الصوم الأربعيني المقدس

قال القديس مار أفرام السرياني (373+)

ܨܘܡ ܨܘܡܐ ܕܐܪܒܥܝܢ ܝܘ̈ܡܝܢ

ܘܗܒ ܠܚܡܟ ܠܐܝܢܐ ܕܟܦܝܢ

ܘܨܠܐ ܒܝܘܡܐ ܫܒܥ ܙܒ̈ܢܝܢ

ܐܝܟ ܕܝܠܦܬ ܡܢ ܒܪ ܐܝܫܝ

وتعريب ذلك: «صم (أيها المؤمن) الصوم الأربعيني، وتصدّق بخبزك على (الفقير) الجائع، وصلِّ سبع مرات يومياً، كما تعلمت من (النبي داود) ابن يسىَّ».

لننصت جيداً أيها الأحباء، إلى وصية الله هذه المقدسة التي جاءتنا على لسان صفيّه القديس مار أفرام السرياني، في وجوب التمسك بفريضة الصوم المقرون بالصلاة والصدقة، ولننتهزها فرصة ذهبية سانحة ونحن نستقبل الصوم الأربعيني المقدس، لنستعد لتأدية هذه الفريضة المباركة كما يليق بالمؤمنين الصالحين، وذلك بتجنب الشراهة، والتحرر من مغريات هذه الدنيا الفانية. «لأن كل مافي العالم شهوة الجسد، وشهوة العيون، وتعظم المعيشة، ليس من الآب، بل من العالم، والعالم يمضي وشهوته، وأما الذي يصنع مشيئة الله فيثبت إلى الأبد» (1يو 2: 16 و 17) على حد قول الرسول يوحنا.

إن خير ما نبدأ به صيامنا المقدس أيها الأحباء، هو تجديد العهد مع الله، بأن نصنع مشيئته تعالى، بعودتنا إليه بالتوبة الصادقة، ذلك أن الحكمة من ترتيب الكنيسة المقدسة الصيام الأربعيني، وفرضه على المؤمنين هي تذكيرهم بجهاد الرب يسوع في البرية حيث صام أربعين نهاراً وأربعين ليلة وجاع أخيراً (مت 4: 2) وجرِّب من إبليس فأخزى المجرِّب اللعين، وأعطانا الغلبة عليه، وكشف لنا بعدئذ سرَّ النصر الروحي بقوله: «وأما هذا الجنس (جنس الشياطين) فلا يخرج إلاَّ بالصلاة والصوم» (مت 17: 21).

وقد اقتدى الرسل الأطهار بالرب يسوع، فكرسوا أصواماً فردية خاصة، لظروف خاصة طرأت عليهم كأفراد أو على الكنيسة ككل، كالضيق، والشدة، والدخول بالتجارب، كما كانوا يفعلون ذلك أيضاً زيادة في الزهد والتقوى. وفي كل هذه الأحوال، كان الرسل يمارسون ذلك عملاً بوصية الرب يسوع القائلة: «ومتى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين فإنهم يغيِّرون وجوههم لكي يظهروا للناس صائمين، الحق أقول لكم أنهم قد استوفوا أجرهم، أما أنت فمتى صمت فادهن رأسك، واغسل وجهكَ، لكي لا تظهر للناس صائماً بل لأبيك الذي في الخفاء، وأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيكَ علانيةً» (مت 6: 16ـ 18).

ونقرأ في سفر أعمال الرسل عن أصوام عامة تمسّك بها الرسل والتلاميذ (أع 27: 9). وأصوام فرضوها على المؤمنين في مناسبات روحية شتى، منها الرسامات الكهنوتية، وبهذا الصدد يقول لوقا البشير: «وبينما هم يخدمون الرب ويصومون، قال الروح القدس أفرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه، فصاموا حينئذ وصلوا ووضعوا عليهما الأيادي ثم أطلقوهما» (أع 13: 2و3).

كما نقرأ في كتاب (الدسقالية) أي تعاليم الرسل، عن وجوب ممارسة المؤمنين كافة، الصوم الأربعيني المقدس. أما المخالفون من ذوي الرتب والدرجات الكهنوتية أولاً ثم من العلمانيين فيحكم عليهم بالعقوبات الكنسية الصارمة. ويأتي بعد الصوم الأربعيني مباشرة، صوم أسبوع الآلام الذي فرضته الكنيسة على المؤمنين منذ صدر النصرانية، لتذكرهم بالآلام المحيية التي تحمّلها الرب يسوع من أجلنا، «لأنه هكذا أحبَّ الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كلُّ من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية» (يو 3: 16). فيجدر بنا ألاّ ننسى صنوف الآلام التي قاساها الرب يسوع في سبيلنا حتى أنه أطاع حتى الموت موت الصليب، ليبررنا ويقدسنا، ويعيدنا إلى حظيرة الآب السماوي. وعلينا أن نقرن هذا الصوم أيضاً بالصلاة، والتأمل بسيرة الرب، وتدبيره الإلهي الخلاصي، ونسعى جادّين للثبات في حال النعمة، متوِّجين الصومين، الأربعيني، والآلام بالتوبة والتقدم إلى منبر الاعتراف، أمام الكاهن الشرعي، وتناول القربان المقدس لنشترك بفصح الرب يسوع، فنحيا في المسيح، وننمو فيه بالقامة والنعمة، فنستحق أن نكون في عداد الذين سيرثون معه ملكوته السماوي.

أجل، إنَّ الكنيسة المقدسة، لا تبغي بتخصيص أيام للصيام، لكون هذا الطعام محرَّماً، وذاك محلّلاً، في هذا اليوم، أو ذاك، بل هي تهدف إلى اخضاع إرادة المؤمن لله تعالى بالزهد، والعفة، وممارسة الفضائل السامية، وخاصة فضيلة الطاعة لأوامر الله التي يصدرها تعالى على لسان أحبار الكنيسة الذين منحهم سلطان الحل والربط ليشرِّعوا القوانين، ويضعوا الأحكام والنظم الكنسية لما فيه خير المؤمنين.

لذلك  توجّه الكنيسة المؤمنين ليتجردوا عن الكبرياء والمراءاة، ويتحلّوا بالتواضع، والوداعة، والصدق، والاستقامة، ويصونوا ألسنتهم عن النطق بالكلام الباطل، ويبعدوا عن أفكارهم التصورات الرديئة، وينقّوا قلوبهم، ويخضعوا عقولهم لناموس الرب، وبناموسه يلهجون نهاراً وليلاً وبذلك يكون صومهم مقبولاً لدى الله تعالى. ويساعدهم، هذا الصوم الحقيقي، على الحفاظ بعلاقتهم الروحية مع المخلص الذي افتداهم بدمه الكريم الثمين. وبهذا الصدد يقول القديس يوحنا الذهبي الفم (407+). «صم أيها المسيحي لأنك أخطأت، صم لئلا تخطئ، صم لكي تنال من الله النعم، صم لكي تحافظ عليها بعد نيلها». أما القديس مار أفرام السرياني فيوضح كيفية الصوم الحقيقي بقوله «صم الصوم الأربعيني، وتصدّق بخبزك على الفقير الجائع، وصلِّ سبع مرات يومياً كما تعلمت من النبي داود ابن يسىَّ».

أيها أحباء: إن كنيستنا السريانية المقدسة أم رؤوم، ومعلمة صالحة، فهي إذ تأمر أولادها بممارسة الأصوام التي فرضتها عليهم لصالحهم الروحي، لا تحمّلهم من الأعباء ما لا يستطيعون إلى القيام به سبيلاً، متذكرة أن الرب يسوع قد نادى بالويل والثبور، وعظائم الأمور، على الناموسيين بقوله: «ويل لكم أيها الناموسيون لأنكم تحمّلون الناس أحمالاً عسيرة الحمل وأنتم لا تمسّون الأحمال باحدى أصابعكم» (لو 11: 46). لذلك لا تُلزم الكنيسة بفريضة الصيام إلاّ من كان قادراً على حفظها صحياً. فأسباب المرض، والشيخوخة، والرضاعة، كافية لتعفي صاحبها من عهدة الالزام بالوصية بعد استشارة الكاهن أبي الاعتراف، وتجنب ما يسبب العثار.

لقد فسّحت كنيستنا المقدسة منذ عام 1966 لمن لا يتمكن من صيام أيام الصوم الأربعيني كلها مع أسبوع الآلام، بأن يصوم الأسبوع الأول من الصوم الأربعيني ويومي الأربعاء والجمعة من بقية الأسابيع، بالاضافة إلى اسبوع الآلام. وذلك رحمة بالمؤمنين الضعفاء، لئلا يكسروا الوصية، ويكونوا موضع غضب الله تعالى ـ لا سمح الله ـ فمن استغل تفسيح الكنيسة هذا لا يخطئ، ويعتبر في عداد من لم يكسر الوصية، أما من صام أيام الصيام الأربعيني وأسبوع الآلام كلها، فيضاعف الله له الأجر. وعلى ذوي الرتب والدرجات الكهنوتية الصغرى والكبرى، من شمامسة وشماسات، ورهبان وراهبات، وكهنة، ومطارنة، ما عدا الشيوخ فيهم والمرضى، أن يقيموا من أنفسهم قدوة صالحة للمؤمنين ليتمثلوا بهم، بحفظ أحكام الرب، وشرائعه المقدسة، بالتزام فريضة الصيام الأربعيني وأسبوع الآلام، كما مارسها آباؤنا الأولون، منقطعين عن الطعام والشراب من منتصف الليل حتى بعيد منتصف النهار، وأن يتناولوا بعدئذٍ طعاماً صيامياً خالياً من الدسم (والزفر)، وحبذا لو مارس المؤمنون كافة فريضة الصيام بهذه الطريقة الفضلى.

تقبل الله صومكم، وصلواتكم، وصدقاتكم، وتغمّد ذنوبكم وخطاياكم، ورحم موتاكم المؤمنين، وأهلكم للاحتفال بعيد قيامته المجيدة بفرح وسرور، ونعمته تشملكم دائماً وأبداً آمين.

صدر عن قلايتنا البطريركية في دمشق ـ سوريا

في 17 شباط سنة 1987م

وهي السنة السابعة لبطريركيتنا