مار باسيليوس بهنام الرابع
مفريان المشرق(*) (1852 ـ 1859)
ولد المفريان[1] بهنام الرابع في الموصل نحو سنة 1790 من أسرة (السعيد) التي تلقّب أيضاً بـ (فايوقة) ودرس على كهنة كنيسة مار توما اللغتين العربية والسريانية والطقس البيعي ومبادئ الإيمان المسيحي. عندما بلغ السادسة والعشرين من عمره سيم شماساً إنجيلياً، وعندما بلغ الثانية والثلاثين من عمره ألبس الاسكيم الرهباني في دير مار بهنام الواقع بقرب الموصل قبل أن تخرج ملطية هذا الدير من أصحابه الشرعيين السريان الأرثوذكس. وسيم المترجَم كاهناً قبل سنة 1823، ورسمه البطريرك الياس الثاني سنة 1838 مطراناً على الموصل باسم مار غريغوريوس بهنام وأوفده إلى الآستانة لمقابلة المسؤولين في الدولة العثمانية والمطالبة بحقوق الطائفة واسترجاع كنائسها المغتصبة.
وعاد إلى الموصل مركز أبرشيته وسعى لتنظيمها، ورعى شعبه إلى مروج العزّ والراحة بعظاته الروحية وإرشاداته القيّمة. واهتمّ سنة 1848 بتشييد القسم الداخلي من كاتدرائية مار توما وخاصة مذبحها الكبير.
وفي سنة 1852 ارتقى إلى رتبة المفريانية على يد البطريرك يعقوب الثاني وسمي مار باسيليوس بهنام الرابع واشترط عليه البطريرك ألاّ يرسم مطراناً فوعد وبرّ بوعده.
تعمّق المترجم بدراسة الكتاب المقدس وتفاسير الآباء الميامين، وأجاد الطقس السرياني، كما أتقن اللغات العربية والسريانية والتركية لغة الدولة العثمانية الحاكمة عصرئذ، وكان خطيباً مصقعاً وواعظاً ناجحاً ومصلحاً صالحاً.
ويمتاز أسلوبه في الوعظ بالبساطة والوضوح وكانت طريقة استعداده تعتمد، غالباً، على دراسة العظة بفكره منتخباً ما يصلح غذاءً روحياً للمؤمنين وما يفتقرون إليه من تعليم وتهذيب وإرشاد. وما يوافق المناسبة الطقسية. وكان يختار الآية الكتابية ويقسم الموضوع إلى أجزاء عديدة، وغالباً إلى ثلاثة أقسام، ويدوّن هيكل العظة ثم يرتجلها.
وكان في عهد مطرنته خاصة يلقي العظات في مجالس التعزية التي كان المؤمنون يقيمونها في دورهم أو في باحات الكنائس طيلة الأسبوع الأول لانتقال أحدهم إلى جوار ربه وبمناسبة مرور أسبوعين، وأربعين يوماً، ونصف سنة، وسنة على وفاته. وكان المؤمنون السريان الأرثوذكس وغيرهم يتهافتون على تلك المجالس لسماع عظاته، ويقترحون عليه أحياناً المواضيع الروحية التي يحتاجون إلى سماعها فيلبّي طلبهم ويرتجل عظته. وحدث مرة أن أحد المارقين من الكنيسة أراد أن يجرب (المطران بهنام) ويربكه فتظاهر وكأنه يقترح عليه موضوعاً وسلّمه ورقة بيضاء، فما كان من المطران بهنام، السريع البديهة، إلاّ أن افتتح عظته بالآية المقدسة الآتية: «وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروح اللّه يرفّ على وجه المياه» (تك 1: 2) وتدفق كالسيل العرم وارتجل عظة روحية نفيسة… فأعجب به السامعون وخجل (المجرِّب) ولا يزال شيوخ الكنيسة في الموصل يتداولون ذلك نقلاً عن آبائهم وأجدادهم.
ويظهر من المواعظ العديدة التي تركها لنا على أنها دوّنت على أيدي شمامسة أثناء إلقائها. ولا ندري فيما إذا كان المفريان بهنام قد اطلع عليها بعد تدوينها أم لا. والأرجح أنه لم يفعل ذلك، ولهذا جاء بعضها وكأنه حلقات متفرقة ومع ذلك فهي حلقات ذهبية نقية صافية وهّاجة، فمادتها الروحية دسمة وهي مليئة بروح الكتاب المقدس الذي أحبه المفريان وارتشف منه ماء الحياة فارتوى وروى نفوس المؤمنين[2]. وفي هذا المجال يخطرني جواب واعظ قدير استمع مرة إلى عظتين في موضوع ـ الفداء ـ وسئل عن رأيه فيهما: فقال عن الأولى: «خطاب بليغ وعبارات رنانة». وقال عن الثانية: «إن إلهنا مخلّص عجيب». وكأني به أراد أن يفضح فشل الواعظ الأول في بلوغ الهدف من العظة وفقده المعنى بل الروح في تشعبات دروب البيان والتمسك بالحرف. وعن نجاح الواعظ الثاني بتقديم الرب يسوع الإله المتجسّد مخلّصاً للبشرية.
ولا غرو من ذلك فإن الغاية السامية من الوعظ هي توصيل الواعظ الحقائق الإلهية إلى أخيه الإنسان، وحثّه على ممارسة الفضائل المسيحية وتجنّب الرذائل، وذلك بتذكيره بناموس الرب وفرائضه وبما يناله الصالح من ثواب والطالح من عقاب، والواعظ المسيحي الناجح الصالح هو من اختفى وراء الصليب وأشار باصبعه إلى المسيح الفادي باسطاً ذراعيه ليعانق التائب الراجع إليه تعالى.
كان المفريان بهنام الرابع واعظاً من هذا النوع، وإن ترجمة حياته تعتبر عظة بحد ذاتها ـ لما كان يتحلّى به من الفضائل السماوية وخاصة محبته للّه تعالى والقريب وغيرته على خلاص النفوس، فقد اشتهر بالصلاح والإصلاح، ولو اتخذت الكنيسة السريانية آراءه الإصلاحية البناءة لبلغت أوج ازدهارها منذ ذلك الزمان. إذ كان وحيد دهره وفريد عصره غيرة على الإيمان وشعوراً بالمسؤولية الراعوية، وامتاز ببعد النظر والتطلع إلى المستقبل بروح التفاؤل، وطموح المؤمن الواضع رجاءه بالرب، تزيّنه عزيمة صادقة وتمسّك شديد بالعقيدة المستقيمة الرأي.
وحيث أنه كان راعياً صالحاً يسعى لتقدم رعيته وازدهارها، حسده المغرضون واتهموه بالميل إلى البروتستانتية، ووشوا به لدى المثلث الرحمة البطريرك يعقوب الثاني الذي لبساطته دون أن يتحقق من صحة التهم الباطلة التي ألصقت بالمفريان البار تسرّع بإصدار الأمر بنفيه إلى العمادية (شمالي الموصل) في خريف سنة 1858م. فجمع المفريان المؤمنين، وبلّغ إليهم الأمر ووعظهم بطاعته لرئيسه «فالطاعة أفضل من الذبيحة». وغادر إلى العمادية عابراً نهر دجلة وأدركه عند الموضع الذي كان يسمّى بـ (باب الجسر) شخصان متليتنان حديثاً مرسلان من بعض الرهبان الدومينكان في الموصل، وعداه بإنقاذه من النفي، وإغداق المال الوفير عليه إذا اتبع مذهبهما. فأجابهما بإيمان متين مقترن بفضيلة الصبر على تحمل التجارب التي تطرأ على الأتقياء قائلاً: «خير لي أن أسير إلى المنفى طريق آبائي وأسلافي الصالحين، من أن أبيع بكوريتي كعيسو بأكلة عدس[3]».
ولما وصلت قافلته (تل نينوى) جاءه مخبر يقول «إن الشماس يعقوب قمر الذي كان في مقدمة من وشى به لدى البطريرك، قد انهارت أعصابه واعترى الرعش جسمه عندما نعى الناعي إليه ابنه الوحيد الذي غرق في دجلة ساعة غادر المفريان مقر كرسيه». فتطلّع المفريان إلى السماء وقال: «يا رب ارحمنا» وواصل سفره إلى العمادية، فأضر به البرد القارس، فأصيب بمرض عضال، هدَّ قواه فغدا طريح الفراش بضعة أشهر. ولما اطّلع البطريرك على حقيقة الأمر ندم على تسرّعه بالحكم غير العادل على المفريان فألغى أمر النفي. وعاد المفريان بعد سنة من نفيه إلى مقر كرسيه المفرياني في الموصل مريضاً، ولم يمهله الداء الوبيل كثيراً، فانتقل إلى جوار ربه في 21 أيلول سنة 1859م. وفي كاتدرائية مار توما أودع جثمانه الطاهر في ضريح حيث أضرحة أحبار الكنيسة الميامين.
وفي عام 1908 قدم الراهب أفرام اسطيفان برصوم الموصلي (البطريرك بعدئذ) من دير الزعفران إلى زيارة أهله في الموصل، ورأى عدم وجود شاهد على ضريح المترجَم، فحثَّ الشماس يعقوب سعيد أحد أنسباء المفريان بهنام ووكيل الوقف الذي تركه المفريان ليوزّع ريعه على الفقراء، ليسعى لعمل شاهد للضريح. ونظم الراهب أفرام بيت شعر بالسريانية بالبحر الأفرامي نحت على صخرة وضعت كشاهد على ضريح المترجَم وهو:
ܐܬܬܣܝܡ ܐܒܘܢ ܡܦܪܝܢܐ ܒܫܢܬ ܐܦܢܒ ܠܡܫܝܚܐ
ܘܛܥܡ ܟܣܐ ܕܥܘܢܕܢܐ ܫܢܬ ܐܦܢܛ ܒܐܝܠܘܠ ܝܪܚܐ
وترجمة ذلك: «نُصِّب أبونا مفرياناً سنة 1852 للميلاد وذاق كأس المنايا في شهر أيلول من سنة 1859م»
كما أن الراهب أفرام نظم أيضاً قصيدة سريانية مؤثّرة في أربعة أبيات تخليداً للحبر العظيم الذي سيبقى ذكره خالداً. وفيما يأتي نص هذه الأبيات السريانية:
ܐܘܠܝܬܐ ܕܡܪܝ ܒܣܝܠܝܘܣ ܡܦܪܝܢܐ ܕܡܕܢܚܐ ܕܗܘ ܒܗܢܡ ܪܒܝܥܝܐ ܕܥܒܝܕܐ ܠܗ ܠܥܗܝܕܐ ܐܦܪܝܡ ܕܝܪܝܐ ܘܕܐܬܪܫܡܬ ܥܠ ܫܟܝܢܬܗ ܫܢܬ ܐܨܛ ܡܪܢܝܬܐ ܘܐܬܟܬܒܬ ܒܥܕܬ ܡܪܝ ܬܐܘܡܐ ܕܡܘܨܠ.
ܒܢܝܫܐ ܕܡܪܝ ܝܥܩܘܒ
ܡܢ ܕܝܢ ܝܗܠܝ ܕܡ̈ܥܐ ܠܥܝܢ̈ܐ ܘܚܝܠܐ ܠܡܠܬܐ
ܕܐܒܟܐ ܘܐܺܠܐ ܘܒܚܢ̈ܓܬܐ ܘܒܬܢܚ̈ܬܐ
ܘܐܣܕܘܪ ܘܐܺܡܪ ܡܐܡܪܐ ܒܩܝܢܬܐ ܐܒܠܢܝܬܐ
ܠܐܒܐ ܡܝܬܪܐ ܟܘܟܒ ܕܪܗ ܣܳܡܟܐ ܕܥܕܬܐ
ܒܣܝܠܝܘܣ ܦܘܡܐ ܡܠܝܠܐ ܕܫܪܝܖ̈ܬܐ
ܡܦܪܝܢܐ ܒܗܢܡ ܚܘܬܪܐ ܕܐܒ̈ܬܐ
ܐܝܟܢ ܐܫܠܐ ܡܢ ܐܘܠܝ̈ܬܟ ܚܫܝ̈ܫܬܐ
ܕܡܛܪܦܬܐ ܥܒܕܬܢܝ ܒܡܘܬܟ ܐܦ ܕܘܝܬܐ
ܪܥܝܐ ܛܒܐ ܗܘܝܬ ܠܢ ܕܗܕܝܪ ܒܡܠܦܢܘܬܐ
ܘܗܕܝܬ ܠܥܢ̈ܐ ܡܠܝܠܬܐ ܠܡܖ̈ܓܐ ܕܡܝܬܖ̈ܬܐ
ܘܫܡܠܝܬ ܪܗܛܟ ܕܪܘܚܐ ܘܢܛܪܬ ܗܝܡܢܘܬܐ
ܥܠܗܝ ܢܛܝܪ ܠܟ ܟܠܝܠܐ ܦܐܝܐ ܕܙܕܝܩܘܬܐ
ܡܟܝܠ ܢܬܬܢܝܚ ܡܢ ܛܘܪܦܐ ܘܡܢ ܟܪܝܘܬܐ
ܕܥܠܝܟ ܐܒܘܢ ܫܒܝܚܐ ܡܩܠܣܐ ܒܖ̈ܥܘܬܐ
ܘܢܒܥܐ ܟܠܢ ܡܢ ܪܒ ܟܘܡܖ̈ܝܢ ܒܚܦܝܛܘܬܐ
ܕܢܘܝܢ ܥܡܟ ܢܫܒܚܝܘܗܝ ܒܥܕܬܐ ܫܡܝܢܝܬܐ
ويصف البطريرك أفرام الأول نفسه المفريان بهنام الرابع نقلاً عن الشيوخ قائلاً: «كان شيخاً طويل القامة نحيل الجسم ذا شيبة مهيبة وكان عالماً شهيراً رسمه البطريرك يعقوب الثاني مفرياناً واشترط عليه ألاّ يرسم مطراناً واستكتبه بذلك سنداً ففعل وبرّ بوعده… قدم آزخ ووعظ الشعب وأطال في وعظه والناس راغبون في استماعه وهو ابن السبعين أو أكثر» (كتاب الأحاديث للبطريرك أفرام الأول برصوم، تحقيق ونشر البطريرك زكا الأول عيواص، المجلة البطريركية العدد 13 آذار 1982 ص12 وآذار 1981 ص 147).
والمفريان مار باسيليوس بهنام الرابع هو آخر مفارنة المشرق، إذ ألغيت هذه الرتبة سنة 1860م بقرار مجمعي وقّعه سبعة عشر مطراناً وأسقفاً.
ومما يذكر عنه أنه لدى عودته من نفيه إلى مقر كرسيه المفرياني الجثلقي، استقبله الشعب الموصلي بفرح عظيم وبعد أن باركهم قال: «عفا اللّه عما سلف، أما الذين وشوا بي ظلماً، فأسأل لهم من الرب المغفرة… ولكن إذ قد وضعوا أيديهم على مسيح الرب، وصاروا حجر عثرة للمؤمنين، فستستأنف دعواي أمام منبر المسيح». وقد قطع الرب دابر أولئك المنافقين الظالمين.
الهوامش
——————————————
)*(ـ نشرنا هذا المقال على صفحات المجلة البطريركية، دمشق، في العدد 2 شباط 1981، ونقّحناه وأضفنا عليه بعض المعلومات، خاصة أبياتاً سريانية للمثلث الرحمة البطريرك أفرام الأول برصوم نظمها في عهد رهبنته وجدناها بخط يده بين أوراق مبعثرة فرأينا أن نضيفها إلى ترجمة المثلث الرحمة المفريان بهنام الرابع.
([1])ـ المفريان كلمة سريانية تعني المثمر أطلقت على من نال رتبة (الجثلقة) في الكنيسة السريانية وهذه الرتبة هي دون البطريركية وفوق المطرانية يخضع صاحبها للبطريرك الأنطاكي السرياني الأرثوذكسي. وكان كرسيه في تكريت ثم نقل إلى دير مار متى فالموصل وكان يرأس أساقفة منطقة العراق وبلاد فارس.
([2])ـ اهتمّ المرحوم الخوري موسى متى الشماني بنشر مجموعة من مواعظ المثلث الرحمة المفريان بهنام الرابع وذلك سنة 1973م في بغداد. وصدّرنا الكتاب بمقدمة كتبناها في ترجمة المفريان البار وتحليل أسلوبه بالوعظ.
([3])ـ الصفحة (37) من كتاب «لماذا أنا أرثوذكسي؟» وهو خلاصة الخطب الثلاث عشرة التي ألقاها العلامة الخوري عيسى أسعد للروم الأرثوذكس في كاتدرائية الأربعين شهيداً في حمص عام 1941 وجمعها ابنه الأستاذ منير أسعد وطبعت بمطبعة السلامة ـ حمص.