاّ يضيفوا عليها شيئاً، وألاّ يدخلوا عليها عادات جديدة ولو كانت تمارس لدى كنائس شقيقة، مهما بدت جيدة ومناسبة، وليعلموا أن الإضافة والحذف في الطقوس البيعية والخدمات الروحية والعادات المتبعة في الكنيسة هي من صلاحيات البطريرك ومجمعه المقدس فقط، ومن تعدّى على ذلك من الاكليروس والشعب يكون قد تعدّى على الشريعة واستحقَّ التأديبات الكنسية، بل أيضاً يدان أمام منبر المسيح، لأنَّ تبنّي بعض الممارسات الطقسية الغريبة عن روح كنيستنا السريانية تُحدث بلبلة في النظام الكنسي، وفوضى في الإدارة الكنسية.

لقد تسلّمَت كنيستنا المقدّسة من الرسل الأطهار تعاليمها الرسولية المكتوبة وغير المكتوبة (2تس 2: 15) وهذه التعاليم هي التي تسلّمها هؤلاء الرسل من الرب يسوع (غل 1: 11) والرسول بولس بهذا الصدد يقول: «ولكن أن بشّرناكم نحن أو ملاك من السماء بغير ما بشّرناكم فليكن أناثيما»(غل 1: 8) ويوصي الرسول بولس تلميذه طيمثاوس قائلاً: «لاحظ نفسك والتعليم وداوم على ذلك لأنك إن فعلت هذا تخلص نفسك والذين يسمعونك»(1تي 4: 16)، ويقول له أيضاً: «إن كان أحدٌ يعلّم تعليماً آخر ولا يوافق كلمات ربنا يسوع المسيح الصحيحة والتعليم الذي هو حسب التقوى فقد تصلّف وهو لا يفهم شيئاً بل هو متعلل بمباحثات ومماحكات الكلام التي منها يحصل الحسد والخصام والافتراء والظنون الردية ومنازعات أناس فاسدي الذهن وعادمي الحق يظنّون أن التقوى تجارة تجنّب مثل هؤلاء»(1تي 6: 3 ـ 5)، والرسول بولس إذ يوصي تلميذه طيمثاوس بملاحظة نفسه والتعليم يوصي بذلك جميع أحبار الكنيسة الذين هم خلفاء الرسل عبر الأجيال، وحتى يومنا هذا والى الأبد، أن يعوا مسؤوليتهم الروحية الجسيمة حيث قد استحقوا أن يرتقوا إلى رتبة الأسقفية، ولفظة الأسقف بالسريانية هي دَوقا (دّوقو) وتعريبها المراقب، ولا بدّ للأسقف أن يكون صالحاً للتعليم والتوبيخ (2تي 3: 16)، فعليه أن يراقب التعليم أي سلامة العقائد الإيمانية والتقاليد الرسولية والبيعية الصحيحة لتبقى سليمة من التشويه والزيادة والنقصان، محافظاً عليها كما تسلّمها بموجب قوانين الكنيسة ودساتيرها ونظمها وقرارات المجامع المقدسة.

إنَّ جيلنا جيل شرير وملتو، كثر فيه الضالّون والمضِلّون، والمعلمون الفاسدون، تلبّسوا روح الفريسية، وهم يسنّون لذواتهم قوانين بما يوافق أهواءَهم وينسجم مع روحهم الفريسية بتمسكهم بالقشور دون اللّب، وبالمظاهر دون الجوهر، وقد وصفهم الرسول بولس بقوله: «لهم صورة التقوى ولكنهم منكرون قوتها»(2تي 3: 5) فأحذروهم، فقد انكشفت أغراضهم المريضة الشريرة، في محاولة تشكيك المؤمنين برئاساتهم الروحية، لهدم هيكلية الإدارة الكنسية التي تسلّمناها من الرسل الأطهار، وهم كذلك يثيرون الفتن ويبثّون الفساد بين صفوف المؤمنين، ليصطادوا بالماء العكر، فتجنبوهم، وثقوا بأنًّ المسيح في وسط كنيسته فلن تتزعزع أبداً، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها.

إنَّ الإلتزام بعقائد الكنيسة الإيمانية وقوانينها وأنظمتها الإدارية وطقوسها وفرائضها، هذا الإلتزام له ذات القوة الإلزامية بالعمل بالشرائع السماوية، لأن ما تسلّمته الكنيسة من الرسل من العقائد والتعاليم المكتوبة وغير المكتوبة، وما تضعه المجامع المقدسة من القوانين والنظم البيعية بناءً على السلطان الذي منحه الرب يسوع لمار بطرس هامة الرسل منفرداً والى سائر الرسل مجتمعين ـ يتم بإلهام الروح القدس ـ.

أيها الأحباء.. إنها فرصة ذهبية ننتهزها ونحن نستقبل الصوم الأربعيني المقدس لنبرهن على محبتنا لله تعالى بإطاعته والعمل بوصاياه الإلهية والتمسّك بما ورثناه عن آبائنا القديسين من عقائد إيمانية وتراث سرياني نفيس وتقاليد وطقوس وفرائض بيعية وخاصة فريضة الصوم المقدس.

فلنفحص ذواتنا لنتأكّد من كوننا حقّاً حجارة حيّة في بيت الله الروحي الذي هو الكنيسة المقدسة، وأعضاء أحياء أصحاء في جسد المسيح السري (رو 12: 5)، نطيع المسيح رأس الكنيسة ونعمل بتوجيهات وكلائه ونوابه خلفاء الرسل، ونتعاون مع بقية الأعضاء الأحياء الأصحاء الأتقياء «غير متكاسلين بالاجتهاد، حارّين في الروح، عابدين الرب»(رو 12: 11)، بالروح والحق، صادقين في عبادتنا بأصوامنا وصلواتنا، عائدين إليه تعالى بالتوبة الصادقة، مترجمين إيماننا بالأعمال الصالحة كما يوصينا الرسول يعقوب قائلاً: «هكذا الإيمان أيضاً، إن لم يكن له أعمال ميت في ذاته»(يع 2: 17).

تقبل الرب الإله صومكم وصلواتكم وصدقاتكم، ورحم موتاكم المؤمنين، وأهّلكم للاحتفال بعيد قيامته المجيدة بالبهجة الروحية ونعمته تشملكم دائماً أبداً، آمين. ܘܐܒܘܢ ܕܒܫܡܝܐ ܘܫܪܟܐ

 

صدر عن قلايتنا البطريركية في دمشق ـ سوريا

في /5/ شباط 1995 وهي السنة الخامسة عشرة لبطريركيتنا