الأعـيــاد في كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية
بقلم قداسة البطريرك مار إغناطيوس زكا الأول عيواص
العيد في المفهوم المسيحي هو فرصة روحية، ووقت تعيّن الكنيسة المقدسة موعده ومناسبته، وتفرض على المؤمنين إحياءه والاحتفال به بعدم مزاولة الأعمال الدنيوية العادية، والانصراف إلى الصلاة، وإقامة الشعائر الدينية إكراماً للّه تعالى، وتذكاراً لمنحه الإلهية التي سكبها على المؤمنين، والتأمل بالمناسبة التي خُصّص يوم العيد لأجلها.
وقد أخذت الكنيسة المسيحية سنّة الاحتفال بالأعياد من الكنيسة الموسوية، حيث ذكرت أسفار العهد القديم، أن اللّه نفسه قد فرض على شعب موسى أعياداً ليهيئ لذلك الشعب أوقاتاً يرتاح بها من أعماله العادية، ويتفرّغ خلالها للأمور الروحية، ويتأمل بأعماله تعالى ونعمه الغزيرة وعجائبه الباهرة، في سبيل خلاص ذلك الشعب (خر 12: 24) وليذكر في أجياله اللاحقة مراحم اللّه وإحساناته على الأجيال السابقة وعنايته بهم (خر 12: 2) وبذلك يُواصل الصالحون من البشر حفظ شريعة اللّه (خر 13: 8 ـ 16) ولا ينسون فرائضه إذ يذكرون رعايته الدائمة للبشر ومحبته ويتّخذونه مثالاً لهم بالمحبة، ويعبّرون عن مشاعر الود الصافي بعضهم لبعض بمساعدة الفقير واليتيم والمحتاج.
فالأعياد إذن وضع إلهي، وترتيب سماوي، فرضها اللّه على بني اسرائيل، وأمر بحفظها والاحتفال بها، وحذّر من إهمالها، كما أنه تعالى عاقب من لم يراعِ حرمتها (عدد 15: 23و26). فقد جاء في سفر اللاويين ما يأتي: «وكلّم الرب موسى قائلاً، كلّم بني اسرائيل وقل لهم مواسم الرب التي فيها تنادون محافل مقدسة هذه هي مواسمي، ستة أيام يُعمل عمل، وأما اليوم السابع ففيه سبت عطلة محفل مقدس، عملاً ما لا تعملوا، إنه سبت للرب في جميع مساكنكم»(لا 23: 1 ـ 3) وقد خصّص اللّه تعالى هذه الأعياد له بقوله: «هذه مواسمي وأعيادي» (لا 23: 1 ، 37) وقال تعالى عن أحد هذه الأعياد ما ينطبق على سائر الأعياد بقوله: «وكل نفس تعمل عملاً ما ففي هذا اليوم عينه أبيد تلك النفس من شعبها»(لا 23: 30).
وأول أعياد العهد القديم هو العيد الأسبوعي السبت الذي ذكر في سفر التكوين أن اللّه استراح فيه وباركه (تك 2: 3) وجاء في سفر الخروج أن اللّه أمر شعب موسى بحفظه (خر 20: 8).
وثاني هذه الأعياد هو عيد الفصح، الذي هو أكبر الأعياد وأهمها عند اليهود (خر 12: 42 ولا 23: 4) فيه يذكرون إخراج الرب آباءهم من أرض مصر فيحفظونه سنوياً ليلاً، وهذه الليلة ذكرت في سفر التثنية (16: 1) حيث قيل: «احفظ شهر أبيب (نيسان) واعمل فصحاً للرب إلهك لأنه في شهر أبيب أخرجك الرب إلهك من مصر ليلاً» فهذا العيد يُعدّ تذكيراً لهم بمراحم اللّه عليهم وتخليصه إياهم من العبودية وكذلك تخليص أبكارهم من الموت لعبور الملاك المهلك عن بيوتهم الملطّخة بدم خروف الفصح، وضربه كل أبكار المصريين (خر 12: 1) وكان خروف الفصح هذا رمزاً لحمل اللّه الرافع خطايا العالم، المسيح يسوع المذبوح لأجلنا ولأجل خلاصنا على حد تعبير الرسول بولس القائل: «لأن فصحنا أيضاً المسيح، قد ذُبح لأجلنا»(1كو 5: 7).
وثالث هذه الأعياد هو عيد الأسابيع أو عيد الحصاد (خر 34: 22 ولا 23: 15 وتث 16: 6 وحز 23: 16) ويسمى أيضاً يوم الباكورة (عد 28: 26) وعيد الخمسين (أع 2: 1) ويقع عند نهاية حصاد القمح، وكان مناسبة لتقديم الشكر للّه على الحصاد الذي تُقدّم باكورته للّه تعالى ويقع هذا العيد في اليوم الخمسين من عيد الفصح، وهو رمز إلى عيد العنصرة المسيحي الذي حلّ فيه الروح القدس على تلاميذ الرب، وعلى أثر خطاب مار بطرس، آمن بالرب ثلاثة آلاف نفس كانوا باكورة المؤمنين يوم ميلاد الكنيسة.
ورابع هذه الأعياد هو عيد المظال ويسمى أيضاً عيد الجمع لوقوعه في نهاية موسم الحصاد، وعند اجتناء الأثمار في آخر السنة (عدد 19: 12 وخر 23: 16) وهو أحد أعياد اليهود الكبرى (لا 23: 24 ـ 43) ويذكرهم بارتحال آبائهم في البرية وسكناهم في المظال، وفيه يخرج الشعب من أماكن سكناهم ليقيموا في مظال مصنوعة من أغصان الشجر ومنصوبة على أسطح الدور، وفي الدار الخارجية للهيكل وفي الأزقة وعلى الجبال المجاورة لأورشليم. وهذا العيد هو سبعة أيام للرب، وفي اليوم الثامن منها اعتكاف وراحة وعبادة في محفل مقدس عظيم (لا 23: 39 و 19: 37).
وخامس هذه الأعياد هو عيد تذكار هتاف البوق (لا 23: 24).
وسادس هذه الأعياد هو عيد الكفارة (عد 19) وهو من أعيادهم المهمة أيضاً نهى اللّه فيه الشعب عن كل عمل وأمر بإذلال النفس قائلاً: «أما العاشر من هذا الشهر السابع فهو يوم الكفارة محفلاً مقدّساً يكون لكم تذللون نفوسكم وتقرّبون وقوداً للرب، عملاً ما لا تعملون في هذا اليوم عينه لأنه يوم كفارة للتكفير عنكم أمام الرب إلهكم (لا 23: 24 ـ 29) وفيه كان الحبر الأعظم يدخل إلى قدس الأقداس ويكفّر عن خطاياه وخطايا الشعب كافة.
وسابع هذه الأعياد هو عيد رأس الشهر (عدد 28: 11).
وثامن هذه الأعياد هو عيد الفوريم: الذي وضع تذكاراً لنجاة الشعب اليهودي من دسيسة هامان بواسطة مردخاي واستير (اس 9: 20 ـ 32) ودعي بالفوريم لأن هامان سحب (فوراً) أي قرعة ليناسب يوما لإجراء مقصده الرديء (اس 3: 7).
وتاسع هذه الأعياد هو عيد التجديد، وقد وضع هذا العيد تذكارا لتطهير الهيكل وبناء المذبح وطرد الأعداء على يد يهوذا المكابي (1مك 4: 52 ـ 59) وكان ذلك سنة 164 ق.م وقد ذكر هذا العيد مرة واحدة في الإنجيل المقدس (يو 10: 22).
هذه أهم الأعياد التي فرضت من اللّه على اليهود بترتيب طقوسها وكيفية ممارستها، ذكرناها ههنا لنثبت أن الأعياد وضعها اللّه قديماً ، وأنه تعالى قد أمر بحفظها بقوله لشعب النظام القديم: «فتحفظون كل فرائضي وكل أحكامي وتعملونها. أنا الرب»(لا 19: 37). وحذّر الرب الشعب من إهمالها، وهدّد بالعقاب الصارم لكل من لا يصون حرمتها بقوله: «وكل نفس تعمل عملاً ما في هذا اليوم عينه أبيد تلك النفس من شعبها» (لا 23: 30) وقد حفظ شعب النظام القديم هذه الأعياد حتى ظهور الرب يسوع وهو نفسه أظهر قبوله لها بحضوره بعضها، وبممارسته الفروض التي كانت تقام فيها (مت 26: 17 ومر 14: 13 ولو 2: 41 ويو 2: 13).
فالرب مثلاً قد كمّل عيد الفصح مع تلاميذه بموجب السنّة الموسوية (مت 26: 19). وقد حضر في الهيكل في عيد التجديد (يو 10: 22) وحضر في عيد المظال (يو 7: 37و38) ولم تفرض أعياد اليهود هذه على المسيحيين، ولذلك ساغ للرسول بولس أن يقول لهم: «فلا يحكم عليكم أحد في أكل أو شرب أو من جهة عيد أو هلال أو سبت التي هي ظل الأمور العتيدة» (كو 2: 16) وقد تمت بذلك نبوة النبي هوشع عن الأمة اليهودية على لسان الرب القائل: «وأبطل كل أفراحها وأعيادها ورؤوس شهورها وسبوتها وجميع مواسمها»(هو 2: 11).
وبعد صعود الرب إلى السماء ابتدأ الرسل الأطهار يعيِّدون أعياد التدابير الإلهية من تجسد الفادي وفدائه البشرية. وأهم هذه الأعياد وأولها هو عيد قيامة الرب يسوع من بين الأموات في فجر الأحد والرسول بولس يقول بهذا الصدد: «لأن فصحنا أيضاً المسيح قد ذُبح لأجلنا إذاً لنعيد ليس بخميرة عتيقة
ولا بخميرة الشر والخبث بل بفطير الإخلاص والحق» (1كو 5: 7و8). ولما كان الرسول بولس في أفسس أسرع إلى أورشليم ليحتفل بعيد العنصرة بقوله: «ينبغي على كل حال أن أعمل العيد القادم في أورشليم»(أع 18: 21) وكذلك لما كان في آسيا وعد مؤمني كورنثوس بالذهاب إليهم بعد أن يعيّد عيد العنصرة (1كو 16: 8) فمن هذا يستدل على أن الأعياد مأمور بها في العهد الجديد، ومصرّح بممارستها وأن الاحتفال بها كان في أوقات معيّنة. ومما هو جدير بالملاحظة أن جميع الكنائس الرسولية في العالم تعتقد بالأعياد وتحتفل بها، وإذا كان الرب يسوع قد مارس بنفسه إبان تجسّده أعياد العهد القديم، أفلا يجب علينا من باب أولى أن نحافظ كل المحافظة على أعياد العهد الجديد التي هي أتمّ وأفضل حتى لا ننسى محبة اللّه لنا وإحسانه إلينا لأن الأعياد تذكّرنا بمِنَحٍ ملأت الأرض، وبركات من رحمة اللّه المتجسّدة في شخص الفادي العجيب، وتقدم للمؤمنين جيلاً بعد جيل دروساً بكيفية مؤثرة تضرم في قلوبهم نار الغيرة الدينية وتبثّ فيهم روح التقوى والتعبّد لله.
وقد شهد موسهيم المؤرخ البروتستانتي بأن الأعياد كانت وما تزال تمارس في الكنيسة منذ العصر الرسولي بقوله: «إن مسيحيي القرن الأول اجتمعوا للعبادة في اليوم الأول من الأسبوع، اليوم الذي استرجع فيه المسيح حياته ويظهر على أنهم كانوا يحفظون يوماً دينياً آخر لتذكار حلول الروح القدس على الرسل»(وجه 42).
وقد زادت حقيقة تمسك الرسل بالأعياد وضوحاً في أوامر الرسل وقوانينهم، وإن جميع المسيحيين يحتفلون بالأعياد منذ فجر المسيحية وإن اختلافهم في تعيين موعد يوم عيد الفصح الذي توصّلوا إلى حل له في مجمع نيقية عام 325 خير برهان على تمسّكهم بالأعياد منذ بدء المسيحية.