الفكر السرياني والكنيسة السريانية في القرن الرابع للميلاد
مـار أفـرام السـريـانـي سيرته ـ مؤلفاته ـ بعض ما قيل عنه
مـار يـعـقـوب الـرهـاوي (633 ـ 708م)
مار جاورجي الاول بطريرك أنطاكية (790+)()
البطريرك يوحنا ابن المعدني (1263+)
ابـن الـعـبـري مـفـريـان الـمـشـرق (1226 ـ 1286)
مار باسيليوس بهنام الرابع مفريان المشرق(*) (1852 ـ 1859)
الإسلام و المسيحية تكامل تاريخي في بناء الحضارة العربية
نجوم أنطاكية المشرقة يشع ضياؤها في سماء الكنيسة في الهند
كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية ودعوى المنشقين عنها في ملبار ـ الهند
سر القربان المقدس والمدخل إلى طقس القداس الإلهي
رجل النهضة والإصلاح في كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية في القرن العشرين للميلاد
بحوث
تاريخية لاهوتية روحية
الجزء الثالث
لقداسة مار إغناطيوس زكا الأول عـيـواص
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق
الرئيس الأعلى للكنيسة السريانية الأرثـوذكـسية في العالم أجمع
منشورات دير مار أفرام السرياني
معرة صيدنايا ـ دمشق ـ سوريا
2008
/1500/ نسخة
الطبعة الثانية
قداسة مار اغناطيوس زكا الأول عيواص
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للسريان الأرثوذكس
تمهيد
بعد حمد اللّه تعالى نقول:
بين يديك أيهاالقارئ الكريم الجزء الثالث من البحوث التاريخية واللاهوتية والروحية التي كنا قد كتبناها ونشرنا بعضها على صفحات مجلتنا البطريركية بدمشق وغيرها، آثرنا أن نجمعها بمجلدات تعميماً للفائدة وإظهاراً لأمجاد كنيستنا كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية المقدسة وتخليداً لما ورثناه عن آبائنا من تاريخ تليد هو برهان ساطع ودليل ناصع على عراقتهم وأصالتهم وتمسكهم بحقائق الإيمان السرياني القويم الرأي بعروة وثقى وإسهامهم في خدمة الحضارة الإنسانية ابتكاراً وإبداعاً ورقياً.
واللّه تعالى نسأل أن يعضدنا في كل عمل يؤول إلى تمجيد اسمه القدوس ورفع شأن كنيسته المقدسة.
دير مار أفرام السرياني، معرة صيدنايا ـ دمشق
في 17/11/2000
المؤلف
الفكر السرياني والكنيسة السريانية في القرن الرابع للميلاد )*(
عرض عام
- اللغة السريانية والفكر السرياني:
كانت اللغة السريانية الآرامية لغة قوم استوطنوا بلاد ما بين النهرين العليا والسفلى وسوريا الداخلية وارتقوا معارج الحضارة والمدنية في الأجيال السحيقة في القدم، فنمت لغتهم وازدهرت وصارت مرنة سلسة غنية بالألفاظ والتعابير، وظلّت أجيالاً عديدة اللغة الرسمية للدولة التي حكمت بلاد الشرق الأدنى، وامتدّ سلطان هذه اللغة إلى مصر وآسيا الصغرى وشمال بلاد العرب والهند والصين([1]) ـ ودالت تلك الدول وزالت ولكن اللغة السريانية بقيت خالدة بتراثها الأدبي الثمين رغم الصعوبات التي جابهتها، وعنت الدهر وتقلبات العصور.
وتاريخ الفكر السرياني يبدأ مع الزمن، ولكن لم يصل إلينا من الأدب السرياني قبل المسيح سوى كتاب أحيقار وزير سنحاريب ملك آثور (681 ق.م) وهو كتاب يحتوي على نصائح وحكم وفيه حكايات عدة ويظن أن وضعه تمّ في هذا الزمان أو حوالي القرن الخامس قبل الميلاد. كما وصلت إلينا أبيات يسيرة لـ (وفـا) الشاعر الآرامي الفيلسوف، وبضع أساطير نقشت على ضرائح ملوك الرها، ولكن هذا اليسير لا ينقع غليلاً ولا يغني فتيلاً([2]).
ذلك أن السريان في فجر المسيحية عندما فتحوا صدورهم للدين الجديد، أبادوا جميع آثارهم الأدبية الوثنية خوفاً على أولادهم من الكفر، فانقلب الأدب عندهم إلى أدب ديني مسيحي حرصوا عليه كثيراً وأخذوا يعبون كؤوسهم من جداوله الرقراقة فشفى غليلهم.
وجاء الفكر السرياني الديني ناضجاً، حيث نُقل الكتاب المقدس بعهديه من اللغتين العبرية واليونانية إلى السريانية في أواخر المئة الأولى أو صدر الثانية وهذه الترجمة تسمى بالبسيطة (فشيطتا)([3]) وقد جاءت فاتحة للأدب السرياني المسيحي وبرهاناً ناصعاً على غنى لغة السريان وتعمقهم في اللغتين العبرية واليونانية وكانت الأخيرة لغة الحضارة عصرئذ. وفي القرن الثاني أيضاً برز الفيلسوفان السريانيان طيطيانس الكاتب النحرير وبرديصان الشاعر الكبير، وفي القرن الرابع كان الفكر السرياني قد بلغ الذروة حصيلة لأجيال عديدة مثقلة بالعلم والمعرفة فمنّ علينا وأنجب لنا أفرام الشاعر المفلق وعملاق الأدب السرياني الذي لا يجارى فقد اجتمعت فيه صفات العبقرية بعقدها وسمطها فجاءت كتاباته شاهدة صادقة على نضوج الفكر السرياني في تلك العهود.
ولم يكتفِ السريان بالفكر الديني بل أخذوا الثقافة اليونانية من الاسكندرية وأنطاكية ونشروها في أطراف سورية وبلاد ما بين النهرين التي كانت يومئذ نقطة اتصال بين الإمبراطوريتين الرومانية والفارسية. ولما جاء العرب فاتحين، تعاضد السريان معهم، ومدّوهم بثقافة اليونان التي تبنّوها وأوسعوها درساً ونقلوها إلى لغتهم السريانية ثم إلى لغة الضاد، وكانت هذه الثقافة تضم من العلوم الفلسفة والطب والكيمياء والفلك والرياضيات والطبيعيات وغيرها.
ولم يقف السريان عند حد الترجمة بل تعدوا ذلك إلى التعليق والدرس والتمحيص، بل التأليف أيضاً، الأمور التي ساعدتهم على تبوّؤ أسمى المراكز في البلاطات العباسية.
فتاريخ الفكر السرياني جزء لا يتجزأ من تاريخ الحضارة البشرية لأن رجاله خدموا العالم، وحملوا مشعل الثقافة وسلّموه إخوانهم العرب، فنقله هؤلاء بدورهم إلى أوربا عن طريق الأندلس فأناروا دياجير ظلماتها، ولا يزال المستشرقون حتى اليوم يغترفون من بحار التراث السرياني العربي والعربي السرياني ـ فوائد جليلة هي درر غوالٍ قلما يعثرون على مثلها في سواها.
وقد ازدهر الفكر السرياني بوساطة المدارس التي أسسها السريان في القرى والمدن والأديرة فبلغ عددها في القرن الخامس في ما بين النهرين فقط نحو خمسين مدرسة تدرّس فيها العلوم بالسريانية واليونانية أشهرها مدارس نصيبين والرها وقنسرين. وكانت هذه المدارس تتبعها مكتبات([4]) فالعصر الذهبي للفكر السرياني استغرق وأوفى القرن الرابع للميلاد وامتد حتى القرن التاسع ثم بزغ ثانية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر([5]) وقد ظهر للسريان في هذه الفترات الزمنية علماء أفذاذ خلفوا آثاراً علمية وأدبية وفلسفية نفيسة وعلى الرغم من ضياع العديد من نتاج فكرهم الجبار فلا تزال مكتبات العالم تفخر بما احتوته من تصانيفهم في شتى أفانين العلم والمعرفة.
فلا سبيل إذن لفهم تاريخ الفكر الإنساني فهماً كاملاً إلاّ بالاطلاع على تاريخ الفكر السرياني.
ومما لا يختلف فيه اثنان، إن الفكر ابن بيئته، وخلاصة تاريخ القوم الحاملين مشعله، لذلك كان لا بد لنا من أن نلقي نظرة عابرة على أحوال العالم الشرقي والكنيسة السريانية في القرن الرابع.
- العالم الشرقي والكنيسة السريانية في القرن الرابع:
ثلاثة قرون ونيف انصرمت مذ حمل الرسل الأطهار مشعل الإنجيل المقدس إلى بلاد ما بين النهرين فأناروا دياجير ظلماتها. وخلال تلك القرون الثلاثة كانت الكنيسة منهكة القوى، متعبة، إذ عانت كثيراً من ظلم الفرس والرومان وقدّمت على مذبح الإيمان شهداء أبراراً لا يحصى لهم عدد.
ويطل القرن الرابع على بلاد المشرق فيرى قسماً منها تحت حكم الدولة الرومانية في بلاد ما بين النهرين العليا وأطراف سورية وأنحاء حوض البحر المتوسط، والقسم الآخر تحت حكم الدولة الفارسية الساسانية في بلاد ما بين النهرين السفلى. وكانت هاتان الدولتان تتنازعان السلطة، لذلك كان شبح الحرب الرهيب قد بسط جناحيه المظلمين على كل جبل من جبالها، وفوق كل مدينة من مدنها، وقرية من قراها. ونتيجة لذلك كنت ترى، بين الفينة والفينة، تيجاناً تتدحرج، وعروشاً تتحطم، وأوبئة تعمّ ـ ومجاعات تنتشر، وأشلاء الناس تغطي الدروب وهي تقيم الحجة على ما وصل إليه الإنسان من الانحطاط إذ بلغ أحط دركات الهمجية وبزَّ الوحوش الكاسرة شراسة، وانقض على أخيه الإنسان يمتصّ دمه القاني حتى القطرة الأخيرة ([6]).
وقد أذاقت الدولة الرومانية الكنيسة المسيحية منذ فجر النصرانية وحتى الربع الأول من القرن الرابع اضطهادات قاسية بدأت باضطهاد نيرون في سنة 64م وانتهت باضطهاد ديوقلطيانس سنة (303 ـ 313) الذي كان الاضطهاد العاشر والأخير وهو أقسى الاضطهادات وأفظعها، وقصد ديوقلطيانس بذلك تدمير الكنيسة برمّتها، وإخفاء معالمها. وقد بلغ الاضطهاد أوج عنفه عندما أصدر هذا الطاغية منشوره في 14 شباط سنة 303 وفيه أمر عملاءه بإبادة الكنائس، وحرق الكتب المسيحية، كما قرر أيضاً حرمان المسيحيين من حقوقهم المدنية واستباحة دمائهم([7]).
وكانت المسيحية في القرن الأول للميلاد، قد انتشرت في مملكة فارس المعروفة ببلاد الآراميين. وناصبتها المجوسية العداء، لذلك لم ينجُ المسيحيون من اضطهادات محلية([8]) وفي سنة 296 تمّ الاتفاق بين ديوقلطيانس قيصر الروم المذكور أعلاه، ونرسي بن شابور الأول ملك الفرس، على أن تكون ما بين النهرين تحت سلطة الدولة الفارسية وجعلت نصيبين مركزاً للعلاقات التجارية ما بين الإمبراطوريتين لأنها واقعة على الحدود([9]).
ولكن عندما أعلن قسطنطين الامبراطور الروماني مرسوم ميلان عام 313 وفيه أقرّ الحكم الشرعي للمسيحيين في ممارسة شعائر دينهم، تطوّرت الخصومة بين شابور ملك الفرس وخصمه الامبراطور الروماني، وانقلب النزاع بينهما من نزاع مادي واستراتيجي إلى نزاع عقائدي ديني ـ وهكذا فعلى أثر عقد قسطنطين مجمع نيقية عام 325 وهو المجمع المسيحي المسكوني الأول نجد شابور يعقد مجمعاً زرادشتياً يضمّ أئمة الدين المجوسي، فيقرّ نصاً رسمياً نهائياً لكتاب ادفستا، ونراه على أثر فشله في الاستيلاء على نصيبين بعد أن ضيّق عليها الحصار سنة 338 وعاد إلى بلاده مخذولاً مخزياً، واشتد وطيس غضبه على ملوك الروم أنزل بنصارى بلاده ما بين سنة 340 وسنة 379 اضطهادات قاسية واسعة النطاق، ظلماً وعدواناً، لأنهم دانوا بدين قيصر الروم([10])، ولا بدّ من أن نذكر عن الامبراطور قسطنطين أنه ولئن احتضن المسيحية وسعى لنشرها لكنه لم ينزع عنه لقب «الكاهن الأعظم» اللقب الوثني الذي يجعله حامي الدين، لذلك لم يغلق من الهياكل الوثنية سوى التي أقفرت حين تنصّر أتباعها وذووها، والتي كانت مصدراً للرجس والعهارة. ولكي لا يجرح أحاسيس الوثنيين الكثيري العدد في رومية نقل عاصمته إلى بيزنطية سنة 330 حيث وسعها فنسبت إليه وصارت عاصمة القياصرة المسيحيين وارتأى بعضهم بأن قسطنطين لم يقتبل العماد المقدس حتى سنة 337 أي قبيل وفاته بمدة قصيرة وكان عمره آنذاك خمساً وستين سنة فطوّبه بعد موته المسيحيون وألهه الوثنيون، لأنه أفاد الأولين ولم يسئ إلى الآخرين([11]).
أما شابور الثاني ملك الفرس فقد رأى في المسيحيين أعداء له طالما يدينون بدين ملوك الروم، فأصدر أمره سنة 340م بهدم الكنائس واستدعى إلى كرخ ليدان في الأهواز الجاثليق مار شمعون برصباعي وخمسة من الأساقفة وسبعة وتسعين قساً وشماساً أمرهم بالسجود للشمس والنار فرفضوا، فألقاهم في السجن ثم ضرب أعناقهم عشرة فعشرة واستشهد معهم أيضاً كوشتازاد رئيس الموالي، وكان استشهادهم بدء الاضطهاد العنيف الذي استمرّ أربعين سنة فسمي بالاضطهاد الأربعيني، واستهدف بادئ بدء رجال الإكليروس ثم شمل المسيحيين كافة في سائر مقاطعات المملكة الفارسية، وقد تحالف ضدهم المجوس واليهود والمانويون الحاقدون الموتورون الذي راق لهم أن يروا المسيحيين معذّبين، ولم يتوقعوا أن يروا هؤلاء المؤمنين يتقدّمون إلى ساحات الاستشهاد زرافات ووحدانا ألوفاً مؤلفة من سائر طبقات الشعب رجالاً ونساءً وأطفالاً يتقدّمهم رجال الإكليروس وقد أظهر الجميع بطولات تفوق الوصف وبلغ عددهم بحسب رأي بعض المؤرّخين مئة وستين ألفاً. ولم يرتوِ شابور من دمهم حتى هلك سنة 379([12]).
هذه خلاصة الخلاصات لأحوال المجتمع في بلاد ما بين النهرين العليا والسفلى في القرن الرابع للميلاد، وهي خلاصة مؤلمة يندى لها جبين التاريخ ففيها يتناحر الخير والشر، وتتصارع قوى الظلمة والنور في المجتمعين السياسي والديني. ولا غرو فقد كان طريق الكنيسة السريانية في القرون الأربعة الأولى للميلاد مفروشاً بالأشواك القاسية مخضباً بالدماء الزكية، أتعبها الاضطهادان الوثني واليهودي، كما أنهكها الانقسام العقائدي في صفوفها. وبينما كانت الكنيسة تجتاز هذه المراحل الحاسمة من تاريخها المجيد، تصارع المصائب والمصاعب، فتنتصر عليها، كانت الأديرة، ودور العلم تنتشر في كل مكان، في السهول وعلى الهضاب والجبال، وترفع أعلامها عالية وتضيء منائرها الجالسين في الظلمة وظلال الموت، جادة في تحصيل العلوم المتنوعة والمعارف المختلفة، وقد تخرّج فيها علماء أفذاذ ضُلع بشتى المعارف.
وإن ظهور البدع والآراء المتطرفة في الدين دفع العلماء إلى التتبع الفلسفي فاقترن علم اللاهوت بالفلسفة، واتخذت الفلسفة سلاحاً للرد على المبتدعين ودحض مزاعمهم الباطلة، وإثبات حقائق الدين المستقيم بالبراهين العقلية بالإضافة إلى آيات الكتاب المقدس، فتوسّع الفكر السرياني إذ ذابت فيه حضارات اليونان والرومان والفرس والعرب، وسكب هؤلاء جميعاً علومهم وثقافتهم في بودقته فخرج بنتاج جبار كتب له الخلود. ونتيجة لذلك فقد توسّعت اللغة السريانية إذ دخلتها المصطلحات الفلسفية والعلمية العديدة وتنشّطت وازدهرت واغتنت بالألفاظ والتعابير في شتى المجالات العلمية، فجارت التقدم العلمي والحضاري والديني والفلسفي الذي وصل إليه العالم يومذاك.
وكان إلى جانب الحركة العلمية الواسعة حركة نسكية مباركة فقد ظهر في هذه الفترة نسّاك ورهبان أتقياء عبدوا اللّه بالروح والحق، وكان مار أفرام السرياني في الرعيل الأول بينهم في بلاد ما بين النهرين علماً وتقى. وإننا نلمس في كتاباته ما عاناه الشعب من أوزار الحروب الطاحنة وآلامها والانقسامات الداخلية القاسية وكيف أنه صمد أمام تيارات البدع متمسّكاً بإيمانه بعروة وثقى فكتب له النصر المبين.
مـار أفـرام السـريـانـي)*(
سيرته ـ مؤلفاته ـ بعض ما قيل عنه
- سيرته:
ولد مار أفرام في مدينة نصيبين في مطلع القرن الرابع للميلاد، من أبوين مسيحيين([13])، ويذكر في إحدى كتاباته التي نقلت إلى اليونانية في عهده ثم نقلت إلى العربية بعدئذ «ان اللذين ولداه بالجسد ثقّفاه في الإيمان المسيحي وربياه على مخافة الرب وحدّثاه عما سبق فكابده آباؤه من العذاب في سبيل الحفاظ على الإيمان وحبّ السيد المسيح»([14]).
تتلمذ، في شرخ شبابه، لمار يعقوب أسقف نصيبين، واعتمد على يديه وهو ابن ثماني عشرة سنة([15]) فأحبه هذا كثيراً واتّخده تلميذاً وكاتباً في آن واحد ورسمه شماساً([16]) وألبسه الثوب الرهباني([17])، واصطحبه عام 325م إلى مجمع نيقية([18])، وعلى أثر عودتهما من المجمع أسس مار يعقوب في نصيبين مدرسة سلّم زمام التعليم فيها إلى تلميذه مار أفرام([19]). وبعد انتقال مار يعقوب إلى جوار ربه سنة 338م تسلّم مار أفرام إدارة المدرسة، وفيها نظم القصائد البديعة والأناشيد الشجية التي تعرف بالنصيبينية([20])، وتعد صوراً رائعة لحياة ذلك العصر في تلك المنطقة، ففيها يصف لنا ما قاسته مدينته في الحصارات والحروب، حيث كانت بحكم موقعها على حدود الدولتين الفارسية والرومانية، تتعرض لحروب طاحنة، فتخضع لسلطان الفرس حيناً والرومان أحياناً، وقد عاصر مار أفرام هذه المآسي في الأعوام 338 و350 و359 و363، ويظهر بكتاباته ما كان يكنه قلبه الكبير وقلب كل مواطن صالح من إيمان بالله واتكال عليه تعالى، كما أنه يقوّم ويثمّن مواقف رجالات الكنيسة المشرّفة، بتشجيع رعيتهم أوقات الحروب للدفاع عن المدينة ببسالة باذلين في سبيل ذلك النفس والنفيس كما يقرض أساقفة نصيبين([21]) وهم مار يعقوب (+338) وخلفاؤه بابويه (338ـ349) وولغش (349ـ361) وابراهيم (361ـ …).
وكانت اللغة السريانية لغة التدريس الرسمية في مدرسة نصيبين حيث كانت نصيبين في القرن الرابع مدينة سريانية قلباً وقالباً، لغة وحضارة([22]).
وكانت مدرسة نصيبين تتبع في الفلسفة طريقة مدرسة أنطاكية([23]) «التي كانت تعتمد على أرسطو أكثر من أفلاطون، وكانت مبادئها توجب في كل موضوع بساطة في المنهج، وكمالاً في الإيضاح، وإدراكاً في تعليم الإيمان»([24]).
وقد تخرّج في هذه المدرسة علماء نوابغ، ولا غرو فقد كان مديرها وأستاذها الأول مار أفرام عملاق الأدب السرياني، الذي منذ نعومة أظفاره كان يقضي بياض نهاره وسواد ليله في الدرس والتحصيل مكباً على مطالعة الكتاب المقدس فتعمق في علومه، وأتقن اللغة السريانية وآدابها حتى غدا في الرعيل الأول بين أقطابها بل هو فارسها الذي لا يجارى.
وكان مار افرام صوَّاماً قواماً، ذبل جسده ورق نتيجة لتطرفه وإغراقه في حياة الزهد، وقد وصفه مار غريغوريوس النوسي (+396) قائلاً: «إنه لم يأكل سوى خبز الشعير والبقول المجففة، ولم يشرب سوى الماء، حتى حاكى هيكلاً عظمياً بل تمثالاً من الفخار، أما لباسه فكان ثوباً خلقاً بل أطماراً بالية»([25]). وقد وصف فلسفته الرهبانية بقصيدة نفيسة جداً([26]) خماسية الوزن يخاطب فيها نفسه التي روّضها على شظف أعمال التقشف القاسية، جاء فيها ما ترجمته بتصرف:
«ـ كم من مرة جعت، وكان جسدي بحاجة إلى الطعام، ولكنني امتنعت عن تناوله لكي أستحق الطوبى التي سينالها الصائمون.
ـ عطش جسدي الذي جبل من طين الأرض، ورغب في الماء ليرتوي، فأهملته ناضباً لكي يستحق أن يذهب ويتلذذ بندى فردوس النعيم.
ـ وإذ كان الجسد دائماً يكثر مراودتي في فتوتي وشيخوختي فإني كنت أروّضه يوماً فيوماً حتى النهاية.
ـ في صباح كل يوم كنت أفكر بأنني سأموت مساء وكالرجل المائت لا محالة، قمت بأعباء عملي كل أيام حياتي دون ملل ولا كلل.
ـ وفي مساء كل يوم كنت أتصور أني لا أكون في الوجود صباحاً، فأنتصب بالصلاة والعبادة حتى شروق الشمس وبزوغها.
ـ عندما سألني الجسد غفوة هو بأمس الحاجة إليها استهويته بالطوبى التي منحها الرب للإيقاظ.
ـ أقمت من نفسي للمسيح كنيسة وفيها قدّمت له أتعاب أعضاء جسمي بخوراً وعطوراً.
ـ قد صار ذهني مذبحاً وإرادتي كاهناً، وكمثل حمل لا عيب فيه ضحّيت بذاتي قرباناً.
ـ قد حملت نيرك يا سيدي منذ فتوتي وحتى شيخوختي وواظبت على عبادتك حتى النهاية جذلان بلا ملال ولا كلال.
ـ تحمّلت عذاب الجوع منتصراً عليه إذ رأيتك بين اللصين تذوق المرارة لأجل (خلاصي).
ـ اعتبرت ضيق العطش وكأنه لم يكن، إذ رأيت سيدي بسبب خطيتي يمتصّ الخل من الإسفنجة.
ـ لم أعر للأطعمة أهمية، ونبذت الخمور، إذ وضعت نصب عيني وليمة ملكوتك أيها الختن السماوي.»
ولم تكن الرهبانية لديه تصوفاً وانقطاعاً عن العالم وصوماً وصلاة فحسب بل كانت أيضاً خدمة للإنسانية، ووسيلة لحفظ التراث القومي، لذلك جعل الأديرة مركزاً مهماً للعلم والمعرفة حيث ازدهرت العلوم والآداب، واقتداء به أكبّ تلاميذه ومن بعدهم أغلب الرهبان السريان على الدرس والتحصيل، وعكفوا على البحث والتأليف، فتركوا لنا آثاراً أدبية قيمة ونفيسة تعجّ بها مكتبات العالم اليوم وبذلك أسهموا في رقي بلادهم وازدهارها ونشر الحضارة فيها.
وعندما سلمت نصيبين إلى الفرس سنة 363م هجرها مار أفرام وبرفقته نخبة طيبة من أساتذة مدرستها وتلامذتها جاؤوا إلى الرها، فكان مار أفرام تارة يتنسك في مغارة في جبلها المقدس، وتارة يتفرغ للتدريس في مدرستها الشهيرة التي كانت قد أسست في فجر المسيحية([27]) فجدّدها مار أفرام وصحبه وازدهرت على أيديهم، ودامت حتى عام 489([28]). وكان تلامذتها ـ وأغلبهم من بلاد فارس ـ يتلقّون دروساً في شرح الكتاب المقدس بعهديه معتمدين بذلك على تفسير مار أفرام وهو أقدم من فسّر الكتاب المقدس عند السريان([29])، كما كانوا يأخذون عنه العلوم اللاهوتية لإثبات حقائق الدين المبين ومناهضة تعاليم طيطيانس ومرقيون وبرديصان وماني وأريوس، وبدعهم الوخيمة. فعدت كتاباته مثالاً للتعاليم اللاهوتية في الكنيسة السريانية.
واهتمّت مدرسة الرها أيضاً بتدريس الفلسفة على مذهب أرسطو و تلقين طلابها العلوم اللغوية والأدبية باللغتين السريانية واليونانية([30]).
وقيل أن مار أفرام قد زار الأنبا بشواي وغيره من النساك في مصر([31]). كما زار بعدئذ القديس مار باسيليوس أسقف قيصرية قبدوقية (+379)([32]). ويستبعد بعض النقاد هاتين الزيارتين.
وفي الرها ألّف مار أفرام أول جوقة ترتيل من الفتيات السريانيات اللواتي علّمهن ما ابتكره، أو ما كان اقتبسه من الأنغام الموسيقية، وما نظمه من القصائد الروحية، والتراتيل الشجية التي ضمّنها العقائد الدينية وصورة الإيمان المستقيم، فكنّ يتغنين بها في الكنيسة أثناء الصلاة([33]). فإلى مار أفرام يعود الفضل في تنظيم الحياة الطقسية في الكنيسة السريانية وبتأليف الجوقات الكنسية.
وعندما حلّت المجاعة في الرها في شتاء عام 372 ـ 373 ومات عدد غير يسير من أهلها أخذ مار أفرام يطوف دور الأغنياء ويحثّهم على أعمال الرحمة ويجمع منهم الصدقات([34]) ويوزّعها على الفقراء. كما أسس دوراً جمع فيها ثلاثمائة سرير وقيل ألفا وثلاثمائة سرير صارت ملجأ للعجزة. وكان يشرف بنفسه على الاعتناء بهم([35]). وعلى أثر الجوع انتشر وباء الطاعون، فانبرى مار أفرام في تطبيب المرضى وموآساتهم حتى أصيب بدوره بداء الطاعون([36]) واحتمل صابراً آلامه المبرحة، وفاضت روحه الطاهرة في 9 حزيران عام 373م([37]) ودفن في مقبرة الغرباء في ظاهر مدينة الرها، بناء على وصيته، وبني على ضريحه دير عرف بالدير السفلي([38]) ثم نقل رفاته الطاهر إلى مقبرة الأساقفة في كنيسة الرها الكبرى، وقيل أنه نقل عام 1145م إلى أوربا مع ذخائر بعض القديسين([39]) وعيّدت له الكنيسة شرقاً وغرباً([40]).
وفي الساعات الأخيرة من حياته المجيدة، وفي لحظات احتضاره الرهيبة، أملى على تلاميذه وصيته الأخيرة شعراً([41]) فاهتموا بتدوينها حالاً، وقد ترجمت إلى اليونانية بعد وفاته بمدة وجيزة، واستشهد بها القديس غريغوريوس النوسي (+396) خمس مرات في تقريضه إياه([42]). وقد اعترف مار أفرام بوصيته هذه بإيمانه، وبيّن تمسّكه بالعقيدة المسيحية، وحثّ تلاميذه على التشبه به.
- مؤلفاته
أدرك مار أفرام اللغة السريانية نقية صافية خالية من العجمة وسائر الشوائب، وغنية واسعة وأداة طيعة في التعبير عن مختلف الأهداف الفكرية، وشتّى الأغراض الكلامية، فكتب فيها تفاسيره نظماً ونثراً، ودبّج روائعه وبدائعه التي صارت مفخرة الأدب السرياني. وكان له القدح المعلى في تقدم مدرستي نصيبين والرها السريانيتين حيث وجدت لها اللغة السريانية مرتعاً خصباً فنمت وازدهرت.
تناول مار أفرام الكتاب المقدس بعهديه شرحاً وتفسيراً، وقد اعتمد الترجمة البسيطة، ولكثرة شروحه صرّح بعضهم قائلاً: «لو نفدت ترجمة الكتاب المقدس بالسريانية الأصلية لتيسر جمع نصوصها من تصانيف مار أفرام»([43]).
وقد اتبع بالتفسير طريقة مدرسة أنطاكية بشرح النص آية آية بالمعنى الحرفي بمفهوميه الحقيقي والمجازي([44])، ولم يبقَ من تفاسيره هذه سوى شرح سفر التكوين وجزء من سفر الخروج، وشذور متفرقة من أسفار العهد القديم([45]) نجدها في مجموعة الراهب سويريوس (+861).
أما تفسيره للإنجيل المختلط المعروف بالدياطسرون الذي وضعه ططيانس عام 170م فلم يصل إلى أيدينا منه سوى ترجمته الأرمنية([46]) كما لم يبقَ من تفاسيره لرسائل الرسول بولس سوى آيات يسيرة ضمن تفسير الإنجيل ليشوعداد المروزي أسقف الحديثة النسطوري (840 ـ 853)([47]). وله مواعظ هي شروح لفصول من الكتاب المقدس، وله أيضاً مقالات في محبة العليّ وفصول مختارة من كتاب وسم بكتاب الآراء وهو في حياة النسك والرهبنة([48]) وأرسل خطابين الأول إلى دمنوس في نقض الهراطقة، والثاني إلى هيباتيوس رداً على مرقيون وبرديصان وماني، ورسالة بعث بها إلى الرهبان ساكني الجبال([49])، ومجموعة قوانين في الرهبنة فقد أصلها السرياني وحفظ النقل اليوناني أورد ذكرها غريغوريوس النوسي (+396)، ولم يبقَ من القصص التي ألّفها سوى قصة بطرس الرسول([50]). وقد نسب إليه كتاب وُسم بـ «غار الكنوز» وهو قصة آدم وحواء بعد أن طردا من الجنة([51]) كما وضع عليه خطأ عظة في نهاية العالم ورد فيها ذكر غزوة الهون التي حصلت في تموز سنة 396م أي بعد وفاته بثلاث وعشرين سنة. وكذلك عزي إليه تأبين للقديس باسيليوس الكبير الذي مات بعد موت مار أفرام بست سنوات([52]).
لقد نظم مار أفرام الشعر السرياني على البحر السباعي خاصة، وارتأى بعضهم أنه قد استنبطه فسمي أيضاً بالأفرامي أو أنه أخذه عمن سبقه من الشعراء الذين فُقد شعرهم([53])، وتعد أبيات بعض قصائده بالآلاف. كما نظم المداريش أي الأناشيد وهي أبيات من الشعر تصاغ على أوزان مختلفة وألحان شتى بلغ عددها الخمسمائة استنبطها برديصان (222+)([54]). ولم يعتمد مار أفرام القافية في نظمه، لأن السريان لم يدخلوها في شعرهم حتى صدر القرن التاسع متأثّرين بذلك بالعرب([55])، ولا نعرف عدد قصائده وأناشيده التي ضاع جانب كبير منها، وما تبقّى منها اليوم يعد بالمئات.
وهو شاعر فحل، طويل النفس، يمتاز أسلوبه بالإسهاب، وشعره عامة سلس يرسله على السليقة فيتدفق كالسيل العرم.
وتناول بشعره شتى المواضيع الدينية، العقائدية منها والروحية، فبجّل السيد المسيح، وطوّب أمه العذراء مريم، ومدح الأبرار والصالحين وغبط الزهاد والمتوحدين، ورثى النفس الخاطئة وحثّها على التوبة، وهجا الكفرة وكفرهم بشخص يوليان الامبراطور الجاحد، وقرّع البدع والمبتدعين خاصة ماني ومرقيون وبرديصان وآريوس، وأكثر من سرد الحكم في قصائده النفيسة، وأناشيده البديعة، التي كانت تعبر عما احتواه قلبه الكبير من الإيمان، وما استوعبه عقله الجبار من الحكمة، وقد حازت مكانة القمة في الكنيسة السريانية فأدخلت الطقس البيعي وهو حيّ.
ولأهمية مؤلفات مار أفرام نقلت إلى اليونانية وهو حي أو في العقد الأول بعد وفاته، كما نقلت بعدئذ إلى لغات شتى نخص بالذكر منها لغة الضاد فقد نقل إليها ابراهيم بن يوحنا الأنطاكي سنة 980م عدداً من مقالاته في الرهبنة([56])، كما وصل إلينا منها أيضاً إحدى وخمسون مقالة نقلت من اليونانية إليها حوالي القرن الحادي عشر نقلاً فيه الجيد وفيه الملحون وأصلها السرياني مفقود([57]). ومنذ القرن الثامن عشر وحتى اليوم حقق علماء الاستشراق الأفذاذ وبعض الشرقيين، أغلب مؤلفات مار أفرام الشعرية والنثرية ونشروها بالطبع وترجموها إلى اللغات اللاتينية والإنكليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية وغيرها. «ومن محاسن مؤلفات مار أفرام أن ترجمتها لم تفقدها شيئاً من عذوبة فصاحتها الفطرية فهي إذا قرئت باليونانية مثلاً أحدثت نفس التأثير والإعجاب الذي تحدثه قراءتها في أصلها السرياني»([58]).
لقد زيّنت آثار مار أفرام مكتبات الشرق والغرب وهي تعتبر من نفائس المخطوطات في دنيا المكتبات ونظر العلم والفن، إذ يرجع تاريخ بعضها إلى القرون الخامس والسادس والسابع للميلاد. وتوجد في مكتبات معظم حواضر الشرق العربي الشهيرة، ومدينة الفاتيكان، والمتحف البريطاني، وأوكسفرد، وبرمنكهام، وكمبرج، وباريس، وشيكاغو وغيرها.
- قالوا في مار أفرام
قال القديس غريغوريوس النوسي (+396):
«أفرام كرمة اللّه الكثير ثمرها… إن ضوء سيرته وعلمه قد أنار العالم وصار أفرام معروفاً عند كل من تطلع الشمس عليه ولن يجهله إلا من جهل باسيليوس الكبير الذي هو كوكب الكنيسة المنير»([59]).
وقال القديس يوحنا فم الذهب (+407):
«أفرام كنارة الروح القدس، ومخزن الفضائل، ومعزّي الحزانى ومرشد الشبّان، وهدي الضالين، كان على الهراطقة كسيف ذي حدّين»([60]).
وقال سوزومين المؤرّخ اليوناني (+423):
«إنه أرفع من كل ثناء وقد زيّن الكنيسة كلها أفخر زينة، وفاق الكتاب اليونانيين بحكمته ورونق كلامه وأصالة رأيه وسداد برهانه»([61]).
وقال القديس هيرونيموس (+430):
«أفرام شماس كنيسة الرها ألف كتباً كثيرة في اللغة السريانية وقد بلغ من الشهرة والتوقير أن بعض الكنائس تتلو ما كتبه على الشعب، في الكنائس، بعد تلاوة منتخبات الأسفار المقدسة. وقد طالعت في اليونانية، كتابه في الروح القدس مترجماً من السريانية ووجدت فيه قمة الذكاء السامي في الترجمة أيضاً»([62]).
وقال القديس يعقوب السروجي (+521):
«مار أفرام الينبوع الفياض الذي روت مياهه أرض الإيمان، والخمرة المعتقة التي أخذت صفاتها من دماء الجلجلة… النسر الذي انتصب بين الحمامات الوديعة… الذي ضارع موسى الكليم وأخته مريم بتلقينه العذارى والفتيات ولفيف المؤمنين، أنغاماً محكمة بث فيها تعاليم الكنيسة الحقة، وأحرز بواسطتها إكليل الظفر والانتصار على أعدائها… الشاعر المبدع الذي جاش قلبه كالبحر الخضّم بالميامر التي لا تحصى والمداريش التي لا تعد… إنه تاج الأمة السريانية جمعاء»([63]).
مـار يـعـقـوب الـرهـاوي)*( (633 ـ 708م)
اللاهوتي، المؤرخ، المترجم، اللغوي السرياني، مستنبط الحركات السريانية
- تمهيد:
يُصنَّف يعقوب الرهاوي في مقدمة علماء السريان الفطاحل في علم الإلهيات، وتفسير الكتاب المقدس، والترجمة، والفلسفة، والفقه البيعي، والتاريخ والأدب، واللغة، والنحو وغيرها من العلوم.
قال عنه المستشرق انطون بومشترك:
«إن ما اشتملت عليه تصانيفه المنثورة من صنوف العلوم كالنحو والفلسفة والعلوم الطبيعية وقد بلغت من الدقة والجودة الغاية، وما انطوت عليه من فنون المقالات، يدع لنا مجالا لنحكم ان السريان كانوا في هذه الابواب أعلى كعباً من الغربيين»([64]).
وكان مبرزا في اللغات: السريانية واليونانية والعبرية([65]) وكانت له قدرة فائقة على الترجمة، وفضله في ذلك معروف، حيث أن التراجمة السريان الذين سبقوه كانوا يعنون بالترجمة الحرفية، أما معاصروه فقد تعودوا العرف العلمي، وفضلوا المعنى على اللفظ، وذلك بفضل ما استنبطه هو وخدينه البطريرك أثناسيوس البلدي (+686) من اسلوب جديد في الترجمة([66])وما ابتكره معلمهما العلامة مار ساويرا سابوخت من طريقة فضلى في نقل العلوم الفلسفية من اليونانية إلى السريانية([67]).
وكان مراسلاً لطلاب كثيرين التمسوا مساعدته بمواضيع دينية وعلمية ولغوية مختلفة، ولذلك ولأهمية أعماله اللغوية في دراسة الأسفار المقدسة قال عنه المستشرق وليم رايت «يعتبر يعقوب الرهاوي في أدب بلاده كهيرونيموس بين آباء اللاتين([68]) ولكثرة أتعابه في خدمة الإنسانية والعلم والمعرفة، أُطلق عليه «محب الأتعاب»([69]).
ويجمع بومشترك ودوفال ورايت ونولدكه وغيرهم من المستشرقين الذين كتبوا في الأدب السرياني، أن مار يعقوب الرهاوي هو اشهر مَن نبغ في الدور المعروف في تاريخ الأدب السرياني بالدور العربي، يوم نضج الفكر السرياني، وبلغ عصره الذهبي حيث زهت العلوم والآداب والفنون وظهرت ثمار تلامذة مدرستي الرها ونصيبين يانعة([70]).
وكان منفتحاً على العرب المسلمين، قال عنه الأستاذ أحمد أمين ما يلي: «واشتهر من هؤلاء (السريانيين) في العصر الأموي يعقوب الرهاوي (640 ـ708م تقريباً) وقد ترجم كثيراً من كتب الإلهيات اليونانية. وليعقوب هذا أثر كبير الدلالة، فقد أثر عنه أنه أفتى رجال الدين من النصارى بأنه يحل لهم أن يعلموا أولاد المسلمين التعليم الراقي، وهذه الفتوى تدلّ من غير شك على إقبال بعض المسلمين في ذلك العصر على دراسة الفلسفة عليهم، وتردد النصارى أولاً في تعليمهم»([71]).
- حياته:
ولد في حدود سنة 633م في قرية عيندابا التابعة لولاية أنطاكية، وتهذب في صباه في مدرسة القرية، ثم التحق بدير قنسرين([72]) ولبس ثوب الرهبانية، ودرس على الفيلسوف الكبير مار ساويرا سابوخت، آداب اللغة اليونانية، وتعمق في الفلسفة واللاهوت ثم رحل إلى الاسكندرية لإتمام دراسته الفلسفية واللغوية، ثم عاد إلى سورية وتنسك في الرها([73]) ورسم كاهناً. وفي سنة 684 رسمه رفيقه أثناسيوس الثاني البلدي البطريرك الأنطاكي (684ـ687) مطراناً على الرها فنسب إليها. وأقام فيها أربع سنوات. ولغيرته الوقادة على مراعاة القوانين البيعية، ورغبته الملحة في إعادة النظام إلى أديرة أبرشيته، قاومه بعض الرهبان والاكليروس فجردهم من رتبهم، مخالفاً بذلك رأي البطريرك يوليانس وغيره من الأساقفة الذين كانوا يريدون التساهل بحفظ القوانين تبعاً لمقتضيات العصر. ويذكر عنه أنه جمع كتب القوانين البيعية أمام باب الدير الذي كان البطريرك حالاً فيه وأحرقها وهو يصرخ ويقول: ها أنذا أحرق القوانين التي تطأونها بأقدامكم ولم توجبوا حفظها وقد صارت لديكم من قبل الزيادة التي لا تجدي نفعاً([74]). وهكذا استقال عن خدمة الأبرشية ومضى فسكن في دير مار يعقوب في كشوم بقرب شميشاط، يرافقه تلميذاه دانيال وقسطنطين. ثم انتقل إلى دير أوسيبونا في كورة أنطاكية حيث أقام إحدى عشرة سنة يدرس رهبانه اللغة اليونانية، ثم قصد دير تلعدا شمال غربي حلب حيث مكث قرابة تسع سنوات يراجع ترجمة العهد القديم من الكتاب المقدس([75])، وفي تلك الأثناء توفي المطران حبيب، خليفة مار يعقوب في كرسي أبرشية الرها، فالتمس الرهاويون منه ليعود إلى أبرشيته فعاد. وبعد مكثه فيها اربعة أشهر، ذهب إلى دير تلعدا ليأتي بكتبه، فوافته المنية هناك في 5 حزيران سنة 708 ودفن في الدير المذكور([76]).
- مصنفاته:
ترك مار يعقوب الرهاوي ما ينيف على ثلاثين كتاباً من وضعه، أو ترجمته، أو تنقيحه ومراجعته. وفيما يلي أهم تلك التآليف:
أولا: في الكتاب المقدس وعلومه: قال بومشترك : لقد وجد كتاب اللّه في يعقوب الرهاوي أكبر لاهوتي في اللغة السريانية يدل على هذا ما حوته مصنفات له شتى([77]). واشهر دراساته في الكتاب هي:
1 ـ مراجعته منقحاً الترجمة المعروفة بالبسيطة([78])، مقسماً إياها إلى فصول، واضعاً في مقدمة كل فصل ملخصاً لمحتوياته، وفي الهامش شرحاً للكلمات الصعبة، كما ضبط اللفظ الصحيح([79])، وله ضوابط ألفاظ أسفار العهدين ألحق بها ضوابط مصنفات آباء النصرانية المشاهير([80]).
2 ـ تفسيره الكتاب المقدس آية آية وفقاً للنص اليوناني([81])، وقد لقب مار يعقوب «بمفسر الكتب»([82])، واستشهد بتفاسيره مار ديونيسيوس يعقوب ابن الصليبي مطران آمد (+1171) ومار غريغوريوس يوحنا ابن العبري مفريان المشرق (+1286).
ثانياً: العقائدية:
1 ـ نقل عن اليونانية إلى السريانية مواعظ مار سويريوس الأنطاكي (+538) وفرغ من ذلك سنة 701م([83]).
2 ـ كتب رسالة في أعمال السيد المسيح مؤيدة بأقوال الأنبياء والرسل والمعلمين، وقد أورد نبذة من حياة كل منهم بعد إيراد أقوالهم([84]).
3 ـ له كتاب عنوانه «العلة الأولى الخالقة الأزلية القادرة على كل شيء غير المخلوق وهي اللّه حافظ الكل» ذكره جرجس أسقف العرب وهو ضائع([85]).
4 ـ ألف في أواخر أيامه كتاباً ممتعاً، قيماً أسماه «أيام الخليقة الستة»([86])، وقد أكمله صديقه جرجس أسقف العرب بعد وفاته.
ثالثا: الفلسفية:
1 ـ له كتاب أسماه (انكيريديون) أي المختصر وهو مجموعة العبارات المصطلح عليها في الفلسفة، ويعتبر أهم كتبه الفلسفية، وفيه يفسر خاصة الألفاظ الفلسفية المستعملة في علم اللاهوت كجوهر وذات واقنوم([87]).
2 ـ ترجم كتاب مقولات ارسطو إلى السريانية مع شروح وحواش كثيرة علقها عليه([88]).
رابعاً: التاريخية:
في نحو سنة 692م نقح تاريخ اوسابيوس القيصري (265ـ340م) إمام المؤرخين، وصحح فيه حساب السنين، وأكمله مبتدئا من السنة العشرين من حكم قسطنطين الملك وحتى عصره هو. وزاد عليه كاتب مجهول فأوصله حتى سنة 710م، ولم يبق منه سوى نتف([89])، وقد استند إلى هذا التاريخ البطريرك مار ميخائيل الكبير (+1199) في تاريخه المشهور واستعان به ايضاً برشينايا أسقف نصيبين (+1046).
خامساً: الفقهية:
كان يعقوب الرهاوي حريصاً على حفظ القوانين البيعية وفي الوقت نفسه تناول هذه القوانين درساً وتمحيصاً فنقل كتب القوانين المنحولة إلى اقليميس الروماني وأولها كتاب عهد ربنا الموضوع في القرن الخامس([90])، كما نقل قوانين مجمع قرطاجنة الأول، وقوانين المجامع المسكونية الثلاثة([91])، وسن ما يقارب مئة وستة وستين قانونا كنسياً جاءت بصورة أجوبة على أسئلة وجهت إليه من معاصريه([92])، ضمت بعضها إلى كتاب الهدايات لابن العبري (+1286).
سادساً: الطقسية:
قال العلامة البطريرك أفرام الأول برصوم: «وفضله (أي مار يعقوب الرهاوي) على الفروض الكنسية فاق افضال الآباء الملافنة»([93]). ومن أهم اعماله الطقسية:
1 ـ تنقيحه ليتورجية([94]) يعقوب أخي الرب وتصحيحها على الأصل اليوناني([95]). ونقل ليتورجية مار اغناطيوس النوراني إلى السريانية.
2 ـ وضعه ليتورجية بالسريانية([96]).
3 ـ ترتيبه صلوات الفرض الأسبوعي المعروف بالاشحيم([97])، كما رتب فناقيث الآحاد والأعياد.
4 ـ تنظيمه كلنداراً لأيام الأعياد على مدار السنة.
5 ـ تصحيحه كتاب جناز الموتى([98]).
6 ـ نقله من اليونانية إلى السريانية الحسايات([99]) التي وضعها مار سويريوس الأنطاكي (+538) عن العماد.
7 ـ وضعه كتاباً سماه (الكنوز) حوى طقوس العماد والزواج وتبريك الماء لعيد الغطاس (أي عيد عماد السيد المسيح)([100]).
8 ـ له رسالة في تفسير رتبة القداس عند السريان كتبها إلى توما الكاهن([101]).
9 ـ تصحيحه ترجمة معانيث([102]) مار سويريوس الأنطاكي([103]). ويعتبر مار يعقوب الرهاوي شاعراً بارعاً([104])، وله ميامر([105]) ومداريش([106]) ضم بعضها إلى طقوس أسبوع الآلام باسمه. وله عشر مقالات في الشعانين.
سابعاً: اللغوية:
أخذ السريان قواعد لغتهم نقلاً عن طريق المشافهة من آبائهم، دون الاستناد إلى اصول في النحو، حتى القرن السادس للميلاد حيث ابتدأ بعضهم يؤلف في نحو اللغة وجمع مفرداتها وقاية لها من الفساد والضياع بسبب اختلاطهم بالروم([107]). وقد أولى مار يعقوب عنايته الكبرى بلغته السريانية الحبيبة فنقاها من الألفاظ الأعجمية واصلحها وردها إلى فصاحتها([108]). ووضع كتاباً مهماً جداً سماه (غراماطيقي) وهو أول مؤلف في النحو السرياني([109])، وعدّ مار يعقوب لذلك واضع هذا العلم لدى السريان.
ولا يغرب عن بالنا أن مار أحودامه (+559) ويوسف الأهوازي (+580) وعنان يشوع (+650) قد كتبوا في النحو قبل الرهاوي، ولكن كتبهم هذه ضاعت ولم يبق منها سوى نتف لا تروي غليلاً ولا تغني فتيلاً. أما كتاب الرهاوي فقد استعمله السريان كثيراً في التدريس، لذلك عده السريان أول كتاب في النحو لديهم واعتبر مار يعقوب كما ذكرنا آنفاً واضع علم النحو السرياني. ويشبهه بعضهم بأبي الأسود الدؤلي (المتوفي سنة 688م) واضع علم النحو في العربية([110]).
وعلى غرار مار يعقوب ألف علماء لغويون ومنه اقتبسوا، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر ابن العبري (+1286) الذي اشار إليه ونقل عنه نبذاً قيمة في كتابه الموسوم بالاضواء (صمحي). وقد ضاع كتاب الرهاوي ولم يبق منه سوى شذرات يعود تاريخ نسخها إلى القرن التاسع أو العاشر([111]). كتبت بخط جيد ولكن معالم الكتابة قد زالت تقريباً. لذلك قرئت بالاستعانة بالمواد الكيمياوية وطبعت بعد ذلك([112])، وتحتوي على نقاط قيمة في النحو السرياني وفيها يوضح مار يعقوب طريقته الجديدة في علامات الحركات([113]). وقد رأينا أن نتناول دراسة رأيه في تشكيل الحروف السريانية فيما يلي باختصار.
- علامات الحركات السريانية لدى الرهاوي
كانت اللغة السريانية حتى أواخر القرن السابع للميلاد تُكتب بدون تشكيل، ثم استعمل السريان حروف العلة الثلاثة: الألف والواو والياء كحركات لضبط اللفظ ولكن هذه الطريقة كثيراً ما تربك القارىء حيث لا يميز فيما إذا كانت الحروف قد استعملت في الكلمة كحركة أم حرف.
أما التنقيط فقد استعمل قبل القرن السابع كتشكيل للكلمات، وليعقوب الرهاوي رسالة في ذلك يوضح فيها طريقة وضع النقط تحت الحرف أو فوقه ضبطاً للمعاني وتمييزاً بين المرادفات وما إليها([114]). ولعل السريان الغربيين هم الذين اسستنبطوا طريقة التنقيط لأنها لا تشتمل على الشدة المستعملة في لهجة السريان الشرقيين([115])، ولا يزال السريان الغربيون يستعملون أحياناً طريقة التنقيط القديمة. وهي الطريقة الوحيدة في ضبط اللغة لدى السريان الشرقيين.
وقد استنبط مار يعقوب علامات الحركات آخذاً بعضها عن اليونانية التي كان يجيدها حيث أنه رأى أن جميع أصوات الصوائت السريانية كما ينطقها الرهاويون يمكن أن تمثلها حروف يونانية، وكطريقة للاشارة يمكن أن تكون اكثر وضوحاً للقارىء من مجموعة النقط الصغيرة، فأخذ من اليونانية حرف الألف وجعله للفتح، والهاء للكسر، والعين مع الواو للضم، والحاء للكسر المشبع، والعين وحدها للضم الممال إلى الفتح، وجعل صورة هذه الحروف اليونانية صغيرة([116]). وكان اسلوبه في تشكيل الكلمات كتابة الحركات (الحروف الصوائت) مع الحروف الصوامت على السطر، ولم يكتب لهذه الطريقة البقاء طويلاً([117])، وتطورت بعدئذ فوضعت الصوائت كعلامات صغيرة فوق الحروف أو تحتها. كما أن السريان الغربيين لم يتركوا طريقة التنقيط بل سارت الطريقتان جنباً إلى جنب أجيالاً عديدة، ثم فضلت الحركات لوضوحها وسهولتها فأستعاض السريان بها عن التنقيط.
وقد نسب بعضهم إلى ثاوفيل الرهاوي (+785) مترجم الالياذة إلى السريانية، ابتكار الحركات السريانية لضبط اسماء الأعلام اليونانية، ولكن المستشرقين وايزمن ونولدكه ورايت وسواهم([118]) أيدوا نسبتها إلى مار يعقوب الرهاوي وبخاصة أن في المتحف البريطاني مخطوطاً([119]) خط على عهد الرهاوي (+708) ـ ولعل الرهاوي نفسه كتبه بخط يده ـ وردت فيه الحروف اليونانية الصوتية مستعملة في تشكيل الكلمات السريانية هذا مع العلم بأن ثاوفيل الرهاوي قد توفي بعد مار يعقوب الرهاوي بثمانين سنة تقريبا. فمبتكر الحركات السريانية إذن هو مار يعقوب الرهاوي لا غيره([120]).
وعدد هذه الحركات ثمان يذكرها ابن العبري (+1286) في كتابه الأضواء([121]) (صمحي) ويجمعها في جملة واحدة وهي:ـ
نفأيكون آيل من بيشوةا وينظم لها جدولاً تسهيلاً لفهمها وكان يعقوب الرهاوي قد جمعها في جملة:
بنٍيحُو ةٍحين آورؤي ويأخذ ابن العبري على يعقوب الرهاوي إهماله حركة الرباص القصير ربأا كريا مثل جزةا وهي ضرورية في اللغة جداً، وتمسكه بحركة الرباص الوسط ربأا مأعيا التي هي ما بين الكسر الطويل والقصير وهي غير ضرورية.
ويقتصر ابن العبري في كتاب المدخل معلةا على ذكر خمس حركات فقط ويجمع الحركات بجملة كفرة سميو ويهمل الحركات الطويلة والقصيرة لأنه وضع كتابه للطلاب المبتدئين خاصة وشاء أن يلقنهم النحو بطريقة سهلة ويقول: إن لدى الشرقيين حركات أخرى ما عدا الحركات الخمس المذكورة أعلاه وقد ذكرها الرهاوي أيضاً.
ولا بد أن نذكر هنا أن الحركات الخمس لدى السريان الغربيين تشمل الحركات الثماني، ذلك أن كل حركة جاء بعدها حرف ساكن لفظت بإطباق وإذا جاء بعدها حرف متحرك لفظت بإشباع([122])، وهكذا تتميز الحركة الطويلة من القصيرة.
وكان مار يعقوب يحاول اصلاح الحروف السريانية أيضاً ويظهر لنا من رسالة كتبها إلى بولس قسيس أنطاكية أنه أراد تطوير الحروف واصلاح الكتابة السريانية، ولكن السريان لم يكونوا على استعداد لقبول هذا التطور في لغتهم لذلك يقول لبولس: «لقد رغب كثيرون قبلي وقبلك في هذا ولكن خشية ضياع الكتب القديمة المدونة بهذه الحروف الناقصة هي التي أعاقتهم عن هذه الاستفادة([123])».
وله رسالة إلى جرجس أسقف سروج في الخط السرياني وضبط الإملاء والألفاظ يوصي بها النساخ بالامانة في النقل([124]).
مار جاورجي الاول بطريرك أنطاكية (790+)(*)
في «بعلتان»([125]) إحدى قرى حمص، وفي اوئل القرن الثامن للميلاد، ولد جاورجي من أبوين فاضلين، وربي تربية خالصة، مرتشفاً مبادئ الدين القويم من ينبوع مدرسة قريته وكنيستها. فشبّ وهو بأهداب الفضيلة متمسك، وفي حياة التقى راغب، وفي نفسه الكريمة ميل إلى عيشة الأديار. فانضوى إلى دير قنسرين([126]) الشهير، مثوى الأتقياء ومنبت أشهر رجالات الكنيسة السريانية، حيث عكف على الدرس والمطالعة، فملك ناصية السريانية، وتمكن من اليونانية، وتعمّق في الفلسفة والفقه البيعي، وتبحّر في علم اللاهوت وتفسير الكتاب العزيز. ثم توشّح بالإسكيم الرهباني المقدس، ورسم شماساً. وإذ كان مثالاً صالحاً لإخوته الرهبان نسكاً وعلماً وتقى، ذاع صيت فضائله في الآفاق.
وفي كانون الاول سنة 758 عقد الأساقفة مجمعاً في منبج([127]) لانتخاب خلف للبطريرك إيوانيس الاول (754+) فوقع اختيارهم على المترجَم، فرسموه بطريركاً للكرسي الرسولي الأنطاكي.
غير أن هذا العمل لم يرق ليوحنا أسقف الرقة وداود أسقف دارا، وكان كل منهما يطمح إلى التربع على السدة البطرسية، بحجة أنه لا يسوغ أن ينصب بطريركاً من كان بعد في رتبة الشماسية كجاورجي. وأدّى بهم الأمر إلى عصيان سافر، حسداً من مناقبه ـ وصاحب الفضل محسود ـ وأشعلا فتنة عمياء في بيعة اللّه، وعملا على تفكيكها. فاغتصب الاول اسم البطريركية. ولما هلك بعد أربع سنوات، خلفه زميله سنة 766 وشخص إلى بغداد حيث وشى بالبطريرك مار جاورجي لدى الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور قائلاً: إنه صار بطريركاً بدون إذن منك، وأخذ من ثم يضايقنا بالضرائب. وكلما سألناه السبب في عدم حصوله على براءة منك، أجاب أنه لا يجوز أن يلج متاعه اسم نبي المسلمين. فوقعت الوشاية من الخليفة موقعاً حسناً، فاستشاط غضباً وأمر فقبضوا على البطريرك القديس، وعروه من ثيابه، وبسطوا ذراعيه. فصرخ باللغة اليونانية قائلاً: «يا والدة الإله أعينيني». فسأل الخليفة عما يقول، فأجابه أحد اللؤماء أنه يكفر. فأمر بضربه بالسياط. فلما ضرب ثلاثاً، سال دمه الزكي على الأرض. ثم سأله الخليفة: لمَ لم تأخذ براءة منا؟ فأجاب القديس: «لأني لا أريد إكراه أحد». وسأله أيضاً ولماذا تأبى حمل اسم نبينا؟ فذهل القديس لهذا السؤال وقال: «هوذا اسم نبيكم في جميع أمتعتنا، فضلاً عن طبعه على دراهمنا ومسكوكاتنا». وهكذا أخرس الحق الصريح الخليفة، الذي أعجب بذكاء القديس وشجاعته، وأيقن أنه بريء مما ألصق به من التهم. غير أن محبته للمال دفعته إلى سجنه وتعذيبه. فأمر كاتبه بنقله إلى داره واستجوابه عن معرفته بصناعة الكيمياء الكاذبة، طامعاً منه بكشف كنوز ذهبية. فمكث في داره ثلاثة أيام، لا يأكل ولا يشرب. وأخيراً طرح في السجن مع الأسرى.
ومنح الخليفة، داود الخائن، براءة بطريركية، وأكره الشعب السرياني على الخضوع له كبطريرك. فكان بعض أتباعه يستلون السيوف ويحيطون بالمذبح ويضطرون الرجال والنساء إلى الاشتراك معه في تناول القربان المقدس.
أما فضلاء المؤمنين فظلوا مخلصين لجاورجي المعترف، رغم ما ذاقوه من أمر العذابات وأقسى الإهانات في سبيل ذلك، حتى أن الأساقفة لبسوا ثياباً بيضاء كالعلمانيين، وأخذوا يجوبون القرى والدساكر متنكرين، يسوسون الكنائس، ويقومون بالخدم الدينية لمن ظل من المؤمنين أميناً لربه ولكنيسته، ومخلصاً لسيده البطريرك جاورجي، ويكفونهم حاجاتهم الروحية.
فلو تخيلنا أنفسنا من زائري سجن بغداد يومذاك، لرأينا في زاوية من زواياه المظلمات، شيخاً جليلاً قد أنهكت السياط قواه، فيما أن الابتسامة الملائكية لم تفارق ثغره. إنه الرجل الإلهي مار جاورجي. وكأني به يسخر من الآلام التي تقبّلها بصدر رحب منشرح حباً بسيده المسيح ليس إلاّ وينطق بصمته الرهيب إن «هذا ما أصابني من إخوتي ومن بني أمتي». إنها «الجراح التي أثخنتني في بيت أحبائي». كلا يا سيدي الجليل، إن الذين ظلموك وظلموا الرعية، هم أجراء دخلاء وذئاب خاطفة متلبسة بثياب الحملان، بل لصوص وسراق، لذلك لم ولن تسمع لهم الرعية لأنها لا تعرف صوت الغريب.
وتحدّثنا نظرات جاورجي العميقة عما كان يجيش في خاطره ويكنه قلبه الأبوي الكبير من العطف والاهتمام بأمور كنيسة اللّه. وكأني به يقول: أخبروني يا أحبائي، كيف حال كنيسة اللّه السريانية، وإلى أي مدى بلغ الدخلاء اللؤماء من تمزيق شملها؟
ـ إنه قد تمّ فينا قول القائل: «ضرب الراعي فتشتتت الخراف»! فالكنيسة في حالة يرثى لها: أساقفتها مبددون، أغنامها الوديعة مشرّدة، وهي أحوج ما تكون إليك يا راعيها الصالح لتجمع شملها وتداوي جرحها.
ونراه يرنو إلى الأرض بكآبة وهو يستمع إلينا ونحن نحدّثه عن حالة الكنيسة السيئة، فيتأوه طويلاً، ثم يستعيد جأشه غير ناسٍ واجبه الأبوي بإرشاد تلاميذه، وإن كان في أشد الضيقات. لذلك نسمعه يقول: تشجعوا يا بنيَّ ولا تضطرب قلوبكم هلعاً، فاللّه مع كنيسته إلى منتهى الدهر، وإن أبواب الجحيم لن تقوى عليها بحسب وعده الإلهي الصادق. أجل، إنه يكلأها بعينه اليقظى ولئن زجّ جاورجي في غياهب السجون، ويقيم لها عشرات الرجال أمثال جاورجي، يحيطون بأسوارها كالحراس الأمناء. فاذهبوا وثبّتوا إخوانكم وعلّموهم أن يصبروا ويصابروا على هذه التجربة، واثقين من أن الفرج على الأبواب.
هذا ما ترجمته آلام القديس جاورجي المريرة في سجن المنصور، في تلك الفترة العصيبة من الزمن، وهي التي اوحت إليه بمدراشه السرياني الفريد الذي رثى به نفسه. ومما قاله في أحد أبياته: «طوبى لي حين أنبأ بسقوط بابل مدينة الجبابرة، وفتح أبواب السجون، فأخرج كالرسول بطرس ظافراً، وأنشد طرباً نشيد زكريا «هوذا الشمس تشرق على العميان من العلى. لقد بكت يوماً بنات صهيون دانيال، فابكي أنت أيتها الأديار جاورجي».
ويطوي الزمان صفحته، ويقضي البطريرك جاورجي في السجن تسع سنوات، ويعتقل معه ثاودوريط بطريرك الروم الملكيين (الأرثوذكس) ويعقوب جاثليق النساطرة بوشاية من الظالمين. ولم يطلق سراحهم إلاّ بموت أبي جعفر المنصور سنة 775. بيد أن الخليفة المهدي أشار إلى صاحب الترجمة ألاّ يسمي نفسه بطريركاً عملاً بأمر أبيه المجحف.
غادر القديس بغداد، وزار تكريت([128]) فالموصل فما بين النهرين العليا، «فتلقته الكنيسة كملاك نزل من السماء»، وذلك في الاستقبالات الفخمة والحفلات المهيبة التي أقيمت تكريماً له حيثما يمّم. ثم وصل إلى أنطاكية حيث رسم عشرة أساقفة، وأقصى عن الأبرشيات اولئك الذين سمّاهم داود الدخيل. وأخذ يطوف البلاد، متفقّداً شؤون المؤمنين، بانياً النفوس والكنائس، بهمة لم تعرف الكلل وغيرة لم يشبها الملل. فلا عجب بعد هذا إذا ما أنهك الجهد المتواصل قواه، فما أن وصل إلى قلوديا([129]) حتى شعر بدنو أجله، فقصد دير مار برصوم القريب من ملطية، حيث انتقل إلى جوار ربه في اليوم الاول من شهر كانون الاول سنة 790 بعد أن «جاهد الجهاد الحسن وأكمل السعي وحفظ الإيمان» واستحق أن يتجرع في سبيل الحق كؤوساً مترعة من الآلام المريرة، صابراً عليها صبر القديسين. فدفن في الدير نفسه، وعيَّدت له الكنيسة في السابع من الشهر المذكور.
وعلاوة على أعماله الراعوية، وتحمّله المشاق من أجل الإيمان مدة مديدة، فقد ترك لنا شرحاً وافياً لإنجيل متى، ورسالة لاهوتية أنفذها إلى كوريا شماس بيت نعر من قرى الرها، في عبارة «نكسر الخبز السماوي». كما أنه نظم في السجن ميامر([130]) ومداريش([131])، ضمّ بعضها إلى الفرض الكنسي.
المصادر:
1 ـ التاريخ الكنسي لابن العبري ثلاثة مجلدات.
2 ـ اللؤلؤ المنثور للعلامة البطريرك أفرام الاول برصوم.
3 ـ ذخيرة الأذهان للقس بطرس نصري الكلداني مج 1.
4 ـ الخريدة النفيسة في تاريخ الكنيسة للأسقف إيسيدورس ج2.
5 ـ رغبة الأحداث للقس أسحق أرملة ج2.
البطريرك ديونيسيوس التلمحري)*(
- تمهيد:
هذه صفحة مشرقة من صفحات تاريخنا المجيد، تتضمّن معلومات قيّمة عن الحياة الاجتماعية والدينية في القرن التاسع للميلاد كتبها بالسريانية العلامة الكبير المفريان ابن العبري (1286+) في الجزء الاول من التاريخ الكنسي ([132]) في معرض ترجمته لرجل عظيم هو البطريرك مار ديونيسيوس الاول التلمحري (845+) الذي خدم وطنه وكنيسته بإخلاص وتفان، رأيت أن أنقلها إلى العربية معلقاً عليها.
تحدّر البطريرك ديونيسيوس من بيت رهاوي عريق، ونشأ في بلدة تلمحرة([133]). ودرس وترهّب في دير قنسرين([134])، ورسم بطريركاً للكرسي الرسولي الأنطاكي سنة 818م واشتهر بعلمه وحسن إدارته، فصرّف الأمور بحكمة، ونال حظوة لدى الرؤساء السياسيين وفي مقدمتهم الخليفة المأمون الذي اصطحبه إلى مصر وانتدبه للقيام بمهمة سياسية هناك كما سترى. وكانت الكنيسة السريانية عصرئذ تزهو بالعلماء الأجلاء الذين زيّنوا جيدها بعقد فنون العلوم الدينية والمدنية، وكان المترجم أحدهم. فقد وضع بالسريانية تاريخاً عاماً من سنة 583 حتى سنة 843م بمجلدين. عرف البطريرك العلامة مار ميخائيل الكبير (1199+) أهميته فلخّصه، وضمّه إلى تاريخه الشهير، وفقد الأصل، وبقي المختصر. وقد نحله السمعاني خطأ تاريخاً وضعه راهب من دير زوقنين سنة 775م([135]).
وقد عقد مار ديونيسيوس مجامع كنسية في الرقة عام 818م ودير أسفولس عام 828م وتكريت عام 834م وسنّ قوانين بيعية مهمة([136]) تدلّ على تعمّقه بالفقه البيعي علاوة على تبحره بعلوم الفلسفة، واللاهوت، والتاريخ.
فدونك أيها القارئ الكريم ترجمة البطريرك ديونيسيوس التلمحري، بقلم العلامة ابن العبري، نقلتها عن السريانية وحاولت جهدي أن تكون قريبة من النص وعلّقت عليها لفائدتك.
(المعرّب)
- تعريب النص السرياني والتعليق عليه:
(على أثر وفاة البطريرك قرياقس (817 +) اجتمع الجبّيون([137]) مع القورسيين([138]) وجاءوا إلى ابراهيم الذي كان قد أقيم عليهم بطريركاً دخيلاً، وقالوا له: حتى متى نبقى منفصلين عن الكنيسة ومحرومين؟ منذ أمد بعيد مات البطريرك الذي سعى مجتهداً لرفع عبارة (لنكسر الخبز السماوي) من كتاب خدمة القداس([139]) العبارة التي من أجلها انفصلنا عن الكنيسة والآن نريد أن نتّحد بالكنيسة ثانية. فأجاب ابراهيم الدخيل محتالاً: «إنني حقاً قاسيت من أجلكم، واحتملت الذلّ والحقارة. فدعونا الآن نبقَ على ما نحن عليه، إلى أن يقام رئيس للأساقفة، فإذا أقام الأساقفة رئيساً لهم يتلفّظ بعبارة «لنكسر الخبز السماوي» ولو مرة واحدة، أكون محروماً ما لم أتخلَّ عن هذه الرئاسة وألجأ إلى السكينة». قال ذلك ظناً منه أن الأساقفة خوفاً من جماعة مساعديه المؤذين، يقيمونه رئيساً عليهم. وهكذا لزم الهدوء طيلة تلك السنة مطمئناً معتمداً على هذه الوسوسة.
أما الأساقفة فتداعوا واجتمعوا في الرقة في شهر حزيران سنة 818م وكان عددهم خمسة وأربعين أسقفاً([140]). وجاء ابراهيم وزمرة رهبانه (إلى الرقة) ونزلوا في فندق، مثيرين السجس من أجل عبارة «لنكسر الخبز السماوي». في الوقت الذي كان الأساقفة قد أجمعوا على أن من يرغب في أن ينطق بتلك العبارة فلا يمنعونه، ومن لا يرغب في قولها فلا يضطرونه إلى ذلك.
وأفلح الأساقفة بمصالحة المفريان باسيليوس مع المتاويين([141]) ثم انتصب أحد الشيوخ في وسط المجمع وقال: «أما الآن وقد سمعنا هذه الأمور وقبلناها، فيجب علينا أن نبدأ بالأمر الذي هو باب كل الخيرات، (ألا وهو انتخاب البطريرك الجديد) فلنفرض على أنفسنا صوماً مدة ثلاثة أيام مواظبين على الصلاة، ليعدّ اللّه لكنيسته الشخص الذي يعرفه تعالى أنه سيرعاها بالنقاء والقداسة، فحسن رأي الشيخ لدى الحاضرين، وصاموا ثلاثة أيام وصلّوا. ثم جلسوا، كل بحسب درجته، وأذنوا بعضهم لبعض لإبداء الرأي. فقال العديد منهم أنه ليس في ديورتهم من يليق بهذه الرتبة. وذكر آخرون أسماء أشخاص مشهورين مثل الملفان([142]) اوتونوس وأخيراً انتصب الأسقف ثاودورس من دير مار يعقوب في كيسوم([143]) وقال: «أستأذنكم أيها الآباء بالكلام، لقد جاء إلى ديرنا راهب من دير مار يوحنا بن أفتونيا وهو دير قنسرين، وأقام عندنا سنتين. وفحصناه فرأيناه أهلاً للرتبة» فلما قال هذا انفتح باب الحديث لأساقفة آخرين فأثبتوا رأيه فاتفقوا، وكتبوا كتاب الرضى ووقّع عليه بخطوطهم اولاً باسيليوس مفريان تكريت، ثم برحذبشابو أسقف المرج، فيوحنا أسقف مرعش، فأنسطاس أسقف دمشق. ثم بقية الأساقفة الواحد تلو الآخر.
يقول البطريرك ديونيسيوس في تاريخه: «إلى هنا أسجّل محققاً حوادث التاريخ بجرأة تامة. ولم أمدح من لا يستحق المدح محابياً، ولم أذمّ من لا يستحق الذم مرائياً. أما الآن فكنت اود أن يتناول هذه المهمة مؤرّخ آخر فيعلن أخطائي، ويمدح في أعمال الاستقامة إن استحققت المدح. لا أن أفعل أنا ذلك. وحيث أنه لا يوجد أحد سواي خبير بأموري مثلي، لذلك أتغاضى عن المدح، لئلا اتهم بأنني أكرم نفسي أمام ذويَّ، في الوقت الذي أعترف بضعفي وعدم جدارتي. فقد كنت عاجزاً قاصراً. وإنني لمستغرب جداً كيف أفحم الآباء الأساقفة الأطهار عندما رشحت لهذه الرتبة، ولا أقول أنهم ضلّوا وغشّوا بحسن ظنهم بي، ولكن كبسطاء القلب وسليمي النية. أخذوا على حين غرّة بشهرة حزتها من الخارج.
ولما كان رهبان دير قنسرين يومذاك مبدّدين، فقد كنت أقيم في دير مار يعقوب. فأرسل الآباء إلى هناك راهبين جبارين اصطاداني وشدّدا عليّ الحراسة. وكأنني فاعل إثم. حتى جاء الأساقفة الذين ظهروا لي أنهم أكثر قسوة (من الراهبين) بل بدون رحمة. حيث جروني إلى وسط المجمع وأنا أرفض ذلك معلناً ضعفي وعدم جدارتي، باكياً مبتهلاً إليهم ليتركوني وشأني ولكنهم وثبوا عليّ محاصرين إياي عنوة. حتى أنهم لم يترددوا أخيراً من أن يقوموا عن كراسيهم ويخرّوا راكعين أمام ضعفي، وإذ صعب الأمر عليّ كنت أصرخ قائلاً: إن الكهنوت ليس لضعيف وشقي مثلي، بل هو لسائر من ارتقوا إلى أوج الفضيلة، والكمال. (وهنا لم أستطع البقاء على عنادي). فلو مكثت في حال عدم الخضوع والطاعة، لوقعت في خطر العصيان أيضاً. لذلك ففي يوم الجمعة ساموني شماساً في دير العمود([144]) ويوم السبت ساموني قساً في دير مار زكا([145]). ويوم الأحد غرة شهر آب سنة 818م قلّدوني رئاسة الكهنوت العليا الكاملة، وذلك في كنيسة الرقة الكبرى، وجعلوني، كما ذكروا لي أيضاً، وارثاً شرعياً للكرسي (الرسولي الأنطاكي) أنا الذي لا أستحق حتى أن أحلّ سيور الأحذية»([146]).
وقد وضع عليه اليد([147]) ثاودوسيوس مطران الرقة.
أما ابراهيم فلما خاب سعيه وانقطع أمله، حنق متوحشاً وقال لأصدقائه الجبّيين: «تأمّلوا بما فعله الأساقفة، أنهم قد أقاموا عليهم رئيساً من الدير والبلد اللذين حذفا عبارة «لنكسر الخبز السماوي» ولذلك أناشدكم بكلمة اللّه، أن لا تواروا جسدي التراب عند موتي ما لم تقيموا عليكم رئيساً يخلفني، ولا تتصالحوا معهم البتة». وهكذا غادر ورفاقه على شقاق.
ولما انفضّت جلسات المجمع رحل البطريرك ديونيسيوس إلى قورس. فاجتمع القسس والشمامسة وأبناء الشعب هناك. ولما علموا أن البطريرك لا يمنع أن تقال عبارة: «لنكسر الخبز السماوي» عادوا إلى الاتّحاد معه. فحرمهم ابراهيم فرجعوا القهقرى وغادر البطريرك قورس، ورحل إلى أنطاكية ومنها إلى ما بين النهرين. ونزل بغداد وحصل على براءة من الخليفة (العباسي) وطلب إليه التكريتيون أن يعرّج عليهم ويعيّد عندهم. ولكن المفريان باسيليوس كتب إليه قائلاً: «ليس الوقت مناسباً لمجيئكم إلى تكريت…» لذلك ترك طريق تكريت والموصل وصعد في طريق الفرات إلى قرقيسياء ووصل إلى قرى الخابور ونصيبين ودارا وكفر توثا مدن ما بين النهرين (العليا) ومن هناك ذهب لتحية الأمير عثمان واستصدر منه أمراً ببناء هيكل دير قنسرين العجيب الذي كان قد احترق. وأخضع رهبان دير اوسيبونا من كورة أنطاكية الذين كانوا قبلاً تابعين لابراهيم. حينئذ ذهب ابراهيم إلى الرقة إلى الأمير عبداللّه بن طاهر (بن الحسين الخزاعي) وجاء أيضاً (إلى الأمير) البطريرك مار ديونيسيوس. وبعد مداولات بأمور كثيرة أمر الأمير حاجبه بأن يسأل المسيحيين الواقفين خارجاً من هو رئيسكم؟ وعندما خرج وسأل ألوف المسيحيين الواقفين أمام الباب صرخوا قائلين: ليس ابراهيم رئيساً علينا بل هو ليس مسيحياً. حينذاك حدّق الأمير بابراهيم بغضب وعنفه قائلاً له: «أراك رجلاً دجّالاً ومضلاً»، وأمر فنزعت عنه قبعته. وزجره الأمير ثانية قائلاً له: «لا أريد أن أسمع أنك تدعى بطريركاً منذ الآن. فاحذر، والأجدر بك أن تهتم بنفسك. فاصرف الرهبان الذين معكم ليذهبوا وشأنهم». وهكذا تفرّق ابراهيم ومن كان برفقته. ولكن إبليس لم يتركهم هادئين، حيث أنهم أرسلوا شمعون أخا ابراهيم إلى بغداد، ومعه كتاب (العهد) الذي كان علي بن أبي طالب (رضي اللّه عنه)… قد أعطاه لدير الجب الخارجي فلما رأى آل علي كتابة جدهم، دخلوا على الخليفة واستصدروا براءة (لابراهيم) ولما عاد شمعون (إلى الرقة) جمع الرهبان المتحزّبين (له ولأخيه)، وعندما أخبر البطريرك بذلك وكان يومذاك في أنطاكية، جاء هو أيضاً إلى الرقة، ودخل وإياهم إلى الأمير عبداللّه. ولما رأى الأمير البراءة فوجئ بالأمر ودهش. وأرسل إلى بغداد مبعوثاً خاصاً عاد بعد زهاء عشرين يوماً ومعه كتاب من المأمون يبطل فيه البراءة. حينذاك سلّم الأمير عبداللّه ابراهيم إلى يد البطريرك لينفذ فيه إرادته. فجرّده البطريرك نازعاً عنه قبعته ثم صرفه فذهب إلى قورس مثيراً الفتن. ولما بلغ الأمير ذلك استقدمه إليه مقيّداً كأنه لص، وجرّده من قبعته ثانية وذلك أمام القرويين التابعين له، لعله يخجل ويكفّ عن شره.
وفي سنة 825م انتقل الأمير عبداللّه إلى مصر وخلفه أخوه محمد، الذي خرّب الأبنية الجديدة في كنائس الرها، وهدم بيعة الأربعين شهيداً… فرحل البطريرك ديونيسيوس إلى مصر بحراً، وهبّت العواصف وارتفعت أمواج البحر ولم ينجُ إلاّ بشقّ الأنفس. ورست السفينة في ميناء مدينة تنيس([148]) وهي جزيرة واقعة في بحيرة تجمعت من مياه فيضان النيل والبحر الكبير([149]) وخرج مسيحيو المدينة لاستقباله وعددهم يناهز الثلاث ربوات([150]) وجاء إليه البطريرك يعقوب([151]) بابا الاسكندرية ومعه عدد من الأساقفة. وكانوا جميعهم مبتهجين بزيارته، وقالوا له أن مصر لم تحظَ بزيارة بطريرك أنطاكي منذ عهد مار سويريوس الكبير. يقول مار ديونيسيوس في تاريخه ما يلي: حينئذ أخبرناهم عن دخول البطريرك أثناسيوس المكنّى بالجمال([152]) (إلى مصر) والاتحاد الذي عقده مع أنسطس([153]) بعد الانشقاق الذي جرى على عهد بطرس([154]) ودميانوس([155]) (وأردف البطريرك ديونيسيوس قائلاً في تاريخه): ومن هنا علمنا أنهم لم يكونوا مهتمّين بدراسة الكتب فضعفت معرفتهم بالتاريخ.
وذهب البطريرك من هناك إلى محلّة الفرس، ودخل على الأمير طاهر، وبما أنه كان عزيزاً على الأمير كثيراً، لامه الأمير على ركوبه البحر قائلاً: «ما الذي اضطرك إلى القدوم إلى مصر، فقد كان بإمكانك أن تخبرني بكل ما تريد في رسالة». فدعا له البطريرك، وشكر له حسن صنيعه، وأخبره عن الشر الذي حصل في الرها. فكتب الأمير إلى أخيه (محمود) يعاتبه، ويأمره بأن يرفع يده عن الكنائس، وألاّ يقاوم البطريرك ويضايقه.
ثم استعطف البطريرك الأمير لأجل أهل تنيس الذين أرهقتهم الجزية فأخذوا يتشكّون حيث كان يؤخذ من كل واحد منهم غنياً كان أم فقيراً، خمسة دنانير([156]).
فأصدر الأمير أمره بأن يؤخذ من الغني ثمانية وأربعون درهماً([157])، ومن متوسط الحال أربعة وعشرون درهماً، ومن الفقير إثنا عشر درهماً.
كما إن ثاودوسيوس مطران الرها([158]) وهو شقيق البطريرك ومرافقه برحلته هذه إلى مصر تظلّم أيضاً لدى الأمير بالنيابة عن رعيته (فاستجاب الأمير طلبه وأنصفهم). وثاودوسيوس هذا هو الذي نقل من اليونانية إلى السريانية أشعار الثاولوغوس([159]) وذكره الربان أنطون الفصيح بالمقالة الخامسة والأخيرة من كتابه الفصاحة، ونعته بمحب العلوم، والعجيب، والمجتهد بمعرفة اللغات المختلفة. من هنا نعلم أن الربان أنطون التكريتي عاصر البطريرك مار ديونيسيوس التلمحري. كما روى لنا ملافنة عصرنا وشيوخه. ومن دواعي العجب أن البطريرك قد أهمل رجلاً فاضلاً كهذا فلم يذكره في تاريخه.
وعندما أتمّ البطريرك مهمته في مصر ونال مبتغاه، رجع إلى سورية ليأخذ قسطاً يسيراً من الراحة. ولكنه لم ينجح من حرب الآلام التي أثيرت ضده من أجل الكنيسة، ذلك أن نونا الأرخدياقون الفاضل الشهير قدم شكاوى عن الأعمال الممقوتة التي كان فيلكسينوس مطران نصيبين يقوم بها. فعقد أربعون مطراناً وأسقفاً مجمعاً في رأس العين([160]) وحرموا فيلكسينوس فقصد فيلكسينوس القوروسيين اولئك الذين كان هو نفسه، على عهد البطريرك قرياقس (817+) قد بدّد شملهم في بيت جبرين. فقصدهم الآن، واجتذب ابراهيم ورفاقه وأتى بهم إلى كنيسة نصيبين وعلى أثر ذلك انقسمت هذه الكنيسة إلى شطرين.
وفي هذا الزمان نشب خلاف بين اليهود من أجل رئيس الجالوت، حيث أن الطبريين أقاموا رجلاً اسمه داود، بينما البابليون أقاموا رجلاً آخر اسمه دانيال من أتباع بدعة (العنانيين) الذين ينقضون السبت ويحفظون يوم الأربعاء. وعندما رفعت دعواهم إلى الخليفة المأمون، قرر: أنه إذا ما رغب عشرة رجال من مذهب اليهود أو المسيحيين أو المجوس في أن يقيموا عليهم رئيساً (دينياً منهم) فلا مانع من ذلك.
ولأجل هذا القرار نزل البطريرك ديونيسيوس إلى بغداد، وقبل أن يقابل الخليفة، رفع إليه (السريان) البغداديون الشكوى ضد مطرانهم لعازر، فتباطأ (البطريرك) في النظر في دعواهم مؤجلاً ذلك إلى ما بعد زيارته تكريت لئلا يصير شعبنا هزءاً بين الشعوب الغريبة. ولكن البغداديين لم يصبروا بل أكّدوا عليه النظر في شكواهم ضد مطرانهم، واضطروا البطريرك إلى حرمانه فانقسمت الكنيسة في بغداد إلى فئتين. ورفع حزب لعازر الأمر إلى الخليفة، ضد البطريرك، لكن الخليفة المأمون الحكيم لم يشأ أن يحزن البطريرك وهو رجل رئيس (في قومه) وقد جاء من بلاد بعيدة ليقدم له آيات الإكرام ويحمل إليه الهدايا، لذلك أذن للبطريرك بعد مدة من الزمن أن يدخل على (المأمون) وسمح له وحده دون الأساقفة ومرافقيه كافة، بأن يقترب منه، وكان المأمون ممتطياً صهوة جواده يتنزّه في بستانه، فوجّه سؤاله إلى البطريرك قائلاً: ما شأنك ـ وكيف أحوالك؟ فدعا له البطريرك، وابتدأ كلامه بدعوى لعازر، موضحاً بأنه عندما حوكم قانونياً، وثبت جرمه، عزل فعصى الأمر قائلاً: لقد صدر لنا أمر، بأنه إذا اتفق عشرة منا فلهم الحق بأن يقيموا لهم رئيساً. فأجاب الخليفة قائلاً: أجل لقد أصدرت هذا الأمر لليهود اولاً، لأننا غير ملتزمين تجاهكم بإقامة رئيس عليكم. أجاب البطريرك: إن حكمتك تعرف جيداً الضمانات المعطاة لنا والعهود المعقودة بينكم وبيننا، عندما سلّم لكم آباؤنا أكثر المدن، وهذه العهود توجب على أن لا تبدّلوا شرائعنا. ومن الواضح أن لا تحفظ شريعة بدون رئيس لها. ومن شرائعنا هذه رئاستنا الكنسية. وبعد التداول بأمور أخرى، قال الخليفة للبطريرك… انصرف اليوم وعد إلينا ثانية في موعد آخر. وبعد عشرة أيام طلب البطريرك من لعازر السالك أمام الخليفة فذكّر الخليفة بوعده فقال المأمون ليأتِ البطريرك صباح اليوم التالي. كما دعا معه علماء الشريعة المسلمين الذين وجّه إليهم السؤال قائلاً: ماذا يتراءى لكم هل نحن ملتزمون بإقامة رؤساء (كنسيين) من المسيحيين، ما دامت السلطة سلطتنا؟ فأجاب هؤلاء: أنه لا يتوجب علينا سوى ألاّ نضطرهم إلى تغيير دينهم وعاداتهم. فطالما هم خاضعون لنا بأمانة، بإمكانهم أن يعيشوا في سكينة متنعّمين بالسلام الذي يوفره لهم جيشنا.
فاستأذن البطريرك الخليفة وبدأ كلامه قائلاً: «إن آباءك المرحومين أثبتوا لنا رئاستنا (الكنسية) ومنحونا براءة بذلك. وأنت نفسك أيضاً أصدرت لنا براءة مماثلة. (فنرجو) أن لا تسنّوا لنا الآن شريعة جديدة». حينئذ سأله الخليفة قائلاً: لماذا أنتم المسيحيين دون سائر المذاهب تستصعبون هذا الأمر؟ فأجاب البطريرك قائلاً: «إن اولئك أيضاً مغتاظون، ومع ذلك فإن رئاسة المجوس واليهود هي رئاسة جسدية تؤخذ بالوراثة، أما رئاستنا فهي روحية تتثبت بمخافة اللّه. والخسارة فيها ليست خسارة ذهب بل هي تصيب (كبد) إيماننا. ومن المعروف أن القصاص الذي نحكم به على المذنبين لا يكون بالضرب والقتل وخسارة الأموال، بل إن كان (المذنب) أسقفاً أو قسيساً ننزع منه درجته (الكهنوتية) وإن كان علمانياً([161]) نطرده من البيعة» فقال الخليفة منبّهاً: «لا مانع من جهتنا من أن تنزعوا عن الخاطئ درجته وكرامته نابذين إياه. ولكن لا نستحسن البتة أن تطردوه من البيعة. وتمنعوه من الصلاة. لأن على الخاطئ خاصة أن يصلي ويسأل اللّه غفران خطيته». وأمر الخليفة قاضياً اسمه اسحق([162]) قائلاً له: «افحص جيداً فيما إذا كان لعازر بعقيدته خاضعاً للبطريرك، فإذا كان كذلك، نفّذ أمر البطريرك فيه». وهكذا خرج البطريرك من مجلس الخليفة المأمون وقد أشاد بذكره الفقهاء لجرأته. وكان ذلك في شهر آذار من سنة 829م.
وفي تشرين الثاني من سنة 830م قام البطريرك برسامة أسقف بدلاً من لعازر ثم رحل إلى تكريت ومنها إلى الموصل. وفي غضون ذلك توفّي المفريان باسيليوس في دير عينقا بظاهر مدينة بلد فرسم البطريرك دانيال من دير بيرقوم([163]) مفرياناً ثم رحل إلى سورية في كانون الاول من السنة ذاتها.
وفي تلك السنة جاء الخليفة المأمون إلى كيسوم فخرج البطريرك للقائه هناك. ولكنه لم يدركه لأنه رحل سريعاً إلى دمشق، فلحق به البطريرك، وبوساطة لعازر، السالك أمام الخليفة، رحّب به الخليفة، وسرّ بهداياه. وأمر أن يرافقه إلى مصر، ليرسله سفيراً إلى المسيحيين القاطنين في القسم السفلي من النيل([164]) ليكفّوا عن تمرّدهم.
فذهب إليهم البطريرك ديونيسيوس (تلبية لرغبة الخليفة) ورافقه (الأنبا) يوسف بطريرك مصر([165]) وسعيا لمصالحتهم ولكن الوالي الأفشين([166]) رفض الصلح وأحرق قراهم وكرومهم وبساتينهم وقتل الكثيرين منهم وسجن الباقين وأرسلهم بمراكب إلى أنطاكية ومن هناك إلى بغداد فمات أغلبهم في الطريق. ورجع البطريرك إلى الخليفة المأمون يخبره بأن أهالي الوجه البحري مظلومون (تعدّى عليهم الأفشين). واستأذن الخليفة وسافر إلى دمشق.
ويخبرنا البطريرك (في تاريخه) أنه رأى البابا يوسف والأساقفة الأقباط المصريين، شعباً عفيفاً، متواضعاً غنياً بالمحبة الإلهية. ويقول أيضاً، لقد عظمنا في عيونهم بهذا المقدار بحيث أن كل امتيازات البابا (الاسكندري) وما يجب تقديمه له من آيات التكريم في ولايته قدّموها لنا طوال مدة إقامتنا بين ظهرانيهم. ولكننا وجدنا عندهم عادات لا تليق بفضيلتهم. من ذلك عدم تمرّسهم في دراسة الكتب المقدسة، فالرهبان خاصة كانوا مجرّدين من هذه النعمة، ولم يكن الطامعون بنيل الرتب الكنسية يهتمّون باقتناء المعرفة والحكمة. بل يحرصون على إعداد الذهب ذلك أن الفرد منهم لا يتمكّن من البلوغ إلى درجة رئاسة الكهنوت بأقل من مائتين أو ثلاثمائة دينار. وعندما لمناهم على ذلك تذرّع البابا بعذر قائلاً: «إن ثقل الجزية المفروضة على كنيسة الاسكندرية بلغت بنا إلى هذا الوضع المخالف للشريعة». كما أننا لمناهم لأنهم لا يعمّدون الأطفال الذكور قبل أن يبلغوا من العمر أربعين يوماً. ولا يعمّدون الإناث قبل أن يبلغن من العمر ثلاثين يوماً([167]) ولذلك فأطفال كثيرون يموتون دون عماد.
ويقول أيضاً مار ديونيسيوس، إننا شاهدنا المسلات في هليوبوليس([168]) عاصمة مصر التي كان فوطيفار حمو يوسف حبراً عليها. وقد قدت كل مسلة من حجر واحد فقط من الصخر الصلب أي الرخام، يبلغ ارتفاعها ستين ذراعاً([169]) وعرضها ست أذرع. مع العلم أن الأعمدة الموجودة في هليوبوليس الخارجية أي بعلبك، ارتفاع الواحد أربعون ذراعاً فقط. وفي أعلاها كخوذة الجنود صنعت من نحاس أبيض ووزن الواحدة ألف رطل([170])… ويقول البطريرك أيضاً: «إننا رأينا في مصر الأهرام التي يذكرها اللاهوتي غريغوريوس النزينزي (390+) بأشعاره، وهي ليست مخازن يوسف كما ظنّ بعضهم، ولكنها أبنية فخمة عجيبة شيدت فوق قبور الملوك القدامى، وهي ثابتة وقوية غير متزعزعة، وقد نظرنا عبر ثغرة فتحت خصيصاً في جانب أحدها، ورأينا أنه بعمق خمسين ذراعاً، مرصوف بالحجر، ومساحته خمسمائة ذراع من الأسفل، وارتفاعه خمسمائة ذراع بصورة مربّعة تنتهي بذراع واحدة من فوق بارتفاع مائتين وخمسين ذراعاً. أما مقياس حجر البناء فبعضها بطول خمس أذرع وبعضها عشر أذرع، وتظهر الأهرام عن بعد وكأنها جبال عظيمة.
وقال أيضاً أنه رأى بيتاً مبنياً على نهر في موضع، مجرى النهر فيه واحدٌ قبل أن يتفرّع إلى أربعة فروع، وكأن البيت بركة مربعة ينتصب في وسطها عمود من حجر مسطرة عليه الدرجات والمقاييس([171]) وعندما يفيض النهر في شهر أيلول وتدخل المياه داخل البيت، يأتي كل يوم المسؤولون الموكلة إليهم هذه المهمة، ويقرؤون مقياس الماء في ذلك العمود. فإذا بلغ أقل من أربع عشرة درجة، فإن جزءاً صغيراً من أرض مصر يشرب ماء فقط، ولا تزرع غلة ولا يجبى خراج في ذلك العام. وإذا بلغ مقياس الماء خمس عشرة أو ست عشرة يكون زرع الغلة وسطاً وكذلك جباية الخراج. وإذا صعد المقياس إلى سبع عشرة أو ثماني عشرة درجة تشرب مصر كلها وتزرع الغلة ويجبى الخراج كاملاً. وإذا فاض إلى عشرين درجة فإنه يحدث خراب عظيم ولا تكون غلة في تلك السنة.
في سنة 835م نزل البطريرك إلى تكريت ووضع حدّاً للنزاع القائم ما بين المتاويين والتكريتيين، وحدّد أن يذكر اسم مطران دير مار متى في كنيسة التكريتيين في الموصل مرتين فقط في السنة، في عيد الشعانين وفي (حفلة) تقديس الميرون. على أن تكون الاولوية، بعد ذكر اسم البطريرك الأنطاكي لمفريان تكريت في المشرق كله. وإن البطريرك انتخب توما ورسمه مفرياناً لتكريت خلفاً لدانيال الذي قد انتقل إلى جوار ربه. وعاد البطريرك إلى سورية، ثم رجع أيضاً إلى بغداد للسلام على الخليفة المعتصم الذي خلف أخاه([172]) المأمون. والتقى البطريرك هناك بابن ملك الحبشة الذي جاء إلى بغداد للسلام على الخليفة أيضاً.
وسنة 837م مات ابراهيم المشاق، واجتمع الأساقفة المشاقون وأقاموا أخاه شمعون خلفاً له. ووضع عليه اليد فيلكسينوس أسقف نصيبين المحروم وكان القورسيون يرغبون في اتباع البطريرك مار ديونيسيوس ولكنهم كانوا تابعين لشمعون مرغمين لتأثير أقربائهم فيهم. كما قد كتب عن السامريين، الذين كانوا يتّقون الرب ولكنهم يعبدون آلهتهم([173]).
وبهذا العصر انتابت المؤمنين في كل مكان محن مختلفة… ولذلك كتب البطريرك مار ديونيسيوس إلى إيوانيس أسقف دارا، الذي بناء على طلبه كتب البطريرك كتابه في التاريخ، قائلاً: «لا حاجة لي أن اوضح لحكمتك عن الضيقات التي اجتازها، فهي قاسية إلى درجة أنني أقضي ليلي دون أن تغمض لي عين، ونهاري دون أن آخذ فيه قسطاً من الراحة. هذا إلى محن أخرى، وعذاب القلق الذي يحرق القلب ويذوي الجسد، فالقلب السريع الاحساس والشعور هو سوس العظام. لذلك أبكي وانتحب على حياتي أنا الشقي، فإن خطاياي أفضت بي إلى أن أتجرّع هذه الكأس. وعندما أرى بعيني ما يقاسيه أبناء الكنيسة من ذل، وحزن، وضيقات تزداد يوماً بعد يوم، يكتئب لها قلبي ويشتد ألمي. فالموت هو المنقذ الوحيد للخلاص من هذه البلايا. لذلك أتوق إليه توقي إلى شيء جيد وصالح. هنا ختم هذا المغبوط (البطريرك ديونيسيوس) كتابه في التاريخ. وانتقل إلى جوار ربه في اليوم الثاني والعشرين من شهر آب سنة 845م ودفن في دير قنسرين، وقد خدم البطريركية سبعاً وعشرين سنة ورسم مائة أسقف.
البطريرك يوحنا ابن المعدني)*( (1263+)
ولد في أواخر القرن الثاني عشر، درس وترهّب ورسم كاهناً في أحد أديار ملاطية، وسنة 1230 رسمه البطريرك إغناطيوس داود (1252+) مطراناً لماردين باسم يوحنا. ورسم مفرياناً على تكريت والمشرق سنة 1232.
من أخباره أن أهل أبرشية الموصل ونينوى لم يتلقوه بادئ بدء بترحاب، لأنه لم يكن كسلفه، الشهيد المفريان ديونيسيوس الثاني، جميل الصورة، فصيح اللسان، بل كان الجدري قد ترك في وجنتيه أخاديد داكنة السواد، وكانت لغته العربية ركيكة.
ومكث المفريان في أبرشية الموصل ونينوى نحو خمس سنوات. ثم رحل إلى بغداد سنة 1237 فرحّب به المؤمنون هناك إذ عرفوا فضله وفضيلته، وجلده على الدرس والتنقيب وملازمته قلايته.
وكان في بغداد آنذاك الإخوة الثلاثة الأشراف شمس الدولة وتاج الدولة وفخر الدولة أبناء توما الذين كانوا مقربين لدى الخليفة العباسي المستنصر باللّه (1226 ـ 1242) ومتولين إدارة بلاطه. فكرّموا المفريان يوحنا كثيراً، وبوساطتهم نال حظوة لدى الخليفة ورجال الدولة.
وكانت بغداد تزهو بمدرستها المستنصرية التي تعتبر مركز إشعاع فكري في الشرق يومئذ، فاهتمّ المفريان يوحنا بدراسة اللغة العربية وآدابها على أحد أفاضل علماء المسلمين فسبر غورها وتعمق بها وملك ناصيتها، مما رفع منزلته كثيراً لدى الخليفة العباسي وكبار رجالات دولته.
أما أهل أبرشية الموصل ونينوى فإذ رأوا المكانة المرموقة التي احتلها المفريان في قلوب الناس في بغداد، ندموا على ما صدر منهم ضده، والتمسوا بدرالدين لؤلؤ صاحب الموصل (1233 ـ 1258) فأنفذ رسالة إلى المفريان على يد ابي الحسن ابن الشماع رئيس دير مار متى يسأله فيها العودة إلى الموصل.
فكتب المفريان إلى بدر الدين لؤلؤ جواباً لرسالته شاكراً وقائلاً: «إنه قد نذر الحج إلى القدس. وأنه قاصد السفر بعد مدة يسيرة فإذا أتمّ هذا الغرض القدسي سيعود إلى الموصل لأداء واجب الأدعية والتوقير له».
وهكذا كان إذ شدّ المفريان الرحال إلى القدس وعرَّج بطريقه إلى أنطاكية حيث التقى بالبطريرك ثم عاد سنة 1244 إلى الموصل وكان بدر الدين لؤلؤ في مقدمة مستقبليه فتلقّاه والشعب كله بحفاوة واحترام.
وسنة 1252 على أثر انتقال البطريرك إغناطيوس داود إلى جوار ربه، طمح المترجم إلى التربع على الكرسي البطريركي فرسم في 4 كانون الأول سنة 1252 بطريركاً في كنيسة حلب، واستحصل على براءة من الملك الناصر بدمشق. وانفرد بالبطريركية مدة سنتين بعد وفاة ديونيسيوس السابع، ودبّر الكنيسة باجتهاد، ووافته المنية سنة 1263 في سيس بقيليقية. ورثاه المفريان يوحنا ابن العبري بقصيدة عصماء.
وترك مؤلفات قيّمة منها (نافورا) ليتورجية سريانية جمعها من ليتورجيات الآباء وخطب دينية سريانية وعربية، وقوانين كنسية وديوان شعر سرياني يدل على براعته بهذا الفن.
ومن ما يدل على تعمق المترجم في علم اللاهوت ننشر فيما يأتي صورة إيمانه التي كتبها كما قيل عند اجتماعه بالمدعو أفري أفندي الإفرنجي ورفاقه ودونك نصها)*(:
«أقول وأنا يوحنا الضايل أي الضعيف فاطريرك الملة السريانية بأنطاكية الشام بأن اعتقادي وإيماني بالرب يشوع المسيح كلمة اللّه الأزلية إقنوم الابن الأزلي المولود من الآب قبل كل الدهور والأحقاب أنه تنازل من قلة سمائه بمشيئته وإيثار أبيه وروحه، ولم يرتحل عن سدة ربوبيته وحلّ بذاته في مريم العذراء أمته، واتخذ منها جسماً بشرياً ذا نفس ناطقة عالمة، واتحد بوساطة النفس المذكورة اتحاداً حقيقياً غير مجازي. ولسنا نقول أنه تكوّن إنساناً أولاً ثم حلّ فيه اللاهوت، لكن ما ظهر إلى الوجود جزء من البشرية المشار إليها إلاّ واللاهوت متحداً به بغير امتزاج ولا اختلاط ولا فساد، بل اتحاداً باقياً دائماً سرمدياً لا يغيره ولا يعتريه افتراق ولا انفصال. ولهدا نعتقد أنه اللّه متجسد ابن واحد مولود من الآب ولادة أزلية. ومن مريم البتول أخيراً ولادة زمنية. أقنوم واحد جوهر واحد من جوهرين. وما نقول أن اللاهوت استحال إلى الناسوت، والناسوت إلى اللاهوت. ولا أنه تألف من هذين الجوهرين جوهر ثالث. بل هو واحد بقانون الاتحاد الإلهي الغير عرضي. مع أنه وإن كان الاتحاد سلب الاثنينية والعدد، فإنما إذ له طبيعتان وأوصافهما ثابتة فيه تُعرف بالوهم والعقل فقط. وليست تُسند الآيات المبهرة إلى لاهوته مجردة من البشرية، ولا تُنسب الطبيعيات إلى بشريته مجردة من اللاهوت وإنما نقول صنع المعجزات بالقوة الإلهية، وباشر الالام والموت الاختياري بالطبيعة البشرية. وهو واحد فقط ابن اللّه وابن البشر. ونقول أنه لما قبل الآلام والصلب والموت بمشيئته لأجل خلاص بريته لم تفارق لاهوته ناسوته ولا لنفسه المفارقة بدنها في حال الموت. لكن لم يزل متحداً بالبدن الموضوع لقبول الآلام وبالنفس المفارقة من غير أن يعتريها ألم. لأن الجوهر الإلهي جلّ عن قبول الأعراض والآلام. ولما كان كل أقنوم من الأقانيم الثلثة يسمّى لمجرده إلاه وجوهر، وثبت أن الابن هو أحد هذه الأقانيم الثلاثة ويسمى جوهر وإلاه، لزمنا الأمر في هذا القانون أن نسمّي البتول أمه والدة اللّه. فإن قال قائل إن اسم اللّه هو مشاع بين الأقانيم فربما تعدى القول إلى غير إقنوم الابن وإلى الثلاثة معاً، قلنا له: هذا الاسم هو مشاع دون التعريف وخاص بوجود التعريف، لأن كل أقنوم من هذه الأقانيم المقدسة تجرد بمفرده بوصف يختص به دون غيره وذلك أن الآب اختص بالأبوة دون الابن والروح. والابن بالبنوة دون الآب والروح. والروح بالانبثاق دون الآب والابن. فإذا سمّينا الآب اللّه وعرفناه بالأبوة لم يلزم أن يتعدى الاسم إلى الابن والروح. وإذا سمّينا الابن اللّه وخصصناه بالبنوة لم يلزم أن يتعدى القول إلى الاب والروح وكذلك يجري الأمر في روح القدس. فقولنا مريم البتول والدة اللّه هو عبارة عن الابن فقط، وتخصيص الاسم يُعرف بوصف الولادة، والولادة دالة على المولود. فلا يلزم أن يتعدى القول إلى غيره. ولو قال لنا قائلٌ لمَ لا دعيتموها والدة المسيح. قلنا له: هذا مشتق من المساحة ومن الدهانة، ويحتاج لما تفسير يطول شرحه ويخرج عن صيغة الاسم وربما ظن الجاهل أن المسمى هو داود أو شاول ومن يشاكلهما ممن سبق إلى هذا الاسم. مع أنه لو كان اسماً مشتقاً من اللاهوتية والناسوتية لكنّا اقتصرنا في حقيقة النسب عليه. وإنما هو بخلاف ذلك. وإذ كان المولود من البتول هو بالحقيقة إلاه سميناها والدة اللّه. ونحن في ذلك مقتفين أثر السليحيين (الرسل) والآباء القديسين وهذا ما أعتقده وأراه بلا زيف».
المصادر:
1 ـ اللؤلؤ المنثور للبطريرك أفرام الأول برصوم ص 409 ـ 410 ـ الطبعة الثالثة ـ بغداد 1976.
2 ـ تاريخ البطاركة بالسريانية ـ مخطوط لابن العبري.
3 ـ مجلة الحكمة ص 145 ـ 151 ـ القدس 1927 ـ ترجمة يوحنا بن المعدني بقلم الراهب يوحنا دولباني (مطران ماردين بعدئذ).
4 ـ ذخيرة الأذهان للقس بطرس نصر الكلداني ـ المجلد الثاني ـ ص 56 ـ 58.
5 ـ تاريخ مختصر الدول بالعربية لابن العبري.
6 ـ تاريخ المفارنة ـ مخطوط بالسريانية لابن العبري.
7 ـ رسالة البرهان والإرشاد للقس صليبا الموصلي.
ابـن الـعـبـري مـفـريـان الـمـشـرق )*( (1226 ـ 1286)
- تمهيد:
يعد ابن العبري فارس كتبة السريانية الذي لا يجارى، وأشهر علمائها على الإطلاق. فاز لنبوغه وعبقريته بإعجاب المهتمّين بالدراسات السريانية من شرقيين ومستشرقين، فلقبه بعضهم بدائرة معارف القرن الثالث عشر للميلاد([174]) . ولا غرو من ذلك فقد تبحّر ابن العبري في علوم الكتاب المقدس، واللاهوت، والمنطق، والفلسفة، والطب، والهيئة، والفلك، والتاريخ، والشرع البيعي، والبيان والنحو والشعر. ودبّجت يراعته في هذه العلوم وغيرها ستة وثلاثين كتاباً تعدّ جميعها في القمة مقاماً وأهمية. كما أتقن اللغات السريانية التي ألّف بها أغلب مصنفاته، والعربية التي وضع بها كتابه (تاريخ مختصر الدول) وغيره، واليونانية التي نقل عنها بعض ما كتب وصنّف. وقد أجاد النثر في هذه اللغات وكتب الشعر البديع بالسريانية خاصة وتعمّق بنحوها جميعاً وصرفها وبيانها وبديعها. كما ألمّ بالفارسية والأرمنية. فهو حقاً فريد زمانه ووحيد دهره.
ويمتاز ابن العبري بمزجه الفكر العربي الصوفي بالفكر السرياني النسكي، ويظهر ذلك واضحاً في كتابيه (الايثقون) و(الحمامة) بالمقارنة بكتاب العلامة الشهير أبي حامد الغزالي (1058ـ1111م) (إحياء علوم الدين). فبين هذه الكتب علاقة أدبية قوية لا سيما في موضوع تنظيم الحياة الأدبية والروحية للإنسان، وفلسفة التصوّف.
- مراجع ترجمته:
تناول أدباء السريانية وبعض المؤرّخين القدامى والمعاصرين ترجمة ابن العبري بالدرس، وبذل بعضهم جهداً كبيراً في ذلك يستحقون عليه الثناء العطر. أما الينبوع الرئيس الذي نستقي منه الحقائق الناصعة في هذا الميدان فهو ما كتبه ابن العبري عن نفسه في تاريخه الكنسي وكتابه (الحمامة) وقصائده السريانية، وتكملة ترجمته بقلم أخيه (الصفا)، وسيرته المنظومة بالسريانية بقلم تلميذه المطران جبرائيل البرطلي، وبتناولنا ترجمته بالتفصيل، لا بد أن نستعرض باختصار أحداثاً تاريخية كنسية ومدنية ذات علاقة بحياته.
- ولادته وأسماؤه:
هو مار غريغوريوس يوحنا، أبو الفرج، جمال الدين، المعروف بابن العبري.
ولد في ملطية([175]). قاعدة أرمينيا الصغرى سنة 1226م من أبوين مسيحيين، وسمي بالمعمودية يوحنا. وكان أبوه تاج الدين هرون بن توما طبيباً ماهراً، وشماساً، ذا مكانة اجتماعية مرموقة في بلدته وكنيسته.
توهّم بعضهم بأن هرون أبا ابن العبري كان من أصل يهودي وتنصّر ومن هنا جاءت نسبة المترجم بالسريانية بر عبريا (بار عبرويو) وبالعربية (ابن العبري) وأن ابن العبري كان متزوجاً، له ابن اسمه فرج، ولذلك لقّب بـ (أبي الفرج)([176]). وقد دحض ابن العبري هذه التهمة ببيت شعر قاله بالسريانية عن نفسه وهو:
ܐܢܗܘ ܕܡܪܢ ܩܢܘܡܗ ܟܰܢܝ ܠܡ ܫܡܪܝܐ
ܠܐ ܬܨܛܡܥܪ ܐܢ ܢܩܪܘܢܟ ܒܪ ܥܒܪܝܐ
ܦܪܳܬܝܐ ܗܘ ܓܝܪ ܗܢ ܫܘܡܗܐ ܐܦ ܢܗܪܝܐ
ܠܐ ܕܬܘܕܝܬܐ ܡܘܡܬܢܝܬܐ ܘܠܐ ܣܦܪܝܐ([177])
وتعريبه: «إذا كان سيدنا (المسيح) سمى نفسه سامرياً، فلا تخجلن إذا دعوك ابن العبري، فإن هذه التسمية صادرة عن نهر الفرات لا عن عقيدة معيبة ولا عن لغة».
من هنا نعلم أن تسميته بابن العبري جاءت لا لكونه من أصل يهودي أو تكلمه بلغة عبرية، بل لأنه ولد في أثناء عبور نهر الفرات([178]). أو لأصل عائلته من قرية (عبرة)([179]) الواقعة على نهر الفرات بالقرب من ملطية التي جلا إليها جده.
أما اسم (هرون) الذي دعي به أبوه، فقد استعمله المسيحيون والمسلمون معاً كما استعملوا اسم موسى مثلاً. وهو لا يدل على انتمائهم إلى الدين اليهودي أبداً. فمن المسلمين نذكر الخليفة هرون الرشيد، ومن المسيحيين نذكر على سبيل المثال لا الحصر البطريرك ديونيسيوس هرون عنجور (ت1280م) والبطريرك يوحنا هرون بن المعدني (ت 1264م).
أما كنيته (أبو الفرج) فلا تدل على أنه كان متزوجاً أو كان له ابن اسمه فرج([180]). فمن الثابت أن ابن العبري كان متبتلاً، وأن أمثال هذه الألقاب والأسماء والتكني (بابن فلان وبأبي فلان) اقتبسها السريان من العرب الذين يستعملونها كثيراً.
- نشأته:
نشأ ابن العبري في بيت رفيع العماد تتضوع في جوانبه رائحة العلم والفضيلة، وشغف باكتساب المعرفة ومحبة الخير. ولقّنه أبوه الطبيب مبادئ الطب، وسلّمه إلى أمهر الأساتذة، فأتقن على يدهم اللغات الثلاث: السريانية والعربية واليونانية، كتابة وخطابة وهو لمّا يزل شاباً يافعاً غض الإهاب. ثم درس الأرمنية والفارسية وتعمق بالعلوم الدينية والمدنية المعروفة عصرئذ([181]).
- هجرته إلى أنطاكية:
وفي سنة 1243م رحل ابن العبري برفقة أبيه هرون وأسرته إلى مدينة أنطاكية سورية([182])، على أثر الغارات التي شنّتها جيوش هولاكو على مدينة ملطية. وأخذ ابن العبري عن علماء أنطاكية الشيء الكثير من العلوم والمعارف.
- نسكه:
وفي سنة 1244م قصد ديراً بجوار أنطاكية حيث تنسّك في مغارة بقربه منكبّاً على أعمال الزهد والتقشّف واكتساب العلم الروحي والفضيلة، فذاع صيته في الأصقاع وزاره في مغارته البطريرك إغناطيوس الثالث داود (ت 1252م). ونظم ابن العبري بالسريانية بيت شعر يصف به هذه الزيارة وهو:
ܐܒܐ ܕܓܘܐ ܒܬܒܝܪܘܬ ܠܒܝ ܐܬܡܠܝ ܣܡܟܢܝ
ܘܠܘܬܝ ܟܕ ܥܠ ܢܘܗܪܗ ܐܙܠܓ ܒܐܣ̈ܝ ܡܫܟܢܝ
ܗܢܐ ܟܠܗ ܛܝܒܘ ܡܢܗ ܠܝ ܐܫܬܟ
ܕܡܢ ܬܚܡܨܬܐ ܩܕܡܝ ܥܕ ܗܫ ܪܝܫ ܗܐ ܡܪܟܢ([183])
وتعريبه: زارني البطريرك أمس فأضاءت جوانب منسكي متلألئة بوجوده، وعضدني وأنا في غمرة اتضاعي لذلك فإن رأسي لا يزال حتى الآن مطأطئاً حياءً للنعمة الفائقة التي غمرني بها.
ولعل ما صادفه ابن العبري من المصاعب والمتاعب، والكوارث الناجمة عن غزوات المغول، زهّده بالدنيا فترفّع عن المادة حتى أنه لم يأخذ درهماً بيده طوال أيام حياته، وأحبّ حياة التصوف، وعلى الرغم من تبوُّئِه مركزاً دينياً رفيعاً في الكنيسة، ظل يتذوّق حلاوة الاختلاء بالله فوصفها في كتابه (الحمامة) ([184]) وصف خبير متمرّس.
- أسقفيته:
بعد أن قضى ابن العبري سنة كاملة متعبّداً في مغارته في أنطاكية، غادر الدير سنة 1245م وجاء إلى طرابلس الشام حيث أكمل دراسته على يعقوب الأستاذ النسطوري، والتقى هناك بصليبا بن يعقوب من أبناء الكنيسة السريانية الأرثوذكسية في الرها الذي كان مثله يدرس علوم الطب والبيان والمنطق على يد الأستاذ يعقوب. وبلغ البطريرك إغناطيوس الثالث داود (ت 1252م) خبر تقدم الطالبين النجيبين بالعلم والمعرفة فاستدعاهما إلى أنطاكية ورسمهما كاهنين ثم أسقفين في 14 أيلول 1246م وعين صليبا على أبرشية عكا وسمّاه مار باسيليوس ولكنه لم يدخلها ونقل إلى أبرشية حلب. وعيّن يوحنا ابن العبري على أبرشية جوباس من أعمال ملطية وسمّاه مار غريغوريوس، ولم يكن قد تجاوز العشرين من عمره. قال ابن العبري في ذلك ما يأتي: «ولما بلغت العشرين من عمري اضطرني البطريرك المعاصر إلى أن أتقلّد رئاسة الكهنوت، حينئذ ألجأتني الضرورة إلى أن أجادل ذوي المعتقدات المخالفة من مسيحيين وغرباء، مجادلات مبنية على القياس المنطقي والاعتراضات. وبعد دراستي هذا الموضوع مدة كافية وتأملي فيه ملياً تأكّد لدي أن خصام المسيحيين بعضهم مع بعض لا يستند إلى حقيقة بل إلى ألفاظ واصطلاحات فقط… لذلك استأصلت البغضة من أعماق قلبي وأهملت الجدال العقائدي مع الناس»([185]).
ويعترف ابن العبري بضعفه أمام الشكوك التي ساورته روحياً وأحجم عن ذكر نوعها وتفصيلها لئلا يصير ذلك سبب عثرة للبسطاء، ولكنه ينوّه بجانب منها فيقول: «واجتهدت على أن أدرك فحوى حكمة اليونان، أي المنطق والطبيعيات والإلهيات والحساب والآداب وعلم الفلك، وحركات الكواكب… ولم أجد ضالتي المنشودة في العلوم الخاصة والعامة كافة. فقد أوشكت أن أهلك هلاكاً تاماً حيث اصطادتني فخاخ هذه العلوم وكأنها قد رصدتني وانني أمسكت عن ذكر ذلك وإيضاحه لئلا يضرّ بكثير من الضعفاء. والخلاصة أنه لو لم يعضد الرب ضعف إيماني في الأزمنة الخطرة ولو لم يرشدني إلى التأمل في كتب العلماء كالأب أوغريس وغيره من المغاربة والمشارقة وينتشلني من هوة الهلاك والدمار، لكنت قد يئست من الحياة الروحية لا الجسدية. فقد درست تلك الكتب في غضون سبع سنين»، ويتابع قوله بوصف حالته في شكوكه: «وكان ضميري يؤنبني أحياناً وهو يخاطبني بقوله: لا تهذِ ولا تظن أن كل ما لا تعرفه ليس بموجود، لأن ما تعرفه هو أقل بكثير مما لا تعرفه. وكنت بشكوكي هذه أعرِّج على الجانبين حتى أشرقت علي كالبرق أشعة نور خاطف لا يوصف، فتناثر جزء من القشور التي كانت متلبّدة على عينيَّ فانفتحتا. وأبصرت قليلاً، وكنت أصلي بلا فتور ليتداعى كلياً السياج القائم في الوسط لأرى المحبوب غير المنظور لا بالظلام بل علناً».
وحفر في أعلى عصا الرعاية التي يمسك بها الأسقف عادة بيتاً من الشعر السرياني يناجي به ربه قائلاً:
ܚܘܒܟ ܢܓܕܢܝ ܠܡܟܗܢܘ ܠܟ ܥܙܝܙܐ
ܕܒܚ̈ܐ ܫܰܠܡ̈ܐ ܠܐ ܬܪܦܝܢܝ ܡܪܝ ܐܗܘܐ ܒܙܝܙܐ
ܒܓܘܕܐ ܕܟܗܢܝ̈ܟ ܛܟܣܝܢܝ ܡܪܝ ܘܐܗܘܐ ܚܪܝܙܐ
ܘܒܟ ܐܬܦܨܐ ܡܪܝܐ ܡܢܗ ܕܗܘ ܬܰܙܝܙܐ([186])
وتعريب ذلك: «اللهم أيها القوي إن حبك جذبني لأقدم لك الذبائح التامة. فلا تهملني لئلا يزدرى بي، ضمّني إلى جوقة كهنتك فانتظم في صفهم وأنجو بوساطتك يا رب من إبليس المارد».
وبعد سنة من رسامته أي في سنة 1247م نقل ابن العبري إلى أبرشية لاقبين من أعمال جوباس فدبّرها مدة خمس سنوات.
وفي سنة 1252م انتقل البطريرك اغناطيوس الثالث داود إلى جوار ربه، واختلف آباء الكنيسة في انتخاب من يخلفه في البطريركية فوقع اختيار بعضهم على ديونيسيوس هرون عنجور مطران ملطية. أما الآخرون فعلى المفريان يوحنا هرون ابن المعدني، ويذكر التاريخ أن ابن العبري وقف إلى جانب ديونيسيوس عنجور، ولعل ذلك لأنه كان مطران ملطية وصديقاً للشماس هرون والد ابن العبري. وتظهر لنا أطوار عنجور الغريبة من بيت شعر سرياني نظمه ابن العبري في هجائه قائلاً:
ܕܐܗܘܐ ܪܚܡܟ ܐܘ ܒܪ ܐ̱ܪܙܟ ܢܝܫܐ ܠܝܬ ܠܝ
ܕܓܢܬܐ ܕܡܘܥܝܐ ܟܠ ܝܘܡ ܪܝܫܐ ܚܕܬܐ ܠܝܬ ܠܝ
ܗܐ ܢܝܫ̈ܢܐ ܐܝܬ ܠܟ ܘܐܢܐ ܢܝܫܐ ܠܝܬ ܠܝ
ܘܡܛܠܗܕܐ ܒܕܡܘܬ ܫܥܝܐ ܟܘܫܐ ܠܝܬ ܠܝ
ܐܢܬ ܗܘ ܐܝܢܐ ܕܡܢ ܡܚܒ̈ܢܐ ܥܓܠ ܣܒܥ ܐܢܬ
ܘܠܚܫ̈ܢܐ ܘܐܟ̈ܠܝ ܩܖ̈ܨܐ ܥܓܠ ܫܡܥ ܐܢܬ
ܠܡܘܢ ܠܣܝܓܐ ܕܚܘܒܝ ܫܪܝܪܐ ܥܓܠ ܬܪܥ ܐܢܬ
ܕܐܢܐ ܐܝܬܝ ܗܘ ܕܥܕܟܝܠ ܠܐ ܝܕܥ ܐܢܬ([187])
وتعريب ذلك: «لم يخطر ببالي قط أن أتخذك صديقاً أو نديماً لأنني لا أمتلك جنينة تنبت كل يوم رأساً جديداً. فأنت ذو أغراض، أما أنا فليس لي غرض، ولا استقرار لي (معك) وكأني في لعب، أنت يا هذا تمل من الأحباء سريعاً، وتسمع (مصدقاً) بسرعة المغرضين والثلابين. لماذا بسهولة تنقض سياج محبتي الصادقة؟ فأنا من لم تعرفه بعد».
في سنة 1253م رقّى البطريرك ابن المعدني باسيليوس صليبا بن يعقوب وجيه أسقف حلب إلى رتبة المفريانية([188]) وسمّاه إغناطيوس. وجاء هذا إلى الموصل محملاً بالهدايا الثمينة، فقوبل بإكرام من بدر الدين لؤلؤ واليها، الذي خلع عليه حلة، وأعجب بلباقته وعلمه الواسع، فقد كان يجيد العربية وصناعة الطب والعلوم الفلسفية، كما كان رخيم الصوت جميل الصورة. ولكنه كان ضعيفاً في العلوم الدينية. وصعد إلى دير مار متى ليحتفل بتجليسه على كرسي المفريانية بحسب العادة المتبعة يومذاك، فاستقبله الرهبان برئاسة أبي الحسن بن شماع بخشونة بلغت درجة الوقاحة، الأمر الذي امتعض منه المفريان، وغادر الدير متفقداً الكنائس، فأحبه أغلب الشعب. ولكن لكثرة الشغب والفتن غادر بلاد المشرق بعد سنة ونصف راجعاً إلى حلب. وكان على كرسيها زميله في الدراسة في طرابلس المطران غريغوريوس يوحنا ابن العبري الذي نقل إلى كرسيها سنة 1253م بأمر ديونيسيوس عنجور على أثر خلوه برسامة صليبا مفرياناً. أما المفريان صليبا فاستأجر داراً خارج الكنيسة وأخذ يتعاطى الطب. وبعد سنة ذهب إلى دمشق، وبالرشوة استحصل على أمر من سلطانها يخوّله الاستيلاء على كرسي حلب وإبطال ولاية ديونيسيوس عنجور على كنائس سورية. فآثر ابن العبري اعتزال العمل الإداري اجتناباً للخصام وعاد إلى ملطية وخلا في دير مار برصوم لدى البطريرك ديونيسيوس عنجور، وبعد سنة ذهب إلى دمشق برفقة سفراء من التتر ونال من الملك الناصر تأييداً لديونيسيوس عنجور، فجاء هذا إلى حلب وتبوّأ كرسيها فغادرها المفريان اغناطيوس صليبا إلى طرابلس، وبعد مدة مرض مرضاً عضالاً وانتقل إلى جوار ربه يوم الأربعاء 12 حزيران سنة 1258م([189]) ورثاه ابن العبري خدينه في الدروس الطبية والفلسفية بقصيدة سريانية عصماء جاء في مطلعها:
ܕܫܢܝܬ ܚܒܝܒܝ ܚܫܟܐ ܠܥܠܡܐ ܗܘ ܡܬܚܘܐ
ܣܗܪܐ ܕܐܚ̈ܐ ܐ̱ܡܪ ܠܝ ܕܢܚܟ ܐܡܬܝ ܗܳܘܐ
ܕܠܟ ܡܥܒܪܬܐ ܒܚܳܙܝ̈ܬܝ ܐܥܒܪ ܐܝܟ ܕܒܟܘ̈ܐ
ܘܡܐܢ̈ܐ ܕܒܣܪܐ ܐܦܝ̈ ܒܐܘܪܚܟ ܠܟ ܐܶܫܰܘܶܐ([190])
وتعريب ذلك: «خيّم الظلام على العالم بانتقالك منه يا حبيبي يا قمر الإخوان قل لي متى يكون موعد ظهورك!؟ لأجعل لك بناظري جسراً (فأراك) كما من وراء النوافذ وكأعضاء للجسد أعد لك وجهي طريقاً».
ولما اغتيل البطريرك عنجور في شهر شباط من سنة 1261م قال فيه ابن العبري البيت السرياني الآتي:
ܗܐ ܗܘ ܐܝܢܐ ܕܩܛܠ ܐܠܦܐ ܒܥܘܡܪܐ ܘܦܝܠܐ
ܒܩܕܘܫܩܘ̈ܕܫܝܢ ܗܝ ܟܘܬܝܢܗ ܒܕܡܗ ܦܝܠܐ
ܕܚܠܨ ܥܕܬܐ ܡܢ ܩܢܕ̈ܝܠܐ ܘܟܣ ܘܦܝܠܳܐ
ܒܗܝܟܠ ܩܘܕܫܐ ܟܕ ܡܬܗܕܡ ܓܥܐ ܐܝܟ ܦܝܠܐ([191])
وتعريبه: «هوذا من قتل في الدير ألف شخص وفيلاً، لطخ ثوبه في قدس الأقداس بدمه. إن من سلب الكنيسة قناديلها وكؤوسها وصوانيها، يستغيث كفيل وهو يقطع في قدس الأقداس إرباً إرباً».
وبعد موت عنجور أجمعت الآراء على البطريرك يوحنا هرون ابن المعدني، وقدّم له ابن العبري آيات الولاء وواجب الطاعة، فسرّ به ابن المعدني كثيراً وفكّر في ترقيته إلى منصب المفريانية، ولكن المنية حالت دون ذلك، فقد انتقل ابن المعدني إلى جوار ربه سنة 1263م، ورثاه ابن العبري بقصيدة بليغة جاء في مطلعها:
ܠܡܘܢ ܐܟܪܝܬܢܝ ܗܢܐ ܟܠܗ ܡܠܐܟ ܡܘܬܐ
ܘܕܠܐ ܖ̈ܚܡܐ ܦܪܥܬܢܝ ܗܕܐ ܟܠܗ̇ ܒܝܫܬܐ
ܠܫܡܫܐ ܕܙܒܢܐ ܘܠܢܗܝܪܐ ܘܣܳܡܟܐ ܕܥܕܬܐ
ܠܪܝܫܐ ܕܢܦܫܐ ܘܢܦܩܐ ܕܪܘܚܐ ܘܪܘܚܐ ܬܪܝܨܬܐ([192])
وتعريبه: «لما أحزنتني إلى درجة كهذه يا ملاك الموت، وبدون رحمة أصبتني بهذا الشر (فأخذت) شمس الزمان المنير وسند البيعة وراس النفس ونفس الروح والروح المستقيمة؟!».
وقضى ابن العبري اثنتي عشرة سنة في تدبير أبرشية حلب، وأسس بالقرب من كنيستها فندقاً كمستشفى للمرضى، ومأوى للغرباء، ولقي شدائد كثيرة، وظروفاً صعبة بسبب الحروب المتتالية والاضطرابات السياسية إبّان الغزو المغولي، وكان ذلك الرجل الحازم المملوء حكمة وتواضعاً.
ففي سنة 1258م احتلّ المغول بقيادة هولاكو مدينة بغداد وانقرضت دولة العباسيين وسادت الفوضى جميع بلاد العراق وسورية، وعاث جيش هولاكو فساداً. وعند وصولهم إلى حلب خرج ابن العبري للقاء هولاكو يستعطفه على رعيته من ظلم المغول، وأنشد أمامه بالسريانية بيت شعر نقله عن الفارسية وهو:
ܐܝܟ ܨܝܕ ܐܣܝܐ ܠܘܬܟ ܐܢܐ ܡܪܥܐ ܐܬܝܬ
ܐܘ ܡܠܟ ܡܠܟ̈ܐ ܕܐܩܢܐ ܚܝ̈ܐ ܠܐܘܪܥܟ ܐܬܝܬ
ܕܐܩܛܘܦ ܦܐܖ̈ܐ ܚܘܠܡܢܝ̈ܐ ܕܙܪܥܟ ܐܬܝܬ
ܘܐܠܐ ܒܐܝܕܐ ܟܝ ܬܐܓܘܪܬܐ ܠܐܪܥܟ ܐܬܝܬ([193])
وتعريبه: «يا ملك الملوك، لقد قصدتك كما يقصد المريض الطبيب، وخرجت للقائك لأنال حياة وأجتني ثمار زرعك التي تشفي العليل، وإلاّ فلأي تجارة أخرى وطئت أرضك؟».
ولم تجد شفاعة ابن العبري بشعبه نفعاً، فقد سبق السيف العذل، وقتل المغول العديد من السريان والروم وغيرهم في حلب، وكان عدد الذين قتلوا في حلب لا يقل عمن قتل في بغداد([194]).
- مفريانيته:
ولما تبوّأ الكرسي البطريركي إغناطيوس الرابع يشوع (ت 1283م) خلفاً لابن المعدني سنة 1264م أجمع أساقفة المجمع الأنطاكي على انتخاب ابن العبري مفرياناً على المشرق بعد خلو هذا الكرسي مدة ست سنوات على أثر وفاة المفريان إغناطيوس صليبا (ت 1258م).
وجرت حفلة رسامة ابن العبري مفرياناً على المشرق في 19 كانون الثاني سنة 1264 في سيس قاعدة قيلقية وحضرها هيوم ملك قيلقية وأولاده وأعيان دولته وأساقفة من الأرمن، إلى جانب أساقفة السريان وجمهور غفير من الشعب. والقى فيها ابن العبري خطاباً بليغاً بموضوع رئاسة الكهنوت، استهله بآية المرتل: «ܓܒܠܬܢܝ ܘܣܡܬ ܥܠܝ أنت يا رب أنشأتني ووضعت علي يدك»([195]).
وقام ابن العبري على أثر رسامته بزيارة هولاكو، فاستقبله بحفاوة لائقة لمكانته العلمية والدينية. واهتمّ ابن العبري بتثبيت رئاسة البطريرك إغناطيوس الرابع يشوع (ت1283م) الروحية، ومهّد لزيارته لهولاكو، فلما وصل البطريرك رحّب به هولاكو أجمل الترحيب ومنحه براءة تثبّت حقوقه، كما أثنى ببراءة أخرى على المفريان ابن العبري وخلع عليهما، ومنح براءة ثالثة لأسقف قيسارية قبادوقية السرياني، وفي السنة التالية توفي هولاكو وخلفه بالملك ابنه أباقا الذي نسج على منوال أبيه في إكرام البطريرك والمفريان.
وبعد مقابلة هولاكو بمدة وجيزة توجّه ابن العبري إلى العراق ليتولّى كرسي المفريانية، فرحّب به رجال الدولة وأبناء الكنيسة في الموصل، وقوبل باحترام لائق في دير مار متى. وزار بغداد فكرّمه مكيخا جاثليق النساطرة، وكان زمن الفصح قد حلّ، فكان السريان والنساطرة يحتشدون في كنيسة مار توما السريانية في محلة المحول([196]) لسماع الطقوس الدينية التي كانت تتلى برئاسة المفريان ومن جملتها طقس تقديس الميرون. وأمضى ابن العبري الصيف كله في بغداد، ورسم مطرانين أحدهما لبغداد، والآخر لأذربيجان وغادرها في الخريف، ولما زارها ثانية سنة 1277م، قال فيه دنحا جاثليق النساطرة «طوبى لشعب أصاب مثل هذا»([197]).
ونهض ابن العبري لتدبير أبرشيات المشرق العديدة الواسعة مدة اثنتين وعشرين سنة، ورسم لها اثني عشر اسقفاً اتصفوا بالتقوى والعلم الغزير، ورمّم وجدّد كنائس وأديرة في نينوى وبغداد وأربيل وتبريز ومراغة. وكان مولعاً بحسن هندسة الكنائس وزخرفتها، وحتى أنه طلب مرة من هوسبينا خاتون ابنة ملك المغول، فأرسلت إليه أحد المصوّرين اللذين كانت قد استقدمتهما من القسطنطينية من لدن أبيها لزخرفة كنيسة اليونان في تبريز، كلّفه ابن العبري بزخرفة كنيسة مار يوحنا ابن النجّارين التي شيّدها جنوب غربي برطلة، ونقل إليها ذخيرة الشهيد ابن النجارين([198]).
- الخلاف بين البطريرك وابن العبري:
دوَّن ابن العبري في تاريخه ما عاناه من أوصاب في عمله الرسولي، وما جرى بينه وبين البطريرك إغناطيوس الرابع يشوع من خلاف، ذلك أن البطريرك لم يعر أذناً صاغية إلى آراء ابن العبري الصائبة التي تتوخّى خير الكنيسة وازدهارها وحفظ كرامتها. وتفاقم الخلاف بينهما، وكاد يؤدي إلى شقاق.
وقد أصيب ابن العبري بمرض الديسنطاريا، وكان يومئذ في سيس بقيلقية، وصار قاب قوسين أو أدنى من الموت، ولكن العناية الإلهية شفته، فأرسل إليه البطريرك رسالة يهنئه بالشفاء، فعادت بينهما المياه إلى مجاريها، إذ زاره المفريان في دير مار برصوم.
- وفاة البطريرك يشوع وتنصيب البطريرك فيلكسين:
ولما شعر البطريرك إغناطيوس الرابع يشوع بدنو أجله، أرسل يستدعي ابن العبري ليسلّمه إدارة البطريركية، فلم يتمكن هذا من السفر لاضطراب حبل الأمن في تلك الفترة بسبب الحروب المتواصلة. وتوفي البطريرك سنة 1283م في دير فقسيماط من أعمال قيلقية. واجتمع بعض الأساقفة في دير مار برصوم، وخلافاً لقوانين الكنيسة رسموا فيلكسين نمرود بطريركاً دون علم المفريان ابن العبري، وذلك في أوائل سنة 1283م واستحصلوا له على براءة من ملك المغول، فامتعض ابن العبري من هذا العمل المشين، الذي جاء ضد ما سنّته المجامع الكنسية.
وحاول البطريرك الجديد وأساقفته ترضية المفريان ابن العبري معتذرين إليه عما جرى، وأرسلوا إليه وفداً إلى تبريز حيث كان يومئذ فلم يستقبله. ثم قصده الأستاذ شمعون الطبيب، وهو عم البطريرك الجديد برفقة بعض الأساقفة مستعطفين، فرفض طلبهم أيضاً قائلاً: «إن الآباء القديسين حددوا منذ زمن بعيد ألاّ يقام مفريان بدون البطريرك، ولا يقام بطريرك بدون مفريان، وحيث أن هؤلاء الأساقفة قد تعدوا الشريعة وقوانين الآباء فليس لي معهم نصيب ولا أشاركهم في مخالفتهم الشريعة»، ثم جاء تاج الدولة ابن الأستاذ شمعون الذي كان تلميذه وطلب إليه متضرعاً فاستقبله ابن العبري ولم يرد طلبه. وكتب إلى البطريرك فيلكسين نمرود رسالة شرح فيها أسباب عدم مصادقته على رسامته البطريركية، وموضّحاً استياءه من استئثار بعض الأساقفة بأمر الانتخاب والرسامة، ضاربين بالقوانين الكنسية عرض الحائط، وأن امتعاضه منهم ليس بسبب طموحه إلى درجة البطريركية كما يظن بعضهم، فهو لم يكن يوماً ما يرغب في البطريركية. ومما قاله: ربما ظننت أن لي رغبة في البطريركية فلم أصادق على انتخابك ورسامتك بطريركاً. إن اللّه فاحص القلوب، يعلم انه ولا عضو من أعضائي يتوق إلى هذه الدرجة، لأسباب شتى، منها أولاً: أنني قد اؤتمنت على رئاسة الكهنوت منذ أربعين سنة تقريباً، قضيت عشرين منها في الغرب، وعشرين في الشرق، وقد سئمت الأعمال الإدارية، ولذلك أطمح الآن إلى العزلة وأتوق إلى الراحة والحياة الهادئة، استعداداً للحصول على النهاية الصالحة المحفوظة لآل السلام. ثانياً: أنا بنعمة اللّه أتنعّم براحة تامة برعاية الكنيسة في الشرق، فلا داعي لاستبدالها بأخرى كما فعل أسلافي المرحومون. وإن ما حصلت عليه من الراحة في الشرق لم يحصل عليه غيري على الرغم من اضطراب الزمان. ثالثاً: ولو افترضنا أنه كانت لي رغبة في البطريركية كسائر البشر الذين يطمحون إلى درجة أعلى، غير أن الخراب الذي عمَّ أبرشيات المغرب منذ أمد بعيد، كفيل بإزالة هذه الرغبة. فهل أرغب في أنطاكية التي يبكى عليها ويناح؟ أم في أبرشية كومايا الكهنوتية التي لم يبقَ فيها بائل على حائط، أو برؤة أو منبج أو قلونيقوس أو الرها أو حران التي أقفرت جميعها؟ أو الأبرشيات السبع([199]) المحيطة بملطية التي لم يبق فيها بيت واحد؟. من هنا يعرف أن سبب حزني هو عملكم غير الممدوح بل الذميم، إذ بدون رضى الغربيين والشرقيين عملتم ما عملتم. يرجى علمكم، وربكم الذي لا يحابي الوجوه يعلم كل شيء([200]).
وفي سنة 1286 بلغ المفريان ابن العبري الستين من عمره، وروى أخوه برصوم الصفا أن ابن العبري كان يتوقّع حلول أجله في تلك السنة، وكان يردد القول إنني بحسب علم الفلك ولدت في السنة التي بها اجتمع زحل والمشتري في برج الدلو، ورسمت مطراناً بعد عشرين سنة، وهي السنة التي اجتمع بها زحل والمشتري في برج الميزان. ونصبت مفرياناً بعد عشرين سنة من ذلك التاريخ، وهي السنة التي اجتمع بها زحل والمشتري في برج الجوزة. وأتوقع انتقالي من هذا العالم في سنة 1286م، وهي السنة التي يجتمع فيها زحل والمشتري في برج الدلو، كما اجتمعا في سنة ميلادي. وإلى هذا اشار ببيت شعر نظمه بالسريانية وهو:
ܡܨܝܕܬ ܥܠܡܐ ܒܫܢܬ ܐܢܠܙ ܨܕܢܝ ܢܫܒܟܝ
ܘܣܒܪ ܐܢܐ ܠܝ ܕܒܫܢܬ ܐܢܨܙ ܠܐ ܐܗܘܐ ܒܟܝ([201])
وتعريبه: أيا صنارة العالم لقد اصطادني شركك في سنة 1537 يونانية (=1226م) وأظن أنني سأغادرك في سنة 1597 ي (=1286م).
ويروي لنا برصوم الصفا أن أخاه ابن العبري كان يتوجس شراً من سنة 1286م، فلما حلّت أيام الصيف كان يؤكّد بأن لا مناص من الموت خلالها. وكانت الموصل مقره تتعرض أيام الصيف لهجمات اللصوص الذين يأتونها من سورية. وفي تلك السنة كثرت في الموصل حوادث العنف من سلب ونهب وسبي وقتل. فخاف برصوم الصفا على أخيه ابن العبري لئلا يطرأ عليه ما يعرض حياته للخطر فتتم تكهناته. لذلك ألحّ عليه بالانتقال إلى مراغة في أذربيجان ففعل. وقوبل بالترحاب من أهل مراغة على مختلف مذاهبهم. وطلب إليه علماء المسلمين تعريب كتابه السرياني في التاريخ العام، فلبّى طلبهم وأتمّ نقله إلى العربية ما خلا ثلاث صفحات في نحو شهر بلغة عربية بليغة، وأسماه (تاريخ مختصر الدول).
- انتقاله إلى جوار ربه:
وانتابته الحمى الشديدة ليلة السبت 28 تموز سنة 1286م، وفي اليوم التالي وصف له الأطباء دواء رفض تناوله قائلاً: لا فائدة من ذلك لأن الأوان آن للانتقال من هذا العالم. ولازمته الحمى ثلاثة أيام. وطلب قلماً وورقة ليكتب وصيته، فلم يقوَ على الكتابة. وكان يجس يده اليسرى بيده اليمنى ويقول: «لقد هدَّ حيلي وخارت قواي، ظلمتني يا أخي فلم تتركني أموت بين جمع الأساقفة والرهبان والكهنة والشمامسة الذين خدمتهم كرئيس عليهم مدة اثنتين وعشرين سنة، ليحتفلوا بتشييع جثماني. لقد هربتني يا أخي من الموت فلم يجدِ تهريبك إياي شيئاً. فتقوَّ إذن وتشجّع، ولا تبكِ ولا تكتئب بإفراط كأن هذا الأمر جديد في العالم». وكان يتلفّظ بمثل هذا الكلام طوال ذلك النهار وهو مبتسم الثغر مبتهج غير خائف من الموت. ثم نادى كاتبه الشماس سعيد الطبيب، وطلب إليه أن يكتب ما يمليه عليه وابتدأ كلامه بالسريانية بقول أشعيا النبي:
ܒܪܢܫܐ ܐܝܟ ܥܡܝܪܐ ܝܘܡ̈ܘܗܝ ܘܐܝܟ ܥܘܦܝܐ ܕܚܩܠܐ ܗܟܢ ܝܳܥܐ([202])
وتعريبه: «الإنسان كالعشب أيامه وكزهر الحقل هكذا ينمو». ثم أعلن صورة إيمانه وهيّأ بذلك كراساً للكرسي البطريركي، وآخر لكرسي المفريانية لتدبير قلايته، وسلمهما بيد أخيه. كما أوصى تلاميذه على الثبات بالمحبة بعضهم مع بعض، وعدم التفرق قائلاً: ما دمتم ثابتين بالمحبة فأنا أكون بينكم، ولما سمعوا وصيته مزّقوا ثيابهم وعفّروا وجوههم بالتراب، وأجهشوا بالبكاء. أما هو فاستمر يتحدّث إليهم وهو يبتسم حتى ساعة متأخرة من الليل إذ انطفأ نور المصباح الوهاج وسقط عمود الكنيسة السريانية الأرثوذكسية الثابت المتين. وهكذا انتقل إلى جوار ربه ليلة الثلاثاء المصادفة 30 تموز من السنة 1286م. وكان في مراغة يومذاك يهبالاها جاثليق النساطرة المكرم الذي لما بلغه نعي ابن العبري حزن حزناً شديداً وأمر بألاّ يخرج أحد إلى عمله ذلك النهار وأن تغلق الأسواق وأن يلبس الناس ثياب الحداد، وتقرع أجراس الكنائس حزناً، وأرسل مطرانين يمثّلانه في مراسم الجناز. كما أرسل شموعاً كبيرة لهذه المناسبة. وبعد أن اجتمع ما يقارب مئتين من جميع الملل بمن فيهم الأرمن واليونان، وكان للسريان في مراغة أربعة كهنة فقط، نهضوا للصلاة من الصباح وحتى العصر، ثم واروا جسده التراب تحت مذبح الكنيسة. ونقل جثمانه الطاهر بعدئذ إلى دير مار متى بجوار الموصل بهمة أخيه برصوم الصفا.
- مؤلفاته:
وضع ابن العبري بالسريانية والعربية ستة وثلاثين كتاباً يعد بعضها من أمهات المراجع، تناول فيها شتّى العلوم المعروفة في عصره وهي:
أولاً: المؤلفات الدينية:
1 ـ تفسير الكتاب المقدس: يعد كتابه ܐܘܨܪ ܐܖ̈ܙܐ كنز الأسرار موسوعة كتابية تفسيرية مهمة في الكنيسة السريانية الأرثوذكسية. تناول فيه تفسير أسفار الكتاب المقدس بعهديه العتيق والجديد ما عدا سفر الرؤيا. وذلك بحسب الترجمة السريانية المسماة بالبسيطة ܦܫܝܛܬܐ فشيتا مقارناً إياها بالترجمة السبعينية وبغيرها من النصوص والترجمات، منوهاً بفضل السبعينية على البسيطة([203])، ونهجه بالتفسير لغوي ولفظي ورمزي، ومصادره كتابات الآباء السريان: أفرام والسروجي وفيلكسينوس وسويريوس وموسى بن كيفا وديونيسيوس ابن الصليبي ودانيال الصلحي ويعقوب الرهاوي وجرجس أسقف العرب ويشوعداد المرزوي النسطوري وبعض الآباء اليونان.
أهم مخطوطاته: نسخة خزانة فلورنسة، أنجزت عام 1275 أو 1278م في حياة المؤلف([204]) وبرلين عام 1298م، وأوكسفورد سنة 1498م، وبرمنكهام ـ منغانة ـ في القرن الخامس عشر على ما يظن، والخزانة البطريركية السريانية الأرثوذكسية في دمشق سنة 1567م، ودير الزعفران سنة 1569.
وقد نشرت أجزاء منه بالطبع ونقلت إلى لغات أوربية، من ذلك ما نشره المستشرقان مارتين سبرنكنلن ووليم كريهام في شيكاغو عام 1931 مترجمين إلى الإنكليزية من سفر التكوين حتى سفر صموئيل الثاني ومصورين النص السرياني في طبعة أنيقة وقعت بـ 393 صفحة من الحجم الكبير.
2 ـ اللاهوت النظري:
1 ـ كتاب ܡܢܪܬ ܩܘܕ̈ܫܐ أي منارة الأقداس وهو موسوعة لاهوتية ضخمة، ويعد أهم كتاب وضع في هذا الميدان في الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، قسّمه إلى اثني عشر ركناً أو باباً وتناول فيه الموضوعات اللاهوتية النظرية وهي العلم، ووجود اللّه، وخلق العالم، والتثليث والتوحيد وسرّ التجسّد، والملائكة والشياطين، والنفس البشرية، ورئاسة الكهنوت، والحرية وقيامة الأموات والدينونة العامة والفردوس وغيرها.
مخطوطات هذا الكتاب كثيرة أهمها في مكتبات فلورنسة أنجزت سنة 1388م، والفاتيكان في القرن الرابع عشر، وبرلين سنة 1403م، وكمبردج في القرن الخامس عشر، والقدس سنة 1590م، ودير الزعفران وهي سريانية وكرشونية([205]) سنة 1674م، والشرفة في القرن السابع عشر.
نقل المستشرق جان باكوس سنة 1930م الركنين الأولين منه إلى الفرنسية ونشر ذلك مع النص السرياني.
وكان الشماس سرجيس ابن الأسقف يوحنا بن غرير الدمشقي قد نقله إلى العربية سنة 1661م ونسخه كثيرة، منها مخطوطتا الشرفة سنة 1691م و1761م ومخطوطة خزانتي الخاصة سنة 1858م.
2 ـ كتاب (ܙܠܓ̈ܐ) أي الأشعة وهو ملخّص كتاب منارة الأقداس قسمه على عشرة أبواب وتناول فيه أهم المواضيع اللاهوتية باختصار.
من مخطوطاته المهمة، الفاتيكانية أنجزت عام 1330م، وباريس عام 1353م، والزعفرانية عام 1509م.
نقل إلى العربية ومن نسخه مخطوطة دير الشرفة أنجزت أواسط القرن الثامن عشر.
3 ـ ولابن العبري في اللاهوت أيضاً رسالة سريانية تدعى «دستور الإيمان» تحتوي على صورة الإيمان الأرثوذكسي. ورسالة منظومة جواباً لمار دنخا الجاثليق النسطوري يعرض فيها بالبراهين العقلية والنقلية صحة العقيدة الأرثوذكسية([206])، ومع أن ابن العبري أدرك اللغة السريانية وهي في أوج عزها، وجعل منها آلة طيعة لأبحاثه العلمية ولا سيما اللاهوتية، فقد استعمل الكلمات اليونانية إلى جانب السريانية في أبحاثه اللاهوتية للتدقيق بالتعبير والتحديات اللاهوتية.
3 ـ الشرع الكنسي والمدني:
لابن العبري في الشرع الكنسي والمدني كتاب أسماه ؤودًيا أي الهدايات، كتبه بالسريانية وطواه على أربعين باباً و147 فصلاً في القوانين الدينية الكنسية وما يتعلق بالكنيسة وأتباعها من الرسوم والنظم المدنية. ومصادره فيه، الكتاب المقدس والقوانين الرسولية والمجامع المقدسة الإقليمية والمسكونية وبعض قوانين وضعها بطاركة أنطاكية والإسكندرية وآباء الكنيسة ومراسيم ملوك الروم وفتاوى خاصة. وأضحى هذا الكتاب الجامع الشامل دستوراً للكنيسة السريانية الأرثوذكسية([207]).
أقدم مخطوطاته نسخة نفيسة جداً أنجزت سنة 1290م، وهي الآن في خزانة الخوري متى كوناط في بلدة بامباكودا ـ كيرالا ـ الهند([208]) ونسخة في مكتبة مديشيس([209]) بروما خطت سنة 1357م، ومخطوطة خزانة دير مار مرقس بالقدس أنجزت سنة 1391م، ونسخة دير مار أوكين سنة 1354م، ومطرانية السريان الأرثوذكس في الموصل عام 1483م، وباريس سنة 1488م، وأكسفورد سنة 1498م، والشرفة في القرن الخامس عشر.
نقل إلى العربية في أواخر القرن السادس عشر ونسخه عديدة ومنتشرة، منها نسخة الشرفة الكرشونية التي جاء فيها ما يأتي: «نقله إلى العربية الخوري يوحنا ابن المعلم عبود بن الجرير الزربابي في كنيسة مار بهنام بدمشق، كتبه الشماس يوحنا بن جبرائيل خادم الكنيسة المذكورة. وكان الفراغ من الكتابة في الثامن من شباط يوم عيد مار سويريوس سنة 1964ي = 1635م».
نشره الأب بولس بيجان سنة 1895م، معتمداً على نسخة باريس المخطوطة عام 1488م، وكان قبله السمعاني قد نقله إلى اللاتينية نقلاً وقع فيه تحريف وتشويه([210]).
4 ـ اللاهوت الأدبي:
أ ـ كتاب ܐܝܬܝܩܘܢ الإيثيقون وضعه ابن العبري بلغة سريانية بليغة وهو في علم الأخلاق لحسن السلوك في الدين والدنيا. أي تنظيم الحياة الأدبية والروحية للإنسان. وقد أكثر فيه من أخبار النساك، وسرد حكماً لهم. وهو مثل كتاب «إحياء علوم الدين» للغزالي. فالكتابان يبحثان في حياة الإنسان التي هي ليست صلاة وصياماً ومحبة وصدقة وحسب، بل هي أيضاً تجارة وزواج وغذاء الجسد وتعليم الأطفال والخ…
يقسم كتاب الإيثيقون إلى أربع مقالات كبرى، تحوي كل منها أبواباً وفصولاً شتى. المقالة الأولى في ترويض الجسد وتنظيم حركات تمرينه، المقالة الثانية تقويم الجسد وترتيب أعماله، المقالة الثالثة تنقية النفس من الميول الشاذة، والمقالة الرابعة تجميل النفس بأنواع الفضائل، تحتوي المقالة الأولى والثانية على 204 فصول، والمقالة الثالثة والرابعة على 237 فصلاً.
أنجز ابن العبري كتابه هذا في مراغة في 15تموز سنة 1279م، أي قبل وفاته بسبع سنوات.
أهم النسخ وأقدمها هي مخطوطة خزانة البطريركية الكلدانية في بغداد، أنجزت سنة 1292م، أي بعد وفاته بست سنوات، ومخطوطتا أكسفورد أنجزتا سنة 1323 و1332م، وثلاث مخطوطات في المتحف البريطاني، خطت الأولى سنة 1335م في القدس، أما الثانية فكتبت سنة 1904م وكانت قبلاً ضمن مخطوطات دير السريان في مصر. وفي دار البطريركية السريانية الأرثوذكسية في دمشق مخطوطة جيدة أنجزت سنة 1576م.
عرّبه الراهب داود الحمصي ومنه نسخة في أكسفورد([211]). وفي دير الشرفة مخطوطة عربية بعنوان (كتاب الآداب وذوي الفهم والألباب) الذي هو كتاب الإيثيقون([212]) أنجزت سنة 1699م يقول فيها الأب شيخو، لعل ابن الحطّاب نقلها إلى العربية في أيام ابن العبري، فإن في مكتبة الفاتيكان نسخة معرّبة بقلم ابن الحطاب، كما أن في الفاتيكان نسخة أخرى نقلها إلى العربية القس يوحنا بن جرير أنجزت سنة 1645([213]).
أما أفضل تعريب له فهو بقلم المرحوم العلامة الملفان مار غريغوريوس بولس بهنام مطران بغداد والبصرة على السريان الأرثوذكس، وقد نشره سنة 1966م في مطبعة الشباب في القامشلي ـ سورية.
ونشر الأب بيجان النص السرياني سنة 1898م.
ب ـ كتاب ܝܘܢܐ أي الحمامة. وهو مختصر في ترويض النسّاك ومختص بالرهبان الذين ليس لديهم مرشد روحاني، ألّفه بعد كتابه (الإيثيقون) بإنشاء سرياني جزل، وأسماه (الحمامة) رمزاً إلى الروح القدس الذي هبط على هامة السيد المسيح أثناء العماد بشبه حمامة. وقد قسّمه إلى أربعة أبواب، الباب الأول تعليم الفعل الجسدي الذي يتمّ في دار المبتدئين، الباب الثاني، كيفية ممارسة السيرة الروحية في الصومعة، الباب الثالث، شرح الاستقرار الروحي للحمامة المعزية، الباب الرابع، قصة تدرج المؤلف بالعلوم، ثم أقوال إلهامية، وعدد هذه الأقوال مئة، وقد أعطت كتاب الحمامة أهمية فاقت أهمية (الإيثيقون) ووضعت ابن العبري في الرعيل الأول بين النسّاك([214]).
ولكتاب الحمامة مخطوطات قديمة، أقدمها مخطوطة المعهد الشرقي في جامعة شيكاغو. أنجزت سنة 1290م، أي بعد انتقال ابن العبري إلى جوار ربه بأربع سنوات فقط. وقد حققناها على مخطوطة جامعة أكسفورد التي أنجزت سنة 1499م وغيرها من المخطوطات وعرّبناها ونشرنا النص والترجمة سنة 1974م، ضمن مطبوعات مجمع اللغة السريانية في بغداد مع مقدمة مستفيضة في النسك السرياني المسيحي وعلاقته بالتصوف العربي الإسلامي، لخّصناها عن مقدمة المستشرق الهولندي ونسنك A. J. Wensinch الذي نقل الكتاب إلى الإنكليزية ونشره سنة 1909م.
وقد نشر الأب بولس بيجان نص كتاب (الحمامة) بالسريانية سنة 1898م في باريس، والأب جبرائيل قرداحي سنة 1898م أيضاً في روما، والأب يوحنا دولباني (مطران ماردين بعدئذ) سنة 1916م.
ونقل إلى العربية حوالي سنة 1299م، وسمي كتاب الورقاء في علم الارتقاء([215])، وله نسخ عديدة ثلاث منها في الشرفة الأولى ترتقي إلى القرن السابع عشر وهي كرشونية. ونشر الأب يوسف حبيقة، ترجمة عربية لهذا الكتاب في مجلة (المشرق 50 [بيروت 1956] ص 17 ـ 66).
ج ـ ملخّص تفسير الكتاب المنحول إيرثاوس، وهو صغير الحجم ينطوي على 22 فصلاً، ويقع في 190 صفحة، ولا علاقة له بما احتواه من آراء (بانثيئستية) ([216])، أقدم مخطوطة له في لندن أنجزت حوالي سنة 1330م([217]).
5 ـ الكتب الطقسية:
هذّب ابن العبري وأوجز سنة 1282م ليترجية([218]) مار يعقوب الرسول الملقب بأخي الرب، نسخها لا تحصى، فهي مستعملة في الكنائس السريانية الأرثوذكسية في العالم، ترجمت إلى العربية والإنكليزية والمليالم (لغة جنوب الهند) وطبعت، والإسبانية والبرتغالية ولم تطبع بعد بهاتين اللغتين. وهذه الليترجية تعرف بليترجية مار يعقوب الرسول الصغرى.
ووضع ابن العبري ليترجية مطلعها «رحيم أنت أيها الرب ورحمتك منشورة على العالمين» ومنها نسخة في باريس تاريخها 1454م، نقلها إلى اللاتينية رينودوت ونشرها والنص السرياني مع ليترجية مار يعقوب الرسول التي أوجزها ابن العبري، وذلك في مجموع ليترجيات المشرق([219]).
ولابن العبري تعليق على طقس تبريك الماء في عيد الدنح([220]) كتبه سنة 1283م. كما أوجز كتاب رتبة المعمودية لمار سويريوس الأنطاكي([221]) ونسب بعضهم هذا الموجز إلى يعقوب الرهاوي.
6 ـ الخطابة:
كان ابن العبري واعظاً ناجحاً وخطيباً مصقعاً ذكر له موقفه الخطابي يوم رسامته مفرياناً. ولم يصل إلى يدنا من خطبه سوى النذر اليسير، من ذلك خطبة عربية بليغة لعيد الشعانين حققها ونشرها البطريرك أفرام الأول برصوم([222])، وخطبة في التوبة وردت في بعض كتب باريس بالكرشونية تقرأ كمرثاة في الجنازة([223]).
ثانياً: التاريخ المدني والديني:
1 ـ تاريخ الزمان (السرياني): كتاب ضخم كتبه بالسريانية وأسماه مكةبنوة زبنًا أي تاريخ الزمان، بدأ فيه من خلق العالم إلى أيامه، وروى أهم حوادث العالم دولاً وملوكاً، وعلماء ورؤساء إلى سنة 1285م، وضمن ذلك 332 فصلاً. ومصادره في ذلك تاريخا يعقوب الرهاوي وميخائيل الكبير وتواريخ سريانية وعربية وغيرها. وأقدم مخطوطاته مخطوطة مكتبة الفاتيكان كتبت قبيل سنة 1357م، وأكسفورد وأنجزت سنة 1498م، والقدس أواخر القرن الخامس عشر، وهذه المخطوطات تضمّ أيضاً التاريخ الديني بجزأيه. والكتاب في جملته مهم ومفيد جداً، وهو يتناول بوجه خاص منطقة الشرق وما يتعلق بها من حوادث في العالم المعروف يومذاك. وتتجلى أهمية الكتاب بالتفاصيل التي أوردها ابن العبري للحوادث التي عاصرها أو التي جرت أمامه وبالكلام على الأشخاص الذين عرفهم أو سمع عنهم.
2 ـ تاريخ مختصر الدول (العربي):
وقد طلب علماء المسلمين العرب في مراغة إلى ابن العبري أن ينقل كتابه (تاريخ الزمان) من السريانية إلى لغة الضاد فلبّى طلبهم وأتمّ تعريبه إلا بعض صفحات، وذلك في نحو شهر من الزمان، أفرغه في لغة بليغة وسمّاه (تاريخ مختصر الدول) وهو وإن توخّى فيه الإيجاز، إلاّ أنه أضاف إليه أموراً كثيرةً لا توجد في المطول (السرياني) ولا سيما ما يتصل بتحرير العرب أراضيهم من الفرس والرومان في أيام الفتوحات الإسلامية، وتاريخ دولتي الإسلام والمغول، وتراجم العلماء والأطباء، مستقياً الحقائق التاريخية من ينابيع المؤرّخين العرب كالطبري، وابن الأثير، وغيرهما.
نشر برنس وكيرش التاريخ السرياني بجزأين في ليبسيك سنة 1789م وجدد طبعه الأب بيجان اللعازري سنة 1890م، ونشره واليس بج مع ترجمته الإنكليزية في مجلدين في أكسفورد سنة 1932، ونقله القس اسحق أرملة إلى العربية، ونشره تتابعاً في مجلة المشرق البيروتية في المجلدات 43 ـ 50 للسنوات 1949 ـ 1956.
أما تاريخ مختصر الدول (العربي) فمخطوطاته كثيرة في فلورنسا وباريس ولندن وأكسفورد. طبع العلامة إدوار بوكوك موجزاً عنها، أسماه «مختصر تاريخ العرب» لابن العبري، في مدينة أكسفورد سنة 1650م، ثم طبع الكتاب بالعربية واللاتينية سنة 1663م بمراجعة بوكوك نفسه، وقد ترجمه بور إلى الألمانية وطبع سنة 1783م. ثم طبع الأب أنطون صالحاني اليسوعي النسخة العربية في بيروت سنة 1890م، وأعيد طبعه سنة 1958م. وهذه الطبعة الأخيرة نشرت بعد ذلك بالأوفست في بيروت.
2 ـ التاريخ الكنسي بالسريانية وهو مجلدان، يتضمن المجلد الأول تاريخ بطاركة أنطاكية، فبعد أن يتناول تاريخ الأحبار في العهد القديم بدءاً من هرون حتى حنان في عصر السيد المسيح يبدأ بأخبار العهد الجديد بدءاً من الرسول بطرس، ويستطرد مفصلاً تاريخ بطاركة أنطاكية حتى فيلكسينوس نمرود المتوفى سنة 1285م.
أما المجلد الثاني فهو تاريخ جثالقة المشرق، وابتدأ به بترجمة الرسول توما وختمه بترجمة نفسه التي أكلمها بعد وفاته أخوه برصوم الصفا.
نسخ المجلدين ضمن النسخ التي ذكرناها آنفاً وتضم التاريخ المدني أيضاً، ونضيف إلى ذلك نسختنا التي أنجزت سنة 1858م، وتضمّ التاريخ البيعي بجزأيه فقط([224]).
نشره المستشرقان ابيلوس ولامي بجزأين في لوفان سنة 1872 ـ 1877 ولخّصه الخوري اسحق أرملة، وعرّبه ونشره تباعاً في مجلة المشرق البيروتية لعامي 1923 و1924.
ثالثاً: قواعد اللغة السريانية:
لابن العبري في هذا الميدان كتابان، الأول وهو كتاب أمحًا أي اللمع، والثاني كتاب ܡܥܠܬܐ أي المدخل.
ويعد ابن العبري إمام النحويين السريان، وهو بكتابه (اللمع) يحذو حذو جارالله الزمخشري (ت1144م) بكتابه (المفصل). فقسّم ابن العبري مثله كتابه إلى أربعة أقسام بحث فيها الأسماء والأفعال والحروف والمشترك. وأخذ أيضاً عن العرب اصطلاحاتهم بهذا الباب([225]).
أما كتاب (المدخل) فهو ملخص كتاب (اللمع) نظمه ابن العبري على البحر الأفرامي، وأتمه في مدة أسبوعين اثنين، فهو قصيدة لغوية مطولة تنيف على ستمائة بيت. وعلّق عليه شروحاً وتفاسير، وأتبعه بمقالة في الألفاظ المهمة. وقد نسج به على منوال أبي عبدالله محمد بن مالك (نحو 1203 ـ 1274) بكتابه (الألفية).
من أهم مخطوطات (اللمع) نسخة دير الزعفران أنجزت سنة 1298م وفلورنسة سنة 1392، ولندن سنة 1332، والقدس وبوسطن وأكسفورد والخزانة البطريركية بدمشق، والشرفة. نشره المستشرق الفرنسي مارتان في باريس سنة 1873م على مطبعة حجرية، ونشره اكل موبرغ في ليبسك مع ترجمته الألمانية سنة 1907 ـ 1913م.
أما مخطوطات (اللمع) فأقدمها نسخة في جامعة شيكاغو أنجزت سنة 1290م، وفلورنسة سنة 1360م، والخزانة البطريركية في دمشق سنة 1371م، وفي الشرفة خمس نسخ أقدمها أنجزت سنة 1581م، والقدس سنة 1586م، وبرمنكهام سنة 1585م، ولندن ودير الزعفران وباريس. نشره في باريس سنة 1873م المستشرق مارتان على مطبعة حجرية.
وقد ابتدأ ابن العبري بتأليف كتاب ثالث في قواعد اللغة السريانية وسمّاه ܒܠܨܘܨܝܬܐ أي (شرارة) ليكون خلاصة لهذا العلم، ولكن الموت عاجله قبل إتمامه وهذا الكتاب مفقود.
رابعاً: الفلسفة:
1 ـ زبدة الحكمة ܚܘܬ ܚܟܡ̈ܬܐ وضعه ابن العبري بالسريانية وهو من أبدع ما صنّف، بل أروع ما كتب في الفلسفة باللغة السريانية، قوامه جزءان في 951 صفحة تضمن الجزء الأول العلم المنطقي الفلسفي: أيساغوجي، وكتاب المقولات العشر، والعبارة، وتحليل القياس، والبرهان والجدل والمغالطة والخطابة والشعر، وهو مجمل نظام الفلسفة الأرسطاطالية. والجزء الثاني تضمن العلم الثاني من الطبيعيات وجعله قسمين، تناول في الأول: الأمور العامة لجميع الطبيعيات كالمادة والصورة والحركة والخ. وكذلك السماء والعالم والكون والفساد للنشوء والفناء، ثم المعادن والينابيع والعناصر الأربعة، والشهب والغيوم والصواعق والرياح والزلازل والبحار والجبال. وشرح موضوع النبات والكائنات النامية، وموضوع الحيوان وطبائعه، وحال الكائنات الحيوانية، وكذلك النفس معرفتها والقوى المدركة والمحركة التي في الحيوان، وخاصة في الإنسان. وتناول في الجزء الثاني الفلسفة والعلم الإلهي، أي ما وراء الطبيعة. وعلم الأخلاق وتدبير الذات والمنزل، وسياسة المدن وطبائع الأمم([226]).
للجزء الأول نسختان في فلورنسة أقدمها مؤرّخة بسنة 1340م، وأكسفورد سنة 1498م، وللجزء الثاني نسخة في مكتبة بطريركية أنطاكية السريانية الأرثوذكسية بدمشق خطت سنة 1285 ـ 1286م في حياة مؤلفه ابن العبري، ونسخة الخزانة الكلدانية بآمد سنة 1389م([227]).
وقد اختصر ابن العبري هذا الكتاب بوضع كتابه الثاني الذي أسماه ܬܓܪܬ ܬܓܖ̈ܬܐ أي (تجارة الفوائد) فجاء مجلداً وسطاً في المنطق والفلسفة، وكتبه قبل سنة 1276م. أهم مخطوطاته نسخة كمبردج التي أنجزت سنة 1276م، وفلورنسة: القرن الرابع عشر، والقدس سنة 1574م.
ووضع ابن العبري كتيباً أسماه ܒܒܬܐ (البؤبؤة أو الاحداق) في المنطق والفلسفة ينطوي على سبعة أبواب بأربعين صفحة صنّفه بعد سنة 1275م، أهم مخطوطاته إحدى ثلاث نسخ في جامعة روكفلر بشيكاغو أنجزت سنة 1290م، ولندن وكمبردج سنة 1579م، والخزانة البطريركية بدمشق والشرفة.
وكتاب آخر صغير أسماه ܣܘܕ ܣܘܦܝܐ أي (حديث الحكمة) وينطوي على أربعة أبواب لكل منها فصول، ويتناول: 1 ـ علم المنطق، 2 ـ الطبيعيات، 3 ـ ما وراء الطبيعة، 4 ـ النفس والثواب والعقاب والخ… ألّفه بعد سنة 1275م، وأقدم مخطوطاته نسخة شيكاغو التي خطّت سنة 1299م، ولندن حوالي سنة 1330م، نشر العلامة البطريرك أفرام الأول برصوم سنة 1940م ترجمته العربية الفصيحة اعتماداً على نسخة أنجزت سنة 1608م أصابها في ماردين. ونقله هرمن جانس إلى الفرنسية سنة 1937م، ونشره مع النص السرياني.
أما بالعربية فلابن العبري رسالتان في النفس مختصرة، ومطوّلة، يستعرض فيهما آراء العديد من الفلاسفة القدامى، ثم يأخذ برأي أرسطو في تحديد النفس، كما فعل الشيخ الرئيس ابن سينا الفيلسوف العربي([228]) وابن العبري في أبحاثه الفلسفية يعتمد على ابن سينا، ولا سيما فيما يخص النفس.
أما الرسالة المختصرة فهي 12 فصلاً و26 صفحة نشرها شيخو في بيروت سنة 1898، وقال غراف GRAF أن ابن العبري اقتدى فيها برسالة سريانية بالعنوان نفسه للكاتب السرياني موسى ابن كيفا، الذي نقل بدوره عن كتاب يوناني «في النفس البشرية» لططيانس نسب خطأ لغريغوريوس العجائبي.
والرسالة الثانية المطولة في علم النفس البشرية تنطوي على 26 فصلاً و74 صفحة، نشرها القس بولس سباط في مصر سنة 1928، ونشرها البطريرك أفرام الأول برصوم سنة 1938م، معتمداً على نسخة من القرن الثالث عشر حظي بها في هريست نيويورك ـ أميركا، وعلّق عليها مستدركاً أغلاط الناشر الأول([229]).
ونقل ابن العبري من العربية إلى السريانية كتاب الإشارات والتنبيهات للفيلسوف العربي الشيخ الرئيس ابن سينا وسمّاه بـ كةبا دإمزا ومعيإنوةا وهو كتاب ضخم يقع في 218 صفحة من الحجم الكبير يتناول المنطق والفلسفة وما وراء الطبيعة، أنجز ابن العبري سَرْيَنته قبل سنة 1278م بلغة بليغة. قال البطريرك أفرام الأول برصوم([230]): «وهذه الترجمة الحرية بالذكر لم ينوّه بها المعاصرون من كتّاب الفلسفة العربية». أهم مخطوطاته نسخة فلورنسة أنجزت عام 1278م، وملبار عام 1547م، وباريس عام 1633م، والفاتيكان عام 1654م.
ونقل ابن العبري أيضاً من لغة الضاد إلى السريانية كتاب (زبدة الأسرار) لأثير الدين الأبهري (ت 1264م) وهو مفقود.
وفي ديوانه أيضاً عدة قصائد فلسفية.
خامساً: علم الهيئة والرياضيات:
لابن العبري في علم الهيئة، أي الفلك، ثلاثة كتب هي:
1 ـ تفسير كتاب (المجسطي) لبطليموس القلوذي، وهو بحث في علم النجوم وحركات الأفلاك. نهض ابن العبري بشرحه شرحاً وافياً، وعلّق عليه وأنجزه في مراغة سنة 1273م وهو مفقود.
2 ـ وله كتاب (الزيج الكبير) ܟܬܒܐ ܪܒܐ ܕܙܝܓ أي معرفة حركات الكواكب لاستخلاص التقويم السنوي وتعيين الأعياد المتنقلة، ويقع بأربعين صفحة، ومخطوطته اليتيمة في الفاتيكان([231]).
3 ـ كتاب ܣܘܠܩܐ ܗܘܢܢܝܐ أي الصعود العقلي. وضعه بالسريانية سنة 1279م. أما المصطلحات العلمية فكتبها بالسريانية واليونانية زيادة بالفائدة، وفصل فيه العلوم الفلكية. والكتاب جزءان يحتوي أولهما على ثمانية فصول، ويستعرض أقوال القدامى عن هيئة السماء والأرض، ومطالعة ابن العبري على هذه الأقوال، ثم كلامه على الشمس والقمر والسيارات وأفلاكها الخاصة، وما يختصّ بالنجوم الثوابت. أما القسم الثاني ففيه سبعة فصول، ويبحث في هيئة الأرض والأجرام العلوية والجزائر والبحار والأنهار والظل وأقسام الزمن. ولزيادة الفائدة فقد رسم المؤلف أشكالاً هندسية ورسوماً حيثما اقتضت الحاجة. يقول ابن العبري في مقدمة الكتاب أنه يبحث في: «أشكال الأجرام والحركات الجوية وأبعاد الأجرام السماوية عن بعضها وحجومها بصورة مختصرة، وترك البحوث الهندسية والفلكية الكبرى إلى الموسوعة الكبرى المسماة (المجسطي) وسميته الصعود العقلي، لأنه به يتصاعد العقل إلى السماء العالية تصاعده فوق عجلات ناطقة، وقد قسّمته إلى قسمين: الأول يبحث شكل السماء، والثاني شكل الأرض».
يقول شيخو: «وفي هذا التأليف إشارات إلى بعض الاكتشافات الحديثة أخذنا العجب لما اطلعنا عليها»([232]).
نشر منه المستشرق (غوتل) فصلاً في رسم الأرض ونقله إلى الإنكليزية سنة 1890، كما نشره القس فرانسوا نو ونقله إلى الفرنسية سنة 1895 معتمداً على أربع مخطوطات في باريس واكسفورد وكمبردج أقدمها أنجزت في القرن الرابع عشر([233]).
عرب الاب (المطران بعدئذ) الملفان بولس بهنام فصولاً يسيرة منه ونشرها([234]). ولابن العبري في الرياضيات تفسير كتاب اقليدس في المساحة أتمه سنة 1272م وهو مفقود.
سادساً: الشعر:
يعد ابن العبري في الرعيل الأول بين شعراء السريانية، فشعره سلس، دسم، معبّر، بليغ، استعمل فيه القافية([235]) وتفنن بذلك كثيراً، وقد أجاد في كل أبواب الشعر التي طرقها من مديح وهجاء ووصف ورثاء وإخوانيات وزهد وحكمة وفلسفة. ونظم أكثر قصائده على البحر السروجي، ولا يعاب باستعماله الألفاظ اليونانية بكثرة مع وجود ما يقابلها أو يقاربها بالسريانية.
وقد سارت بقصائده الركبان، وانتشرت كثيراً، وحفظها السريان عن ظهر قلب وأنشدوها في مناسبات الأفراح والأتراح وتهافت الخطاطون على نسخها، فوجد منها مخطوطات كثيرة أهمها مخطوطة فاتيكانية تضمّ 308 مقاطيع وإحدى مخطوطتي اكسفورد أنجزت سنة 1498م. ويحوي ديوان شعر ابن العبري ثلاثين قصيدة وأكثر من مائة مقطوعة شعرية تتراوح بين البيتين والعشرة. نشر «لنجرك» معظم هذه الأشعار في «كنغسبر» سنة 1826 ـ 1838م، كما نشرها الأب أوغسطينوس شبابي الراهب الماروني في روما سنة 1877م، ونشر له «بج» سنة 1897م مقتطفات شعرية. وطبع له القس يعقوب منا منتخبات شعرية في (المروج النزهية). ونشر شابو وهارلز قصيدة شعرية له في ليدن سنة 1896م.
ونشر الأب (المطران بعدئذ) يوحنا دولباني سنة 1929م ديوان ابن العبري الشعري في مطبعة مار مرقس بالقدس بطبعة أنيقة ومتقنة. وأجاد تبويبه، وذيله بفهارس القصائد وبدء أبياتها وختامها، وبجدول بمعاني الكلمات السريانية والأعجمية الصعبة الواردة فيه. وقد خلت هذه الطبعة وطبعة شبابي من قصيدتين أفراميتين إحداهما في الثالوث الأقدس ذكرت في مخطوطة أكسفورد، والثانية في موضوع لاهوتي جدلي تضمّنت الحجج الدامغة المعززة بشواهد من الكتاب المقدس وتعاليم الآباء وهي رسالة نظمها ابن العبري حوالي سنة 1282م جواباً للجاثليق دنحا الأول النسطوري، كما مرّ بنا آنفاً.
ولابن العبري في ميدان الشعر أيضاً كتاب (المدخل) الذي ذكرناه في كلامنا على قواعد اللغة، وقصيدة تزيد على ستمائة بيت مرتبة على أحرف المعجم جمع فيها الألفاظ المتشابهة بالحروف في اللغة السريانية على طريقة الجناس اللفظي في علم البديع بالعربية، وألحق بها تفسيراً لتلك الألفاظ وضمّها إلى كتاب المدخل.
أما قصيدته المشهورة في (الحكمة الإلهية) فقد نظمها على طريقة الصوفيين العرب، فتغزّل بها بالكمالات الإلهية كعمر بن الفارض (ت 632هـ) مشبهاً إياها بفتاة جميلة المنظر سامية الخصال، وهي في 160 بيتاً، طبعها جبرائيل الماروني بباريس سنة 1626م، والقس يوحنا نطين الراهب الماروني برومة سنة 1880م، ونشر الأب جبرائيل قرداحي مقتطفات منها. كما نشرها الأب بطرس سارة اللبناني في مجلة المشرق البيروتية 51 (1957) ص (707 ـ 735) مع الترجمة العربية. وعرّب بعضهم أبياتاً منها شعراً.
وقد أجاد بتعريبها شعراً والتعليق عليها العلامة المطران بولس بهنام السرياني (الملحمة الحمراء) ونشرها بعدد ممتاز من مجلته لسان المشرق الموصلية 3 (1950)، كما نشر النص السرياني والترجمة في كتاب عنونه بـ (ابن العبري الشاعر) مطبعة الشباب في القامشلي سنة 1965 وضمّ إلى ذلك ما كان قد عرّبه شعراً من قصائده وهي: الشمعة الذابلة والمروحة.
سابعاً: الطب:
درس ابن العبري الطب على أبيه وعلى أمهر أطباء زمانه كما مرّ بنا. وله فيه ثمانية كتب وهي:
1 ـ كتاب كبير ألّفه بالسريانية جمع فيه آراء الأطباء في المواد الطبية بغاية التفصيل وهو مفقود.
2 ـ كتاب ألّفه بالعربية بعنوان منافع أعضاء الجسد ܟܬܒܐ ܕܬܢܝܢ ܝܘܬܖ̈ܢܐ ܕܗܕ̈ܡܝ ܦܓܪܐ وهو مفقود.
3 ـ كتاب شرح فيه فصول أبقراط بالعربية وهو صغير. نسخته اليتيمة في مكتبة بطريركية أنطاكية السريانية الأرثوذكسية بدمشق أنجزت سنة 1640م.
4 ـ كتاب تفسير مسائل حنين بن اسحق الطبيب (ت 878م) بالسريانية وهو مفقود([236]).
5 ـ كتاب تحرير مسائل حنين بن اسحق الطبية بالعربية وهو صغير الحجم نسخته اليتيمة في البطريركية بدمشق.
6 ـ اختصر كتاب ديوسقوريدس الطبيب العينزربي اليوناني المشهور ونقله من العربية إلى السريانية ودعاه بـ (كتاب انتخاب ديوسقوريدس) وهو في صور النباتات التي تصلح للمعالجة وتعريف خواصها ومنافعها وقوتها واختيارها وإصلاحها وإتقانها وهو مفقود.
7 ـ منتخب كتاب جامع المفردات، أي الأدوية بالعربية، لأبي جعفر أحمد بن محمد بن خليد الغافقي من أعيان الأندلس (ت560هـ) الذي استقصى فيه ما ذكره ديوسقوريدس وجالينوس وغيرهما في ثلاثة مجلدات، فاختصره ابن العبري، وسهل بذلك الانتفاع به وعنونه بـ (منتخب الغافقي) في الأدوية المفردة). أقدم مخطوطة له في دار الكتب بالقاهرة، أنجزت سنة 1285م، أي في عصر المؤلف وهي في 146 ورقة نشر الدكتوران ماكس مايرهوف وجورجي صبحي، جزأين منه مع ترجمة إلى الإنكليزية سنة 1932 ـ 1937. ومخطوطة ثانية في خزانة الكراندوك في مدينة غوثا بألمانية، كتبت سنة 1694م.
8 ـ كتاب القانون لأبي علي ابن سينا الشيخ الرئيس، نقل عنه ابن العبري من العربية إلى السريانية أربعة كراريس، وحالت المنية دون إنجازه وهو مفقود.
ثامناً: منوعات:
1 ـ كتيب الأحاديث المطربة. وضعه بالسريانية وسمّاه ܬܘܢܝ̈ܐ ܡܦܝܓܢ̈ܐ قسمه إلى عشرين باباً، ويقع بأربعين صفحة، وانتخب فيه فوائد من أناس ينتمون إلى حضارات مختلفة. من ذلك فلاسفة اليونان وحكماء الهند، وملوك العرب، ورهبان ونساك وأطباء، وأسخياء وبخلاء وفكاهات المشعوذين والمضحكين وغير ذلك، أهم مخطوطاته إحدى نسختي دير الشرفة أنجزت على الأغلب في القرن الخامس عشر، جلدت عام 1713م. ونسخة مخرومة في استنبول أنجزت عام 1605م، وباريس 1670م. نشره (بج) عام 1897، ونشر له الأب لويس شيخو ترجمة عربية قديمة في مجلة (المشرق) البيروتية 20 (1922)، ص 709 ـ 717 و767 ـ 779.
2 ـ كتيب في تفسير الأحلام ألّفه في صباه، وبناه على مراقبة ورصد البروج ككتاب ابن سيرين (ت110هـ) عند العرب.
فبعد أن استعرضنا حياة العلامة ابن العبري العلمية والعملية، لا يسعنا إلاّ أن نردد مع المرحوم البطريرك دنحا أحد معاصريه القائل: «طوبى لشعب أصاب كمثل هذا».
مختصر بيبلوغرافيا ـ ابن العبري:
BIBLIOGRAPHY (BARHEBRAEUS):
1 – L. CHEIKHO, Une version arabe des Recits Plaisants de B.H., Al-Machriq 20 (1922), 709ss, 767ss.
2 – W. M. CARR, Greg. A. Faradj commonly called B.H. : Commentary on the Gospels from the Horreum Mysteriorum, London 1925.
3 – F. S. MARSH, The book which is called The Book of the Holy Hierotheos With Extracts from the Prolegomena and Commentary of Theodosios of Antioch and from the “Book of Excerpts” and other Works of Gregory B.H., London-oxford 1927.
4 – G. Furlani, Die Physiognomik des B.H. in syricher Sprache, Zeitsch. f. Semitistik 7 (1929), 1-16.
5 – G. Furlani, La psicologia di Barhebreo secondo il libro “la crema della sapienza”, RSO 13 (1931), 24-52.
6 – M. Sprengling – W. C. Graham, B. H. Scholia on the Old Testament (Genesis – II Samuel), Chicago 1931.
7 – G. Furlani, B. H. sull, anima razionale, Orientalia 1 (1932), 1-23, 97-115.
8 – H. F. Janssens, B. H. Book of the pupils of the eye, Oxford 1932.
9 – H. Koffler, Die Lehre des B. H. von der Auferstehung der Leiber, Rom 1932, Or. Christ, 81.
10 – G. Furlani, Avicenna, B.H., Cartesio, RSO 14 (1933), 21-30.
11 – G. Furlani, De tre scritti in lingua siriaca di B.H. sull’anima, RSO 14 (1933), 284-308.
12 – G. Furlani, La demonologia di B. H. RSO 16 (1935), 375-387.
13 – H. f. Janssens, l’Entretien de la Sagesse (Introduction aux œuvres philosophiques de B. H.), Bibl, de la Fac. De Philes et Lettres de l’Univ-de Liege, t. 75 (1937).
14 – J. Bakos, Die Einleitung zur Psychologic des B. H. im achten Fundamente seines Buches der “Leuchte des Heiligtums” Archiv. Orientalia 10 (1938), 121-127.
15 – E. Honigmann, Zur Chronographie des B.H., Or. Lit. Zeit. 37 (1934), 273-283.
16 – J. Bakos Psychologie de G. A. dit B. H. d’apres la huitieme base de l’ouvrage Le Candelabre des Sanctuaires, Leiden 1948 (syr. & fr.).
17 – A. Torbey, Les preuves de l’existence des anges d’apres le traite de G.B.H. sur les anges, OC 39 (1955), 119-134.
منشور بطريركي
ܒܫܡ ܐܝܬܝܐ ܡܬܘܡܝܐ ܐܠܨܝ ܐܝܬܘܬܐ ܕܟܠ ܐܚܝܕ
ܐܝܓܢܐܛܝܘܣ ܦܛܪܝܪܟܐ ܕܟܘܪܣܝܐ ܫܠܝܚܝܐ ܕܐܢܛܝܘܟܝܐ
ܘܕܟܠܗ̇ ܡܕܢܚܐ ܘܪܝܫܐ ܓܘܢܝܐ ܕܥܕܬܐ ܣܘܪܝܝܬܐ ܐܪܬܕܘܟܣܝܬܐ ܕܒܟܠܗ̇ ܬܐܒܝܠ
ܕܗܘ ܙܟܝ ܩܕܡܝܐ ܕܒܝܬ ܥܝܘܐܨ ܡ
باسم الأزلي السرمدي الواجب الوجود الضابط الكل
يعلن
إغـنـاطـيـوس زكـا الأول عـيـواص
بطريرك كرسي انطاكيا الرسولي وسائر المشرق
الرئيس الأعلى للكنيسة السريانية الأرثوذكسية في العالم أجمع
الذكرى المئوية السابعة للقديس المفريان ابن العبري
نهدي البركة الرسولية والأدعية الخيرية إلى أخوتنا أصحاب النيافة المطارنة الجزيل وقارهم، وحضرات أبنائنا الروحيين نواب الأبرشيات والخوارنة والرهبان والقسوس والشمامسة الموقرين، ولفيف أفراد شعبنا السرياني الأرثوذكسي المكرمين. شملتهم العناية الربانية بشفاعة السيدة العذراء مريم والدة الإله والشهداء والقديسين كافة آمين.
يسرنا أن نتفقد خواطركم العزيزة، أيها الأحباء، آملين أن تكونوا بفضل اللّه مشمولين برعايته تعالى، وسالكين في طريق البر والاستقامة، كما يليق بالمؤمنين الحقيقيين وبعد:
كان مجمعنا الأنطاكي المقدس الملتئم في مقر كرسينا الرسولي بدمشق في شهر تشرين الثاني من العام المنصرم 1985 قد قرر الاحتفال بالذكرى المئوية السابعة لانتقال العلامة المفريان مار غريغوريوس يوحنا ابن العبري إلى الخدور العلوية، واعتبار سنة 1986 سنة «ابن العبري» في كنيستنا السريانية الجامعة.
وانطلاقاً من قرار مجمعنا المقدس نصدر منشورنا هذا الرسولي، متأملين بسيرة صاحب الذكرى، ملخصين ترجمة حياته المجيدة فنقول:
ولد في مدينة ملطية قاعدة أرمينية الصغرى، عام 1226م من أبوين مسيحيين سريانيين أرثوذكسيين، وسمي بالمعمودية يوحنا، وأحب العلم منذ نعومة أظفاره، وأكب على تحصيله بكل جوارحه، فأتقن اللغات السريانية والعربية واليونانية ثم الفارسية والأرمنية، وتبحر في علوم: الكتاب المقدس، واللاهوت، والتاريخ الكنسي والمدني، والطب، والهيئة، والشرع البيعي والمدني، والمنطق، والبيان، والنحو، والشعر وغيرها من العلوم التي دبجت يراعه فيها ستة وثلاثين كتاباً تعتبر جميعها في القمة مقاماً وأهمية.
وقد أُعجب المستشرقون المهتمون بالدراسات السريانية بنبوغه وعبقريته فلقبوه بدائرة معارف القرن الثالث عشر للميلاد.
رُسم ابن العبري أسقفاً لبلدة جوباس من أعمال ملطية وسُمي مار غريغوريوس وذلك عام 1246 ثم انتقل إلى أبرشية لاقبين فأبرشية حلب. وفي عام 1264 رسمه البطريرك اغناطيوس يشوع مفرياناً على المشرق، فدبر كرسي المفريانية اثنتين وعشرين سنة متنقلاً بين نينوى ودير مار متى والموصل وبغداد ومراغة وتبريز، وازدهرت على عهده أبرشيات المشرق الواسعة.
وحظي بمكانته اللائقة لدى الرؤساء والعلماء فكرموا فيه العلامة القدير، والبحاثة الشهير، والطبيب البارع، والشاعر المبدع والخطيب المفوه، بل الرئيس الروحي الورع والناسك التقي الزاهد. وجاهد الجهاد المرير في خدمة الكنيسة، في فترة زمنية صعبة، لم يَجُد عليه الدهر خلالها بأيام سلام واستقرار، بل كانت حياته مليئة بالمشقات؛ فانقسامات من الداخل مصدرها الحسد والتنافس والتناحر بين أحزاب في الكنيسة، وحروب وغزوات من الخارج. وأنهى جهاده الحسن، وأكمل شوطه في الحياة، لما أدركته المنية في مدينة مراغة في الثلاثين من شهر تموز من السنة 1286م وهو في الستين من عمره. ودفن هناك ثم نقل رفاته الطاهر إلى دير مار متى في جبل الألوف الواقع شرقي مدينة الموصل.
كان ابن العبري وحيد دهره وفريد عصره، وهو ملفان الكنيسة السريانية الجامعة لكل العصور والأجيال والى الأبد. وهو فارسها المغوار الذي لا يبارى ولا يجارى في العلوم الدينية والمدنية كافة. وإننا إذ نحتفل اليوم بإحياء ذكراه المجيدة نقتبس العبر الثمينة بتأملنا بسيرته الطاهرة في جميع أدوار حياته، وبخاصة في دور الشباب إذ نراه، فتى الفتيان الذي جارى كبار العلماء وغاص في بحر العلوم المتنوعة، وصنوف المعرفة وخاض غمار هذا اليم الخضم بشجاعة فائقة، فاكتشف سر الحكمة الإلهية المكنون، والتقط الدرر الغوالي، باذلاً في سبيل ذلك التضحيات الجمة. وقد دوّن لنا ما عانته نفسه من أتعاب نتيجة التجربة القاسية التي دخلها عندما ساورته الشكوك وهو يتعمق في دراسة فلسفة الملحدين من الفلاسفة، فخبط في دياجيرها خبط عشواء في الليلة الظلماء وصار كريشة في مهب الريح، بل كادت سفينة حياته الروحية تتحطم قبل أن تبلغ ميناء الحكمة الإلهية، ولكن العناية الربانية افتقدته فأنقذته، وهو يقول بهذا الصدد: (لولا أن الرب أعانني وردّني من ضلال مختلف العلوم وأنواع الفنون إلى التأمل في كتب العارفين لتلبّستني العادات الرديئة تلك التي أراها تلازم الكثيرين) فابن العبري في حالته تلك خير عبرة للشباب المنكبّين على تحصيل العلوم في أيامنا هذه، ليقرنوا دراساتهم العلمية بدراسة الكتاب المقدس ومؤلفات الآباء الروحية فيصونوا بذلك نفوسهم من الخطل والزلل، ويضمنوا حياتهم الروحية لئلا يخسروا السعادة الأبدية.
وكان ابن العبري الأسقف ثم المفريان المثال الحي للراعي الصالح الذي ائتمنه الرب على رعاية خرافه، فأنكر ذاته، وكرّس حياته لخدمة الرب وكنيسة الرب بتواضع كبير وتضحية تامة، مترفعاً عن الدنيويات مبتعداً عن الأمجاد الباطلة، مهتماً ببناء النفوس وتأسيس المدارس والكنائس والأديرة. ويروى عنه أنه لم يأخذ درهماً بيده طيلة أيام حياته، فعندما كان المؤمنون المحسنون يأتونه بهداياهم كانوا يضعونها جانباً وكان أحد تلامذته الرهبان يجمعها، ثم تصرف في مشاريع تؤول إلى الكنيسة بالخير. فهو ولئن تبوأ رتبة دينية رفيعة، ولكن رتبته تلك لم تقف حائلاً دون التزامه جانب النسك والتقشف والزهد والتحلي بالفقر الأختياري. فهو الزاهد المتواضع الذي تسعى روحه إلى الاتحاد بالله كما يقول عن نفسه: (فكم أنا تائق إلى أن تشرق علىّ «شمسي» وتنفحني ولو نزراً يسيراً من نور الجميل الحقيقي لكي لا أسجد بعد الآن لمن لا أعرفه بل أسجد بالروح والحق لمن أعرفه إن اللذة التي تنتج عن معرفة ربّ الكائنات وإلهها تفوق كل اللذات). هذه كانت حياة صاحب الذكرى، حياة بر وقداسة، فيحق لكنيستنا السريانية أم العلماء، والفلاسفة، والرعاة الصالحين، بل أم الشهداء الأبرار، والمؤمنين الأتقياء، أن تفخر بإنجاب القديس المفريان مار غريغوريوس يوحنا ابن العبري.
وإننا بسلطاننا الرسولي نأمر أن يُفتتح الاحتفال بإحياء الذكرى المئوية السابعة لانتقاله إلى الخدور العلوية صباح يوم الأحد المصادف 27 تموز 1986، ولئن تصادف ذكرى انتقاله في 30 تموز ولكننا نبتدئ بالاحتفال بإحياء ذكراه السعيدة يوم الأحد الذي هو يوم الرب بإقامة القداديس الإلهية في كل كنيسة من كنائسنا، وحيث يوجد كاهن سرياني في أي مدينة أو قرية في العالم. وأن يتناول الوعّاظ سيرة صاحب الذكرى المبجل في مواعظهم، إتماماً لوصية كاتب الرسالة إلى العبرانيين القائل: «اذكروا مرشديكم الذين كلّموكم بكلمة الله. انظروا إلى نهاية سيرتهم، فتمثلوا بإيمانهم» (عب 13: 7). كما نأمر أن يتقدم الأكليروس والشعب إلى منبر الاعتراف، مقدمين للّه توبة صادقة، مشتركين بتناول القربان المقدس، لإحياء هذه الذكرى العزيزة بخوف اللّه تعالى ونيل بركة الرب. لأن «ذكر الصديق للبركة» (أم 10: 7) وأن تقام في كلٍ من أبرشياتنا السريانية، احتفالات تكريمية، وندوات علمية، وحلقات دراسية تتناول بالدرس والتمحيص سيرته الطاهرة النقية، ومؤلفاته النفيسة.
جعل الرب الإله هذه الذكرى السعيدة سبب نعمة وبركة لكم جميعاً أيها الأحباء، بشفاعة السيدة القديسة العذراء مريم والدة الإله، والقديس المبجل المفريان مار غريغوريوس يوحنا ابن العبري وسائر الشهداء والقديسين آمين.
صدر عن قلايتنا البطريركية بدمشق
في اليوم السابع عشر من شهر آذار سنة ألف وتسعمائة وست وثمانين
وهي السنة السادسة لبطريركتنا
مار باسيليوس بهنام الرابع مفريان المشرق(*) (1852 ـ 1859)
ولد المفريان([237]) بهنام الرابع في الموصل نحو سنة 1790 من أسرة (السعيد) التي تلقّب أيضاً بـ (فايوقة) ودرس على كهنة كنيسة مار توما اللغتين العربية والسريانية والطقس البيعي ومبادئ الإيمان المسيحي. عندما بلغ السادسة والعشرين من عمره سيم شماساً إنجيلياً، وعندما بلغ الثانية والثلاثين من عمره ألبس الاسكيم الرهباني في دير مار بهنام الواقع بقرب الموصل قبل أن تخرج ملطية هذا الدير من أصحابه الشرعيين السريان الأرثوذكس. وسيم المترجَم كاهناً قبل سنة 1823، ورسمه البطريرك الياس الثاني سنة 1838 مطراناً على الموصل باسم مار غريغوريوس بهنام وأوفده إلى الآستانة لمقابلة المسؤولين في الدولة العثمانية والمطالبة بحقوق الطائفة واسترجاع كنائسها المغتصبة.
وعاد إلى الموصل مركز أبرشيته وسعى لتنظيمها، ورعى شعبه إلى مروج العزّ والراحة بعظاته الروحية وإرشاداته القيّمة. واهتمّ سنة 1848 بتشييد القسم الداخلي من كاتدرائية مار توما وخاصة مذبحها الكبير.
وفي سنة 1852 ارتقى إلى رتبة المفريانية على يد البطريرك يعقوب الثاني وسمي مار باسيليوس بهنام الرابع واشترط عليه البطريرك ألاّ يرسم مطراناً فوعد وبرّ بوعده.
تعمّق المترجم بدراسة الكتاب المقدس وتفاسير الآباء الميامين، وأجاد الطقس السرياني، كما أتقن اللغات العربية والسريانية والتركية لغة الدولة العثمانية الحاكمة عصرئذ، وكان خطيباً مصقعاً وواعظاً ناجحاً ومصلحاً صالحاً.
ويمتاز أسلوبه في الوعظ بالبساطة والوضوح وكانت طريقة استعداده تعتمد، غالباً، على دراسة العظة بفكره منتخباً ما يصلح غذاءً روحياً للمؤمنين وما يفتقرون إليه من تعليم وتهذيب وإرشاد. وما يوافق المناسبة الطقسية. وكان يختار الآية الكتابية ويقسم الموضوع إلى أجزاء عديدة، وغالباً إلى ثلاثة أقسام، ويدوّن هيكل العظة ثم يرتجلها.
وكان في عهد مطرنته خاصة يلقي العظات في مجالس التعزية التي كان المؤمنون يقيمونها في دورهم أو في باحات الكنائس طيلة الأسبوع الأول لانتقال أحدهم إلى جوار ربه وبمناسبة مرور أسبوعين، وأربعين يوماً، ونصف سنة، وسنة على وفاته. وكان المؤمنون السريان الأرثوذكس وغيرهم يتهافتون على تلك المجالس لسماع عظاته، ويقترحون عليه أحياناً المواضيع الروحية التي يحتاجون إلى سماعها فيلبّي طلبهم ويرتجل عظته. وحدث مرة أن أحد المارقين من الكنيسة أراد أن يجرب (المطران بهنام) ويربكه فتظاهر وكأنه يقترح عليه موضوعاً وسلّمه ورقة بيضاء، فما كان من المطران بهنام، السريع البديهة، إلاّ أن افتتح عظته بالآية المقدسة الآتية: «وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروح اللّه يرفّ على وجه المياه» (تك 1: 2) وتدفق كالسيل العرم وارتجل عظة روحية نفيسة… فأعجب به السامعون وخجل (المجرِّب) ولا يزال شيوخ الكنيسة في الموصل يتداولون ذلك نقلاً عن آبائهم وأجدادهم.
ويظهر من المواعظ العديدة التي تركها لنا على أنها دوّنت على أيدي شمامسة أثناء إلقائها. ولا ندري فيما إذا كان المفريان بهنام قد اطلع عليها بعد تدوينها أم لا. والأرجح أنه لم يفعل ذلك، ولهذا جاء بعضها وكأنه حلقات متفرقة ومع ذلك فهي حلقات ذهبية نقية صافية وهّاجة، فمادتها الروحية دسمة وهي مليئة بروح الكتاب المقدس الذي أحبه المفريان وارتشف منه ماء الحياة فارتوى وروى نفوس المؤمنين([238]). وفي هذا المجال يخطرني جواب واعظ قدير استمع مرة إلى عظتين في موضوع ـ الفداء ـ وسئل عن رأيه فيهما: فقال عن الأولى: «خطاب بليغ وعبارات رنانة». وقال عن الثانية: «إن إلهنا مخلّص عجيب». وكأني به أراد أن يفضح فشل الواعظ الأول في بلوغ الهدف من العظة وفقده المعنى بل الروح في تشعبات دروب البيان والتمسك بالحرف. وعن نجاح الواعظ الثاني بتقديم الرب يسوع الإله المتجسّد مخلّصاً للبشرية.
ولا غرو من ذلك فإن الغاية السامية من الوعظ هي توصيل الواعظ الحقائق الإلهية إلى أخيه الإنسان، وحثّه على ممارسة الفضائل المسيحية وتجنّب الرذائل، وذلك بتذكيره بناموس الرب وفرائضه وبما يناله الصالح من ثواب والطالح من عقاب، والواعظ المسيحي الناجح الصالح هو من اختفى وراء الصليب وأشار باصبعه إلى المسيح الفادي باسطاً ذراعيه ليعانق التائب الراجع إليه تعالى.
كان المفريان بهنام الرابع واعظاً من هذا النوع، وإن ترجمة حياته تعتبر عظة بحد ذاتها ـ لما كان يتحلّى به من الفضائل السماوية وخاصة محبته للّه تعالى والقريب وغيرته على خلاص النفوس، فقد اشتهر بالصلاح والإصلاح، ولو اتخذت الكنيسة السريانية آراءه الإصلاحية البناءة لبلغت أوج ازدهارها منذ ذلك الزمان. إذ كان وحيد دهره وفريد عصره غيرة على الإيمان وشعوراً بالمسؤولية الراعوية، وامتاز ببعد النظر والتطلع إلى المستقبل بروح التفاؤل، وطموح المؤمن الواضع رجاءه بالرب، تزيّنه عزيمة صادقة وتمسّك شديد بالعقيدة المستقيمة الرأي.
وحيث أنه كان راعياً صالحاً يسعى لتقدم رعيته وازدهارها، حسده المغرضون واتهموه بالميل إلى البروتستانتية، ووشوا به لدى المثلث الرحمة البطريرك يعقوب الثاني الذي لبساطته دون أن يتحقق من صحة التهم الباطلة التي ألصقت بالمفريان البار تسرّع بإصدار الأمر بنفيه إلى العمادية (شمالي الموصل) في خريف سنة 1858م. فجمع المفريان المؤمنين، وبلّغ إليهم الأمر ووعظهم بطاعته لرئيسه «فالطاعة أفضل من الذبيحة». وغادر إلى العمادية عابراً نهر دجلة وأدركه عند الموضع الذي كان يسمّى بـ (باب الجسر) شخصان متليتنان حديثاً مرسلان من بعض الرهبان الدومينكان في الموصل، وعداه بإنقاذه من النفي، وإغداق المال الوفير عليه إذا اتبع مذهبهما. فأجابهما بإيمان متين مقترن بفضيلة الصبر على تحمل التجارب التي تطرأ على الأتقياء قائلاً: «خير لي أن أسير إلى المنفى طريق آبائي وأسلافي الصالحين، من أن أبيع بكوريتي كعيسو بأكلة عدس([239])».
ولما وصلت قافلته (تل نينوى) جاءه مخبر يقول «إن الشماس يعقوب قمر الذي كان في مقدمة من وشى به لدى البطريرك، قد انهارت أعصابه واعترى الرعش جسمه عندما نعى الناعي إليه ابنه الوحيد الذي غرق في دجلة ساعة غادر المفريان مقر كرسيه». فتطلّع المفريان إلى السماء وقال: «يا رب ارحمنا» وواصل سفره إلى العمادية، فأضر به البرد القارس، فأصيب بمرض عضال، هدَّ قواه فغدا طريح الفراش بضعة أشهر. ولما اطّلع البطريرك على حقيقة الأمر ندم على تسرّعه بالحكم غير العادل على المفريان فألغى أمر النفي. وعاد المفريان بعد سنة من نفيه إلى مقر كرسيه المفرياني في الموصل مريضاً، ولم يمهله الداء الوبيل كثيراً، فانتقل إلى جوار ربه في 21 أيلول سنة 1859م. وفي كاتدرائية مار توما أودع جثمانه الطاهر في ضريح حيث أضرحة أحبار الكنيسة الميامين.
وفي عام 1908 قدم الراهب أفرام اسطيفان برصوم الموصلي (البطريرك بعدئذ) من دير الزعفران إلى زيارة أهله في الموصل، ورأى عدم وجود شاهد على ضريح المترجَم، فحثَّ الشماس يعقوب سعيد أحد أنسباء المفريان بهنام ووكيل الوقف الذي تركه المفريان ليوزّع ريعه على الفقراء، ليسعى لعمل شاهد للضريح. ونظم الراهب أفرام بيت شعر بالسريانية بالبحر الأفرامي نحت على صخرة وضعت كشاهد على ضريح المترجَم وهو:
ܐܬܬܣܝܡ ܐܒܘܢ ܡܦܪܝܢܐ ܒܫܢܬ ܐܦܢܒ ܠܡܫܝܚܐ
ܘܛܥܡ ܟܣܐ ܕܥܘܢܕܢܐ ܫܢܬ ܐܦܢܛ ܒܐܝܠܘܠ ܝܪܚܐ
وترجمة ذلك: «نُصِّب أبونا مفرياناً سنة 1852 للميلاد وذاق كأس المنايا في شهر أيلول من سنة 1859م»
كما أن الراهب أفرام نظم أيضاً قصيدة سريانية مؤثّرة في أربعة أبيات تخليداً للحبر العظيم الذي سيبقى ذكره خالداً. وفيما يأتي نص هذه الأبيات السريانية:
ܐܘܠܝܬܐ ܕܡܪܝ ܒܣܝܠܝܘܣ ܡܦܪܝܢܐ ܕܡܕܢܚܐ ܕܗܘ ܒܗܢܡ ܪܒܝܥܝܐ ܕܥܒܝܕܐ ܠܗ ܠܥܗܝܕܐ ܐܦܪܝܡ ܕܝܪܝܐ ܘܕܐܬܪܫܡܬ ܥܠ ܫܟܝܢܬܗ ܫܢܬ ܐܨܛ ܡܪܢܝܬܐ ܘܐܬܟܬܒܬ ܒܥܕܬ ܡܪܝ ܬܐܘܡܐ ܕܡܘܨܠ.
ܒܢܝܫܐ ܕܡܪܝ ܝܥܩܘܒ
ܡܢ ܕܝܢ ܝܗܠܝ ܕܡ̈ܥܐ ܠܥܝܢ̈ܐ ܘܚܝܠܐ ܠܡܠܬܐ
ܕܐܒܟܐ ܘܐܺܠܐ ܘܒܚܢ̈ܓܬܐ ܘܒܬܢܚ̈ܬܐ
ܘܐܣܕܘܪ ܘܐܺܡܪ ܡܐܡܪܐ ܒܩܝܢܬܐ ܐܒܠܢܝܬܐ
ܠܐܒܐ ܡܝܬܪܐ ܟܘܟܒ ܕܪܗ ܣܳܡܟܐ ܕܥܕܬܐ
ܒܣܝܠܝܘܣ ܦܘܡܐ ܡܠܝܠܐ ܕܫܪܝܖ̈ܬܐ
ܡܦܪܝܢܐ ܒܗܢܡ ܚܘܬܪܐ ܕܐܒ̈ܬܐ
ܐܝܟܢ ܐܫܠܐ ܡܢ ܐܘܠܝ̈ܬܟ ܚܫܝ̈ܫܬܐ
ܕܡܛܪܦܬܐ ܥܒܕܬܢܝ ܒܡܘܬܟ ܐܦ ܕܘܝܬܐ
ܪܥܝܐ ܛܒܐ ܗܘܝܬ ܠܢ ܕܗܕܝܪ ܒܡܠܦܢܘܬܐ
ܘܗܕܝܬ ܠܥܢ̈ܐ ܡܠܝܠܬܐ ܠܡܖ̈ܓܐ ܕܡܝܬܖ̈ܬܐ
ܘܫܡܠܝܬ ܪܗܛܟ ܕܪܘܚܐ ܘܢܛܪܬ ܗܝܡܢܘܬܐ
ܥܠܗܝ ܢܛܝܪ ܠܟ ܟܠܝܠܐ ܦܐܝܐ ܕܙܕܝܩܘܬܐ
ܡܟܝܠ ܢܬܬܢܝܚ ܡܢ ܛܘܪܦܐ ܘܡܢ ܟܪܝܘܬܐ
ܕܥܠܝܟ ܐܒܘܢ ܫܒܝܚܐ ܡܩܠܣܐ ܒܖ̈ܥܘܬܐ
ܘܢܒܥܐ ܟܠܢ ܡܢ ܪܒ ܟܘܡܖ̈ܝܢ ܒܚܦܝܛܘܬܐ
ܕܢܘܝܢ ܥܡܟ ܢܫܒܚܝܘܗܝ ܒܥܕܬܐ ܫܡܝܢܝܬܐ
ويصف البطريرك أفرام الأول نفسه المفريان بهنام الرابع نقلاً عن الشيوخ قائلاً: «كان شيخاً طويل القامة نحيل الجسم ذا شيبة مهيبة وكان عالماً شهيراً رسمه البطريرك يعقوب الثاني مفرياناً واشترط عليه ألاّ يرسم مطراناً واستكتبه بذلك سنداً ففعل وبرّ بوعده… قدم آزخ ووعظ الشعب وأطال في وعظه والناس راغبون في استماعه وهو ابن السبعين أو أكثر» (كتاب الأحاديث للبطريرك أفرام الأول برصوم، تحقيق ونشر البطريرك زكا الأول عيواص، المجلة البطريركية العدد 13 آذار 1982 ص12 وآذار 1981 ص 147).
والمفريان مار باسيليوس بهنام الرابع هو آخر مفارنة المشرق، إذ ألغيت هذه الرتبة سنة 1860م بقرار مجمعي وقّعه سبعة عشر مطراناً وأسقفاً.
ومما يذكر عنه أنه لدى عودته من نفيه إلى مقر كرسيه المفرياني الجثلقي، استقبله الشعب الموصلي بفرح عظيم وبعد أن باركهم قال: «عفا اللّه عما سلف، أما الذين وشوا بي ظلماً، فأسأل لهم من الرب المغفرة… ولكن إذ قد وضعوا أيديهم على مسيح الرب، وصاروا حجر عثرة للمؤمنين، فستستأنف دعواي أمام منبر المسيح». وقد قطع الرب دابر أولئك المنافقين الظالمين.
قــــوة الأديـــــان )*(
ليتمجد اسم اللّه القدوس إلهنا وخالقنا وأبينا ورازقنا والمعتني بنا، الذي جمعنا اليوم من أماكن عديدة في العالم لنسبّحه ونقدّسه بروح التواضع والوداعة والمحبة بلغاتنا وألسنتنا المختلفة، فنسأله تعالى أن يلهمنا ما فيه خير البشرية وسعادتها، إنه السميع المجيب. ليبارك اللّه جماعة القديس إيجيديو على هذا الاجتماع المبارك وعلى جهودهم الجبارة في سبيل توطيد السلام في العالم فهم صانعو السلام.
أما بعد أيها السامعون الكرام: فمنذ وجود الإنسان كان الدين وما يزال أهم مبدأ يسيطر على حياته الخاصة والعامة، ويحدد كيفية علاقته بإلهه وبما أبدعه اللّه من مخلوقات. ولا أعني بالدين هنا المراسم الخارجية، والفرائض والطقوس التي يمارسها الناس باسمه تعالى على اختلاف عقائدهم الدينية، فهذه ولئن عبّرت عن أصول الدين لكنها قد تغدو مع مرور الزمن ألفاظاً وممارسات خالية من قوة التقوى وروحها فلا يصل تأثيرها إلى قلب الإنسان وعقله وضميره. فقوة الدين إذاً تنجلي في كيفية الحياة التي يحياها المرء واجتهاده على أن تكون صالحة منسجمة مع إرادة اللّه تعالى خالق الكون، ومنشطة الضمير ليبقى حياً، طاهراً، فترتفع الروح إلى أجواء التقى، وتسمو الأخلاق إلى قمة الفضائل ويتحلّى الإنسان بالصدق والاستقامة والابتعاد عن الرياء والنفاق، ويحب السلام بين الناس.
هل تأملت الإنسان في تاريخه الطويل وهو يطمح في حياته إلى بلوغ السعادة على الأرض؟ فإنه يفشل في هذا الميدان ما لم يبنِ علاقة سلام متينة مع خالقه الذي بإمكانه وحده أن يهب السعادة الحقيقية، إذ يملأ فراغ قلب الإنسان ويصونه في إطار الأخلاق الجيدة التي تعتبر مع الدين الصحيح صنوين متلازمين لا ينفصل أحدهما عن الآخر. فإذا امتلأ قلب الإنسان بروح اللّه، غمرت السعادة الداخلية حياته، وملأت البهجة روحه مهما كانت ظروفه الخارجية صعبة ومضطربة وغير مستقرة.
فقوة الدين إذاً تظهر في صلاح السيرة الذي يترجم نقاء القلب وطهره حيث تنطبق إرادة الإنسان الذاتية على الإرادة الإلهية، وينال الإنسان قوة ليناجي اللّه قائلاً: لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض ولتكن مشيئتك لا مشيئتي. وليس هذا الأمر سهلاً ذلك أن في داخل الإنسان حرباً قائمة بين الخير والشر، يصفها الرسول بولس بقوله: «فإني أعلم أنه ليس ساكن فيّ، أي في جسدي، شيء صالح، لأن الإرادة جاهزة عندي وأما أن أفعل الحسنى فلست أجد لأني لست أفعل الصالح الذي أريده بل الشر الذي لست أريده فإيّاه أفعل» (رو 7: 18و19).
لا غرو من أن المؤسسات الدينية السليمة الصالحة تساعد الإنسان على بلوغ هدفه السامي من سعيه بالسمو بأخلاقه والتخلص من أسباب الخطية، وتشجعه هذه المؤسسات أيضاً على مواصلة الجهاد الروحي ضد الشر، واضعة أمامه المكافأة التي يحوز عليها الفائزون في ميدان الجهاد الروحي، هذه المكافأة يدعوها الرسول بولس إكليل المجد أو إكليل البِر الذي يهبه الرب الديان العادل في السماء، جائزة نفيسة لكل من عاش السماء على الأرض، إلى جانب ما يناله هذا الإنسان وهو ما يزال على الأرض من سعادة داخلية عارمة، نتيجة اتحاد إرادته بإرادة اللّه فتضحي حياته حياة تمجيد للّه تعالى على حدّ قول السيد المسيح: «لكن فليضئ نوركم هكذا قدام الناس ليروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السموات» (مت 5: 16).
أجل إن المحبة هي أهم فضيلة تربطنا باللّه الذي يصفه الرسول يوحنا قائلاً: «اللّه محبة» (1يو 4: 8) وتُظهِر عظمةُ المحبة قوةَ الدين السليم الصحيح، ودوره الفعال في المجتمع البشري فنحن نحبّ اللّه خالقنا ورازقنا ومدبرنا والمعتني بنا وقد أحبنا هو أولاً فخلقنا على صورته كمثاله ناطقين عاقلين وذوي إرادة حرة، وأمرنا بقوله: «تحبّ الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن فكرك ومن كل قدرتك. هذه هي الوصية الأولى، وثانية مثلها هي تحب قريبك كنفسك ليس وصية أخرى أعظم من هاتين» (مر 12: 30و31). وإن محبتنا للّه تظهر في محبتنا لقريبنا على حد قول الرسول يوحنا: «إن قال أحد إني أحب اللّه ويبغض أخاه فهو كاذب لأن من لا يحب أخاه الذي أبصره كيف يقدر أن يحبّ اللّه الذي لم يبصره ولنا هذه الوصية منه أن من يحب اللّه يحب أخاه أيضاً» (1يو 4: 20و21).
فمحبتنا للّه وللقريب تنجلي فيما نمارسه من أعمال البر والإحسان، روحياً ومعنوياً واجتماعياً. وإن مثل السامري الصالح الذي ضربه السيد المسيح يجسّد لنا كيفية محبة الإنسان الحقيقية لأخيه الإنسان، دون التمييز بين دين ودين، ومذهب ومذهب، وجنس وجنس، ولون ولون، ولغة ولغة، فالسيد المسيح بهذا المثل ينقلنا من الكلام النظري عن المحبة إلى مركز إسعاف تُنقَذ فيه حياة إنسان مغدور، سلبه إخوته البشر ماله، وضربوه، وأثخنوا في جسمه الجراح وتركوه بين حي وميت… ويكشف لنا المثل بشخصَي الكاهن واللاوي اللامبالاة التي اتصف بها بعض من عُرفوا بأنهم يمثلون الدين وقد حادوا عن السبيل المستقيم ويصفهم الرسول بولس بقوله: «ولهم صورة التقوى ولكنهم منكرون قوتها» (2تي 3: 5). أما السامري الذي كان محتقراً من مجتمعه، ففي عمله الصالح برهن على أنه يخاف اللّه، ويعرف ماهية الدين الصحيح فقد أسعف الساقط بين اللصوص وحمله على دابته، وأخذه إلى فندق، ودفع عنه، وأوصى أن يعتنى به، فاستحق هذا السامري أن يدعى صالحاً.
فلا تعجب من رؤية المؤسسات الصحية والخيرية العالمية التي تعتني بالمرضى والمعوزّين دون معرفة هوياتهم واتجاهاتهم، فهذه هي ثمار تأثير الدين على الحضارة الإنسانية.
ومن أسمى التعاليم الدينية التي أعطيت للبشرية، عن علاقة الإنسان باللّه تعالى هي أن اللّه أبونا ونحن أولاده، وما أنبل صفة الأبوة التي نُطلقها على اللّه تعالى فإنها تحمل كل معاني المحبة والحنان والتضحية ونكران الذات، وتعمق في أذهاننا معرفة صفات اللّه الذي هو أبونا السماوي وقد خلقنا على صورته. (تك 1: 26و27).
لقد علّمنا السيد المسيح أن ندعوَ اللّه أبانا قائلاً: «فصلوا أنتم هكذا أبانا الذي في السموات» (مت 6: 9و10). إن تأثير محبة أبينا السماوي لنا تظهر في عنايته بنا ونفهمها جيداً عندما نختبر محبة الأب البشري الصالح لأولاده وقد قرَّب السيد المسيح هذا الأمر إلى أذهاننا بقوله: «أم أي إنسان منكم إذا سأله ابنه خبزاً يعطيه حجراً وإن سأله سمكة يعطيه حية. فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة فكم بالحري أبوكم الذي في السموات يهب خيرات للذين يسألونه» (مت 7: 9 ـ 11).
فعلينا أن نحبّ أبانا السماوي لذاته لا طمعاً بجنته ولا خوفاً من ناره الأبدية. وأن نقتدي به تعالى بمحبته لمخلوقاته. فأين هو الإنسان اليوم من معرفة اللّه ومحبته؟
لقد ابتعد الإنسان عن اللّه، وأخذ يخبط خبط عشواء في الليلة الظلماء، وهيمنت على أفكاره الكبرياء، وضلّ سواء السبيل، ظاناً بأن التكنولوجيا توفّر له السعادة في الحياة، خاصة وأن التكنولوجيا تتقدم ساعة بعد ساعة بسرعة فائقة على الأرض، وفي الفضاء. ولكن الإنسان من حيث يظن أنه قوي، هو ضعيف جداً، فهو لا يقوى على الصمود أمام قوى الطبيعة وتقلباتها، وقد قهرته الأوبئة الخبيثة وأرعبته الأمراض المستعصية، وهو لاهٍ في عبادة المال، وأهواء الجسد، وبذلك يشبه من يحاول أن يطفئ ظمأه من ماء البحر، فيزداد عطشاً، ويسعى لنيل السعادة على الأرض، فيزداد شقاءً، لأنه قد ابتعد عن محبة اللّه ومحبة أخيه الإنسان، وطوّر آلات الموت والدمار، وابتدع الحرب الاقتصادية ليميت إخوته البشر جوعاً وحرماناً.
أجل إن الدين الصحيح هو ضمير المجتمع، فمتى حادت السياسة عن جادة الحق، فعلى المؤسسات الدينية أن تدق لها ناقوس الخطر، وتوجّه المسؤولين إلى الصواب… وحيث أن رسالة الأديان الكبرى: البوذية واليهودية والمسيحية والإسلام، هي رسالة إيمان ومحبة وسلام، فباعترافها بعضها ببعض، وتعاونها بعضها مع بعض، تزداد قوة وتتمكن من إنشاء جيل مؤمن فاضل، وناكر ذاته، يُسعد نفسه والعالم، بنبذه الحروب، وإقامة السلام العادل بين الشعوب، ويرفض الذل والجور واللامبالاة، لأنه ينصت جيداً إلى صوت الضمير الحي، ويعمل بموجب شرائع الأديان الصحيحة التي كلها تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، فيعمّ السلام العادل على الأرض.
لقد عُرفت الديانة البوذية بمحبة السلام، وعمل الخير، فنشرت المحبة بين الناس، كما عُرفت بذلك أيضاً الديانات: اليهودية والمسيحية والإسلام، وأتباع هذه الديانات الثلاث الأخيرة يعتبرون ابراهيم الخليل أبا الآباء لديهم، والمسيحية تعترف بأسفار التوراة وأسفار النبوات، التي تنطوي على كل النبوات التي تمّت بحذافيرها بالسيد المسيح، وهي الدليل القاطع والبرهان الساطع على أن يسوع الناصري هو المسيح المنتظر.
وإن نقاط التلاقي بين الإسلام والمسيحية كثيرة وواضحة، ومميزة، فأتباع الديانتَين، يؤمنون باللّه الواحد الأحد، وبالبعث، ويوم النشور، والقيامة العامة، والجنة والنار. وقد شهد القرآن الكريم عن قرب النصارى من المسلمين بقوله: «ولنجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنَّا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وإنهم لا يستكبرون».
فعلى أتباع الديانات الكبرى أن يتعاونوا على البر والتقوى، ليساعدوا على إسعاد البشرية، وليعلموا أنهم جميعاً أولاد اللّه.
أيها السامعون الكرام: ما أجمل أن يجتمع الإخوة معاً، ما أسمى أن يجلس حول طاولة واحدة بعض قادة العالم الروحيين، والسياسيين، ليدرسوا معاً مشاكله الروحية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي لا يحصى لها عدد، محاولين إيجاد الحلول الشافية لها، لتتخلّص البشرية من الحروب، والمجاعات والأوبئة، والأمراض المستعصية، ولتجابه الكوارث الطبيعية الأليمة بتسليم تام، وإيمان باللّه، فيتوفر لها السلام مع اللّه والإنسان، وشكراً.
الإسلام و المسيحية تكامل تاريخي في بناء الحضارة العربية)*(
- تمهيد:
عُرّفت الحضارة بأنها «مجموع الخصائص الاجتماعية والدينية والخلقية والتقنية والعلمية والفنية الشائعة في شعب معيّن» ([240]). والإنسان ابن بيئته وصنيع المكان والزمان. ويعتبر الموطن الأصلي للشعب العربي المسيحي والمسلم، شبه الجزيرة العربية، الواقعة في جنوب غرب آسيا وهي قليلة المياه كثيرة الجبال والصخور، مجدّبة، وغلب على سكانها البداوة وقد فرضت عليهم طبيعة بلادهم المجدّبة أن يربّوا الإبل وسائر الأنعام للسير عليها والارتزاق منها. وكانوا([241]) ينتقلون من موضع إلى آخر طلباً للكلأ لأنعامهم. وتنقّل بعضهم من بلد إلى بلد للتجارة على الرغم من وعورة الطرق، وهكذا خرجت جماعات منهم إلى العراق وسورية وسائر بلاد الهلال الخصيب.
واتّصف العرب بالذكاء الفطري وظهر فيهم شعراء مبدعون كانوا يتناشدون ما أحدثوا من الشعر سنوياً في سوق عُكاظ في الحجاز. وكان مجتمعهم عشائرياً، وقلما ارتبطت قبيلة بأخرى، إلى أن وحّدهم الإسلام.
- دخول المسيحية في الجزيرة العربية:
ولم تكن أحوالهم الدينية منظمة وكانت أغلب قبائلهم وثنية صرفة.
ودخلت المسيحية الجزيرة العربية منذ القرن الأول للميلاد([242])، وانتشرت مع مرور الزمن انتشاراً سريعاً في عدد كبير من القبائل العربية عبر بادية الشام والعراق، كقبائل ربيعة وبني تغلب وبني كلب، كما تنصّر من اليمن طي وبهراء وسليخ وتنوخ وغسان وغيرها([243]).
ومما عرقل انتشار الدين المسيحي في الجزيرة العربية انقسام الكنيسة المسيحية على ذاتها والصراع العقائدي السقيم بين أبنائها. وكان المسيحيون العرب يتفاعلون مع الأحداث في مجتمعهم في الجزيرة العربية. فاشتهر منهم في أواخر القرن السادس وأوائل السابع للميلاد قُسّ بن ساعدة الأيادي أسقف نجران الذي دُعي حكيم العرب وخطيبها وشاعرها، وورقة بن نوفل بن أسد أسقف مكة. وهو ابن عم خديجة زوج الرسول العربي الكريم. وكانت مكة يومئذ مليئة بالمسيحيين، وكان معظم نصارى مكة واليمن ونجران من السريان. وكان عدد كبير من عرب نجران قد اضطهدهم مسروق اليهودي الذي يُدعى ذو نؤاس في أوائل القرن السادس للميلاد محاولاً إكراههم بالوعد والوعيد على اعتناق اليهودية فرفضوا فسامهم صنوف العذاب وحرقهم مع ملكهم الحارث في أُخدود النار سنة 523. وهم الشهداء الحميَريون أصحاب الأُخدود([244]).
وكان العرب الغساسنة في سورية قد شكّلوا إمارة مهمة، وأسند قياصرة الروم إلى أمرائهم آل جفنة عُمالة سورية، فكانوا يحمون الحدود البيزنطية من هجمات القبائل العربية الموالية للفرس([245])، وكانوا متمسكين بكنيستهم السريانية ويدافعون عن عقائدها.
- حالة المسيحيين عند ظهور الإسلام:
وعندما ظهر الإسلام في أوائل القرن السابع للميلاد وجد المسيحيين في الشرق الأوسط منقسمين إلى ثلاث فئات تعرف اليوم باسم الروم الأرثوذكس والسريان الأرثوذكس وأبناء الكنيسة الشرقية أي الآثوريين، فاعترف الإسلام بهم جميعاً. وفي معرض كلامي عن الإسلام والمسيحية تكامل تاريخي في بناء الحضارة العربية، لا بد من أن أتكلّم عن الكنيسة المسيحية بصورة عامة، وكنيستي السريانية الأرثوذكسية بصورة خاصة لعلاقتها التاريخية المتميّزة بالعرب والإسلام عبر الدهور.
عندما انعقد مجمع خلقيدونية عام 451 وتبنّت الدولة البيزنطية قراراته، أثارت اضطهادات عنيفة ضد رافضيها وفي مقدمتهم أتباع الكنيسة السريانية في سوريا الطبيعية، فتحمّل آباؤها الروحيون من جراء ذلك صنوف العذاب من نفي وسجن وقتل، واستشهد منهم عدد كبير. ولئن تذرّعت الحكومة البيزنطية بإثارة الاضطهادات العنيفة على السريان بحجة رفضهم قبول قرارات مجمع خلقيدونية، ولكن الدافع الأول والأهم من وراء محاولة إبادتهم كان قمع الأفكار التحررية، والوعي القومي الذي دبّ في صفوفهم وتولّد في قلوبهم من قسوة المستعمر البيزنطي الذي سلب سورية خيراتها الطبيعية. ولم تنته اضطهادات المملكة البيزنطية للكنيسة السريانية إلاّ بظهور الإسلام حيث خرجت موجة من الذين دانوا به من الجزيرة العربية وحررت بلاد المشرق من حكم البيزنطيين والفرس في النصف الأول من القرن السابع للميلاد([246]) وكانت عوامل عديدة نفسية ودينية واجتماعية وقومية متوفّرة لدى السريان سكان البلاد الأصليين لاستقبال أولئك العرب المسلمين الذين جاؤوا لتحرير البلاد من نير الحكم البيزنطي الظالم، ورحّب السريان بقدوم العرب المسلمين الفاتحين واستقبلوهم كمحررين للبلاد خاصة وأن معظم القبائل العربية في العراق وسورية كانت دينياً مسيحية على مذهب السريان، وأيّدت هذه القبائل العرب المسلمين الذين يمتّون إليها بصلة الدم واللغة والتراث والحضارة لذلك انضمت أغلبها إلى الجيش العربي المسلم تحت إمرة المثنى بن حارثة الشيباني (ت 635) وخاصة قبائل بني تغلب وعقيل وتنوخ وربيعة الضاربة في شمال العراق وغربه، فحاربت جنباً إلى جنب مع العرب المسلمين وتمّ القضاء أولاً على الدولة الفارسية سنة 651م حينما فرّ (يزدجرد) آخر ملوكهم إلى ما وراء حدود بلاده. ويذكر التاريخ أن غلاماً مسيحياً سريانياً من بني تغلب قتل المرزبان مهران القائد الفارسي واستولى على فرسه أثناء إحدى المعارك التي دارت رحاها بين العرب والفرس وأنشد الفتى قائلاً: أنا الفتى التغلبي، أنا قتلت المرزبان([247]). كما حرّر العرب المسلمون سوريا وبقية بلاد الشرق الأوسط من الاستعمار البيزنطي، وتنفّس السريان الصعداء وقالوا: «نحمد اللّه الذي خلّصنا من حكم البيزنطيين الظالمين وجعلنا تحت حكم العرب المسلمين العادلين».
- المسيحيون تحت الحكم الإسلامي:
بعد أن شارك المسيحيون إخوتهم المسلمين العرب في الحرب، مع المحافظة على دينهم، وحرّروا البلاد من المستعمرين، شاركوهم أيضاً في توطيد أركان الدولة الجديدة. قال الفيكونت فيليب دي طرازي في كتابه «عصر السريان الذهبي» ما يأتي: «احتظى السريان بالثقة والاحترام عند الخلفاء الراشدين (632 ـ 661م) والخلفاء الأمويين (662 ـ 746م) والعباسيين (750 ـ 1258م) وأول من نال القربى لديهم حين الفتح العربي هو منصور بن يوحنا السرياني الذي أصبح وزيراً للمالية في عهد الخلفاء الراشدين. أما ابنه سرجون فصار المستشار المالي للخليفة معاوية»([248]).
لا عجب من أن العرب المسلمين قد اشتهروا بمحبة العلم، ومما برهن على ذلك افتداء الأسرى بالتعليم على أثر الانتصار الباهر الذي أحرزه العرب المسلمون في غزوة بدر الكبرى، وكان أسرى قريش فئتين، فئة الأغنياء الذين افتداهم أهلهم بالمال، وفئة الفقراء الذين جعل المسلمون فداء كل واحد منهم أن يعلم القراءة والكتابة لعشرة من صبيان المدينة، الأمر الذي سطّر للحضارة الإسلامية آيات الفخر. فلا غرو من أن نرى الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين العرب يكرّمون العلماء دون تمييز بين مسلم ومسيحي ويشجعونهم على نشر العلم والمعرفة.
وابتدأت هذه النهضة العلمية العربية على عهد الأمويين وامتدت وتقوّت على عهد العباسيين وساهم بها علماء السريان وكتّابهم بنقلهم الثقافة اليونانية إلى السريانية ومنها إلى العربية، فعرّبوا كتب المنطق والفلسفة والفلك والطب وغيرها، وتعمّقوا بدراستها وألّفوا فيها، وأهم المترجمين والعلماء يحيى بن عدي (974+) وابن زرعة عيسى أبو علي (1008+) وأبو الخير الحسن بن سوار ابن الخمّار واسحق بن زرعة (1056+)([249]) ويوحنا ابن ماسويه طبيب البلاط العباسي من أيام الرشيد حتى المتوكّل. وعمار البصري، وابن الطيب وإيليا النصيبيني وحنين بن اسحق (808 ـ 873)، واسحق بن حنين (911)، وثاودورس أبو قرة (825+) وقسطا بن لوقا البعلبكي (820 ـ 912). وبتشجيع من خلفاء المسلمين أسّس المسيحيون المدارس العالية في الأديرة وكانت هذه المدارس يتبعها مكتبات، فصارت منارات لشتى العلوم والآداب، التي نمت نمواً عظيماً([250]) لدى العرب. وهكذا بتعاون الإسلام والمسيحية أضحت البلاد العربية كعبة العلم والمعرفة في ذلك الزمان وعن طريق الأندلس نقلت الحضارة العربية إلى الغرب.
وفي صدد تشجيع الخلفاء المسلمين العلماء والأدباء والشعراء العرب وتكريمهم دون تمييز بين مسلم ومسيحي نذكر على سبيل المثال الأخطل الشاعر العربي المشهور وهو من بني تغلب من أبناء الكنيسة السريانية الذي نال حظوة لدى الخلفاء الأمويين ولقب بشاعر بني أمية حتى أن الخليفة عبدالملك بن مروان (685 ـ 705) لدى سماعه قصيدته (خف القطين) الذي مدحه فيها الأخطل قال له: ويحك يا أخطل أتريد أن أكتب إلى الآفاق أنك أشعر العرب؟ قال أكتفي بقول أمير المؤمنين.
وفي ميدان السياسة تعاون المسيحيون مع إخوتهم المسلمين في بناء الحضارة العربية وشاركوهم في الشؤون الإدارية واستتباب الأمن في الدولة نذكر هنا حادثة انتداب المأمون الخليفة العباسي (813 ـ 833م) البطريرك الأنطاكي السرياني مار ديونيسيوس التلمحري (845+) للنهوض بمهمة سياسية في صعيد مصر لإخماد ثورة المسيحيين الأقباط القاطنين هناك، فذهب البطريرك ديونيسيوس إلى مصر وتعاون مع مار يوساب بطريرك الإسكندرية القبطي الأرثوذكسي في إنجاز هذه المهمة.
وكان المسيحيون أمناء في خدمة الخلفاء المسلمين، فشغل بعضهم وظائف مرموقة في الدولة، واستخدم بعضهم في دواوين الدولة([251]). وكان بعضهم أطباء الخلفاء. نذكر على سبيل المثال لا الحصر الطبيب الشهير أمين الدولة أبو كرم صاعد بن توما البغدادي الذي قرّبه إليه الخليفة الناصر (1180 ـ 1225م)، وأمّنه على جميع أسرار دولته وأفراد عائلته، وكان صادقاً أميناً للخليفة والوطن حتى الموت، فقد استشهد على يد بعض الذين كانوا قد دأبوا على الخيانة.
وضعفت الكنيسة المسيحية على أثر سقوط بغداد بيد المغول سنة 1258م، وصار المغول مسلمين عام 1295 ولم يكونوا عادلين كالمسلمين العرب، فقلّ عدد المسيحيين هناك من جراء ظلم القائد المغولي تيمورْلنك أو تيمور الأعرج (1336 ـ 1393) الذي استولى على سوريا وبلاد ما بين النهرين وعمّت الضيقات وانتشرت الأوبئة وعانى العرب المسلمون والمسيحيون كثيراً في تلك الحقبة التاريخية على يد هذا القائد المسلم غير العربي، كما لم يراع العهود التي أُعطيت للمسيحيين من الرسول العربي الكريم والخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين بحمايتهم وصيانة حقوقهم، بل هدر دمهم وهدم كنائسهم وأديرتهم ومدارسهم وحرق مكتباتهم، ففقدت أغلب مخطوطاتهم الثمينة وهذا يعدّ خسارة فادحة ليس للحضارة العربية وحسب بل أيضاً للحضارة الإنسانية العالمية.
وفي أوائل القرن الخامس عشر استولى العثمانيون على قسم كبير من آسيا الصغرى. وفي نصف القرن الخامس عشر سقطت المملكة البيزنطية بسقوط القسطنطينية بيد العثمانيين سنة 1453([252]). ولكن عاد التكامل الحضاري الإسلامي المسيحي في القرن الثامن عشر بالنهضة الحضارية العربية الأدبية العلمية التي بدأت في مصر بتعاون الأدباء والعلماء المسلمين والمسيحيين من سوريا ولبنان وامتدت إلى القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، الأمر الذي انجلت فيه علائم التكامل الحضاري للإسلام والمسيحية وعانق الهلال الإنجيل والإنجيل الهلال، وتجسّد الشعار القائل: «الدين للّه والوطن للجميع» مما ساعد كثيراً في أغلب الدول العربية على توطيد الوحدة الوطنية والتخلص من الاحتلال الأجنبي.
إننا نحتاج اليوم كمسلمين ومسيحيين إلى بث الوعي القومي والاقتداء بالآباء الميامين الذين سفك دمهم على أرض الوطن العربي يوم حرروه من غاصبيه، وعبر الأجيال ذادوا عن حياضه وكان المسلمون والمسيحيون في خندق واحد، كما أنهم سعوا إلى حماية الحضارة العربية وسلّموها إلينا أمانة في أعناقنا لنصونها كحدقة العين، ودمهم يجري في عروقنا فنحن شعب عربي واحد، فلنوطد الوحدة الوطنية في الوطن العربي كله لترفع راية العروبة عالياً. ففي الوطن العربي والمهجر نحتاج إلى الوعي الذي يوحّد صفوفنا كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضاً، فكلنا أبناء هذا الوطن الواحد ونعبد اللّه الواحد الأحد. ولنعلّم أولادنا أن الإسلام والمسيحية تكامل تاريخي في بناء الحضارة العربية، وأن آباءنا المسلمين والمسيحيين بمحبتهم للعلم، ونشرهم إياه، وبأخلاقهم الحميدة المبنية على أسس الدينين الساميين المسيحية والإسلام نشروا الحضارة الحقيقية التي من أهم خصائصها تهذيب أخلاق الإنسان لينشأ أميناً للّه تعالى خالق الأكوان ومدبّرها، ومحباً لوطنه العربي أينما كان متحلّياً بالفضائل السامية في عالم اليوم الذي عمّ فيه الفساد وانهيار الأخلاق «وإنما الأمم الأخلاق».
وإننا نذكر بالفخر أنّ الحضارة العربية في أيامنا هذه قد ازدهرت في سورية العربية بفضل رئيسنا المبجل حافظ الأسد هبة السماء للوطن العربي والعالم، فهو الذي يصون الحضارة العربية العريقة سليمة نقية، ويشجّع التكامل الإسلامي المسيحي. وبفضل توجيهاته الحكيمة تعقد في سورية الحبيبة الندوات والمؤتمرات العلمية المتنوعة مما جعل من سورية العربية مركز إشعاع حضاري عربي وعالمي، وإنّ ندوتنا هذه خير مثال على ذلك. فألف شكر وشكر لرئيسنا المبجل حافظ الأسد حفظه اللّه تعالى بتمام الصحة والعافية وأمدّ في عمره ليواصل العطاء بسخاء من أجل ازدهار الحضارة العربية.
ويروق لنا أن نشكر سيادة الدكتور محمد زهير مشارقة نائب رئيس الجمهورية وراعي هذه الندوة ندوة الإخاء الديني. كما نشكر سيادة الأستاذ محمد زيادة وزير الأوقاف ورئيس اللجنة التحضيرية وكل من ساهم في إعداد هذه الندوة البناءة ونشكركم جميعاً لحسن إصغائكم، وفّقنا اللّه جميعاً للعمل بما فيه خير الوطن العربي.
نجوم أنطاكية المشرقة يشع ضياؤها في سماء الكنيسة في الهند)*(
ذكرى مرور مئتي عام
على انتقال مار ايونيس يوحنا الموصلي مطران ملبار
إلى الخدور السماوية +1794.
تبقى الكنيسة السريانية الأرثوذكسية في الهند، منارة مشعة يهتدي بنورها الوهاج كل من يسعى مخلصاً إلى بلوغ ميناء الحقائق التاريخية الصادقة، ومعرفة أصول المسيحية، ومواطن ينابيعها الثرة، في الديار الهندية، فتنجلي أمام ناظريه الجهود الجبارة التي بذلها آباؤنا السريان في حمل مشعل الإنجيل المقدس إلى تلك الديار النائية، منذ فجر المسيحية وعبر أجيالها. وتنجلي حقيقة علاقة الكنيسة هناك بالكرسي الرسولي الأنطاكي، وسبب استعمال الطقوس السريانية العريقة باللغة السريانية المقدسة أو مترجمة إلى اللغة المحلية مع المحافظة على سلامة المعنى، وترتيلها بالألحان السريانية الأصيلة التي ورثها السريان عن آبائهم منذ صدر المسيحية، تلك الألحان الشجية الرقيقة. كما تمسكت الكنيسة السريانية في الهند ـ وما زالت ـ بالعقائد الإيمانية التي ورثتها عن الكنيسة الأم والتي كان بعضها مثار جدل في المسيحية، وسلكت الكنيسة هناك بموجب القوانين الكنسية والطقوس والفرائض كما نظمها الآباء السريان، وتوارثوها، كل هذا، والكثير سواه، يقيم الحجَّة الدامغة على جهاد آبائنا السريان في نشر البشارة الإنجيلية في تلك الديار النائية.
ولم تكن المحافظة على سلامة عقائد الكنيسة، وعاداتها، وتقاليدها، وعلاقتها السليمة المتينة بالكرسي الأنطاكي، من الأمور السهلة. فقد كلَّف ذلك آباءنا البطاركة والمطارنة والكهنة بل أيضاً الشعب المؤمن، تضحيات جمَّة، قدَّموها على مذبح محبة المسيح، ولا يزالون حتى اليوم يقدِّمون تضحيات غالية الثمن للحفاظ على سلامة العقيدة، ونقاء التقليد الرسولي، متحدّين الأفكار المستوردة من الغرب، التي تعدّ سموماً قاتلة، تندسُّ بالدسم، والمناداة بالكنيسة الوطنية، التي تعتبر ابتعاداً عن ينابيع الإيمان القويم. ولكن عدد شهود الحق لا يحصى، وكم سمعناهم يرددون بإيمان متين ورجاء وطيد وثقة بالله والكنيسة، في كل مناسبة، قائلين: لقد نلنا الخلاص بالمسيح عن طريق أمنا كنيسة أنطاكية السريانية وكرسيها الرسولي المقدس، فلا يمكن أن نتخلى عنها وعنه لئلا نجف كالأغصان المقطوعة من الكرمة الأم، ونيبس ونلقى في النار. كما أن الكرسي الأنطاكي لا يمكن أن يتنصل من مسؤوليته الروحية الضميرية، تجاه أولئك الذين يؤمنون بأن الكرسي الأنطاكي السرياني قد قدم لهم المسيح المخلص. لذلك كان البطريرك الأنطاكي السرياني ـ وما زال ـ يوفد بين الفينة والفينة، أساقفة إلى الهند، لتثبيت المؤمنين على صخرة الإيمان القويم، وحضّهم على التمسّك بالتقاليد الرسولية المقدسة، والطقوس السريانية والسيرة الفاضلة.
وفي هذا الميدان، اجترع الموفدون إلى الهند، كؤوس العذاب حتى الثمالة، من الداخل والخارج، فمن لم يفز بإكليل الشهادة، مات معترفاً. وكان المؤمنون الصالحون من أبناء الكنيسة في الهند، يشاطرونهم تحمُّل المشقات والضيقات، والصبر على الاضطهادات، مستهينين بالمكاره الشديدة في سبيل الحفاظ على نعمة الشركة الإيمانية، والعلاقة الروحية البنوية بأبيهم الروحي العام، البطريرك الأنطاكي السرياني، وبمن يوفدهم إليهم من آباء أتقياء.
ومن الحوادث المهمة في تاريخ الكنيسة في تلك الديار، ما عاناه الموفدون والمؤمنون المحليون الوطنيون من الضيقات على أثر الاضطهادات التي أثارتها عليهم السلطة البرتغالية هناك. ففي أوائل القرن السادس عشر، وعلى أثر اكتشاف دي فوكو بلاد الهند، استعمر البرتغاليون بعض مناطق تلك البلاد، وقد نالوا بذلك قصب السبق في ميدان الاستعمار المشين. ومما زاد استعمارهم سوءاً، أنهم حاولوا فرض مذهبهم الروماني عنوة، على السريان في تلك البلاد، بالوعد حيناً، والوعيد أحياناً.
ففي سنة 1594 دبّر ألكسيس دي فيسيس الأوغسطيني، رئيس أساقفة أبرشية غوا اللاتينية، مكائد لإكراه السريان على اعتناق المذهب الروماني، ومنع من يوفد من البطريرك الأنطاكي، من الوصول إلى الهند، بتوجيهه السلطات البرتغالية المستعمرة بإقامة حراسٍ على موانئ الهند والعجم الخاصة بالبرتغاليين، لقتل الموفدين من أنطاكية قبل مغادرتهم السفن، فكانوا يضعون حجر الرحى في أعناقهم ويطرحونهم في البحر. كما أثاروا على السريان في الداخل اضطهادات عنيفة، فاستولوا على بعض كنائسهم، وأكرهوا قسماً منهم على اعتناق المذهب الروماني. وفي مجمعهم الذي عقدوه في (ديامبور) سنة 1599، فرضوا على السريان رفض من يأتيهم من أنطاكية وقبول الاكليروس المرسل من روما فقط. ولكن الشجعان من السريان، رفضوا هذا المجمع وسموه المجمع اللصوصي المشؤوم، وعقدوا مجمعاً خاصاً أقسموا فيه على البقاء أمناء للكرسي الرسولي الأنطاكي والجالس عليه. وهكذا واصلوا الجهاد نحو نصف قرن، عابدين الله بالروح والحق، غير ساجدين للتماثيل التي نصبها اللاتين عنوة في الكنائس السريانية لأشخاص رومانيين سموهم قديسين، فدعا اللاتين السريان محاربي الأيقونات وحرقوا كل ما وقع في أيديهم من المخطوطات السريانية النفيسة محاولين إكراه السريان على استعمال الكتب اللاتينية في الصلاة. كما حاربوا زواج الاكليروس فارضين البتولية عليهم، وفصلوا بعضهم عن زوجاتهم وبهذا كثر الفساد وتدهور مستوى الأخلاق، خاصة عندما انتشر الاكليروس اللاتيني غير المتزوج بين الشعب البسيط، وشرعت محاكم التفتيش في إصدار أحكامها الجائرة على الإكليروس السرياني المتمسك بإيمان آبائه وتنفيذ هذه الأحكام بهم بالسجن والتعذيب بل أيضاً بالموت.
ومن هذه الأحكام الجائرة العاتية تنفيذ حكمهم بالموت على الشهيد القديس مار إغناطيوس عبدو بطريرك طورعبدين الذي كان قد تنازل عن الكرسي طوعاً، فأوفده البطريرك الأنطاكي الشرعي إلى الهند عام 1652، فبعد أن وصل إلى سواحل الهند تمكن من مغادرة السفينة متخفياً، ولما وصل إلى (سورات) اعتقله البرتغاليون وأودعوه سجن (ميلابور) قرب (مدراس)، وصادف أن التقى شماسين من السريان الهنود كانا في زيارة ضريح مار توما، فسلمهما رسالة البطريرك الأنطاكي الذي أوفده إلى الهند لتفقد أبناء الكنيسة هناك، فنقل هذان الشماسان الخبر والرسالة إلى أبناء الكنيسة الذين حاولوا إنقاذ السجين المظلوم وإطلاق سراحه، فلم يفلحوا، ذلك أن الطغاة حكام محاكم التفتيش العاتية اصدروا حكمهم الجائر عليه وقتلوه. ولما سمع ملك (كوجين) نبأ قتله، مات هو الآخر فجأة، ذلك أن السريان كانوا قد رفعوا الأمر إليه ولكن الرشوة أخرسته، فلم ينقذ المظلوم من بين أنياب الظالمين، فاعتبر السريان موته هذا المفاجئ، عقاباً له من الله.
وعلى أثر استشهاد الموفد الأنطاكي تجمهر جمع غفير من السريان في بلدة (مطانجيري) المجاورة لـ (كوجين) يوم الجمعة المصادف الثالث من كانون الثاني سنة 1653، ونصبوا صليباً حجرياً في موضع يسمى (كونان)، ربطوا به حبلاً طويلاً وامسكوا به واقسموا على قطع الشركة مع روما التي فرضتها عليهم السلطة البرتغالية، ومواصلة الصلاة إلى اللّه ليخلصهم من الاستعمار البرتغالي المشؤوم وظلم البرتغاليين الطغاة. ووقعوا وثيقة متعهدين بها على الثبات على الإيمان السرياني الأرثوذكسي القويم، وتقديم الولاء لأبي السريان العام البطريرك الأنطاكي([253])، فبعثوا إليه رسائل ملتمسين منه أن يوفد إليهم ممثلاً عنه ليرعى شؤونهم. فأوفد إليهم البطريرك عبد المسيح الأول (1662 ـ 1686)، مطران القدس مار غريغوريوس عبد الجليل الموصلي، الذي رعى الكنيسة في الهند رعاية صالحة وثبّت المؤمنين على صخرة الإيمان القويم، وانتقل إلى الخدور العلوية يوم الجمعة المصادف 14 نيسان سنة 1671، ودفن في بيعة (ييرور). فأوفد البطريرك عبد المسيح الأول ذاته المفريان باسيليوس يلدا الباخديدي (القرقوشي) الذي تنازل عن كرسي مفريانية المشرق حباً بمصلحة الكنيسة وخدمتها بصورة أفضل، وفي سنة 1685 بدأ رحلته إلى الهند عن طريق البصرة صحبة أخيه جمعة ورهبان من ديري مار متى ومار بهنام، وهم الربان جوقة والربان متى والربان هداية اللّه بن شمو الذي رسمه أسقفاً باسم أيونيس ليعاونه في رعاية الكنيسة. وكانت رحلتهم شاقة جداً، وعند وصولهم إلى ملبار، ظنوا أن البلاد كانت لا تزال تحت حكم البرتغاليين، فتوقلوا جبالاً شاهقة، واجتازوا غابات مرعبة مشياً على الأقدام، ودليلهم رجل وثني يرعى جواميس، الذي أوصلهم إلى كنيسة مار توما في (كوطامنكلم)، فخصصوا له مبلغاً من المال يتقاضاه سنوياً من صندوق تلك الكنيسة، هو ونسله من بعده، بناء على وصية المفريان، ولا تزال أسرته تتقاضى ذلك حتى الآن، وفي الذكرى السنوية للمفريان يلدا الذي تحتفل به تلك الكنيسة سنوياً يقود أحد أفراد هذه الأسرة الوثنية الدورة في الكنيسة ممثلاً جده الذي صار بمثابة دليل للمفريان وصحبه، فجاء بهم إلى تلك الكنيسة. ولوعورة الطريق وما لاقوه من متاعب، فبعد وصولهم إليها بثلاثة عشر يوماً، انتقل المفريان يلدا إلى الخدور العلوية في 19 أيلول من تلك السنة، بعد أن رقى الأسقف ايونيس هداية اللّه إلى رتبة المتروبوليت، وذلك في عيد الصليب 14 أيلول. فدفن في 20 منه في مذبح بيعة القديس توما في كوطامنكلم([254]). ورعى مار ايونيس هداية اللّه الكنيسة في الهند بخوف الله، وانتقل إلى جوار ربه في 3 آب سنة 1694، ودفن في كنيسة مار توما في بلدة (ملنطورتي)، ودعي «الرسول مار توما الثاني»، وشهد له السريان في الهند برسالة انفذوها إلى البطريرك في أوائل القرن الثامن عشر بأنه أرجعهم إلى التمسك بتقاليد آبائهم القديمة. وفي سنة 1746 أوفد البطريرك جرجس الثالث إلى الهند المطران ايونيس يوحنا ابن الشماس شاهين بن شمو الآمدي (1740 ـ 1755) الملقب بابن العرقجنجي، ويُعرف بالموصلي، نسبة إلى أصله، واسم أمه قمر، وكان البطريرك شكرالله قد رسمه مطراناً للقلاية سنة 1740 وأوفده البطريرك جرجس الثالث إلى الهند، فأبلى بلاء حسناً وكسّر التماثيل التي فرض اللاتين بسلطة البرتغاليين وضعها في كنائس ملبار، عندما استولوا عليها عنوة، وكسّرها المطران ايونيس الآمدي، كما ألبس القسوس طاقيات سوداء بمثابة «الفير» الذي يضعه الكهنة السريان على رؤوسهم، خاصة أثناء القيام بالخدمات الكهنوتية. وكان يعاقب مخالفي الشريعة والمتعدين على التقاليد البيعية السريانية بتأديبات كنسية، وعُرف بحدة المزاج والإستبداد بالرأي، فاستاء منه توما الخامس الذي كان متسقفاً بأمر نفسه، وضجر منه كبار القوم، فكتب توما أيضاً رسالة يلتمس بها من البطريرك إرسال مفريان، ومنها نستدل على أن توما الخامس ينحدر من عائلة كهنوتية عريقة، كان أفراد منها يهتمون برعاية الكنيسة أثناء غياب مندوبي البطريرك الأنطاكي، كما يذكر في تلك الرسالة أيضاً أن الرسول توما أقام مدبرين للكنيسة في الهند من أسرتين اثنتين عريقتين، إحداهما الأسرة التي ينحدر منها توما المذكور، كما يذكر في رسالته أيضاً الحدث التاريخي المهم الذي يعد نقلة نوعية في تاريخ الكنيسة في الهند التي تقوّت وازدهرت بمجيء الجالية السريانية من ضواحي الرها سنة 345 إلى الهند، وكانت مؤلفة من 400 نفس من قسوس وشمامسة ومؤمنين، من الرجال والنساء والأطفال، برئاسة الأسقف يوسف الرهاوي، والتاجر الكبير توما الكنعاني.
ويلتمس توما في هذه الرسالة من البطريرك الأنطاكي إرسال وفد إلى الهند على مستوى كهنوتي عالٍ، ليصلح رسامته الكهنوتية، ويرقيه إلى درجة الأسقفية، ولذلك أقنع المطران ايونيس يوحنا العرقجنجي، فشاركه بالكتابة إلى البطريرك ملتمساً إرسال مفريان إلى الهند.
وبناءً على ذلك رسم البطريرك جرجس الثالث (1745ـ1768)([255]) الراهب القسيس شكرالله قصبجي الحلبي، مفرياناً على الهند، في شهر آب سنة 1748، وأصدر له سوسطاثيقوناً. وقلد ايونيس يوحنا الباخديدي مطران دير مار بهنام، مطرانية القدس، أبدل اسمه بغريغوريوس، وعيّنه مرسلاً إلى ملبار([256]).
فشد موكب المفريان الرحال من حلب إلى بغداد حيث انضم إلى حاشيته الربان يوحنا الموصلي، أحد رهبان دير الزعفران، الذي أوفده البطريرك إلى الموصل لزيارة أهله ولينضم بعدئذ إلى حاشية المفريان، وكان الربان يوحنا قد أتقن السريانية إلى جانب التركية والعربية، وتمرّس بالطقوس البيعية والقوانين الكنسية والعلوم الدينية، وكان البطريرك إغناطيوس شكرالله المارديني (1722ـ1745) قد رسمه كاهناً.
غادر المفريان شكرالله وصحبه بغداد بطريق النهر إلى البصرة، ثم أخذوا السفينة إلى بومباي، وقد أحدقت بهم خلال الرحلة، شدائد كثيرة، وأحاقت بهم المكاره والمصاعب من كل جانب، فمن قطاع الطرق إلى قراصنة البحر، إلى العواصف الهوجاء والأمواج العاتية، ولكن اللّه كان معهم فوصلوا بالسلامة إلى ميناء كوجين([257]). وعملوا حالاً بتوجيهات البطريرك مبلّغين المطران ايونيس يوحنا الأمدي (1740ـ1755) أمر قداسته بالعودة إلى دير الزعفران، ثم باشروا الحوار مع توما الخامس المتسقف بأمر نفسه، الذي بعدما التمس البطريرك برسامة المفريان شكرالله وإيفاده إلى الهند، رجع عن رأيه عند وصول المفريان، وادّعى أنه ليس بحاجة إلى رسامة كهنوتية لأن رسامته شرعية، وأنه رئيس الكنيسة في الهند، ورفض مقابلة المفريان، فأرسل المفريان الربان يوحنا لمفاوضته، فلم يفلح هذا أيضاً بإقناعه للإذعان للحق وترك المراوغة واللف والدوران.
ورسم المفريان شكرالله الربان يوحنا الموصلي مطراناً على ملبار، في 30 نيسان سنة 1752 في اليوم الثاني من عيد القيامة، وذلك في كنيسة كندناط، وسماه مار ايونيس يوحنا، وبهذا الاسم كان يوقع رسائله الرسمية، ولئن لقّب أيضاً بـ «خريسطوفوروس» أي (عبد المسيح)، لمخافته الرب الإله، وكان المطران يوحنا اليد اليمنى للمفريان في رعاية الكنيسة في الهند.
وأبتاع المفريان شكرالله أرضاً في منطقة مطانجيري ـ كوجين ـ وشيد كنيسة باسم الكرسي الرسولي الأنطاكي، ومنزلاً له، حيث أقام مع المطران غريغوريوس وبعض الشمامسة، وقدس الميرون المقدس، ورسم قسوساً ورهباناً وشمامسة، وأعاد رسامة القسوس والشمامسة الذين كانوا قد أخذوا رسامة غير شرعية من توما الخامس المتسقف بأمر نفسه([258]). وحارب المفريان ـ كأسلافه ـ بدعة عزوبة الإكليروس، التي حاول اللاتين فرضها على إكليروس كنيستنا في الهند عنوة، أيام الاستعمار البرتغالي، فأفلحوا في فرضها على بعض الكنائس داسين بذلك السم بالدسم.
وبعدما ساس المفريان شكرالله الكنيسة في ملبار الهند أكثر من ثلاث عشرة سنة، انتقل إلى الخدور العلوية في بيعة مطانجيري، في 9 تشرين الأول سنة 1764، وأودع جثمانه الطاهر كنيسة كندناط، ووصف بأنه كان قديساً وديعاً متواضعاً، ومعلماً صالحاً، بل ملاكاً بصورة إنسان، وكان متبحراً في العلوم الدينية، ويجيد اللغتين السريانية والعربية، وقد ترك لنا بالعربية كتاباً جيداً في التعليم المسيحي.
بعد انتقال المفريان شكرالله إلى الأمجاد السماوية، تعاون المطرانان مارغريغوريوس ومار ايونيس على تحمل المسؤولية الجسيمة في رعاية الكنيسة في الهند. وكانت مشكلة عصيان توما الخامس قائمة، وتفاقمت جداً عندما أقدم هذا على رسامة يوسف حفيد أخته، أسقفاً حسب ظنه وادعائه وسمّاه توما السادس، ليخلفه بعد موته، وقد هلك توما الخامس في تلك السنة.
أما توما السادس فقد ندم أخيراً وقدّم التوبة، وكتب بذلك إلى المطران ايونيس يوحنا الموصلي. وفي أواسط سنة 1770 فيما كان المطران غريغوريوس يحتفل بالقداس الإلهي في كنيسة نيرنم، دخل توما السادس بغتة وسقط عند قدميه، طالباً الغفران، فمدّ إليه المطران غريغوريوس يده وصافحه. وفي 29 أيار من السنة ذاتها، احتفل المطرانان مار غريغوريوس ومار ايونيس برسامة توما السادس مطراناً، بعدما صححا رسامته الكهنوتية، وسمياه مار ديونيسيوس، وسلّماه العكاز الأبوي، والصليب، والسوسطاثيقون، الذي كان البطريرك جرجس الثالث قد سلمه إلى المفريان شكرالله، ليُعطى إلى توما الخامس بعد رسامته، ولكن ذاك مات عاصياً، أما وظيفة رئاسة الكهنوت الشرعية فقد أخذها مار ديونيسيوس توما السادس، على يد المطرانين مار غريغوريوس مطران أورشليم، ومار ايونيس يوحنا الموصلي مطران الهند، اللذين أضافا إلى كتابة السوسطاثيقون بأنهما قد رسما يوسف الذي دُعي توما مطراناً على الأمة السريانية القاطنة في بلاد ملبار، وسُمي مار ديونيسيوس، وذلك بأمر أبينا بطريرك أنطاكية([259]). وهكذا حلّ السلام في الكنيسة السريانية في الهند، وابتهج الإكليروس والشعب المؤمن. وقبل ذلك راودت الحبرين الجليلين مار غريغوريوس ومار ايونيس، فكرة العودة إلى الوطن، والاستعداد للرحيل إلى السماء، والرقاد في أضرحة الآباء. وكان إبراهيم أخو الأسقف ايونيس قد قدم إلى الهند عام 1769، ليرافق أخاه في طريق عودته إلى الموصل. ولكن عندما حلّ السلام عدل المطرانان عن رأيهما، وصمما على مواصلة خدمة الرب في الديار الهندية حتى النفس الأخير. ورقد مار غريغوريوس يوحنا الباخديدي بالرب في 27 حزيران سنة 1773، في مولنطورتي، ودفن في مذبح بيعتها، وما زالت هذه الكنيسة تحتفل بتذكاره السنوي. وأما مار ايونيس يوحنا الموصلي، ففي سنة 1794 ألبس القس فيلبس الأسكيم الرهباني، وكان هذا يقيم معه، وهو ينحدر من أسرة ديونيسيوس الأول وأراد المطران ايونيس أن يرسمه أسقفاً أيضاً ليعاون مار ديونيسيوس في طيلة حياة الأخير، وليخلفه بعد مماته، فلم يوفّق، فقد دعا الرب مار ايونيس يوحنا الموصلي اليه، فانتقل إلى الأمجاد السماوية في السابع من شهر نيسان من هذه السنة 1794، بعد أن أنهى جهاده الحسن وسعيه المبرور في خدمة الرب الإله، في الديار الهندية، بمخافة الله، والحكمة، والوداعة، والتواضع. وأودع جثمانه الطاهر في بيعة (جنكتور)، حيث يحتفل بتذكاره سنوياً. وقد ترك لنا مؤلفاً بالسريانية في مختصر تفسير الصلاة الربانية، ورسالة كتبها إلى توما السادس، وشهادة كتبها لقسيس بعد أن رسمه، بلغة سريانية تدل على تمكنه منها.
وفي هذا العام 1994، ونحن نحتفل بهذه الذكرى السعيدة، ذكرى مرور مئتي عام على انتقال مار ايونيس يوحنا الموصلي، مطران ملبار، إلى الخدور العلوية، نرى فيه ـ وفي سائر آبائنا العظام، الذين أنكروا ذواتهم وأحبوا المسيح أكثر من الأهل والأقرباء، وحملوا صليبه، ونشروا بشارة الإنجيل في بلاد الهند النائية، محبة بأهلها ـ نرى فيهم نجوماً مشرقة، يشع ضياؤها في سماء الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، ليس في الهند وحسب، بل في جميع أنحاء العالم، فنستنير بنورهم، الذي هو انعكاس نور المسيح، وليستنير بهم عابرو طريق الحياة والجالسون في الظلمة وظلال الموت، لينالوا الخلاص بالمسيح يسوع ربنا.
وما أجمل ما كتبه صاحب الذكرى إلى توما السادس، قبل عودة الأخير إلى حظيرة الكنيسة ورسامته مطراناً باسم ديونيسيوس توما السادس، قائلاً: «قد بارحنا بلادنا، وقلبنا يفكر في خيرك وخير بقية أبنائنا المؤمنين … يا ولدنا، نحن غرباء في هذه البلاد، وقد تركنا الإخوة والأقارب والأصدقاء فصرتم أنتم إخوتنا وأقاربنا وأصدقاءنا».
ما أشهى ثمار محبة المسيح لنا، الثمار اليانعة التي قطفها آباؤنا القديسون، الشهداء والمعترفون، من صليب الجلجلة الذي هو شجرة الحياة، فأحبّوا المسيح يسوع محبة خالصة أقوى من الموت والحياة، وضحّوا بكل شيء في الحياة الدنيا في سبيله، وحملوا صليبه وتبعوه، وغادروا الأوطان والأهل والأقرباء، ورأوا في كل إنسان في دار الغربة أخاً للمسيح يسوع، يسعون إلى خلاصه، فبرهنوا على صدق محبتهم للمسيح، بمحبتهم لأخوته الصغار، وبذلك استحقوا ما قاله المسيح لتلاميذه: «من أحبّ أباً أو أماً أكثر مني فلا يستحقني، ومن أحبّ ابناً أو ابنةً أكثر مني فلا يستحقني، ومن لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقني» (مت37:10).
وليكافىء الرب أولئك الأبرار حسب وعده الإلهي القائل: «وكل من ترك بيوتاً أو إخوة أو أخوات أو أباً أو أماً أو امراةً أو أولاداً أو حقولاً من أجل اسمي، يأخذ مئة ضعف ويرث الحياة الأبدية»(مت29:19).
فطوبى لصاحب الذكرى والخالد الأثر مار ايونيس يوحنا الموصلي مطران ملبار، ولسائر آبائنا القديسين، نجوم أنطاكية المشرقة، الذين لا يزال ضياؤهم يشع في سماء الكنيسة في الهند وفي كل مكان في العالم، وليكن ذكرهم مؤبداً.
كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية ودعوى المنشقين عنها في ملبار ـ الهند)*(
في 20 حزيران 1995 أصدرت محكمة الهند العليا في نيودلهي، التي تعتبر أعلى سلطة قضائية في الهند، قرارها في الدعوى التي كان قد أقامها ضد الخاضعين للكرسي الرسولي الأنطاكي في الهند، المدعو (الجاثليق) متى الأول المنشقّ عن البطريركية الأنطاكية والمتمرّد عليها، الذي خلف الجاثليق أوجين الذي كان قد رسمه سلفنا المثلث الرحمة البطريرك يعقوب الثالث عام 1964 جاثليقاً، ودبَّ الخلاف بينهما عام 1971 وتفاقم عندما أعلن الجاثليق العصيان على البطريرك يعقوب. فحرمه المجمع السرياني الأرثوذكسي العام. وبعد موته أقام أتباعه المدعو متى الأول (جاثليقاً) على زعمهم فكان أكثر تمرداً من سلفه، حيث أنه أقام في المحكمة البدائية في كيرلا عام 1973 دعوى تحت رقم 73/347 لمنع المطارنة الهنود الجدد الذين رسمهم المثلث الرحمة البطريرك يعقوب الثالث من دخول الكنائس هناك، ولما أصدرت المحكمة البدائية حكمها لصالح أتباع الكرسي الرسولي الأنطاكي، استأنف متى المذكور الدعوى، فأصدرت محكمة الاستئناف في كيرلا الحكم ضد أتباع الكرسي الرسولي الأنطاكي في الهند. ثم رفعت الدعوى إلى محكمة الهند العليا في نيودلهي لتعيد النظر فيها، فأصدرت هذه المحكمة قرارها في 20 حزيران 1995 كما ذكرنا، وهذا القرار يُعدّ آخر جولة في المقاضاة بين الفريقين المتنازعين اللذين يؤلفان الكنيسة السريانية الأرثوذكسية في (مالانكارا) ـ الهند. ويسرد القضاة بأسلوب منطقي قدر الإمكان، بعض الحوادث التاريخية كما يتصورونها، لتكون بمثابة حيثيات وأسس يبنون عليها الحكم، ولتسهّل عليهم الخروج بقراراتهم النهائية. وحيث أن الجانبين المتداعيين استشفّا الغموض والالتباس وعدم الوضوح في أماكن عديدة من الحكم الصادر في الدعوى، لذلك أُعيد ملف الدعوى إلى المحكمة للاستفسار والتوضيح.
وحيث أن من حق شعبنا المبارك في كل مكان أن يطّلع على مجريات الأمور في كنيستنا في الهند التي تُعدّ جزءاً لا يتجزأ من كنيستنا السريانية الجامعة، رأينا أن نرسم أمامه ههنا صورة هذه المشكلة التاريخية الإدارية العويصة التي عكّرت جو السلام في الكنيسة عامة. ونلخّص تاريخ العلائق المتينة القائمة بين ذلك القسم من الكنيسة بالبطريركية التي هي الرئاسة العليا للكنيسة السريانية الجامعة. كما نوضّح أسباب النزاع الرئيسة والدوافع التي أدّت بالمنشقين إلى محاولة الحصول على الأستقلال الكنسي الإداري الداخلي، والالتجاء إلى المحاكم المدنية لبلوغ هذا الهدف المنشود، ثم نلخّص وجهة نظر المحكمة المدنية العليا في نيودلهي، وبعض الحوادث التي اعتبرتها أساساً بنت عليه حكمها. علماً بأننا ولئن سردنا بعض هذه الحوادث، كما وردت في حيثيات الحكم المذكور، ولكننا غير ملتزمين بتصديقها أو الأخذ بها فنقول:
- نبذة تاريخية:
ينفرد تقليد كنيستنا السريانية الأرثوذكسية الموثوق به في ذكر حقيقة دخول المسيحية إلى الهند على يد الرسول مار توما أحد تلاميذ الرب الإثني عشر، وذلك في أواسط القرن الأول للميلاد. وإن أهم مصدر نستقي منه هذه الحقيقة هو كتاب قصة مار توما الموضوع الذي كُتب بالسريانية في صدر المسيحية على الأغلب، ولا يخلو هذا الكتاب من بعض الشوائب التي تتعارض والدين المسيحي، دسّها عبر الأجيال بعض النسّاخ الجهال. كما أن آباءنا السريان الميامين، ومؤرخينا الثقات يؤكدون حقيقة تبشير مار توما الرسول في الهند حتى أُطلق على المسيحيين هناك أسم (نصارى مار توما).
بدأ الرسول توما تبشيره في جنوب الهند، المنطقة التي كانت تدعى ملبار وتسمّى اليوم (كيرلا) وآمن على يده جمهور من الناس خاصة من طبقات المجتمع العليا، فرسم لهم كهنة وشمامسة، وأسس لهم كنائس ومكث عندهم ثلاث سنوات ثم انتقل إلى المناطق الغربية وأماكن أخرى من البلاد الهندية. وأنهى جهاده الروحي في بلدة (ميلابور) القريبة من مدراس حيث استشهد على يد كهان الوثنيين الذين طعنوه بالرماح سنة 75م وأودع جثمانه الطاهر هناك، ثم نُقل إلى مدينة الرها في أواخر القرن الرابع على يد الجالية السريانية الرهاوية وبُني على اسمه كنيسة عظيمة.
كانت بلاد الهند مسيحياً ضمن المناطق التي تخضع للكرسي الرسولي الأنطاكي، وحدّد المجمع المسكوني الأول المنعقد في نيقية عام (325) في قانونه السادس السلطة الدينية للبطريرك الأنطاكي التي تمتد إلى سائر المشرق، وهذا يشمل البلاد الهندية. الأمر الذي تسرده المحكمة ضمن مجريات حوادث النزاع لتبني عليه حكمها في حقّ البطريرك الأنطاكي دينياً بالرئاسة الروحية على الكنيسة في الهند. وجاء أيضاً في حيثيات الدعوى «أن ضمن سلطة بطريرك أنطاكية، أقيم منصب آخر وهو رئيس أساقفة المشرق الذي يعرف بالجاثليق» ومما تجاهلته المحكمة ولم تذكره، الحدث التاريخي المهم جداً في تاريخ الكنيسة السريانية في الهند، أعني الميلاد الثاني للمسيحية على يد الجالية السريانية الرهاوية التي أرسلها البطريرك الأنطاكي إلى هناك، ذلك أن المسيحية ضعفت جداً في الهند. ولما بلغ الأمر البطريرك الأنطاكي، في أواسط القرن الرابع رفدها بجالية سريانية رهاوية تتألف من أربعمئة نفس من الكهنة والشمامسة والرجال والنساء والأطفال برئاسة المطران يوسف وزعامة التاجر توما الكنعاني، لتجديد التبشير بالإنجيل المقدس هناك، فحطّت الجالية رحالها في مدينة كودنكلور في جنوب الهند على عهد ملكها جيرامان بيرومال (341ـ378) الذي منحها في 29 شباط 345 امتيازات سامية رفعت شأنها وساوت أفرادها بأعلى طبقة من الهندوس. فرفعت منزلة المسيحيين الاجتماعية هناك ومتّنت العلاقة بين الكرسي الرسولي الأنطاكي السرياني وأبناء الكنيسة في الهند الذين دعوا منذئذ سرياناً. كما أن أفراد الجالية السريانية الرهاوية لم يتزاوجوا مع بقية أتباع الكنيسة السريانية أو غيرهم في الهند، واقتصروا على الزواج بعضهم من بعض. وجاء ذلك برهاناً قاطعاً على صحة هذا الحدث التاريخي، ولا تزال هذه الجالية التي تعدّ اليوم أكثر من ثلاثمائة وخمسين ألف نسمة، تجري مجرى أجدادها، وقد تألفت منها أوائل هذا القرن أبرشية سمّيت أبرشية الكناعنة، تفتخر بكنيستها السريانية وبانتمائها إلى الرها.
وتنجلي حقيقة علاقة الكنيسة السريانية في الهند بالكرسي الرسولي الأنطاكي باستعمال الطقس السرياني باللغة السريانية أو مترجماً إلى اللغة المحلية (المليالم) مع المحافظة على سلامة المعنى، وأصالة الألحان السريانية التي ورثها السريان عن آبائهم منذ صدر النصرانية، كما تتمسّك الكنيسة السريانية في الهند بالعقائد الإيمانية التي ورثتها عن الكنيسة الأم والتي كان بعضها مثار جدل في المسيحية، وسلكت الكنيسة هناك بموجب القوانين الكنسية والفرائض كما سنّها الآباء السريان وتوارثوها. كل هذا، وغيره من الأمور، يقيم الحجة الدامغة على جهاد آبائنا السريان في نشر البشارة الإنجيلية في تلك الديار النائية، والحفاظ على سلامة العقائد الدينية والتقاليد الرسولية، والابتعاد عن الأفكار الدنيوية الهدامة التي تُعدّ سموماً قاتلة، تندس بالدسم، من ذلك المناداة بكنيسة وطنية التي تعتبر ابتعاداً عن ينابيع الإيمان القويم والوضع الإلهي في تأسيس الكنيسة ورعايتها. وكان الكرسي الرسولي الأنطاكي يوفد الأحبار والكهنة إلى تلك الديار وقد عانى هؤلاء كثيراً من المتاعب واستشهد العديد منهم وذاق الآخرون الأمرّين في سبيل الحفاظ على الشركة الإيمانية والعلاقة الروحية المتينة بين أبناء الكنيسة هناك وبين أبيهم الروحي العام البطريرك الأنطاكي السرياني([260]). وقد تجاهل القضاة في الدعوى موضوع البحث كل ما ذكرناه آنفاً واقتصروا على ذكر ما يأتي: «إن جذور المسيحية كانت قد ترسّخت في القرن السادس عشر في الهند، بالمنطقة التي تُعرف اليوم بكيرالا. وكان الإيمان السائد هو إيمان الكنيسة السريانية الأرثوذكسية».
ولا بدّ من أن نذكر ههنا أنه قد انفصلت عن الكنيسة السريانية فرق عديدة لا يزال بعضها يستعمل الأسم السرياني، والطقس السرياني وبعضها رفض ذلك وابتعد عنه، وكلها نشأت بمساعدة قوى سياسية استعمارية كالبرتغاليين الذين استعمروا الهند، وحاولوا فرض إيمان كنيستهم اللاتينية الرومانية على أبناء كنيستنا. وقد أتى القضاة عرضاً على ذكر حادثة تدل على غيرة السريان وجهادهم وتحمّلهم الآلام في سبيل التمسّك بإيمان آبائهم، ذلك أن مسيحيي ملبار (أي السريان) ثاروا عام 1634 ضد فرض إيمان غريب عليهم، وأكّدوا على إخلاصهم لكنيستهم السريانية الأرثوذكسية التي يرأسها البطريرك الأنطاكي، ويذكر التاريخ أن جمهوراً غفيراً من أبناء الشعب السرياني اجتمعوا في بلدة مطانجيري المجاورة لكوجين يوم الجمعة 3 كانون الثاني سنة 1653، ونصبوا صليباً حجرياً في موضع يسمّى كونان ربطوا به حبلاً طويلاً وأمسكوا به وأقسموا على نبذ الاشتراك مع رومية وكتبوا بذلك صكاً وأمضوه([261]). ونوّه القضاة بهذا الحدث التاريخي المهم الذي يجعلنا نفتخر بأبنائنا السريان في الهند، ونشيد بتمسكهم بكنيستهم بعروة وثقى بهذا العهد الذي قطعوه على أنفسهم في القرن السابع عشر الذي لم يكن ابن نهار وليلة، بل جاء حصيلة تاريخ عريق للمسيحية السريانية في تلك البلاد. وأما تاريخ وقوع هذا الحدث فقد ذكر في الدعوى عام 1634 بدلاً من 1653، وهذا لا يهم، ولكن المهم أن هذا العهد يبرهن على اعتراف القاصي والداني، بأن البطريرك الأنطاكي كان دائماً يمارس سيادته الكنسية على كنيسة مالانكارا السريانية.
إن مما يؤسف له، أن بعض الأحفاد في الكنيسة السريانية بالهند، الذين لا يتجاوز عددهم ثلث عدد أبناء الكنيسة هناك قد نسوا تعلق أجدادهم بالكرسي الرسولي الأنطاكي، وباسم طلب الحرية، رزح هؤلاء الأحفاد تحت نير عبودية الآراء الباطلة وطلبوا الأستقلال الإداري الداخلي في الكنيسة بالهند، ورسامة رئيس محلي للكنيسة برتبة مفريان أي جاثليق، خاصة في أواخر القرن التاسع عشر، وقام المثلث الرحمة البطريرك بطرس الرابع بزيارة رسولية رسمية للكنيسة السريانية في الهند، استغرقت مدة سنتين، وأيّد خلالها حرم أثناسيوس متى الذي كان قد تمرّد على الكرسي. وأسس البطريرك بطرس كنائس سجلها باسم الكرسي الرسولي الأنطاكي فتوطدت سلطة البطريرك الروحية على الكنيسة وعقد مجمعاً في بلدة مولنطورتي في 15 حزيران عام 1876، حضره المطرانان غريغوريوس عبدالله وديونيسيوس يوسف ونواب من جميع الكنائس السريانية في ملبار. واجتمعوا برئاسة البطريرك. وسنَّ المجمع القوانين والأنظمة الضرورية، ونظم مؤسستين ديموقراطيتين لإدارة الكنيسة العامة، الواحدة مؤلفة من مئة وثلاثة أعضاء كهنة وعلمانيين، والثانية مؤلفة من أربعة وعشرين عضوا ينتخبون من الأولين، ثمانية منهم كهنة والباقون علمانيون. فكانت المؤسسة الأولى مجلساً شوريّاً في الشؤون الزمنية، والثانية مجلساً تنفيذياً. وبعد أن كانت الكنيسة هناك تتألف من أبرشية واحدة فقط، صارت سبع أبرشيات، يرأس كل واحدة منها مطران ويسمّى واحد منهم مطران مالانكارا، وهو المطران المدبر الذي يرأس المجلس التنفيذي أيضاً. ورسم البطريرك بطرس ستة مطارنة اعترفوا بسلطتي الكرسي الرسولي الأنطاكي الروحية والإدارية على الكنيسة([262]).
- بدء المشكل القائم إلى اليوم في الكنيسة بالهند:
في أواخر سنة 1903 أقال المجمع السرياني في دير الزعفران البطريرك عبدالمسيح الثاني من خدمة الكرسي لإصابته بخلل في دماغه. وفي 15 آب سنة 1906 رسم مار غريغوريوس عبدالله بطريركاً باسم عبدالله الثاني، الذي قام بزيارة رسولية إلى الهند كبطريرك، فوصل إليها في غضون شهر تشرين الاول من عام 1909، ورسم أربعة مطارنة وأسس أبرشية الكناعنة، وعزل ديونيسيوس كوركيس الذي كان قد رسمه مطراناً في القدس عام 1907، وعيّنه عام 1909 مطراناً لملبار ولتمرّده على البطريرك حرمه عام 1911، وعقد البطريرك عبدالله المجمع الأسقفي في سميناري علواي في أيار سنة 1911، وفي 17 آب 1911 عقد مجمعاً آخر في علواي حضره ممثلو جميع الكنائس السريانية بالهند ما عدا بعض الذين تحزّبوا لكوركيس، فيه سنَّ بعض القوانين والأنظمة للكنيسة في ملبار، وعيّن قورلس بولس مطراناً لملبار بدلاً من كوركيس المحروم. وفي تلك السنة برح البطريرك عبدالله الهند وتوفي في ليلة 26 تشرين الثاني سنة 1915 في القدس، ودفن في دير مار مرقس هناك، ونُصب البطريرك الياس الثالث خلفاً له سنة 1917.
وعلى عهد البطريرك عبدالله الثاني بدأ الخلاف القائم إلى اليوم بالكنيسة في الهند وتفاقم، خاصة عندما سلك كوركيس المحروم طريقاً ملتوية، فاستقدم إلى ملبار عبدالمسيح الثاني البطريرك المعزول الذي حل كوركيس من حرمه فيما زعم، وسمى وهو لا يعي، ثلاثة مطارنة، كما سمّى إيوانيس بولس الشيخ المتقاعد جاثليقاً، وتوفي هذا الأخير في 16 نيسان 1913، ولم ينصَّب أحد خلفاً له حتى عام 1925 حيث نصّب خصوم الكرسي الأنطاكي في الهند كوركيس فيلكسينوس حسب ظنهم جاثليقاً. ولما توفي هذا في كانون الأول 1928، نصّب كوركيس غريغوريوس خلفاً له([263]). وزار البطريرك الياس الثالث الهند التي وصل إليها في غضون سنة 1929، وحاول معالجة المشكل فحلَّ ديونيسيوس كوركيس مرتين، الأولى في دير الزعفران قبل البدء بزيارته إلى الهند، والثانية في الهند، ولكن كوركيس أعلن عصيانه على الكرسي، فأيّد البطريرك الياس حرمه. وعمل قصارى جهده على إحلال السلام في الكنيسة بالهند، ولكن المنيّة فاجأته قبل أن يتوصّل إلى حلّ ما. وانتقل إلى الخدور العلوية في أوملّور سنة 1932، ودفن فيها حيث شيدّت على ضريحه كنيسة كبيرة باسم مار إغناطيوس، وجرت على ضريحه عجائب.
وعندما جلس المثلث الرحمة البطريرك أفرام الأول برصوم على السدّة الرسولية البطرسية عام 1933، أصدر في 27 أيلول 1934 منشوراً بطريركياً وجهه إلى الكنيسة السريانية في ملبار، أعلن فيه رغبته في إزالة الشقاق الذي أحدثه إبليس في الكنيسة هناك، وكان الفريق المنشقّ قد أصدر عام 1934 دستوراً، يؤكد بمواده إحياء رتبة الجثلقة على يد عبد المسيح (البطريرك المعزول). وشرع ذلك الفريق بمراسلة البطريرك الجديد أفرام الأول برصوم. وبعد تبادل الرسائل والحوار سمح المثلث الرحمة البطريرك أفرام الأول برصوم لرئيس الخصوم المدعو الجاثليق كوركيس، بزيارة البطريركية برفقة المطران يوليوس الياس قورو القاصد الرسولي في الهند واستقبله البطريرك بمحبة إكراماً لشيخوخته.
وعقد المثلث الرحمة البطريرك أفرام المجمع المقدس في حمص بهذه المناسبة، وذلك من 2 حتى 20 تموز 1934، حضره بالإضافة إلى أعضاء المجمع الراهب يشوع صاموئيل (مطران الولايات المتحدة الأميركية بعدئذ) مسجّلاً للمجمع، والأفدياقون نعمة اللّه دنّو الموصلي مستشاراً للمجمع، ودرس المجمع مشكل ملبار درساً وافياً.
وفي 10 تموز عقد المجمع جلسة خاصة ودعا المسمّى جاثليقاً وسأله كتابة هل عنده تفويض خطي من أتباعه، فكتب جوابه بخط يده سلباً. ثم سأله هل يقبل أتباعه جميع ما يقبل هو، فأجاب بالإيجاب فوقّع ذلك بإمضائه. وكان المجمع قد قرّر فيما إذا تمّ الصلح أن يحتفل قداسة البطريرك بالقداس الإلهي يشاركه بذلك السادة المطارنة وفي نهاية القداس يتلو على المدعو جاثليقاً صلاة دعوة الروح القدس، ويسلمه عصا الرعاية ويعمل له طقس التجليس (سونترينوس) وبهذه الطريقة تثبت وظيفته باسم مفريان ملبار. وإن أبى فقد قرر المجمع رفضه. كما أن المجمع أصدر قراراً عن وجوب اعتراف الجاثليق واتباعه برئاسة البطريرك، وطلب منه أن يوقّع ذلك بامضائه فأبى، ولما رأى المجمع المقدس أن المذكور يقصد أموراً تؤول حتماً إلى استقلال الكنيسة في ملبار تحت رئاسته ليصير هو نظيراً للبطريرك في رتبته، قرّر رفضه وأصدر المثلث الرحمة البطريرك أفرام الأول برصوم منشوراً جاء فيه: «إن الخصوم لا يرغبون بالسلام إنما بإشباع رغبتهم بالتمرّد».
ووضّح قداسته في منشوره أن سلفيه البطريركين عبدالله الثاني والياس الثالث اعتبرا ما قام به البطريرك عبدالمسيح من رسامة، بعد عزله، باطلاً. وإن هؤلاء الذين يظنون أنهم يسعون إلى نيل حريتهم بالتحرر من سلطان الكرسي الرسولي إنما لمدة الأربع والعشرين سنة الخالية قد استعبدوا تحت نير العلمانيين الخالين من الإيمان وهم وكلاء طمّاعون.
وأردف قداسته قائلاً: إننا لا نفتّش عن كرامتنا الشخصية، ولكننا نحافظ على كرامة كرسينا الرسولي ناسجين على منوال السلف الصالح البطاركة العظام… إن الخصوم يتمسكون برسامة باطلة، فما لم يقدّموا التوبة القانونية نادمين، فلا تخالطوهم فهم غرباء عن حظيرة الكنيسة المقدسة ولا يحق لاحد منكم أن يعاشرهم.
وجاء في رسالة كتبها المثلث الرحمة البطريرك أفرام الأول برصوم إلى قاصده الرسولي في الهند المثلث الرحمة المطران الياس قورو بتاريخ 30 كانون الثاني 1947 ما يأتي:
«قولكم أن الأمل من طاعة العصاة مقطوع، فهو موافق لرأينا فيهم لأن الغاية الفاسدة التي بُني شقاقهم عليها وطول مدة العصيان أضاعا كل رجاء حسن فيهم».
جاء في رسالة له إلى قاصده الرسولي في الهند أيضاً بتاريخ 3 آذار 1955 ما يأتي: إننا منذ ثلاث وعشرين سنة نعالج معكم وبرأيكم وآراء مطارنة ملبار والسيندوس، مشكل ملبار الملتوي، وصرفنا أياماً وليالي في درس القوانين والأوضاع وملاحظة ظروف الزمان. فتساهلنا مع الملباريين إلى أقصى حدود التساهل، وكم وضعنا من مواد قانونية وشروط وكم أصدرنا مناشير وحبّرنا رسائل، فكانت النتيجة أن الذين يأتمرون برأي شرذمة من العلمانيين الخالين من روح الديانة فضلاً عن الشرع الكنسي، يحاولون التلاعب بالقوانين والأحكام الكنسية الراهنة بنظام حزبي، واتضح للعالم فساد نيتهم بالتمرّد على الكرسي الرسولي تحت ستار استقلال وطني… مع علمنا بدقة نظركم وغيرتكم على الكنيسة، إن الذين يترجمون لكم البرقيات، صاروا يختمونها بهذه العبارات التي تعودوها وهي: «الحالة خطرة والموقف دقيق ويجب الاستعجال». فالخطر ليس عليهم لكن على الكرسي الرسولي الذي لم يتركوا له شيئاً من حقوقه وسلطته عليهم. فأسفنا كل الأسف على نتيجة المساعي والجهود، كل هذه السنين. الخصوم يريدون هدّ أساس الرئاسة الرسولية، ولم يبقَ لها معنى في شروطهم، وبالنتيجة لم يبقَ أهمية لقاصدها في ملبار. وليست هذه مواد مسالمة ومصالحة لكنّها خضوع أتباعنا بذلّ لتمردهم وعرضهم، وإذا تمّ فسيسلّمون كنيستهم لأيدٍ علمانية تتلاعب بها ولن يتولى أسقفيتهم وجثلقتهم إلاّ التابع لهواهم والخسارة الروحية ستكون على نفوس المؤمنين السذج ونحن المسؤولون. ألم تلاحظوا أن بابا رومية الذي ترك رسامة الأساقفة وتقديس الميرون بأيدي أساقفتهم كيف احتفظ بجوهر الرئاسة المطلقة في العقائد والقوانين والتدبير، وقبل مئة سنة اضطر إزاء المغرضين من أي صنف كانوا، أن يجعل رئاسته عقيدة Dogma ومن يخالفها يُحرم ويطرد بدون أسف عليه، وقيّد جميع طبقات الرؤساء بطاعته، فالملباريون المنتفخون بنفسهم يريدون أن يسلبوا البطريرك حقّ التشريع (وضع القوانين) وحقّ التدبير الذي جعلوه بأيدي علمانيين يتحكّمون بمجمعهم وبرئيسه. وقبولهم كل هذا الاعوجاج الصريح دليل جهلهم أو تجاهلهم حقوق الكنيسة المقدسة بسلطة حبرها الأعظم، ويحاولون بضعف رأيهم أو بحيلتهم أن يصدّق على سلب حقوقه هذه الشرعية متعللين بروح الأشتراكية… ولا يفكرون في شرف الأحكام الحبرية والقوانين الكنسية ولا في أتعاب أسلافهم ولا في مستقبلهم وكيف سيتدبرون مع استبداد خصومهم المغرضين بهم، إذ يكونون معهم أذلاّء، حينما لا ينتصر لهم البطريرك ويقمع المعتدين… لسنا نجازف بحقوق كرسينا الجوهرية، الطائعون لأمرنا الرسولي مهما كانوا عدداً نكتفي بهم فبلّغوهم أن يلغوا الدعوى الكاذبة والمزعجة ويرتاحوا، والمتعنتون نرفضهم رفضاً جازماً ولم يعد لنا وقت وقد أسرعت بنا الهموم إلى شيخوخة قبل أوانها لسماع نغمات المعوجين…
وجاء أيضاً في رسالة له إلى قاصده الرسولي بتاريخ 6 نيسان 1955 ما يأتي: «نحن بإرادتنا لا نضيّع حقّ كرسينا وحقّ الكنيسة وبدون صلاة الاسياميذ لا نقبل جاثليقهم والجديد يرسم في الكرسي، والمذنب يُحكم عليه».
وجاء في رسالة قداسته إلى قاصده الرسولي بتاريخ 13 نيسان 1955 ما يأتي: «إن الخصام، الخصوم عملوه، والأحوال واضحة لعيون الجميع أن حزبهم قائده هو الروح الدنيوية… الموضوع مفهوم: رئاسة فارغة لا نقبل، ورسامة المفريان الجديد تكون عندنا، وإذا أذنب نحن نحاكمه، وقبول الشيخ القديم يكون بصلاة وضع اليد في أثناء القداس في يوم عادي لا يوم أحد: وبعد قبوله الصلاة المذكورة يرجع فيتلوها على كل من مطارنته. الجمعية العلمانية لا يكون لها مدخل في تدابير وقضايا المطارنة. الميرون المقدس يجب أن يحضر في كل سنتين أو ثلاثة كاهن ليحمله إلى ملبار، القاصد الرسولي تكون له الرتبة الأولى في السنادوس الملباري. وهذا كله موجود في القوانين التي وضعناها سنة 1950، هذا ما اقتضى لتعلنوه إلى كل من مطارنتنا والى الحزب الثاني والى لجنة الشبّان التي تطلب السلام وأوصوا الصائمين بالإفطار وفهموهم أن هذه الواسطة لا توصل إلى المقصود».
وانتقل المثلث الرحمة البطريرك أفرام الأول برصوم إلى الخدور العلوية في 23 حزيران 1957.
لما نُصّب سلفنا المثلث الرحمة البطريرك يعقوب الثالث بطريركاً في 27 تشرين الأول 1957، وضع نصب عينيه هدف حلّ مشكل الكنيسة في الهند. وحيث أنه كان قد قضى في الهند مدة ثلاث عشرة سنة (1933ـ1946) كان خبيراً بمشكل الكنيسة هناك. فعلى أثر تنصيبه بطريركاً أصدر إلى الكنيسة في الهند منشوراً رسولياً، دعا فيه إلى السلام والوحدة. ثم أردفه في كانون الأول عام 1958 بمنشور آخر فيه قبل رئيس القسم المنشق باسم (الجاثليق مار باسيليوس كوركيس).
جاء في مجريات حوادث الدعوى ذكر المنشورين المذكورين، كما جاء أيضاً أن الجاثليق المذكور عقد اجتماعاً في 26 كانون الأول 1958 لهيئة مالانكارا (أسوسييشن)، حضره أساقفة وكهنة وعلمانيون من كلا الجماعتين، وترأسه الجاثليق. ثم عقد اجتماعاً للأساقفة من كلا الجانبين في 12 كانون الثاني 1959، حضره ستة أساقفة من جماعة الجاثليق، وثلاثة أساقفة من الخاضعين للكرسي البطريركي. خُطط فيه توحيد المنظمات الكنسية العديدة التي تنافس بعضها بعضاً، مثل اتحاد الشبيبة ومنظمات الشباب والمنظمات النسائية، وشكلت لجان لإيجاد الطرق والوسائل من أجل التوحيد، وتقرر وضع دستور هيئة مالانكارا موضع التنفيذ حيثما افتقد تطبيقه، وتعيين لجنة لدراسة الأبرشيات وإعطاء تقرير في الاجتماع التالي. كما تقرّر إعادة تخصيص الأبرشيات طالما أن العدد الإجمالي للأساقفة من كلا الجانبين يفوق عدد الأبرشيات. بناءً على ذلك خصصت ثلاث أبرشيات لأساقفة كانوا سابقاً من جماعة البطريرك. وأصدر الجاثليق في 25 شباط 1959 رسالة مؤكداً تخصيص الأبرشيات. وخلال مجرى هذه الأمور برزت بعض الخلافات. وجاء أيضاً في مجريات حوادث الدعوى أن: البطريرك يعقوب وجّه رسالة إلى الجاثليق بتاريخ 8 نيسان 1959 معترضاً على استعمال عبارة (قداسة الجاثليق) لأن تعبير صاحب القداسة يقتصر استعماله على البطريرك. واعترض البطريرك أيضاً على استعمال عبارة الجالس على (كرسي القديس توما)، كما أوضح خطأ افتراض الجاثليق أن الكنيسة في الهند هي كنيسة المشرق، وأنه جاثليق المشرق، وأن تنظيم الأبرشيات في مالانكارا، كان يجب أن يتم بالتنسيق مع البطريركية، وبأنه من الضروري أن يتم تحديد العلاقة بين الكنيسة في مالانكارا والبطريركية قبل وضع تلك الترتيبات موضع التنفيذ. وبأن الجاثليق لا يمتلك السلطة في أن يدير كنائس الكرسي (سيمهاسانا) في الهند التي تقع إدارتها مباشرة تحت سلطة البطريرك.
في 8 حزيران 1959 أجاب الجاثليق على رسالة البطريرك قائلاً: إن تبادل الرسائل لم يتم إلا بعد قبول ممثل البطريرك مار يوليوس الياس، وأن الاحتجاج بعد أربعة أو خمسة أشهر هو أمر غير مقبول. وبان استعمال كلمة (قداسة) غير محصور بالبطريرك فقط. أما بشأن كرسي مار توما، فإنه لم يُقم أي رسول (من تلاميذ الرب يسوع) كرسياً والأمر هو أمر تكريمي.
وفي 13 كانون الثاني 1964 أرسلت رسالة دعوة من قبل مجمع مالانكارا الأسقفي، تدعو البطريرك للقدوم إلى الهند لتنصيب الجاثليق الجديد. وذلك لتقدم الجاثليق (القديم) في العمر. وقد تم ذلك بعد أن اجتمعت هيئة مالانكارا في 12 أيار 1962 لانتخاب خلف للجاثليق، وانتخبت أوجين مار طيماثاوس الذي وافق عليه المجمع في 21 حزيران 1963.
وفي أوائل شهر كانون الثاني عام 1964 توفي الجاثليق باسيليوس كوركيس فاتفق الفريقان على أن يلتمسا من قداسته السفر إلى الهند لإحلال السلام التام برسامة الجاثليق الجديد. وإجابة إلى ملتمسهما الملحاح، وصل البطريرك إلى الهند في 15 أيار 1964، يرافقه المطارنة مار أوسطاثيوس قرياقس مطران الجزيرة والفرات ومار غريغوريوس بولس بهنام مطران بغداد والبصرة ومار سويريوس زكا مطران الموصل (كاتب هذه السطور الذي نصب بطريركاً عام 1980) والربان صليبا شمعون السكرتير البطريركي (مطران الموصل بعدئذ). واستقبل قداسة البطريرك يعقوب الثالث رسمياً وشعبياً وحلّ ومرافقيه ضيوفاً على الحكومة الهندية. وفي كوطيم في ولاية كيرلا، قام في 22 أيار 1964 برسامة الجاثليق الجديد، واتحد الفريقان المتنازعان تحت رئاسة الكرسي الرسولي الأنطاكي([264])، ووُضع حدّ للشقاق. وكان اسم الجاثليق الجديد مار طيمثاوس أوجين مطران أبرشية كندناط وقد دعي في الرسامة مار باسيليوس أوجين الأول جاثليق المشرق وكان في الثمانين من عمره. جاء في مجريات حوادث الدعوى ما يأتي: «قبل يوم من تنصيب الجاثليق الجديد حصلت مناقشة بخصوص تحديد سلطة الجاثليق والتي بموجبها، قرّر مجمع مالانكارا أن السلطة المشار إليها لن تمتد إلى الدول العربية أو إيران، وبأن الكرسي يتضمن فقط بلاد المشرقية التي تقع إلى الشرق من تلك البلاد. لكن قداسة البطريرك يعقوب الثالث سوف يوافق على الاستمرار بالنظام الحالي في إرسال كهنة من مالانكارا إلى بلاد الخليج العربي، وذلك لخدمة الحاجات الروحية لأفراد الأبرشيات الناطقة بالمليالم، طالما بقي منهم أفراد هناك».
وجاء في مجريات حوادث الدعوى ما معناه: من المنطقي أن نستنتج بأن البطريرك (يعقوب الثالث)، عندما قبل واعترف بالجاثليق، فعل ذلك وهو يعلم تماماً بأنه بذلك يعترف بالجثلقة كما أحياها عبدالمسيح في عام 1912، وكما حددت في دستور 1934، ولم يتم هذا بشكل مفاجئ وإنما سبقه قدر كبير من المناقشات والحوار بين أعضاء الجماعتين. وكان هناك إعادة توزيع للأبرشيات بين الأساقفة من كلا الجانبين. وكان أعضاء جماعة البطريرك خلال ذلك قد أبدوا قبولهم لدستور عام 1934. بعد كل هذه التطورات، وبعد انقضاء أربعة أشهر، ففي المراسلات المتداولة بين البطريرك والجاثليق، كان البطريرك قد اعترض على الجاثليق لاستعماله بعض التعابير الخاصة بالبطريرك (كصاحب القداسة مثلاً)، وعلى ادعاء الجاثليق بأنه الجالس على عرش القديس توما. ولكن حتى هذه الاعتراضات التي نجدها في المراسلات بينهما في الأعوام 1959 وحتى 1962 لا بدّ وأن تكون قد توقفت وتم التخلي عنها عام 1964، حيث أتى البطريرك إلى الهند بناءً على دعوة قانونية من مجمع مالانكارا، ورسم ونصّب أصولاً الجاثليق الجديد مار أوجين الذي انتخبته هيئة مالانكارا (Association) وفقاً لدستور 1934، وبذلك لم يعد للبطريرك والموالين له أن يدعوا على الجاثليق واتباعه أن إحياء الجثلقة (عام 1912) لم يكن وفقاً لعقائد الكنيسة السريانية وإيمانها، وأن ينازعوا في أن دستور عام 1934 لم يكن قد سنَّ أصولاً. ومن الجدير بالذكر أيضاً أن دستور عام 1934 لا يرفض رئاسة البطريرك، بل على العكس فهو يؤكد من جديد بأنه الرئيس الأعلى في الكنيسة السريانية الأرثوذكسية التي تعتبر كنيسة مالانكارا جزءاً منها.
وقد أصدر قداسة البطريرك (يعقوب الثالث) منشوراً على إثر عودته من الهند إلى مقر كرسيه الرسولي جاء فيه: «وأما رتبة الجثلقة فهي نفس المفريانية التي تنقلت ما بين تكريت والموصل حتى ألغيت بقرار مجمعي سنة 1860 بعد وفاة المفريان بهنام الرابع الموصلي، بيد أن حدود هذه الجثلقة في الهند وشرقيها فقط كما أقرها المجمع الأسقفي في كوطيم في الحادي والعشرين من أيار سنة 1964». وختم منشوره إلى الكنيسة جمعاء بهذه المناسبة قائلاً:
«ونحن إذ نزف إليكم هذه الأخبار السارة، ندعوكم لتفرحوا معنا بالسلام الذي رفع ألويته الخفاقة فوق صروح الكنيسة».
ولكن هذا السلام لم يدم طويلاً، ففي عام 1970 انتخب ممثلو الجانبين المطران ماثيو أثناسيوس، خلفاً للجاثليق أوكين الذي كان قد طعن بالسن، ومع هذا لم يرتح للشخص المنتخب أغلب الموالين للكرسي البطريركي من الإكليروس ووجهاء الشعب، كما أن البطريرك والجاثليق تبادلا اتهام أحدهما الآخر بالتجاوزات القانونية وذلك عبر الرسائل التي تبودلت بينهما. ومما أثار النزاع ثانية خاصة، هو تسمية قاصد رسولي سنة 1972، إذ شعر فريق الجاثليق بأن البطريرك يمارس عملياً سلطة روحية كاملة على الكنيسة في الهند. وطلب الجاثليق من البطريرك برسالة مؤرخة في 16 شباط 1972 وقعها معه تسعة مطارنة، ثمانية منهم من جماعة البطريرك، ألا يرسل القاصد الرسولي ولكن البطريرك أرسله، وحالما وصل هذا إلى الهند، ابتدأ برسامة شمامسة وكهنة. واعترض الجاثليق على ذلك برسالة بتاريخ 7 آب 1973 وجّهها إلى البطريرك. وفي 1 أيلول 1973 رسم البطريرك نفسه مطراناً للجمعية التبشيرية في الهند، فكتب إليه الجاثليق رسالة جاء فيها: إن جثلقة المشرق مستقلة ترسم أساقفتها بنفسها وتقدس الميرون… وأشار الجاثليق إلى أعمال القاصد الرسولي ووصفه (بأنه مثير للمشاكل) وأخيراً احتجّ الجاثليق على البطريرك طالباً منه عدم رسامة أي مطران للكنيسة في الهند وأكّد أن أي عمل من هذا النوع سيعامل على أنه تصرف غير قانوني.
وبناءً على طلب الموالين للكرسي الرسولي قام المثلث الرحمة البطريرك يعقوب الثالث، برسامة مطارنة للكنيسة في الهند غير خاضعين للجاثليق. ولكي يمنع الجاثليق هؤلاء المطارنة الجدد من دخول الكنائس لممارسة وظائفهم، أقام دعوى ضدهم في المحكمة البدائية المدنية في كيرالا كما ذكرنا آنفاً.
وكتب البطريرك إلى الجاثليق يلومه لاعتبار نفسه رأس الكنيسة المستقلة في مالانكارا والتمرّد على رئاسة البطريرك. واجتمع الجاثليق مع أتباعه في 5 تموز 1974، واعتبروا أن البطريرك قام بانتهاكات كنسية. وفي 10 كانون الثاني 1975 أوقف البطريرك الجاثليق عن الخدمة ودعا إلى مجمع عام، وفي 22 أيار 1975 جمع الجاثليق أساقفته واعلنوا الصبغة المستقلة لكنيسة مالانكارا.
وبناءً على دعوة البطريرك، اجتمع المجمع العام المقدس للكنيسة السريانية الأرثوذكسية في دمشق في الفترة ما بين 16ـ19 حزيران 1975، وتغيّب عنه الموالون للجاثليق. وبحث المجمع خلال اجتماعاته مشكل الكنيسة السريانية في الهند من مختلف جوانبه. وقرّر حرمان الجاثليق أوجين([265]).
وبناءً على ترشيح الكنيسة في الهند ومصادقة المجمع العام المقدس، احتفل المثلث الرحمة البطريرك يعقوب الثالث بتاريخ 7/9/1975 بترقية نيافة مار فيلوكسينوس فولوس مطران أبرشية كندناط إلى رتبة جاثليق المشرق، وعاون قداسة البطريرك أصحاب النيافة المطران مار ديونيسيوس بهنام ججاوي، ومار أثناسيوس أفرام برصوم مطران بيروت، والمطران مار سويريوس حاوا النائب البطريركي العام، والمطران مار طيمثاوس أفرام عبودي القاصد الرسولي في الهند، وذلك في جو من الخشوع التام. وقد أطلق على المرتسم اسم مار باسيليوس فولوس الثاني. وغبطة الجاثليق المرتسم قضى في مطرانيته 23 عاماً عُرف خلالها بإخلاصه للكرسي الرسولي الأنطاكي، وبعلمه الوافر([266]).
هذه خلاصة الحوادث التي جرت في الكنيسة بالهند، وأدّت مع غاية الأسف إلى شطرها إلى فريقن متنازعين، حتى أنهما رفعا الدعاوى أحدهما على الآخر في المحاكم المدنية بكيرالا، البدائية ثم الأستئنافية، وأخيراً في المحكمة العليا في نيودلهي التي أصدرت حكمها في 20 حزيران 1995 الملزم قانوناً للطرفين. ذلك أن اثنين من القضاة وهما القاضي السيد سن والقاضي السيد جيفان ريدي، أصدرا حكمهما مشتركين، أما زميلهما القاضي الثالث السيد ساهاي فقد أصدر حكماً مخالفاً لحكمهما، فلم يؤبه بالحكم الأخير إذ أن حكم زميليه هو حكم الأغلبية، وهو وحده ملزم للفريقين المتخاصمين. وبناءً عليه وزيادة بالفائدة، نقدّم ههنا ملخصاً لحكمهما ببعض القضايا التي يهمنا معرفة موقف المحكمة منها وهي:
مكانة البطريركية:
تنظر المحكمة إلى قداسة بطريرك أنطاكية السرياني على أنه بلا شكّ، رأس الكنيسة السريانية الأرثوذكسية الجامعة. وهو روحياً أسمى مقاماً من الجاثليق. وتشير المحكمة إلى أن على كل عضو من أعضاء الكنيسة السريانية في مالانكارا التي هي جزء لا يتجزأ من كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية الجامعة ـ أن يقبل قداسة البطريرك على أنه رئيسه الروحي. وتقتصر سلطة البطريرك على الشؤون الروحية، ولا يمتلك سلطة دنيوية (أي مادية) على الكنيسة في مالانكارا.
إنه من الخطأ القول بأن قداسة البطريرك قد فقد سلطته في الكنيسة في الهند (بعد إحياء رتبة الجثلقة)، ولكن للبطريرك أن يمارس سلطته في الهند بالتشاور مع الجاثليق، وأن تستند قراراته إلى أحكام القانون الكنسي ومبادئ العدالة الطبيعة. لا بدّ من الإشارة هنا إلى أن دستور عام 1934 قد اعترف بصراحة ووضوع بسلطة البطريرك، وإن دستور 1934 قد تمت المصادقة عليه من قبل جمعية مالانكارا (Association) التي تمت دعوتها للاجتماع بصورة قانونية شرعية. وكان قد تمّ تشكيل هذه الجمعية من قبل البطريرك نفسه (بشخص البطريرك بطرس الرابع).
إحياء الجثلقة:
قام البطريرك يعقوب الثالث مع كامل المعرفة، بإحياء الجثلقة، بإصدار أمر السلام في عام 1958، وكان على معرفة تامة بدستور 1934 وبنوده المختلفة وادعاءات الطرفين، لذا لابدّ من الاعتبار بأن البطريرك يعقوب، قد قبل شرعية الجثلقة التي أحياها عبدالمسيح (البطريرك المعزول)، وقد قبل شرعية دستور عام 1934.
كان البطريرك يعقوب بعد إصدار منشور السلام في عام 1958، قد أثار بعض الاعتراضات حول استعمال كلمة قداسة، وكرسي القديس توما، ولابدّ بأن يعتبر بأنه قد تخلّى عن كل هذه الاعتراضات عندما قدم إلى الهند، تلبية لدعوة رسمية من مجمع مالانكالارا. ووفقاً لدستور عام 1934، رسم ونصّب الجاثليق الجديد (أوكين) في 22 أيار 1964. وفي اليوم السابق لتنصيب الجاثليق الجديد حرص البطريرك على تعريف سلطة الجثلقة وتعيين حدودها أصولاً، وذلك باستبعاد مناطق الشرق الأوسط من تحت سلطتها.
إن حرمان الجاثليق من الكنيسة من قبل البطريرك (عام 1975) هو أمر باطل، طالما أن الأسس التي قام عليها غير مسموح بها وليست ذات صلة بالموضوع. إن سيادة البطريرك الروحية تمارس في الهند وفقاً لدستور عام 1934.
فيما يتعلّق بالكنائس المحلية للأبرشية:
إن الأملاك العامة التابعة لكنيسة مالانكارا مخولة لمطران مالانكارا كما هو معلن في حكم هذه المحكمة. ستستمر كنائس الكرسي (سيمهاسانا تشرتشس) والجمعية التبشيرية، وأبرشية الكناعنة، وجمعية القديس أنطونيوس، تحت إمرة البطريرك مباشرة كما كانت سابقاً.
هيئات الكنيسة:
بما أنه نشأ هناك انقسام منذ 1 كانون الثاني 1971 ولا يزال مستمراً، فإن المحكمة لا تعترف بصحة أية هيئة كنسية، أو انتخابات كنسية بعد ذلك التاريخ. وتعتبر المحكمة أن كل الانتخابات قد تمت على أنها انتخابات تخصّ إحدى الجماعتين. ومن ثم فإن على الهيئات الكنسية الجديدة أن تتشكل بعد القيام بانتخابات جديدة، تشترك فيها الجماعتان.
«إن نكران الجاثليق وجماعته سلطة البطريرك الروحية، وإن رفض البطريرك الاعتراف بالجاثليق وبدستور 1934 في المراسلات التي جرت خلال الأعوام 1972ـ1975، تعزى إلى الخلافات الشخصية والمنازعات المتبادلة بين الحبرين وجماعتيهما المعنيتين. وعلى هذا الأساس لا يمكن القول بأن الجاثليق أو أتباعه، قد صاروا مارقين أي أنهم انحرفوا عن عقائد الإيمان. وكذلك لا يمكن القول بأن البطريرك قد فقد سيادته الروحية على كنيسة مالانكارا. تلك السيادة التي تمتّع بها قبل بدء المراسلات المذكورة وفقاً لدستور 1934».
إن الحالة التي تمّ بلوغها في 1 كانون الثاني 1971 (أي بعد انتخاب ماثيو أثناسيوس في اجتماع هيئة مالانكارا الذي تمّ عقده في 31 كانون الأول 1970 وفقاً لدستور 1934) هي المعتبرة اليوم من جميع الأوجه. ذلك أن النزاع بين الجماعتين وبين البطريرك والجاثليق، تجدد بعد 1 كانون الثاني 1971. لذلك فإن أية محاولة لإحلال السلام والتقارب بين الجماعتين يجب أن يتخذ من التاريخ المذكور كنقطة انطلاق، هذا لا يعني على أية حال، أنه سيتم اغفال انتخاب متى أثناسيوس المنتخب كجاثليق في 31 كانون الأول 1970 والذي تمّ تنصيبه في تشرين الأول 1975. إن الانتخاب والتنصيب للجاثليق السادس متى الثاني (وهو المستأنف ضده في الاستئناف الحالي) لا يمكن اغفالهما، فهما حقيقتان تمّ إنجازهما وستبقيان أمرين لا نزاع فيهما.
إن التوجيهات التي سيتمّ ذكرها لاحقاً ستتمّ بالإشارة إلى التاريخ المذكور، آملين بأن تنجح الإجراءات المذكورة في أحداث المصالحة بين الجماعتين المتحاربتين، وفي إحلال السلام في كنيسة مالانكارا والذي يتعيّن أن يكون أمنية كل فرد في تلك الكنيسة.
إن القرارات التي تمّ اتخاذها من قبل مجمع مولنطورتي (في القرن الماضي)، تبين بأنه منعاً لسوء إدارة شؤون الكنيسة ومن أجل منع ديكتاتورية الإدارة لمطران ملانكارا واستبداده ـ علماً بأنه في ذلك الزمن لم يكن سوى مطران واحد لكنيستنا في الهند، التي كانت تعتبر أبرشية واحدة ضمن أبرشيات الكرسي الرسولي الأنطاكي ـ فقد وجد من الضروري أن تكون هناك منظمة للرعية بأجمعها تدعى الهيئة المسيحية السريانية (Association)، يكون البطريرك راعيها وحاميها (Chief Patron)، ويكون الأسقف الحاكم رئيسها. ومن أجل تسيير أمور الهيئة، تمّ تشكيل هيئة رئيسة تؤخذ منها، تتكون من ثمانية كهنة و16 من العلمانيين مع الأسقف الحاكم الذي هو الرئيس. عهد لهذه اللجنة المسؤولية الكاملة في إدارة كل شأن يتعلّق بالأمور الدينية لكل الرعية السريانية. واليوم تتألف هذه الهيئة من الجاثليق الذي هو نفسه يعدّ مطران ملانكارا، ومن جميع المطارنة، ويُعدون نواب الرئيس، ومن كاهن واحد من كلّ كنيسة مع علمانيين اثنين.
من الواضح بأن هيئة مالانكارا قد شكلت لا لتدير الشؤون الدنيوية للكنيسة فقط، ولكن لتدير أيضاً الشؤون الدينية، وإن تعيين الأساقفة يخضع لقبول شعب مالانكارا. التركيز هو على شعب مالانكارا، وليس على الكنائس الفردية وكنائس الأبرشيات. يبدو بأنه بينما تكون عضوية هيئة مالانكارا محدودة بكاهن واحد وعلمانيين يتم انتخابهم من قبل مجلس كل أبرشية، فإن عضوية كنيسة مالانكارا تتألف من كل الرجال والنساء الذين يقبلون العقائد والإيمان.
إذا خولت هيئة مالانكارا بضبط الشؤون الدينية والرعوية لكل رعية مالانكارا المسيحية، فلا بدّ لها أن تعكس بشكل أصيل وصحيح إرادة الرعية المذكورة. ومن أجل تحقيق هذا فإن هيكليتها يجب أن تتمّ على النحو الذي يمثل الجماعة بكل انتماءاتها. ولا بدّ من تشكيل هيئة قوية لها السيطرة على الشؤون الروحية والرعوية لكنيسة مالانكارا، بطريقة معقولة وعادلة.
ومما هو جدير بالذكر أن المحكمة قد وجهت الفريقين إلى السعي لإحلال السلام في الكنيسة بمالانكارا، ذلك أنه سيعاد تشكيل جمعية مالانكارا (Association) التي هي استمرار لمجمع مولانطوروتي، بحيث يُمثل فيه كل الشعب المؤمن من رجال ونساء، وليس فقط الكنائس. من أجل ذلك فإن الفقرة (71) من الدستور سيتمّ تعديلها، وسيتمّ انتخاب الجمعية على أساس الدستور المعدّل.
وقد أعطت المحكمة التوجيهات اللازمة لكلا الطرفين وللجنة قانونية لتقديم مسودة تعديل الدستور أمامها خلال ثلاثة أشهر بدءاً من يوم 20/6/1995.
(انتهى)
على أثر إعلان المحكمة قرارها أصدرنا إلى كنيستنا في الهند بالانكليزية المنشور البطريركي الذي رأينا أن ننشر ترجمته العربية فيما يأتي:
بنعمة الله
اغناطيوس زكا الأول عيواص
بـطــريــرك أنــطــاكــيــة وســـائــر الــمــشـــرق
الرئيس الأعلى للكنيسة السـريـانـية الأرثـوذكسـية فـي الـعـالـم
نهدي البركة الرسولية إلى أخينا الحبيب بالمسيح غبطة مار باسيليوس بولس الثاني، جاثليق المشرق، وأحبائنا أصحاب النيافة المطارنة، وأبنائنا الروحيين، الخوارنة والرهبان والكهنة الموقرين، والشمامسة المحترمين والراهبات الفاضلات، وسائر المؤمنين في كنيستنا السريانية الأرثوذكسية في الهند ونقول:
يسعدنا أن نسمع بأن المحكمة العليا في بلادكم العامرة، قد أعلنت بأن الكنيسة في مالانكارا هي جزء لا يتجزأ من الكنيسة السريانية الأرثوذكسية الجامعة، التي دعانا اللّه لأن نكون الرئيس الأعلى لها. ولذلك فنحن نقدر حكمة المحكمة في الاعتراف بالسيادة الروحية لكرسي أنطاكية الرسولي العريق في القدم. وإننا لنشارك في فرحة الهيئة التبشيرية الإنجيلية في المشرق، وكنائس الكرسي، وجمعية القديس أنطونيوس التربوية في هونافار التي تعزز موقعها المقرّب من كرسينا المقدس. كما أننا نشير أيضاً إلى أن نيافة المطران مار اقليميس أبراهام (مطران أبرشية الكناعنة) مسرور بالحكم في هذه القضية.
نمجد الرب الإله من أجل ما ربحتموه وما خسرتموه معاً، لأن اللّه، يا أبنائي الأعزاء، لا يخطئ.
كنا في منشورنا البطريركي الرسولي رقم 355/91، قد حثثنا أبناء كنيستنا في الهند على دفن الأحقاد وبدء عهد جديد من السلام وكنا قد قلنا في ذلك المنشور بأننا كرّسنا أنفسنا لإقامة سلام دائم في كنيستنا بالهند. فنأمل الآن أن ينتهز أبناؤنا هناك، بالرغم من انقسامهم الظاهري إلى فئتين، الفرصة السانحة التي يوفرها حكم المحكمة العليا من أجل الاتحاد متمسكين بالإيمان الحق ومحافظين على التقاليد الجليلة.
بهذه المناسبة نذكركم بالدور الذي لعبه سلفنا الخالد الذكر البطريرك مار إغناطيوس بطرس الرابع في القرن التاسع عشر، فقد سافر قداسته إلى الهند في تلك الأيام، يوم لم يكن الاتصال أمراً سهلاً، وقام بدراسة الوضع جيّداً ووفّر الهيكل الأساسي من أجل إدارة الكنيسة في الهند. فهو لم يسعَ أبداً وراء أية سلطة دنيوية على الكنيسة هناك، بل على العكس من ذلك، فقد وهبه اللّه أفقاً واسعاً في التفكير، وسبق زمانه إذ أدرك الحاجة إلى تشكيل هيئة مسيحية سريانية (Association) «للحؤول دون إٍساءة إدارة شؤون الكنيسة، ولضبط سلطة المطارنة». وفي الوقت الذي كان من الممكن له فيه وبكل سهولة أن يتمّ قبوله من قبل الهند، للعب دور أكثر فعالية في الامور الدنيوية لكنيسة مالانكارا، أي منح الكرسي الرسولي امتيازات مادية دنيوية، قام بدلاً من ذلك بإتاحة الفرصة لتشكيل لجنة مكانية «مناطة بالمسؤولية الكاملة، وبإدارة الأمور المتعلقة بالشؤون الدينية والطائفية لكل الرعية المسيحية السريانية هناك».
إننا لنذكر بكبير الرضى، النابع من صميم القلب، مصادقة محكمتكم العليا على المبادئ الأساسية، التي تمّ اتخاذها في (مجمع مولانطوروتي) من قبل سلفنا العظيم (البطريرك بطرس الرابع). إننا لنود، ونحن نقول هذا، أن نوضح مرة أخرى بأن الوحدة والسلام ومستقبل الكنيسة في مالانكارا هذه الأمور هي في أيديكم. ونحن نؤكد لكم بركاتنا الرسولية في جهودكم لحمل الشهادة المثمرة لربنا.
لقد أراد ربنا من تلاميذه أن يكونوا واحداً، وسأل الآب السماوي من أجلهم قائلاً له: «ليكون الجميع واحداً، كما أنك أنت أيها الآب فيّ وأنا فيك ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا ليؤمن العالم أنك أرسلتني»(يو21:17)، وهذا يعني بأن كنيسة منقسمة هي أسوأ شهادة للتجسّد الإلهي والفداء.
إن على الكنيسة أن تكون رداء المسيح غير الممزّق، لا الثوب الممزّق للمجذومين الذين لا شفاء لهم. إننا لنؤمن بأن الغاية القصوى والهدف الأسمى لكل المسيحيين بأن تتمّ المصالحة، المصالحة ما بين الطوائف وداخل هذه الطوائف.
كنا قد أشرنا في موعظتنا في 14 أيلول 1980 عند اعتلائنا كرسي أنطاكية الرسولي المقدس (بالنعمة لا بالاستحقاق) بأننا سنعطي الأولوية في جدول أعمالنا في عهد بطريركيتنا لتوطيد السلام بين الفريقين المتنازعين بكنيستنا في الهند. بالرغم من كل نياتنا الحسنة لم يكن من الممكن لنا أن ننجز شيئاً ما عدا القيام بحثّ أبنائنا في الهند على العمل من أجل المصالحة. إن لدينا العديد من الاصدقاء الشخصيين في رئاسة الجماعة الأخرى، والعديد منهم قد التقوا بنا أثناء زيارتهم في الخارج. وقد أكدنا لهم دائماً بأنه عندما يقف المؤمنون السريان في مالانكارا متّحدين فسوف نشاركهم في غبطتهم. هذا هو الوعد الذي نود تكراره ثانية في هذا الوقت ونحن على قاب قوسين من نهاية النفق. كما قلنا في اتصالنا الذي وجهناه لغبطة أخينا الجاثليق مار باسيليوس بولس الثاني (في 16 كانون الأول 1991) فإننا لن نمانع في الذهاب خطوات أبعد إلى الأمام في مسيرة السلام، غير أن خصوصيات العمل لا بدّ وأن تتمّ في الهند. مع الاعتبار اللازم لكل مناحي حياة الكنيسة.
لكم أطيب التمنيات في جهودكم لإنهاء الإنقسام الحالي الذي يجعل الشهادة المسيحية تضيع سُدى في مالانكارا.
نسأل الرب الإله الآب والابن والروح القدس، أن يمدّ يمناه الخفيّة، مع يميني أنا العبد الضعيف الخاطئ الضئيل، فيبارككم ونعمته تشملكم جميعاً الآن والى الأبد، آمين.
صدر عن قلايتنا البطريركية في دمشق ـ سورية
في 1 آب سنة 1995 وهي السنة الخامسة عشرة لبطريركيتنا
وفيما يأتي ترجمة الرسالة التي كتبها إلينا غبطة الجاثليق مار باسيليوس فولوس الثاني، مفريان المشرق جواباً لمنشورنا البطريركي المذكور.
«كيرلا 24/10/1995
إلى صاحب القداسة سيدنا مار إغناطيوس زكا الأول عيواص
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق. دمشق ـ سوريا
بعد طلب رضا قداستكم:
فرحنا جداً باستلام منشور قداستكم الرسولي المؤرخ في 1 آب 1995، والذي يعبّر عن وسع الأفق في التفكير ومحبة أبوية خالصة، ورغبة صادقة في وحدة الكنيسة. الامور التي تتحلون بها قداستكم كرئيس أعلى للكنيسة السريانية الجامعة. لقد قامت كل من اللجنة التنفيذية واللجنة الإدارية في الكنيسة بدراسة مفصلة لمحتويات المنشور، وبناءً على ذلك فقد عيّنا لجنة مؤلفة من خمسة عشر عضواً بارزاً من كنيستنا، وخمسة مطارنة من المجمع لاجراء حوار مع الطرف الآخر وللعمل على إيجاد طرق للسلام والوحدة في الكنيسة. كما نصلي أيضاً إلى اللّه العلي القدير من أجل الوصول إلى حل دائم للمشاكل في الكنيسة.
إن اللجنتين التنفيذية والإدارية في الكنيسة، قد خولتا صاحب النيافة مار غريغوريوس جوزيف مطران أبرشية كوجين، وحضرة الأب الدكتور آداي يعقوب مدير الكلية اللاهوتية، لمقابلة قداستكم ولتقديم تقرير موجز عن الوضع الراهن في الكنيسة. إنهم يخططون لمقابلة قداستكم في الأسبوع الأول أو الأسبوع الثاني من شهر تشرين الثاني 1995. لذلك نطلب من قداستكم بتواضع أن تمنحوهم الإذن لمقابلتكم.
نحن متأكدون بأن قداستكم تحسون بالآلام، وتقدمون كل أنواع المساعدة من أجل حلّ المشاكل والمصاعب التي تواجه الكنيسة السريانية الأرثوذكسية الآن. نأمل أن تكونوا، صاحب القداسة، بخير ونطلب البركة الرسولية والصلاة.
التوقيع
باسيليوس فولوس مفريان المشرق (انتهت الرسالة).
أسرار الكنيسة السبعة )*(
- تمـهـيـد
هذا بحث يتضمن شرحاً موجزاً وسهلاً لعقيدة كنيستنا السريانية الأرثوذكسية في أسرار الكنيسة السبعة، التي تعتبر من ضمن عقائد الكنيسة الإيمانية الرئيسية. وإن غايتنا من تقديمه للقراء الكرام هي محاولة تقريب فهم هذه الأسرار المقدسة لأذهانهم، ليدركوا جيداً قدسيتها فيسعوا للحصول على فوائدها الروحية وممارسة ما يحق لهم ممارسته منها بإيمان متين.
يعرّف آباء كنيستنا الميامين السرّ بأنه عمل مقدس، به ينال المؤمنون تحت مادة منظورة، نعمة غير منظورة. ففي كل سر من أسرار الكنيسة السبعة وجهان، وجه منظور ووجه غير منظور على الذي يحصل على السر أن يؤمن بوجوده ولئن لا يراه بالعين المجردة، فالقسم المنظور هو العمل الخارجي الذي يجريه الكهنة الشرعيون من خلال الطقوس البيعية، ومادة السر كالماء في المعمودية، والخبز والخمر في العشاء الرباني، والزيت الذي سبق تقديسه في مسحة المرضى. أما الوجه غير المنظور فهو النعمة التي يحصل عليها المؤمن نتيجة نيله هذا السرّ بإيمان، وبموجب الطقس الكنسي الخاص الذي يقوم به كاهن شرعي كخادم للسر. فالوجه غير المنظور في سر المعمودية مثلاً تنقية اللّه تعالى للمعَّمد داخلياً وتطهير نفسه وتبريره من الخطية الجدية والخطايا الفعلية التي اقترفها قبل أن يعتمد، وتنقية ذهنه وولادته ميلاداً ثانياً. وقد جعل السيد المسيح الأسرار ينابيع نِعَم روحية لفائدة المؤمنين. وفيها توجد الكفاية لسد حاجات أبناء الكنيسة. فبما أن الإنسان يولد وينمو ويقتات جسدياً فقد ترتب أن يولد وينمو ويقتات روحياً بوساطة الأسرار الثلاثة الأولى: المعمودية والميرون المقدس والافخارستيا (القربان المقدس). وبما أنه يمرض جسدياً وروحياً فقد ترتب أن يعتق من الأمراض الجسدية بمسحه بالزيت المقدس ويعتق من أسر الخطية بواسطة التوبة والاعتراف. ولضرورة أن يحفظ النوع الإنساني وينمو تعيّن سر الزواج الذي يقمع الشهوات أيضاً ويصون الإنسان من خطايا كثيرة. وحيث أنه لا بد من وجود خادم ذي سلطان روحي شرعي يقوم بإتمام هذه الأسرار ومنحها للمؤمنين اختار الرب له رسلاً وتلاميذ وأقام منهم خداماً لأسراره الإلهية بمنحهم سر الكهنوت المقدس.
وحيث أن الإنسان مركب من نفس وجسد وما يقع تحت حواس الجسد يطبع في النفس بقوة عظيمة، فلأجل هذا اختار اللّه الذي «يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون»(1تي 2: 4) أن تُنظَّم الطقوس المقدسة، وتُرَتَّب العلامات المنظورة في الأسرار المقدسة لكي تؤثّر في نفوسنا جاعلة إياها منتبهة لاقتبال النعمة غير المنظورة وهذا يوافق طبيعة تركيب الإنسان من روح غير منظور وجسد منظور.
وقد رسم الرب يسوع نفسه أسرار الكنيسة السبعة وأودعها كنيسته المقدسة ليوزّعها خدام الكنيسة الروحيون على المؤمنين لنيل نِعَم الخلاص. ونستدل من التقليدين الرسولي والكنسي أن الرسل الأطهار قد تسلّموها من الرب يسوع خاصة في خميس الفصح الذي يدعى لدينا أيضاً خميس الأسرار، وفي فترة الأربعين يوماً التي تلت قيامة الرب من بين الأموات وهي الفترة الواقعة ما بين قيامته وصعوده إلى السماء وفيها أيضاً منح الرب يسوع سلطاناً للرسل ليكونوا وكلاء سرائره (1كو 4: 1 وتي 1: 7) وأعطاهم سلطان حلّ الخطايا وربطها في السماء وعلى الأرض (مت 16: 19 و18: 18 ويو 20: 22و23)، وأرسلهم لينشروا بشارته الإنجيلية في العالم أجمع (مر 16: 16) وعيّنهم سفراءه في الأرض كلها (2كو 5: 20) ورعاة لرعيته الناطقة (يو 21: 15 ـ 17). والرسل بدورهم سلّموا هذه الوكالة إلى تلاميذهم وخلفائهم لدوام سلسلة الولاية الكهنوتية في كل الأجيال (أع 14: 23 وتي 1: 5 ومت 28: 19و20 ويو 20: 21) وذلك لاستمرار الكنيسة في أداء رسالتها في إيصال أسراره الإلهية السبعة التي هي نِعَم الخلاص وثمار الفداء وتوزيعها على المؤمنين به في جميع أنحاء العالم وفي كل الأجيال وإلى أبد الآبدين.
إن الإيمان شرط أساس للراشدين من المؤمنين ليستحقوا نيل مفاعيل هذه النعم التي تتضمنها الأسرار المقدسة. أما غير الراشدين فينالون ذلك بناء على إيمان آبائهم أو ولاة أمرهم. ففي سر المعمودية مثلاً يعلن الإشبين (القريب) صورة الإيمان نيابة عن الطفل المعتمد وكأن الطفل ذاته قد أعلن هذا الإيمان، مثلما كان الطفل في نظام العهد القديم يختتن في اليوم الثامن من ميلاده ليدخل في العهد مع اللّه وذلك بناء على إيمان آبائه ورغبتهم ودون أن يدرك ذلك حتى يبلغ سن الرشد.
وتستمد هذه الأسرار المقدسة قوتها من ذبيحة الصليب والغاية منها نيل التبرير والتقديس والتبني والثبات في المسيح والجهاد الروحي في سبيل نيل ملكوته السماوي والحياة الأبدية الصالحة.
- علّة النعمة ومفعولها:
إن السرّ ليس بحدّ ذاته علّة النعمة، إنما اللّه تعالى وحده العلّة الرئيسة لها، وهو واهب النعم، وهو يعطي للأسرار قوة النعمة ومفعولها عندما تكمل رتبة السرّ بصورة قانونية صحيحة، وما السرّ إلاّ واسطة لنيلها. وعليه فإن مفعول السرّ صادر عن إيمان من يقتبله ونيته واستعداده، لذا لا فرق إن كان خادم السر الشرعي خاطئاً أو باراً فالمؤمن ينال مفعول السر على كلتا الحالتين وهذا من فيض مراحم اللّه. أما خادم السر غير البار وغير التائب فدينونته صارمة. فعلى المؤمنين أن يتقبّلوا هذه الأسرار بإيمان حي لا تزعزعه الشكوك، ذلك أن النعم التي ينالونها هي غير محسوسة ولا ظاهرة أما ما يرونه ويحسّون به فهو المادة المحسوسة مثل الماء في المعمودية والخبز والخمر في القربان المقدس الذي هو جسد الرب يسوع ودمه الأقدسان. فالمؤمنون إذ يثقون بصدق كلام اللّه تعالى ووعده الأمين أنه يمنح نعمه الإلهية غير المنظورة بوسائط المادة المحسوسة الظاهرة من هذه الأسرار، يتقبّلونها بإيمان، خاصة وهي ملائمة للإنسان القائم ليس من الروح فقط بل من الروح والجسد، فعليه ألاّ يشكّ قطعاً في أن الروح القدس يتمّم سر نعمته بتقديس هذه الأسرار فيجعل في العماد ولادة روحية من السماء، وفي الميرون المقدس ختماً إلهياً لنيل الروح القدس، وفي القربان المقدس غذاء روحياً بتناول جسد الرب يسوع المسيح ودمه، وفي التوبة والاعتراف حلاً من الخطاياً ومغفرة الذنوب. وفي الكهنوت سلطاناً روحياً لربط الخطايا وحلّها وخدمة الأسرار المقدسة، وهكذا قل عن باقي الأسرار.
- عدد الأسرار:
أجمعت الكنائس الرسولية استناداً إلى تعاليم الرسل الأطهار وشهادات الآباء الأبرار على أن عدد أسرار الكنيسة هو سبعة وأن الكنيسة المقدسة منذ فجر وجودها قد مارست هذه الأسرار بلغاتها المتنوعة وطقوسها العديدة، وعلى الرغم من اختلاف هذه الكنائس في أمور عقيدية كثيرة، وتباين أساليب ممارسة طقوسها، فقد أجمعت على عدد الأسرار السبعة وجوهرها وما تدلّ عليه، مما يقيم الحجة الدامغة على أنها من وضع إلهي وتسليم رسولي، ولئن لم يأتِ الكتاب المقدس على ذكرها بشكل صريح، وكما لم يرد أيضاً ذكرها جملة في كتابات بعض الآباء الأولين، علماً بأن بعض الآباء تكلّموا عن سرين أو ثلاثة معاً بحسب المناسبة والحاجة والغاية من ذلك الكلام. وهذه الأسرار السبعة هي: 1 ـ المعمودية، 2 ـ الميرون المقدس، 3 ـ القربان المقدس، 4 ـ التوبة والاعتراف، 5 ـ مسحة المرضى، 6 ـ الكهنوت، 7 ـ الزواج.
وقد وضع آباء الكنيسة الميامين شروطاً ثلاثة لإتمام كل سرّ من هذه الأسرار بصورة صحيحة وهي: 1 ـ المادة: كالماء في سرّ المعمودية والخبز والخمر في سرّ القربان المقدس. 2 ـ الصورة: وهي الألفاظ التي تتلى أثناء إتمام رتبة السرّ الطقسية كقول الكاهن في سرّ المعمودية عمد عبدؤ دمشيحا… ليعمد عبد المسيح (فلان)… على رجاء الحياة… باسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد آمين. وينبغي أن تكون المادة والصورة مما فيه قوة الدلالة على الغاية من السر وعمل القداسة والبر 3 ـ الخادم الذي قد نال الشرطونية القانونية ووهب السلطة الروحية الشرعية أي الرتبة والدرجة اللتين تؤهّلانه للقيام بإتمام رتبة ذلك السر الطقسية. وذلك باسم الرب يسوع وسلطانه الإلهي.
وللأسرار السبعة قوة ثلاثية الدلالة فهي تشير:
1 ـ إلى الماضي، وبخاصة إلى آلام السيد المسيح وموته لأجلنا وقيامته.
2 ـ إلى ما هو حاضر، كنعمة التبرير والتقديس والتبني التي ننالها بالمسيح في سر المعمودية.
3 ـ وإلى المستقبل حيث سنستحق بالمسيح أن نرث الحياة الأبدية والسعادة في السماء.
فسر المعمودية مثلاً الذي يعتبر الباب الذي منه ندخل إلى حظيرة المسيح، هو علامة تشير إلى النعمة الإلهية التي ننالها بموت المسيح عنا وقيامته من بين الأموات وبهذا يقول الرسول بولس: «أم تجهلون أننا كل من اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته فدفنا معه بالمعمودية للموت حتى كما أقيم المسيح من الأموات بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضاً في جدة الحياة» (رو 6: 3و4). هذا هو الأساس للسر أي الماضي، أما الحاضر فهو ولادتنا ثانية من السماء عندما ننال هذا السر، أما المستقبل فهو إذ نصير بولادتنا من السماء أبناء للآب السماوي ونسلك على الأرض كما يوصينا الرسول بولس بقوله: «فقط عيشوا كما يحق لإنجيل المسيح» (في 1: 27)، نستحق في اليوم الأخير أن نرث ملكوته السماوي.
فعلى كل مسيحي أن يقتبل ما يحق له من هذه الأسرار المقدسة، فالأسرار السبعة جميعها، ضرورية للخلاص، لبنيان جسد المسيح السرّي الذي هو الكنيسة التي هي هيئة دينية عامة. أما بالنسبة إلى المؤمنين كأفراد فبعض هذه الأسرار ضروري على الإطلاق أن يتقبله المؤمنون لينالوا الخلاص بالمسيح يسوع ربنا وهي كسرّي المعمودية والميرون المقدس اللذين يُمنحان كلاهما معاً. فبعد أن يعتمد المؤمن يمسح بالميرون المقدس مباشرة. وسرّ القربان المقدس الذي يُمنح للمؤمنين بعد تقـبُّـلهم سرّي العماد والميرون المقدس مباشرة. ويتقبّلونه باستمرار ما داموا أحياء لأنه قوت روحي ضروري لتقديس النفس والجسد وللنمو الروحي بالمسيح والثبات فيه ولنيل الحياة الأبدية، ولقدسيته يجب أن يكون المؤمنون في حالة البر أي التوبة عندما يتناولونه لذلك يمارسون استعداداً لنيله، سرّ التوبة والاعتراف.
إن بعض الأسرار غير ضروري أن يناله المؤمنون كأفراد ليحصلوا على الخلاص، وهذه الأسرار هي سرّ الكهنوت الذي لا يلتزم الجميع بالارتسام به ولا يناله إلا المدعو من اللّه والمنتخب منه تعالى، وسرّ الزواج وسرّا مسحة المرضى والتوبة والاعتراف، السران اللذان يعتبران ضروريين حينما يسقط المؤمنون في الخطية أو يصيبهم مرض جسدي. وهذه الأسرار ضرورية جداً للكنيسة ككل، فسرّ الزواج مثلاً ضروري جداً للكنيسة ككل لحفظ الجنس البشري، ولكنه غير ضروري للخلاص للمؤمنين كأفراد مثل الذين ينذرون البتولية ويتحمّلونها، والأرامل الذين يتحملون ذلك وتعتبر لدى هؤلاء جميعاً البتولية أفضل من الزواج وأقدس (1كو 7: 33و34و38).
وإن بعض هذه الأسرار ذو صبغة ثابتة فلا يمكن أن يتكرر قبوله كالمعمودية والميرون، ونفس الدرجة من رتب الكهنوت، وبعض الأسرار يمكن أن يتكرر قبوله وممارسته كالقربان المقدس، والتوبة والاعتراف، ومسحة المرضى.
- سر المعمودية
سر مقدس، به يُولد المؤمنون ميلاداً ثانياً من الماء والروح وقد أسس الرب يسوع هذا السر بقوله لتلاميذه: «دُفع إليّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس»(مت 28: 18و19).
وسر المعمودية يمحو جوهر الخطية الجدية التي هي جريمة آدم المتصلة بذريته فقد عمّت الخطية الجدية جميع الجنس البشري المولود من آدم وحواء لأنهما لم يلدا أحداً إلاّ وهما في حالة الخطية، لذلك فالإنسان يولد بشيء من الفساد كما يذكر ذلك داود صاحب المزامير بقوله للّه: «وبالخطية حبلت بي أمي»(مز51) ولا يستثنى منه أحد ممن لبس الجسد البشري سوى ربنا يسوع المسيح المولود من الروح القدس ومن مريم العذراء بدون زرع رجل، وهو منزّه عن الخطية الجدية والخطايا الفعلية على الإطلاق. أما النزعة إلى الشر لدى البشر كافة فهي نتيجة تلك الخطية ويمكن أن يتغلب عليها المعمّد باسم الثالوث الأقدس، بالتدريج بوساطة تجديده روحياً. وحيث أن المعمودية ضرورية للخلاص بناء على قول الرب يسوع القائل: «إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله»(يو 3: 5) لذلك أمر الرسل الأطهار والآباء الأبرار أن يُعمّد الأطفال الصغار خوفاً من أن يموتوا وهم في سن الطفولة فيحرموا من دخول ملكوت اللّه لأنهم مشتركون في الخطية الجدية فلا بد من تطهيرهم منها بالمعمودية. وحيث أن إيمان المتقدم للعماد يسبق عماده بناء على قول الرب يسوع: «من آمن واعتمد خلص ومن لم يؤمن يُدَنْ»(مر 16: 16) لذلك أوصت الكنيسة أن يعتمد الأطفال بناء على إيمان آبائهم كما كان شعب العهد القديم يختنون الأطفال في اليوم الثامن لميلادهم بناء على إيمان آبائهم، لأن الختان في العهد القديم كان علامة العهد الذي قطع بين اللّه وبين ذلك الشعب، ورمزاً إلى المعمودية التي هي علامة العهد بين المسيحيين والرب يسوع كما حددت الكنيسة أن يكون للمعتمد اشبين (عرّاب) يتعهد بأن يعلّمه مبادئ الإيمان ويهتم بتربيته الروحية. ومما يبرهن على عماد الأطفال أن الرسل لم يستثنوا من العائلات التي عمّدوها أحداً ولم يفرزوا الأطفال من بينها بل عمّدوهم معها (1كو 1: 16 وأع 16: 15). وقد تضمّن قانون 113 لمجمع قرطاجنة أن معمودية الأطفال ضرورية لهم كما هي ضرورية لسواهم وذلك لكي يخلصوا من خطية آدم التي ولدوا بها وإذا ماتوا ملوّثين بأدرانها يُحرمون من السعادة الأبدية وميراث المسيح الذي أعده للمؤمنين المعمّدين.
وتتمسّك كنيستنا بتغطيس المعتمد ثلاث مرّات في جرن المعمودية أثناء ممارسة طقس العماد المقدس، وقد مارس الرسل الأطهار طقس المعمودية بالتغطيس، ويخبر البشير لوقا عن كيفية عماد الخصي الحبشي على يد الشماس فيليبس حيث نزلا معاً في قلب غدير (أع 8: 36) وكان ممكناً لهما أن يجدا ماءً قليلاً في العربة التي كانا يقلاّنها ويكتفيا به لو كان ذلك جائزاً بدون أن ينتظرا ورودهما على غدير. وبولس يعلّمنا أن المعمودية تمثّل موت المسيح ودفنه وقيامته بقوله: «فدفنا معه بالمعمودية للموت حتى كما أقيم المسيح من الأموات بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضا في جدة الحياة»(رو 6: 4) ويستحيل أن يراد بالدفن إلا التغطيس فلا يجوز الاكتفاء بالرش على جبهة المعتمد وبعض أعضاء من جسمه.
مفاعيل سر المعمودية وثمارها:
تجدد المعمودية خلقة الإنسان روحياً فينال نعمة التبرير أي تطهير النفس من الخطية الجدية والخطايا الفعلية السابقة لنيله سر المعمودية، كما ينال نِعَم التجديد والتقديس والتبني أي يصير ابناً للّه بالنعمة، وعضواً حياً في جسد المسيح السرّي أي الكنيسة المقدسة، ويحصل على الحق بوراثة الحياة الأبدية، فالمعمودية إذن ضرورية للخلاص وعلى كل مؤمن بالمسيح يسوع أن ينالها. وقد وضّح ذلك الرسول بطرس في خطبته يوم الخمسين التي بعد أن سمعها اليهود «نخسوا في قلوبهم و قالوا لبطرس ولسائر الرسل ماذا نصنع أيها الرجال الإخوة، فقال لهم بطرس: توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا فتقبلوا عطية الروح القدس… فقبلوا كلامه بفرح واعتمدوا وانضمّ في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف نفس»(أع 2: 37و38و41). ولا تكرر المعمودية لأنها كالولادة الجسدية تحدث مرة واحدة بالحياة.
- سر الميرون المقدس
هو مسحة مقدسة بها يختم الكاهن ويمسح أعضاء جسد المعمّد بالمسيح ظاهرياً حال خروجه من جرن المعمودية ليكتسي بالنعمة باطنياً أي ينال نعمة الروح القدس. وكان هذا السر يتمّ في بدء المسيحية بوضع الرسل أيديهم على المعمدين فينالون الروح القدس (أع 8: 17 و19: 6) كما يتّضح ذلك مما جاء في سفر أعمال الرسل عن إيمان أهل السامرة وعمادهم على يد فيلبس الشماس ولم يحلّ عليهم الروح القدس لذلك أرسل الرسل إليهم بطرس ويوحنا «اللذين لما نزلا صلّيا لأجلهم لكي يقبلوا الروح القدس»(أع 8: 15) ولما كثر عدد الداخلين إلى الدين المسيحي وتعذّر على الرسل أن يوجدوا في الأماكن النائية ويقوموا بهذا العمل الروحي المقدس، فبإلهام الروح القدس استعاضت الكنيسة المقدسة عن وضع اليد بالميرون المقدس الذي قدّسه الرسل الأطهار، وقد ركّبوه من زيت الزيتون النقي والحنوط والطيوب التي كانت على جسد الرب في القبر وأضافوا إليها البلسم وقدّسوه وسلّموه إلى تلاميذهم الأساقفة وأمروهم ليدهنوا هم والكهنة جميع المعمدين استعاضاً عن وضع اليد، وقد اقتبسوا استعمال دهن الميرون المقدس من العهد القديم (خر 30: 25). وإن تركيبه من العطور يرمز إلى عددية المواهب الروحية واختلاف أنواعها.
ولهذه المسحة قوة سماوية فهي تعلّم المؤمنين كل شيء وعلى المؤمنين أن يتمسّكوا بكل ما علّمتهم هذه المسحة على حد قول الرسول يوحنا القائل: «وأما أنتم فالمسحة التي أخذتموها منه ثابتة فيكم ولا حاجة بكم إلى أن يعلّمكم أحد بل كما تعلّمكم هذه المسحة عينها عن كل شيء وهي حق وليست كذباً كما علّمتكم تثبتون فيه»(1يو 2: 27). وعندما نعقد المقارنة بين هذا الكلام عن المسحة المقدسة وبين كلام الرب يسوع عن العماد بالروح القدس بقوله:«لأن يوحنا عمّد بالماء وأما أنتم فستتعمّدون بالروح القدس» (أع 1: 5) نكتشف الربط الموجود بين عمل المسحة ومفاعيلها وعمل الروح القدس، فالمسحة هي العلامة الظاهرة المنظورة لسر مفاعيل الروح القدس الذي لا يرى ولا يحسّ به ولكن تأثيره يظهر في المؤمنين. قال الرب يسوع لنيقوديموس: «لا تتعجب أني قلت لك ينبغي أن تولدوا من فوق، الريح تهبّ حيث تشاء وتسمع صوتها لكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب هكذا كل من وُلد من الروح»(يو 3: 7و8). وقد كشف الرب يسوع النقاب عن رسالة الروح القدس في العالم في تعليم الرسل وإرشادهم وتذكيرهم بما علّمهم الرب يسوع إياه قائلاً: «أما المعزّي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلّمكم كل شيء ويذكّركم بكل ما قلته لكم»(يو 14: 26) «ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي وتشهدون أنتم أيضاً لأنكم معي من الابتداء» (يو 15: 26و27). فعمل المسحة هو عمل الروح القدس ذاته.
لنتتبع عمل الروح القدس منذ البدء «فروح اللّه كان يرف على وجه المياه»(تك 1: 2) وروح الرب حلّ على الأنبياء والأتقياء في العهد القديم، والمسحة صنعها موسى بناء على أوامر اللّه لمسح هرون والكهنة والمذابح والأواني المقدسة.
كما استعملت هذه المسحة لمسح الملوك فعندما أرسل النبي صموئيل إلى يسى وطلب من هذا أن يأتي بأبنائه لم يُبدِ قرن الزيت أي علامة حتى جاء الفتى داود ففاض الزيت الذي يمثّل الروح القدس وبذلك أعطى علامة للنبي أن اللّه قد اختار داود ملكاً ونبياً فسكب النبي الزيت على رأس داود وكرّسه. فقد كان في الزيت قوة روحية وتأثير واضح فهو الذي يرشد ويعلّم ويقدّس. وفي العهد الجديد نزل الروح القدس من السماء بهيئة جسمية مثل حمامة على الرب يسوع على أثر خروجه من الماء بعد أن اعتمد من يوحنا ولذلك عندما دخل مجمع الناصرة وفتح السفر ليقرأ وجد الآية المقدسة التي قالها النبي إشعياء قبل الميلاد بثمانية قرون على لسانه له المجد فتلا نصها وهو «روح الرب عليّ لأنه مسحني لأبشّر المساكين أرسلني لأشفي المنكسري القلوب لأنادي للمأسورين بالإطلاق و للعمي بالبصر وأرسل المنسحقين في الحرية» (لو 4: 18).
قال مجمع اللاذقية: «يجب على المستنيرين بأن يمسحوا بعد المعمودية بالمسحة السماوية ويصيروا مساهمين لملكوت اللّه» (قانون 48) لذلك يمسح الأطفال أيضاً بعد عمادهم مباشرة. ويجب ألاّ نحرم الأطفال من موهبة سرّ الميرون المقدس كما لم نحرمهم من المعمودية وإن اللّه تعالى لم يمنع نعمته عن الأطفال بل انه أنعم على بعض مختاريه أنه اختارهم وهم بعد في بطون أمهاتهم، كما أجزل نعمته لصموئيل الصغير إذ قيل «وكان صموئيل يخدم أمام الرب وهو صبي وعملت له أمه جبة صغيرة» (1صم 2: 18) كما أنّ اللّه تعالى قدّس إرميا قبل أن يخرج من الرحم (ار 1: 5) وكما فرز بولس من بطن أمه (غل 1: 5) أما يوحنا المعمدان فقد امتلأمن الروح القدس وهو في بطن أمه (لو 1: 15) وقد أحبّ الرب يسوع الأطفال الصغار وقال لتلاميذه: «دعوا الأولاد يأتون إليّ ولا تمنعوهم لأن لمثل هؤلاء ملكوت السماوات»(مت 19: 14).
تهيئة مادة الميرون:
يطبخ البطريرك نفسه المزيج الذي تتكون منه مادة الميرون ويكرّسه ويقدّسه بحسب الطقس السرياني العريق ويعاونه في القيام بهذا الطقس اثنان من المطارنة على الأقل، وقبل أن يختم الطقس الخاص بالتقديس يضيف إليه البطريرك البلسمَ ثم شيئاً من الميرون القديم الذي تحتفظ به الكنيسة وابتدأت تستعمله منذ عهد الرسل وتضيفه إلى الميرون الجديد كلما احتفلت بتقديس ميرون جديد.
أما صورة سر الميرون فهي العبارات التي تتلى أثناء مسح المعمد به: الميرون المقدس، ختم موهبة الروح القدس وإكمال سرّ المعمودية، ليختم فلان بالميرون المقدس باسم الآب والابن والروح القدس. وخادم السر هو أحد رجال الاكليروس الشرعيين.
ثمار سر الميرون ومفاعيله:
يمنح سر الميرون المقدس المؤمن المعمَّد مواهب الروح القدس من ذلك: إنارة العقل والمعرفة وقوة الإرادة في العبادة والثبات على الإيمان، وبهذا الصدد يقول الرسول يوحنا: «وأما أنتم فلكم مسحة من القدوس وتعلمون كل شيء» (1يو 2: 20) ويقول الرسول بولس: «ولكن الذي يثبّتنا معكم في المسيح وقد مسحنا هو اللّه» (2كو 1: 21و22).
- سر القربان المقدس
هو سر مقدّس به يتناول المؤمن جسد الرب يسوع المسيح المقدس ويشرب دمه الأقدس تحت أعراض الخبز والخمر ليتّحد بالمسيح ويثبت فيه ويرث الحياة الأبدية إتماماً لوعد الرب يسوع القائل: «الحق الحق أقول لكم إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم»(يو 6: 53).
وقد أسّسه الرب يسوع نفسه ليلة آلامه وسلّمه إلى تلاميذه ويضيف الرسول متى على ذلك بقوله: «وفيما هم يأكلون أخذ يسوع الخبز وبارك وكسّر وأعطى التلاميذ وقال: خذوا كلّوا هذا هو جسدي وأخذ الكأس وشكر وأعطاهم قائلاً: اشربوا منها كلكم لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا» (مت 26: 26و27و28). وبناء علىذلك مارس الرسل هذه الذبيحة الإلهية غير الدموية. فالرسول بولس يقول لأهل كورنثوس: «لأنني تسلّمت من الرب ما سلّمتكم أيضاً أن الرب يسوع في الليلة التي أُسْلِم فيها أخذ خبزاً وشكر فكسر وقال: خذوا كلّوا هذا هو جسدي المكسور لأجلكم اصنعوا هذا لذكري، كذلك الكأس أيضاً بعدما تعشوا قائلاً: هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي اصنعوا هذا كلما شربتم لذكري فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء»(1كو 11: 23 ـ 27).
الاستعداد لتناول القربان المقدس:
يحرّض الرسول بولس المؤمنين على الاستعداد الروحي والجسدي الكاملَين قبل التقدم إلى تناول القربان المقدس فيقول: «إذاً أي من أكل هذا الخبز أو شرب كأس الرب بدون استحقاق يكون مجرماً في جسد الرب ودمه ولكن ليمتحن الإنسان نفسه وهكذا يأكل من الخبز ويشرب من الكأس لأن الذي يأكل ويشرب بدون استحقاق يأكل ويشرب دينونة لنفسه غير مميّز جسد الرب»(1كو 11: 27 ـ 29) فعلى المؤمنين أن يميزوا جسد الرب ودمه وأن يعرفوا جيداً أنهما شركة المؤمنين بالمسيح وبالكنيسة وببعضهم بعضاً ويشرح الرسول بولس ذلك بقوله: «كأس البركة التي نباركها أليست هي شركة دم المسيح الخبز الذي نكسره اليس هو شركة جسد المسيح» (1كو 10: 16). هكذا تسلّمنا من الرسل والآباء القديسين بأننا بالإيمان نتناول جسد المسيح ودمه تحت أعراض الخبز والخمر بعد تقديسهما وليس ذلك مُجازاً ولا رمزاً بل حقيقة واضحة وعقيدة سمحة.
لذلك فقبل أن يتقدم المؤمن لتناول القربان المقدس عليه أن يقدم التوبة النصوح والندامة التامة والتصميم على عدم العودة إلى الخطايا، وأن يؤمن بأن هذا السر هو جسد المسيح ودمه الأقدسان فيتقدّم لتناولهما بإيمان واحترام ونقاوة الضمير وأن ينقّي جسده ليكون طاهراً ومتمسّكاً بالصوم القرباني فإذا كان التناول صباحاً فبدء الصوم القرباني يكون من الساعة الثانية عشرة نصف الليل ويسمح للمرضى الذين عليهم أن يتناولوا أدوية صباحاً أن يصوموا فقط ثلاث ساعات قبل البدء بالقداس الإلهي. وإذا أُقيم القداس الإلهي بعد الظهر يسمح للجميع الصوم ثلاث ساعات فقط قبل البدء به. أما بعد التناول فيجب على المؤمن أن يقدم الشكر للّه الذي أنعم عليه بهذه النعمة العظيمة. ويجتهد في سبيل الثبات على حالة النعمة بالمسيح ليثبت فيه المسيح وليستحق أن يرث مع المسيح الحياة الأبدية إتماماً لوعده الإلهي القائل: «إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان و تشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم، من يأكل جسدي و يشرب دمي فله حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير»(يو 6: 53و54) فبناء على كلام الرب نحن نؤمن بأن القربان المقدس سرّ إلهيّ يحوي حقيقة جسد المسيح ودمه وإن هذه الذبيحة هي حقيقة استغفارية تقدّم من أجل جميع المؤمنين الأحياء منهم والأموات ويجب على كل مسيحي أن يتناولهما كليهما معاً.
بحسب عقيدة كنيستنا إن تقديس عنصري الخبز والخمر واستحالتهما إلى جسد المسيح ودمه في القداس الإلهي يتمّ ويكمّل بصلاة دعوة الروح القدس وليس بمجرد الألفاظ السيدية التي إنما يتلوها الكاهن المقرِّب بنوع الإخبار. وبعد التقديس نتناول جسد المسيح ودمه تحت شكلي الخبز والخمر. إن مادة سرّ القربان المقدس هي الخبز المختمر المصنوع من القمح الذي يدعوه الكتاب المقدس خبزاً ولا نقدم فطيراً. كما نقدم الخمر الحمراء المعتقة المصنوعة من عصير الكرمة الممزوجة بالماء. ذلك أن الرب يسوع عندما سلّم تلاميذه هذا السر المقدس قال: «خذوا كلوا هذا هو جسدي» (مت 26: 26) وأما الكأس الحاوية الخمر الحمراء المعتقة فناولهم إياها وأمرهم قائلاً: «اشربوا منها كلكم لأن هذا هو دمي» (مت 26: 27و28). وقال «كلكم» لأنه كان فيهم من لا يشربون الخمر لأنهم كانوا من تلاميذ يوحنا المعمدان سابقاً الذين نذروا ألاّ يشربوا الخمر طيلة أيام حياتهم. ولكن تلك الخمر الحقيقية التي قدّمها لهم الرب يسوع كانت قد تحوّلت إلى دمه الأقدس، وقد آمن التلاميذ بذلك وتناولوا دم المسيح تحت شكل الخمر، كما أنهم سلّموا بعدئذ المؤمنين سر القربان أي جسد المسيح ودمه (1كو 10: 16 و11: 27). فلا يجوز أن يمنع المؤمنون من شرب دم المسيح ويكتفوا بتناول الشكل الواحد دون الآخر. وقد اعتادت كنيستنا منذ أمد بعيد أن تغمس الجسد بالدم وتناول المؤمنين وبذلك يكونون قد تناولوا الجسد والدم حقاً.
كما اعتدنا أيضاً منذ فجر المسيحية أن نناول الأطفال سر القربان المقدس بعد نيلهم سرّي المعمودية والميرون المقدس مباشرة، للموجبات التي تدفعنا لعمادهم ومسحهم بالميرون المقدس وهم أطفال.
- سر الكهنوت
هو موهبة إلهية يُنعم اللّه بها على أناس يختارهم من بين المؤمنين ويدعوهم فيلبّون الدعوة ويكرّسون حياتهم لخدمته تعالى ويأخذون الرسامة الشرعية القانونية بعمل وقوة الروح القدس وبذلك ينالون سلطاناً يميّزهم عن غيرهم في أمر الولاية على كنيسته (مت 10: 1 ـ 15 ولو 10: 1 ـ 12) بحسب سلطة الدرجة التي ينالونها، ومنح أسرارها الإلهية لمن يستحقونها بانتظام من تعميد وتقديس وحلّ التائبين، وعزل الخبثاء الشاذين والمبدعين والمجرمين غير التائبين، وإقامة الصلوات العامة وإرشاد المؤمنين ورعايتهم (يو 20: 21 ـ 23 وأع 20 و1بط 5).
عندما كان الرب يسوع يكمّل تدابيره الإلهية في الجسد، انتخب له اثني عشر رسولاً وسبعين تلميذاً جاعلاً منهم وكلاء سرائره (1كو 4: 1) وأودع إليهم القيام بالخدم الدينية والأسرار الكنسية (لو 6: 13) وبهذا الصدد نقرأ في الإنجيل المقدس قوله: «ولما كان النهار دعا تلاميذه واختار منهم اثني عشر الذين سمّاهم أيضاً رسلاً»(لو 6: 13) «فتقدم يسوع وكلّمهم قائلاً: دفع إليّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس»(مت 28: 18و19) «فقال لهم يسوع أيضاً: سلام لكم كما أرسلني الآب أرسلكم أنا ولما قال هذا نفخ وقال لهم: اقبلوا الروح القدس من غفرتم خطاياه تغفر له ومن أمسكتم خطاياه أمسكت» (يو 20: 21 ـ 23). وبحسب تعليم بعض آبائنا أن الرب رسم رسله أساقفة عندما «أخرجهم خارجاً إلى بيت عنيا ورفع يديه وباركهم وفيما هو يباركهم انفرد عنهم وأصعد إلى السماء»(لو 24: 50و51) وبموجب الرسامة ينال الأسقف: سلطان التعليم والتبرير والتقديس والرعاية والقضاء والتعليم. وقد أسس الرب سر الكهنوت مباشرة بعد الإعلان عن تأسيس الكنيسة على أثر اعتراف الرسول بطرس به بأنه ابن اللّه الحي، فقال لبطرس: «طوبى لك يا سمعان بن يونا إن لحماً ودماً لم يعلن لك لكن أبي الذي في السموات وأنا أقول لك أيضاً أنت بطرس و على هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السموات وكل ما تحلّه على الأرض يكون محلولاً في السموات» (مت 16: 17 ـ 19). وأشار الرسل إلى هذا السر وأقاموا قسوساً في كل مدينة (أع 13: 2و3) وجاء في سفر أعمال الرسل ما يأتي: «وبينما هم يخدمون الرب ويصومون قال الروح القدس: افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه، فصاموا حينئذ وصلّوا ووضعوا عليهما الأيادي ثم أطلقوهما»(أع 13: 2و3). كما نقرأ عن انتخابهما قسوساً لإتمام الخدمة في الكنائس قول كاتب سفر أعمال الرسل عن بولس وبرنابا: «ثم رجعا إلى لسترة وإيقونية وأنطاكية يشددان أنفس التلاميذ ويعظانهم أن يثبتوا في الإيمان وأنه بضيقات كثيرة ينبغي أن ندخل ملكوت الله وانتخبا لهم قسوساً في كل كنيسة ثم صلّيا بأصوام واستودعاهم للرب الذي كانوا قد آمنوا به» (أع 14: 21 ـ 23). والرسول بولس يحث تلميذه تيموثاوس على رسامة الكهنة بقوله: «لا تهمل الموهبة التي فيك المعطاة لك بالنبوة مع وضع أيدي المشيخة» (1تي 4: 14). ويذكر الرسول بولس لتلميذه تيطس الشروط التي يجب أن تتوفر في القسس قائلاً: «وأما أنت فتكلم بما يليق بالتعليم الصحيح أن يكون الأشياخ صاحين ذوي وقار متعقلين أصحاء في الإيمان والمحبة والصبر» (تي 2: 1 ـ 2). ويقول الرسول بولس في رسالته إلى العبرانيين عن موهبة القسوسية: «ولا يأخذ أحد هذه الوظيفة بنفسه بل المدعو من الله كما هرون أيضاً»(عب 5: 4). كما يقول أيضاً: «فوضع الله أناساً في الكنيسة أولاً رسلاً ثانياً أنبياء ثالثاً معلمين ثم قواتٍ وبعد ذلك مواهب شفاء أعواناً تدابير وأنواع ألسنة»(1كو 12: 28) فالأساقفة الآن هم خلفاء الرسل نالوا الأسقفية بوساطة وضع اليد التي وضعت عليهم (أع 14: 23) وانتخبوا لهم قسوساً في كل كنيسة، وهذه الخلافة مستمرة.
وبهذا الصدد يقول الرسول بولس: «وما سمعته مني بشهود كثيرين أودعه أناساً أمناء يكونون أكفاء أن يعلموا آخرين أيضاً»(2تي 2: 2).
ففي كنيستنا ثلاث درجات كهنوتية واضحة في الإنجيل المقدس وهي: 1 ـ الأسقفية أي النظارة والرعاية الروحية العامة والسامية وهي تخصّ الرؤساء بين أعلى وأدنى في السلطة والعلاقات الإدارية وهي ثلاث رتب: البطريركية والمطرانية والأسقفية.
2 ـ القسوسية (أع 14: 23 وتي 1: 5): الراهب الكاهن (الربان) والخوري وهذا كان يسام قديماً كمعاون للأسقف على الأرياف وهو الآن المتقدم بالكهنة في الكنيسة الواحدة أو الأبرشية الواحدة، ثم رتبة القسيس. وصاحب هذه الرتبة بشكل عام يقدّم الأسرار المقدسة والخدم الروحية كلها ما عدا المختصّة بالأسقف التي منها رسامة الكهنة الشمامسة ومنح الوظائف الكنائسية في الأبرشية. ومما تجب ملاحظته أولاً: إن هذه الرتب الثلاث كانت موجودة في كهنوت العهد القديم الذي تغيّر بأكمل منه في العهد الجديد أي كان فيه أحبار وكهنة ولاويون. ثانياً: إن هذه الرتب الثلاث تشبه رتب الطغمات العلوية، فإنها ثلاث أيضاً ولذلك يقول القديس اقليميس الإسكندري: إن درجات الأساقفة والكهنة والشمامسة تشبه المجد الملائكي. ثالثاً: إن كل رتبة من هذه الرتب الثلاث ينطوي تحتها ثلاث درجات لتكون جملتها تسعاً على مثال رتب السماويين.
3 ـ الشماسية أي الخدمة للّه (أع 6: 6 و1تي 3: 8 ـ 10) ورتبها هي الشماس الإنجيلي والأفدياقون المسمّى الرسائلي ثم القارئ ثم المرتل كما أن الأرخدياقون هو رئيس الشمامسة كافة في الأبرشية الواحدة.
إن خادم سر الكهنوت هو الأسقف وحده الذي له وحده حق وضع اليد على رأس المرتسم (أع 6: 6 و13: 2و3). وإن القسم المنظور من سر الكهنوت هو وضع يد الأسقف على رأس المرشّح للكهنوت والصلاة الخاصة لهذا السر إذ يطلب الأسقف لأجل المرتسم فتحلّ عليه النعمة من الروح القدس. أما القسم غير المنظور فهي النعمة التي ينالها المرتسم من اللّه وسلطان حل الخطايا وربطها والتعليم والتهذيب والتبرير والتقديس.
إن ثمار سر الكهنوت هي حفظ درجات الكهنوت في الكنيسة والالتزام بحفظ النظام والعمل بالواجبات والامتيازات للرعاة والرعايا، وتوزيع الرعاة نِعَم اللّه وبركاته على الرعايا وممارستهم أسرار الكنيسة السبعة طبقاً لما يحق لهم بدرجاتهم ورتبهم الكهنوتية، وتعليم المؤمنين حقائق الدين المسيحي المبين والتحلي بالفضائل السماوية السامية ليقيموا من أنفسهم قدوة صالحة للمؤمنين بالكرازة بالإنجيل المقدس وبالكلام والعمل فيتمجّد بهم اسم الآب السماوي. وإكرام المؤمنين ذوي الرتب الكهنوتية ومحبة الإكليروس للمؤمنين وسعيهم لخلاص نفوسهم «لأن كل رئيس كهنة مأخوذ من الناس يقام لأجل الناس في ما للّه لكي يقدم قرابين وذبائح عن الخطايا قادراً أن يترفق بالجهال والضالين إذ هو أيضاً محاط بالضعف ولهذا الضعف يلتزم أنه كما يقدم عن الخطايا لأجل الشعب هكذا أيضاً لأجل نفسه» (عب 5: 1 ـ 3). فعلى الكهنة والأساقفة أن يهتموا بخلاص نفوس المؤمنين وعلى المسيحيين المؤمنين أن يكرّموا كهنتهم ورعاتهم لأنهم خدّام المسيح ووكلاء أسرار اللّه (1كو 4: 1) وبهذا الصدد يقول الرسول بولس: «نسألكم أيها الإخوة أن تعرفوا الذين يتعبون بينكم و يدبرونكم في الرب وينذرونكم» (1تس 5: 12 وعب 13: 7). وقد قال الرب يسوع لهم: «من يقبلكم يقبلني» (مت 10: 40) و«الذي يسمع منكم يسمع مني والذي يرذلكم يرذلني» (لو 10: 16) فإكراماً للرب يسوع يكرم خدامه.
- سر التوبة والاعتراف
إن التوبة هي رجوع الخاطئ إلى اللّه وطلب المغفرة منه تعالى بانسحاق القلب والندامة الصادقة والتصميم على عدم العودة إلى الخطية ثم الاعتراف بالخطايا كافة أمام الكاهن الشرعي وقبول ما يضعه الكاهن على التائب من قانون يعد علاجاً للتائب فيحصل التائب على المغفرة من الرب. ويستحيل أن ينال الخاطئ الغفران من الرب بدون التوبة الصادقة، كما أنه بعيد عن روح المسيحية وعن عقائدها السمحة أن يباع الغفران أو يُوهب من أحد عن خطايا سالفة أو مزمعة بأي ثمن كان أو أية طريقة كانت. وللرب يسوع وحده سلطان على الأرض لمغفرة الخطايا (مت 9: 6) وقد منح له المجد هذا السلطان لرسله الأطهار وتلاميذه الأبرار وخلفائهم من بعدهم بقوله للرسل: «الحق أقول لكم كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطاً في السماء و كل ما تحلّونه على الأرض يكون محلولاً في السماء» (متى 18 : 18 ويع 5: 4 ـ 16) وقد كرر الرب يسوع منحه هذا السلطان لتلاميذه عندما ظهر لهم في العلية بعد قيامته من بين الأموات وقال لهم: «سلام لكم كما أرسلني الآب أرسلكم أنا ولما قال هذا نفخ وقال لهم: اقبلوا الروح القدس من غفرتم خطاياه تغفر له ومن أمسكتم خطاياه أمسكت» (يو 20: 21و23).
إن القوانين التي يفرضها الكاهن على التائب ليست لأجل وفاء العدل الإلهي حقه فإن الرب يسوع قد وفى الآب السماوي حقه وفاءً أبدياً دائماً بموته مرة واحدة عن البشرية، فهذه القوانين إذن تفرض كعلاجات للأمراض الروحية ولكي يدرك الخاطئ شدة فظاعة الخطية.
شروط التوبة:
التوبة الحقيقية المقبولة هي شعور التائب بثقل خطيته مبدياً بغضة وكراهية لها، ويقرّ بجميع خطاياه ويقبل بالموت بالحري من أن يعود إلى الخطية وأن يستمرّ في حال التوبة وهي انسحاق القلب والندامة على الخطية كما فعل الابن الشاطر الذي قال: «أقوم وأذهب إلى أبي وأقول له يا أبي أخطأت إلى السماء وقدامك ولست مستحقاً بعد أن أدعى لك ابناً اجعلني كأحد أجراك (عبيدك) فقام و جاء إلى أبيه»(لو 15: 18 ـ 20).
ثم يعترف بخطاياه كافة أمام الكاهن الشرعي ويقرن ذلك بالاعتراف الشفوي بالخطايا بخضوع وحزن على ما صدر منه من الرذائل، ويقر بصراحة بكل ما صدر عنه من الخطايا ليصح علاجه الروحي، قال الرسول يوحنا: «إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم»(1يو 1: 9) وقال الرسول يعقوب: «اعترفوا بعضكم لبعض بالزلات وصلّوا بعضكم لأجل بعض»(يع 5: 16). كان الرسل يوقعون التأديبات على الخاطئ بدليل ما جاء في (2كو 2: 6) مثل هذا القصاص ليس للعقاب بل لأجل إصلاح السيرة، كما قال يوحنا المعمدان للذين جاؤوا يعتمدون منه معمودية التوبة: «اصنعوا ثماراً تليق بالتوبة» (مت 3: 8). وأن يعزم بألاّ يعود إلى ارتكاب الآثام كما أوصى الرسول بطرس بقوله: «فتوبوا وارجعوا لتمحى خطاياكم لكي تـأتي أوقات الفرج من وجه الرب»(أع 3: 19). وأن يقبل التائب حلّ الكاهن بإيمان بالمسيح يسوع والرجاء الوطيد في تحننه لأن «ليس بأحد غيره الخلاص» (أع 4: 12).
نتائج سر التوبة والاعتراف:
إن الخاطئ يفقد الطمأنينة والسلام ويهيمن عليه الخوف والقلق، ويشعر بأن اللّه قد تخلّى عنه فيضطرب وهو يتوقع العقاب منه تعالى في كل لحظة ولكن عندما يتوب توبة صادقة ويعترف بخطاياه أمام الكاهن الشرعي يزاح عن كاهله ثقل الخطية حيث قد لبّى نداء الرب يسوع القائل:«تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم احملوا نيري عليكم وتعلّموا منّي لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم»(مت 11: 28و29). ولا غرو من ذلك فإن ملائكة السماء تفرح بخاطئ واحد يتوب (لو 15: 10) ويبتهج التائب إذ يشعر بأن خطاياه قد غفرت (مز 32: 5)، وقد قال حزقيال النبي على لسان الرب: «فإذا رجع الشرير عن جميع خطاياه التي فعلها وحفظ كل فرائضي و فعل حقاً وعدلاً فحياة يحيا لا يموت، كل معاصيه التي فعلها لا تذكر عليه، في بره الذي عمل يحيا» (حز 18: 21و22). كما أن التائب ينال الخلاص مثل زكا العشار الذي قال له الرب وهو في بيته: «اليوم حصل خلاص لهذا البيت إذ هو إيضاً ابن ابراهيم» (لو 19: 9)، وكما نال العشار التائب نعمة التبرير كما جاء عنه في مثل الفريسي والعشار وقال عنه الرب يسوع: «أقول لكم إن هذا نزل إلى بيته مبرراً دون ذاك»(لو 18: 14). كما يحصل التائب على المصالحة مع اللّه كقول الرسول بولس: «فإذ قد تبرّرنا بالإيمان لنا سلام مع اللّه بربنا يسوع المسيح»(رو 5: 1)، «لأنه هو سلامنا الذي جعل الاثنين واحداً ونقض حائط السياج المتوسط» (أف 2: 14)، وأخيراً يفوز بوخيروأونيل الحياة الأبدية كاللص التائب الذي قال له الرب: «الحق أقول لك إنك اليوم تكون معي في الفردوس»(لو 23: 43)، ويستردّ التائب رتبة البنوة التي فقدها بخطيته كما نالها الابن الشاطر الذي بذّر ماله بعيش مسرف… وجاع فرجع إلى نفسه وقال: كم من أجير لأبي يفضل عنه الخبز وأنا أهلك جوعاً أقوم وأذهب إلى أبي وأقول له يا أبي أخطأت إلى السماء وقدامك ولست مستحقاً بعد أن أدعى لك ابناً اجعلني كأحد أجراك فقام وجاء إلى أبيه… فقال الأب لعبيده أخرجوا الحلّة الأولى وألبسوه واجعلوا خاتماً في يده وحذاء في رجليه وقدموا العجل المسمّن واذبحوه فنأكل ونفرح لأن ابني هذا كان ميتاً فعاش وكان ضالاً فوجد فابتدأوا يفرحون (لو 15: 11 ـ 23).
فعلينا أن نبادر بالتوبة لنتجدد، ولا نتردد في الاعتراف بخطايانا بعضنا لبعض، وأخيراً أمام الكاهن الشرعي لنتخلّص من الخطية وننال الصفح عنها ونحيا للبر لنكون أبناء اللّه بالنعمة وورثة لملكوته السماوي.
- ســــر الـــزواج
سر الزواج هو سر مقدس، يعقده الكاهن الشرعي بين الرجل والمرأة المسيحيين برضاهما (2كو 6: 14) فينالان النعمة الإلهية الضرورية لقيام الزواج المسيحي وتقديسه. والزواج عامة هو ناموس طبيعي أسسه اللّه تعالى منذ البدء بدليل قول الكتاب: «ذكراً وأنثى خلقهم، وباركهم اللّه وقال لهم: اثمروا واكثروا واملأوا الأرض»(تك 1: 27و28) كما يظهر من قول الرب يسوع للذين سألوه عن الطلاق: «أما قرأتم أن الذي خلق من البدء خلقهما ذكراً وأنثى وقال: من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بإمرأته ويكون الاثنان جسداً واحداً إذاً ليسا بعد اثنين بل جسد واحد فالذي جمعه الله لا يفرّقه إنسان»(مت 19: 4 ـ 6). وبارك الرب يسوع سنّة الزواج بحضوره في عرس قانا الجليل. وأشار الرسول بولس إلى الزواج بقوله:«هذا السر عظيم» (أف 5: 32). وشبهه باتحاد المسيح بالكنيسة.
وفي سر الزواج المقدس يحصل الزوجان بنعمة الروح القدس على الفوائد المباحة شرعاً والتعاون على الحياة معاً بطهر ونقاء وقداسة، وطلب الذرية الطاهرة الصالحة.
لا يجوز فك رباط الزواج المسيحي (مت 19: 6 ـ 8) و(1كو 7: 2 ـ 5) فالذي جمعه اللّه لا يفرّقه إنسان. وعند الضرورة يفسخ عقد الزواج لعلة الخيانة الزوجية (مت 5: 32) ولأسباب أخرى غاية في الأهمية يحددها النظام الكنسي وقانون الأحوال الشخصية. وقد أجيز حفاظاً على الآداب وصيانة للزوجين لئلا تؤدي الخلافات بينهما إلى فجور الزوجة أو فسق الزوج.
إن البتولية أفضل من الزواج إن استطاع الإنسان أن يحفظ نفسه طاهراً. قال الرسول بولس: «أنت مرتبط بامرأة فلا تطلب الانفصال، أنت منفصل عن امرأة فلا تطلب امرأة» (1كو 7: 27) «فأريد أن تكونوا بلا همّ، غير المتزوج يهتمّ في ما للرب كيف يرضي الرب»(1كو 7: 32).
تقدس الكنيسة الرهبنة أي بتولية الرهبان والأساقفة، وتفرض الزواج على كهنة خدمة الرعايا. ولا تأذن لهم بالزواج ثانية عند ترملهم كما قرّر المجمع النيقاوي عام 325م.
- سر مسحة المرضى
هو مسح الكاهن الشرعي المؤمن المريض بزيت سبق تقديسه على يد الأسقف بنعمة الروح القدس كما يطلب الكاهن من اللّه تعالى ليمنّ على المريض بالشفاء من أمراضه الجسدية والروحية (يع 5: 14و15).
إن تقديس زيت مسحة المرضى منوط فقط برؤساء الكهنة بحسب الطقس الكنسي وبعد التقديس يصير المادة القانونية لسرّ مسحة المرضى. وهذا السر يتقوى به المريض وتغفر خطاياه وفقاً لما جاء في الإنجيل المقدس (مر 6: 13) أما خادم السر فهو الكاهن الشرعي. كما قال يعقوب الرسول: «أمريض أحد بينكم فليدعُ شيوخ الكنيسة فيصلوا عليه ويدهنوه بزيت باسم الرب وصلاة الإيمان تشفي المريض والرب يقيمه وإن كان قد فعل خطية تغفر له»(5: 14 ـ 15).
وقد مارس رسل الرب الأطهار وتلاميذه الأبرار هذا السر بناء على أمر الرب يسوع لهم. فإنهم دهنوا بزيت مرضى كثيرين فشفوهم. وعلى المؤمن المريض أن يقدم التوبة الصادقة والندامة معترفاً بخطاياه.
هذه المسحة إذن للمؤمن المريض ومن الخطأ اقتصارها على المشرف على الموت فهي ليست مسحة موتى بل مسحة مرضى.
وإلى جانب سر مسحة المرضى الذي يستعمل به الزيت الذي سبق تقديسه من الأسقف، لدينا نحن السريان طقس القنديل الذي يقوم بإتمام طقسه بتقديس زيت يشترك بإتمام طقسه كهنة عديدون ثم يمسحون به المريض المؤمن ويُعتبر هذا الطقس أيضاً بمثابة توبة وندامة ونيل المغفرة على ما اقترفه المؤمن من خطايا.
إن طلب العلاج الروحي قبل الجسدي ضروري جداً كما جرى للمخلّع الذي حمله أربعة من رفقائه إلى يسوع فشفى الرب روحه قبل جسده وغفر له خطاياه فنال شفاء الجسد بعد أن نال مغفرة الخطايا وقال له الرب يسوع: «أنت قد برئت فلا تخطئ أيضاً لئلا يكون لك أشر»(يو 5: 14).
فعلى المريض المؤمن أن يطلب أولاً شفاء النفس بالعلاج الروحي ثم علاج الجسد «لأن الرب لم يعطِ الطبيب حكمة عبثاً».
- الخـــاتمـــــة
هذا ما عنّ لنا أن ندوّنه باختصار، وباسلوب سهل، وكلمات بسيطة، في موضوع أسرار الكنيسة السبعة ليدرك المؤمنون القوة الروحية الكامنة في كل سر من هذه الأسرار، فيمارسونه بإيمان لكي ينالوا النِعَم السماوية باستحقاق.
سر القربان المقدس والمدخل إلى طقس القداس الإلهي)*(
حسب عقيدة كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية
وطقسها البيعي المقدس
أولاً: الـقـربــان الـمـقـدس
مهّد الرب يسوع لتأسيس سر القربان المقدس وهيأ عقول تلاميذه لقبول هذه العقيدة السمحة، في معرض كلامه عن الخبز السماوي أي المن الذي أعطاه الآب السماوي لشعب العهد القديم بوساطة النبي موسى، بعد أن اجترح معجزة إشباع خمسة آلاف رجل ما عدا النساء والأطفال بتكثير الخمسة أرغفة شعير والسمكتين وأمر رسله ليجمعوا الكسر التي فضلت فجمعوها فملأت اثنتي عشرة قفة (يو 6: 1ـ 13) ومع كل ذلك تحدّاه اليهود بقولهم له:«أيّة آية تصنع لنرى ونؤمن بك ماذا تعمل. آباؤنا أكلوا المن في البرية كما هو مكتوب أنه أعطاهم خبزاً من السماء»(يو 6: 30و 31).
كانت تعاليم اليهود قد ذكرت أن المسيح المنتظر عندما يأتي سيطعم الشعب خبزاً من السماء كما فعل موسى، لذلك سأل اليهود الرب يسوع اجتراح هذه الآية فوضّح لهم الرب أن الذي أعطى الخبز السماوي أي المن لِشعب النظام القديم في البرية ليس موسى بل الآب السماوي. ثم أكّد لهم الرب الحقيقة الإلهية بقوله:«أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد والخبز الذي أنا أعطيه هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم»(يو 6: 51) ومن المفيد أن نذكر في هذا المجال أن المسيح يسوع قد ولد في الجسد في بلدة بيت لحم أفراثا ولفظة لحم بالسريانية تعني الخبز لأنه هو الخبز الحي الذي أعطانا إيّاه الآب السماوي وأنه عُجن بالآلام وخُبز في نار الجلجلة وأُعطي لنا طعاماً روحياً لا يفنى لنأكل جسده ونشرب دمه الأقدسين، لنتغذى به وننمو بالنعمة ولنثبت فيه ويثبت فينا إذ نغدوَ أعضاء أحياء في جسده السّري أي الكنيسة المقدسة وأخيراً لنستحق أن نرث معه الحياة الأبدية.
عندما أعلن الرب يسوع لأول مرة حقيقة سر أكل جسده المقدس وشرب دمه الأقدس «خاصم اليهود بعضهم بعضاً قائلين: كيف يقدر هذا أن يعطينا جسده لنأكل فقال لهم يسوع: الحق الحق أقول لكم إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم، من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير، لأن جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه. كما أرسلني الآب الحي وأنا حيٌّ بالآب فمن يأكلني فهو يحيا فيَّ، هذا هو الخبز الذي نزل من السماء ليس كما أكل آباؤكم المنّ وماتوا. من يأكل من هذا الخبزفإنه يحيا إلى الأبد قال هذا في المجمع وهو يعلم في كفرناحوم» (يو 6: 52- 59) فقال كثير من تلاميذه إذ سمعوا: إن هذا الكلام صعبٌ من يقدر أن يسمعه (يو 6: 60) من هذا الوقت رجع كثيرون من تلاميذه إلى الوراء ولم يعودوا يمشون معه (يو 6: 66).
- تأسيس سر القربان المقدس:
يسرد الإنجيل المقدس وقائع الحدث العظيم الذي جرى ليلة آلام الفادي في العلية حيث أكل مع تلاميذه الفصح اليهودي، وغسل أقدامهم. ثم أسّس سر القربان المقدس أي الذبيحة غير الدموية التي رمزت إليها ذبيحة ملكيصادق ملك شاليم أي ملك السلام الذي كان يقدم للّه الخبز والخمر قرباناً بخلاف الكهنة السابقين الذين سبقوا موسى والذين عاصروه، والكهنة من نسل هرون الذين جاءوا بعد موسى الذين كانوا يقدمون الذبائح الحيوانية واستمرّت هذه الذبائح حتى زمن تقديم الرب يسوع ذاته ذبيحة كفارية عن البشر كافة التي وفقت بين عدل اللّه ورحمته وبررت البشرية من الخطية الجدية وقدّست المؤمنين بيسوع المسيح مخلص العالم وجعلتهم أولاداً للّه بالنعمة وورثة لملكوته السماوي فلم تبقَ حاجة من ثمَّ إلى تقديم ذبيحة دموية أخرى بل لم تبقَ قوّة للذبائح الحيوانية لأن قوتها كانت رمزية إذ كانت تشير إلى ذبيحة المسيح الكفارية وتستمد قوتها برمزها إلى ذبيحة الصليب وقد ختم الرب الذبائح الحيوانية الدموية بأكل خروف الفصح اليهودي مع تلاميذه ليلة آلامه وأبطل تقديم الذبائح الحيوانية والمحرقات وبقية ممارسة رسوم الشريعة الطقسية الموسوية للعهد القديم ورسم ذبيحة العهد الجديد، وقبل أن يسلّم ذاته بيد صالبيه بإرادته رسم سر القربان المقدس الذبيحة غير الدموية التي تستمد قوتها من ذبيحته الإلهية بآلامه وموته على الصليب فداء للبشر. فبعد أن رسم سر جسده ودمه الأقدسين أمر تلاميذه أن يمارسوا هذا السر المقدس بقوله لهم:«اصنعوا هذا لذكري» (لو 22: 19) أي ذكرى آلامه وموته وبذله ذاته لأجلنا. وبذلك فوّض إليهم سلطان القيام بطقس القداس الإلهي.
ويصف الرسول متى ذلك الحدث المقدس بقوله: «وفيما هم يأكلون أخذ يسوع الخبز وبارك وكسّر وأعطى التلاميذ وقال: خذوا كلوا هذا هو جسدي وأخذ الكأس وشكر وأعطاهم قائلاً: اشربوا منها كلكم لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا» (مت 26: 26و27و28). «اصنعوا هذا لذكري»(لو 22: 19) وبناء على هذا السلطان مارس الرسل تقديم الذبيحة الإلهية غير الدموية. فالرسول بولس يقول لأهل كورنثوس: «لأنني تسلّمت من الرب ما سلّمتكم أيضاً أن الرب يسوع في الليلة التي أُسْلِم فيها أخذ خبزاً وشكر فكسر وقال: خذوا كلوا هذا هو جسدي المكسور لأجلكم اصنعوا هذا لذكري، كذلك الكأس أيضاً بعدما تعشوا قائلاً: هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي اصنعوا هذا كلما شربتم لذكري فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء»(1كو 11: 23 ـ 27).
- الاستعداد لتناول القربان المقدس:
يحرّض الرسول بولس المؤمنين على الاستعداد الروحي قبل التقدم إلى تناول القربان المقدس فيقول: «إذاً أي من أكل هذا الخبز أو شرب كأس الرب بدون استحقاق يكون مجرماً في جسد الرب ودمه ولكن ليمتحن الإنسان نفسه وهكذا يأكل من الخبز ويشرب من الكأس لأن الذي يأكل ويشرب بدون استحقاق يأكل ويشرب دينونة لنفسه غير مميّز جسد الرب» (1كو 11: 27 ـ 29) فعلى المؤمنين أن يميزوا جسد الرب ودمه وأن يعرفوا جيداً أنهما شركة المؤمنين بالمسيح وبالكنيسة وببعضهم بعضاً ويشرح الرسول بولس ذلك بقوله: «كأس البركة التي نباركها أليست هي شركة دم المسيح. الخبز الذي نكسره اليس هو شركة جسد المسيح» (1كو 10: 16). هكذا تسلّمنا من الرسل والآباء القديسين بأننا بالإيمان نتناول جسد المسيح ودمه تحت أعراض الخبز والخمر بعد تقديسهما وليس ذلك مَجازاً ولا رمزاً بل حقيقة واضحة وعقيدة سمحة.
لذلك فقبل أن يتقدم المؤمن لتناول القربان المقدس عليه أن يقدم التوبة النصوح والندامة التامة والتصميم على عدم العودة إلى الخطايا معترفاً بخطاياه اعترافاً قانونياً أمام الكاهن الشرعي وأن يؤمن بأن القربان المقدس هو سر جسد المسيح ودمه الأقدسان فيتقدّم لتناولهما بإيمان واحترام ونقاوة الضمير وأن ينقّي جسده ليكون طاهراً ومتمسّكاً بالصوم القرباني فإذا كان التناول صباحاً فبدء الصوم القرباني يكون من الساعة الثانية عشرة نصف الليل ويسمح للمرضى الذين عليهم أن يتناولوا أدوية صباحاً أن يصوموا فقط ثلاث ساعات قبل البدء بالقداس الإلهي. وإذا أُقيم القداس الإلهي بعد الظهر يسمح للجميع الصوم ثلاث ساعات فقط قبل البدء به. أما بعد التناول فيجب على المؤمن أن يقدم الشكر للّه الذي أنعم عليه بهذه النعمة العظيمة. ويجتهد في سبيل الثبات على حالة النعمة بالمسيح ليثبت فيه المسيح وليستحق أن يرث مع المسيح الحياة الأبدية إتماماً لوعده الإلهي القائل: «إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان و تشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم، من يأكل جسدي و يشرب دمي فله حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير»(يو 6: 53و54) فبناء على كلام الرب نحن نؤمن بأن القربان المقدس سرّ إلهيّ يحوي حقيقة جسد المسيح ودمه وإن هذه الذبيحة غير الدموية هي حقيقية استغفارية تقدّم من أجل جميع المؤمنين الأحياء منهم والأموات ويجب على كل مسيحي أن يتناول جسد المسيح ودمه كليهما معاً تحت شكلي الخبز والخمر.
- استحالة الخبز والخمر إلى جسد الرب يسوع ودمه الأقدسين:
بحسب عقيدة كنيستنا إن تقديس عنصري الخبز والخمر واستحالتهما إلى جسد المسيح ودمه في القداس الإلهي يتمّان ويكمّلان بصلاة دعوة الروح القدس وليس بمجرد الألفاظ السيدية التي إنما يتلوها الكاهن المقرِّب بنوع الإخبار وعليه أن يتلوها بخشوع ومخافة اللّه ورهبة، وهو يتأمل بمعناها وبالتضحية العظيمة التي قدّمها الرب يسوع حيث قد بذل ذاته على الصليب لفداء البشرية، والروح القدس هو الذي يقوم بتقديس جميع أسرار الكنائس كما يقدّس الكنائس والمذابح. وبعد أن يقدّس الروح القدس الخبز والخمر نتناول جسد المسيح ودمه تحت شكلي الخبز الخمر. إن مادة سرّ القربان المقدس هي الخبز والخمر ويكون الخبز مختمراً مصنوعاً من القمح الذي يدعوه الكتاب المقدس خبزاً، ولا نقدم فطيراً. كما نقدم الخمر الحمراء المعتقة المصنوعة من عصير الكرمة ممزوجة بالماء. ذلك أن الرب يسوع عندما سلّم تلاميذه هذا السر المقدس قال: «خذوا كلوا هذا هو جسدي» (مت 26: 26) وأما الكأس الحاوية الخمر الحمراء المعتقة فناولهم إياها وأمرهم التناول من الشكلين قائلاً: «اشربوا منها كلكم لأن هذا هو دمي» (مت 26: 27و28). وقال «كلكم» لأن بعض تلاميذ الرب يسوع كانوا سابقاً من تلاميذ يوحنا المعمدان الذين نذروا ألاّ يشربوا الخمر طيلة أيام حياتهم. ولكن تلك الخمر الحقيقية التي قدّمها لهم الرب يسوع كانت قد تحوّلت إلى دمه الأقدس، وقد آمن التلاميذ بذلك وتناولوا دم المسيح تحت شكل الخمر، كما أنهم سلّموا بعدئذ المؤمنين سر القربان المقدس أي جسد المسيح ودمه (1كو 10: 16 و11: 27) تحت شكلي الخبز والخمر. فلا يجوز أن يمنع المؤمنون من شرب الخمر المحوّل إلى دم الرب يسوع المسيح بعد تقديسه ولا يجوز أن يكتفوا بتناول الخبز المقدس المحوّل إلى جسد المسيح فقط، أي تناول الشكل الواحد دون الآخر. وقد اعتادت كنيستنا منذ أمد بعيد أن تغمس الجسد بالدم وتناول المؤمنين وبذلك يكونون قد تناولوا الجسد والدم معاً.
- مناولة الأطفال القربان المقدس:
كما اعتدنا أيضاً منذ فجر المسيحية أن نناول الأطفال سر القربان المقدس بعد نيلهم سرّي المعمودية والميرون المقدس مباشرة، للموجبات التي تدفعنا لعمادهم ومسحهم بالميرون المقدس وهم أطفال([267]). فالرب يسوع قد قال: «دعوا الأطفال يأتون إليَّ ولا تمنعوهم لأن لمثل هؤلاء ملكوت السموات» (مت 19: 14) وإن تناول القربان المقدس ضروري للخلاص بموجب وعيد الرب الرهيب القائل:«إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم»(يو 6: 53) فقد أخطأ من منع الأولاد من المناولة بادعاء أنهم لا يدركون قوة الأسرار، فالأولاد لا يدركون قوة سر المعمودية أيضاً فكيف نعمدهم. وكان شعب نظام العهد القديم بموجب أمر اللّه لهم يختنون أطفالهم في اليوم الثامن وطبعاً لم يكن الأطفال يدركون معنى الختان الذي كان علامة عهد أقيم بين اللّه تعالى والآباء الأولين ابراهيم واسحق ويعقوب ونسلهم، ثم بين اللّه تعالى وشعب موسى. وإنّ سرّ العماد المقدس في المسيحية حلّ محل الختان لذلك فالرسول بولس يقول: «إن اختتنتم لا ينفعكم المسيح شيئاً» (غلا 5: 2)، فالرب يسوع الذي قال:«من آمن واعتمد خلص ومن لم يؤمن يُدن»(مر 16: 16) قال أيضاً:«من لا يأكل جسد ابن الإنسان ويشرب دمه ليس له حياة فيه»(يو 6: 53) فتناول القربان المقدس إذن ضروري للخلاص للأطفان كما هو ضروري للخلاص للكبار.
- مفاعيل سر القربان المقدس:
ينعم الرب الإله على الذين يتنالون سر القربان المقدس بإيمان، بمواهب سماوية منها:
1 ـ الثبات في المسيح والاتحاد به والنمو في النعمة حسب قول الرب:«من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه»(يو 6: 56).
2 ـ الاتحاد بعضنا ببعض «فإننا نحن الكثيرين خبز واحد جسد واحد لأننا جميعنا نشترك في الخبز الواحد» (1كو 10: 17).
3 ـ يمنحنا هذا السر أيضاً عربون الحياة الأبدية والقيامة المجيدة كقوله له المجد: «من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير» (يو 6: 54) «من يأكل من هذا الخبز فإنه يحيا إلى الأبد» (يو 6: 58). وإن الكنيسة تحرم الهراطقة والمعتوهين والمجرمين غير التائبين من تناول القربان لأنه علامة شركة مع المسيح والشهداء والقديسين والمؤمنين الصالحين فهل يعقل أن نختار بملء إرادتنا أن نحصى مع الهالكين بعدم تناوله!؟ في حال أن القربان المقدس يقدّم لنا مجاناً على مذابح الرب!؟.
فعلينا أن نبادر بالتناول من هذا السر المقدس لننال النعم السماوية قبل فوات الأوان.
ثـانـيـاً: طـقـــس الـقـــداس الإلــــهــي
فيما يأتي نشرح بأسلوب سهل وباختصار مراحل طقس القداس الإلهي ووقائعه بحسب ليتورجية مار يعقوب أخي الرب التي تستعملها كنيستنا المقدسة كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية بنصها السرياني الأصيل، ولفائدة القارئ الكريم نوضّح بإيجاز ما يجب توضيحه منها ونغضّ النظر عما لا نرى ضرورة تفسيره في هذا البحث.
تعتبر ليتورجية مار يعقوب أخي الرب أقدم كتب طقس القداس الإلهي وما تزال محتفظة بأصولها القديمة منذ أن وضعها القديس مار يعقوب أخو الرب الذي كان أول من احتفل بالقداس الإلهي من بين الرسل وقد قام بذلك باللغة السريانية الآرامية على مثال ما رأى الرب يسوع يفعله ليلة آلامه وفاه بذات الكلمات المقدسة التي قالها له المجد عندما سلّم سرّ القربان المقدس إلى تلاميذه الأطهار. وقد أضيف على ليتورجية مار يعقوب مع تمادي الزمن، صلوات وطلبات ولكنها احتفظت بأقسامها الرئيسة الأصلية بدون تغيير. وقد نقّحها مار يعقوب الرهاوي (+708) واختصرها المفريان ابن العبري (1286+) وعرّبها البطريرك العلامة مار إغناطيوس أفرام الأول برصوم (1975+) وقد وضع الآباء عبر الدهور نوافير عديدة بلغت خمساً وثمانين نسبت كل واحدة منها إلى أحد الرسل أو الآباء الأقدمين. وفرضت الكنيسة على الكاهن أن يستعمل كتاب ليتورجية مار يعقوب أخي الرب أثناء احتفاله بالقداس الإلهي للمرة الأولى بعد رسامته كاهناً وفي كل قداس يحتفل به لأول مرة على مذبح إحدى كنائسنا وفي الأعياد السيدية وعلى أحبار الكنيسة أن يستعملوها في طقس الرسامات الكهنوتية وتقديس البيع والمذابح والطبليثات والميرون المقدس ومسحة المرضى. ولأهميتها اعتمدناها ببحثنا هذا بنصها السرياني وترجمتها العربية.
إن القداس الإلهي هو الذبيحة غير الدموية الحسية والمنظورة التي رسمها الرب يسوع ليلة آلامه، وهي امتداد لذبيحة الصليب الكفارية، وتمنح المؤمنين استحقاقاتها غير المنظورة وغير الحسية وهي ذكرى تعيد بالصورة ذاتها العشاء الرباني المقدس يوم أكل الرب يسوع مع تلاميذه أولاً الفصح الذي أوصى اللّه موسى بأن يقدّمه شعب العهد القديم كل سنة ليذكروا أن الرب أعتقهم من عبودية مصر وبعد ذلك، أخذ يسوع بيديه خبزاً وبارك وكسر وأعطاهم قائلاً: «خذوا كلوا هذا هو جسدي» ثم أخذ كأس الخمر وبارك وأعطاهم قائلاً: «اشربوا منها كلكم إن هذا هو دمي» وأوصى تلاميذه قائلاً: «اصنعوا هذا لذكري» فإتماماً لوصيته هذه لهم ولنا، نذكر موته الكفاري عنا وعن البشرية جمعاء كلما احتفلنا بالقداس الإلهي. ففي ذبيحة الصليب قدّم الرب يسوع ذاته بإرادته قرباناً لأبيه السماوي كفارة عن خطايانا، فعُذّب من أعدائه، وصُلب ومات وقام في اليوم الثالث ممجداً وأقامنا معه وبذلك أعتقنا من أعدائنا الثلاثة الموت والخطية والشيطان، ومنحنا الغلبة عليها، ومحا صك الخطية الأبوية، وبرّرنا وقدّسنا وأعاد إلينا نعمة البنوة لأبيه فصرنا مولودين من السماء أولاداً للّه الآب بالنعمة وورثة لملكوته السماوي، كما أمرنا أن نحتفل بالذبيحة غير الدموية وأن نذكر تضحيته في سبيل خلاصنا كما كان اللّه تعالى في العهد القديم قد أمر موسى أن يوصي بني اسرائيل أن يأكلوا خروف الفصح ويذكروا تحرير الرب إياهم من عبودية مصر. وكان الرب يسوع في ذبيحة الصليب الكاهن والذبيحة الكفارية في آن واحد. وكذلك في القداس الإلهي الذبيحة غير الدموية، فالمسيح يسوع هو «الكاهن إلى الأبد على رتبة ملكيصادق» (مز 110: 4، عب 5: 6) يقدّم ذاته ذبيحة على يد أحد كهنته الشرعيين، خادم سر القربان المقدس بطريقة سرية، وتمثّل هذه الذبيحة غير الدموية موت الرب يسوع على الصليب وفيها يعلن المؤمنون المشاركون بها مع الكاهن مقرّبها، إيمانهم بالمسيح يسوع الإله المتجسّد مخلّص العالم، وقبولهم نعمة الفداء الذي أكمله على الصليب، كما يعلنون إيمانهم بسر القربان المقدس الذي منحنا إياه الرب يسوع ليلة آلامه فنتناوله لننال الحياة في المسيح وننمو فيه ونثبت على إيماننا به، وأخيراً لنستحق أن نرث معه الحياة الأبدية. لذلك فتناول القربان المقدس ضروري للخلاص بحسب تعاليم ربنا يسوع، وقد رسمت الكنيسة المقدسة في طقوسها أن أسرار الكنيسة السبعة لا تكمل إلاّ بتناول القربان المقدس. لذلك يدعى القداس «جميروة جميإوةا» أي كمال الكمالات.
ويثبت التقليد الرسولي أن رسل الرب الأطهار وتلاميذه الأبرار وسائر المؤمنين والمؤمنات به، في اليوم التالي لحلول الروح القدس عليهم في العلية يوم الخمسين عمّد الرسل بعضهم بعضاً كما عمّدوا بقية المؤمنين بالرب يسوع حتى أن العذراء مريم القديسة والدة الإله نالت سر العماد على يد الرسل الأطهار في ذلك اليوم إتماماً لوصية الرب يسوع: «من آمن واعتمد خلص ومن لم يؤمن يُدَنْ»(مر 16: 6). وفي اليوم الثاني بعد العنصرة احتفلوا بالقداس الإلهي إتماماً لوصية الرب يسوع لرسله القديسين ليلة آلامه بعد أن سلّمهم سر جسده ودمه الأقدسين، قائلاً لهم: «اصنعوا هذا لذكري» (لو 22: 19) ولا بد أنهم شكروا الرب على هذه النعمة بل أيضاً كسّروا الخبز بالطريقة ذاتها التي كان الرب يسوع قد اتّبعها عندما سلّمهم هذا السر العظيم. ونستدل من حادثة مرافقة الرب يسوع تلميذي عمواس يوم قيامته إلى قريتهما عمواس، وجلوسه معهما على المائدة دون أن يعرفاه أنه الرب يسوع، وعندما كسّر الخبز انفتحت أعينهما وعرفاه، إنه كان للرب طريقته الخاصة بتكسير الخبز، وربما كان يكسّره على شكل صليب أو شبه المصلوب الطريقة التي تسلّمناها من آبائنا السريان الذين تسلّموها من الرسل الأطهار الذين بدورهم قد تسلّموا ذلك من الرب يسوع، ونتبع هذه الطريقة أثناء تقديمنا الذبيحة الإلهية في كنائسنا حتى اليوم. وبهذا الصدد يقول الرسول بولس: «لأنني تسلّمت من الرب ما سلّمتكم أيضاً أن الرب يسوع في الليلة التي أُسْلِم فيها أخذ خبزاً وشكر فكسر وقال: خذوا كلوا هذا هو جسدي المكسور لأجلكم اصنعوا هذا لذكري. كذلك الكأس أيضاً بعدما تعشوا قائلا هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي اصنعوا هذا كلما شربتم لذكري فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء» (1كو 11: 23 ـ 26).
ونستدل من سفر أعمال الرسل وبقية أسفار العهد الجديد أن أتباع الرب يسوع كانوا يواظبون على الصلاة وقراءة تعاليم الرسل وكسر الخبز (أع 2: 42) أي كانوا يحتفلون بما دعي بعدئذ بطقس القداس الإلهي، وبهذا الصدد يقول البشير لوقا في سفر أعمال الرسل «وفي أول الأسبوع (أي يوم الأحد) إذ كان التلاميذ مجتمعين ليكسروا خبزاً» (أع 20: 7). كما يعلّمنا التقليد الكنسي أن أول من قام من الرسل بالاحتفال بالقداس الإلهي هو القديس مار يعقوب أخو الرب أسقف أورشليم، وقد قام بذلك باللغة السريانية الآرامية لغة سكان تلك البلاد في ذلك العصر، واللغة الوحيدة التي خاطب بها الرب يسوع الناس في تدبيره الإلهي بالجسد على أرضنا هذه في نشر بشارته الإلهية وبها رسم سرّ العشاء الرباني ليلة آلامه في العلية. وقد سجّل كتبة الإنجيل المقدس تلك الحادثة ودوّنوا ذات الكلمات الإلهية التي فاه بها الرب يسوع حينذاك وما يزال كهنتنا في جميع أنحاء العالم، عند احتفالهم بالقداس الإلهي يتلون باللغة السريانية ذات العبارات والألفاظ التي فاه بها الرب يسوع له المجد عندما سلّم إلى تلاميذه سرّ جسده ودمه الأقدسين في العلية ليلة آلامه، ولا يسمح لهم تلاوتها بلغة أخرى، ولئن سمح لهم أن يتلوا بقية عبارات القداس الإلهي باللغات المحلية.
ولا بد من أن مار يعقوب أخا الرب أولاً، وبقية الرسل بعدئذ، عندما كانوا يحتفلون بالقداس الإلهي كانوا يبدؤونه كما أجمعت على ممارسته الكنائس الرسولية منذ فجر المسيحية وحتى اليوم، بصلوات طلب المغفرة من اللّه ومسامحة بعضهم بعضاً طبقاً لوصية الرب يسوع القائل: «فإن قدمت قربانك إلى المذبح وهناك تذكّرت أن لأخيك شيئاً عليك فاترك هناك قربانك قدّام المذبح واذهب أولاً اصطلح مع أخيك وحينئذ تعال وقدّم قربانك» (مت 5: 23و24) ويتلون الكلمات التي فاه بها الرب يسوع أثناء تقديمه سرّ جسده ودمه الأقدسين إلى تلاميذه ودوّنها الإنجيل المقدس. ثم يتلون الصلاة الربية التي علّمها الرب لتلاميذه وأخيراً بعد تناول القربان المقدس كانوا يقدّمون صلوات شكر للّه على نعمه العظيمة التي لا يعبّر عنها، وهذا هو أساس مراحل القداس الإلهي المستعملة في جميع الكنائس المسيحية الرسولية التقليدية على اختلاف اللغات والحضارات والطقوس.
ولم يكن يحقّ إلاّ للأسقف وحده أن يحتفل بالقداس الإلهي. ويذكر التاريخ الكنسي أن الكهنة كانوا يحتاطون به ويشاركونه الصلوات أثناء ذلك ويخدمه الشمامسة. كما يجوز عندنا للكهنة أن يقوموا مقام الشمامسة في خدمة القداس الإلهي. وكان من يقوم بالاحتفال بطقس القداس يتلو عباراته على ظهر قلب، ولم تدوّن رتبة القداس قبل أواخر القرن الثاني أو حتى أوائل القرن الثالث للميلاد بسبب ما كانت تعانيه الكنيسة من الاضطهادات. وقد جرى عبر الأجيال اللاحقة التالية تعديلات على بعض أقسام القداس الإلهي دون المساس في أصولها وجوهرها وأسسها التي ما تزال محفوظة في طقوس الكنائس الرسولية التقليدية على مختلف لغاتها وحضاراتها. وإن كنيستنا كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية ما تزال تستعمل ليتورجية مار يعقوب أخي الرب وتعتبرها أقدم ليتورجية في العالم، كما صنّف آباؤنا السريان الأرثوذكس عشرات الليتورجيات وكلها تسير على نسق ليتورجية مار يعقوب أخي الرب التي نظمت وتطوّرت وزيد عليها وألحق بها وحذف منها أدعية لا تمسّ البتة بجوهرها وأصولها. ولم يبقَ من مخطوطات النص السرياني الأصلي لهذه الليتورجية سوى وريقات مبعثرة خُطَّت في القرن الثامن أو التاسع للميلاد وموجودة في المتحف البريطاني.
ولا بدّ لنا في هذا المقام أن ننوه أن لفظة ليتورجية اليونانية التي استعملناها في بحثنا هذا، تعني أنافورا التي تعني رفع القربان أي تقريبه إلى الآب الأزلي. أما بالسريانية فتدعى قوربنا أو قوربا (قوربونو) أو (قوروبو) أي القربان أو التقدمة. ويوجه المحتفل بالقداس الإلهي الصلوات والأدعية كافة إلى اللّه الآب ما خلا التحايا كقوله للمؤمنين «السلام لجميعكم» ومباركة الشعب كقوله «محبة اللّه الآب» و «لتكن مراحم اللّه العظيم» وما عدا انتداب الشعب ليرفعوا عقولهم وأفكارهم وقلوبهم إلى فوق حيث المسيح جالس عن يمين اللّه الآب، وما عدا صلاة الشكر قبل صرف المؤمنين إلى دورهم في ختام القداس الإلهي.
- مراحل طقس القداس الإلهي
أولاً: الرتبة الاستعدادية: وتشمل الخدمة الأولى وهي:
تهيئة الخبز والخمر ـ مادة سر القربان المقدس.
بعد أن يتلو الكاهن الذي سيحتفل بالقداس الإلهي الصلاة الفرضية مساء ليلة القداس وفي الصباح، ومن جملتها التسبحة الملائكية التي أنشأها باليونانية القديس مار أثناسيوس الاسكندري (373+) ونقلها إلى السريانية مار بولس مطران الرها (619+) والتي تبدأ بالآية المقدسة: «المجد للّه في الأعالي وعلىالأرض السلام وللناس رجاء الخير». يبسط الكاهن يديه ويتلو سراً صلاة الابتداء مستهلاً ذلك بتمجيد اللّه تعالى قائلاً: «المجد للآب والابن والروح القدس وعلينا نحن الضعفاء والخطاة الرحمة والحنان» ثم يبسط يديه ويتلو صلاة يبدؤها بقوله: «أهلنا اللهم… » ثم يقبل الإنجيل المقدس، ويلتفت إلى الحاضرين مشيراً بيديه إلى صدره طالباً منهم المسامحة قائلاً: «يا إخوتي وأحبائي صلوا لأجلي» ثم يطلب المسامحة من كل واحد من الكهنة الموجودين قائلاً: «بارخمور (بارك يا سيدي) أطلب منك أن تسامحني» ويقبل يمين البطريرك إن وجد، ويمين المطران إن وجد، ويرجع ويقف أمام الإنجيل المقدس تالياً المزمور الحادي والخمسين الذي يبدأ بعبارة: «ارحمني يا اللّه حسب رحمتك حسب كثرة رأفتك امحُ معاصيَّ اغسلني كثيراً من إثمي ومن خطيتي طهرني… قلباً نقياً اخلق فيَّ يا اللّه وروحاً مستقيماً جدد في داخلي. لا تطرحني من قدام وجهك وروحك القدوس لا تنزعه مني…» ثم يدخل الكاهن من الباب الأوسط الذي يدعى أيضاً (الباب الملوكي) إلى الهيكل الذي في وسطه المذبح وهو يصلّي سراً قائلاً: «آتي إلى مذبح اللّه وإلى اللّه الذي يبهج حياتي» ثم يسدل الشماس ستار الهيكل، ويحني الكاهن هامته أمام المذبح وهو يقول: «آةا لوة مدبحؤ دءلؤا… آتي إلى مذبح اللّه وإلى اللّه الذي يُبهج حياتي»، ويكمل القول قائلاً: «اللّهم قد دخلت بيتك وسجدت أمام منبرك، أيها الملك السماوي اغفر لي كل ما أخطأت به إليك». ثم يدور حول المذبح مقبلاً أربع زواياه وهو يصلي قائلاً: «اللهم اربط أعيادنا بالسلاسل إلى أطراف مذبحك إلهي إياك أشكر إلهي إياك أسبّح» (مز 118: 27) ثم يرتقي الكاهن درجة المذبح ويدعى المذبح مائدة الحياة ويدعى أيضاً قدس الأقداس ويشير إلى حضن الآب السماوي ويمينه. ويكون المذبح عادة مستطيلاً لأنه يرمز أيضاً إلى القبر الذي دفن فيه الرب يسوع بعد موته على الصليب. أما الدرجات التي فوقه فترمز إلى القوات السماوية المحيطة بعرش اللّه. وفي وسط المذبح يوضع الطبليث، والطبليث لفظة لاتينية تعني لوحاً أو خِواناً وهو خشبة مستطيلة الشكل سبق تكريسها وتقديسها ومسحها بالميرون المقدس على يد البطريرك أو أحد المطارنة، وهو يمثّل خشبة الصليب المقدس الذي علّق عليه الرب يسوع. ويؤكّد مار ديونيسيوس ابن الصليبي مطران آمد (+1171) ومار سويريوس يعقوب البرطلي مطران دير مار متى (+1241) ومار غريغوريوس أبو الفرج ابن العبري مفريان المشرق (+1286) وغيرهم من آباء الكنيسة على وجوب اتخاذ الطبليث من الخشب الفاخر، ولا يجوز الاحتفال بالقداس الإلهي إلاّ على مذبح وطبليث مقدّسين باستثناء الضرورة القصوى فحينذاك يستعاض عن الطبليث بالإنجيل المقدس أو حتى بورقة منه. وساعة يقام القداس تضاء على المذبح شمعتان عسليتان.
وعلى الطبليث عادة يضع الكاهن الكأس والصينية. وعندما يصعد إلى درجة المذبح يقبّل المذبح في الوسط ثم من الجهة اليسرى، ثم من الجهة اليمنى ويتلو سرياً صلوات للتوبة ثم يرفع الغطاءين من على الكأس والصينية ويمسحهما بالاسفنجة جيداً ثم يضع الاسفنجة على المذبح وفوقها الملعقة إلى يسار الكاهن خارج الطبليث نحو الشرق (ويسار ويمين المذبح والأواني التي عليه هماس يسار ويمين الكاهن) ويضع المخدة وفوقها الكوكب على يمين الكاهن خارج الطبليث نحو الشرق أيضاً. ثم يقدم الشماس إلى الكاهن الخبز والخمر. ويجب أن يكون الخبز مصنوعاً من الحنطة الجيدة الخالصة التي تطحن وتعجن بالماء الطبيعي يذاب فيه شيء من الزيت والملح بيد الكاهن أو الشماس، ويخمّر العجين بخميرة محفوظة في الكنيسة ويصنع على شكل قرص مستدير مطبوع في وسطه ختم مدور مقسّم إلى اثني عشر جزءاً يسمى الجزء الواحد الجوهرة أو الجمرة، ويثقب القرص خمسة ثقوب قبل خبزه إشارة إلى جروحات الرب يسوع الخمسة على الصليب ثم يخبز في ذات اليوم الذي يحتفل فيه بالقداس الإلهي، كما كان شعب العهد القديم يجمع المن في البرية كل يوم ولا يتركه لليوم التالي وإذا بات فسد ودبّ به الدود. ويدعى هذا القرص بالسريانية (فورشونو) برشانة ويعني خبز التقدمة. وهكذا تتوفّر فيه عناصر الجسد الطبيعي الأربعة: فالدقيق يشير إلى عنصر التراب، والماء يشير إلى عنصر الماء، والزيت إلى عنصر الهواء، والملح إلى عنصر النار.
إن كلمة خبز تعني في الكتاب المقدس الخبز المختمر، أما الخبز غير المختمر فيدعى فطيراً (لا 2: 4 ـ 11) والإنجيل المقدس يذكر أن الرب أخذ خبزاً لا فطيراً (مت 26: 26) و(مر 14: 22) و(لو 22: 19) و(1كو 11: 23) مما يؤيد أن ذلك الخبز كان مختمراً. ويجب أن تكون الخمرة جيدة معصورة من العنب ونقية وخالية من أي مادة غريبة، وسمح في بعض الأماكن أن يقدم شراب العنب الطازج في عيد بركة العذراء على الكرمة الذي يعرف الآن بعيد انتقال السيدة العذراء إلى السماء الواقع في الخامس عشر من شهر آب. وهذه العادة مكانية وخاصة وشاذة، والشاذ عادة هوالخروج على القاعدة المألوفة. وبما أن القداس هو ذبيحة المسيحيين المؤمنين لذلك كانوا في القرون الأولى للميلاد يجلبون الخبز والخمر من دورهم ويسلّمونهما إلى الشماس الذي بدوره يقدّمهما للكاهن الذي يختار منهما ما لزم لتقدمة الذبيحة ويحفظ ما بقي منهما لمعيشته ومعيشة الفقراء وخدمة الكنيسة طبقاً لقول الكتاب: «ألستم تعلمون أن الذين يعملون في الأشياء المقدسة من الهيكل يأكلون. الذين يلازمون المذبح يشاركون المذبح» (1كو 9: 13) لكن هذه العادة ألغيت مع الأيام فاعتاض المؤمنون عن تقدمة خيراتهم تقدمة «حسنة القداس» وأخذ الكاهن يعد هو نفسه مواد القربان أو يقوم بذلك الشماس خادم الكنيسة الذي يدعى أيضاً (الساعور) أو القندلفت. وأثناء ذلك يتلو المزامير والدعاء لحفظ الشعب وتوفيقه وتعويضه عن تقدماته للرب وكنيسته.
ويقدم الشماس إلى الكاهن الخبز الذي قد عمل على شكل البرشانات كما يقدّم الخمر إلى الكاهن لينتقي من البرشانات التي خبزت جيداً ويتأكّد من أن الخمرة ممتازة وصالحة أن تقدّم للرب ويختار من الخبز ما كان قد خبز جيداً وينتقي عادة برشانة واحدة أو اثنتين أو ثلاثاً أو خمساً وهكذا يجب أن يكون العدد شفعاً. ويقدّس الكاهن جميعها، ويختار منها واحدة فقط التي سيقصيها، أي يكسّرها بعدئذ ويضعها الآن بين أصابع يديه ويرفعها قليلاً كأنه يقدمها للرب وهو يقول: «آيك آمرا لنكسةا آةدبر وآيك نِقيا قدم جزوزا شةيق ؤوا ولا فةح فومؤ بموككؤ. مةقنا لموةبك عبدة مريا مقدشك مريا ةقنيؤي بايدًيك. مريا نملك لعلم علمين» وترجمتها: «كحمل سيق إلى الذبح وكنعجة أمام الجزار كان صامتا. ولم يفتح فاه بتواضعه…» ثم يضعها في الصينية وهو يقول: «بوكرؤ دآبا شمينا قبليؤي لبوكرا ؤنا من آيدًي عبدك محيلا وحطيا يا بكر الآب السماوي تقبّل من يدي عبدك الضئيل والخاطئ قرصة الخبز هذه» ثم يضعها على الصينية.
ثم يمزج الخمر بماء وتكون كمية الماء بقدر ثلث كمية الخمر ولا تغمر الكأس إلى فمها لئلا تهرق وأثناء ذلك يقول: «حَيِد مريا ءلؤا لميًا ؤلين عم حمرا ؤنا» وترجمتها: «وحّد أيها الرب الإله هذا الماء مع هذا الخمر». ثم يسكب الخمر الممزوج بالماء في الكأس وهو يقول: «مرن يشوع مشيحا بينة ةرين جيًسا آأطلب بقيسا باورشلم. وآةدكر بدفنؤ بلوكيةا. وردو منؤ دما وميًا حوسيا لكلذ بريةا ومن دحزا آسؤد ويدعينن دشريرا ؤي سؤدوةؤ» وترجمتها: «عندما صُلب ربنا يسوع المسيح في أورشليم بين لصين طعن بحربة في جنبه فجرى منه دم وماء لمغفرة العالم بأسره، ومن رأى شهد وشهادته حق».
ثم يغطي الكاهن الكأس والصينية بغطاءين صغيرين ويضع أمامه الكأس شرقاً والصينية غرباً وينزل من على درجة المذبح ويتلو (الحوساي) أي بعض الصلوات للتوبة وطلب المغفرة.
إن خدمة تهيئة الخبز والخمر وتقديمهما على مذبح الرب تدعى تقدمة ملكيصادق ملك شاليم التي كانت في العهد القديم تختلف عن تقدمات بقية الآباء الأولين الذين كانت قرابينهم دموية، أما ملكيصادق فقد كانت تقدمته غير دموية فكان يقدّم الخبز والخمر رمزاً للذبيحة غير الدموية التي رسمها الرب يسوع لكنيسته المقدسة. كما أن ملكيصادق نفسه كان يرمز إلى المسيح وبهذا الصدد يقول الرسول بولس: «لأن ملكي صادق هذا ملك ساليم كاهن اللّه العلي الذي استقبل ابراهيم راجعاً من كسرة الملوك وباركه، الذي قسم له ابراهيم عُشراً من كل شيء، المُتَرْجَم أولاً ملك البرّ ثم أيضاً ملك ساليم أي ملك السلام. بلا أب بلا أم بلا نسب لا بداءة أيام له ولا نهاية حياة بل هو مشبَّه بابن اللّه، هذا يبقى كاهناً ألى الأبد… فلو كان بالكهنوت اللاوي كمال إذ الشعب أخذ الناموس عليه ماذا كانت الحاجة بعد إلى أن يقوم كاهن آخر على رتبة ملكي صادق ولا يقال على رتبة هرون» (عب 7: 1 ـ 3 و11) ويقول الرسول بولس أيضاً عن الرب يسوع المسيح: «أقسم الرب ولن يندم أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق» (عب 7: 21). ويختم الكاهن الخدمة الأولى بقوله: «مشيحا دقبل قوربنؤ دملكيزدق كومرا ربا، قبل مري ألوةؤ دعبدك وحسا حوًبا دمرعيةك… آمرا دكيا ودلا موم دقَرب ؤو لؤ لابوؤي قوربنا مقبلا حلف حوسيا دكلؤ علما، آشوا لن دنقرب لك قنومن دبحةا حيةا دشفرا لك ومةدميا بدبيحوةك دحلفين مرن وءلؤن لعلمين» وترجمتها: «أيها المسيح الذي قبل قربان ملكيصادق الحبر الأعظم استجب يا ربي صلاة عبدك واغفر ذنوب رعيتك…».
ثم يبدأ الكاهن بالخدمة الثانية من الرتبة الاستعدادية وتشمل ارتداء الحلة الكهنوتية وتلاوة صلاة التدبير الإلهي بالجسد ورتبة البخور، قائلاً سراً: «آشوا لن مريا ءلؤا…» وتعريبها: «أهلنا أيها الرب الإله أن ندخل إلى قدس أقداسك السامي الرفيع بقلوب نقية» ويتلو صلاة مبتدئاً بالتمجيد قائلاً: «المجد للآب والابن والروح القدس، اللهم أهّلنا…» ثم ينزل من درجة المذبح ويذهب إلى أحد جانبي الهيكل أو المكان المخصص للكهنة حيث يلبسون ثيابهم الكهنوتية التي تليق بمن يتقرّب من اللّه. أما البطريرك والمطران فيلبسان الثياب الكهنوتية أمام المذبح. ثم ينزع الكاهن عنه الجبة قائلاً: «اللهمّ اخلع عني…» ثم يلبس الحلة الكهنوتية الخاصة بتقديم الذبيحة الإلهية. وكان اللّه في العهد القديم قد أمر موسى قائلاً: «واصنع ثياباً مقدسة لهرون أخيك للمجد والبهاء»(خر 28: 2) ويرسم الكاهن السرياني الأرثوذكسي على كل قطعة من الحلة الكهنوتية علامة الصليب مرة أو أكثر كما يفرضه الطقس، ويتلو بعض الأدعية المقتبسة من سفر المزامير، فيرسم على القميص علامة الصليب ثلاث مرات ويلبسه قائلاً: «أللهمّ ألبسني…» ثم يرسم على الهمنيخ علامة الصليب المقدس مرتين وهو يقول: «تمنطقني قوة…» (مز 18: 39) ثم يرسم على الزنار علامة الصليب مرة واحدة وهو يقول: «تقلّد سيفاً» (مز 45: 3) ثم يرسم علامة الصليب مرتين على الزند الذي يلبسه بيده اليسرى وهو يقول: «سلاح البر…» وعندما يلبسه يقول: «علّم يدي…» (مز 18: 34) ثم يرسم علامة الصليب مرة واحدة على الزند الذي يلبسه بيده اليمنى وهو يقول: «سلاح البر…» وعندما يلبسه يقول: «يمينك تعضدني…» (مز 18: 35) ثم يرسم علامة الصليب ثلاث مرات على البدلة ويلبسها وهو يتلو: «البس كهنتك خلاصاً…» (مز 132: 9) إذا كان البطريرك حاضراً فهو يبارك بدلة الكاهن والمطران وإذا لم يكن البطريرك حاضراً، والمطران حاضر فهو يبارك بدلة الكاهن. والمطران يلبس علاوة على الثياب التي يلبسها الكاهن، المصنفة على رأسه، والهرار الكبير فوق البدلة. أما البطريرك فعلاوة على كل ذلك يتقلّد الترس الذي يعلقه في الجانب الأيمن من الزنار وهو علامة الرئاسة العليا لدينا.
ثم يغسل الكاهن يديه وينشّفهما ويجثو أمام المذبح تالياً سراً صلاة للتوبة تبدأ بعبارة: «اللهمّ يا ضابط الكل» ثم ينتصب واقفاً ويرتقي درجة المذبح مقبلاً إياه من الوسط فالجانب الأيسر ثم الجانب الأيمن ويقول: «الرب قد ملك…» (مز 93: 1) ويرفع غطاءي الصينية والكأس ويضع غطاء الصينية عن يمينه وغطاء الكأس عن يساره ويأخذ الصينية بيده اليمنى والكأس بيده اليسرى جاعلاً يمينه فوق شماله على شبه صليب، ويتلو صلاة «تدبير الرب يسوع بالجسد» مدبرنوةا بدءاً من إرسال الملاك جبرائيل من السماء لتبشير العذراء مريم بالحبل الإلهي ومروراً بميلاده بالجسد وعماده وآلامه وموته ودفنه وقيامته وصعوده إلى السماء وجلوسه عن يمين اللّه الآب. ويكمل الكاهن هذه الصلاة قائلاً: «ونذكر في هذا الوقت الذي نقدم فيه هذه الأوخارستيا الموضوعة أمامنا أولاً أبانا آدم وأمنا حواء فالقديسة المجيدة والدائمة البتولية والدة اللّه مريم والأنبياء والرسل والمبشرين والإنجيليين والشهداء والمعترفين والأبرار والكهنة والآباء القديسين والرعاة الحقيقيين والملافنة المستقيمي الرأي والنساك والرهبان وكل إنسان أرضى اللّه» ثم يذكر الكاهن اسم القديس الذي يصادف عيده في ذلك اليوم واسم الشخص الذي نوى أن يقدّس لأجله إن كان مريضاً أو تائباً أو أحد الموتى المؤمنين.
إذا كان القداس يقدم على محبة العذراء مريم يتلو الكاهن ثلاث مرات عبارة: «وخاصة للقديسة والدة اللّه مريم…» مع ذكر اسم المؤمن أو المؤمنة المتشفّع بالعذراء والطالب صلواتها. وإذا كان لأحد القديسين يتلو ثلاث مرات عبارة: «اللهمّ أنت القربان…» مع ذكر اسم القديس. وإذا كان عن تائب يتلو ثلاث مرات العبارة المختصة بالتائبين مع ذكر اسم التائب. وإذا كان عن أحد الراقدين يتلو ثلاث مرات العبارة الخاصة بالموتى المؤمنين مع ذكر اسم هذا الراقد بالرب.
ويتلو الكاهن في كل قداس اسم والديه وأجداده وإخوته وأخواته وأقربائه ومعلميه إن كانوا أحياء أو راقدين بالرب بقوله: «اللهمّ برحمتك وعطفك اجعل ذكراً صالحاً لأبي وأمي وأمواتي، وإخوتي وأخواتي وأقربائي وأنسبائي والحاضرين الذي يصلّون معنا وكل من سألني لأذكره أمامك وقد نسيت اسمه لكن اسمه معروف لديك».
ثم يضع الكاهن الكأس من جهة الشرق والصينية من جهة الغرب على الطبليث ويغطيهما بالمنديل الذي يدعى شوشيف وهو يقول: احتجبت السماوات من بهاء المجيد وامتلأت الأرض كلها من تمجيده» والشوشيف يرمز إلى الحجر الذي دحرج على باب قبر الرب يسوع. ويغطي الكاهن به الكأس والصينية لتبقى الأسرار محجوبة عن النظر إلى ما بعد ختام المرحلة الأولى من الليتورجية الذي يدعى بـ «قداس الموعوظين» وهذا يدلّ أيضاً على أن الأسرار المقدسة كانت محجوبة معرفتها عن البشر.
- رتبة البخور:
وهي تمثّل كهنوت هرون. وبتقديم البخور أثناء الاحتفال بالقداس الإلهي، تذكّر الكنيسة المؤمنين بما جرى لبني اسرائيل عندما تمردوا على اللّه فعاقبهم تعالى بوباء الطاعون الذي كاد يفنيهم وعندما تشفّع موسى بهم أمر اللّه أن يوعز إلى أخيه هرون ليأخذ المجمرة ويجعل فيها ناراً من على المذبح ويضع على النار بخوراً ويذهب بها سريعاً إلى الجماعة ويبخّرهم ويكفّر عنهم (عدد 16: 46) ففعل ورضي اللّه ببخور هارون ورفع الطاعون عن الشعب حالاً.
فالكاهن الذي يستعد لتقديم الذبيحة الإلهية غير الدموية بعد أن يصمد الخبز والخمر على المذبح ويلبس ثيابه الكهنوتية ثم يتلو صلاة التدبير الإلهي ويغطي الكأس والصينية بالشوشيف كما ذكرنا ينزل إلى أسفل درجة من درجات المذبح ويضع في المجمرة بخوراً إشارة إلى الحبل الإلهي وهو يرسم عليها علامة الصليب المقدس قائلاً: «اللهمّ لوقار ومجد رحمتك أقدّم البخور أنا عبدك الضعيف والخاطئ…» ويتناول المجمرة بيده اليمنى ويواصل المرحلة الثانية من الرتبة الاستعداية لطقس القداس الإلهي التي يقوم بها سراً داخل الهيكل وستار الهيكل مسدول. وبعد أن يتلو (الحوساي) أي صلاة الاستغفار وقد نزل من على درجة المذبح وفي هذه الصلاة يطلب من الرب غفران ذنوبه وخطاياه ويبجّل ويمجد الرب يسوع ويطوّب والدته القديسة مريم والقديسين، والمجمرة بيده اليمنى وهو يبخّر المذبح والخبز والخمر الموضوعين بالكأس والصينية على المذبح فوق الطبليث، ثم يرتقي درجة المذبح، ويوجّه يمينه الحاملة المجمرة نحو الشرق من وراء الكأس والصينية قائلاً: «سبحوا يا أبرار الرب مع عطر البخور الخ» ثم ينقل يمينه إلى أمام الكأس والصينية ويبخّر قائلاً: «سبّحوه يا جميع الشعوب»(مز 33: 1 و117: 1) ثم يعطّر شمال المذبح ويقول: «المجد للآب والابن والروح القدس مع عطر البخور الخ»، ثم يبخّر عن يمين المذبح ويقول: «من الأبد… مع عطر البخور». ثم يدوّر المجمرة أطراف الأسرار ثلاث مرات من يمين المذبح إلى شماله مرتين والمرة الثالثة من شمال المذبح إلى يمينه قائلاً: «يا عظيم الأحبار…» ثم ينزل الكاهن من على درجة المذبح ويأخذ بيده اليسرى وسط طرف المنديل الموضوع على الكأس والصينية ويبخّره قائلاً ثلاث مرات: «السجود للآب الحنان» ثم يقبله ويمسك طرف المنديل من جانب اليسار ويبخّره قائلاً ثلاث مرات: «السجود للابن الرحوم» ثم يقبله ويطوي طرف المنديل بعد تبخيره إشارة إلى أن العهد القديم أعلن فقط شيئاَ يسيراً عن تجسّد ابن اللّه الوحيد. ثم يبخّر المنديل من جانب اليمين قائلاً ثلاث مرات: «السجود للروح المرفرف» ثم يقبله، وينزل من على المذبح.
تستند الكنيسة المقدسة إلى تعاليم الكتاب المقدس، بتقديم البخور أثناء القداس الإلهي والعبادة الجمهورية، فقد أمر اللّه موسى في العهد القديم قائلاً: «وتصنع مذبحاً لإيقاد البخور… فيوقد عليه هرون بخوراً عطراً كل صباح حين يُصلح السُّرج يوقده. وحين يُصعِدُ هرون السُّرج في العشية يوقده. بخوراً دائماً أمام الرب في أجيالكم»(خر 30: 1 ـ 8). ونهى شعبه عن استعماله في غير العبادة حتى أنه أنذر كل من يجرؤ على ذلك بالعقاب بقوله: «والبخور الذي تصنعه على مقاديره لا تصنعوا لأنفسكم يكون عندك مقدساً للرب. كل من صنع مثله ليشُمه يقطع من شعبه»(خر 30: 37و38).
وقد مارست الكنيسة المقدسة منذ عهد الرسل تقديم البخور للّه أثناء القيام بفروض العبادة، ولعل يوحنا اللاهوتي الذي اعتاد أن يرى الكاهن يقدّم البخور لترتفع منه صلوات المؤمنين الأبرار إلى منبر المسيح، رأى يوحنا في رؤياه الأربعة والعشرين شيخاً كهنة اللّه العلي في السماء يرفعون للّه بخورهم مع صلوات القديسين من يد الملاك أمام اللّه (رؤ 8: 3و4).
وقد استعملت جميع الكنائس المسيحية الشرقية والغربية البخور في فروض العبادة منذ عهد الرسل وما تزال تفعل ذلك. فمن الناحية الصحية فضلاً عن الدينية يكفي أن البخور مطهر للأمكنة من الجراثيم ومختلف الأدواء كما أنه واجب ديني ورائحته العطرة تنعش النفس وتثير فيها الشعور الديني بالموقف الرهيب في عبادة اللّه. ويذكر مار أفرام السرياني (373+) البخور وهو يحرض المؤمن على جمع فكره في الصلاة قائلاً ما ترجمته: «حينما تصلي اجمع عقلك والجم أفكارك ووجّه بها نحو قلبك. لا يكن جسدك قائماً، وقلبك تائهاً في الأشغال، بل اجعل جسمك بيعة وعقلك هيكلاً فاخراً وفمك مجمرة وشفتيك بخوراً ولسانك شماساً لترضي اللّه تعالى».
وأثناء قيام الكاهن بالخدم الاستعدادية من تهيئة القرابين أي مادة سر القربان المقدس الخبز والخمر، وصمدهما على المذبح وتبخيرهما، يكون ستار المذبح مسدولاً، ويكمل الشمامسة خارج المذبح أي ما بين الكودين الصلاة الفرضية ثم تقرأ فصول من العهد القديم من أسفار موسى الخمسة والمزامير والأسفار الحكمية ونبوات الأنبياء ذلك أن ما جاء في أسفار العهد القديم يشهد على صحة ما جاء في أسفار العهد الجديد، وأثناء كل ذلك يكون المؤمنون جالسين.
ثم يقف المؤمنون ويرتل الشمامسة وجوقة الترتيل والأفضل أن يشاركهم الشعب كله بترتيل ترنيمة «بنوؤرك حزينن نوؤرا بنورك نرى النور يا يسوع المملوء نوراً (الكامل نوره) فأنت النور الحقيقي الذي ينير جميع المخلوقات فأنرنا بنورك البهي يا ضياء الآب السماوي. (حسيا قديشا) أيها البار القدوس الساكن في منازل النور امنع عنا الأهواء الفاسدة والأفكار القبيحة، ووفقنا لنصنع أعمال البر بقلوب طاهرة» وخلال ذلك يُقرع للمرة الثالثة (الناقوس) أي جرس الكنيسة معلناً بدء الخدمة الجهورية أي العلنية من القداس الإلهي كما كان قد قرع الناقوس في بدء صلاة قومة الليل ثم ثانية في ختامها أي قبل بدء صلاة قومة الصباح ليدعو المؤمنين إلى الكنيسة وينبّههم ليستعدوا لتمجيد ربنا يسوع المسيح وليكونوا في عداد جنوده الصالحين في محاربة إبليس وجنده. فكما أن رؤساء الأمم يدعون الجيوش بصوت الصافور والبوق لتجتمع وتستعد لمنازلة العدو، هكذا تدعونا الكنيسة المقدسة بصوت الناقوس للاستعداد لمنازلة عدونا إبليس وجنده. وأثناء ترتيل ترنيمة «بنورك نرى النور» يدخل الشمامسة إلى الهيكل من أحد البابين الواقعين على جانبي الهيكل بعد أن يقبّلوا الإنجيل المقدس ثم يقبّلون جانبي المذبح، ثم يلبسون قمصانهم وهراراتهم، ويوقدون الشموع الصفراء الموضوعة على المذبح والمصنوعة من شمع العسل ذلك أن التقليد الكنسي السرياني لا يسمح باستعمال شمع الكافور لاحتوائه على مواد حيوانية، وعندنا يمنع وضع أي شيء حيواني على المذبح. كما يوقد الشماس (المشملي) شمعة ويسير أمام الكاهن الذي يكون قد وضع البخور بالمجمرة إشارة إلى الميلاد الإلهي ومسكها بيمينه ويحمل شماسان مروحتين مصنوعتين من فضة أو معدن يعلق حول كل واحدة منهما أجراس صغيرة تعطي أصواتاً لطيفة عندما يهزّها الشماس وكانت سابقاً عبارة عن مروحة تستعمل لإبعاد الذباب عن القرابين وتحوّلت إلى آلة موسيقية، قيل بعدئذ في تفسيرها أنها تشير إلى الملائكة وتسابيحهم. ويسير الشماسان عادة وراء الكاهن أثناء دورانه حول المذبح. ويُكشف الستار المسدول أمام الهيكل ويهتف الكاهن قائلاً: «مريم ديلدةك ويوحنن دآعمدك ؤنون نؤوون لك مفيسنًا حلفين وآةرحمعلين، بألوة آما ديلدةك ودكلؤون قدًيشيك» «مريم التي ولدتك ويوحنا الذي عمّدك يتشفعان لنا عندك، وبصلاة أمك التي ولدتك وجميع قديسيك» ثم يؤدّي الشمامسة وجوقة الترتيل بل الشعب الحاضر كله النشيد المنثور من تأليف مار سويريوس الكبير البطريرك الأنطاكي (538+) ويدعى بالسريانية (معنيث) يؤدّيه الشعب ترتيلاً ويبدأ بعبارة «آرمرمك مري ملكا» «أعظمك يا سيدي الملك الابن الوحيد وكلمة الآب السماوي الخالد طبعاً. ارتضى وجاء بنعمته لحياة الجنس البشري وخلاصه، وتجسّد من القديسة المجيدة والبتول الطاهرة والدة اللّه مريم، وصار إنساناً دون تغيير، وصلب لأجلنا المسيح إلهنا، وبموته وطئ موتنا وقتله، وهو أحد الثالوث الأقدس يسجد له سوية ويُمجّد مع أبيه وروحه القدوس والخ…» ويبدأ الكاهن دورته من الجهة اليمنى وراء المذبح ثم يبخّر قدام المذبح ويبخّر الكهنة والشمامسة ثم الشعب كله ممثلاً دورة الرب يسوع المسيح في العالم أثناء تدبيره الإلهي العلني بالجسد، ويعطر الكاهن الجو بالبخور الذي يرمز إلى تطهير الرب يسوع العالم بتعاليمه الإلهية من عفونة الخطية. ويعتبر الكاهن لسان الشعب والوسيط بين اللّه والشعب المؤمن. وعندما ينتهي الكاهن من دورته من وراء المذبح أي وراء قدس الأقداس يقف أمام المذبح ووجهه نحو الشرق ويبخّر ثلاثاً، وإذا كان البطريرك حاضراً أو كان أحد المطارنة فيجب أن يبخّر أمامه ثلاثاً ويقبّل يمينه. ثم يلتفت نحو اليسار ويبخّر الحاضرين ثم يلتفت نحو الغرب ويبخّر الحاضرين ثم نحو الشمال ويبخر الحاضرين وينتهي إلى الشرق أي أمام المذبح فيسلّم المجمرة إلى شماس. ويرتقي درجة المذبح ويضع إصبع السبابة من يده اليمنى على قاعدة المذبح أمام الكأس والصينية ويبدأ بتلاوة التقديسات الثلاثة التي تسمّى باليونانية تريساجيون وهي موجّهة إلى الاقنوم الثاني من الثالوث الاقدس أي الرب يسوع المسيح الإله المتجسد قائلاً: «قدوس أنت أيها الإله». ويكمل الشعب قائلاً: «قدوس أنت أيها القوي قدوس أنت غير المائت يا من صلبت عوضاً عنا ارحمنا» (ويكرر ذلك ثلاث مرات) ثم يقول الشعب: «قوريليسون» ثلاث مرات.
ففي المرة الأولى عندما يقول الكاهن «قدوس أنت يا اللّه» يضع إصبعه (السبابة) من يده اليمنى على المذبح أمامه ثم يرسم علامة الصليب على نفسه. وفي المرة الثانية يضع إصبعه (السبابة) من يده اليمنى على الصينية ثم على قاعدة المذبح أمامه ثم يرسم علامة الصليب على نفسه. وفي المرة الثالثة يبدأ بوضع السبابة على الكأس ثم على الصينية ثم على قاعدة المذبح ثم يرسم علامة الصليب على ذاته وتكون ثلاثة أصابع من يده اليسرى على المذبح حتى ينتهي من التقديسات الثلاثة. ومن المفيد أن نذكر هنا أن التقديسات الثلاثة دخلت إلى طقس القداس في فجر المسيحية، فبحسب تقليد كنيستنا السريانية الأرثوذكسية، أنه بعد أن أسلم الرب يسوع روحه بيد أبيه وأخذ يوسف الرامي ونيقوديموس إذناً من بيلاطس البنطي بدفن جسده المقدس فعندما كانا ينزلان الجسد المقدس من على الصليب ظهرت الملائكة وأنشدت قائلة: «قدوس أنت اللّه، قدوس أنت القوي، قدوس أنت الحي غير المائت» فكمل يوسف ونيقوديموس الانشودة قائلين: «يا من صلبت عوضاً عنا ارحمنا».
وبعد الانتهاء من ترتيل (التقديسات الثلاثة) ينزل الكاهن من على المذبح، ثم يقف شماس على الدرجة الأولى ما بين المذبح والهيكل في شمال الشخص المواجه للمذبح والشعب يرتل قورياليسون قوريليسون (ثلاث مرات) ثم شليحًا جبيًا (الرسل المختارون) ويتلو الشماس قراءة من سفر أعمال الرسل أو الرسائل الجامعة، وبعد أن ينتهي من ذلك يقف المؤمنون الحاضرون ويرتلون: «فولوس شليحا طوبنا شمعة دآمر… وتعريب ذلك ما يأتي: سمعت بولس الرسول الطوباوي يقول: إن جاء أحد وبشّركم بخلاف ما بشّرناكم وإن كان ملاكاً من السماء فليكن محروماً من الكنيسة وها إن التعاليم المختلفة تنبع من كل صوب فطوبى لمن بتعليم اللّه بدأ وكمّل» ويقف أحد الشمامسة على الدرجة الأولى من المذبح في الجهة اليمنى للشخص المواجه للمذبح ويتلو قراءة من رسائل القديس بولس الرسول. وأثناء تلك القراءة يقف الشعب لأن الرسول بولس يمثّل من ينادي أمام موكب الملك ليعدّ الشعب لاستقباله. ويصلي الكاهن قائلاً: «قبل مريا ءلؤا لـألوًةن ولبعوًةن دقدميك بعدنا ؤنا… اقبل يا رب صلواتنا وطلباتنا…» أما البطريرك والمطران فيجلسان أثناء تلاوة قراءة من سفر أعمال الرسل أو من رسائل الرسول بولس لأنهما برتبة الرسل. وبعد الانتهاء من قراءة الرسالة يرتّل الشعب بالسريانية ترتيلة «ؤللويا (ثلاث مرات) دبحو لؤ دبحًا دشوبحا…» وتعريبها: «هاليلويا هاليلويا هاليلويا: اذبحوا له ذبائح التسبيح احملوا القرابين النقية وادخلوا إلى ديار الرب واسجدوا أمام مذبح قدسه هاليلويا» وخلال ذلك يصلي الكاهن سراً وهو متّجه نحو الشرق صلاة الاستعداد لقراءة الإنجيل المقدس قائلاً: «امنحنا يا رب معرفة كلامك الإلهي واملأنا من فهم إنجيلك المقدس ومن غنى مواهبك الإلهية وعطايا روحك القدوس وأعطنا أن نحفظ وصاياك بفرح ونكمّل إرادتك فنستحق بركاتك ومراحمك الآن وكل أوان وإلى أبد الآبدين». ويأخذ الشماس المجمرة إلى الكاهن فيضع فيها الكاهن البخور ويمسك شماسان شمعتين عن يمين الكاهن ويساره وهما يمثّلان المبشرين الذين أرسلهم الرب يسوع اثنين اثنين أمام وجهه (لو 10: 1). ويفتح الكاهن الإنجيل المقدس ليقرأ الآيات المقدسة المخصصة قراءتها لذلك اليوم أو المناسبة. ولا بدّ من أن نذكر أن فصول أسفار الكتاب المقدس ولا سيما الإنجيل المقدس قسّمها آباؤنا القديسون في طقسنا الأنطاكي السرياني على نسق الترتيب الكنسي على مدار السنة بما لا يوصف من الحكمة والذوق. وللكتاب المقدس بالسريانية ترجمات عديدة تستعمل الكنيسة غالباً الترجمة البسيطة فشيطةا التي جرت في أواخر القرن الأول أو أوائل الثاني من اليونانية، وسريانيتها قريبة من الآرامية إن لم تكن ذاتها التي بها نشر الرب يسوع بشارة الخلاص.
ويقف الشماس أمام منبر الإنجيل المقدس وهو متّجه نحو الشرق وبيده المجمرة ويبخّر، فبعد أن يرتل أحد الشمامسة ما نسميه (بالهلاّل) يتلو الشماس الذي بيده المجمرة ما يأتي: «بركمري عم شليا بدحلةا ونكفوةا نأوة ونشمع لسبرةا دمًلا حيًةا دءلؤا…» وترجمته: «مع الخوف والهدوء والسكون والنقاوة والورع لنصغِ ولنسمع بشارة كلام الحياة إنجيل ربنا يسوع المسيح المقدس الذي يتلى علينا…». ويرسم الكاهن بيده اليمنى علامة الصليب على الحاضرين وأما البطريرك أو المطران فيبارك الشعب بالصليب الذي يمسكه قائلاً:«السلام لجميعكم» وبهذا يريد أن يعلن أنه يريد ان يبلّغهم بشارة ربنا يسوع المسيح الإله المتجسّد رب السلام الذي صنع السلام بين اللّه والإنسان كما فعل الملائكة حين بشّروا الرعاة بميلاده (لو 2: 14)، ويجيبه الشعب: «ومع روحك أيضاً…» ويقول الكاهن: «إنجيل ربنا يسوع المسيح المقدس، البشارة المحيية حسب متى الرسول (أو يوحنا الرسول أو مرقس البشير أو لوقا البشير) الذي يبشر العالم بالحياة والخلاص» الشعب: «مبارك الذي أتى والعتيد أن يأتي، المجد لمرسله وعلينا مراحمه إلى الأبد». الكاهن: «في زمان تدبير (أو ميلاد أو عماد أو قيامة أو صعود) ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح، كلمة الحياة، الإله الذي تجسّد من العذراء القديسة مريم، هكذا جرت الأمور» فيجيب الشعب: «مؤيمنينن ومودينن» أي نؤمن ونعترف. وعند نهاية تلاوة الإنجيل المقدس يلتفت الكاهن أيضاً إلى البطريرك أو المطران إذا كان حاضراً ويقول له: «بارخمور» ثم يلتفت إلىالشعب ويقول: «شينا وشلما لكلكون» أي «الأمن والسلام لجميعكم» ويرسم علامة الصليب، ثم يقبّل الإنجيل ويضعه على منصته ويلتفت نحو المذبح. وكان الكاهن قديماً يلقي عظة مختصرة بعد الانتهاء من تلاوة الإنجيل المقدس، أما الآن فالعظة تلقى قبل الرفعة الأخيرة لتتاح فرصة سماعها للمؤمنين الذين لم يتمكّنوا من حضور القداس الإلهي في بدئه.
وكان الذين يحضرون القداس الإلهي في الأجيال الأولى للميلاد، يأخذون مواقعهم في الوقوف في الكنيسة بحسب أصنافهم، فالأغلبية كانت من المؤمنين المعمّدين والحافظين الشريعة والبقية من الموعوظين الذين ولئن آمنوا بالرب يسوع المسيح ابن اللّه الوحيد مخلّص العالم لكنهم كانوا ما يزالون تحت التجربة والاختبار، وكانت مدة التجربة ثلاث سنوات يدرس خلالها طالبو الانضمام إلى الكنيسة مبادئ الدين المسيحي المبين والتمرّس على ممارسة الفضائل المسيحية السامية. ثم كان هناك المعترون من الأرواح النجسة الشريرة والمعتوهون، والتائبون الكبار وهم الخطاة الذين ارتكبوا جرائم كبرى وقد اعترفوا بذلك وندموا وتابوا، ولم يكمّلوا التأديبات الكنسية وواجبات التوبة، وهؤلاء جميعاً يحضرون الصلوات مع المؤمنين وكانت لهم أماكن خاصة في الكنيسة ويحق لهم حضور القسم الأول من القداس ويدعى قداس الموعوظين، الذي يبدأ ببدء القداس وينتهي بانتهاء الكاهن من تلاوة الإنجيل المقدس والوعظ، وكان الشماس في القرون الأولى يصرفهم بعد ذلك إذ يدعو أعضاء كل فئة منهم فيتقدمون أمام الهيكل حيث يصلي عليهم الأسقف ثم يأمرهم الشماس أن يغادروا الكنيسة حينذاك يبدأ قداس المؤمنين بعد أن ينادي الشماس أن تغلق أبواب الكنيسة إذ لا يحق إلاّ للمؤمنين المعمّدين أن يحضروا تقديم الذبيحة الإلهية غير الدموية ويشتركوا بتناول القربان المقدس. وقد ترك تدبير فصل الموعوظين عن المؤمنين وصرف الموعوظين في بدء قداس المؤمنين بعد القرن التاسع للميلاد. أما اليوم فيحضر القداس الإلهي القريب والغريب والمؤمن وغير المؤمن دون استثناء ولكن لا يسمح بالتناول إلا للمشتركين بالإيمان الواحد، وبعد أن يكونوا قد قدّموا توبة صادقة واعترافاً قانونياً أمام الكاهن الشرعي أو اشتركوا بالاعتراف العام الذي يجري بأمر مطران الأبرشية في الظروف الاستثنائية كما فسّح قرار مجمع العطشانة عام 1971.
- مقدمة قداس المؤمنين:
بعد قراءة الكاهن الإنجيل المقدس يرتّل الشعب ترتيلة: «بكلزبن وبكلعدن دكيرين نبيًا وشليحًا دآكرزو سبرةك بية عممًا. دكيرين كانًا وزدًيقا دنأحو وآةكللو. دكيرين سؤدًا ومودًينا دسيبرو شندًا وآولـأنًا. دكيرا ؤي يلدة ءلؤا وقدًيشا وعنيدًا مؤيمنًا» وفيما يأتي تعريبها: «في كل آن وأوان لنذكر الأنبياء والرسل الذين نشروا بشارتك بين الشعوب ولنذكر الأبرار والصديقين الذين انتصروا (على إبليس والعالم والخطيئة) وحازوا على الأكاليل، ولنذكر الشهداء والمعترفين الذين تحمّلوا الشدائد والآلام ولنذكر والدة اللّه والقديسين والموتى المؤمنين». أو يُرتل نشيد آخر مشابه مما قد خصّص لعيد أو مناسبة روحية خاصة، ثم يهتف الشماس قائلاً: «سطو من قالوس قوريالليسون» «سطومن قالوس قوريليسون» أي (يا رب ارحم) ويتلو الكاهن ما يسمى بحوساي الدرج وهو واقف أمام المذبح ومتجه نحو الشرق ويبدأ ذلك بـ «نألا كلن…» وإذا وجد البطريرك أو أحد المطارنة فهو الذي يفتتح ذلك. وتعريب ذلك: «لنصلِّ جميعاً ونطلب من الرب الرحمة والحنان…» وبعد أن ينتهي من تلاوة الفروميون (المقدمة)، ينادي الشماس قائلاً: «قدم مريا مرحمنا…» «أمام الرب الرحيم وأمام مذبحه الغافر وأمام هذه الأسرار المقدسة الإلهية، بوضع البخور بيد الكاهن الموقر (وإذا كان البطريرك حاضراً يقول الشماس: كومرا ربا ومعليا الحبر الأعظم، أو أحد المطارنة فيقول الشماس: أبانا المبجل آبون معليا) فنلصلِّ جميعاً طالبين من الرب رحمة وحناناً فارحمنا أيها الرب الرحيم وأعنا» وهنا يفتح الكاهن طية طرف الشوشيف الموضوع على الكأس والصينية ثم يضع بخوراً في المجمرة ويتلو: «عم عطرا دبسمًا…» وتعريبها: «اللهمّ مع عطر البخور هذا امنحنا عفواً وغفراناً وتطهيراً، صافحاً عنا متغاضياً عن آثامنا، واغفر لي خطاياي الكثيرة والعظيمة التي لا تحصى متجاوزاً عن ذنوب عبادك المؤمنين، وارأف بنا أيها الجواد وارحمنا. تذكرنا اللهمّ ذاكراً نفوسنا وأنفس آبائنا وإخوتنا ورؤسائنا ومعلمينا وموتانا وأنفس الموتى المؤمنين أبناء البيعة المقدسة المجيدة. أرح يا رب أنفسهم وأرواحهم وأجسادهم راضياً، وانضح عظامهم من حنانك راحماً، وتعطّف علينا أيها المسيح إلهنا وملكنا رب الجلالة.
استجبنا أيها الرب ربنا وكن لنا مُعيناً وخلّصنا وتقبّل دعواتنا وابتهالاتنا كرماً. واكفنا برحمتك وحلمك جميع العقوبات الشديدة (والضربات المؤذية) ووفّقنا يا رب الأمن والسلام جميعاً إلى الآخرة الصالحة المحفوظة لآل السلام. وامنحنا نهاية مسيحية ترضاها وتليق بجلالك الإلهي وإياك نحمد مسبحين الآن وإلى أبد الآبدين» (إذا وجد البطريرك أو أحد المطارنة فهو الذي يفتح طية الشوشيف ويضع البخور في المجمرة) ويبدأ صلاة (مع عطر البخور كن يا رب غافراً ومطهراً ومتجاوزاً وماحياً وغير ذاكر شرورنا…) ثم يتلو (السدر) أي نبذة الصلاة وهي الجزء الثاني من الحوساي. وبعد الانتهاء من ذلك يقول الشماس: «آمين مريا نقبل حوسيك… تقبل الرب استغفارك وأعاننا بدعواتك» ويعقبه الكاهن بقوله: «من ءلؤا نقبل… لنحظ من اللّه مغفرة الذنوب والصفح عن الآثام في العالمين والآن وفي كل أوان وإلى الأبد» الشماس: «آمين». ويقف الشماس مقابل الكاهن وبيده المجمرة متّجهاً نحو الشمال ويضع الكاهن البخور في المجمرة ويتابع الكاهن تلاوته مما يعتبر تمجيداً للثالوث الأقدس الذي وحده له القداسة قائلاً: «أنا عبد اللّه الضعيف والخاطئ أهتف وأقول…» ويضع الكاهن إصبع السبابة ليده اليمنى فوق أعلى المجمرة وهو يقول: «قدوس هو الآب القدوس» ثم يرسم علامة الصليب فوق سلاسل المجمرة أثناء إجابة الشعب قائلين: «آمين». ثم يضع الكاهن إصبعه السبابة ثانية فوق أعلى المجمرة وينزلها إلى وسطها قائلاً: «قدوس هو الابن القدوس» ثم يرسم علامة الصليب فوق السلاسل ويجيب الشعب: «آمين». ثم يضع الكاهن ثالثة إصبعه فوق أعلى المجمرة وينزلها إلى الوسط ثم إلى مكان النار تالياً: «قدوس هو الروح القدس الذي يبارك بخور عبده راحماً أنفسنا وأنفس آبائنا وإخوتنا ومعلمينا وأمواتنا وجميع الموتى المؤمنين أبناء الكنيسة المقدسة في العالمين إلى أبد الآبدين» ويدوّر الكاهن يده اليمنى حول محل النار مرتين إلى اليمين ومرة إلى اليسار…
وتشير المبخرة وترمز إلى السيدة مريم العذراء التي حلّ بأحشائها نار اللاهوت ولم تحترق. والبخور يرمز إلى تعاليم ربنا يسوع المسيح الإله المتجسد الذي عطرت تعاليمه العالم ونقته من رائحة الوثنية الكريهة واليهودية البغيضة، والأجراس الصغيرة المعلقة بالسلاسل ترمز إلى عدد الرسل الإثني عشر الذين حملوا بشارة الخلاص إلى العالم أجمع أما الكلمات التي يلفظها الكاهن فهي إعلان الإيمان المسيحي بألوهة الأقانيم الثلاثة الآب والابن والروح القدس الإله الواحد ورحمته بنا ومحبته للبشر ومنحه مغفرة الخطايا.
بعد أن ينتهي الكاهن من مباركة المجمرة والاعتراف بالثالوث الأقدس، ينادي الشماس قائلاً: «الحكمة الإلهية الخ» ويتناول الكاهن المجمرة من يد الشماس ويبخّر أمام المذبح ثم أمام الموجودين في المذبح وعندما يلتفت نحو الشعب يقول: «نؤمن بإله واحد» والشعب يكمل تلاوة دستور الإيمان النيقاوي (325) القسطنطيني (381). وقد دخل دستور الإيمان النيقاوي إلى طقس القداس على ما ارتأى بعضهم بعد القرن الخامس وفيه يعلن المؤمنون صدق إيمانهم واعترافهم بالثالوث الأقدس الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، وقبولهم الرب يسوع المسيح الإله المتجسّد مخلّص العالم وإطاعتهم الروح القدس مرشد الكنيسة ومعلمها ومعزّيها ومشجعها، ثم يعلنون وحدتهم بالمسيح بانتمائهم إلى الكنيسة الواحدة الجامعة المقدسة الرسولية وانتظارهم مجيء الرب ثانية إلى عالمنا هذا ليدين الأحياء والأموات. وعندما ينتهي الكاهن من دورة التبخير يسلّم المجمرة إلى الشماس وأثناء تلاوة دستور الإيمان يغسل الكاهن رؤوس أنامل يديه قائلاً: «اغسل يا رب… الخ» وغسل الأيدي يدلّ على نقاء القلب، وكان كل فرد من المؤمنين يغسل يديه قبل دخوله إلى الكنيسة ليكون مستعداً ليتسلّم القربانة عند التناول، حيث كان الكاهن يضع الجمرة أي الجزء الصغير من أجزاء البرشانة بعد استحالتها إلى جسد الرب يسوع على راحة يدي المؤمن ليتناولها ثم يسقيه من الكأس الخمر الذي استحال إلى دم المسيح. وقد بطلت هذه العادة مع الأيام، واستبدلت لدينا بغمس الكاهن جزءاً كاملاً من أجزاء البرشانة (التي استحالت سرياً إلى جسد المسيح) بالكأس المملوءة بالخمر (الذي استحال إلى دم المسيح) ويضع هذاالجزء (الذي يدعى أيضاً جمرة) في فم كل واحد من المتقدمين إلى التناول.
وأثناء تلاوة الشعب دستور الإيمان، وبعد أن يغسل الكاهن يديه، يستدير نحو الشرق أي أمام المذبح ويبسط يديه ويأتي بهما إلى صدره ثلاثاً قائلاً: «أسجد لربوبيتك يا إلهي» ثم إلى الغرب قائلاً: «إخوتي وأحبائي صلوا لأجلي» ثم يقبل الإنجيل المقدس ويمين البطريرك أو أحد المطارنة إذا وجد، ثم يجثو أمام المذبح بتواضع ووداعة وحزن كما جثا الرب يسوع في بستان الجثسيماني وتقاطر عرقه دماً وكانت نفسه حزينة حتى الموت وقال للآب: «إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس» (مت 26: 39)، وإذ يشعر الكاهن بأنه يمثّل المسيح وقد جثا في أسفل مذبح المسيح الذي يمثّل المسيح أيضاً يقدم صلاة توبة صادقة وبألم يعترف بخطاياه وهو يقول سراً صلاة التوبة والاعتراف أمام اللّه قائلاً: «ةليةيوةا قديشةا ومشبحةا آةرحمعلي. ةليةيوةا قديشةا ومشبحةا حوس عل حطيوةي ةليةيوةا قديشةا ومشبحةا قبليوؤي لقوربنا ؤنا من آيدًيا ديلي محيًلةا وحطيًةا. ءلؤا عبد بحننك نيحا ودوكرنا طبا عل مدبحك قديشا وشمينا ليلدةك ولقدًيشيك ولكلؤون عنيدًا مؤيمنًا ءلؤا حسا وشبوق بعدنا ؤنا حطؤًا ديلي حطيا عبدا ديلك وعدر لمحيلوةا ديلي دقريا لك بكلزبن بألوةا ديلدةك ودكلؤون قدًيشيك ءلؤا بمرحمنوةك حسا وشبوق حطؤًا دؤنون دمن دما ديلن آيةيؤون آبؤًين وآحيًن وإبنين ولذو دحلفوؤي ومطلةؤ مةقربا دبحةا ؤدا.» وتعريب ذلك: «أيها الثالوث الأقدس ارحمني… الخ» ثم ينتصب ويقبّل المذبح. وكان الشماس سابقاً ينادي قائلاً: «ؤا عدنا لـألوةا… قد آن أوان الصلاة وإنه الوقت الذي ننال فيه الغفران». وهذه المناداة ألغيت مع الزمن ولكن ما تزال الكنيسة تستعملها فقط قبل أن يصعد الكاهن إلى درجة المذبح ليبدأ صلاة السلام في أيام آحاد الصوم الكبير.
بعد أن أعلن الشعب إيمانه ووحدانيته مع نية الكاهن، ودار الشماس (المشملي) بين المؤمنين في الكنيسة أثناء تلاوة دستور الإيمان وبيده مجمرة البخور وعطّر الشعب بتعاليم الرب يسوع يعود إلى المذبح وكأني به يقول للكاهن إن المؤمنين مستعدون لمشاركته بتقديم الذبيحة وقد شاركوه بوحدة الإيمان والنية النقية وأيّدوه لاتباع السلام. وهنا تبدأ الخدمة الجهورية وهي مجموع صلوات طقس القداس التي يقال لها ليتورجية وهي لفظة يونانية كما يقال لها أيضاً أنافورا وهي الأخرى لفظ يوناني معناه رفع القربان، وتبدأ بصعود الكاهن درجة المذبح وتقبيله من الوسط فالجانب الأيسر فالأيمن، ثم تلاوة رتبة السلام ثم التقديس والرفعة ثم المناولة ثم الختام.
- رتبة المسامحة:
يبدأ قداس المؤمنين برتبة المسامحة طبقاً لوصية الرب يسوع القائل: «فإن قدّمت قربانك إلى المذبح وهناك تذكّرت أن لأخيك شيئاً عليك، فاترك هناك قربانك قدّام المذبح واذهب أولاً اصطلح مع أخيك وحينئذ تعالَ وقدّم قربانك» (مت 5: 23و24) فحالما يصعد الكاهن على درجة المذبح يبدأ بصلاة السلام قائلاً: «يا إله العالم وربه أهّلنا لهذا الفداء وإن لم نكن له أهلاً لكي يسالم بعضنا بعضاً بقبلة مقدسة…» ويجيب الشعب: «آمين» ويقول الكاهن: «السلام لجميعكم» وأثناء ذلك يسيّر الكاهن يمينه فوق الكأس والصينية ويرفعها فوق كتفه مشيراً بها للشعب ليعرف الشعب أنه يحييهم ثم يرسم الكاهن بإصبعه صليباً على جبهة الشماس الذي بيده المجمرة ويقبض الكاهن على سلاسل المجمرة ويقبلها قائلاً للشماس حاملها: «سلام ربنا وإلهنا»، والشماس يقبّل يمين الكاهن قائلاً ليكن معنا وبيننا. ثم يقبّل الشمّاس يمين البطريرك أو أحد المطارنة إن وجد، ومنه يأخذ الكهنة والشمامسة السلام. أما إن لم يوجد في المذبح البطريرك أو المطران فيعطي الشماس السلام لكاهن داخل المذبح وإن لم يوجد فلأرقى الشمامسة رتبة وكل ذلك بوساطة سلاسل المبخرة ثم يعطي الشمامسة داخل المذبح ثم الشعب خارج المذبح السلام الواحد للآخر.
فبعد أن يعطي الكاهن السلام للشعب بقوله: السلام لجميعكم، يجيبه الشماس بقوله: «ومع روحك أيضاً» ويتابع الشماس قوله موجهاً إياه للشعب قائلاً: «لنعطِ السلام بعضنا بعضاً كل واحد لقريبه بقبلة مقدسة روحية، بمحبة ربنا وإلهنا وبعد إعطاء هذا السلام الإلهي المقدس فلنحنِ رؤوسنا أمام الرب الرحيم. أمامك يا ربنا وإلهنا» ويواصل الكاهن تلاوة الصلوات قائلاً صلاة البركة: «يا من هو وحده رب رحيم ساكن في الأعالي ويتطلع إلى أوضع الأعمال أسبغ بركاتك على الذين طأطؤوا الرؤوس أمامك وباركهم بجودة ابنك الوحيد وروحك القدوس… الآن وكل أوان وإلى أبد الآبدين»، الشعب: «آمين».
- صلاة رفع الحجاب:
يتلو الكاهن قائلاً: «أيها الإله الآب يا من برأفتك الجزيلة أرسلت ابنك إلى العالم ليرجع الخروف الضال لا ترذل خدمة هذه الذبيحة غير الدموية لأننا على رحمتك وليس على برنا متّكلون فلا يكن هذا السر الذي دبّر لخلاصنا دينونة لنا لكن واسطة للصفح عن خطايانا ولحمدك وشكر ابنك الوحيد وروحك القدوس…».
الشماس: «لنقف حسناً لنقف بخوف اللّه وبورع وقداسة…» ويكمل الشماس الذي بيده المجمرة وهو يحركها لتعطي صوت الأجراس وتبخّر المكان قائلاً: «فلنقف جميعنا يا إخوتي بالمحبة والإيمان الحق وخصوصاً لننظر بمخافة اللّه إلى هذه التقدمة الرهيبة والمقدسة الموضوعة أمامنا بين يدي هذا الكاهن الوقور الذي بأمن وسلام يقرّبها ذبيحة حية للّه الآب رب الجميع…». ينبّه الشماس بهذا القول الشعب المؤمن ليقف بخوف اللّه والقداسة لأن الغطاء سيرفع عن الأسرار المقدسة فتظهر للعيان، أي أن اللاهوت غير المنظور المحجوب بالأسرار تعلن حقيقته للمؤمنين ولئن كانوا لا يستطيعون أن يروه بالعين المجردة، ويرمز الشوشيف (المنديل) إلى الصخرة التي كانت قد دحرجت من على باب قبر الرب يسوع.
وخلال ذلك يرفع الكاهن بيديه المنديل (الشوشيف) من على الكأس والصينية ويرف به فوقهما ثلاث مرات قائلاً سرّاً: «أنتِ هي الصخرة الصلدة التي تفجّر منها اثنا عشر نهراً في البرية لأسباط إسرائيل الإثني عشر، أنتِ هي الصخرة الصلدة التي وضعت على قبر مخلصنا» ويجمع الكاهن المنديل ويدوّره فوق أطراف الأسرار من اليمين إلى اليسار مرتين، ثم من اليسار إلىاليمين مرة واحدة ويقبّله ويضعه على المذبح ويرفع الكوكب من على الصينية ويضعه فوق المخدة ثم يضع إصبع السبابة من يمينه على المذبح ويرفعها ويرسم على وجهه إشارة الصليب المقدس ثم يلتفت نحو يسار المذبح ويرسم صليباً ثم عن يمين المذبح ويرسم صليباً أيضاً وإذا وجد كهنة بأي جهة كانت يرسم الصليب على وجهه ويتّجه نحو المؤمنين من جهة اليمين. ويضع يده اليسرى على المذبح ويبقيها كذلك حتى ينتهي من منح البركة وينزل رجله اليمنى من على درجة المذبح إذا وجد البطريرك أو أحد المطارنة، ويرسم إشارة الصليب على المؤمنين ثلاث مرات وهو يقول: «لتكن محبة اللّه الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة وحلول الروح القدس مع جميعكم إخوتي إلى الأبد» (2كو 12: 14) أما إذا كان مقرّب الذبيحة البطريرك نفسه فيبارك الشعب بالصليب ويمسك العكاز بيده اليسرى. وكذلك يفعل المطران إذا كان هو نفسه يقرّب الذبيحة. ولكن بحضور البطريرك لا يمسك المطران عكازاً.
- بدء قداس المؤمنين:
ثم يلتفت الكاهن نحو الشرق إلى المذبح ويرفع ذراعيه وكفيه باستقامة نحو السماء وينتدب المؤمنين إلى رفع أفكارهم إلى العلى وهو يقول: «لتكن عقولنا وأفكارنا وقلوبنا متّجهة الآن إلى فوق حيث المسيح جالس عن يمين اللّه الآب» يجيب الشعب: «هي عند الرب الإله» يجيب الكاهن وقد أنزل يديه وضمّهما إلى صدره قائلاً: «فلنشكر الرب بمخافة». ويقول الشعب: «إنه لواجب ولائق» ويجيب الكاهن: «بالحقيقة لائق وواجب أن نشكر ونسجد ونمجّد خالق كل المسكونة يا من حقاً أنت هو اللّه الآب مع ابنك الوحيد وروحك القدوس».
ويتابع الكاهن كلامه باسطاً يديه، وهو يوجّه فكره وأفكار المصلّين إلى السماء ليتخيّلوا العرش الإلهي ويذكّرهم برؤيا إشعيا النبي الذي رأى الملائكة في السماء وسمعهم يمجّدون اللّه قائلين: «قدوس…» ويريد الكاهن أن يشترك المؤمنون مع الملائكة بهذا التمجيد فيناجي اللّه تعالى قائلاً جهراً: «يا من تسبحه الأجناد السماوية المجسمة وغير المجسمة، الشمس والقمر وسائر الكواكب والأرض والبحار والأبكار المكتوبة في أورشليم السماوية، الملائكة ورؤساء الملائكة الرئاسات والسلاطين والعروش والسادات والأجناد، الكروبيم الكثيرة أعينهم والسرافيم المسدسة أجنحتهم الذين يحجبون وجوههم وأرجلهم ويطيرون الواحد إلى الآخر مقدّسين وهاتفين وقائلين قدوس».
الشعب يرتّل تسبحة الملائكة قائلين: «قدوس قدوس قدوس الرب القوي. لقد غمرت تسابيحك السموات والأرض المجد في العلى مبارك الذي أتى والآتي باسم الرب المجد في الأعالي». وخلال ذلك يرفرف الكاهن بيديه فوق الكأس والصينية ويقدّم سراً صلاة يمجّد بها الثالوث الأقدس ويذكر أن الآب السماوي خلق الإنسان من تراب الأرض ووضعه في الفردوس وإذ تعدى وصية اللّه سقط ولم يتركه اللّه ضالاً بل أرسل الأنبياء ليهدوه سواء السبيل وأخيراً أرسل ابنه الوحيد الذي تجسّد من الروح القدس ومن مريم العذراء وجدد مثال اللّه الذي كان قد أفسده الإنسان بالخطية، وهذه الصلاة السرية مع صلاة تقديس الملائكة للّه تعتبران مقدمة وتمهيداً لإعلان رواية الإنجيل المقدس لرسم الرب يسوع سرّ جسده ودمه الأقدسين حيث يتلو الكاهن بوداعة وتواضع ومخافة اللّه ما يدعى بالكلام الجوهري وهي الكلمات المقدسة التي دوّنها الإنجيل المقدس واصفاً رواية القداس الأول أي ما جرى في العشاء الرباني في العلية التي هي بيت مرقس ليلة آلام الرب يسوع، وما فاه به الرب يسوع حينذاك. ويقول الكاهن: «ولما كان مزمعاً أن يذوق الموت بإرادته عوضاً عنا نحن الخطاة ذلك المعصوم من الخطية أخذ خبزاً على يديه المقدستين» وهنا يأخذ الكاهن البرشانة من على الصينية بيده اليمنى ويضعها على راحة يده اليسرى ويضع يده اليمنى تحت يده اليسرى. عندما يلفظ كلمة «بارَكَ» يرفع يده اليمنى ويرسم على البرشانة علامة الصليب مرتين، وعندما يقول «وقدّسَ» يرسم عليها علامة الصليب مرة واحدة. وعندما يلفظ كلمة «وكسّرَ» يمسك البرشانة بأصابع يديه ويكسّرها جزئياً من الطرف الأعلى إلى نصفها دون أن يفصلها وبعد قوله «وأعطى تلاميذه القديسين قائلاً خذوا كلوا» يدني البرشانة من فمه، وعندما يقول «هذا هو جسدي الذي يبذل عنكم وعن كثيرين» يحدق بالبرشانة ملياً، ويحني رأسه إكراماً ورعدة وتعجباً وشكراً للّه الذي بذل ذاته لأجل خلاصنا نحن البشر الخطاة. ثم يدير الكاهن البرشانة نصف دورة نحو اليسار وعندما يقول «وكسّر» يكسّر النصف الثاني من البرشانة الذي بقي دون كسر ودون أن يفصل النصفين عن بعضهما يدنيها من فمه وبعد الانحناء بإكرام يضع البرشانة على الصينية.
ثم يأخذ الكاهن الكأس بيده اليسرى ويضع إصبع السبابة من يده اليمنى على طرف فم الكأس وهو يقول: «ثم أخذ الكأس أيضاً وبعد أن شكر بارك وقدّس وأعطى تلاميذه القديسين خذوا اشربوا منه كلكم هذا هو دمي الذي من أجلكم ومن أجل كثيرين يسفك، ويعطى لغفران الخطايا وللحياة الأبدية» فعندما يقول «بارك» يرسم علامة الصليب بيده اليمنى فوق فم الكأس مرتين، وعندما يقول «وقدّس» يرسم علامة الصليب مرة واحدة فوق فم الكأس، وعندما يقول «خذوا اشربوا منه كلكم» يضع إصبعه فوق فم الكأس ويدنيه من فمه كأنه يشرب منه. وعندما يقول «هذا هو دمي» يحني رأسه وهو يحدّق بالكأس برهبة وتعجب وإكرام، وعندما يقول «يُسكب» يدور فم الكاس مثل التزييح ثم يضعه في محله وحينما يذكر وصية الرب لتلاميذه قائلاً: «اصنعوا هذا لذكري حتى مجيئي» يأخذ الكاهن بيده اليمنى الملعقة ويضعها فوق الوسادة (رمز الرب الجالس على العرش وفي مجيئه الثاني يجلس على كرسي العدالة لدينونة العالم) ويلمس بالملعقة طرف الصينية والكأس بقوة حيث يسمع صوتها، رمز موت الرب يسوع وقيامته ومجيئه الثاني، ويرفعهما فوق كتفه اليمنى ثم يسيرهما بسرعة نحو المذبح ويضعهما عليه عن يمين الكأس، دلالة على أن مجيء الرب يسوع ثانية للدينونة يكون فجأة وبسرعة فائقة مثل وميض البرق الذي يلمع بنوره الباهر ويصحبه الرعد بصوته المدوّي، كقوله له المجد: «لأنه كما أنّ
البرق يخرج من المشارق ويظهر إلى المغارب هكذا يكون أيضاً مجيء ابن الإنسان» (مت 24: 27). ويأخذ الكاهن الكوكب ويضعه فوق الاسفنجة الموضوعة على المذبح عن يسار الكأس (وتمثّل
الاسفنجة الرحمة)، ويكمل الكاهن قول الرب: «اصنعوا هذا لذكري» (لو 22: 19 و1كو 11: 24و25) ويرتّل الشعب قائلاً: «إننا نذكر موتك يا ربنا ونعترف بقيامتك، وننتظر مجيئك الثاني. لتكن مراحمك علينا جميعاً».
ثم يتلو الكاهن صلاة موجهة إلى الرب يسوع قائلاً: «إننا نتذكر أيها الرب موتك وقيامتك بعد ايام ثلاثة وصعودك إلى السماء وجلوسك عن جانب اللّه الآب الأيمن ومجيئك الثاني الذي تدين فيه المسكونة دينونة عادلة موفياً كل نفس ما عملت، فمن أجل هذا نرفع إليك هذه الذبيحة غير الدموية لكي لا تعاملنا بحسب آثامنا ولا تجازِنا بما تستوجبه خطايانا. لكن تغمّد بجزيل رحمتك ذنوبنا نحن عبيدك فإن شعبك يتضرّع إليك مبتهلاً وميراثك يتوسل إليك ومعك لأبيك قائلاً: ارحمنا أيها الإله الآب الضابط الكل» (وإذا كان البطريرك أو أحد المطارنة حاضراً هو يبدأ هذا التضرع) وهنا يبسط الكاهن يديه إلى العلى ويكمل الشعب قائلاً: «ارحمنا أيها الإله الآب الضابط الكل إياك نسبّح وإياك نبارك ولك نسجد، ونبتهل إليك أيها الرب الإله فتعطّف علينا أيها الصالح وارحمنا» ويقول الكاهن سراً: «وأيضاً نحن عبيدك الضعفاء والخطاة نشكرك ونحمدك على رأفتك بنا وجميع مراحمك علينا».
- دعوة الروح القدس واستحالة الخبز والخمر إلى جسد الرب يسوع ودمه الأقدسين
بعد أن طلب الكاهن للشعب الرحمة والمغفرة من اللّه، يدعو الكاهن الروح القدس ليحلّ على الخبز والخمر ليستحيلا إلى جسد المسيح ودمه، فالشماس الذي بيده المجمرة يقدّمها إلى الكاهن ليضع البخور ويهزها الشماس وهو يقول جهراً: «ما أرهب هذه الساعة يا أحبائي وما أرعب هذا الوقت الذي فيه ينحدر الروح القدس نازلاً من السموات العالية. ويرف ويحلّ على هذا القربان الموضوع ويقدّسه فبهدوء ومخافة كونوا منتصبين ومصلّين… السلام لجميعنا والأمن لكلنا» والكاهن يتلو سراً وهو يرفّ بيديه فوق الكأس والصينية قائلاً: «ارحمنا أيها الإله الآب وأرسل روحك القدوس المساوي لك ولابنك بالمقام والملك والجوهر والأزلية، الروح الذي نطق (بالأنبياء والرسل) في العهد القديم والجديد وهبط على شبه حمامة على ربنا يسوع المسيح في نهر الأردن وحلّ على الرسل بالعلية بشبه ألسنة نارية».
إننا نؤمن أن استحالة الخبز والخمر إلى جسد الرب يسوع ودمه تتمّ عند تلاوة صلاة استدعاء الروح القدس، لا عند تلاوة آيات الإنجيل المقدس التي تسجّل حادثة تسليم الرب يسوع سرّ جسده ودمه الأقدسين في العلية ليلة آلامه.
بعد انتهاء الشماس من تنبيهه للمؤمنين للخشوع لأن الساعة رهيبة يتلو الكاهن تضرعه للرب باسطاً كف يده اليسرى وقارعاً باليمنى صدره([268]) قائلاً: «استجبني يا رب استجبني يا رب استجبني يا رب، أشفق علينا أيها الصالح وارحمنا» ويجيب الشعب: «قوريليسون يا رب ارحم» (ثلاث مرات)، ثم يبسط يده اليسرى ويرف بيده اليمنى على الكأس ويتلو العبارة الآتية: «لكي بحلوله يجعل هذا الخبز جسداً مانحاً الحياة، جسداً خلاصياً، جسد المسيح إلهنا». ثم يبسط كف يده اليسرى ويرف بيده اليمنى على الكأس ويقول: «لكي بحلوله يجعل هذا الخمر دم العهد الجديد، دماً خلاصياً، دم المسيح إلهنا» ويجيب الشعب: «آمين».
- التذكارات (الشملايات):
وهي الأدعية الستة التي يتلوها الشماس في أثناء القداس الإلهي ذكراً للأحياء والموتى.
الشملاية الأولى تذكار الآباء الأحياء دآبؤًةا:
يبسط الكاهن يديه ويتلو قائلاً: «لكي تقدّس هذه الأسرار متناوليها نفساً وجسداً…» ويقف الشماس وراء الكاهن وسط المذبح ويتلو الشملاية الأولى وهي الصلاة لأجل رؤساء الكنيسة الروحيين الأحياء البطريرك الأنطاكي السرياني الأرثوذكسي وبطريرك الاسكندرية للأقباط الأرثوذكس ومطران الأبرشية وغيره من المطارنة إن كانوا حاضرين كل واحد بحسب قدم رسامته ويبدأ الشملاية قائلاً: «نصلّي ونتضرّع…» ويختمها قائلاً: «لتكن صلاتهم سوراً لنا…» ويقول الشعب: «وإلى الرب نتضرّع قوريليسون». وأثناء تلاوة الشماس هذه الشملاية يذكر الكاهن سراً أحبار الكنيسة البطريرك باسمه ومطران الأبرشية باسمه والمطارنة الحاضرين والكهنة والشمامسة، ويرسم علامة الصليب على طرف الصينية من الجهة اليمنى عند ذكره كل واحد منهم.
الشملاية الثانية تذكار الإخوة المؤمنين الأحياء دآحًا مؤيمنًا آو دةيبوةا:
يبسط الكاهن يديه ويقول: «ونجنا ربنا من معاداة الناس الأشرار وهجمة الأبالسة وظلمهم جميعاً ومن كل آفة تصيبنا بسبب خطايانا واحفظنا في سنّة وصاياك المقدسة…» ويقول الشعب: «إلى الرب نتضرّع قوريليسون…» وأثناء ذلك يرسم الكاهن علامة الصليب على الطبليث من الجهة اليمنى خارج الصينية ويذكر من قُدِّم عنهم القداس الإلهي وكُلّف بأن يذكرهم من الإخوة الأحياء: المرضى، والتائبين، والمضطهدين، والمجربين، والمظلومين، والمحتاجين، ويقول سراً: «اذكر يا رب الآباء والإخوة…» ويختم الشماس الشملاية بعبارة «إلى الرب نتضرّع قوريليسون».
الشملاية الثالثة تذكار الملوك المؤمنين دملكًا:
يتلو الكاهن جهراً ما يأتي: «اذكر اللهمّ من ذكرناهم ومن لم نذكرهم وتقبل ذبائحهم في رحاب سمواتك، كافئهم ببهجة الخلاص واجعلهم لعونك أهلاً، عزّزهم بقوتك وسلّحهم ببأسك لأنك إله رؤوف وإليك نهدي حمداً وشكراً وإلى ابنك الوحيد وروحك القدوس الآن وكل أوان وإلى أبد الآبدين» ويتلو الشماس (شملاية تذكار الملوك المؤمنين)، وخلال ذلك يتلو الكاهن سراً: «إذكر يا رب الملوك والملكات المستقيمي الإيمان…» ويرسم علامة الصليب بإبهام يده اليمنى على الطبليث خارج الكأس والصينية وهو يذكر رؤساء البلاد وذلك امتثالاً لوصية القديس بولس القائل: «بأن تُقدم طلبات وتضرعات من أجل جميع البشر والملوك والذين هم في منصب» (1تي 2: 1 ـ 2).
الشملاية الرابعة وهي تذكار العذراء مريم والقديسين دقدًيشا:
يتلو الكاهن ويداه مبسوطتان قائلاً: «لأنك تخلّص جميع الذين عليك يتّكلون وتعينهم وتؤتيهم نصراً، ونهدي إليك التسبيح والشكران وإلى ابنك الوحيد وروحك القدوس…» ثم يتلو الشماس تذكار العذراء القديسة مريم والقديسين. وخلال ذلك يذكر الكاهن سراً العذراء مريم وهو يرسم علامة الصليب على طرف الصينية من جهة الشرق ويذكر الآباء القديسين والأنبياء وهامتي الرسل مار بطرس ومار بولس ويوحنا المعمدان واسطيفانوس رئيس الشمامسة وبكر الشهداء وجميع الأبرار ويرسم علامة الصليب على طرف الصينية من جهة الغرب عند ذكر كل واحد منهم.
ومما يجدر ذكره هنا أننا بسلطاننا الرسولي رسمنا في 20/10/1987 أن يذكر في كنائسنا في الهند والكنائس المخصصة لعبادة أبنائنا السريان الهنود في جميع أنحاء العالم اسم القديس مار توما الرسول الذي نشر البشارة الإنجيلية في الهند وذلك بعد اسمي الرسولين مار بطرس ومار بولس.
ويختم الشماس الشملاية بقوله: «لتكن صلاتهم معنا وإلى الرب نتضرّع قوريليسون».
الشملاية الخامسة تذكار الآباء والملافنة والنساك القديسين دآبؤًةا:
يتلو الكاهن ويداه مبسوطتان قائلاً: «نبتهل إليك اللهمّ يا من أنت قدير على كل أمر عسير أن تضمّنا إلى جموع الأبكار المكتوبة في السماء فنذكرهم ليذكرونا أمامك ويشاركونا بهذه الذبيحة الروحانية، أمناً للأحياء وتشجيعاً لنا نحن الضعفاء وراحة للموتى المؤمنين آبائنا وإخوتنا ومعلمينا بنعمة ابنك الوحيد ورحمة روحك الكلي قدسه الصالح والمسجود له والمحيي والمساوي لك في الجوهر الآن وكل أوان وإلى أبد الآبدين»، ويتلو الشماس شملاية الآباء: «ولنذكر أيضاً الذين تقدموا فرقدوا بقداسة…» وهنا يذكر آباء المجامع المسكونية الثلاثة: «نيقية وقسطنطينية وأفسس وبعض آباء الكنيسة الراقدين بالرب…». والكاهن خلال ذلك يتلو سراً دعاء يطلب فيه من الرب أن يذكر الرعاة الملافنة الذين نشروا بشارة الرب في المسكونة بدءاً من يعقوب أسقف أورشليم وحتى اليوم. ويرسم الكاهن بإبهام يده اليمنى خارج الطبليث من الجهة اليمنى علامة الصليب كلما ذكر الشماس اسم أحد الآباء القديسين.
ولا بدّ أن نذكر ههنا أنه بناء على اقتراح مجمعنا المكاني المقدس في الهند رسمنا في 20/10/1987 أن يذكر في كنائسنا الخاصة بشعبنا السرياني الأرثوذكسي الهندي في جميع أنحاء العالم أن يذكر بعد ذكر اسم مار أبحاي اسم القديسين البطريرك الياس الثالث والمفريان باسيليوس يلدو والمطران مار غريغوريوس باروميلا.
ويختم الشماس تلاوة الشملاية بقوله: «لتكن صلاتهم معنا إلى الرب نتضرّع قوريليسون».
الشملاية السادسة تذكار الموتى المؤمنين دعنيدًا مؤيمنًا:
يتلو الكاهن الصلاة الآتية: «ثبّت في نفوسنا تعليم أئمة الحق الملافنة الذين أذاعوا اسمك القدوس في الأمم والملوك وبني اسرائيل…».
ثم يتلو الشماس: «شملاية تذكار جميع الموتى المؤمنين الذين تقدّموا فانتقلوا من هذا المذبح ومن هذه البيعة وهذا البلد ومن كل البلاد والنواحي…».
أثناء ذلك يتلو الكاهن سرّاً قائلاً: «اذكر يا رب كل طغمة الإكليروس الذين بالإيمان المستقيم…» وهنا يذكر الراقدين على رجاء الإيمان الحقيقي وخاصة الذين من أجلهم قُدِّمت هذه الذبيحة ويرسم بإبهام يده اليمنى على الصينية علامة الصليب عند ذكر اسم كل واحد منهم، فيرسم علامة الصليب في الطرف الأعلى من الصينية عند ذكر القديسة مريم العذراء والدة اللّه ويرسم علامة الصليب في الطرف السفلي من الصينية عند ذكر اسمي القديسين بطرس وبولس وفي الجانب الأيسر عند ذكر بقية القديسين ثم الأيمن عند ذكر الموتى وينهي الشماس الشملاية بطلب الرحمة لهم ثم يقول: «قوريليسون» ثلاث مرات.
ثم يتلو الكاهن جهراً قائلاً: «أيها الرب ربنا إله الأرواح والأجساد اذكر جميع الذين رحلوا عنا وهم على الإيمان المستقيم ونيّح أجسادهم ونفوسهم وأرواحهم منجياً إياهم من الشجب الأبدي. نعّمهم حيث يتلألأ نور وجهك متغمداً ذنوبهم وغير محاكم إياهم لأنه ليس بريء أمامك ممن لبس الجسد سوى ابنك الوحيد الذي بجاهه نحن أيضاً نرجو الحظوة بالرحمة والمغفرة لنا ولهم». فيقول الشماس: «آنيح وحسا وشبوق ءلؤا لشوإعةا ديلن وديلؤون آيلين دحطينن قدميك بأبينا ودلا بأبينا بيدعةا ودلا بيدعةا أرِح اللهمّ واغفر وتغمّد خطايانا وخطاياهم التي اقترفناها أمامك بإرادة وبغير إرادة بمعرفة وبغير معرفة» ويقول الكاهن سراً: «نيّح واغفر يا اللّه خطايانا الظاهرة والخفية المكشوفة لديك التي اقترفناها بالفكر والقول والعمل».
ثم يقول الكاهن علناً: «واحفظنا حتى انقضاء حياتنا بغير خطية واجعلنا عند أقدام أصفيائك متى وحيثما وكيفما شئت فقط بدون هوان خطايانا…».
الشماس: «آيكنا دآيةوؤي ؤوا وآيةوؤي مكةر لدردإين ولكلؤون دإا دعلمًي علميًن آمين بركمري» وتعريب ذلك: «كما أنه كان وهو كائن، هكذا سيبقى إلى دهر الداهرين وفي سائر الأجيال، إلى أبد الآبدين آمين».
ويقول الكاهن: «السلام لجميعكم».
ويجيب الشعب: «ومع روحك أيضاً».
الكاهن يضع إصبعه السبابة ليده اليمنى على طرف الصينية ثم على قاعدة المذبح ويرسم علامة الصليب على ذاته ثم على الجهة اليسرى فالجهة اليمنى، ثم يلتفت إلى الشعب من الجهة اليمنى ويده اليسرى على المذبح (وإذا كان البطريرك أو أحد المطارنة حاضراً ينزل رجله اليمنى من على درجة المذبح) ويقول: «لتكن مراحم اللّه العظيم ومخلصنا يسوع المسيح مع جميعكم إخوتي إلى الأبد» وخلال ذلك يرسم علامة الصليب بيده اليمنى على الشعب. أما البطريرك أو المطران إذا كان أحدهما يحتفل بالقداس فيمسك بيده اليمنى الصليب ويبارك به وبيده اليسرى العكاز والمطران لا يمسك العكاز بحضور البطريرك.
وعند الانتهاء من مباركة الشعب يسدل الستار الذي على باب المذبح ويرتّل الشعب ترنيمة مناسبة ويشرع الكاهن وراء الستار برتبة القصي والرشم أي كسر إحدى القربانات المقدسة وتجزئتها ورشم الجسد المقدس بالدم الأقدس والدم بالجسد. (وإذا كانت في الصينية أكثر من برشانة فيرشمها كلها بالدم الأقدس).
- رتبة القصي
إلى عهد البطريرك الأنطاكي مار جورجي (790+) كان الكاهن عند قيامه برتبة القصي يقول: «لحما شمينا قأينن نكسر الخبز السماوي» ولكن بعد أن نشب خلاف في الكنيسة بسبب هذه العبارة أسقطت من طقس القداس واستبدلت بغيرها ثم ألّف مار ديونيسيوس يعقوب ابن الصليبي (1171+) صلاة القصي التي تستعملها كنيستنا بالسريانية حتى اليوم. وهي:
ؤكنا شريرآية حش ملةا ءلؤا ببسر، وآةدبح وآةقأي بزقيفا، وآةفرشة نفشؤ من فجرؤ، كد ءلؤوةؤ لا سك آةفرشة لا من نفشؤ ولا من فجرؤ. وآةدقر÷ بدفنؤ بلوكيةا وردو منؤ دما وميًا حوسيا لكلؤ علما. وآةفلفل÷ بؤون فجرؤ قديشا. وحلف حطيةا دحودرؤ دعلما، مية÷ برا بزقيفا، وآةة؛ نفشؤ وآةحَيدَة؛ لفجرؤ، وآفني لن من دوبرا سِمُليا ليمينيا، وشَيِن بدما دقنومؤ وحَيِد وَآلوِة لشمينًا عم آإعنيا، ولعما عم عممًا، ولنفشا عم فجرا، وليوما ةليةيا قم من قبرا، وحَد ؤّو عمنوآيل ولا مةفلج من بةر حديوةا لا مةفلجنيةا لةرين كينًين. ؤكنا مؤيمنينن وؤكنا مودينن وؤكوة مَشرينن: دؤنا فجرا، دؤنا دما آيةوؤي. وؤنا دما دؤنا فجرا آيةوؤي.
وفيما يأتي ترجمتها العربية بتصرف:
«هكذا بالحقيقة تألّم كلمة اللّه بالجسد، وذبح وكسّر على الصليب وانفصلت نفسه عن جسده إلاّ أنّ لاهوته لم ينفصل قط لا عن نفسه ولا عن جسد. وطعن في جنبه بالحربة وجرى منه دم وماء غفراناً لكل العالم وضمخ بهما جسده المقدس وعادت نفسه واتحدت بجسده ومن أجل خطية العالم كله مات الابن على الصليب وقادنا وأرجعنا من الأعمال الشريرة إلى الأعمال الصالحة وسالم بدم أقنومه ووحد السماويين مع البشر، والشعب مع الشعوب والنفس مع الجسد. وفي اليوم الثالث قام من القبر. واحد هو عمانوئيل ولا ينقسم من بعد الوحدة غير قابلة الانقسام ولا يجزأ إلى طبيعتين. هكذا نؤمن وهكذا نعترف وهكذا نؤيّد أن هذا الجسد هو لهذا الدم وهذا الدم لهذا الجسد».
وفي أثناء القصي أيضاً يتلو الكاهن طلبة من نظم مار يعقوب السروجي (521+) الذي يتخيّل مأساة ذبيح الصليب الرب يسوع المسيح المعلق فوق أعالي الجلجلة خارج المدينة المقدسة، فيخاطب الملفان الآب السماوي الذي هو الحق وكأني به يريد أن يلفت نظره إلى ابنه الذي تألّم وصلب ومات ليفي العدل الإلهي حقه قائلاً:
آبا دقوشةا
|
ؤا برك دِبحا
|
دمرَعِا لك
|
لؤنا قبل
|
دحلفَي مية
|
وآةحَسِا بؤ
|
ؤن قوربنا
|
سب من آيدًي
|
وآةرعُا لي
|
ولا ةةدكر لي
|
حطُؤًا دسعرة
|
قدم ربوةك÷
|
ؤا دمؤ َآشيد
|
عل ججولةا
|
من عَوًلا
|
وبعا حلفَي
|
قَبل بعوةي
|
مطلةؤ
|
كما لي حَوبًا
|
كما لك إحما
|
آن ةُقل آنة
|
حننك نُةَع
|
طب من طوإا
|
دةقيلين لك÷
|
حور بحطؤًا
|
وحور بعلةا
|
دحلفيؤون
|
دسَجي ربا
|
علُةا ودِبحا
|
من حوبًةا
|
مطل دحطية
|
أأًا ورومحا
|
سبل حبيبك
|
سفقين حَشوًؤي
|
دَنرَعونك
|
وبؤون ٍآحِا÷
|
وهذه ترجمتها العربية: «يا أبا الحق هوذا ابنك قد صار ذبيحة (كفارية) ليرضيك، فاقبل هذه الذبيحة فقد مات (ابنك) من أجلي فليغفر بوساطته ذنبي، واقبل هذا القربان من يدي (أنا الضعيف) وارضَ عني ولا تذكر خطاياي التي اقترفتها ضد جلالك إذ سُفك دم (ابنك) الأقدس على الجلجلة بأيدي الأثمة، وهو يشفع فيّ لديك فاقبل ربنا شفاعته. إن آثامي كثيرة وكثيرة جداً ولكن مهما كانت جسيمة فإن مراحمك أعظم منها يا رب. فلو وزنت هذه المراحم لرجحت على الجبال الرواسي. فانظر يا إلهي تارة إلى الخطايا، وتأمل تارة أخرى في الذبيحة التي تقدّم عنها. إن الذبيحة لأعظم بكثير من الذنوب. فمن أجل خطيتي تحمّل حبيبك المسامير بكفيه وقدميه والحربة بجنبه، فتكفي آلامه أن ترضيك وتهب لي الحياة».
هكذا بإلهام الروح القدس فهم آباء الكنيسة عقيدة الفداء التي تسلّموها من الرسل الأطهار ورأوا في موت ربنا يسوع المسيح على الصليب الوسيلة الوحيدة للخلاص. كما أن قيامته أيضاً حسبما يعلمنا هؤلاء الآباء كانت ضرورية جداً لإثبات صدق رسالته الإلهية وما أنبأ به المسيح تلاميذه وأعداءه عن آلامه المحيية وموته الكفاري على الصليب وقيامته من بين الأموات قبل حدوث ذلك بمدة مديدة. كما أن قيامته من بين الأموات أثبتت قبول أبيه السماوي ذبيحته الإلهية كفارة عن خطايا البشرية.وأعلنت انتصاره على أعداء البشرية الخطية والموت وإبليس اللعين.
كيفية قيام الكاهن برتبة القصي:
عندما يقول الكاهن (هكذا بالحقيقة تألم كلمة اللّه بالجسد) يتناول الجسد المقدس بين أنامل يديه. وعندما يقول (وذبح) يفصل طرف الجسد (البرشانة) الأعلى من الوسط. وعندما يلفظ كلمة وآةقأي (وكسر في الصليب) يفصل الجسد (البرشانة) إلى قطعتين إلا الطرف الأخير. وعندما يلفظ (وانفصلت نفسه عن جسده) يفصل القطعتين عن بعضهما. وعندما يقول (إلاّ أن لاهوته لم ينفصل قط لا عن نفسه ولا عن جسده) يوصلهما ثانية ويأتي بهما إلى فم الكأس ثم يفصلهما عن بعضهما البعض. وعندما يقول (وطعن في جنبه بالحربة) يأخذ النصف الذي بيمينه ويمس بطرفه الدم المقدس ويطعن بهذا الطرف المبلول وسط القطعة التي بيساره. وعندما يقول: (وجرى منه دم وماء) يجعل الطرف المبلول في منتصف القطعة الثانية التي بيده اليسرى ثم في أعلاها ثم في أسفلها ثم عن شمالها ويمينها وذلك ليكون شبه صليب. وعندما يقول (وتضمخ جسده المقدس) يغمس قطعة الخبز بالكأس ويضمخ البرشانة. وعندما يقول (وعادت نفسه واتحدت بجسده) يوحّد النصفين ببعضهما بعضاً. وعندما يقول (عوضاً عن خطية العالم) يديرها نصف دورة نحو شمال المذبح. وعندما يقول (مات الابن على الصليب) يأخذ النصف الثاني الذي بيمينه ويغمس طرفه في الكأس بعد أن يرسم علامة الصليب به فوق الكأس ويأتي به إلى القطعة الثانية يلمسها من أعلاها ووسطها وأخيرها وشمالها ويمينها شبه صليب. وعندما يقول (وردّنا من التصرف الشرير إلى السلوك السليم) يديره نصف دورة نحو يمين المذبح. وعندما يقول (وسالم بدم اقنومه ووحد السماويين مع البشر والشعب ـ شعب العهد القديم ـ مع الشعوب والنفس مع الجسد وفي اليوم الثالث) يجعله بين أنامل يديه مقابل صدره. وعندما يقول (قام من القبر) يرفعه فوق أعلى رأسه. وعندما يقول (هكذا نؤمن) ينزله قليلاً. وعندما يقول (وهكذا نعترف) ينزله قليلاً أيضاً. وعندما يقول (وهكذا نقرّ) ينزله إلى أن يصل فوق الصينية. وعندما يقول (بأن هذا الجسد هو لهذا الدم) يضع النصفين بين أصابع يده اليسرى ويفصل من أعلى النصف الأول قطعة ويلقيها في الكأس. عندما يقول (وهذا الدم هو لهذا الجسد) يفصل من أعلى النصف الثاني قطعة يمسّ بها الدم المقدس ويأتي بها ويمسّ محل النصفين اللذين قطع منهما القطعتين.
ويكمّل الكاهن رتبة القصي ويقطع جزءاً من أسفل كل نصف من النصفين، فيجعل البرشانة في الصينية على شكل جسد إنسان مصلوب ويسمى في هذا الشكل زقيفوةا أي الصلبوت. أما في عيد بشارة السيدة العذراء بالحبل الإلهي وعيد الميلاد المقدس وخميس الفصح… فيكون قصي البرشانة مختلفاً عن العادة حيث يقسمها الكاهن إلى نصفين ثم يفصل من أعلى كل منهما قطعة يضع إحداها في الكأس ويغمس الأخرى في الخمر الذي في الكأس المحوّل إلى دم المسيح ويمسح به البرشانة وتسمى في هذا الشكل (آمرا) أي الحمل ويقول: «آنة ؤو مشيحا ءلؤا ذو دآةدقر بروما دججولةا باورشلم بدفنؤ مطلةن÷ آنة ؤو آمرؤ دءلؤا ذو دشقل حطيةؤ دعلما وفرق لؤ÷ آنة حسا حوبيًن وشبوق حطؤيًن وآقيمن من جبا ديلك ديمينا» وتعريب ذلك: «أنت هو المسيح الإله الذي طعن بالحربة في أعلى الجلجلة في أورشليم من أجلنا». وعندما يقول ذلك يرفع الصينية بيده اليسرى ويأخذ بيده اليمنى القطعة المنفصلة الموضوعة فوق أعلى الجسد المقدس ويأتي بها إلى فم الكأس ويرسم بها علامة الصليب ويغمسها في الصينية مبتدئاً من اليمين وينتهي إلى الشمال بشكل صليب. ويكمل قائلاً (أنت هو حمل اللّه الرافع خطايا العالم، امحُ ذنوبنا واغفر خطايانا وأقمنا عن جانبك الأيمن) ويقوم بنفس ما قام به سابقاً ولكن يبتدئ في هذه المرة من الشمال وينتهي إلى اليمين ثم يضع قطعة الجسد موضع الرأس ويضع الصينية في محلها ويغسل أنامله بالماء الموضوع بالطاسة وينشّفها.
وأثناء رتبة القصي التي يقوم بها الكاهن سراً في المذبح والستار قد أسدل يرتل الشعب أو الشمامسة ترتيلة (لوطونيا) القاثوليق وفق ما يناسب ذلك اليوم أو العيد أو التذكار كما هو معين في كتاب الطقس المختص بالشمامسة.
بعد الانتهاء من رتبة القصي يقول الشماس: «إلى الرب نتضرّع…» ويفتح الستار من على باب الهيكل، فيبدأ الكاهن يتلو الصلاة التي تتقدم تلاوة الصلاة الربية باسطاً يديه وقائلاً: «اللهم يا أبا ربنا… ونصلي قائلين أبانا الذي في السموات» (إذا كان البطريرك أو مطران حاضراً هو الذي يفتتح الصلاة بقوله: «أبانا الذي في السموات») فيكمّل الشعب: «ليتقدّس اسمك ليأتِ ملكوتك لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض، أعطنا خبزنا كفافنا اليوم، واغفر لنا ذنوبنا وخطايانا كما نحن نغفر لمن أخطأ إلينا ولا تدخلنا في التجربة لكن نجنا من الشرير» وتختم كنيستنا السريانية الصلاة الربية بعبارة: «لأن لك الملك والقوة والتسبحة إلى أبد الآبدين آمين» وهذه العبارة وهي مدوّنة في إنجيل متى بالسريانية بحسب الترجمة البسيطة، كما هي موجودة في الترجمة العربية (مت 6: 13).
وبعد تلاوة الصلاة الربية يدعو الكاهن اللّه تعالى لينجيه وينجّي الشعب من التجارب قائلاً: «أجل أيها الرب إلهنا لا تمتحنا بما لا نقوى على احتماله لكن نجّنا من الشرير ممهداً لنا من المحنة خلاصاً، فنسبحك ونشكرك وابنك الوحيد وروحك الكلي قدسه الصالح والمسجود له والمساوي لك في الجوهر…».
ويقول الشماس: «آمين».
ويقول الكاهن: «السلام لجميعكم» وهو يشير بيده اليمنى من فوق كتفه إلى الشعب ليحييه.
ويجيب أحد الشمامسة بالنيابة عن الشعب قائلاً: «عم روحا ديلك من قدم نسيبوةا دآإزا ؤلين قدًيشا وءلؤًيا دآةقربو. ةوب قدم مريا مرحمنا إيشين نركن قدميك مرن وءلؤن. ومع روحك أيضاً، قبل تناول هذه الأسرار المقدسة الإلهية التي قدمت فلنحنِ هاماتنا أمام الرب الرحيم، أمامك يا ربنا وإلهنا».
ثم يرفع الكاهن هذا الدعاء إلى اللّه قائلاً: «أمامك طأطأ رؤوسهم عبيدك المترجون رحمتك الجزيلة فاسبغ يا رب بركاتك وقدّس أجسادنا ونفوسنا وأرواحنا جميعاً وأهّلنا لتناول أسرار المسيح مخلصنا المحيية فنحمدك ونشكرك وابنك الوحيد وروحك القدوس…».
يؤيّد الشعب ويشارك الكاهن بهذا الدعاء قائلاً: «آمين».
ويحيي الكاهن الشعب قائلاً: «السلام لجميعكم» وهو يشير إليه بيمينه من فوق كتفه اليسرى.
ويجيب الشعب قائلاً: «ومع روحك أيضاً».
ثم يضع الكاهن إصبعه على فم الكأس ثم الصينية ثم المائدة، ويرسم علامة الصليب على ذاته ثم على جهة اليسار ثم على جهة اليمين ويلتفت نحو جهة اليمين إلى الشعب ويباركه بقوله: «ةؤوا طيبوةا دةليةيوةا قديشةا ومشبحةا، لا بريةا آيةييةا ومةوميةا سجيدةا وشوية باسيا عم كلكون لعلمين» وتعريب ذلك: «لتكن نعمة ومراحم الثالوث الأقدس الممجد وغير المخلوق، الأزلي السرمدي، المسجود له المتساوي في الجوهر مع جميعكم إخوتي إلى الأبد».
ثم يمسك شماسان شمعتين موقدتين ويقفان على جانبي مائدة الحياة، ويبدأ أحدهما الترتيل قائلاً: «آمين بركمري بدحلةا وبرةيةا نحور بارك يا سيدي، لنتطلّع بروح العبادة والورع» فيجيب الآخر: «حوس مريا ورحمعلين وعدرين ترحّم يا رب علينا وارحمنا» يقول الكاهن: «قودًشا لقدًيشا ولدًكيا زدق دنةيؤبون بلحود الأقداس للقديسين والأنقياء فقط» (حينئذ يمجّد الشماسان الثالوث الأقدس وكأني بهما يعلنان أننا لا نستحق حقاً أن نتناول الأقداس ولكننا لا نتكل على برّنا الذاتي بل على قداسة الثالوث الأقدس مقدسنا) ويرفع الكاهن الصينية بيديه حتى مستوى وجهه ويدوّرها من اليسار إلى اليمين وخلال ذلك يقول أحد الشماسين الواقفين على جانبي مائدة الحياة: «آب واحد قدوس» ويحرك الكاهن الصينية إلى الشرق ثم إلى الغرب والشمال والجنوب على شبه صليب ثم يدورها من اليسار إلى اليمين، ويقول الشماس الآخر: «ابن واحد قدوس» فيحرك الكاهن الصينية ثانية على شبه صليب. وعندما يقول الشماس: «روح واحد قدوس» يضع الكاهن الصينية على الطبليث ويمسك الكأس ويحركه على شبه صليب ثم يدوّره وعندما يقول الشماس: «آمين بركمري شوبحا لابا ولبرا ولروحا حيا قديشا آمين بارك يا سيد، المجد للآب والابن والروح الحي القدوس» يحرك الكاهن الكأس على شبه صليب. ثم يأخذ الصينية بيده اليمنى والكأس بيده اليسرى ويضع يده اليمنى فوق يده اليسرى ويقول: «حد آبا قديشا عمن دجبلؤ لعلما بحننؤ واحد هو الآب القدوس معنا الذي خلق العالم برحمته» ويقول الشعب: «آمين». ويكمل الكاهن قائلاً: «حد برا قديشا عمن دفرقؤ لعلما بحشًا يقيإا دقنومؤ واحد هو الابن القدوس معنا الذي خلّص العالم بالآلام الجليلة التي تحمّلها بذاته»، الشعب: «آمين». ثم «حد روحا حيا قديشا عمن دآيةوؤي جمورا دكل مدم دَؤوُا وَدؤُوِا نؤوا شمؤ دمريا مبرك من علم وعدما لعل علمين آمين واحد هو الروح القدس مكمّل جميع ما كان ويكون، ليكن اسم الرب مباركاً من الآن وإلى أبد الآبدين»، الشعب: «آمين».
ثم يغطي الكاهن الصينية والكأس وينزل من درجة المذبح ويقبّل يمين البطريرك أو المطران إن وجدا ويقف أمام مائدة الحياة. ثم يرتّل الشعب ترنيمة: «بقوإبنا وبألوًةا» الخ. ثم ةشمشةا ديلدة ءلؤا و ةشمشةا دقديشًا ثم ةشمشةا دعنيدًا أو عوضاً عن هذه كلها يقال بقيمةؤ دملكا مشيحا أو بمولدؤ… الخ، حسب المناسبة الطقسية.
ثم تقدّم العظة وبعدئذ يقبل الكاهن الإنجيل ويمين البطريرك أو المطران إن وجدا وينحني أمام مائدة الحياة ويبسط يديه ويضعهما على صدره ثلاثاً قائلاً: «آحيً وشركا» ونحو الشعب والشمال ويأتي ويجثو أمام مائدة الحياة ويتلو جؤنةا صلاة توبة وتضرع قبل أن يتناول القربان المقدس: «آشوا لن وشركا أهّلنا» ثم يرتقي الدرجة مقبّلاً مائدة الحياة في وسطها وجانبيها ويسدل الشماس الستار على باب المذبح، ويرفع الكاهن غطاءَيْ الصينية والكأس ويأخذ الملعقة بيده اليمنى والوسادة بيده اليسرى ويخرج من الكأس قطعة الجسد المقدس التي ندعوها جمرة التي كان قد وضعها في الكأس أثناء القصي ويتناولها قائلاً: «لك آحد آنا وشركا أتناولك» ويتناولها واضعاً الوسادة تحت الملعقة أثناء التناول احترازاً منه لئلا يتناثر ويسقط من (الجمرة) ـ أي قطعة الجسد ـ شيء على المذبح. ثم يأخذ من الصينية بالملعقة القطعة المفصولة عن الجسد العالية، ويلقيها في الكأس ويملأ الملعقة من الدم المقدس ويدنيها من فمه والوسادة تحتها ويتناولها وهو يتلو قائلاً: «بدمك» وإذا وجد كهنة أو شمامسة أو رهبان مستعدون للمناولة فيناولهم. يتناول الكاهن من القربان أولاً أسوة بتناول الرب يسوع من سر جسده ودمه الأقدسين قبل تلاميذه.
وبعدئذ يقول الكاهن: «نزعق ونامر لنهتف ونقول» ثم يرفع الشماس الستار عن باب المذبح ويتلو الشماس قائلاً: «سجيد ومشبح… مسجود وممجد الآب والابن والروح القدس من الأزل وإلى دهر الداهرين له المجد هاليلويا». الشماس الآخر: «قعو عليًا وشركا صرخ العلويون».
يلتفت الكاهن نحو الشعب وبيمينه الصينية وبيساره الكأس وينزل من على الدرجة من الجهة اليسرى جاعلاً يمينه فوق شماله شبه صليب وهو يقول: «من مدبحك من مذبحك الغافر ينحدر الغفران لعبيدك يا ابن اللّه يا من أتيت من أجل خلاصنا وعتيد أن تأتي أيضاً من أجل انبعاثنا وتجديد جنسنا إلى أبد الآبدين». يقول الشعب: «آمين» ثم يقول الكاهن: «فشوط مريا يمينك… ابسط أيها الرب الإله يمينك غير المنظورة وبارك هذا الجمع الساجد الذي يتناول جسدك ودمك الثمين للحظوة بغفران الذنوب والصفح عن الخطايا وبياض الوجه أمامك ربنا وإلهنا إلى أبد الآبدين آمين» وهنا يبسط يديه ويعمل بيمينه علامة الصليب، ثم يقول الكاهن: «نؤوون إحموؤي دءلؤا لتكن مراحم اللّه العظيم على حاملي هذه الأسرار وعلى مناوليها ومتناوليها وعلى كل من تعب واشترك فيها في العالمين إلى أبد الآبدين آمين».
ثم يرتل الشماس أو الشعب: «مرن آةرحمعلين مرن حوس ورحمعلين. لالؤا شوبحا بروما وليلدةؤ رومرما ولسؤدًا كليل قولسًا لعنيدًا حننا وإحما ؤللويا». (وفي المناسبات تقال أبيات لزياح البطريرك ومطران الأبرشية والمطارنة الحاضرين).
ثم يبسط الكاهن يديه ويقول: «شوبحا لك شوبحا لك مرن وءلؤن وفروقا ديلن يشوع مشيحا شوبحا لك فجرك قديشا دآكلنن ودمك محسينا دآشةينن لا لدينا ولا لةبعةا نؤوا لن آلا لحيًا دلعلم ولفورقنا دكلن ورحمعلين» وتعريبها: «سبحانك سبحانك ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح إلى الأبد سبحانك، جسدك المقدس الذي أكلناه ودمك الغافر الذي شربناه لا يكونا لنا دينونة وانتقاماً بل حياة أبدية وخلاصاً لنا جميعاً وارحمنا» وبعد الانتهاء من ذلك يلتفت نحو مائدة الحياة والشماس أو الشعب يرتل: «لك ةبروك وةسجود ةآبيل…» الكاهن يضع الكأس والصينية على الطبليث في المذبح ويتلو: «مودينن لك… نشكرك يا رب لأنك بجزيل رحمتك جعلتنا للاشتراك بمائدتك السماوية أهلاً…»
الشماس: «آمين».
الكاهن: «شلما لكلكون السلام لجميعكم».
الشماس: «عم روحا ديلك ومع روحك أيضاً، بعد تناول هذه الأسرار المقدسة الإلهية التي وهبت لنا فلنطأطئ رؤوسنا أمام الرب الرحيم، أمامك يا ربنا وإلهنا».
الكاهن: «ءلؤا ؤو ربا وةميؤا أيها الإله العظيم الذي تُحارُ فيه العقول يا من طأطأ السموات منحدراً في سبيل خلاص جنسنا البشري، أشفق علينا وارحمنا لكي نسبحك دائماً ممجدين اللّه الآب والدك وروحك القدوس الآن وكل أوان وإلى أبد الآبدين».
الشعب: «آمين».
الكاهن: «برك كلن ءلؤن نطر كلن بروين آورحا دحيًا حوا لن معدرنا مريا ؤوي لن».
الشماس: «ؤب لن وآشوا لن ونشمعيوؤي لؤو قلا، ةو عولو بإيكوؤي دآبي ويرةو ملكوةا».
الكاهن يلتفت نحو الشعب ويرسم علامة الصليب ويصرف المؤمنين وهو يقول: «زلون بشلما آحيًن»، وتعريبه: «امضوا بسلام يا إخوتنا وأحباءنا إذ نستودعكم لنعمة الثالوث الأقدس ورحمته مع الزوادة والبركات التي أخذتموها من مذبح الرب الغافر (اذهبوا جميعكم بسلام) البعيدين منكم والقريبين، الأحياء منكم والموتى (أي أرواح المنتقلين إلى السماء التي تحضر القداس الإلهي كما كانت معتادة يوم كانت ضمن الأحياء بالجسد) المخلّصين بصليب الرب المنتصر والموسومين بسمة المعمودية المقدسة، فليغفر الثالوث الأقدس خطاياكم وخطايا أمواتكم وأنا عبد اللّه الضعيف والخاطئ أنال عوناً ورحمة بدعواتكم. اذهبوا بسلام مبتهجين ومسرورين وصلوا لأجلي».
الشعب أو الشماس: «مريا نقبل قوربنك ليقبل الرب قربانك».
الشمامسة: «ذو دنوإنا ذاك الذي يفزع النورانيون منه…» ثم يسدل الستار.
ثم يناول الكاهن القربان المقدس للراغبين في التناول والمستعدين جسداً وروحاً لذلك، ثم يتناول الكاهن ما بقي من القربان بعد أن يضع جزءاً منه في (بيت القربان) على المذبح محتفظاً به ليناول من يحتاج إلى التناول من المرضى في دورهم. وكان المؤمنون في الماضي إذ يشتركون بالقداس الإلهي يشتركون أيضاً بتناول القربان المقدس.
وكان المؤمنون قديماً يتناولون القربان المقدس قبل الرفعة الأخيرة أي قبل أن يقول الكاهن: «سبحانك سبحانك…، جسدك المقدس الذي أكلناه ودمك الغافر الذي شربناه لا يكونا لنا دينونة وانتقاماً بل حياة أبدية وخلاصاً لنا جميعاً وارحمنا»، وابتدأت هذه الممارسة تعود إلى طقس القداس في بعض كنائسنا، وهذا جيد.
رجل النهضة والإصلاح
في كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية في القرن العشرين للميلاد
مار إغناطيوس أفرام الأول برصوم (1957) )*(
نبذة مختصرة في ترجمة حياته
تعد ترجمة حياة هذا العلم صفحة مشرقة من صفحات تاريخ الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، التي كان رئيسها الأعلى في العالم أجمع، مدة ربع قرن من الزمان، ويعد أبا الإصلاح فيها. ولا مجال لنا في هذه العجالة أن نتناول بالدرس ما قام به من أعمال مجيدة في سبيل تقدمها وازدهارها، لذلك سنوجز القول في ملامح حياته، وأسماء أهم مؤلفاته المطبوعة منها والمخطوطة، ليطلع القارئ الكريم على مكانته العلمية العالية.
ـ ولد في الموصل عام 1887م. ودرس فيها مبادئ العلوم، وقد وهبه اللّه ذكاء وقاداً، فأتقن اللغات: العربية، والسريانية، والتركية، والفرنسية.
ـ أكمل دراسته في مدرسة دير الزعفران بماردين الذائعة الصيت في رقيها وعزها، فتبحّر في التاريخين الديني والمدني، وعلم اللاهوت، والمنطق، وألمَّ باللغات الإنكليزية، واللاتينية، واليونانية.
ـ رسم راهباً عام 1907، وفي السنة التالية رقّي إلى درجة الكهنوت.
ـ رأس عام 1911 مطابع دير الزعفران، وطبع فيها مؤلفات قيمة له ولغيره من رجال الكنيسة.
ـ قام عام 1913 بجولته العلمية الأولى، للاطلاع على نفائس المخطوطات المحفوظة في خزائن الكتب في الأديار والكنائس في الشرق، وفي مكتبات أمهات مدن أوربا.
ـ انصرف إلى دراسة العلوم والفلسفة على أيدي أساتذة متضلعين.
ـ رسم عام 1918 مطراناً على سوريا باسم مار سويريوس أفرام، وأضيف إلى رئاسته الروحية، فيما بعد لبنان.
ـ قام عام 1919 بجولته العلمية الدينية الثانية في أوربا، موفداً من سلفه الطيب الذكر البطريرك الياس الثالث، فحضر مؤتمر باريس الأممي، وكانت له صولات في المطالبة بحقوق العرب، ونبذ كل شكل من أشكال الاستعمار. وكان لقوة عارضته وفصاحته في التعبير بالفرنسية، الأثر الطيب في المؤتمر، والامتنان من جانب زملائه ممثلي العرب.
قام عام 1927 بجولته العلمية الثالثة في أوربا، ثم سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية وكندا، بزيارة علمية دينية. وقد انتخب في أثناء ذلك عضواً في المعهد الشرقي بجامعة شيكاغو. وقد اطلع خلال رحلاته الثلاث على أغلب المخطوطات السريانية والعربية في مكتبات أوربا وأميركا، هذا فضلاً عما وقف عليه من خزائن الكتب العامة والخاصة في الشرق.
ـ انتخب عام 1932 عضواً في المجمع العلمي العربي في دمشق.
ـ انتخب عام 1933 ورسم بطريركاً (أي رئيساً أعلى على الكنيسة السريانية الأرثوذكسية في العالم أجمع) باسم مار إغناطيوس أفرام الأول برصوم بطريرك أنطاكية وسائر المشرق.
ـ أسس عام 1939 المدرسة الإكليريكية الأفرامية، بعد أن شيّد لها من ماله الخاص، صرحاً لائقاً في زحلة. ثم نقلها إلى الموصل عام 1945 وقد تخرّج فيها نخبة طيبة من الإكليروس.
ـ انتقل إلى جوار ربه في 23 حزيران عام 1957 ودفن في كنيسة أم الزنار بحمص.
- أهم مؤلفاته المطبوعة:
1ـ كتاب «نزهة الأذهان في تاريخ دير الزعفران» طبع عام 1917 بمطابع دير الزعفران بماردين.
2ـ كتاب «الدرر النفيسة في مختصر تاريخ الكنيسة» طبع بحمص عام 1940 وأعيد طبعه مختصراً تحت اسم «المورد العذب» عام 1953.
3ـ كتاب «اللؤلؤ المنثور في تاريخ العلوم والآداب السريانية» طبع بحمص عام 1943، وأعيد طبعه في حلب عام 1956 بهمة مطرانها الجليل مار ديونيسيوس جرجس بهنام. وأشرفنا على الطبعة الثالثة منه في بغداد عام 1976 وقد نقله إلى الكنيسة ونشره بالطبع في القامشلي عام 1967 الطيب الذكر العلامة مار فيلكسينوس يوحنا دولباني مطران ماردين، ونقله إلى الفرنسية العلامة المستشرق جيرارد تروبو. ونقله إلى الإنكليزية الدكتور متى اسحق موسى.
4ـ كتاب «الألفاظ السريانية في المعاجم العربية» نشره تباعاً على صفحات مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق، ثم طبعه على حدة عام 1951 بدمشق.
5ـ كتاب «قيثارالقلوب» وهو مجموعة تتضمن ست عشرة خطبة وقصيدة بالعربية، طبع بحمص عام 1945.
6ـ كتاب تاريخ «طورعبدين» بالسريانية نقله إلى العربية، وطبعه مع النص، الطيب الذكر الملفان مار غريغوريوس بولس بهنام مطران بغداد والبصرة عام 1963.
7ـ الرسائل العامة بالسريانية والعربية وهي عظات قيمة كان يرسلها في مناسبات دينية إلى الكنائس السريانية الأرثوذكسية في العالم، نشر بالطبع نيافة مار ملاطيوس برنابا مطران حمص وحماه وتوابعها، القسم العربي منها عام 1964 بحمص.
8ـ «رسالة في أصول التعريب عن السريانية» نشرها بالطبع الأب جورج صليبا مدير إكليريكية مار أفرام اللاهوتية في العطشانة ـ لبنان عام 1969 (نيافة مار ثاوفيلوس جورج صليبا مطران جبل لبنان الآن).
9ـ «المجلة البطريركية» التي كان يشرف على إصدارها في دير مار مرقس في القدس، ونشر فيها مقالات عديدة.
10ـ نبذ تاريخية ومقالات نشرها أولاً في مجلات شتى طبع أغلبها منفردة، وأهمها: شهداء الحميريين، مدرسة أنطاكية اللاهوتية، مدينة الرها، نوابغ السريان في العربية الفصحى، مزارع الجزيرة، تاريخ زنار السيدة العذراء بحمص.
- أهم المؤلفات التي حققها ونشرها بالطبع:
1ـ كتاب «الأشحيم» وهو كتاب الصلوات الأسبوعية بالسريانية نقحه وطبعه عام 1913 في دير الزعفران. وأعاد طبعه عام 1936 في القدس.
2ـ كتاب «تهذيب الأخلاق» بالعربية ليحيى بن عدي الفيلسوف السرياني (893 ـ 974م) نشره عام 1928 في مجلة اللغات السامية وآدابها في شيكاغو.
3ـ «رسالة في علم النفس الإنسانية» بالعربية، للعلامة ابن العبري (1226 ـ 1286) نشره بالطبع بحمص عام 1940.
4 ـ كتاب «حديث الحكمة» بالعربية، للعلامة ابن العبري (1226 ـ 1286) نشره بالطبع بحمص عام 1940.
- أهم مؤلفاته المخطوطة:
1ـ فهرس المخطوطات السريانية الموجودة خاصة في مكتبات الشرق العامة والخاصة.
2ـ معجم عربي ـ سرياني.
3ـ ذيل لغوي سرياني.
4ـ تاريخ كنسي مختصر بالسريانية، يغطي نصف قرن من الزمن بدءاً من عام 1900م.
5 ـ تاريخ بطاركة أنطاكية ومشاهير الكنيسة السريانية بالعربية.
6ـ تاريخ الأبرشيات السريانية بالعربية، ويقع في عدة مجلدات.
7 ـ كتاب «الحديث» وأكثره يشتمل على أخبار المئة التاسعة عشرة للميلاد مما سمعه من شيوخ وأحبار وكهنة معاصرين له منذ سنة 1909 حتى 1954م، ونشرناه تباعاً على صفحات مجلتنا البطريركية، فهو يعتبر قمة في أدب المذكرات.
8ـ مجموعة خطب وقصائد عربية وسريانية وفرنسية، فقد كان ـ رحمه الله ـ خطيباً مصقعاً، وشاعراً مفلقاً، وكاتباً قديراً، باللغات الثلاثة المذكورة أعلاه.
نال المترجم شهرة عالمية في أوساط العلوم والآداب، واللغتين العربية والسريانية، فبالإضافة إلى تآليفه، كانت بعض الجامعات تنتدبه في مواسم خاصة، ليحاضر في مواضيع تاريخية ولغوية وغيرها. ناهيك عما كانت تلهج به الصحف والمجلات العلمية والأدبية، من إطراء مواهبه الفذة وآثاره النفيسة، فقد لقبه فيلسوف الفريكة أمين الريحاني، بفخر الشرق في زمانه. ولا غرو فهو مؤلف «اللؤلؤ المنثور» الذي يعد بحراً من أي النواحي جئته. سهل الغوص، ميسور الصيد من لآلئ الألفاظ الفصيحة، وفنون البيان، وضروب المعاني، والبديع المستملح السائغ، دون ما تكلف أو معاناة، فهو معجم بذاته فريد، ودائرة معارف سريانية زاخرة.
وبعد، فهذا غيض من فيض ترجمة حياة البطريرك أفرام الاول برصوم الحافلة بالأمجاد، وبمناسبة مرور ثلاثين عاماً على انتقاله إلى الخدور العلوية احتفلنا بالقداس الإلهي في كاتدرائية أم الزنار بحمص صباح يوم الأحد المصادف لـ 22/11/1987 وارتجلنا الخطاب التالي:)*(
«اذكروا مرشديكم الذين كلّموكم بكلمة اللّه، انظروا إلى نهاية سيرتهم فتمثّلوا بإيمانهم»(عب 13: 7).
أعوام ثلاثون انصرمت وانقضت على انتقال سلفنا الأسبق المثلث الرحمات البطريرك العلامة مار إغناطيوس أفرام الأول برصوم إلى الخدور العلوية، وهو في السبعين من عمره.
وإحياء للذكرى المئوية لميلاده، والذكرى الثلاثين لانتهاء جهاده الروحي في الكنيسة المجاهدة على الأرض، وانضمامه إلى كنيسة الأبكار المكتوبة أسماؤهم في السماء، نحتفل بالقداس الإلهي في هذه الكاتدرائية التي تضمّ ضريحه الطاهر، كاتدرائية أم الزنار بحمص، التي أحبّها كثيراً، ورددت جوانبها صدى أنغامه الشجية يوم كان يرفع فيها إلى السماء صلواته المستجابة، عطر بخور طيب الرائحة، وينثر مواعظه البناءة، درراً غالية الثمن، فكانت كلمة اللّه الحية تلج القلوب الواعية، فتنمو وتعطي الثمار الكثيرة. لقد كان صاحب الذكرى واعظاً بليغاً كيوحنا الذهبي الفم، مؤثراً في سامعيه كيوحنا المعمدان. يأتي بالابن الشاطر إلى بيت الآب السماوي، وبالخروف الضال إلى حظيرة الخراف. ويثبّت المؤمنين على التمسك بالعقيدة القويمة والفضائل المسيحية السامية التي كان هو ذاته يتحلّى بها.
فلنتأملن بنهاية سيرته الحميدة، ولنتمثّلن بإيمانه، إتماماً لوصية كاتب الرسالة إلى العبرانيين. فقد كان بطلاً من أبطال الإيمان، وأحد فطاحل السريان، وركناً متيناً من أركان الدين والعلم والوطن. خطّ بأحرف من نور أول صفحة مجيدة في سجل تاريخ الكنيسة الحديث، بعلمه الغزير وأعماله الراعوية الصالحة. وما تاريخ الكنيسة المجيد سوى سجل عمل الروح القدس في أناس يختارهم اللّه تعالى، ويدعوهم، فيلبّون الدعوة، ثم يرسلون إلى العالم ليبلّغوه رسالته الإلهية. فهم أنبياء صادقون، وأحبار أجلاء، وكهنة أتقياء. أولئك قوم أنعم اللّه عليهم بمواهبه الصالحة النازلة من السماء، ومنحهم سلطاناً على الأرض وبوّءهم كراسي في كنيسته على الأرض وفي السماء. وقال لهم الرب يسوع: «من يقبلكم يقبلني ومن يقبلني يقبل الذي أرسلني. من يقبل نبياً باسم نبي فأجر نبي يأخذ، ومن يقبل باراً باسم بار فأجر بار يأخذ» (مت 10: 40و41) ذلك أن هؤلاء قد حملوا صليب الرب، وتبعوه في طريق التضحية ونكران الذات، وأوصلوا إلى العالم نعمة الفداء فأتوا بالشعوب إلى عبادة اللّه الحي بالروح والحق، وبهذا صنعوا التاريخ الكنسي المجيد. واللّه تعالى هو وراء التاريخ، في كل أدواره وأحداثه، وقد برهن الرب على صدق وعده لكنيسته المقدسة أنه باق معها دائماً وإلى انقضاء الدهر، وأن «أبواب الجحيم لن تقوى عليها»(مت 16: 18) فالكنيسة ثابتة وقوية بالمسيح رأسها. ويقاس تقدمها بمقياس روحي سماوي، فهي ناجحة بالمسيح، وبقدر ما تقدم للعالم من أبطال الإيمان المملوئين من الروح القدس الذين يحيا المسيح فيهم، وعلى هذا المقياس نحدد الفترة الزمنية للعصر الذهبي لكنيستنا، كنيسة أنطاكية السريانية، فقد بدأ في القرن الرابع للميلاد، بظهور مار أفرام السرياني، وامتدّ عبر الدهور والأجيال ماراً بالسروجي، والبرادعي، والمنبجي، وسويريوس الكبير، والرهاوي وميخائيل الكبير وغيرهم، وانتهى في القرن الثالث عشر بانتقال ابن العبري إلى جوار ربه. وكنيسة أنطاكية السريانية في السراء والضراء كانت وما تزال تقدم لخدمة الإنسانية والدين، رجالاً ميامين، وهي تؤسس المدارس في الأديرة والكنائس، في المدن والقرى، لأن السريان طُبعوا على التمسّك بالإيمان ومحبة العلم والمعرفة.
وفُرضت على كنيسة أنطاكية السريانية بعد ابن العبري ظروف قاسية، بفترات زمنية مظلمة اجتازتها بقوة اللّه، الذي سند وعضد آباءها القديسين، وقيَّض اللّه تعالى لها في أوائل هذا القرن الخالد الذكر البطريرك العلامة مار إغناطيوس أفرام الأول برصوم، الذي أزاح عنها كابوس السنين العجاف، وأنهضها من كبوتها، وانتشلها من وهدتها، وفتح عينيها على أمجادها التليدة. وهكذا برز كوكباً للسريان منيراً، ومصلحاً جباراً، أحدث في تاريخ الكنيسة منعطفاً كبيراً، وابتدأ عهداً جديداً في عهد يقظة ونهضة وإصلاح، لبناء حاضر زاهر، ومستقبل باهر.
هذا هو البطريرك أفرام برصوم الرجل العظيم الذي اختاره اللّه منذ نعومة أظفاره ليحمل رسالة المسيح الإلهية إذ هيّأ له الجو الروحي الملائم «فكان يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند اللّه والناس» (لو 2: 52) بل صار كزيتونة مباركة غرست في بيت إلهنا على ضفاف جداول المياء الحية، فأعطت ثمرها في حينه وورقها لم يذبل.
ولد أيوب، وهذا اسمه قبل رهبنته، من أبوين فاضلين، في مدينة نينوى التاريخية. وتربّى على محبة العلم، وانكبّ على تحصيله في سن مبكرة، فتلقى في مدرسة الكنيسة بحي القلعة، وفي مدرسة أخرى أجنبية مبادئ العلوم الدينية والمدنية وألمّ باللغات السريانية والعربية والتركية والفرنسية. وتاقت نفسه إلى الانخراط في سلك الرهبانية، فأرسل إلى دير الزعفران بقرب مادرين حيث ألبس الإسكيم الرهباني عام 1907 ودعي اسمه أفرام، وفي السنة التالية رقّي إلى درجة الكهنوت.
وأخذ يلقي الدروس الدينية والعلمية واللغوية في مدرسة الدير التي كان قد أسّسها المطران ديونيسيوس بهنام سمرجي مطران الموصل يوم كان قائمقاماً بطريركياً وكانت بإدارة الراهب توما عازر قصير (مار أثناسيوس توما مطران الموصل بعدئذ) وفي الوقت ذاته كان الراهب أفرام يتعمّق بدراسة اللغة السريانية وعلومها وآدابها وألمّ باللاتينية واليونانية وتبحّر في التاريخين الديني والمدني وعلم اللاهوت والمنطق.
وفي دير الزعفران ابتدأ الراهب أفرام برصوم وهو في شرخ شبابه بتأليف بعض الكتب المفيدة في مبادئ الإيمان والطقس البيعي، نشرها في مطبعة الدير، التي كان قد أسّسها في أواخر القرن التاسع عشر المثلث الرحمات البطريرك بطرس الرابع وترأسها الراهب أفرام عام 1911. كما اهتمّ الراهب أفرام بالدفاع عن حياض الكنيسة فكتب ونشر ردوداً دامغة على كل من سوّلت له نفسه الأمّارة بالسوء الطعن بالكنيسة السريانية. وكان بكتاباته معتدلاً، منصفاً، لطيف العبارة، شيّق الأسلوب.
وكان في حياته الرهبانية مثالاً للراهب التقي الورع العفيف والمطيع، أخذ طريقة الزهد والتقشف عن الرهبان السريان الذين كان يزورهم في قلاليهم وأديرتهم، ويجلس عند أقدامهم، ويستمع إلى أحاديثهم الروحية والتاريخية ويدوّنها. وما اقتبسه من أولئك الزهاد الأتقياء من الفضائل السامية، وما تعلّمه منهم من طرائق الزهد، والتقشّف، والصوم، والصلاة، والعفة، والوداعة، والتواضع، والمحبة والتسامح وسائر الفضائل السامية، تجلّى في سيرته حتى آخر نسمة من حياته.
وجال، الراهب أفرام، المدن والقرى، زار الأديرة والكنائس، وبعض المؤمنين، ينقب عن المخطوطات السريانية القديمة، ووضع لها فهارس تعد اليوم من التحف الثمينة النادرة خاصة وأن العديد من تلك المخطوطات قد عبثت بها يد الزمن وفقدت، أو أتلفت.
وقام بجولته الأولى في أوربا ليطّلع على ما حوته مكتباتها الشهيرة من كنوز المخطوطات السريانية، وكان في كل ذلك كمن يغوص في أعماق البحار ينقب عن الجواهر الثمينة، وقد حصل عليها وقدّم لنا بعدئذ كتابه «اللؤلؤ المنثور» في تاريخ العلوم والآداب السريانية وغيره من المؤلفات النفيسة المطبوعة والمخطوطة.
وعيّنه المثلث الرحمات البطريرك عبداللّه كاتباً ثانياً له، فرافقه إلى القدس حيث انفتحت أمامه آفاق جديدة في العلم والمعرفة، وبدأ علائق مهمة مع بعض العلماء واللاهوتيين من سائر الملل والنحل ـ فاتسعت مجالات عطائه العلمي الغزير.
وفي عام 1917 على أثر انتقال البطريرك عبداللّه إلى جوار ربه اشترك الراهب أفرام بانتخاب سلفه المثلث الرحمات البطريرك الياس الثالث بالنيابة عن أحد المطارنة. وعيّنه سلفه المذكور نائباً بطريركياً لأبرشية حمص التي استقبلته بترحاب، وعرف الراهب أفرام كيف يشارك أبرشيته تحمّل محن الزمن العصيب بصبر جميل، ومداواة الجراح المثخّنة التي تركتها الحرب العالمية الأولى في جسد الكنيسة، وما خلفته هذه الحرب المشؤومة من مصائب ومصاعب وكوارث. ثم انتخبته الأبرشية بالإجماع فرسم مطراناً عليها سنة 1918 باسم مار سويريوس أفرام. وأضيف إلى رئاسته الروحية فيما بعد لبنان.
في حمص برزت مواهب المطران سويريوس أفرام الدينية والعلمية. وتجلّت محبته للوطن العزيز. وكانت له في هذا الميدان مواقف مشرّفة، كما له دور فعال قام به في الاشتراك مع الذين ناضلوا في سبيل تحرير الوطن الحبيب من المستعمرين الطغاة، ويعدّ بحق قطباً من أقطاب الحركة الوطنية العربية السورية. وقد قام عام 1919 بجولته العلمية الدينية الثانية في أوربا، موفداً من سلفه الطيب الذكر البطريرك الياس الثالث فحضر مؤتمر باريس الأممي. «وكانت له صولات وجولات في المطالبة بحقوق العرب ونبذ كل شكل من أشكال الاستعمار. وكان لقوة عارضته وفصاحته في التعبير بالفرنسية الأثر الطيب في المؤتمر من جانب زملائه ممثلي العرب».
وأوفده سلفه المثلث الرحمات البطريرك الياس الثالث إلى أمريكا لتفقد الجاليات السريانية، وتنظيم شؤونها الروحية والاجتماعية، فقام بذلك خير قيام، وجال ثانية في أوربا يدرس المخطوطات السريانية في مكتباتها الشهيرة. ولمكانته العلمية انتخب عام 1932 عضواً في المجمع العلمي العربي في دمشق([269]).
كان المطران سويريوس أفرام برصوم راعياً صالحاً، خدم أبرشية حمص بتضحية ونكران ذات، مشاركاً المؤمنين أفراحهم وأتراحهم، وكان يقضي أياماً عديدة في تفقّد القرى روحياً واجتماعياً، مرة في السنة على الأقل. ويلقي المحاضرات البليغة على أبنائه الشباب، شارحاً لهم عقائد كنيسة أنطاكية السريانية وتاريخها. وكان يشجعهم على تحصيل العلوم مؤرّخاً بطولاتهم بأناشيده الشعبية، مفتخراً بغيرتهم الدينية، وشهامتهم، وتمسّكهم بالعقيدة الإيمانية، ومحبتهم لوطنهم العزيز. فأحبوه كثيراً والتفّوا حوله كالسوار بالمعصم.
وفي الفترة الزمنية العصيبة التي مرّت على السريان في بعض البلدان المجاورة استقبل صاحب الذكرى المهجرين الوافدين إلى سوريا مهيئاً لهم المأوى والمأكل والمشرب، مع النصح والإرشاد.
ولما أعلن الناعي انتقال الخالد الذكر البطريرك الياس الثالث إلى جوار ربه في الهند، أجمعت الكنيسة بأشخاص أحبارها على انتخاب المطران مار سويريوس أفرام برصوم قائمقاماً بطريركياً فنظم شؤون الملة وهيّأ الجو الملائم للانتخاب البطريركي، وانتخب بطريركاً سنة 1933 وجرت حفلة تنصيبه في حمص التي اتخذها مقراً مؤقتاً للبطريركية.
وأول عمل قام به كبطريرك هو تنظيم قوانين الكنيسة وسن ما يصلح منها لذلك الزمن مستنداً بذلك على قرارات المجامع المقدسة، ثم شراؤه من ماله الخاص أرضاً في مدينة زحلة شيّد عليها مدرسة مار أفرام الكهنوتية التي أسسها عام 1939 ورعاها إلى آخر نسمة من حياته لتكون مصنعاً لإكليروس الكنيسة المؤمن والمثقّف المتمسّك بعقيدته والمفتخر بتراثه الثمين ولغته السريانية المقدسة.
وجاءت الحرب العالمية الثانية لتضاعف من الأعباء الجسيمة على كاهل البطريرك أفرام، ولكنه تمكّن من أن ينظّم الأبرشيات الجديدة التي تألفت من النازحين في عهد مطرنته وبطريركيته ويرعاهم رعاية صالحة بما منحه اللّه من حكمة وحسن تصريف للأمور.
كان لنا الحظ السعيد في الانضواء تحت لوائه، والانضمام إلى حاشيته طيلة السنتين الأخيريين من حياته، فصرنا موضع اهتمامه الأبوي ورعايته الرسولية، واعترافاً منا بالجميل، علينا أن نسبق الآخرين إلى الإقرار بفضله، فقد كان رحمه اللّه أباً حنوناً وراعياً صالحاً، يشمل أولاده الروحيين بعنايته، ويتجاوز الهفوات بعد إسداء النصح والإرشاد، ويعالج الضعفات بحكمة ووداعة، لأنه أب محب ذو قلب كبير يختلج بمحبة الكنيسة، ماضيها وحاضرها، ويخفق أملاً ورجاء لمستقبل أفضل.
عاش سبعين عاماً كانت بمثابة سبعمائة عام عوّض خلالها للكنيسة، عما خسرته في الحقبة الزمنية الواقعة بين أواخر القرن الثالث عشر وأوائل القرن العشرين، أي منذ فقدت الكنيسة العلامة ابن العبري، وحتى ظهور صاحب الذكرى البطريرك أفرام الأول برصوم، الذي وهبه اللّه ذكاء خارقاً، وجلداً على الدرس والتحصيل، فكان منكبّاً على ذلك بياض نهاره وسواد ليله، وكان خصب الإنتاج الأدبي والديني فمن اطّلع على ما تركه لنا من مؤلفات بلغات شتّى أقرّ بما كان عليه من عبقرية فذة، فهو حقاً وحيد دهره، وفريد زمانه، ونسيج وحده.
كان يجلّ آباء الكنيسة وعلماءها، وقد خلّد ذكرهم في كتاباته النفيسة. كما كان يتمسّك بتقاليد الكنيسة وأنظمتها.
حدث في ليلة عيد رأس السنة الجديدة لعام 1957، وهو أيضاً عيد آباء الكنيسة كافة، وبحسب تقليد كنيستنا يجتمع قداسة البطريرك بحاشيته ليلة العيد، ويمسك بيمناه الصليب المقدس، وبيسراه العصا الرعوية، وهو في صالة البطريركية، وبعد أن ترتل الحاشية الأناشيد الخاصة بتكريم الأحبار يمنح البطريرك بركته الرسولية للكنيسة كافة أحباراً وكهنة وشمامسة وشعباً. وهكذا جرى ليلة عيد رأس السنة الجديدة المذكورة، إذ شرع صاحب الذكرى يتكلّم، طلب إلى اللّه تعالى أن يبارك الكنيسة ويبارك البلاد رئيساً وحكومة وشعباً، وينشر أمنه وسلامه في العالم، ثم توقّف لحظة وأردف قائلاً: لعلها المرة الأخيرة التي احتفل فيها بمثل هذه المناسبة. وبكى… وشاركناه البكاء… كانت نغمة حزن في سمفونية طرب. ولفظ عبارات أخرى كأنه سلّم بها الكنيسة إلى الرب يسوع رأسها… وما تزال هذه الصورة المؤلمة ماثلة أمامنا حتى الآن.
وفي صباح الأحد المصادف للثالث والعشرين من شهر حزيران من ذلك العام، وقبل الانتهاء من القداس الإلهي كان صاحب الذكرى قد لفظ أنفاسه الأخيرة في قلايته وهو راقد على فراشه بسلام. ولسان حاله يقول مع الرسول بولس: «قد جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي، حفظت الإيمان، وأخيراً قد وضع لي إكليل البر الذي يهبه لي في ذلك اليوم الرب الديان العادل، وليس لي فقط بل لجميع الذين يحبون ظهوره أيضاً» (2تي 4: 7و8).
واليوم ونحن نحتفل بالذكرى المئوية لميلاده وبمرور ثلاثين عاماً على انتقاله إلى السماء، نكرّمه بالاقتداء بسيرته الصالحة، بالتمسّك بالإيمان القويم، وبممارسة الفضائل السامية، وبمحبة الوطن العزيز، ومحبة الكنيسة المقدسة، وإنعاش لغتنا السريانية الحبيبة.
أما أنتم يا أبناء حمص الأعزاء وخاصة نيافة أخينا الحبر الجليل مار ملاطيوس برنابا مطران حمص وحماة وتلميذ البطريرك أفرام فهنيئاً لك بضريح البطريرك أفرام الطاهر. فكما يحجّ الناس إلى هذه الكاتدرائية المقدسة للتبرك من زنار القديسة العذراء مريم الذي اكتشفه صاحب الذكرى في هذه الكاتدرائية عام 1952، يحجون أيضاً إلى ضريحه الطاهر لتكريم العلامة الكبير، والمؤرّخ الشهير، والأديب القدير، والشاعر المبدع، والراعي الصالح، أبي الإصلاح، البطريرك أفرام الأول برصوم، فليكن ذكره خالداً، فقد كان أميناً إلى الموت فليعطه الرب إكليل الحياة (رؤ 2: 10) آمين.
المحتوى
تمهيد ……………………………………………………………….. 5
الفكر السرياني والكنيسة السريانية في القرن الرابع للميلاد …………………… 7
مار أفرام السرياني: سيرته ـ مؤلفاته ـ بعض ما قيل عنه……………………… 16
مار يعقوب الرهاوي: اللاهوتي، المؤرخ، المترجم، اللغوي السرياني، مستنبط
الحركات السريانية…………………………………………………….. 29
مار جاورجي الاول بطريرك أنطاكية (790+) ………………………………. 43
البطريرك ديونيسيوس التلمحري………………………………………….. 49
البطريرك يوحنا ابن المعدني…………………………………………….. 66
ابـن الـعـبـري مـفـريـان الـمـشـرق………………………………………….. 71
منشور بطريركي: الذكرى المئوية السابعة للقديس المفريان ابن العبري………….. 112
مار باسيليوس بهنام الرابع مفريان المشرق………………………………… 118
قوة الأديان…………………………………………………………… 126
الإسلام و المسيحية: تكامل تاريخي في بناء الحضارة العربية………………….. 133
نجوم أنطاكية المشرقة يشع ضياؤها في سماء الكنيسة في الهند: ذكرى مرور مئتي
عام على انتقال مار ايونيس يوحنا الموصلي مطران ملبار إلى الخدور
السماوية +1794……………………………………………………… 143
كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية ودعوى المنشقين عنها في ملبار ـ الهند…… 156
أسرار الكنيسة السبعة …………………………………………………. 186
سر القربان المقدس والمدخل إلى طقس القداس الإلهي حسب عقيدة كنيسة
أنطاكية السريانية الأرثوذكسية وطقسها البيعي المقدس………………………. 214
رجل النهضة والإصلاح في كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية في القرن
العشرين للميلاد مار إغناطيوس أفرام الأول برصوم (1957) ـ نبذة مختصرة في
ترجمة حياته………………………………………………………….. 278
HISTORICAL, THEOLOGICAL
& SPIRITUAL ARTICLES & ESSAIES
(Part Three)
by
IGNATIUS ZAKKA I IWAS
Patriarch of Antioch and All the East
Supreme Head of the Universal Syrian Orthodox Church
2008
الهوامش :
)*( ـ عن كتاب سيرة مار أفرام السرياني، الذي أصدره المؤلف عام 1974 في عهد مطرنته، بمناسبة مهرجان افرام ـ حنين في بغداد وأعيد طبعه بدمشق عام 1984. ونشر أيضاً على صفحات المجلة البطريركية العدد 180 كانون الأول 1998 السنة 36 ص 698 ـ 704.
([1]) ـ الروم ـ للدكتور أسد رستم ـ بيروت 1955 جـ 1 ص 43و44 ودكلدو وآثور ـ للمطران ادي شير ـ بيروت 1913 مج 1ص16. والعصور القديمة لبراستدف 211 ص 109. وتاريخ مختصر الدول لابن العبري ـ بيروت 1958 ص 11. وأحيقار حكيم من الشرق الأدنى القديم ـ لأنيس فريحة ـ بيروت 1962 ص 18 الحاشية (وطالع أيضاً في سفر دانيال 2: 4) حيث يتضح أن اللغة السريانية الآرامية كانت لغة المخاطبة واللغة الدولية في المملكة البابلية. وجاء في سفر عزرا (7: 4) أن: «في أيام الملك أرتحشستا كتب بشلام ومطردات وطبئيل وسائر لافاقهم إلى أرتحشستا ملك فارس وكتابة الرسالة بالآرامية» وكان ذلك سنة 522 ق.م حيث أن الدولة الفارسية اتّخذت اللغة الآرامية لغة رسمية في جميع أنحاء المملكة.
([2]) ـ اللؤلؤ المنثور في تاريخ العلوم والآداب السريانية للبطريرك أفرام الأول برصوم طبعة حلب 1956 ص 24 و 192.
([4]) ـ عصر السريان الذهبي ـ للفيكونت فيليب طرازي طبعة بيروت 1946 ص 10 وضحى الإسلام ـ لأحمد أمين ـ الطبعة السادسة بالقاهرة 1961 جـ 2 ص 59.
([5]) ـ فيه ص 5 عن روبنس دوفال: الآداب السريانية: قسم 2 ص 337 والأب لايور المسيحية في الدولة الفارسية ص 351 واللؤلؤ المنثور ص 233 ـ 236 واللمعة الشهية في نحو اللغة السريانية للمطران اقليميس يوسف داود طبعة الموصل 1896 مج 1 ص 201 ـ 203 والمروج النزهية في آداب اللغة الآرامية للمطران يعقوب أوجين منا طبعة الموصل 1901.
([6]) ـ تاريخ البطريرك مار ميخائيل الكبير بالسريانية ـ طبعة باريس 1899 ص 129 ـ 140.
([7]) ـ الدرر النفيسة في مختصر تاريخ الكنيسة ـ للبطريرك أفرام الأول برصوم طبعة حمص 1940 ص 344 ـ 376 وتاريخ الروم ـ للدكتور أسد رستم بيروت 1955 جـ 1 ص 32 ـ 36 وتاريخ الرهبانية للدكتور حكيم أمين ـ القاهرة 1963 ص 5.
([8]) ـ خلاصة تاريخية للكنيسة الكلدانية ـ للكاردينال أوجين تسران ـ تعريب القس سليمان صائغ ـ الموصل 1939 والدرر النفيسة ص 468 ـ 469 وذخيرة الأذهان ـ للقس بطرس نصري ـ الموصل 1905 مج 1 ص 76.
([9]) ـ الروم جـ 1 ص 50 وكلدو وآثور مج 2 ص27 و28.
([10]) ـ ذخيرة الأذهان ـ ص 76 ـ 92 والدرر النفيسة ص 470 والروم جـ 1 ص 75.
([11]) ـ الطرفة النقية ـ من تاريخ الكنيسة المسيحية للخوري عيسى أسعد حمص 1924 ص 76 و77 والروم جـ 1 ص 54.
([12]) ـ الدرر النفيسة ص 465 ـ 471 وكلدو وآثور مج 2 ص 27 و28 وخلاصة تاريخية للكنيسة الكلدانية ص 16 ـ 18 والتاريخ البيعي للعلامة المفريان ابن العبري بالسريانية طبعة لوفان 1872 جـ 2 ص 33.
)*( ـ كتبناها ونشرناها أولاً في عهد مطرنتنا ضمن كتاب «مهرجان أفرام وحنين» بغداد 4 ـ 7 شباط 1974.
([13]) ـ الدرر النفيسة في مختصر تاريخ الكنيسة ـ البطريرك أفرام الأول برصوم ـ طبعة حمص 1940 ص523، واللؤلؤ المنثور في تاريخ العلوم والآداب السريانية ـ له. طبعة حلب 1956 ص 243، وتاريخ الكنيسة السريانية للبطريرك يعقوب الثالث طبعة بيروت 1953 جـ 1 ص 241، وقاموس أوكسفرد للكنيسة المسيحية، بالإنكليزية ص 455.
([14]) ـ المكتبة المختارة لآباء مجمع نيقية ـ بالإنكليزية ت طبعة مشيغن سنة 1956 القسم الثاني مج 13 ص 134 وسيرة مار أفرام السرياني للخوري اسحق أرملة ـ بيروت 1952 ص 15 عن مخطوطة دير الشرفة 7 ـ 1 الميمر الثامن من الميامر الأفرامية العربية المنقولة عن اليونانية وعنوانه «توبيخ لنفسه واعتراف».
([15]) ـ الآداب السريانية لفولوس كبريال وكميل البستاني بالعربية ـ بيروت 1969 ج1 ص 128 ودائرة المعارف البريطانية ـ طبعة 11 لسنة 1910 مج 9 ص678.
([16]) ـ اللؤلؤ المنثور ص 244.
([17]) ـ الدرر النفيسة ص 523. وقيل أن يوليان الشيخ أحد نسّاك جبل الرها هو الذي ألبس مار أفرام الثوب الرهباني (انظر سنكسار الروم الكاثوليك ـ للمطران ميخائيل عساف الطبعة الثانية ـ حريصا ـ ص 117 من ذكرى أعياد شهر كانون الثاني. وسيرة مار أفرام للخوري اسحق أرملة ص 37).
([18]) ـ التاريخ الكنسي للعلامة ابن العبري (+1286) بالسريانية طبعة بيلوس ولامي في لوفان في ثلاثة مجلدات 1872 ـ 1877 مج1 ص23 وتاريخ سورية ولبنان للمطران يوسف الدبس مج4 ج2 ص208 والخريدة النفيسة في تاريخ الكنيسة للأسقف إيسيذوروس ـ مصر 1915 ج1 ص 256 وقاموس أوكسفرد في الكنيسة المسيحية بالإنكليزية طبعة لندن 1958 ص 455.
([19]) ـ تاريخ كلدو وآثور للمطران أدى شير ـ بيروت 1913 مج 2 ص 41 ـ 42 عن تأسيس المدارس تأليف برحذ بشابا عربايا أسقف حلوان طبعة أدى شير في باترولوجية كرافين دنو في باريس 1907 ص 63 حيث يقول: «إن يعقوب النصيبيني فتح مدرسة في نصيبين سنة 325 وجعل فيها مار أفرام معلماً».
([20]) ـ تاريخ مختصر الدول للعلامة ابن العبري (+1286) بالعربية طبعة الصالحاني بيروت 1958 ص 80 واللؤلؤ المنثور ص 245.
([21]) ـ تاريخ الكنيسة السريانية للبطريرك يعقوب الثالث ـ ج1 ص 242.
([22]) ـ المباحث الجلية للبطريرك أفرام رحماني طبعة دير الشرفة 1924 ص 151 و152 والجزء الثالث من مجموعته المطبوعة بعنوان (Studia Syriaca) ص 6 وما بعدها.
([23]) ـ الطرفة النقية في تاريخ الكنيسة المسيحية ـ للخوري عيسى أسعد ـ بالعربية ـ حمص 1924 ص 143.
([24]) ـ تاريخ الروم للدكتور أسد رستم ـ بالعربية ـ طبعة بيروت 1955 ج1 ص152 والدرر النفيسة مج1 ص 573.
([25]) ـ تاريخ كنيسة مدينة اللّه أنطاكية ـ للدكتور أسد رستم ـ بالعربية ـ طبعة بيروت 1958 ج1 ص 291 وسنكسار الروم الكاثوليك ص 119 الخاص بشهر كانون الثاني.
([26]) ـ كتاب سيرة مار أفرام السرياني للمؤلف ـ الطبعة الثانية ـ دمشق 1984 ص 35و36..
([27]) ـ الروم. ج1 ص162 وذخيرة الأذهان للأب بولس بيجان ـ بالعربية ـ طبعة الموصل 1901 مج1 ص 98 والدرر النفيسة مج1 ص 572 عن برحذ بشابا العربي أسقف حلوان في النصف الثاني من القرن السادس آخذاً عن التقليد الشائع.
([28]) ـ الآداب السريانية لفولوس وكميل ص 130.
([29]) ـ اللؤلؤ المنثور ص 61 و245 والطرفة النقية ص 143.
([30]) ـ الدرر النفيسة ج1 ص572.
([31]) ـ سيرة مار أفرام للخوري أرملة ص 56 و57 وأديرة وادي النطرون ـ دكتور منير شكري ـ الاسكندرية 1962 ص 58 والأديرة المصرية العامرة للأب صموئيل تاوضروس السرياني ـ مصر 1968 ص 142 وتاريخ كلدو وآثور ـ للمطران أدى شير ج2 ص48.
([32]) ـ الخريدة النفيسة ـ ج1 ص257 و276.
([33]) ـ سيرة مار أفرام للخوري أرملة ص 54.
([34]) ـ الخريدة النفيسة ج1 ص 255 وذخيرة الاذهان مج1 ص 98.
([35]) ـ سيرة مار افرام للخوري أرملة ص 71 عن سيرة الآباء القديسين طبع الموصل 1: 91.
([36]) ـ الآداب السريانية لفولوس وكميل ج1 ص 131.
([37]) ـ اللؤلؤ المنثور ص 245 والدرر النفيسة ص 524 كما ورد ذلك في خلاصة أخبار الرها (أنظر أيضاً المكتبة الشرقية للسمعاني والآداب السريانية لروبنس دوفال ص 329 وقد ارتأى بعضهم ان الوفاة حدثت في 18 حزيران 373).
([38]) ـ اللؤلؤ المنثور ص 245.
([39]) ـ الآداب السريانية لفولوس وكميل ج1 ص132 وسيرة مار أفرام للخوري أرملة ص 80 و81 والحروب الصليبية له ص97 ـ 107.
([40]) ـ اللؤلؤ المنثور ص 245 وسيرة مار أفرام ص 80 و103 و106 و111 و115 و135.
([41]) ـ نشرها الأب بولس بيجان في باريس سنة 1901.
([42]) ـ المكتبة المختارة لمصنفات آباء نيقية ـ بالإنكليزية ـ القسم الثاني ج13 ص 137 ـ ويظن بعض النقاد أن الوصية ليست من وضع مار أفرام ويقول آخرون وهم أكثر إنصافاً أن بعض اجزاء الصيغة الأصلية قد شوّه بزيادات دسّها النسّاخ جهلاً.
([43]) ـ سيرة مار أفرام للخوري أرملة ص 174.
([44]) ـ النشرة السريانية الكاثوليكية الحلبية لسنة 1973 ص 304 و305.
([45]) ـ في الخزانة الفاتيكانية مخطوط من القرن السابع تحت رقم 115 وفي برمنكهام تحت رقم 147 وخزانة بطريركية السريان الأرثوذكس في دمشق. وقد نشر الأب بولس مبارك عام 1737 و1740 شروح أسفار التكوين والقضاة وصموئيل والملوك في 567 صفحة وشروح سفر أيوب والأنبياء الكبار والصغار في 312 صفحة.
([46]) ـ تولى نشر الدياطسرون منذ سنة 1893 الرهبان الأرمن في مطبعتهم الشهيرة في البندقية ـ إيطاليا. وجمع هيل وروبنصون بعض مقاطع من شروح الدياطسرون ونقلاها إلى الإنكليزية سنة 1895.
([47]) ـ نقل ميزنجر سنة 1876 إلى اللاتينية النص الأرمني لشرح رسائل بولس الرسول. كما نقله الآباء الميخطاريست إلى اللاتينية في فينّا سنة 1893.
([48]) ـ مكتبة لندن تحت رقم 587 مخطوط نسخ عام 876م.
([49]) ـ خزانة لندن تحت رقم 781 وقد ذكرها رايت في الفهرست ص 766.
([50]) ـ نشرها البطريرك أفرام الأول برصوم في صدر المجلد الأول من تاريخ الرهاوي المجهول عن مصحف باسبرينة مخطوط في القرن التاسع.
([51]) ـ نشرها ميخائيل كمشكو في المجلد الثاني من البترولوجيا السريانية ص 1319 ـ 1360.
([52]) ـ الآداب السريانية لفولوس وكميل ج1 ص144.
([54]) ـ المصدر السابق ص 630 و621.
([56]) ـ الآداب السريانية لفولوس وكميل ج1 ص143.
([57]) ـ اللؤلؤ المنثور ص 251.
([58]) ـ سيرة مار أفرام السرياني ـ للخوري أرملة ص 179 عن تاريخ الآداب السريانية للمونسنيور بولس السمعاني 2: 29.
([59]) ـ المجلة البطريركية السريانية بالعربية ـ دير مار مرقس بالقدس ـ عام 1940 السنة السابعة العدد الأول ص 17.
([61]) ـ تاريخ سورية للدبس ص 211 و212 عن تاريخ سوزومين ك3 ف16.
([62]) ـ المصدر السابق عن كتاب المشاهير لهيرونيموس ف 115.
([63]) ـ أخبار الشهداء والقديسين بالسريانية نشره الأب بولس بيجان عام 1893 مج 3 ص 665 ـ 679.
)*( ـ نشرت أولاً في مجلة مجمع اللغة السريانية ـ بغداد 1976 المجلد الثاني.
([64]) ـ تاريخ الآداب السريانية لأنطون بومشترك طبعة بون 1922 ص 254 واللؤلؤ المنثور في تاريخ العلوم والآداب السريانية للبطريرك أفرام الأول برصوم طبعة حلب 1956 ص 381.
([65]) ـ تاريخ مختصر الدول (للعلامة المفريان مار غريغوريوس يوحنا المعروف بابن العبري) طبعة بيروت سنة 1958 ص 31.
([66]) ـ اللؤلؤ المنثور ص 209.
([67]) ـ ترجمة الفيلسوف السرياني الشهير مار يعقوب الرهاوي بقلم مراد فؤاد جقي ـ القدس سنة 1929 ص 5.
([68]) ـ تاريخ الآداب السريانية لرايت ص 143 ودائرة المعارف البريطانية طبعة 1911 مج 15 ص 113و114 وتاريخ الأدب السرياني من نشأته إلى العصر الحاضر للدكاتره مراد كامل ومحمد حمدي البكري وزكية محمد سري ـ القاهرة 1974 ص 263 واللؤلؤ المنثور ص 381.
([69]) ـ عصر السريان الذهبي بقلم الفيكنت فيليب دي طرازي ـ بيروت 1946 ص 65و66.
([70]) ـ ترجمة الفيلسوف السرياني ص 1و5.
([71]) ـ فجر الإسلام تأليف أحمد أمين ـ مصر ـ الطبعة الثامنة 1961 ص 132.
([72]) ـ لفظة قنسرين سريانية تعني قن النسور، ودير قنسرين هذا أسسه سنة 530م يوحنا أبن أفتونيا (+539) على شاطئ الفرات مقابل بلدة جرابلس وصار طوال خمسة قرون موئل العلم ومحج العلماء السريان وخرب في القرن الثالث عشر.
([73]) ـ اللؤلؤ المنثور ص 365.
([74]) ـ تاريخ البطاركة لابن العبري، بالسريانية في ترجمة البطريرك أثناسيوس البلدي. والمكتبة الشرقية للسمعاني مج2 ص336 وتاريخ سورية للمطران يوسف الدبس طبعة بيروت 1899 مج5 ص78.
([75]) ـ تاريخ الأدب السرياني من نشأته إلى العصر الحاضر ص265 عن رايت ص17، 143 ودوفال ص367.
([76]) ـ اللؤلؤ المنثور ص366 وترجمة الفيلسوف السرياني ص4.
([77]) ـ تاريخ الآداب السريانية: بومشترك ص254.
([78]) ـ نقل جماعة من اليهود المتنصرين أسفار الكتاب المقدس إلى السريانية في القرن الأول أو صدر المئة الثانية للميلاد على الأرجح، وسميت تلك الترجمة (فشيطتا) أي البسيطة لترك البلاغة في نقلها (انظر اللؤلؤ المنثور ص57و58).
([79]) ـ لم يصل إلينا من هذه الترجمة المنقحة سوى مخطوطتين في المكتبة الوطنية في باريس تتضمنان أسفار موسى الخمسة ونبوءة دانيال. ومخطوطتين أخريين في المتحف البريطاني تشتملان على سفري صموئيل الأول والثاني وبدء سفر الملوك ونبوءة اشعيا، نسختا سنة 719ـ720 أي بعد وفاة مار يعقوب بنحو عشر سنوات.
([80]) ـ نسخة في مكتبة دير مار مرقس بالقدس رقم 41 ونسخة أخرى في مكتبة دير الزعفران بماردين.
([81]) ـ في مكتبة الفاتيكان نسخة من هذه التفاسير تحتوي على أسفار موسى الخمسة وسفر أيوب ويشوع والقضاة، وقد نشر المستشرقون فيلبس ورايت وشروتر ونستله بعض هذه التفاسير نقلاً عما جاء في مخطوطات المتحف البريطاني.
([82]) ـ الكنز الثمين في صناعة شعر السريان وتراجم شعرائهم المشهورين تأليف القس جبرائيل القرداحي طبعة روما ص17و18 واصدق ما كان عن تاريخ لبنان وصفحة من أخبار السريان بقلم الفيكنت فيليب دي طرازي ـ بيروت 1948 مج1 ص168.
([83]) ـ بلغ عددها مئة وخمساً وعشرين خطبة منها نسخة في المتحف البريطاني برقم 12159 كتبت سنة 868م. ونسخة في مكتبة الفاتيكان (انظر السمعاني ج1 ص494 وفهرست رايت ص534) وبعض هذه الخطب في خزانة دير الزعفران بماردين وخزانة بطريركية السريان في دمشق. وقد نشر منها احدى وخمسون خطبة منقولة إلى الفرنسية في ثلاثة مجلدات. ونشر البطريرك أفرام رحماني خطبتين منها في الدروس السريانية.
([84]) ـ ترجمة الفيلسوف السرياني ص16.
([86]) ـ له نسخة قديمة كتبت عام 822 لثاودوسيوس مطران الرها وكانت لمكتبة دير مار متى ثم صارت لخزانة امد الكلدانية فبطريركية الكلدان بالموصل عدد 54، ونسخة في (ليدن) خطت عام 1183 عدد 66. طبعة شابو وراشالد عام 1932 عن مصحف ليون عدد 2 المنقول سنة 839 وجدد شابو طبعه ضمن جمهرة لوفان سنة 1953.
([87]) ـ مخطوطة منه في مكتبة المتحف البريطاني تحت رقم 12154 (انظر اللؤلؤ المنثور ص371) .
([88]) ـ مخطوطة منه في مكتبة فلورنسة برقم209والمكتبة الوطنية في باريس برقم 248(انظر الكنز الثمين ص18).
([89]) ـ مكتبة المتحف البريطاني برقم 14685 وقد نشر بروكس هذه الوريقات منقولة إلى اللاتينية سنة 1903 (انظر اللؤلؤ المنثور ص371ـ372 وترجمة الفيلسوف السرياني ص12و13).
([91]) ـ نسخة منها مكتوبة على الرق في مجلدين، محفوظة في مكتبة دير الزعفران في ماردين تحت رقم 20و21 ويرجح أنها بخط يده لأنها تنتهي بقوانينه واجوبته على اسئلة معاصريه. ونسخة أخرى في مكتبة دير مار مرقس بالقدس.
([92]) ـ نسخة قديمة مخطوطة عام 1204 تتضمن قوانينه هذه محفوظة في دار البطريركية السريانية في دمشق. ونسخة دير الزعفران المذكورة في الحاشية السابقة، ولعلها النسخة الأصلية ولا يعرف تاريخها ولا ناسخها. وقد نشر بول دي لاكارد فتاوى مار يعقوب نقلاً عن مخطوطة باريس، وطبعها أيضاً كايزر منقولة إلى الألمانية عام 1886، ليبسك مستنداً إلى مخطوطتي باريس برقم 62و111 والى ثلاث مخطوطات أخرى في مكتبة المتحف البريطاني (انظر أيضاً ترجمة الفيلسوف السرياني ص12و17).
([94]) ـ ليتورجية: لفظة يونانية تعني الخدمة الجمهورية، وهي مجموع صلوات القداس. واول ليتورجية في المسيحية تنسب إلى مار يعقوب أخي الرب وقد كتبها بالسريانية.
([95]) ـ نسخة منها في مكتبة المتحف البريطاني برقم14691.
([96]) ـ ترجمها رينو دوسيوس إلى اللاتينية واثبت ترجمتها في كتابه الليتورجيات الشرقية ج2 ص371.
([97]) ـ بقي من مخطوطاته القديمة أوراق يسيرة محفوظة في دار الأثار بدمشق هي بقية نسخة كتبت في حدود القرن الثامن. كما أن هناك نسخة مخرومة في كنيسة السريان الرهاويين في حلب كتبت في القرن الرابع عشر ونسخة في خزانة باريس كتبت في القرن الخامس عشر (انظر أيضاً اللؤلؤ المنثور ص73و74و369).
([98]) ـ نسخة منه في مكتبة دير مار مرقس في القدس برقم 120.
([99]) ـ مفردها حساية لفظة سريانية معناها استغفار وهي صلاة منثورة مسهبة.
([100]) ـ المكتبة الشرقية للسمعاني 487:1.
([101]) ـ ذكرها ابن الصليبي (+1171) في شرح رتبة القداس، واثبتها السمعاني برمتها في الجزء الأول من المكتبة الشرقية ص479ـ486.
([102]) ـ واحدها معنيث: لفظة سريانية معناها أغنية وهي نشيد منثور يجري على ثمانية الحان.
([103]) ـ نسخة منها في مكتبة دير مار مرقس في القدس برقم 60 استكتبها يوسف قسيس طابان لابنه الشماس صليبا سنة 1210م ويذكر البطريرك أفرام الأول برصوم أن نسخة القدس التي وصلت إلينا ربما تكون بخط مار يعقوب نفسه انجزها سنة 675 (انظر اللؤلؤ المنثور ص370).
([104]) ـ نشر له القس جبرائيل القرداحي ابياتاً مختارة، من قصيدة بديعة، وقال إنها القصيدة الوحيدة التي رويت ليعقوب الرهاوي (انظر الكنز الثمين للقرداحي ص18).
([105]) ـ ميامر ومفردها ميمر وهو قصيدة سريانية. تطلق أيضاً على المقالة أو الخطبة.
([106]) ـ مداريش واحدها مدراش، وهو شعر يصاغ على أوزان مختلفة ويرتل بالحان شتى.
([107]) ـ كتاب المناهج في النحو والمعاني عند السريان لمؤلفه القس جبرائيل القرداحي الطبعة الثانية ـ رومة سنة 1906 صفحة ي و يا.
([108]) ـ تاريخ سورية للدبس مج5 ص80.
([109]) ـ الكنز الثمين للقرداحي ص18.
([110]) ـ قال الأستاذ أحمد حسن الزيات في كتابه (الأدب العربي) الطبعة الخامسة ـ مصر سنة 1930 ص154 ما يلي :«والغالب على ظننا أن ابا الأسود لم يضع النحو والنقط من ذات نفسه وإنشائه وانما نظن أنه ألمّ بالسريانية ـ وقد وضع نحوها قبل نحو العربية ـ أو اتصل بقساوستها واحبارها فساعده ذلك على وضع ما وضع».
([111]) ـ مكتبة المتحف البريطاني برقم 17217 Add.
([112]) ـ اللؤلؤ المنثور ص363ـ382.
([113]) ـ فهرس المخطوطات السريانية في المتحف البريطاني ج3 ص1168ـ1172.
([114]) ـ نسخة منها في دار البطريركية السريانية الأرثوذكسية في دمشق.
([115]) ـ اللمعة الشهية في نحو اللغة السريانية للمطران يوسف داود طبعة الموصل 1896 مج1 ص168.
([116]) ـ تاريخ الأدب السرياني ص274 واللمعة الشهية ص166.
([117]) ـ في القرن السابع عشر اراد أحد علماء الموارنة برومية أن يحيي طريقة يعقوب الرهاوي هذه بأسلوب أخر أي أن تكون علامات الحركات أحرف العلة الثلاثة مكتوباً كل منها إلى جانب الحرف المحرك به في صف حروف الكلمة. وطبع زبور داود بهذه الطريقة، ولكن هذا الأختراع أيضاً لم يعش بعد ذلك العهد (انظر اللمعة الشهية مج1 ص 127ـ128).
([118]) ـ تاريخ الأدب السرياني من نشأته إلى العصر الحاضر ص274 الحاشية ـ عن كتاب وايزمن الموسوم Harae Syriacae.
([119]) ـ المتحف البريطاني مخطوطة برقم 17134 ورقة ب انظر فهرست رايت ص337 ع 20.
([120]) ـ اللمعة الشهية ص167و170.
([121]) ـ وضع ابن العبري كتاباً اسمه (صمحي) الأضواء جعله اربعة أبواب على طريقتي السريان الغربيين والشرقيين فجاء «أجود مصنف في النحو السرياني وادقه واكفاه». اقدم نسخة منه في مكتبة المتحف البريطاني برقم 3335 خطت سنة 1332. كما نظم ابن العبري أيضاً أبواب النحو في أرجوزة بالبحر السباعي وعلق عليها هوامش بالسريانية ما لم يتسع له النظم (انظر اللؤلؤ المنثور ص43).
([122]) ـ اللمعة الشهية مج1 ص25.
([123]) ـ اللؤلؤ المنثور ص374 عن كتاب (صمحي) لابن العبري مقالة 4 باب1 ف 2.
([124]) ـ نسخة منها في الخزانة البطريركية السريانية الأرثوذكسية في دمشق وقد نشرها فيلبس ثم مارتن سنة 1869 (انظر اللؤلؤ المنثور ص374 وتاريخ الأدب السرياني ص273 والسمعاني ص477 ورقم60 وص478 ورقم8 ورايت ص151).
(*) ـ كتبها المؤلف في عهد مطرنته ونشرها على صفحات المجلة البطريركية ـ دمشق السنة الثالثة العدد الثلاثون، حزيران 1965.
([125]) ـ قرية مندثرة كانت في جنوبي حمص.
([126]) ـ أسس سنة 530 على شاطئ الفرات مقابل بلدة جرابلس وخرب في القرن الثالث عشر.
([127]) ـ تقع في شمال شرقي حلب. كانت مدينة كبيرة، أما اليوم فهي بلدة صغيرة.
([128]) ـ تقع غربي دجلة بين بغداد والموصل. كانت في الماضي مقراً لكرسي مفارنة المشرق لمدة ستة قرون تقريباً.
([129]) ـ بلدة بقرب ملطية، خربت بعد القرن الثالث عشر.
([130]) ـ مفردها ميمر، وهو قصيدة سريانية. وتطلق أيضاً على المقالة أو الخطبة.
([131]) ـ واحدها مدراش، وهو شعر يصاغ على أوزان مختلفة ويرتل بألحان شتى.
)*( ـ نشر على صفحات المجلة البطريركية في العددين 6 و9 شهري حزيران وتشرين الثاني عام 1981.
([132]) ـ وضع العلامة مار غريغوريوس يوحنا ابن العبري (1286+) مجلّدين في التاريخ الكنسي، ينطوي المجلد الاول على تاريخ بطاركة أنطاكية من عهد الرسول بطرس وحتى سنة 1285م. وكلمة بطاركة جمع لبطريرك وهذه لفظة يونانية تعني رئيس الآباء وهو في الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، رئيس الكنيسة الأعلى في العالم أجمع… أما المجلد الثاني فينطوي على تاريخ جثالقة المشرق الملقبين بالمفارنة من أيام الرسول توما وينتهي بترجمة ابن العبري نفسه إلى سنة وفاته. وكلمة مفارنة جمع لمفريان وهذه لفظة سريانية تعني المثمر وهو اسم لصاحب رتبة كنسية خاصة بالكنيسة السريانية مرادفة للجاثليق فهو دون البطريرك وفوق الأسقف وكان كرسيه في تكريت ثم نقل إلى دير مار متى فالموصل ـ وللكتاب نسخ قديمة في مكتبات الفاتيكان واكسفورد، والقدس، وغيرها. نشره المستشرقان ابلوس ولامي، منقولاً إلى اللاتينية سنة 1877 ـ 1879.
([133]) ـ بلدة قريبة للرقة اسمها اليوم تل المناخير.
([134]) ـ أنشئ هذا الدير في اوائل القرن السادس على شاطئ الفرات مقابل بلدة جرابلس واشتهر بالعلماء الذين تخرجوا فيه واندثر في القرن الثالث عشر للميلاد.
([135]) ـ انظر اللؤلؤ المنثور في تاريخ العلوم والآداب السريانية للعلامة البطريرك أفرام الاول برصوم (1957+) الطبعة الثالثة، بغداد 1976 الصفحات 320 و321 و339.
([136]) ـ في خزانتنا البطريركية في دمشق نسخة سريانية من الإثني عشر قانوناً التي سنّها في مجمع الرقة (انظر المصدر السابق ص 340).
([137]) ـ نسبة إلى دير الجب الخارجي الذي كان يقع في برية الفرات بين حلب ومنبج وقد اندثر.
([138]) ـ نسبة إلى بلدة قورس ولعلها تقع قرب منبج.
([139]) ـ كان المحتفل بالقداس بحسب الطقس السرياني القديم يقول عند كسر القربان «لنكسر الخبز السماوي» وفي عهد البطريرك جورجي (790+) حدث خلاف في الكنيسة بسبب ذلك. فحذفت العبارة، واحتدم الجدال على ذلك. وقد كتب البطريرك جورجي رسالة ضافية أنفذها إلى كوريا شماس (بيت نعر) بهذا الخصوص. وعقد البطريرك قرياقس (817+) مجمعاً في بيت جبرين سنة 808م وحرم الجبّيين المنفصلين عن الكنيسة لرفضهم العبارة المذكورة أعلاه.
([140]) ـ عقد العلامة البطريرك أفرام برصوم (1957+) فصلاً في موضوع انتخاب مار ديونيسيوس التلمحري بطريركاً. وأثبت جدول الآباء الذين وقّعوا محضر جلسة انتخابه، ونشر ذلك في مجلته البطريركية القدسية (السنة السادسة 1939 ص 213 ـ 219) ومما قاله: «وقد عدّ العلامة ابن العبري آباء المجمع المقدس خمسة وأربعين نقلاً عن ميخائيل الكبير. ولا عبرة بما ورد في جدول الأساقفة في تاريخه حيث جاء فيه أن عددهم كان ثلاثة وأربعين فإن ذلك من سهو النساخ. أما نسختنا القديمة العهد المكتوبة بنحو من أربعين سنة بعد الحدث المشهور فقد ورد عددهم ثمانية وأربعين لأن ثلاثة من الآباء وقّعوا بواسطة وكلائهم فعدوّا في ضبط الانتخاب في جملة آباء المجمع.
([141]) ـ نسبة إلى دير مار متى في جبل مقلوب شرقي الموصل. أسس في القرن الرابع للميلاد وهو لا يزال عامراً.
([142]) ـ كلمة سريانية تعني المعلّم تطلق على علماء السريان جمعها ملافنة.
([143]) ـ بلدة كانت تقع ما بين حلب والرها وهي الآن خربة.
([144]) ـ في مدينة الرقة. عمّرته القيصرة ثاودورة (548+) اندثر في القرن العاشر للميلاد.
([145]) ـ في مدينة الرقة وعلى جانبيه نهر البليخ زاره هارون الرشيد يوماً وقد اندثر.
([146]) ـ قول المؤلف هذا تضمين لقول يوحنا المعمدان عن السيد المسيح حيث قال: «يأتي بعدي من هو أقوى مني الذي لست أهلاً أن أنحني وأحلّ سيور حذائه»(مر 1: 7).
([147]) ـ وضع اليد، وفي السريانية، سيوميذ: أي الرسامة الكهنوتية. وسميت كذلك لأن الراسم، أثناء طقس الرسامة، يضع يمينه على رأس قابل الرسامة.
([148]) ـ وهي اليوم قرب مدينة المنزلة بجوار الاسكندرية وتقع عند التقاء النيل بالبحر الأبيض المتوسط وبها جزيرة تحمل الاسم نفسه (تنيس).
([149]) ـ أي البحر الأبيض المتوسط.
([150]) ـ الربوة: نحو عشرة آلاف نسمة.
([151]) ـ هو الأنبا ياكوبوس (810+).
([152]) ـ ولد في سميساط، وتهذّب وترهّب في دير قنسرين، عرف بالجمال لاتمامه قانون ديره بخدمة نقل الملح على الجمال مدة سنة. رسم بطريركاً على الكرسي الرسولي الأنطاكي سنة 595م وتوفي سنة 631م. أهم أعماله، عقد الاتحاد مع الكرسي الاسكندري. وقد وصف ذلك في رسائل شتّى كتبها بالسريانية لها قيمتها الأدبية والتاريخية.
([153]) ـ هو البابا أنيسطاسيوس الذي جلس على الكرسي الاسكندري عام 598م وتوفي عام 611م.
([154]) ـ هو بطرس الثالث البطريرك الأنطاكي (591+).
([155]) ـ هو دميانوس بابا الاسكندرية، جلس على الكرسي البطريركي سنة 563م وتوفي سنة 598م.
([156]) ـ دينار: لفظ أخذ من اللفظ اليوناني اللاتيني «ديناريوس اوريوس» أطلق على وحدة من وحدات السبكة الذهبية عند العرب الذين عرفوا هذه العملة الرومانية واستعملوها.
([157]) ـ الدرهم، وحدة من وحدات السبطة الاسلامية الفضية أخذ اسمه من الدراخمة اليونانية.
([158]) ـ عالم جليل، درس في دير قنسرين، وترهّب ورسم كاهناً، تعمق باللاهوت والفلسفة وأجاد آداب السريانية واليونانية وأتقن العربية. ورسم مطراناً للرها سنة 813م وانتقل إلى جوار ربه سنة 832م له تاريخ كنسي وجيز من سنة 754 إلى سنة 812م ونقل من اليونانية إلى السريانية أشعار غريغوريوس النزينزي (390+).
([159]) ـ الثاولوغوس كلمة دخيلة في اللغة السريانية معناها: اللاهوتي وهو لقب أطلق على غريغوريوس النزينزي (390+) بطريرك القسطنطينية. وكان لاهوتياً كبيراً وشاعراً مفلقاً وخطيباً مفوهاً.
([160]) ـ بلدة تقع عند منابع نهر الخابور في سورية.
([161]) ـ العلماني في المصطلح الكنسي هو الذي ليس بإكليريكي أي غير حائز على رتبة كهنوتية مهما صغرت.
([162]) ـ لعله اسحق بن ابراهيم الخزاعي نائب الخليفة المأمون على بغداد واسحق هذا ابن عم طاهر بن الحسين.
([163]) ـ كان يقع قرب مدينة بلد على ضفة دجلة.
([164]) ـ وهم أهالي الوجه البحري في دلتا النيل والواقع شمال القاهرة.
([165]) ـ هو الأنبا يوساب بابا الاسكندرية، جلس على الكرسي البطريركي سنة 823 وتوفي سنة 841م.
([166]) ـ الذي عيّن والياً على مصر سنة 823م.
([167]) ـ كذا في النص السرياني، ولعل هذا سهو من الناسخ حيث أن الأقباط الأرثوذكس حتى اليوم لا يعمّدون الأطفال الذكور قبل أن يبلغوا من العمر أربعين يوماً. ولا يعمّدون الأطفال الإناث قبل أن يبلغن من العمر ثمانين يوماً لا ثلاثين كما جاء في النص السرياني.
([168]) ـ هليوبوليس وتعرف اليوم ببلدة عين شمس وتقع في القاهرة ولا تزال إحدى المسلات قائمة في حي المطرية شرقي مصر الجديدة.
([169]) ـ الذراع من المقاييس القديمة طوله الآن بين الخمسين والسبعين سنتمتراً.
([170]) ـ الرطل، اثنتا عشر اوقية أو 2564 غراماً.
([171]) ـ يعرف حالياً بمقياس الروضة أو مقياس نهر النيل وهو في القاهرة بمصر، والقصر لا يزال موجوداً ويسمى بقصر المانسترلي وقد اتخذ مقراً لإعادة التراث الفني.
([172]) ـ في النص السرياني (أباه) ولعله من الناسخ.
([173]) ـ انظر سفر الملوك الثاني (17: 33).
)*( ـ نشر هذا المقال على صفحات المجلة البطريركية، دمشق، في العدد 13 أذار 1982.
)*( ـ لم يذكر البطريرك أفرام الأول برصوم فيما كتبه عن البطريرك يوحنا ابن المعدني مما نشره عن صورة إيمانه أنه اجتمع مع بافري أندري الإفرنجي ورفاقه. وقد نقلنا ذلك عن كتاب رسالة البرهان والإرشاد تأليف القس صليبا الموصلي (1309 ـ 1350م) التي كان قد نقلها الراهب (البطريرك بعدئذ) أفرام الأول برصوم عام 1909 عن نسخة في خزانة نمرود رسام بالموصل.
)*( ـ نشر على صفحات المجلة البطريركية في العددين 25 و 26 أيار وحزيران 1983 السنة 21.
([174]) ـ مقدمة الترجمة الإنكليزية لكتاب (الحمامة) بقلم المستشرق الهولندي ونسنك A. J. Wensinck طبعة ليدن 1909.
([175]) ـ مَلَطية: مدينة على الفرات، قال ياقوت الحموي في «معجم البلدان»(4[ليبسك 1869] ص 634) «مَلَطية: بلدة من بلاد الروم مشهورة مذكورة، تتاخم الشام، وهي للمسلمين». ولملطية أهمية كبيرة لدى السريان حيث غدت مصدر إشعاع للعلم والمعرفة بعد الرها. وممن لمع فيها البطريرك ميخائيل الكبير (ت1199م) المؤرّخ الشهير الذي يظن أنه كان عم ابن العبري كما ذكر المطران يوسف الدبس (ت1907) في كتابه «تاريخ سورية» ـ (6[بيروت 1895] ص 348) نقلاً عن كتاب الليتورجيات لرينودوسيوس ص 469 الذي روى أنه وجد في نسخة أحد كتب ابن العبري، في باريس، أنه كان ابن أخي البطريرك ميخائيل الكبير.
([176]) ـ دحض البطريرك أفرام الأول برصوم رأي الذين تجنّوا على ابن العبري بقولهم أنه من أصل يهودي، في مقال نشره بمجلة «الكلية» الصادرة في بيروت سنة 1927، ومجلة الحكمة في سنتها الثانية عام 1927، وبكتابه «اللؤلؤ المنثور» طبعة بغداد سنة 1976 ص 413 ومنه اقتبس البطريرك يعقوب الثالث بكتابه «الحقائق الجلية» 1972 ص 25 ـ 37.
([177]) ـ ديوانه السرياني طبعة الأب الربان يوحنا دولباني (مطران ماردين بعدئذ) ـ القدس 1929 ص 71.
([178]) ـ اللؤلؤ المنثور للبطريرك أفرام الأول برصوم طبعة بغداد 1976 ص 413.
([179]) ـ المجلة البطريركية ـ دمشق العدد 13 السنة الثانية.
([180]) ـ كما ادعى المستشرق (برنستين) وفنّد رأيه هذا علماء الأدب السرياني من شرقيين ومستشرقين. (انظر الأب لويس شيخو ـ مجلة المشرق البيروتية سنة 1898 ص 291و292).
([181]) ـ كتابه الحمامة يونا تحقيق وتعريب كاتب هذه السطور طبعة بغداد 1974 ص 203.
([182]) ـ كتابه (تاريخ مختصر الدول) بالعربية طبعة بيروت 1958 ص 446.
([183]) ـ ديوانه السرياني ص 48.
([188]) ـ رتبة المفريانية هي الرتبة الثانية بعد البطريركية في الكنيسة السريانية الأرثوذكسية وكان لصاحبها السلطة على الأساقفة في منطقة ما بين النهرين الشرقية والعراق وفارس أي كل ما كان يدخل سابقاً في المملكة الساسانية.
([189]) ـ التاريخ الكنسي لابن العبري بالسريانية (المفارنة) في ترجمة اغناطيوس صليبا.
([194]) ـ تاريخ الدول بالسريانية.
([195]) ـ مزامير داود (138: 5).
([196]) ـ وتدعى أيضاً قطيعة الدقيق وهي في جانب الكرخ.
([197]) ـ المشرق 1 (بيروت 1898) ص 415.
([198]) ـ التاريخ الكنسي (المفارنة) لابن العبري ـ ترجمة حياته بقلمه.
([199]) ـ وهي لاقبين، وعرقا وقليسورا، وجوباس وصمحا، وقلوديا، وجرجر.
([200]) ـ سيرته بقلمه في كتاب التاريخ الكنسي (المفارنة).
([202]) ـ تضمين العدد 6 من الاصحاح 40 من سفر نبوة اشعيا.
([203]) ـ اللؤلؤ المنثور ص 414.
([205]) ـ أي أن اللغة عربية مكتوبة بحروف سريانية.
([206]) ـ الأب لويس شيخو، المشرق البيروتية 1 (1898) ص 415 و451.
([207]) ـ اللؤلؤ المنثور ص 422.
([208]) ـ لسان المشرق الموصلية 1 (1949) ع 10 ص 47 ـ 48.
([209]) ـ تاريخ سورية للدبس مج 6 ص 352.
([210]) ـ اللؤلؤ المنثور ص 423.
([212]) ـ الطرفة في مخطوطات دير الشرفة ـ للخوري اسحق أرملة ـ مطبعة جونية 1936 ص409.
([213]) ـ مجلة «المشرق» البيروتية 1 (1898) ص 452.
([214]) ـ الحمامة تحقيق كاتب هذه السطور وتعريبه بغداد 1974 المقدمة ص 10 ـ 14.
([215]) ـ اللؤلؤ المنثور ص 424.
([216]) ـ البانثيئستية هي الاعتقاد بأن كل طبيعة هي مساوية في الجوهر للذات الإلهية والجوهر الإلهي، انظر اللؤلؤ المنثور ص 428.
([217]) ـ عن اللؤلؤ المنثور ص 428.
([218]) ـ كلمة يونانية تعني الخدمة الجمهورية وهي مجموع صلوات القداس ويقال لها أيضاً أنافورة وهي أيضاً لفظ يوناني معناه رفع القربان (اللؤلؤ المنثور ص 503).
([219]) ـ Renaudotu, Liturgiarum Orient Collectio 11, 456.
([220]) ـ اللؤلؤ المنثور ص 429 عن معذعذان في دير الزعفران والخزانة البطريركية في دمشق.
([221]) ـ شيخو ـ المشرق (1898) ص 453.
([222]) ـ المجلة البطريركية السريانية ـ القدس 2 (1935) ص 228 ـ 235.
([223]) ـ المشرق البيروتية 1 (1898) ص 606.
([224]) ـ أهدانا هذه النسخة الأستاذ الفاضل متى المقدسي جرجيس فندقلي.
([225]) ـ اللؤلؤ المنثور ص 425 وشيخو ـ المشرق البيروتية 1 (1898) ص 507 عن تاريخ اللغة السريانية للدكتور ماركسي.
([226]) ـ لخصنا وصف الكتاب عن اللؤلؤ المنثور ص 417 ـ 418.
([228]) ـ المشرق الموصلية (1947) ص 819 ـ 825 عن النجاة لابن سينا مطبعة السعادة القاهرة 1331م هـ ص 258.
([229]) ـ اللؤلؤ المنثور ص 420.
([231]) ـ مجلة المشرق البيروتية 1 (1898) ص 508.
([232]) ـ «المشرق» البيروتية 1 (1898) ص 508.
([233]) ـ اللؤلؤ المنثور ص 426.
([234]) ـ مجلة «لسان المشرق» الموصلية 2 (1949 ـ 1950) ص 21 ـ 24 و48 ـ 50 و103 ـ 104 و244 ـ 247.
([235]) ـ نظم السريان قصائدهم دون التزام بقافية، وكان الشعر لديهم سليقة فجاءت قصائدهم سلسة بديعة معنى ومبنى كقصائد مار أفرام السرياني واسحق الآمدي وبالاي ويعقوب السروجي والقواقين ويعقوب الرهاوي وغيرهم. وفي القرن التاسع للميلاد بدأوا باستعمال القافية مقلّدين بذلك العرب. ولعل أنطون التكريتي الفصيح أحد مبتكريها. واستعمال القافية أفقد الشعر سلاسته فبدت على أغلبه ظاهرة التكلّف.
([236]) ـ المجلة البطريركية القدسية 7 (1940) ص 149.
)*( ـ نشرنا هذا المقال على صفحات المجلة البطريركية، دمشق، في العدد 2 شباط 1981، ونقّحناه وأضفنا عليه بعض المعلومات، خاصة أبياتاً سريانية للمثلث الرحمة البطريرك أفرام الأول برصوم نظمها في عهد رهبنته وجدناها بخط يده بين أوراق مبعثرة فرأينا أن نضيفها إلى ترجمة المثلث الرحمة المفريان بهنام الرابع.
([237]) ـ المفريان كلمة سريانية تعني المثمر أطلقت على من نال رتبة (الجثلقة) في الكنيسة السريانية وهذه الرتبة هي دون البطريركية وفوق المطرانية يخضع صاحبها للبطريرك الأنطاكي السرياني الأرثوذكسي. وكان كرسيه في تكريت ثم نقل إلى دير مار متى فالموصل وكان يرأس أساقفة منطقة العراق وبلاد فارس.
([238]) ـ اهتمّ المرحوم الخوري موسى متى الشماني بنشر مجموعة من مواعظ المثلث الرحمة المفريان بهنام الرابع وذلك سنة 1973م في بغداد. وصدّرنا الكتاب بمقدمة كتبناها في ترجمة المفريان البار وتحليل أسلوبه بالوعظ.
([239]) ـ الصفحة (37) من كتاب «لماذا أنا أرثوذكسي؟» وهو خلاصة الخطب الثلاث عشرة التي ألقاها العلامة الخوري عيسى أسعد للروم الأرثوذكس في كاتدرائية الأربعين شهيداً في حمص عام 1941 وجمعها ابنه الأستاذ منير أسعد وطبعت بمطبعة السلامة ـ حمص.
)*( ـ الكلمة التي ألقاها قداسة سيدنا البطريرك زكا الأول عيواص في افتتاح مؤتمر «الشعوب والأديان» المنعقد في ميلانو ـ إيطاليا في 19/9/1993، ونشرت على صفحات المجلة البطريركية في الأعداد 127و128و129 أيلول وتشرين 1و2 1993 السنة 31 ص 387 ـ 392.
)*( ـ ألقيت في ندوة الإخاء الديني المنعقدة بتاريخ 24/1/2000 في مكتبة الأسد ـ دمشق، ونشرت على صفحات المجلة البطريركية في الأعداد 191و192و193 كانون الثاني وشباط وآذار 2000 السنة 38 ص 17 ـ 23.
([240]) ـ المعجم العربي الأساسي (لاروس) طبعة 1988 تونس. تحت لفظة حضارة.
([241]) ـ دروس التاريخ الإسلامي لمحي الدين الخياط بيروت 1231 هـ.
([242]) ـ الدرر النفيسة في تاريخ الكنيسة للبطريرك أفرام الأول برصوم حمص 1940 ص 211و212.
([243]) ـ تاريخ اليعقوبي ج1 ص 214 و298 وتاريخ ابن خلدون 2: 150.
([244]) ـ مقالة في وصف الشهداء الحميريين للبطريرك أفرام الأول برصوم، مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق 1948 وكتاب الشهداء الحميريين العرب للبطريرك يعقوب الثالث طبعة دمشق 1966. المنجد في الأعلام طبعة 14 ص سنة 1986.
([245]) ـ أمراء غسان للمستشرق تيودور نولدكه، تعريب الدكتورين بندلي جوري وقسطنطين زريق ـ المطبعة الكاثوليكية بيروت 1933 ص 24و25.
([246]) ـ ذخيرة الأذهان للقس بطرس نصري الكلداني ـ الموصل 1905 مج1 ص 221 عن يوسف شمعون السمعاني الماروني ـ المكتبة الشرقية باللاتينية مج 2 مقالة 47 ـ 53.
([247]) ـ تاريخ الطبري ج2 ص 649.
([248]) ـ عصر السريان الذهبي للفيكونت طرازي، طبعة حلب 1991 ص 27و28.
([249]) ـ اللؤلؤ المنثور ص 158و159 والتنبيه والإشراف للمسعودي ص 155 والفهرست لابن النديم ص 369 ـ 370.
([250]) ـ ضحى الإسلام لأحمد أمين جزء 2 صفحة 59 ـ 60.
([251]) ـ نظرات خاطفة في تاريخ كنيسة أنطاكية السريانية المشترك مع الإسلام عبر العصور (محاضرة ألقاها المؤلف في كلية اللاهوت في جامعة هومبولدت ـ برلين في 16/5/1995 نشرت في المجلة البطريركية الدمشقية.
([252]) ـ الطرفة النقية من تاريخ الكنيسة المسيحية للخوري عيسى أسعد طبعة حمص عام 1924 ص 225.
)*( ـ نشر على صفحات المجلة البطريركية في العدد 137 أيلول 1994 ص 418 ـ 428.
([253]) ـ مجلة لسان المشرق ـ الموصل، السنة الثانية 1949 العددان 6و7 وتاريخ الكنيسة السريانية الهندية للمطران (بعدئذ البطريرك) يعقوب الثالث طبعة بيروت 1951 ص 65 ـ 69.
([254]) ـ تاريخ الكنيسة السريانية الهندية للمطران (بعدئذ البطريرك) يعقوب الثالث ـ طبعة بيروت 1951 ص91و 92.
([255]) ـ وهو جرجس (كيوركس) ابن شمعون حفيد أخي البطريرك الأنطاكي عبدالمسيح الأول (1662ـ1686)
([256]) ـ المجلة البطريركية ـ القدس ـ السنة السابعة 1940 العدد الخامس ص 252.
([257]) ـ النبذة التي كتبها الخوري جرجس طنبرجي الحلبي بلهجة عامية حلبية، وارسلها إلى بعض أصحابه في حلب، ضمنها رحلة المفريان وصحبه إلى ملبار الهند بوجه التفصيل، نشرها البطريرك أفرام الأول برصوم على صفحات المجلة البطريركية ـ القدس ـ السنة السابعة 1940 العدد الخامس ص 241ـ253.
([258]) ـ تاريخ الكنيسة السريانية الهندية ص 155 ـ 160.
([259]) ـ فيه ص 162، عن نسخة رسالة بحوزة مؤلف الكتاب.
)*( ـ نشر على صفحات المجلة البطريركية في العددين 149 و150 تشرين الثاني وكانون الأول 1995 ص 610 ـ 634.
([260]) ـ مقال للمؤلف بموضوع «نجوم أنطاكية المشرقة» نشرت بالمجلة البطريركية العدد 137 أيلول 1994 السنة 32 ص418و419.
([261]) ـ تاريخ الكنيسة السريانية الهندية للبطريرك يعقوب الثالث (في عهد مطرنته) طبعة بيروت 1951 ص66.
([262]) ـ العصارة النقية في تاريخ الكنيسة السريانية الهندية للبطريرك يعقوب الثالث طبعة العطشانة ـ لبنان سنة 1974 ص86.
([264]) ـ المنشور البطريركي الذي أصدره المثلث الرحمة البطريرك يعقوب الثالث في 12 تموز 1964 وذلك على أثر عودته من الهند.
([265]) ـ المجلة البطريركية العدد 126 السنة الثالثة عشرة حزيران 1975 ص371.
([266]) ـ العدد 127 أيلول 1975 ص429.
)*( ـ نشر على صفحات المجلة البطريركية في الأعداد 181و182و183 كانون الثاني وشباط وآذار لعام 1999 السنة 37 ص 20 ـ 41.
)*( ـ نشر على صفحات المجلة البطريركية في العددين189و190 تشرين الثاني وكانون الأول لعام 1999 السنة 37 ص 626 ـ 673.
([267]) ـ بحث في أسرار الكنيسة السبعة للمؤلف، المجلة البطريركية الأعداد 181و182و183 كانون الثاني وشباط وآذار لعام 1999 السنة 37 ص 33.
([268]) ـ لم يحبّذ بعضهم عادة بسط الكاهن كف يده اليسرى وقرع صدره باليمنى عندما يقول استجبني يا رب، ولكننا نرى أنه لا بأس من ممارسة ذلك طالما قد ورثنا هذه العادة من آبائنا وهي إشارة إلى انسحاق القلب والتواضع والوداعة لدى تضرعنا إلى اللّه تعالى لاستحالة الخبز والخمر إلى جسد الرب يسوع ودمه.
)*( ـ أدرجت ترجمة حياته هذه أولا في صدر كتابه النفيس «اللؤلؤ المنثور» الذي أشرف الكاتب على نشره في بغداد عام 1976، ثم على صفحات المجلة البطريركية العدد 1 كانون الثاني 1981 السنة 19 ص 15 ـ 20.
)*( ـ نشر على صفحات المجلة البطريركية في العدد 71 كانون الثاني 1988 السنة 26 ص 10 ـ 17.
([269]) ـ نشرنا نبذة مختصرة في ترجمة حياته وأسماء أهم مؤلفاته المطبوعة منها والمخطوطة في مقدمة الطبعة الثالثة لكتابه «اللؤلؤ المنثور في تاريخ العلوم والآداب السريانية» الذي نشرناه ضمن مطبوعات المجمع العلمي العراقي في بغداد عام 1967 وفي ما يأتي بعض ما قلناه فيه:
نال المترجم شهرة عالمية في أوساط العلوم والآداب، واللغتين العربية والسريانية، فبالاضافة إلى تآليفه، كانت بعض الجامعات تنتدبه في مواسم خاصة، ليحاضر في مواضيع تاريخية ولغوية وغيرها. ناهيك عما كانت تلهج به الصحف والمجلات العلمية والأدبية، من إطراء مواهبه الفذة وآثاره النفيسة، فقد لقبه فيلسوف الفريكة أمين الريحاني، بفخر الشرق في زمانه. ولا غرو فهو مؤلف «اللؤلؤ المنثور» الذي يعد بحراً من أي النواحي جئته. سهل الغوص، ميسور الصيد من لآلئ الألفاظ الفصيحة، وفنون البيان، وضروب المعاني، والبديع المستملح السائغ، دون ما تكلف أو معاناة، فهو معجم بذاته فريد، ودائرة معارف سريانية زاخرة. وبعد، فهذا غيض من فيض ترجمة حياة البطريرك أفرام الاول برصوم الحافل بالأمجاد، رأينا أن ندرجها هنا لفائدة القارئ العزيز.