دير القديس الأنبا مقار
مقالات
القديس مارفيلوكسينوس
الجزء الأول
عن الايمان والبساطة ومخافة الله
الجزء الثاني
عن التجرد
المقالة الاولى و هي مقدمة للكتاب كله:
- ان ربنا ومخلصنا يسوع المسيح قد دعانا في انجيله الحي ان ندنو بحكمة من عمل حفظ وصاياه، و ان نضع في نفوسنا كما ينبغي اساس تعليمه لكي ما يرتفع بنا برج فضائلنا باتزان، للان من يعرف ان يبدأ بمعرفة بناء ذلك البرج الذي يرتقي بنا الى السماء، فهو بالتالي لا يقدر ان يكمله ويوصله الى حدةد الحكمة. لأن هذه الامور البداية و النهاية و الاسس، فان العلم والحكمة هما اللذان يوجهانها و يرتبانها ويجريانها. ومن يبدأ هكذا فأن قول مخلصنا قد رعاه حكيما: كل من يسمع اقولي هذه و يعمل بها اشببه برجل عاقل بنى بيته على الصخر فنزل المطر و جاءت الانهار و هبت الرياح ووقعت على ذلك البيت فلم يسقط لأنه كان مؤسس على صخر. و كل من يسمع اقوالي هذه ولا يعمل بها يشبه برجل جاهل بنى بيته على الرمل (متى 7: 24 – 27) فأذا صدمت تلك العناصر بنائه الضعيف فأنها تهدمه.
- فأذا نحن مطالبون بحسب قول ربنا ان نكون مجتهدين ليس فقط في الاستماع بل ايضا في العمل بكلام الله. لان اللذي يعمل به دون ان يستمع اليه افضل من الذي يجتهد في الاستماع وهو خالي من الاعمال، كما يعلمنا قول بولس الرسول لأن ليس الذين يسمعون الناموس هم أبرار عند الله، بل الذين يعملون بالناموس هم يبررون.لأنه الأمم الذين ليس عندهم الناموس، متى فعلوا بالطبيعة ما هو في الناموس، فهؤلاء إذ ليس لهم الناموس هم ناموس لأنفسهم، الذين يظهرون عمل الناموس مكتوبا في قلوبهم، شاهدا أيضا ضميرهم (رو2 : 13 – 15).
- جيد هو الاستماع للناموس، لان هذا يقود الى الاعمال. و جيد ان نقرأ ونهذ في الاسفار المقدسة لأن هذا يطهر عقلنا سرا من افكار الشر. ولكن القراءة و الاستماع والهذيذ باجتهاد والمداومة في كلام الله دون تحقيق ما نقراءه بالاعمال، فهذا امر ردئ قد ادانه روح الله مسبقاً و توبخ على فم داود الطوباوي، و ايضا نهى على ان يمسك (الانسان) الكتاب المقدس بيديه النجستين: للخاطئ قال الله: لا تلمس كتب وصاياي. لماذا حملت عهدي على فمك وانت قد أبغضت تأديبي و طرحت كلامي خلفك؟ (مز 49 (50): 16 – 17).
- كل من هو مجتهد في القراءة ولكنه مبتعد عن الاعمال سيكون فيما يقراءه ادانة له. و يستحق حكما صعبا بقدر ما يحتقر و يستخف باستمرار بكل ما يسمعه كل يوم. انه يشبه الميت و كجثة بغير نفس: فاذا كانت اصوات الاف الابواق تتردت في اذن الميت ولا يسمعها، فابالمثل تلك النفس المائتة بالخطية والعقل الذي فقد تذكار الله لا يسمعان نداء و صراخ الاقوال الالهية و لا يهتزان لصوت ابواق الاقوال الروحية، لأنهما غارقان في نوم الموت الذي يلذ لهما. ولكونهما ميتين فلا ينتبهان لكي ما يتحولا و يطلبا الحياة. وكما ان الميت بالطبيعة لا يدرك موته هكذا ايضا الميت بأرادته من معرفة الله لا يتوجع ولا يتفطن لكي ما يقدر ان يطلب العودة للحياة.
- هكذا فأن الله لما راى اليهود كانوا مائتين لأنهم كانوا بأرادتهم قد سدوا اذانهم و اغمضوا عيونهم و قسوا قلوبهم تجاه تذكار معرفة الله، نبه اشعياء النبي لكي يوقضهم وينادي بصوت عال صارخا باذانهم ناد بصوت عال. لا تمسك. ارفع صوتك كبوق وأخبر شعبي بتعديهم، وبيت يعقوب بخطاياهم.(اشعياء 58: 1). و في موضع اخر يقول النبي صوت قائل: «ناد». فقال: «بماذا أنادي؟» «كل جسد عشب، وكل جماله كزهر الحقل. (اشعياء 40: 6). اي مثلما يبيس العشب و يذبل الزهر في الشمس، لأن المطر و مياه الابار لا تقدر ان ترويه طالما انه قد فقد رطوبته الطبيبعة، هكذا ايضاً فأن الشعب الذي مات من حياة الروح يصير مثل العشب و الزهر، فيزوى و يجف بفعل الاهمال و النسيان من شدة حرارة الشر.
- لان النفس تموت اذا ما فقدت تذكار الله، و تموت معها كل بصيرتها، ولا يبقى فيها اي اهتمام بالامور السمائية، فهي تعيش طبيعتها ولكنها مائتة في ارادتها،و هي تحيا في بنيتها و لكنها تكون قد فقدت حريتها. فينبغي اذاً لتلميذ الله ان يكون تذكار معلمه يسوع راسخا في نفسه، و ان يفكر فيه ليل نهار.
- و يجب عليه ان يتعلم من اين يبدأ، و كيف ومن اين يشيد بنيان بيته، و كيف يكمله، لئلا يهزأ به جميع المارين كما قال ربنا عن الذي بدأ يبني برجا ولم يستطيع ان يكمله: انه صار هزءاً و سخرية لكل الذين رأوه. و هو الذي بدأ يبني البرج في المثل الذي قال مخلصنا، ان لم يكن هو التلميذ الذي يشرع في المسير على طريق انجيل المسيح؟ و بداية بناء هذا التلميذ هو وعده و عهده مع الله فهو يعد بالخروج من العالم و يحفظ وصاياه، بالبدء (في البناء) والاستمرار فيه وتكميله، وذلك بجمع و اعداد الأحجار الكريمة بصفة خاصة و الفضائل الجميلة، لتشيد ذلك البرج و ارتفاعه الى السماء.
- و الأساس يوضع ويثبت، و بحسب قول القديس بولس هو يسوع المسيح الهنا. و كل واحد يبني على هذا الاسا كما يريد. لأن الاساس قد تنازل مرة في محبته، و احتمل كل ما وضع عليه الى ان يأتي يوم الاستعلان، حيث سيمتحن عمل كل واحد و يختبر، حين يظهر ذلك الذي هو الاساس في اسفل البناء و يصير هو الديان والرأس و القائم في اعلى البناء، كما قال القديس بولس ولكن إن كان أحد يبني على هذا الأساس: ذهبا، فضة، حجارة كريمة، خشبا، عشبا، قشا، فعمل كل واحد سيصير ظاهرا لأن اليوم سيبينه. لأنه بنار يستعلن، وستمتحن النار عمل كل واحد ما هو. (ا كو 3: 12 – 13). و الفضائل و محاسن واعمال البرهى التي يقارنها الرسول بولس بالذهب والفضة والحجارة الكريمة: فالايمان كالذهب، و العفى و الصوم و الزهد و بيقة اعمال البرهى كالفضة، و الحب و السلام و الرجاء و الافكار النقية المقدسة و الذهن الروحي الذي يداوم التأمل في الله و في عظمة طبيعته، والذي يحفظ السكون برعدة امام اسرار الله التي لا ينطق بها و تفوق كل وصف. هذه كلها يشبهها بالحجارة الكريمة و هكذا نرى ان القديس بولس يقول: ان هذه الافكار و هذه الحركات والاشتياقات الروحية و السمائية هي حجارة كريمة، و ان الخطية والشر من عمل كل الشهوات هي خشب و عشب و قش.
- و الأساس الراسخ في الأرض، يبني عليه كل واحد ما يريد. الى ان يستعلن يوم التمييز و يأتي ذاك الذي قيل عنه (الذي رفشه في يده، وسينقي بيدره، ويجمع القمح إلى مخزنه، وأما التبن فيحرقه بنار لا تطفأ) لوقا 3: 17. حينئذ فأن الزارع الذي غرس شجر بشريتنا في العالم، سوف يستعلن كديان: فهو سيأخذ الفاس في يده و يقطع الشجرة التي لا تحمل ثمرا جيدا و يلقيها في النار، و سوف نرى الصيار يلقي الشبكة في بحر العالم ويملئها من السمك الصغير و الكبير، اي من اجناس و قبائل الشعوب و اجيال بني البشر، اللغات المتنوعة و الامم التي بلا عدد، و في ذلك الوقت يجتذب شبكتهِ و يصعدها على شاطئ البحر كما قال، و يجمع الجياد في اوعيته التي هي الاهراء الحية التي لملكوته، و اما الاردياء فيطرحها خارجا الى الظلمات الخارجية هنالك يكون البكاء و صرير الاسنان.
- و هذه الامور محفوظة لذلك الزمان حيث ستظهر حينما يستعلن رئيس الرعاة في مجد ملكوته. لأن شئ هو وقت الامتحان و شئ اخر هو زمن التلمذة و شئ هو وقت الدرس و شئ اخر هو وقت الدينونة. فالذي يكون في فترة التلمذة لا يكون له بعد امتحان، كما ان الذي يكون في وقت الامتحان لا يكون بعد في حالة التلمذة. اذا احبائي فالنسمع لصوت الاله الحي، الذي دعانا لكي يعطينا الحياة الابدية. لأن هذه الاصوات ممتئلئة حياة، و تهب الحياة للذي ينصت اليها. فالاقوال الالهية قيلت بواسطة الحياة، و الحياة تعطى بأقوال الحياة لكل اللذين ينصتون لكلماتها بأذن حية.
- ولكن ينبغي ان نميز بين المواضيع و نتكلم عن كل موضوع في مكانه، لكي ما نعرف ما هي الوصية الاولى و ماهي التي تليها، و كيف تحفظ الفضائل و تكتمل الواحدة بعد الاخرى. ولهذا السبب كتبنا هذه المقدمة كتمهيد للمقالات التي ستتبعها. لأنه ينبغي على من يبدأ في السير في طريق وصايا المسيح ان يعرف بأي وصية يبدأ و ما هو الحجر الاول الذي نبدأ به تدبير سيرة التلميذ، ثم الثاني فالثالث، خوفا من انه اذا لم يعرف الترتيب لايدرك بماذا يبدأ، و بالتالي لا يعرف بماذا و كيف يكمل، و اذا يخطئ معرفة تدبيره كتلميذ يجعل الحجارة الأخيرة في البداية و الاولى اخيرا، ولا يضع بعضاً منها في الوسط.
- ان الفلاحين و الزارعين في هذا العالم يعرفون متى يكونون اوان اللقاء البذور وغرس الاشجار، و متى يأتي اوان الحصاد و جمع الثمار، و يحفظون نظام الفصول حتى لا تتعرض خيراتهم للضرر او الفساد. فكم بالاكثر يجب على الباذر والزارع الروحاني، و تلميذ الحق ان يعرف ما هو مناسب لبداية التلمذة، و بأي شيئ يبدا، لكي ما بعد ان يكون قد ارسى الحجر الاول في مكان الاساس، يكمل بقية البناء كل على اكمل وجه. البناؤون و المهندسون يعملون الشيئ نفسه عندما يكونون قد وضعوا الاساس قواعد متينة و حجارة جيدا، فأذا وضعوا فوقها مواد ضعيفة يستطيع ذلك الاساس ان يقبلها و يتحملها. اذا ما وضعوا المواد الضعيفة في الأساسات و الحجارة الكبيرة فوقها، فأن كل بنيانهم ينهار و يسقط. ولنا خذ ايضاً مثال المعلمين اللذين يقومون بتثقيف الاطفال، فهم يقدمون لهم التعليم بمقياس، ولا يتجاوزون او يخلون بأنظمة تلقين المعرفة البشرية، لأنهم يعرفون جيدا ماهي المواد التي تقدم لهم في البداية و تلك التي تليها، الى ان يصل التلميذ الى نهاية منهج التعليم.
- و التدريب على كل صنائع العالم محدود ايضا بناموس، فالاشياء الصغيرة في الصنعة هي التي تعطى للمتدرب المبتدئ، حينما يبدأ تدريبه، كما ان معلمه يشرح له اولا كيف يعملها بحسب قياس معرفته القليلة، حتى اذا ما حدث اي خطأ يكون قليل الاهمية. و هكذا الحال في صنعة المصارعين: فهم يتعلمون اولا اوضاع الصراع التي يبدأون بها و الدرجات التي يتقدمون بها و يضهرونها في صنعتهم: فيتعلمون في البداية الاستعداد لوضع الانقاء الواحد منهم في مواجهة الاخر، ثم بعد ذلك وضع الايدي الواحد على الاخر و هكذا يستفزن الواحد الاخر و يتقدمون للمصارعة الكاملة. و على هذا النمط ايضا يتعلم المتطوعون للخدمة في الجندية صنعة القتال: ولا يكون التعليم كيفما اتفق، بل يعطي لهم كل شيئ في موضعهِ و بحسب ترتيبهِ، و كل ما في العالم له بداية ووسط و نهاية محددة.
- اذا بموجب الامثلة التي اوردناها، كم هو نافع لنا نحن بوجه خاص هذا الترتيب. فمن الضروري لنا ان نعرف ما هو العمل الاول، و ماهو الذي يأتي بعده، لأنه بهذا نتعلم الجهاد الروحي، و هذا من اجل جندية السماء التي دعينا اليها، و كما ان اللذين اختيروا لخدمة ملوك العالم يتعلمون الشرائع والاعراف الملكية من اللذين سبقوهم، و التي يعلمها القدامى للمستجدين، حتى في طريقة المشي و النظر و الصوت، الى ان يسمح لهم بالكلام امام الملك هكذا هنا ايضاً. فمن اللازم الذي يتقدم لخدمة المسيح سواء بعزم مشيئة او بنذر ابوية، ان يتعلم هذه الخدمة من اللذين سبقوه. او من الاسفار المقدسة، او من اشخاص روحانيين يكونوا قد سلكوا في هذا الطريق بحسب قوانينه و يكونوا قد بدأوا باعمال الجهاد و أكملوا بالروح و ادركوا الهدف بالحب.
- الجميع يعرفون ما هي الشهوات التي تحاربنا في البداية و الوسط و نهاية الطفولة: و كما و يعرفون ايضا تلك التي تكون بداية ووسط و نهاية الشباب، و بالمثل في سن الكهولة حتى نهاية تلك المرحلة: و اخيرا في الشيخوخة و حتى خروجنا من العالم، و نعرف ايضا الشهوات التي تأتي من نفوسنا في الطفولة و الصبوة بواسطة الحركات الطبيعية قبل ان نقتني تمييز الحرية و نفرق بين الخير و الشر، ولكنه يلزمنا ايضا ان نعرف ان الأوجاع و الرغبات يضاد بعضها البعض و تتصارع فيمابينها في الوقت الذي نقوم فيه بتتميم قوانين و اعمال سيرة التلمذة.
- ولكن يجب علينا ايضاً عندما نبدأ بتكميل تلك القوانين و الأعمال ان نعرف اي وجع يحارب الوجع الاخر و اي شهوة تتصارع مع الاخرى، و عندما نقوم بعمل من اعمال الصلاح، ما هو الشر الذي يثور مقابلنا حرب اوجاع النفس، و اذا ابطلنا الشر خارجيا يعود ليواجههنا و يغرقنا داخليا في افكارنا، و كيف اننا بعد مانكون قد قطعناه و طرحناه خارجياً، يعود فيدخل بخداعة فينا ليعيش في داخلنا.
- و ينبغي ان نعرف اي وجع يتولد في النفس من صوم الجسد و من العفة، و من التزمير بصوت مرتفع، و من الصلاة في سكوت، و من ترك المقتنيات و الزهد و الملابس، و اي وجع يتولد فينا من الصداقة و الخلطة مع الناس، و اي وجع ينهض مقابلنا حينما يكون تدبيرنا افضل من تدبير اخينا، و ماهي الاوجاع التي تلحق بنا من معرفة الافهام التي نتعلمها و التي نحصل عليها من الكتب، و في اي وجع نسقط حين نكون قد غلبنا محبة البطن و الاهتمام بالاطعمة، و ماهي الاوجاع التي تقوم علينا بعد ان نكون قد انتصرنا نهائيا ضد الزنا، و ماهي الاوجاع التي تتولد من طاعة الرؤساء، و تلك التي تكون من الطاعة للجميع، وماهي الافكار التي تكون فينا حين نرفض الطاعة و بواسطة اي تعليم تبطل افكار العناد تجاه الروؤساء، و بأي فكر نقتلع منا الأعتداد بالمعرف التي نتصورها من نفوسنا لذواتنا، واي وجع ينغلب من الاخر. واي شهوة تبطل بواسطة الاخرى.
- كذلك يجب معرف ماهي الحروب التي تقوم ضد اللذين يجاهدون بالجسد، و تلك التي تكون ضد اللذين ضد اللذين يجاهدون في النفس، و ايضا ضد اللذين يجاهدون بالروح، و ما ينبغي ان يعمله الذين يقاتلون في الجسد لكي ما يقمعوا شهواته، و الذين يقاتلون في النفس لكي ما يغلبون اوجاعها و الذين يجاهدون في الروح لكي يحترسوا السقطات التي تحصل للروحانيين في طريق الروح، و الى اين تمتد الحروب في جميع هذه الاحوال، و كيف نعرف متى تكون حركة الشهوة منها، و كيف و متى تجدلها موضعاً فينا بفعل هجمات العدوا من الخارج، و بماذا تنغلب الشهوة التي تتولد منها، وتلك التي يثيرها العدو مقابلنا، و هل تنغلب الشهوة عينها بالطريقة نفسها بكل حين ام ان طرق التغلب عليها تختلف بالضرورة بحسب الاوقات، و بكيف وبماذا نشعر حين نغلب شهواتنا، ام بقوة صبرنا ام بنعمة الله.
- ينبغي ان نعرف اي حرب تقاتلنا حين نكون في المجمع، وايها حين نكون في الوحدة، و في اي مكان بصفة خاصة تتنقى فيه النفس و تتطهر، واي مكان هو مناسب للقتال مقابل الجسد، و بأي نوع يجب علينا ان نبدأ حين ندنو من تدبير سيرة التلمذة للمسيح، و ماهو الوجع الذي يتحرك داخلنا من جراء المدح الذي يحصل لنا من الروؤساء و من اجل علمنا و اعمالنا، و ذلك الذي يأتينا عندما يصير لنا المدح من محافل الناس، و بأي الافكار نميز علل الاوجاع، و كيف نحترس لأنفسنا حتى لا نضطرب حين تهاجمنا، و اي افكار نجلبها على انفسنا اذا تغلبنا عليها، و كيف نحظى بأقتناء التواضع، و بأي افكار نبطل روح التشامخ الذي هو عدو الاتضاع، وما هي الافكار التي بواسطتها نقتني الصبر في نفوسنا، و ماهو نسك الجسد و ماهر الزهد في العالم، وماهو جحد النفس، وكيف نقتني غنى مواهب المسيح متى زهدنا في غنى كل ما يرى.
- كذلك ينبغي ان نعرف ماهي الوصايا التي يجب علينا ان نحفظها في بداية سيرة تلمذتنا ، و كيف نسمع لروؤسائنا اللذين يرشدوننا و يعلموننا الاعمال الفاضلة بصرف النظر عن أخطائهم، واي قوة تبعدنا عن كل عمل من تلك الاعمال الصالحة التي نعملها، و كيف يجب ان نسلك بأسلوب جيد في مساكن اخوتنا، و بأي قدر ينبغي ان نصوم و كيف نزيد او ننقص مقدار طعام الجسد حسب كل الاوقات، و كيف و بأي قدر نتناول الغذاء حينما تثور مقابلنا حرب الشهوة، و ماذا ينبغي ان نعمل ان كنا نريد ان نميت في داخلنا اهواء النفس، وبأي اعتبارات و افكار يمكن ان نقتلع العداوة منا. و كيف ومن اين تولد فينا الصلاة النقية، وماهي الوسائل التي تجتذبنا للتامل الى الله، و كيف ينبغي ان نلهب في قلوبنا الاشتياق اليه، و ماهي المشاعر و الاحاسيس التي تمتلكها هذه الشهوة لله. و كيف يمكننا من اوقات السكون ان نحرس افكارنا من التشتت خارجا عنها. و ماهي الخسارة التي تحصل للانسان من اختلاطهِ بالهراطقة، و كيف يمكن ان يتقسى القلب و يظلم من تذكار الله و دوام التفكير فيه بسبب اللقاءات و الاحاديث العالمية. كذلك يجب ان نعرف ماهو صوم الجسد وصوم النفس و صوم الروح، و ماهو الفرق بين سكوت الجسد و سكوت النفس و سكوت الروح، و كيف تتعلم النفس الصوم عن الشر كما يصوم الجسد عن الطعام.
- هذه الامور الكثيرة و ما يشبهها، يلزم بالضرورة لتلميذ المسيح ان يتعلمها و يعرفها لكي ما يتقدم بثقة في طريق خدمتهِ و يصنع مشيئات الملك السمائي الذي تعين جنديا له. لأنه اذا كان الذين يتعلمون صنائع العالم يظهرون مثل هذا الاهتمام في تعلم كل طرائفها واسرارها، كم بالاكثر جدا يليق بالذي اختير بصناعة الروح هذهِ ان جاز ان نسميها صناعة ان يعرف جميع اسرار ذلك التدبير الالهي، وان يعى انه انما دعى لكي يخدم بطقس الروحانين بينما هو مايزال بالجسد و في هذا العالم. ولذلك فنحن ملتزمون، بما اننا تلاميذ، ان نطلب و ان نتعلم كتلاميذ كل الاشياء التي نجد فيها حياتنا، ان نتعلمها و ان نتسلمها من المعلمين الروحانيين كما يتعلم التلاميذ الصنائع المختلفة من معلميهم. لأنه لا يمكن ان يصير احد معلماً مالم يكن اولاً تلميذاً، ولا يقدر ان يساعد الاخرين كي يصبحوا نافعين مالم يقتني هو اولاً المنفعة من المعلمين بتسلمهِ المعرفة منهم، وبأعتبارهم اكثر قدراً و سمواً منه.
- ولنتفطن بوجه خاص ان طبيعتنا هي طبيعة مخلوقة، واننا نوجد بأرادة خالقنا في حين كنا غير موجودين من قبل. اذا فنحن بالمثل بواسطة الطبيعة الجديدة يمكننا ان نقتني معرفة الصلاح. و كما اننا نوجد الان بعد ان كنا غير موجودين من قبل. كذلك نصير ابرار في حين اننا خطاة. فينبغي للانسان ان يهجر العالم تماما لكي يتزين بمثال المسيح، لانه لا يقدر ان يتسربل برداء معرفة المسيح ان لم يكون قد خلع اولاً الثوب الوسخ و أغتسل من دنس الشرور بدموع التوبة. ولأنه قد اتسخ بأفكار و اعمال الأثم فمن ثم يلزمه ان يشفى اولاً جروحهِ و يغسل ادناس نفسهِ و جسدهِ: فأنه لكي يسمح له ان يدخل منزل وليمة الاسرار الالهية يجب ان يتسربل بالثياب الروحانية اللائقة بالمدعوين للدخول.
- ولهذا يجب على من يريد ان يصير تلميذا للمسيح ان يضع اساس تدبيره سيرة تلمذته من الطفولة الى كمال قامته بالعادات الفاضلة، وان لا يتقدم الى هذه الخدمة الجديدة بعد ان يكون العالم قد استنفذ كل قوة جسدهِ ونفسهِ وصار مثل اناء عتيق وبالِ، بل كما قال ربنا (ولا يجعلون خمرا جديدة في زقاق عتيقة، لئلا تنشق الزقاق، فالخمر تنصب والزقاق تتلف. بل يجعلون خمرا جديدة في زقاق جديدة فتحفظ جميعا) متى 9: 17. هكذا اذا نضع في نفوسنا الخمر الجديدة التي لتعليم المسيح في مبتدأ شبابنا حينما يكون غرسنا مازال جديدا، فأن قوتنا تبقى فينا و جدة سيرتنا لا تتعتق في خطايانا. و بهذا نستطيع ان نحتمل لهيب المحبة التي للتعليم المقدس و بحفظها نحترس من قوة الشرور، لأن قوة نفسنا لن تسلب منا او تضعف بواسطة خدمة الغرباء.
- و ينبغي من يبتدأ في هذا التدبير في طفولته ان يكون تحن الرعاية الساهرة للمعلمين، وان يطيع اقوالهم و لا يحكم على نقائصهم. كما يجب على المعلمين ان يعتبروا انفسهم كمربين عهد اليهم بأبناء ملك سمائي. وان اباهم ملك، و اخاهم ملك، وامهم ايضا ملكة. و كما ان اولئك اللذين يعلمون ابناء ملك ارضي يظهرون اهتمام بلا حد في تثقيفهم. و يجتهدون بذلك ان يحظوا برضى والديهم بل و رضى الابناء انفسهم عندما يصلون الى شرف الملوكية، هكذا ايضا يجب على معلم التلاميذ ان يعد نفسه كمربي ابناء الملك و يكون يقضاً و منتبهاً لحراستهم و تقدمهم داخليا و خارجياً.
- و يجب علينا ان نكون اطباء لنفوسنا للواحد تجاه الاخر. فلا يوجد طبيب اذا كان مريضاً، ألا و يعتني بنفسه قبل ان يهتم بالعناية بالاخرين، اما اذا كان الاخرون هم المرضى فأن شريعة الطب تطالبه ان يسوع لمداوتهم. وينبغي لنا اولا كأطباء ان نعرف علل الأمراض، و بعدئذ نستعمل الأدوية التي تمنع تفاقم المرض، لأننا حين خلقنا الله تقبلنا نفساً و جسداً ونحن مطالبون ان نعتني بكليهما. اما عن الامراض و الالام الجسدية فأن طبيعة الجسد تطالب من نفسها بطعامها و شرابها و كسائها، اما حاجته الطبيعية فهي التي تحملنا على ان نهتم بها، و لهذا فنحن لا نستطيع ان نتغافل عنها حتى ولو اردنا ذلك، فنحن مضطرون ان نوفرها له. اما بالنسبة لنفوسنا فأن وصية الله هي التي تلزمنا ان نهتم بمداواة امراضها و تخفيف اتعابها، و ان نشبع جوعها بالطعام الروحاني، و نروي عطشها بمعرفة الله، و نكسوها برداء الايمان و نحذوها باستعداد الرجاء و نقيمها من العادات الفاضلة وفي ممارسة الاعمال الصالحة وفي طاعة وصايا الله.
- فأذا كانت اعمالنا الداخلية مقدسة و اعمالنا الخارجية نقية، فأننا نكون اواني مهيئة لروح الله الذي يسكن في القديسين و الانقياء فقط، هذا عندما نداوي الامراض التي بنا بمعرفة و حكمة و حينما نضعد جراحات الخطية في نفوسنا.
- ولايوجد مرض من امراض النفس لم تقدم كلمة الله له رواءً. وكما انه توجد ادوية يدربها و يعدها روح الله ضد ارجاء الخطيئة، لكي ما يجد كل من يحس بمرضهِ الدواء بجانبهِ و يجد عوناً سريعاً لنفسهِ. و جميع الامراض تشفى بما يضادها. فالتي تأتي من البرد تداوى بالاعشاب الحارة، و التي تحدث من السخونة تداوى بالاعشاب المرطبة، و التي من الرطوبة تداوى بالاعشاب المجففة. فخذ لك من هذا مثال، ايها الحكيم الذي يريد شفاء امراض النفس، و اعمل لنفسك كما يعمل الاطباء للجسد. لأن ترتيب الامور الخارجية موضوعة امام اعيننا كنموذج لترتيب الامور الداخلية، و لكي نداوي النفس بالاسلوب الذي يداوى بهِ الجسد.
- فالنعد اذا مقابل كل وجع من الاوجاع الدواء المضاد له، الايمان مقابل الشك، الحق ضد الخطأ، اليقين مقابل التردد، الصراحة مقابل الكذب، البساطة مقابل المكر، الاخلاص مقابل التحايل، الصفاء مقابل التكدر، الوداعة مقابل قساوة القلب، اللطف مقابل الوحشية، الشهوة الروحية مقابل الشهوة الجسدية، التوجع مقابل اللذة، فرح المسيح مقابل فرح العالم، الاناشيد الروحية مقابل الاغاني، التنهدات و الدموع مقابل المزح و الضحك، الصوم مقابل الشراهة، التعطش الى التمييز مقابل شرب الخمر، العمل باجتهاد ضد الرقاد، التبكيد مقابل التلذذ، و التمتع بالافكار الروحية ضد المتعة الجسدية، التأمل مقابيل الاحاديث، السكوت مقابل المشاغل الدنيوية، النشاط مقابل الرخاوة، العمل الذهني مقابل الباودة، امعان الفكر مقابل تدني الافكار، الثبات ضد صغر النفس، الرحمة ضد الشر، صلاح النفس ضد رداءة الخلق. التواضع ضد الغضب، احتقار الذات ضد الغرور، الخضوع ضد الطموح، لوم النفس ضد المجد الباطل، العوز ضد شهوة الغنى، التجرد ضد محبة القنية، السلام مقابل العداوة، المحبة مقابل البغضة، التصالح مقابل الغيظ، الهدوء ضد السخط، محبة الخير ضد الحسد، المحبة ضد الغيرة الرديئة، البركة مقابل اللعنة، تحويل الخد الاخر مقابل اللطم على الخد الايمن. و كذلك الفرح مقابل الحزن، الرجاء الواثق بالله مقابل الاعتداد بالذات، الاشتياقات الروحية مقابل الاهواء الجسدية، الحياة حسب الروح مقابل الحياة حسب الجسد، المظهر البسيط مقابل التزيين بالملابس البراقة، الزهد مقابل البذخ، الهذيذ بالامور السماوية مقابل شهوة الاطعمة المختلفة، تذكار الامور الغير المرئية مقابل المتعة بالمرئيات، طلب العلم الاتي مقابل العلم الحاضر، محبة الاباء الروحانين مقابل محبة الاباء الجسدانيين، الارتباط بعائلتنا السماوية مقابل التعلق بعائلتنا البشرية، و سكنى اورشليم العليا مقابل المدينة و المنزل الارضي.
- فجميع هذهِ الامراض تداوي و تشفي اذاً بما هو مضاد لها، ومن يرغب بأقتناء الامور الروحية يجب عليه ان يتخلى عن الاشياء الجسدية، لأن الشهوة الواحدة لا تعيش فينا قبل موت الاخرى، اي ان شهوة الروح لا تعيش في افكارنا قبل ان تموت فينا شهوة الجسد، فموت الواحد هو حياة للاخرى. فاذا كان الجسد حياً فينا بكل شهواتهِ، فأن النفس حينئذ تكون مائتة بكل اشتياقاتها واذا كانت للنفس شركة في حياة الروح وكانت كل اعضائها اي افكارها تعيش معها (في هذهِ الشركة)، فأن الانسان يكون قد قام من الاموات و يعيش الان الحياة الجديدة التي للعالم الجديد. و ليس بأمكاننة ان نلبس الانسان الجديد الذي هو روحاني قبل ان نكون قد خلعنا الانسان العتيق الذي هو جسداني. ومع اننا قد لبسنا الانسان الجديد في المعموذية، الا اننا لا نحس بهِ.
- وبما ان كل الامراض تشفى بواسطة الادوية المضادة لها، فأنه يتوجب على كل واحد ان يعرف مرضه و يصير طبيباً لنفسهِ ويستعمل الادوية المضادة، فكل مرض قد وضعت له الاعشاب التي تداويه، ولكل جرح الضمادة التي تبرئه. فأن كنت تروم شفاء امراضك، فليس رواؤها بالبعد عنك: يعوزك فقط ان تشعر بها، وان تقتني الاعشاب التي تداويها.
- على هذا النمط المختصر الذي رسمته لك، عليك ان تفهم الباقي بمجهودك الخاص لأن التعليم لا يفهمك كل شيئ لئلا تصير نائماً و خاملاً. و ان كنت تعتبر ان ماقيل لك و ماسوف يقال انه فوق قدرتك، ادع الله لمعونتك فتنال منه النعمة التي تعينك. و نحن انفسنا فأنه بمعونة الله قد اجتهدنا ان نكتب ما في امكاننا، اي بقدر ما أعطنا من نعمة من اجل معونتنا شخصيا ومن اجل منفعة الاخرين.
- ونحن نقدم هذه المقالة بحسب ترتيبها. وقد اظهرنا اولا بماذا يبتدئ التلميذعمله، ثم كيف يتقدم. و شرحنا كافة مراحل التدبير الى ان يبلغ اخيرا الى درجة الحب العالية، و منها الى درجة الكمال. لأنه حين ان يدرك المواضع الروحية التي لفرح المسيح و يصل هناك، عندئذ يكون قد انعتق من الاوجاع وتخلص من الشهوات، ويكون قد وطئ جميع اعدائه تحت قدميه. عندئذ يردد بكل يقين ما قاله الرسول (احيا لا انا بل المسيح يحيا في) غلاظية 2: 20. امين له كل المجد الى الابد امين.
نهاية المقالة الاولى و هي مقدمة الكتاب.
المقالة الثانية عن الإيمان
المقالة الثانية وهي التي يبين فيها ما هي الوصية الاولى التي يجب ان يتممها الانسان الذي يريد ان يدنو من تدبير سيرة سيرة التلمذة للمسيح.
- الذي يريد ان يدنو من تدبير سيرة سيرة التلمذة للمسيح ينبغي له قبل كل شيئ ان يقتني الايمان الحقيقي: الايمان الذي يصدق الله ولا يفحص عنه يتخذ اقواله كحقائق ولا يبحث عن طبيعتهِ، يسمع وصياه و لا يحكم على اعماله. الايمان الحقيقي يصدق الله في كل ما يقوله دون ان يطلب ادلة او براهين على حقيقة قولهِ، اذ انه يكفي ان يكون الله نفسه هو الذي يتكلم. فالعلامات و الادلة و البراهين تكون ضرورية اذا كان الانسان هو يتكلم او يعمل شيئاً ما. ولكن اذا كان الله نفسه هو الذي يتكلم و رب الكون هو الذي يقول و هو الذي يعمل، فأنه يتوجب علينا ان نصدق، لأنه يكفي ان يتثبت ايماننا ان نعرف ان الله هو الذي يتكلم و يجرى.
- ليس للانسان الاستطاعة ان يحكم على مشيئاته، فكيف يمكن للانسان الذي هو احد المخلوقات ان يحكم على مشيئته خالقهِ؟ فكما ان إناء من الصلصال لا يقدر ان يلوم الخزاف و يسأله لماذا صنعتني هكذا (رو 9: 21) ولا يراجعه في شيئ واحد من جميع اعمالهِ، هكذا فإن الانسان الذي ليس هو سوى إناء من طين وُهِبَ النطق، لا يقدر بالاحرى ان يلوم جابله الذي خلقهُ. لأنه ولو انه يمتلك النطق و المعرفة الا انه لم يعطِ ذلك لكي يلوم ارادة خالقهِ، ولكن لكي يمتدح معرفة الذي جبله. فالانسان وإن كان قد وهِب النطق، فهو يظل غير قادر ان يبحث عن طبيعة خالقهِ بأكثر مما يعجز الاناء الذي من طين عن ان يتكلم او يجابه الخزاف الذي صنعه. لأن خالقنا انما وضع فينا موهبة النطق لكي نشكره و نعترف بفضلهِ، و اعطانا علم معرفتهِ لكي نتعجب من خلائقه، و اعطانا موهبة الحكمة لكي نحس بهِ، ووضع فينا مذاق التمييز لكي نتذوق خيراته، و اعطانا عين الايمان التي تدرك اسرارهِ لكي ما نتأمل اعمالهِ.
- الله اعظم بكثير من افاق فحص افكارنا، و عنايته تفوق ايضاً مجال بحث معرفتنا. و افعال الله تتمشى مع طبيعتهِ. فكما ان الطبيعة لا تخضع لأي فحص، بالمثل فأن افعال طبيعتهِ هي ايضاً ليست مواضيع للبحث و الاستقصاء. و نحن لا نقدر ان نحكم على مشيئاتهِ، لماذا اراد الله هكذا ولماذا فعل هكذا، لأنه كما اننا لانستطيع الحكم لماذا صنعنا بهذهِ الصورة او لماذا خلقنا ووضعنا في عالم بهذا التركيب. فأننا كذلك لا نقدر ان نلوم واحدة من مشيئاتهِ ونقول لماذا اراد و لماذا فعل هكذا.
- يجب ان اللذي يأتي الى الله يؤمن بأنه موجود وانه يجازي اللذين يطلبونه (عب 11: 6) هذا هو القانون الذي وضعه القديس بولس للإنسان الذي يريد ان يدنو من الله، ودين الصلاة الذي اوجبه عليه: امن فقط ان الله موجود والذي يؤمن بأن بالله موجود لا يبحث بعد ذلك و متى و كيف، وبالمثل اذا فإنه اذا ادرك مشيئتهُ و قوله و تعليمهُ، يصدق انها حقاً ارادة الله و يصغي الى صوت الله و الى وصاياه. اما الحكم: لماذا وبأي نوع ولأي علة، فهذا الفحص المتجاسر هو من شأن نفس لم تحس بالله.
- لأن الذي قد احس بالله ينبغي ان يقتني ضمير طفل، ويكون تجاه الله وعنايتهُ مثل طفل تجاه ابيه وامه. وكما ان الطفل يتقبل التعليم من معلمهِ ولا يفحص اقواله، ولا يُقَيم تعليمه ولا يحكم بفكرهِ على من يُعلمه، لأنهٌ يمتلك قوة في افكارهِ ان يبحث عما يسمع، هكذا ينبغي ان يكون الانسان تجاه الله، وليس كمن يفحص او يحكم على افعالهِ بواسطة افكارهِ الخفية ذلك لأنه طفل ولأنه يسمع تعليمهُ مثل طفل ويقبلهُ بايمان.
- لأن الله قد أعطانا ان نولد من جديد لكي ماندرك اننا اطفال، و اننا مولودون من العالم الى الايمان كمولودين جدد، و الاحشاء التي تلدنا من جديد قد اظهرت في وسطنا: انها المعموذية التي يشترك فيها الروح، ونحن نولد بالايمان، و كما ان الطفل في هذا العالم لحظة ان يولد من الاحشاء، يكون كسائر الاطفال في الطبيعة، لا يعرف شيئاً عن العالم، ولا يفحص و لا يبحث ولا يفكر، بل حتى ولايتكلم، ولكنه يومئ فقط بالحركات الطبيبعية، اذ يكون غير قادر تماماً على التفكير، هكذا الطفل الروحاني الذي يولد من بطن المعموذية، وليس بعد من الاحشاء الطبيعية، يمتنع عليه ان يفحص عن الذي ولده، ولكنه يسمع كلامه ليس الا، و يسلك كطفل تجاه تعليمهُ متقبلاً افكاره دون ان يفكر في تفحصها.
- وكما ان الطفل المولود في هذا العالم يتعلم اسماء امور العالم دون ان يفهم معناها، هكذا نحن ايضاً نتقبل الاسماء و الاقوال اما اسرار معرفتها فنتركها لله وحدهُ. لأننا كلنا اطفال امام تلك المعرفة، و كمولودين حديثاً تجاه حكمة الله التي لا ينطق بها، فأنه هكذا دعانا قول مخلصنا “دعوا الاولاد يأتون الي ولا تمنعوهم لأن لمثل هؤلاء ملكوت السماوات”: وقال ايضاً في موضع اخر “من لايقبل ملكوت الله مثل ولد فلن يدخلهُ” (مت 19: 14، مر 10: 15).
- لهذا يجب ان يكون ايماننا بحسب الاقوال التي قلناها، مثل ايمان الاطفال تجاه امور العالم، و هذا هو ما يكون عليه الطفل تجاه الكلام الذي يسمعه من ابيه: فهو يصدق دون تردد انه سوف يعطيه كل ما وعده بهِ، ولا يعتبر كلمة كاذبة على الاطلاق، و هو لا يقيمها ولا يفحصها، ولا يبذل كل جهده في اختبارها ، لأنه يتكلم عن صدقها و يتقبلها. ان لا يعرف ان يميز ان الشيئ الذي وعده به ابوه هو اعلى من منزلتهِ، ولكنه يتقبل منه ببساطة كل ما يقوله دون ارتياب. أنه اذا راى الارجوان على ابن الملك و التاج الموضوع على رأسهِ، فهو يطلب من ابيه ان يعطيه اياه، لأنه يعرف ان اباه يستطيع ذلك تماما. وان كان ماراه فهو حيا او عقربا تجده لا يخاف ان يمد يده نحوها بسذاجتهِ، و يطلب من ابيه وامه ان يعطيه اياها معبراً عن رغبتهِ الساذجة هذهِ بدموعهِ، و ازعاجهما المستمر و صراخهِ و دموعهِ تشهد انه يطلب بكل ما يمتلك من قوة طبيعية، وهو متيقن ان سلطة ابيه ستتقصد لكل ما من شأنه ان يؤذى بواسطة الحية الضارة. وليس عنده اقل شك ان ما يطلبه سوف يعطى له، ولهذا طلب ربنا من كل اللذين يقبلون الى ملكوتهِ ان يتخذوا من الاطفال مثالاً لهم، فيصدقوا و يؤمنوا بمواعيد الله بشبه الاطفال الصغار.
- نادى ربنا بملكوتهِ و اعلنه للارضيين و قال لهم “توبوا فأنه قد اقترب ملكوت السماوات” (مت 4: 17). لقد سمعت الصوت الذي يكرز بالملكوت: امن به دون تردد، عالماً انه بالاخص صوت الله. لا تتسائل كيف يكون هذا الملكوت ولا تفحص هذهِ المواضيع الروحية بأفكارك. ولا تتخذ لنفسك طرق المعرفة الجسدانية حين تشرع في الكلام عن المواضع غير المادية، ولا تخترع اشباها بتصوراتك لهذه المنازل المجيدة التي اعدها الابن عند صعودهِ، ولا ترسم بمعونتك لما سبق لمعرفة الله ان دبرته، لأنك لم تدعى ان تفحص الملكوت و لا لكي تعده او تأسسه، بل لكي ماترثه وتدعى اليه، ولكي ما تفرح بوفرة مباهجه الروحية. لقد سمعت صوت ربنا يسوع المسيح الذي يقول لك: توبوا فأنه قد اقترب ملكوت السماوات: انه يقول “تـــب” وليس “افحص عن الملكوت” لأن الملكوت قريب منك اذا كنت تقترب اليه، والاقتراب اليه لا يكون بالبحث و التقصي: والسؤال كيف و كم وماذا يشبه الملكوت، بل بمراعاة سنن وشرائع الملكوت و حفظ الوصايا التي وضعت علينا.
- و هذا هو كل ما سمعته بواسطة الايمان عن الله: انه ازلي وقبل الدهور، وهو كائن بطبيعتهِ ولم يأت من اخر و هو ليس اقنوم واحد بل طبيعة واحدة جوهرية يؤمن ويعترف بها ثلاثة اقانيم، و بخصوص الأقانيم فقانون الايمان يعلمك ان تصدق ان اللذي ولد ما تجزأ، والذي ولد ما انفصل، بل ان الاب هو مع ابنهِ جوهرياً و ابدياً مع الروح القدس المساوي لهما في الجوهر. وانت تعترف فقط انهم هكذا اما كيف ومنذ متى و كم والى اين وبأي شكل وبأي ترتيب وماذا يشبهون، وكيف هم ثلاثة ولاينفصل الواحد عن الاخر، وكيف يدعون ثلاثة و الواحد في الاخر، وكيف الابن مولود وهو ما انفصل قط عن الاب، وكيف ولده الاب وهو ماخرج خارجاً عنه، وكيف يقال انهم ثلاثة وهم كائنون في الجوهر (الواحد) منذ القدم ومن الأزل. هذهِ ما يشبهها تقبل الايمان وبدون ايمان لا يستطيع احد ان يسمعها، لأن السماع العادي المجرد لا يحتملها مالم يوجد الايمان قبله لكي ما يتقبلها.
- كذلك ان كل كلام يقال عن الطبائع الروحانية والطغمات العلوية لايمكن قبوله الا بالايمان، لأنه كيف لا يكون الايمان ضرورياً بينما الكتاب المقدس، ومع كونهِ يدعوها بالتأكيد روحانية، يتكلم عنها في موضع اخر كطبائع مركبة، ويخلع على تركيبها صفات تختلف من الواحد الى الاخر؟ لأن بالنسبة للسرافيم يعرفنا الكتاب المقدس ان له اجنحة ووجوه، وللشاروبيم صفات اخرى تختلف عنه. فهل نصدق كل هذهِ الاقوال بينما نرى ان القول الواحد منها يتناقض مع الاخر بحسب المنطوق الخارجي لكل قول؟ فالنصدق انهم ارواح و نتيقن من انهم مركبون، ونقبل ان تركيبهم يتضمن صفات مختلفة، ونحن نقبل كل هذهِ الامور بالأيمان لأن الله هو الذي قالها.
- يقول النبي: وأطر الحيوانات ملانة عيوناً حواليها (حزقيال 1: 18). انه يعلمنا بهذهِ الاقوال الطبيعية الروحانية تنظر كلها برؤية كاملة تماماً، وهي ايضاً تسمع وتشعر وتفكر وتحس وتفهم وترغب كل ما تشتاق اليهِ طبيعتها بصفة كلية. فهي لا تسمع بجزء دون جزء اخر، أو انها ترى بجزء ولاترى بجزء اخر، بل انها كلها بكاملها سمع وكلها نظر، وهي كلها كل شيئ تكونه. كما أن سمعها لايتعارض مع نظرها عندما ترى بواسطة الجزء الذي تسمع بهِ، او تحس بالجزء الذي تفكر بهِ. وكذلك لا يتعارض ولا يبطل كل واحد بواسطة الاخر، فهي تعرف فقط انها هكذا.
- أما عند الطبائع المركبة فالحاصل هو عكس ذلك: فالطبيعة (الواحدة) تسمع بجزء وتنظر بجزء اخر وتشعر باخر وتفكر باخر، ونتيجة لتركيب أعضاءها، فحركات أوجاعها تنقسم ايضاً. اما هناك عند الطبائع الروحانية، فكل واحد منها يكون بكليتهِ في كل حركة من حركاتهِ، فلا تنفصل الأعضاء عن بعضها (في حركاتها) الى رأس وارجل وايدي ووجوه وصدر وظهور طول وعرض ولون وشكل، لأنها تتبادل وتتداخل الواحد في الاخر، لأن تركيب الأعضاء لايوجد عند تلك الطبائع: وليس لأنه لاتوجد عين فلا تكون هناك رؤية، أو انه لا توجد اذن فلا يكون هناك سمع، او انه لا يوجد حنك الجسد فلا تمتلك مذاقهُ الامور الروحية، أو لأنه ليس لها أجنحة فلا تطير، أو لأنه ليس لها اقدام فلا تمشي، أو لأنها لا تملك أعضاء القلب فلا تفكر، ولكنها تمتلك سائر أعمال الأعضاء كلها ولو أنها لا تمتلك أعضاء مركبة.
- وليس في قدرة معرفتنا ان نفهم كيف تجرء اعمال الأعضاء بدون أعضاء، ولكن بواسطة المعرفة التي منحنا الله اياها. أي بالايمان- نحن ندرك ذلك. ومع ان هذهِ الامور لاتقع تحت منطق التفكير البشري، الا اننا نقبلها بدون تردد. وكذلك بالنسبة لوجودها فنحن أيضاً بالأيمان ندركها، وليس لوجودها فقط، بل وأيضاً لوجود الطبيعة الجوهرية التي خلقتها، فنحن بالايمان نعرفها، لأن كل ماندركه عنها يكون مصدره من الايمان. لأن ولو أن الحياة نفسها وتوافق المخلوقات تطلع الحكماء وتعلمهم بما يخص خالقها، الا أنه لابد في الوقت نفسه ان يسبقها الايمان، لأن كثيرين، وبالذات ممن لم يكن عندهم ايمان، أعتبروا هذا الامر من الاكاذيب.
- وبأختصار: كل ماهو روحاني و كل عالم الكائنات الروحانية. فأن الايمان هو الذي يراها و الايمان هو الذي يحس بها. واذا لم نقتني الايمان في داخلنا فلا يكن بمقدورنا ان نستوعب شيئاً خارجاَ عما يرى (بالعين الجسدية). وحتى في الأمور المرئية ليست هناك حاجة للايمان، لأن بصر العين يراها، ولأن كل ماهو مادي يراه الأنسان بصورة مادية. أما عالم الروح فالايمان وحده هو الذي يشعر بهِ. واذا لم يكن ايمان يصبح ذلك العالم كما لو كان غير موجود.
- فانظر اذ كم هي عظيمة قوة الايمان، بما انه بدونه تصير كل الامور الروحية كما لو كانت غير موجودة، وليس فقط الخلائق التي تحيا في تلك المواضع الروحانية، بل أيضاً الجوهر (الخالق) هو نفسه يصير لنا كما لو كان غير موجود. ولهذا فأن القديس بولس قد ابدى أهتمامه بسر تعليمنا وقال “يجب ان الذي يأتي الى الله يؤمن انه موجود” (عب 11: 6). فقد طلب من كل تلميذ أن يؤمن اولاً بعد ذلك يدنو من سيرة تلمذة المسيح، ولأنه كان يعلم ان الطبيعة الالهية لا تقع تحت ادراك الحواس الجسدانية، وأن وجوده بالمثل لايُعرف ما دام الانسان يستخدم شيئاً من تلك الحواس، لهذا السبب فقد طلب منا في تعليمه ان نؤمن فقط انه موجود.
- لقد قسم الخالق جميع الطبائع الجسدانية الى خمسة انواع: نوع يُرى و نوع يُسمع و نوع يُذاق ونوع يُلمس، و اعطى الانسان خمسة حواس لكي يذوق بها العالم بحسب تعدد اشكالهِ المتنوعة. والان فخارج عن هذهِ الحواس الخمس التي ذكرتها لايستطيع الانسان ان يدرك شيئاًمن العالم الجسداني، بل والعالم نفسه خارجاً عنها لايكون. أما كل ماهو روجاني ان كان الجوهر(الخالق) أو كانت الخليقة، فما يخضع لشيئ من هذهِ الخمسة انواع، ولا يدرك بشيئ من هذهِ الخمس حواس. ولأجل هذا لكي يعطينا ربنا نعمة الشعور بهِ، سلمنا اولاً الايمان لكي ما نحس بهِ، وبعد ذلك اظهر لنا (ذاتهُ) بأعلانات. ولهذا السبب قال القديس بولس “اذن الايمان نتيجة لسماع الأذن، وسماع الأذن هو من (التبشير) بكلمة الله” (رو 10: 17). لأن الرسول بولس علمنا ان نقبل الايمان بسماع كلمة الله.
- لكن مع ان الايمان قد زرع فينا بواسطة الله خالقنا حين خلقنا، الا انه قد فسد وتحول من ايمان الى ضلال. وكما اننا حولنا الحكمة الطبيعية التي وهبت لنا ايضاً حين خلقنا، وبواسطة كدسنا حكمة العالم مكان حكمة الله، الواحدة محل الأخرى، خارجاً عن الله، واستبدلنا حكمة الله بها. كما قال القديس بولس ” اذ كان العالم في حكمة الله لم يعرف الله بالحكمة”. (ا كو 1: 21). هكذا ايضاً فأن الايمان الطبيعي الذي كان فينا قد تحول الى ضلالة، و ما كان قد وهبهُ لنا الخالق لأجل غيرنا ونفعنا وحد سبباً للهلاك، لأننا غيرنا غايتهُ النافعة. وبالتالي صرنا نستخدمهُ خارجاً عن هدفهِ.
- لقد اصبح ايماننا يصدق امور غير مناسبة، وحكمتنا تعرف امور غير واجبة. فقد استخدمنا الايمان حيثُ لايطلب الايمان، فأن ماتراه عين الجسد وتدركه كل الحواس الجسدية، يراهُ ايماننا شيئاً اخر، وصرنا نتصور شيئاً مكان الاخر. ولهذا فأن ترتيب الايمان الذي غرسهُ الخالق في طبيعتنا كان قد فسد حتى احتاج الأمر أن تغرس كلمة الله مرة اخرى. وأن تنشط القوة التي فينا بواسطة تعليم المسيح. ولهذا، وبالأخص بواسطة ذلك التعليم، يمكن ان يصل الأيمان الينا “الحق اقول لكم لو كان لكم ايمان مثل حبة الخردل لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من هنا الى هناك فينتقل، ولا يكون شيئ غير ممكن لديكم” (متى 17: 20).
- لقد علمنا ان الايمان ليس شيئ غير ممكن لدينا. ولهذا فأن كل شيئ ينغلب لقوة الايمان حسب قول المسيح. فبالايمان تنزل الامطار، وتجري المعجزات، وتحصل العجائب، و تُعمل اعمال مذهلة. الأيمان وحدهُ يعمل كل ماهو فوق الطبيعة. فهو يقيم الموتى، ويشفي المرضى، وينهض المعوقين، ويطهر البرص، ويفتح اعين العميان، ويجعل العرج يمشون، ويقوم ويبرئ بقية الأعضاء جميعها، فيعطي النطق للخرس والسمع للصم، ويطرد الشياطين. هذهِ كلها فأن الايمان هو الذي يعملها. فالجبل ينتقل من مكانهُ بالأيمان، و البحر واللامواج تطأها القدم بواسطة الايمان، وجميع الطبائع تطيع امر الانسان بالايمان. وبأختصار فالأيمان يضع في الانسان قوة الله، بحيث انه حينما يؤمن احد يمكنه ان يفعل مايريد بواسطة قوة ايمانه. والايمان يحول ضعف الجسد الى قوتهِ الخاصة، ويجعل من امر الانسان المحتقر امرا الهيا مطاعاً.
- الايمان غير موجود كأنه موجود، ويعتبر ماهو موجود كأنه غير موجود. وهذه ايضا صورة لقدرة الله التي قال عنها القديس بولس “الذي يدعوا الاشياء غير موجودة كأنها موجودة” رو 4: 17، وقال النبي انه ينتهر البحر و يجففه ويفجر العيون، و ايضا “ينظر الى الارض فترتعد، يمس الجبال فتدخن” (مز 106 : 9، 74: 15، 104: 33). وايضا اشعياء النبي يقول: “كل الامم تحسب كلاشيئ قدامه” (اش 40: 17).
- هذه الاقوال اذا قالها الروح عن قدرة الله، لأنه يدعو الاشياء غير الموجودة فتوجد، والموجودة يلاشيها. والايمان يماثل تلك القدرة ليس فقط لانه يعمل بشبه الله ايات وعجائب لم تكن موجودة، وبقوة الله يبطل ويلاشى ماهو مودود، ولكن لانه ينظر ايضا بدون حجاب مايحسب انه غير موجود لكونه مستتر، ويحسب ماهو موجود والذي من اجله نتعب ونشفى، وكأنه غير موجود، ذلك لأنه يعتبر- مسبقا- توقفه (عن الوجود)، ومع ان الشيئ لم يتوقف لحظة، الا انه يعتبر قد مضى، ومع انه موجود الا انه يحسبه قد انصرف، ومع انه ممتع ومحبب الا انه يكون بالنسبة له كأنه غير موجود. ومع ان الناس يجرون فهم للايمان لا يتحركون، ومع انه يرى الموت لايصدق انه الموت، والغنى يعتبر فقراً، وكل ماهو في العالم، بل وطبيعة العالم نفسها ايضا، يعتبر كأنه غير موجود، و ذلك لأن مسيرته تتوقف وكل اموره تنتهي.
- وكل ماهو بعيد (ومرتفع) عنه، يجعله الايمان حاضراً وقريباً جداً امامه، فيراه وجهاً لوجه، ويرى دون حجاب كل الاشياء المخفية وكل الامور الغامضة. لأن الملكوت السماوي بعيد هو عن نظر الجسد، ولكن عين الايمان تراه، ومنازل بيت الاب بعيد عنا جسديا، ولكن الايمان يسكنها الان، وذلك النور الروحاني مرتفع ببهائه داخل بلده مو لكن ص 36 الايمان يسير فيه ويرى بواسطتهِ، وراء مجدنا هو في السماوات، ولايمان يتزين به هنا، غنانا وكل خيراتنا الروحية هي من العلا، وايماننا يستطيع ان يجلبها لنا، مدينتنا الحقيقة هي في السماوات ومنذ الان بايماننا نسكنها، جنسنا وعائلتنا واباؤنا هم من تلك الكورة النائية، والايمان يتكلم معهم ويدوم حديثهم معهم كل حين. جميع الاحياء وطغمات النور هم هناك في بلدة الحياة، والايمان يتمجد معهم على الدوام.
- ولكن لماذا نتكلم عن الخلائق مع كونها مجيدة ليست سوى مخلوقات، مع كونها عظيمة ومدهشة، لها بداية خلقة ووجود؟ فأذا كانت هي بعيدة عننا بسبب استنارتها، الا اننا مزمعون اننا ندنو منها اننا نصير روحانيين بحسب طقس بلدها. ولماذا نذكر الخلائق في حين ان الله نفسه الذي هو بعيد وفائق عن الكل، هو قريب للايمان في طبيعته الجوهرية ذاتها، وهو ليس بعيد عننا بقدر بعدنا نحن عنه، وهو ليس ببعيد عن الايمان قدر بعدهِ في كيانهِ، وهو قريب جدا للايمان مع انه فوق الكل، بل واقرب حتى من الايمان مع انه في داخل جميع الخلائق واهبا النطق للخرس ومحيا لفاقدي الحس؟
- تلك هي اذن طبيعة الايمان. فنحن نرى ما لايرى، ونعرف مالايعرف، ونشعر مالايحس به، وننظر ونقترب مما هو متناه في البعد. وبقدر ما كانت الطبيعة التي يطلب الايمان ان يراها دقيقة و مخفية متداخلة وروحانية وسامية وفائقة الوصف، وبقدر ما تكون رؤيته واضحة. والايمان يجد براهانه في كل ماهو عظيم جدا، ويعتبره امرا محتقرا ان يتوقف عند الامور الصغيرة او ان ينحصر عند عمل مخلوق. ولهذا فهو يتجاوز كل شيئ ولا ينحصر في شيئ ان لم يكن عند الخالق. لأن قياس المخلوق لايمكن ان ينحصر او يحد قوة الايمان، فلا يوجد خليقة يتيقن منها ولايتصورها، او ما يكون مخلوقا او ليس موجوداً. اختباره الصحيح هو مذاقته لله فقط، لأنه يرفض الكل ويرتفع فوق كل الطبائع، ويدنو قريباً جدا من الخالق.
- الايمان يتخطى ماهو حاضر ويستقدم ماهو مستقبل. الايمان هو لسان الله، وهو امر الله. الايمان يأمر ومثل الله يطاع الجميع. الايمان يؤمى بالاشارة وكافة الخلائق تستجيب له. قوة الايمان هي قوة الله لأن الله هو الذي وهب قوة الايمان. الايمان هو سيد الخلائق، وكما يأمر السيد عبيده فيطيعونه هكذا ايضاً يأمر الايمان الخلائق فتطيعه. وما هو عجيب ايضاً ان ليس فقط الخلائق تطيع الايمان، بل ان الخالق نفسه لايعارض مشيئته: فكل مايرغب فيه يحصل عليه، وكل مايطلبه منه يعطيه اياه، يدعوا فيجيب، وباب المعطى مفتوح دائما امام طلباته. كما قال: “كل ماتطلبونه في الصلاة مؤمنين تنالونه” (متى 21: 22). نعم فالايمان يطلب في بيت الله كمتسلط على كنوز الغنى الوفيرة وكموزع للخيرات.
- عجيب وفائق جدا هو سر الايمان، ومن هوالذي يستطيع ان يفسره، انه عظيم بقدر ماهو مسكن الله و اعني الايمان الذي لايكون بالاسم فقط، والذي لا يتوقف عند الصوت والكلام فقط. بل الايمان الذي يختبر في صلابة النفس وفي ثبات ورسوخ الافكاروالذي لا ينكر نفسه والذي يتشبه بالله الذي قال عنه القديس بولس “لايقدر ان ينكر نفسه” (2 تي 2: 13). ولان الايمان لاينكر نفسه ولايسمح بدخول الشك عليه، ولايقع فيه الظن، ولايتغلغل الخوف في سلطانهِ، فأنه يفعل كل مايشاء، وكل مايطلبه يعطى له. هذا هو الايمان الذي يحرص على اقتنائهِ في نفسهِ كل من يريد الاقتراب من الله. وليس في الايمان افكار تناقض بعضها البعض، فهو لايندم على شيئ فعله او نطق به، ولا يلوم نفسه متى قال وطلب مايريد. وكما ان الله لايندم قط على شيئ مما قد صنعه او نطق به، بالمثل فأن الايمان لايندم على ماقد عمله، لكي مافي هذا فقط يشابه الله.
- أوامر الايمان هي اوامر لها طابع السلطة. فالايمان يصلى بيقين، وبحسب يقينه هذا تستجاب صلاته على الفور بواسطة الخلائق. وأحياناً لايصلى وفي الوقت نفسه يطلب شيئاً ما ويتكلم بسلطان على مثال الله، وكما ان لاشيئ يعارض امر الله، هكذا ايضا لايعارض شيئ امر الايمان. فأحيانا يصلى فيستعلن الايمان بواسطة صلاته، واحياناً اخرى يطلب بسلطانٍ بغير صلاة فيطاع.
- ايليا النبي لم يصل امام اخاب واطيع. بأيمانه طلب بسلطان، وما قاله حصل في الحال. وحكم قوله على كل الطبائع والمخلوقات بأكثر مايحكم امر ملك على بلاد بمملكتهِ «حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ الَّذِي وَقَفْتُ أَمَامَهُ، إِنَّهُ لاَ يَكُونُ طَلٌّ وَلاَ مَطَرٌ فِي هذِهِ السِّنِينَ إِلاَّ عِنْدَ قَوْلِي»(1 مل 17: 1). لم يكتب انه صلى اولا ثم قال بعد ذلك ولكن عندما سمعت الخليقة قوله خضعت لأمرهِ. كافة العناصر سمعت لأمر انسان مائت كما لأمر الله: فقد أطاعته الغيوم، ودعا الارض فستجابت له وامر الريح فلم تشاهد بعد تغيراتها، وكافة الخليقة صارت امام كلمة ايليا خادمة مطيعة ومنفذة سريعة “للامر الذي اعطاه اياه سيدها. و في موضع اخر امر القادة اللذين صعدوا الى الجبل ليأتوا مع الاخرين اللذين كانوا معهم كما مكتوب. واذ تكلم بسلطان الهي، نزلت نار من السماء و احرقتهم عن اخرهم قال “ان كنت انا رجل الله فالتنزل نار من السماء وتأكلك انت والخمسين اللذين لك” (2مل :1- 10). وللحال نزلت نار من السماء و تحقق قول ايليا النبي بالفعل.
- وفي مواضع اخرى كتب ان الايمان صلى اولا وبعد ذلك استجيب له حسب المكتوب: وخر الى الارض وجعل وجهه بين ركبتيه وارسل غلامه ليتطلع الى البحر (ا مل 18: 42 – 43). وحين قام ابنة الارملة صلى وسجد واذ ذاك اقامه. لقد استعلن الايمان في تلك الصلاة، لأنه لو لم يكن امن انه سيقيمه لما احضر الطفل حياً الى امه، ولما صعد انطرح على فراشه. وكذلك نراه ايضا يقول لتلاميذه: “اطلب ماتريد وانا اعطيك اياه” قبل ان أوخذ منك (2 مل: 2: 9). وقد عمل الروح بالفعل بحسب ماطلب التلميذ وأمر به معلمهِ، و استقرت الموهبة على اليشع. وحين كان يرفع الذبائح على جبل الكرمل في حضور اخاب وكل اسرائيل صرخ قائلا: “استجبني يارب استجبني، ليعلم جميع هذا الشعب انك الرب الاله وانا عبدك وبأمرك قد فعلتُ كل هذهِ الامور” (امل 18: 36). ولم يستجب ولم تنزل النار قبل ان صلى.
- والسبب انهم في بعض المواضع كانوا يصلون اولا، وفي مواضع اخرى كانوا يطلبون بسلطان، واضح، ففي الموضع الواحد كانوا يضهرون ضعفهم، وفي الاخر كانت تستعلن قوة الله التي كانت فيهم. لأنه حين كانوا يصلون ويتوسلون كان يرى انهم كانوا اناس ضعفاء، وحين كانوا يطلبون ويطاع امرهم دون صلاة كان يعرف ان قوة الله مع طلبهم. وفي موضع كانوا يتكلمون كبشر عاديين، وفي مواضع اخرى كخدام الله، اي كالهة بشريين، لأن الايمان الذي فيهم جعل منهم الهة سمائيين.
- وهم في ذلك يشبهون المسيح الهنا الذي كان يعمل الامور كصاحب سلطان، وفي احيانا اخرى كان يصلي ثم يجري العمل بعد ذلك، فهو لم يقم لعازر قبل ان يصلي، ولم يبارك الخبز ويقسمه للجموع قبل ان نظر الى السماء، ولم يقل للاصم (افثا) اي انفتح قبل ان وضع اصابعه في اذنيه وتفل ولمس لسانه ونظر الى السماء. واخرون كان يشفيهم بامر له سلطان ودون ان ينظر الى السماء و يطلب من ابيه. فقد اقام الشاب ابن الارملة بأمر وسلطان، ونادى بصوت عالي ابنة رئيس المجمع فقامت في الحال وامر البحر فصار هادئاً، والريح توقفت وقال فقط للخدام “املؤا الاجران ماء” ثم قال “استقوا الان”، وقدموا الى رئيس المتكأ (يو 2: 7)، ولم يستلزم الامر ان ينظر اعلان ارادته، وقد قال للروح الاخرس الاصم: “انا امرك، اخرج منه” (مر 9: 25)، فخرج من الولد في الحال. والابرص قال: “اريد فاطهر” (مت 8: 3) وللوقت طهر برصه كما اراد.
- فمن جهة واحدة كان يسوع يصنع المعجزات وهو يصلي لكي ما يتنازل بنعمتهِ ليكون قريباً من اللذين دعاهم اخوته، ولكي لايحزنوا ان يستجاب لهم بدون صلاة، نزل هو ايضاً لمستواهم وكان يصلي اولا ثم بعد ذلك يجري المعجزة، والسيد اظهر ذاته مساويا لخدامه، لكي ما يكمل المكتوب: “كان ينبغي ان يشبه اخوته في كل شيئ” (عب 2: 17). ومن جهة اخرى فأنه اعطاهم القدرة ان يتكلموا بسلطان ويُطاعوا، لكي مايعرفوا من هنا انهم كانوا خدام الله، ولكي يعطي الايمان اليقين انه سيفعل كما يريد.
- يشوع بن نون طلب ايضا بسلطان ان تقف الشمس ويقف القمر فوقفا، وثبت كل منهما في موقعه. لقد رفع يشوع يده وتكلم بسلطان الايمان: “ياشمس روحي على جبعون، وياقمر على وارى ايلون: (يش 10: 12)، فدامت الشمس ووقف القمر حتى انتقم الشعب من اعدائهِ. ولماذا نذكر الانبياء فقط. وفي حين ان في جميع الشعب ايضا، بما فيهم النساء والاطفال معاً كان الايمان يحرز انتصارات من هذا النوع؟ لقد استطاع الايمان بمجرد الهتاف ان يأمر الاسوار، فلم تقوى على الصمود امام صوتهِ. وفي كل مكان كان الايمان يحرز انتصارات مثل هذهِ، وفي كل الاسفار المقدسة رأيناه يجري المعجزات. وكل من حس بقوة الايمان واختبرها بالفعل، هو يعرف انها حقاً قد عملت هذهِ كلها، ويؤمن انها ايضا تعمل مثلها.
- والان انت ايضا يامن تريد ان تكون تلميذاً لله: اقتنِ الايمان سيد كل مقتنياتنا. اتخذه بداية لتدبير سيرة تلمذتك، واضعه كأساس لبرجك، لكي ما اذا ارتفع كما تريد فلا يسقط، لان البناء الذي يتأسس على الايمان لا تزعزعه الامواج والرياح. هذا الايمان الذي وضعه الرب يسوع كأساس لبيعته بواسطة سمعان، وكما ان ربنا جعله بداية (البناء)، هكذا ايضا ينبغي للتلميذ الذي يدنو بترتيب لتدبير سيرة التلمذة ان يبدأ به. لقد جعله الرب يسوع اساساً للكنيسة كلها، فاجعله انت اساساً لتدبيرك. لقد بنى عليه التدابير المتقنة للعالم كله، فأبنِ انت عليه انجازات تدابيرك. لقد ثبته بصفة قاطعة كأساس لكل الاجيال التي تبعث مجيئهِ، فاجعل انت بداية لحياتك في الله.
- تأمل مقدار عظمة قوة الايمان، كيف انها تقدر ان تحمل كل البشر لقد وضعه الرب في اساس كنيستهِ، لأنه قد راى مسبقاً قدرته التي لاتقهر وصلابته التي لاتهتز، وقوته التي لاتستنفذ، ونصرته التي لايشوبها عيب، وعزيمته التي لاتنثني، وشجاعته التي لاتتعب، ومره الذي لايرد، وحكمه الذي لاينقض، وكلمته التي لاتكذب وسلطانه الذي لايستهان به. هذا الايمان الذي جعله الرب يسوع اساس الكنيسة ومبدأ بنيان جسده المقدس، لكي يعلم كل احد ان يبدأ به وكل تلميذ ان يضعه اساس كافة تدابيره، لأنه لم يوضع كأساس لكنيستهلكي يضهر قوته فقط، بل وايضاً لكي مايعلم الانسان الذي يرسد ان يبدأ في بناء تدبير سيرته الجديدة كتلميذ ويتقدم فيها، وفي بقية نواحي البناء فأن الايمان هو الذي يدعمه، ويعلى جميع منازل الصلاح.
- لأنه لايوجد حجر واحد يدخل في بناء ذلك البرج الا ويكون الايمان هو الذي يبنيه. ولاتوجد حياة في واحدة من مجموعة الفضائل مالم تكن فيها حياة الايمان. فكما انه بدون حياة التنفس تكون جميع اعضاء الجسد مائتة، هكذا بدون حياة الايمان تكون جميع تدابير البر مائتة. وكما ان الاعضاء تحيا بواسطة التنفس، هكذا تحيا الاعمال بالايمان. وكما ان اعضاء الجسد ما لم تكن بصحة جيدة وصلابة، فأنها تصبح غير نافعة ويصير جمالها وحسنها بلا فائدة، مادامت النفس التي فيها، هكذا تدابير الفضائل، اذا كانت شاقة ومجهدة، وكان الانسان في صحة جيدة وفي تدبير سيرة البر، فهي لاتفيد شيئا مادام الايمان ليس موجود في الاعمال.
- وكما ان جميع الاعضاء تستمد حيويتها من حياة النفس، حتى ان بواسطة حياتها تتحرك بحسب طبيعتها للعمل الذي يناسبها: العين للنظر والاذن للسمع والحنك للذوق والانف للشم واليد للمس والقدم للمشي والجسم كله للحركة والعمل، ويتحرك بحركات حية من كل نوع بواسطة عمل جميع اعضائه هكذا ايضا هي جميع اعضاء اي انواع اعمال البر مالم تكن فيها حياة الايمان فأنها تصير مائتة وعديمة الفائدة. فالصوم لايكون صوما ان لم يكن معه الايمان، والصدقة لاتحسب صدقة ان لم تعطي الايمان، والرحمة ليست شيئا مالم يرافقها الايمان، ولا العفة ولا النسك مالم يمتزج بالايمان، ولا الطاعة ولا الخضوع مالم يسندها الايمان، ولا الحبس الضيق ليس شيئا ما لم يكن معه الايمان، والصلاح لايحسب صلاحاً حقيقياً مالم يمتزج به الايمان. والبر الذي لايختلط به الايمان يفقد اسمه ويتوقف عن اعمالهِ. وكما ان ضل جسد ما لايدعي جسدا، وظل اليد والقدم ما لا يدعى بأسمها، كذلك ان جسم البر مالم توجد فيه حياة الايمان لا يدعى جيما بعد. فالصوم ليس صوماً، والنسك والعفة لايستحقان اسم الاعضاء الصحيحة، لان بدون الايمان كل هذه الامور هي ظل وجسد مائت، ولايمكن بأي حال ان تدعى جسداً حقيقياً، ذلك لانه يشك في انها تخدم في كرمة غريبة.
- الايمان هو سياج زروع وصايا المسيح، وكل نبات يوجد داخل هذا السياج يختص بالمسيح وهو مغروس في كرمهِ. اما النبات التي تكون خارج ذلك السياج فتسمى نباتات برية: وهي لاتحمل ثمرا على الاطلاق، وحتى اذا اعطت ثمرت فأن حيوانات البرية و العصافير تجدها ساقطة فتهلكها، وحتى لو انها بقيت فهي تكون جافة ليس فيها اي قيمة غذائية. هذا هو الكرم الذي اكترى له رب البيت فعلة، وكل من راه خارجا اعتبره عاطلاً ودعاه ان ياتي لكي يعمل في كرمه. وبالايمان يحفظ كل صالح يكون هناك، والذي لايكون هناك يترك.
- الايمان يجمع الكنوز ويحفظها: يخفى الودائع ويحرسها. الايمان هو الاساس وهو المهندس، انه راسخ تحت جميع المنازل وهو الذي يرتفع معها. الايمان يصنع الاعضاء (الفضائل) وهو الذي يهبها الحياة. الايمان يغرس زروع الروح وهو الذي يعتني بها. الايمان هو سياج الزروع وهو الذي يرويها، هو يطلع النبات وهو الذي يربيه، هو الجسم وهو النفس في الجسد. الايمان يبذر البذار ويجمع الحصاد ويخزنه، يغرس الاشجار ويجني الثمار ويحفظها. فالايمان هو الكل لأنه قادر على كل شيئ.
- ايها التلميذ، اقتني هذا الايمان. تحصن بهذهِ الحقيقة ولا ترخها. اطلب كل ماتؤمن به وانت تحظى به من المسيح الذي وعد بأعطائه لك. لأنه له المجد مع ابيه والروح القدس الى دهر الدهور امين.
المقالة الثالثة
على الإيمان
- تعال أيضاً أيها التلميذ، لنسمع عن انجازات الإيمان المشتهاة.تعال وانصت لصوت والدتك، لأنها تعطيك الحياة من ألحانها العذبة، تعال لترضع لبن التعليم الحى من الثدى الحى الذى للأم التى ولدتك، تعال لتنهل من النبع الذى يروى الأجيال، لأن الذي لا يشرب منه لن يروى عطشه. تعال لتجلس على المائدة الممتلئة من طعام الحياة، لأن الذى لا يقتات به لا يجد الحياة في نفسه. تعال، أمل أذنك واسمع، وافتح عينيك وانظر العجائب التي أظهرت بواسطة الإيمان. أقتن لك أعيناً جديدة، وخذ لك آذاناً خفية، ولأنك قد دعيت لكى ما تسمع الخفيات، فمن الواجب أن تكون لك آذاناً خفية، ولأنك قد دعيت لتشاهد أموراً روحية، فأعين الروح صارت لازمه لك. تعال إذاً لكى ترى نفسك شيئاً آخر غيرما كنت، وتتغير لكى ما تصير كلك جديداً.
- لأن الخالق قد صيدك خليقة جديدة، وكان الإيمان وسيلته لذلك. أنت تعيش الأن تغييراً عجيباً وخلقة سمائية، وكان الإيمان عنده حين خلقك. لأنه في البدء حين خلق الله الخلائق وثبت الأشياء في ترتيبها، كانت الحكمة تعمل ذلك معه، كما قال سليمان: “الرب بحكمته أسس الأرض، وخلق السموات بفهمه، وبعلمه انكشفت الأعماق وتقطر السحاب مياهاً،(أم 20-19:3). وقالت الحكمة أيضاً:” لما ثبت السموات كنت هناك أنا، ولما أنثبت السحب من فوق، ولما تشددت ينابيع العمر” (أم 27:8).
- لقد كانت الحكمة معة في أعماله الأولى، أما في هذه الخليقة الثانية فقد كان الإيمان معه، وفي هذه الولادة الثانية اتخذ له الإيمان مساعداً. الإيمان يرافق الله في كل شئ، وهو لا يعمل شيئاً جديداً اليوم بدونه.
- لقد كان من السهل عليه أن يلدك من الماء والروح بدونه، ومع ذلك فهو لم يجعلك تولد الميلاد الثاني قبل أن تتلو قانون الإيمان. كان يقدر أن يغيرك من قبل ويجعلك جديداً. ومع ذلك فهو لم يغيرك ولم يجددك قبل أن يتقبل منك الإيمان كضمان. فالإيمان يطلب من كل من يعتمد في حين أنه يتقبل من الماء الكنوز. بدون الإيمان يكون كل شئ تافهاً، واذا أتى قصير الأشياء الوضيعة مجيدة. المعمودية بدون الإيمان هى من الماء فقط، والأسرار المحيية بدون الإيمان هى خبز وماء فقط، والإنسان العتيق يبدو ساذجة وأعاجيب الروح تكون وضيعة بدون عين الإيمان التى تراها.
- إن قوة الإيمان لا تحس من خبرة الكلام، ولكنها تحس منها وفيها وحدها. والإيمان لا يدرك بواسطة السماع بالأذن، ولكنه يتأكد في الداخل بواسطة قوة النفس، لأن الأذن تتقبل فقط خبر الإيمان، ولكن عمل الإيمان يولد بواسطة الأفكار. لأن النبع الذى يفيض منه الإيمان هو العقل النقى والفكر البسيط الذى لا يوجد فيه هذا الشئ وذاك: ففكر الإيمان هو فكر فريد وليس فيه شئ يقاتل الآخر.
- الإيمان ينظر ويتأمل ويتفطن سراً في القوة المستترة في الأشياء. لأن الإيمان مكانه أكثر عمقاً من المعرفة، وما لا يمكن أن تراه المعرفة ينكشف للإيمان الذى هو أكثر عمقاً. ولأن المعرفة لا تقدر أن تعمل أعمال الإيمان، فهى تتنحى ويأتي الإيمان مكانها، لأن المعرفة هى في الخارج بين المخلوقات. أما الإيمان فهو في الداخل بالقرب من الحقيقة. المعرفة تجرى بحوثاً على الحكمة المخفية في المخلوقات، أما الإيمان فيفحص خفايا الأسرار. المعرفة تدرس قوة النباتات والأثمار وكل طعام يعطى للجسد. والإيمان يتعلق بالقوة المخفية في الأسرار المحيية التى هى غذاء النفس. المعرفة نظراً لأنها يمكن أن تكون دقيقة فهى تنساب إلى داخل الأشياء المادية، وتطوف متجولة في العالم المنظور، أما الإيمان فهو لا يسكن في تلك الخليقة، وليس في المخلوقات استطاعة أن تقبله لكى يسكن فيها.
- اللسان لا يقدر أن يحس بقوة الإيمان، لا الكلام يمكنه أن يعبر عن أمجادها أو يأتي بتشبيهات لها. قدرة الإيمان لا تدرك بالقول ولا تعرف الكلام ولا بجزء من الحواس التي تتجه نحو الجسد، ولكن أسوار الإيمان تكشف، والخفيات تستعلن فقط في داخل قدس أقداس العقل الخفى والروحاني. فالجزء الأكثر بهاءً في الإنسان هو وحده الذى يقدر أن يحس بالإيمان. أعمال الإيمان ترى خارجياً وأقواله تسمعها الآذان، أما قوته فتدرك في الداخل بواسطة العقل. لأنه حتى ولو كنت ترى الأموات يقومون أو العميان يبصرون أو الشياطين تخرج، فإنك لا ترى قوة الإيمان: فكيف ترى قوة الإيمان في جسد يقوم، بما أنه يقييم أيضاً موتى النفوس؟ وكيف تشعر بقوته في شفاء أعين الجسد، بما أنه يخلق أيضاً أعيناً للطبائع الروحانية؟ وكيف ترى سلطانه على الشياطين التي تخرج، بما أنه يطرد أيضاً من النفس الأفكار الطبيعية؟
- المخلوقات ترى قوة الإيمان من الأفعال الخارجية، أما الإنسان فيحس بها بقوة النفس. والإيمان لا يعطى نفسه لمذاقة العقل عن طريق شئ آخر غيرها هى بالذات، وبدون توسط أى شئ آخر يعلن عن نفسه له ويجعله يجس بقوته. وفي الدخل، بالقرب من النفس، لا تكون العلامات الخارجية وسائط لمذاقة الإيمان ، ولكن الإيمان هو نفسه يسكن في النفس وينعمها وينير ويبهج أفكارها، ويرفع نور طبيعتها في الداخل، فتدهس النفس من النور الجديد الذى يشرق عليها. والإيمان لا يظهر للنفس بهاء طبيعته قبل أن يكون قد أعاد وجمع من كل مكان نظرتها، لأن النفس لا تقدر من ذاتها أن تراه طالما كانت تشغل نظرها في أشياء أخرى، فالنظر الطبيعي للنفس إذا ما تشتت صار ضعيفاً وغير قادر أن يتطلع إلى نقاوة نور الإيمان.
- والنفس التى صارت مسكناً نقياً للإيمان، فإنه يعطيها قوة مثل هذه حتى أنها لا تعود ترى الأشياء كما هي، بل كما يريد الإيمان أن يراها. فهوذا أنت تحمل في يديك جوهرة الأسرار (في النتاول)، التي هي بحسب طبيعتها خبز ساذج، بينما الإيمان يراها جسد الوحيد (ابن الله)، لأن عين الإيمان لا ترى كما ترى عين الجسد، ولكن الإيمان يغصب نظرته لكى يرى ما لا يمكن أن يراه: فالجسد يرجى الخبز والخمر والزيت والماء، ولكن الإيمان يغصب نظرته لكى يرى روحانياً مالم يره جسدانياً، أي انه يجعله يأكل الجسد المقدس عوض الخبز ويشرب الدم الكريم عوض الخمر، وعوض الماء يرى معمودية الروح، وعوض الزيت قوة المسيح!
- الإيمان يمتلك قوة الله وإرادته وسلطانه، وهو يجمع المكاسب من كل مكان كما يريد إنه يدنو من عظام القديسين. وعوض موتى يراهم أحياء ويتكلم معهم كما مع أحياء ويطلب إليهم من أجل حاجاته، إنه يظهر للأجساد ما يحتاج إليه من الذى يعطى لكل من يطلب منه، ويقول: “إننى بطلباتهم أحظى بما أطلبه”، ودون أى اعتبار لكونها أجساد خالية من الحياة، وأنها صامتة لا تتكلم، وأنها ساكنة بغير صوت، عاطلة وخاملة، وأنها فاقدة لكل حركات الطبيعة. لأنه ليس من شفيعته، وهو يعرف أنها بطبيعة الحال لا في موتها ولا في حياتها تقدر أن تصير شفيعة بين الخالق وخلائقه، ولكنه يتطلع إلى ما هو أعلى من الطبيعة، إلى ما امتزج في (طبيعة) القديسين بواسطة قوة المسيح، والتى كانت عندهم حينما وضعوا في القبور – ويطلب من الاموات كأحياء، ويتكلم مع الصامتين كما مع المتكلمين!
- عين الإيمان تتجرد من نظرة كافة الأشياء المرئية، وتقتنى نظرة خفية لكل الأمور الروحية، وتتغلغل في كل ما هو بداخل الجسد، لأن الإنسان يكون في موضع ولكنه ينظر إلى موضع آخر، فهو يسكن جسدياً في العالم الأرضى وبواسطة الإيمان يرتقى إلى العالم العلوى. الإيمان يسمع الحديث عن قيامة الأموات وتجديد أجساد البشر، ويحسبهم كما لو كانوا الآن قائمين ومتجددين. لقد قبل وعداً بخصوص عالم الحياة وملكوت النور ومواضع المجد والمباهج الروحية ومذاقة التنعمات وتفسير الأسرار وحقيقة تشبه المزمع بالملائكة، وبحسب كل ما سمعه كأنه قد تم بالفعل. لأن الإيمان يقف بين الماضى والمستقبل، ونحن نعرف بواسطته ما هو قدام وبعيد عنا و ما هو وراءنا في القديم، كما قال بولس الرسول :”بالإيمان نفهم أن العالمين اتقنت بكلمة الله حتى لم يتكون ما يرى مما كان ظاهراً، (3:11). لأنه بدون الإيمان نجعل كا ما كتب في الأسفار المقدسة كاذباً، ونقول عن كل الأمور الخفية الموجودة حقاً، إنها غير موجودة، ولأنها لا ترى فلا يتوبخ الشك سريعاً.
- الإيمان ليس في حاجة إلى شهادة لكى يثبت في ما يسمعه، فالمعرفة هى التى تحتاج إلى الأدلة والراهين، وكذلك كل من يريد أن يرى ويحبس قبل أن يصدق الحقيقة، والإيمان أيضاً لا يحتاج إلى معجزات، فكما أن لله ليس في حاجة إلى آيات ومعجزات لكى يقتنع بما هو مزمع أن يعمله طالما أن كل شي ظاهر ومكشوف في سابق معرفته، هكذا أيضاً فإن الإيمان ليس في حاجة إلى المعجزات، لأنه كيف يكون في حاجة إلى شهادة شئ مما يعمله هو نفسه؟ فالمعجزات والآيات والعجائب وكل الأشياء التى من هذا النوع يعملها الإيمان، فكيف إذاً يكون في حاجة إلى ما يعمله هو نفسه لكى ما يتثبت بشهادته في الأمور الخفية؟ وكما أن الله ليس في حاجة إلى أعماله، بالمثل أيضاً فإن الإيمان ليس في حاجة إلى شهادة مما يعمله، الإيمان ليس في حاجة لأي شئ، لا مما يرى أو يلمس ولا من الأعاجيب ولا من المجادلات ولا من الشهادات، إنه لا يحتاج إلا أن يسمع كلمة الله: ويعرف أن الله هو الذى يتكلم،” ويقبل كلامه في الحال ودون تردد.
- ليس أحد من الأبرار أرضى الله بدون الإيمان، كما يشهد بذلك تعليم القديس بولس الذى ذكرهم جميعاً بالتتابع مبتدئاً من هابيل إلى ظهور المسيح، مبيناً أن الجميع قد أرضوا الله بالإيمان. ولكي يضع تحديداً واضحاً لسائر التلاميذ، قال إنه بدون إيمان لا يقدر أحد أن يرضى الله (عب 6:11)، وأيضاً:” في الإيمان مات هؤلاء أجمعون وهم لم ينالوا المواعيد، لأن الله سبق فنظر لنا ما هو أفضل، لكى لا ينالوا عطية السلام بدوننا” (عب 12:11 ،40). فبحسب قول الرسول كان الإيمان يرافقهم كل أيام حياتهم حتى وفاتهم، وهم بواسطته قد صنعوا معجزات بينما كانوا في العالم، وبواسطته امتلكوا الرجاء وعاشوا في انتظار تحقيق المواعيد المزمعة واقتناء ما وعدهم به ذاك الذى آمنوا بكلامه.
- الإيمان هو التربة التى تتقبل بذور كلمة الله. وكما أن بذار الزارع تبقى بلا ثمر ولا حصاد ما لم يكن هناك حقل (تزرع فيه)، بالمثل فإن كلمة الله تبقى بلا ثمر عندنا وبغير منفعة روحية ما لم تكن هناك تربة الإيمان التى تتقبلها. ونظر الإيمان يستقبل النور الروحاني الذى لوصايا المسيح كما تستقبل العين نور الشمس. وكما أن نور الشمس مع كونه يجعل كل شئ مضيئاً، إلا أنه لا يمكن أن يرى أى شي بدون العين التي تراه، هكذا ايضاً وصية الله لا تكمل عندنا بدون الإيمان. فالشمس مضيئة بطبيعتها، وكلمة الله مقتدرة عند قائلها، إلا أنه كما أن ضوء الشمس الطبيعي ينحجب عن أعين العميان ولا يجعل شيئاً يرى عندها، هكذا وصية الله تصبح ضعيفة بالنسبة للنفس التى لتم تقتن الإيمان، لأن الإيمان هو عين بصيرة ترى كل شئ وتقدره كما هو، لأن الأشياء المرئية ليست بذات أهيمة في عينيه، فهو يتغافل عنها ويتطلع إلى الأمور غير المرئية، فالإيمان إنما ينظر كل ما هو فوق الطبيعة وفوق الحواس، وهذا هو ما يعرفه.
- لقد اطلق الإيمان ايضاً اسمه علينا، لأنه هو الذى ولدنا من الضلال إلى معرفة الله. ولهذا فإن كل من يدنو إلى المسيح ويصير تلميذاً لإنجيله يستمد اسمه من الإيمان فيدعى مؤمناً. وحيث أن الإبمان هو أمنا وهو قد ولدنا، فمن المناسب أن ندعى باسم الذى ولدنا. إنه لشئ مذهل حقاً أن يصل الإيمان في عظمته إلى الدرجة التي فيها يسمى الناس باسمه كما باسم الله واسم مسيحه، لأننا باسم الله ندعى إلهيين، وباسم المسيح ندع مسيحين، وباسم الإيمان نلقب مؤمنين. هذا هو الاسم الذى يميزنا عن كل المعتقدات الأخرى ويجعلها غرباء عن كل تعاليم الضلال، لأنه لا يوجد أحد يدعى مؤمناً ما لم يكن قد ولد من الإيمان الحقيقى، ومن التى هم الأم والمربية. كما أنه من المناسب أن ندعى مؤمنين، لأن تعليمنا كل متعلق برجاء الأمور المزمعة واشتياقنا هو بانتظار الأمور غير المرئية، ولأن كل الأمور التى تعلمناها ليست ظاهرة ولا هي تعرف للحواس الجسدانية. فرجاء كل ما نبتغيه من خيرات هو في الإيمان، واذا ما اختفى الإيمان هو لا واحدة من تلك الأمور التى تخصنا تصدق.
- فإن كانت الأسرار التي في هذه الدنيا أو الخيرات التي صار لنا الوعد بها هناك في العلا، فإن الإيمان هو الذى يقفها ويحفظها. فلو اننا تأملنا الأسرار التي في الكنيسة بعين الجسد فقط بدون إيمان، لا عتقدنا أنها ساذجة وتافهة، بينما تلك التي للعالم، فبحسب مظهرها الخارجى تبدو أكثر قوة وأكثر عظمة من التي عندنا. فعندنا يوجد الفقر وفي العالم الغني، عندنا المتكأ الأخير وهناك المقام الأول، عندنا ألنسك وهناك وقوة الخيرات، عندنا الجوع وهناك الشبع، عندنا العوز وهناك السعة، عندنا الأحزان وهناك المسرات، عندنا الخضوع وهناك الطريق الواسع، عندنا الثوب الواحد حسب الوصية وهناك التزين بالملابس المتنوعة، عندنا الكلمة التى تنهيناً عن الاهتمام بالطعام اليومي وهناك الكنوز المكدسة لسنين وأجيال، عندنا احتمال شكل المحقرة والنسيان وهناك مظهر العظمة والكرامة.
ولكن كل هذه الأشياء وما يشبهها تعتبر عند العالم أنها أكثر عظمة وأفضل مما هو لنا، إذا ما أغفلنا الإيمان الذى هو غنانا الحقيقى، كما يشهد معلمنا القديس بولس في قوله :” إن كان لنا في هذه الحياة فقط رجاء في المسيح فإننا أشقى جميع الناس” (اكو 19:15)، وأيضاً :” نحن جهال من أجل المسيح، وضعفاء (ومحتقرون وأدنياء) وكأن لا شئ لنا” (اكو 10:4).
- ولكن مع أننا لا نمتلك شيئاً مما يخص المكان الذي نسكنه (أي العالم)، إلا أننا نملك الكل في ذلك المكان الذي يخصنا (أي في السماء)، كقول الرسول :” كأن لا شئ لنا ونحن نملك كل شئ” (كو 10:6). ولكن ليس شئ مما يخصنا يمكن أن يرى في هذه الحياة بغير عين الإيمان، التي هي وحدها يمكن أن تراه. فغنانا الحقيقي لا يمكن أن يرى هنا، ولا سلطاننا، ولا سمو أعمالنا، ولا كرامتنا ولا مسرانتا ولا ملكوتنا ولا منازل نعيمنا ولا أفراحنا الخفية المختومة والمحفوظة لنا، ولا مدينة سكننا السمائي ولا صهيون مسكن الأحياء والأم التي تحنن وتشتاق أن تجمع أولادها إليها، ولا مخازن كنوزنا ولا غنى خيرانتا السمائية، ولا حريتنا التي هي اعلى من كل عبودية، ولا كثرة الخيرات التي سوف نحظى بها هناك.
فكل هذه الاشياء التى تخصنا هي مخفية في تلك الحياة، والبشر الجسدانيون لا يرونها، أما المؤمنون فهم وحدهم يشعرون بها بواسطة الإيمان. فهم يرون ما لا تران عين. ويسمعون أصواتاً لا تسمعها أذن الجسد، ويلمسون ما لا يمكن ليد الجسد أن تلمسه، ويتذوقون ما لا يمكن لحنك الفم أن يتذوقه. لأن الحساس بخيرات الروح التى وعدنا بها موضوع واخلاً من الحواس الجسدانية، لأنه إذا كنا لا نمتلك تلك الحاسة الروحانية التي تختص بها، التي هي الإيمان الذى يشعر بها ، فهي تصبح وكأنها لم تكن.
- وإذا قلت :” ها إن أسرارنا هنا هي عظيمة ومجيدة”، تأمل أنها بغير الإيمان لا تظهر عظمتها. وكل ما تقبلناه من العالم وما نعمله بحسب التقليد الذي وصل إلينا، إن كنا ننظر إليه بعين العالم فهو يكون من العالم، أما إذا كنا ننظر إليه بالإيمان فهو أعلى من هذا العالم. هيا كل كنائسنا هي من العالم لأن بناءها تركب واكتمل من هذا العالم، أما روحانياً فهي أعلى من العالم لأنها أمثلة ” لكنيسة الأبكار المكتوبين في السموات، ولأورشليم الجديدة أمنا جميعاً ” (عب 23:12، غل 26:4) جميع المذابح مع بقية أوانى خدمة الأسرار وكل ما نستخدمه في خدمة الأسرار التي استلمناها هي من العالم لكونها من (عناصر) الطبيعة. ولكن بسبب عظمة ذاك الذي تكمل بواسطته هي فائقة جداً مرتفعة، ونحن نحسبها لأنها فوق الطبيعة، لأنها صورة الخدمة) طغمات الأحياء الروحانيين الذين في السموات والذين بواسطتهم تكمل خدمة أسرار الله ومشيئاته.
فالأسرار التي نقيمها لأجل خلاص نفوسنا هي قبل كل شئ من العالم، لأن منه يؤخد الخبر والخمر اللذان يقدمان على المذبح الروحي، إلا أنه حالما يوضعان على المذبح وتتقبلا الكلمة (ابن الله) فإنه يجعلهما فوق العالم، ويصيران الجسد والدم المحيين للإله الذى هو أعلى من العالم.
- كذلك الماء والزيت اللذان تكمل بهما معموديتنا يؤخذان من العالم، إلا أنه عندما يحين وقت العماد فيمها وبواسطتهما وباستدعاء النعمة، فإن المعمودية من الماء والزيت- وهي أشياء ساذجة – تصير هي الأحشاء والقوة التي تلد الروحانيين. وكما قام المسيح من القبر في اليوم الثالث فإن الخاظئ المائت الذي ينزل في جرن المعمودية يصعد منها حياً كذلك. ولأن مخلصنا قام في اليوم الثالث فهو (أي الانسان) يتجدد بثلاثة غطسات باسم الثالوث المقدس. وكما أن مخلصنا قد انتقل بعد قيامته من التدبير الجسداني الذي كان له قبل الصلب إلى التدبير الروحاني، هكذا أيضاً فإن الإنسان الذي يتجدد المعمودية ينتقل كما من قبر إلى الحياة حسب تعليم القديس بولس.
- نحن ندفن أمواتنا مثل باقي الناس، والمظهر الخارجي للتكفين والوضع في القبر عندنا لا يختلف عنه عند اليهود والوثنين، إلا أننا على رجاء الإيمان وانتظار القيامة من الأموات نقدم أمواتنا للحياة وليس للموت، ونرسلهم بموجب إيماننا إلى السماء وليس إلى الهاوية، أما الذين هم في الضلال فيرسلون أمواتهم إلى الموت وإلى الهلاك الأبدى، لأن رجاء الإيمان غير موجود عندهم.
- ولأن عين الجسد هي أصغر بكثير من أن ترى أسرارنا، لذلك فإننا قد وهبنا عيناً أخرى، هي عين الإيمان القادرة أن تتطلع عليها وتراها كما صارت وليس كما كانت (قبل الاستحالة)، وأن تشاهد عن قرب ما وعدنا به، وتحسب ما هو بعيد عنا كما لو كان ليس بعيداً.
افهم إذاً، يامن تريد أن تصير تليمذاً للمسيح، أن جيمع أمورنا هي بالإيمان، وأنه بغير الإيمان لا نحن ولا أمورنا ولا ما هو بعيد عنا ولا الأشياء التي وعدنا بأن نعطى إياها تصير مرئية، ونكون نحن كما لو كنا غير موجودين. اجعل الإيمان إذاً بداية تدبير تلمذتك، وكن تلميذاً لله، لأنك لم تتبعه إلا لكى تحفظ وصاياه، هذا إذا كنت قد آمنت بكلامه.
- لقد غرس الإيمان في طبيعتك، وقد وضعه الخالق فيك لكى تؤمن به بواسطته، فلا تحول إذاً قوة الإيمان، ولا تصدق عن طريقه ما هو ليس بموجود، لا تصدق ما هو ضعيف وزائل بدلاً مما هو قوى ودائم إلى الأبد. لأن كل الأمور الحاضرة لها هيئة، وهيئتها تزول وتنحل بحسب تعليم الكتاب المقدس (اكو 21:7)، أما الأمور الآتية والموعود بها للمؤمنين فهى ثابتة أبدية لا تفنى ولا تضمحل. فلا تصدق إذاً بواسطة الإيمان الذي فيك أموراً زائلة وتعتبرها دائمة، ولكن استعمل الإيمان في موضعه وصدق بواسطته الأمور الروحية. لأن هو ذا الإيمان موجود أيضاً عد الذين يعبدون الأوثان والذين يتخذون الحجارة والخسب وكل عناصر الطبيعة آلهة لهم. فقد غيروا نظامها الحسن وعوض أن يؤمنوا بالله عن طريقها، آمنوا بواسطتها بالأصنام المصنوعة، وعبدوا الأشياء غير الموجودة كآلهة.
فالإيمان يكون إيماناً حقيقاً بقدر ما يعتبرأن ما يؤمن به هو حقيقى، وإن هو صدق أشياءً أخرى مخالفة وتصور لنفسه أموراً غير موجودة، فمنذ ذلك الوقت لا تعتبر إيماناً بل ضلالة. لأن الله قد وضع الإيمان في الطبيعة لكى تؤمن به وحده، وعن طريقة تصدق ما يريده هو وليس شيئاً آخر.
- وكما أن معرفة الله قد وضعت فينا طبيعياً كما قال المغبوط بولس:” إذ معرفة الله ظاهرة فيهم لأن الله أظهرها لهم: (روا:19)، هكذا أيضاً فإن الإيمان قد تثبت طبيعياً في أفكارنا جميعاً. وفي الوقت نفسه كما أن معرفة الله قد وضعت فيهم ومع ذلك لم يعبدوه ولم يكرموا شخصه، بل اسمه فقط، وكرموا سائر المخلوقات عوضاً عنه، هكذا أيضاً نحن جميعنا نستطيع أن نصدق بواسطة الإيمان الذي وضع فينا، وارادتنا تقدر أن توجه إيماننا إلى أية جهة تريد، وتتخذ لنفسها الحركات الطبيعية التي فينا للرؤية. فإن شاءت إرادتنا تؤمن بالله بواسطة الإيمان، وإن أرادت تصدق أن عالم الحياة (الأبدية) دائم إلى الأبد فتشتاق إليه وتشتهيه، وإن أرادت تصدق أن هذا العالم الحاضر دائم فتحبه وتجرى وراءه.
- لأن الإرادة تتسلط على الإيمان كما على بقية الحركات الطبيعية الأخرى التي فينا، وهي التي تواجهها جميعاً، سواء كانت الحواس الخارجية أو الافكار الداخلية. وكما أننا أعطينا الأعين لكى نرى بها حسن المخلوقات، والأذن لكى نسمع بها الوصايا الالهية، والأيدى لكى نمدها لعمل الصلاح، والأرجل لنذهب بها إلى الاجتماعات النافعة، وأن الإرادة تحولها إلى نقيض ذلك، وأنه عوض الصلاح الذى من أجله خلقت الأعضاء والحواس تفعل بها الشرور والجرائم الشينعة. هكذا أيضاً فإنه بإمكان الإرادة أن تغير الإيمان الذى وضع في طبيعتنا لكى نؤمن بواسطته بالله ونصدق مواعيد الروح، فتجعلها تؤمن بالشياطين بدلاً من الله، وتصدق الأمور الجسدانية بدلاً من الأمور الروحانية، وما يُرى بدلاً مما لا يُرى، والزائل والفانى بدلاً من الدائم الذى لا يزول ولا يضمحل.
- أما أنت، أيها التلميذ، فاستعمل الإيمان بترتيبه الحسن ولا تحوله إلى الضلالة، وبواسطته آمن بالله وبمواعيدة ولا تصدق العالم ولا مغرياته، :لأن الأشياء التى ترى وقتية وأما التى لات تُرى فأبدية، “(2كو18:4)، كما قال القديس بولس. آمن إذا بالله، وفكر أن الخير الأبدى قد أعطى لك من قبله: وأن الإيمان هو بداية طريقك. لأنك إن لم تصدق وعد المسيح والخيرات التى وعد بها الذين يخرجون وراء إنجيله، فلن تقدر أن تتخلى مما أنت تمتلكه، ولن تقدر أن تسعى لاقتناء الخيرات التي وعدك بها.
- إن كان أحد يأتي إلى ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وأخوته وأخواته حتى نفسه أيضاً، فلا يقدر أن يكون لى تلميذاً. (لوقا 26:14). انصت لهذا الصوت أيها التلميذ، وأخرج من العالم، وهذا الإنجيل الذى يعد بالخير الروحى هو وحده الذى يبعدكمن اهتمامات ومشاغل العالم. باسمع إذاً هذا الصوت وكن تلميذاً له وليس لأى شئ آخر. ولا يكن لخروجك لا يكون مربحاً، لأنه مثلما تكون الانطلاقة الأولى هكذا يكون كل ما يأتى بعدها.
- كثيرون يتركون تدبير العالم ويقتربون إلى تدبير سيرة التلمذة للمسيح لأِسباب متنوعة وليس لهذا السبب الواحد الذى هو الحقيقى، ولهذا تصير تلمذتهم غير ناجحة، ويعيقون الأعضاء الصحيحة عن تكميل خدمتهم الروحية وحفظ جميع وصايا المسيح مخلصنا. هؤلاء كان أفضل لهم لو أنهم بقوا في العالم من أن يكونوا مثالاً للانحلال في بلد الروحانيين. لأن كل تدبير العالم هو كجسد عاجز بالنسبة للأمور الروحية، أما التلمذة للمسيح فهى جسد معا في وصحيح. فالذي يقطع أعضاءه من ذلك الجسد المريض، ويأتي للإلتصاق بهذا الجسد الحى، لا يمكنه أن يدنو من شركة هذا الجسد إلا بمحبة تدبيره وحده.
- لا ينبغى أن يكون هناك سبب آخر للاقتراب (من تدبير تلمذة المسيح) كما يفعل كثيرون للإفلات من العبودية او من َدين او من قسوة الأباء أو من غضب امرأة مع بقية الأسباب الأخرى السقيمة والملتوية التي تغضب كثيرين أن يأتوا ليصيروا تلاميذاً للمسيح، لأنهم عندما يأتون فهم يتبعونه حسب الظاهر ولكنهم في الحقيقة يتبعون العالم. يكونون هنا بالكذب وهناك بالفعل والأفكار، هنا بحسب العادة وهناك بالإرادة، تأثير الضيقة يقودهم هنا واختيار إرادتهم بحبسهم هناك، وباختصار يكون ظلهم أما أجسادهم فتبقى في العالم، يعيشون هنا بالشكل والصورة فقط، ولكنهم في حقيقة أنفسهم يكونون هناك.
- وهكذا يصيرون عثرة لأنفسهم ولأخوتهم أيضاً. فهم يأكلون خبر المسيح اختظافاً وليس عن استحقاق، وبينما يكونون قد تعهدوا أن يعملوا معه، تجدهم يعملون مع آخر دون خجل، ومع أنه هو الذى دعاهم تجدهم يقدمون الطاعة لأخر هو خصمة، ومع أن جميع الناس يكرمونهم كمن هم أتباع المسيح، إلا أنهم يظهرون العقوق تجاهه ويزدرون بوصاياه. وقد صاروا عثرة في موضع التقديم، منظراً مخسراُ في مكان المكاسب، سبباً للضلالة في موضع الحق، ومظهراً للدمار على مسرح الأرباح. لقد كان خيراً لهم حسب قول المسيح لو لم يولدوا (مر21:14)، أو – لأنهم قد ولدوا – أن يبقوا في موضع المرضى قي تدبير العالم ولا يتسببون في مرض الآخرين معهم، وكونهم صاروا أمواتاً بالنسبة لله، يجذبون الأعضاء الحية للموت معهم.
- أما أنت، أيها التلميذ، فاهرب من أمثال هؤلاء، وليكن الإيمان وحده هو علة خروجك من العالم، حتى يرتفع بناء عملك كله كما وضعت اساسه. لأنه إذا كانت أعمالك تستمد قوٌتها من إيمانك الأول الذى خرجت به من العالم، فإنه بهذا الإيمان عينه تكمل وتحفظ جميعها سالمة وصحيحة، وتثبت في استقامة، وتجرى أمام عين الله الخفية، وتعمل وتكمل تحت دفع الإيمان.
- ما دام الإيمان يتطلع إلى فوق، فإننا نتقدم باهتمام ونشاط في طريق الوصايا، ونجرى بسرعة في درب الجهاد. وعين الإيمان هذه، التي فتحها منذ البداية، والتي بواسطتها رأيت عن قرب مواعيد المسيح، احرص ألا تغلقها لأى سبب يعرض لك إذا ما بدأت في طريق مسيرتك، حتى لا تحدثلك نجأة أية عثرة وتسقط في السبيل الذى تسلكه. ولكن كما أن الذين يشرعون في السير على طريق العالم يسيرون حتى نهاية الطريق بنفس الاهتمام الذى بدأوا به، وهم يحرصون ألا يغلقوا أعينهم أثناء مسيرتهم، ولا يغفلون عن الهدف الذي يرشدهم، هكذا أنت أيضاً أيها التلميذ، يامن بدأت تتقدم في طريق السموات، احرص حتى النهاية على الهدف الذي قد اقتنيته لك منذ البداية.
- بقدر ما تتفرس عين الأيمان في المرمعات، بقدر ما تجف منك جميع أتعاب سيرتك وتتلذذ نفسك في أخزان أعمالك الفاضلة. وكما أن القدم تنجو من التعثر ما دامت العين مفتوحة للنظر، هكذا يُرفع الإهمال بعيداً ع النفس طالما كان نظر الإيمان سليماً، وهو يتفرس دائماً ويتأمل الأمور السمائية، والنفس التي تحرم من نظر الإيمان تصير إما نائمة أو مائتة. فإن هي طرحت عنها الإيمان تماماً وصارت مائتة، والتي تحتفظ فقط باسم الإيمان ولكن عينها لا تنفتح كل حين لتنظر الأمور الروحية، فهى تكون نائمة وقد كال رقادها في الكسل والغفلة : فمع أنها تعمل إلا أنها لا تشعر، ومع أنها قد بتررت فهى لا تدرك، ومع أنها تجرى لكنها لا تعرف طريقها. وكما أن من يكون نائماً لا يحس بما يمر جانبه، هكذا أيضاً من يغمض عين إيمانه لا يشعر بالصلاح الذى يعمل بواسطته، وكمثل الأعمى الذى يقوده آخر، هكذا هو أيضاً يُقاد من اضطرار العادة ولا يستطيع أن يغير أنواع الأعمال التي التزم بها، ويبقى في الموضع الذي انحصر فيه.
- لا ينبغى لتلميذ المسيح أن يقيم صلاحه على أساس شرائع الناس، لئلا إذا ألغيت تلك الشرائع أو أراد واضعوها أن يغيروها، تتشتت وتتبدد فضائله. فلأن واضع (ناموس) جهادنا ليس هو إنسان، لهذا لا يجب أن تفرض علينا نوامينس الناس في مجال هذا الجهاد، بل مشيئة واضع جهادنا وحده هو المسيح.
- هذا إذاً هو بدء خروجك من العالم، أنت يامن تبتدئ بالسير في طريق السماء: أن تتعرى من ثوب ضلالة الأفكار التي ربطتك بأمور العالم، تلك التي تخدعك وتجعلك تتخيل ما هو ليس شيئاً كأنه شئ. فاحترس إذا ألا تتحول عن إيمانك. ذكر نفسك كل حين بقول بولس الرسول، وبواسطته قوً أيمانك ونق أفكارك من صدأ الضلالة حسب قوله :”يجب أن الذى يأتي إلى الله يؤمن بأنه موجود” (عب 6:11). لإلهنا المجد إلى دهر الدهور. آمين يكون.
نهاية المقالة الثالثة عن الإيمان
المقالة الرابعة
على الإيمان ، وأنه لا يمكن أن نتقبل وصايا المسيح إلا بالبساطة
- لقد أعطانا ربنا في انجيله بداية سهلة ومريحة، هي الإيمان الحقيقى الراسخ الذى ينشاً طبيعياً من الفكر البسيط الذي يدعونا أن نطيعه ونحفظ وصاياه بواسطة ذلك الإيمان، وذلك على مثال الصديقين القدامى الذين دعاهم الله وقبلوا كلامة ببساطة وتيقنوا من صدق مواعيده بالإيمان.
- ولست أتكلم عن البساطة التي في العالم، والتي تعتبر نوعاً من البلادة، بل أعنى صفة الفكر الوحية والبسيط الذي يسمع كلام الله ولا يحكم عليه، ويقبله دون فحص، كما يقبل الطفل كلام مربيته، وكطفل يتقبل من معلمه تعليم الكتب دون أن يفتش أو يحكم على ما يقال له. لأنه كما أن قياس إدراك الطفل صغير جداً عن أن يبحث في كتب الكبار، هكذا قياس عقلنا أصغر من أن يجعلنا قادرين أن ندرك تفسير الأسرار الإلهية. إذا قبالإيمان والبساطة وحدهما يمكن للإنسان أن يسمعها ويقبلها.
- هكذا دُعى ابراهيم وخرج تابعاً لله: فهو لم يفحص القول الذي وجه إليه، ولم يعقه أى ارتباط بالعشيرة والأقوياء. أو البلد والأصدقاء، ولا أية قيود بشرية أخرى، ولكنه حالما سمع الصوت وعرف أنه من الله، أطاعه ببساطة وصدقه بكل أمانة، وازدرى بكل شئ وخرج بكل بساطة الطبيعة التي لم يداخلها أي خبث أو شر. فقد سارع إلى كلمة الله كالطفل وراء أبيه، وصار كل شئ محتقراً في عينيه بمجرد أن سمع صوت الله.
- لم يكن إبراهيم مفتقراً إلى المعرفة والتميز الطبيعين، ولكنه أظهر تمييزه في أنه كان من الواجب عليه أن يستمع لدعوة الله له كما يدعو السيد خادمه والخالق خليقته. ولم ينسب لمعرفته القدرة على الفحص والاستقصاء: لماذا، ومن أجل أي شئ دعاه الله حين قال له: “اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت ابيك إلى الأرض التي أريك” (تك 1:12).
- والله لم يعلن له ما هي تلك الأرض، لكى يزكى إيمانه ويستعلن بساطته، ومع أنه كان يبدون أنه يقوده إلى أرض كنعان، إلا أنه كان قد وعده أن يريه أرضاً أخرى، تلك التي في السموات، فحسب قول بولس الرسول:”لأنه كان ينتظر المدينة التي لها الأساسات، التي صانعها وبارئها الله” (عب 10:11)، وقال أيضاً : “ولكنهم بالتأكيد كانوا يبتغون وطناً أفضل (من أرض كنعان) ، أى الوطن السماوى” (عب 16:11) ولكى ما يعرفنا بوضوع أن الأرض التي وعد الله أن يريها لإبراهيم لم تكن هي أرض الموعد الأرضية، فبعد أن أخرجه من أود الكلدانيين جعله يسكن في حارات ولم يوجهه إلى أرض كنعان بعد خروجه مباشرة، ولكى لا ينشغل إبراهيم بالتفكير في المجازاة التي أعلنت له، ولكى لا يكون خروجه تابعاً دعوة الله لهذا السبب، لم يدعه الله يعرف ن البداية إسم الأرض التي سيقوده أليها.
- تأمل إذاً أيها التلميذ هذا الخروج، وليكن خروجك مثله، ولا تتأخر عن أن تستجيب للصوت الحى، صوت المسيح الذى دعاك، أنه هناك لم يدع غير إبراهيم، أما هنا في أنجيله فإنه ينادى ويدعو لاتباعه كل الذين يريدون، لأنه نادى بدعوة عامة لجميع الناس حين قال: “إن أراد أحد أن يأتي ورائى فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعنى” (مت 24:16) وبينما هو هناك لم يختر سوى أبراهيم، فهو هنا يدعو العالم كله للتشبه بإبرايهم.
- لقد جدد أيضاً لتلاميذه القديسين دعوة إبراهيم، واعتبر إيمانهم مشابهاً لإيمان ابراهيم، لأنه كما أن ابراهيم قد أطاع الدعوة في الحال، هكذا فإن الرسل تبعوا يسوع ما أن دعاهم وسمعوا الدعوة، حيث يقول:” وأبصرهما يلقيان شباكهما في البحر فدعاهما، فللوقت تركا شباكهما وأباهما وتبعاه” (مت 4 18-22). فقد تركوا كل شئ وتبعوه حتى من قبل أن يقول لهم:” إن كان أحد لا يترك أباه وأمه وكل ماله ويتبعنى فلا يقدر أن يكون لى تلميذاً” ( لو 26:14). فلم يكن تعليماً طويلاً هو الذى جعلهم يصيرون تلاميذاً، ولكن مجرد سماعهم لصوت الإيمان، ولأن إيمانهم كان حياً فما أن قبلوا الصوت المحي حتى أطاعوا الحياة. وهكذا أسرعوا في الحال وراءه ولم يتأخروا، وأظهروا بذلك أنهم كانوا تلاميذاً حتى ومن قبل أن يدعوا لذلك.
- تلك هي عادة الإيمان الممتزج بالبساطة: فإنه ليس بسبب قوة الجدل يقبل التعليم، ولكن كما أن العين السليمة النقية تتقبل الشعاع الذي يصلها دون سؤال أو تعب، وترى ضوءه في اللحظة التي تنفتح فيها من ذاتها وبقدرتها الخاصة، لان بصرها الطبيعي سليم، هكذا أيضاً فإن عين الإيمان التي وضعت في حدقة البساطة تعرف صوت الله لحظة أن تسمعه ويشرق نور كلمته فيها ويندفع بفرح نحوه وتحتضنه، كما قال ربنا في إنجيله: “خرافي تسمع صوتي وتتبعني” (يو 27:10)، لأنه أينما يُحفظ الإيمان طبيعياً في كماله، فالذي يحفظه هو حقاًمن خراف الراعى.
- لقد جاء أيضاً عن القديس متى الذي رآه ربنا جالساً عند مكان الجباية، أنه لما دعاه ترك كل عمله وكل مقتنياته وقام وتبعه في الحال (لو 27:5). كذلك كتب عن القديس فيلبس: “فقال له اتبعنى”، وفي الحال تبعه ( يو43:1). وهكذا نرى كيف أن الرسل بمثل هذه النقاوة وهذه البساطة كانوا يطيعون دعوة المسيح، ولم يستطع العالم أن يعيقهم ولا الارتباطات البشرية أن تعطلهم ولا أى شئ من مقتنيات هذا العالم يعرقلهم.
- هذه نفوس أحسنت بالله وعاشت بالإيمان، وعند مثل هذه النفوس لا يمكن لأي شئ في العالم أن يستظهر على كلمة الله. ولكن الإيمان يكون ضعيفاً عند النفوس المائتة، حتى إنه بسبب موت النفس تنتقل من القوة إلى الضعف، ويتحول تعليم الله ليصير دون أي تأثير عندها. لأن كل نشاط الإنسان يتركز حيثما يعيش: فالذي يعيش للعالم يتجه عمل أفكاره وخدمة حواسه نحو العالم، والذي يحيا لله يتحول لكل قوة حركاته إلى حفظ وصاياه.
- جميع الذين وصلتهم الدعوة أطاعوا في الحال الصوت الذي دعاهم، حيث لم تتعطل نفوسهم تحت ثقل محبة الأشياء الأرضية. لأن رباطات هذا العالم تثقل القلب والأفكار. والمقيدون بتلك الرباطات يسمعون بصعوبة صوت دعوة الله. أما الرسل، ومن قبلهم الآباء والأبرار فلم يكونوا هكذا، فقد أطاعوا كأحياء، وخرجوا بكل نشاط، لأن شيئاً من هذا العالم لم يقيد اقدامهم. فليس شئ على الإطلاق يمكن أن يقيد أو يعوق النفس التي تحس بالله: فهى تكون دائماً منفتحة ومتأهية، حتى أن كل مرة بأيتها نور الدعوة إلالهية يجدها مستعدة لقبوله.
- لقد نادى ربنا ايضاً زكا وهو فوق الجميزة، وفي الحال أسرع ونزل وقبله في بيته فرحاً (لو 5:19)، وذلك لأنه طلب أن يراه ويصير تلميذاً له حتى ومن قبل أن يدعوه. إننا نرى هنا شيئاً عجيباً : إنه قد آمن بالرب قبل أن يتكلم معه، بل وقبل أن يراه جسدياً، وذلك بمجرد السماع عنه من الآخرين. كا هذا هو الإيمان الذي كان مدخراً عنده في كامل صحته وحيويته الطبيعيتين. وقد أظهر إيمانه حينما آمن بربنا لما سمعه يناديه، وظهرت بساطة إيمانه عندما وعد بأن يعطى نصف أمواله للمساكين ويرد أربعة أضعاف لكل من وشئ به. لأنه لو لم يكن قلب زكا في ذلك الوقت ممتلئاً من البساطة التي تليق بالإيمان، لما كان قدم هذا الوعد للرب يسوع، ولما استطاع أن يصرف ويوزع في وقت قليل ما كان قد جمعه بجهد خلال السنين. هكذا نرى البساطة توزع هنا وهناك ما كان قد جمعة بالمكر والخداع، ونقاوة النفس تبدد ما اقتناه بأفكار الحملة والدهاء، والإيمان يتخلى عن كل ما حصل عليه وامتلكه بغير وجه حق ويعلن ن أن ذفأن أن ذلك لم يعد يخصه. فالله هو المقتنى الوحيد للإيمان، وهو لا يرضى بامتلاك أية قنية أخرى معه. فكل المقتنيات عنده خارجاً عن الخير الثاب (الأوحد) الذى هو الله، لا أهمية لها عنده على الإطلاق. والإيمان قد وُضع فينا لكى ما بواسطته نجد الله ولا نقتنى غيره، ولكى ما نرى أن كل شئ خارجاً عنه إنما هو خسارة لنا.
- والأسفار المقدسة قد أظهرت لنا أن الإنسان يدنو إلى الله بروح الإيمان هذا وبالبساطة. لأن آدم وحواء كلاهما بقدر ما كانا عائشين في بساطة الطبيعة، ولم يكن إيمانهما قد انحجب بواسطة الأوجاع الجسدية، كانا يحفظان ويطيعان وصية الله التي سمعاها. فقد قال الله لآدم :”لا تأكل منها، لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت، وإن أنت حفظت وصيتى أعطيك الحياة الأبدية”. وتقبل آدم الوصية وحفظها بإيمان وبساطة. ولم يفحص أو يفتش: “لماذا ينهانا الله عن شجرة واحدة من بين جميع الأشجار؟ ولماذا وعدنى بالحياة الأبدية إذا ما حفظت الوصية؟” فهو لم يبحث هذه الأمور، ولم يتحر منها، وذلك بسبب بساطته.
ولكن لمادخل العدو بمشورته ووجد هناك هذه البساطة استخدم معه أسلوب المكر والخداع، فزرع فيه فكراً مضاداً لذلك الفكر الفريد البسيط. فالذى كان قبلاً واحداً غير منقسم، راسخاً في بساطته، صار الآن منقسماً إلى فكرين: يريد ولا يريد، يَحكم ويُحكم عليه، يتردد بين أن يعمل ولا يعمل. والمشورة التي قدمت لهذا الطفل بهذه البساطة جعلته يحكم على وصية الله. ولأنه كان في تلك اللحظة قد فقد بساطته. لم يجد السعادة في حكمه، لأنه حكم بحماقة أنه من اللائق أن يطيع العدو أفضل من الصديق، والذي يُميت أفضل من واهب الحياة، والذي يُعلًم الشر أفضل من الذي يُعلم الخير.
لأنه بقدر ما يعيش الإنسان في البساطة، فهو يطيع وصية الله، ولكنه متى أراد أن يستعمل المكر والخداع فهو يتقبل مشورة المنافق. لأن المكر هو الانحراف باتجاه الشيطان، أما البساطة فتكون عند الذين يتبعون المسيح. فالذي يريد أن يكون ماكراً ومخادعاً لا يقدر ان يصير تليمذاً للمسيح كما يشرح ذلك تعليمه.
14- إن روح المكريبنى ويهدم كل حين أفكاراً تضاد بعضها البعض: فهو يربط ويحل، يقول الحق والكذب، يوافق على الشئ ثم يعود ويرفضه ويختار شيئاً آخر مكانه،إنه معبرً لأفكار كثيرة مشوشة، ولا يثبت في فكر واحد منها لكى يصدقه ويركن إليه. أما البساطة فهى ضد المكر في كل شئ كما يشهد إسمها، لأنه ليس فيها أفكار تنقض بعضها البعض. لقد اتخدت البساطة إسماً يناسب الله: فنحن في قانون إيماننا ندعوا الله بسيطاً (واحداً)، لأنه لا يوجد فيه تركيب ولا تقسيم. وبالمثل نحن في لغتنا العادية نطلق إسم “البسط” على الذي لا يسلك بمكر من أجل الشر، لأنه لا توجد أية حركة للشر في قلبه: فهو لا يعرف أن يهتم أو يتجنب ما يحدث ضده من العالم، ولا يحتال في ضرر أعدائه، ولا يُفند ما يقال ضده، ولا ينصب فخاخاً ويدبر مكائد، ولا يستعمل المر والخديعة لإيذاءالآخرين. فهذه الأشياء وما يشبهها لا تعرف البساطة أن تعملها، ولأجل هذا يؤتمن البسيط كل حين على أسرار الله ويحظى بالإعلانات.
15- وبالمثل، فمن المؤكد أن الرسل كانوا بسطاء أكثر من جميع الناس، فقد اختارهم الرب يسوع، لكى ببساطتهم يُخزى حكمة العالم، ولكى بجهلهم يُظهر بُطلان معرفة العارفين والمتعلمين، كما قال القديس بولص أيضاً :”بل اختار الله جهال العالم ليخزى الحكماء” (اكوا 27:1)، وأيضاً: “ألم يُجهل الله حكمة هذا العالم؟”(اكوا 20:1)؟ وأيضاً” :لأنه إذ كان العالم في حكمة الله لم يعرف الله بالحكمة، استحسن الله أن يخلص المؤمنين بجهالة الكرازة”(اكو 21:1)، كما قال أيضاً للبعض من تلاميذه الذين كانوا يفتخرون بمعرفة العالم: “أنظروا دعوتكم أيها الإخوة أن ليس بينكم حكماء حسب الجسد” (اكو 26:1).
16- ولا أريد من هذا أن أقول أنه لا توجد حكمة في تعليم المسيح، بل أن حكمة المسيح هي حكمة أعلى من العالم، وإن حكمة العالم هي مخالفة هلا في كل شئ، كما أن الظلمة هي ضد النور والمر هو ضد الحلو والمرض ضد الصحة الجيدة، لأن الحكمة الإلهية لا تسر بالهذيذ والاهتمام بالإفكار الأرضية، ولكن كل اجتهادها منصرف نحو الامور الروحية، وكل حركاتها وأفكارها هي أعلى من العالم. كما يشهد بذلك الرسول نفسه قائلا: “صوت جاهلاً بالنسبة لحكمة العالم، ولكنى أمتلك بمعرفتى الحكمة التي تفوق العالم” (قا:اكو 1:2 – الخ)، وهو يبين لنا أن العالم لا يقدر أن يقبل الحكمة التي يمتلكها، وينادى قائلاً: “الحكمة التي نتكلم بها بين الكاملين هي حكمة ليست من هذا الدهر ولا من عظماء هذا الدهر الذين يُبطلون، ولكننا نتكلم بحكمة الله في سر، التي لا يقدر أحد من حكماء العالم أن سمعها” (اكو 8،6:2). لأن حكمة العالم لا يمكن أن تكون أساساً ولا تقبل بنيان حكمة الله، ولهذا السبب فإن ربنا قد وضع البساطة كأساس لها.
17- مَن لا يعرف كم كانت بساطة آدم وحواء رأسى الجنس البشرى، وكيف كانا بسطاء تجاه كل تدبير هذا العالم! فهما لم يختبرا ولم ينشغلا بشئ من أموره، لأن أعمال وأشعال هذا العالم لم تكن قد كُشفت لهما بعد حتى ذلك الوقت. وهكذا كانا قريبين من الرؤى الإلهية، وكان الله يتكلم معهما دائماً وجهاً لوجه، فقد كان قريباً منهما في كل حسين في صداقة حميمة، يقودهما ويصطحبهما ويخضرهما من حيث خُلقوا وكانوا، ويأتي بهما ويضعهما في الفردوس. وكان يُظهر لهما كل شئ عن قرب كامل كإنسان، ولكنهما لم يقبلا في نفسيهما أي فكر عنه، أين يسكن ذاك الذي يظهرلهما؟ منذ متى هو كائن؟ إذا كان يَخلق فهل هو قد خُلق؟ وإن كان قد خُلق فمن هو الذي خلقه؟ ونحن لماذا وضعنا في الفردوس؟ ولماذا أعطينا هذه الوصية؟ لقد كانت هذه الامور بعيدة تماماً عن تفكيرها، لأن البساطة لا تفكر في أمور من هذا النوع، بل هي منشغلة تماماً في الإنصات إلى ما تسمعه، وجميع أفكارها مرتبطة بكلمة ذلك الذي يكلمها. وهكذا وضع الله البساطة في رأسى جنسنا الأولين، وهي التي قبلا بها الوصية الأولى.
18- البساطة تسبق الإيمان، لأن الإيمان هو إبن البساطة وليس ابن المكر” فالماكر والمخادع لا يصدقان بسهولة ما يسمعان أما البسيط فيسمع كل كلان الله وبصدقه. واذا ما كانت البساطة في نقاوتها الطبيعة فهى تقبل ما يقوله الله فقط. وكما أن الأرض قد وضع في طبيعة تكوينها التي جبلها خالقها أن تتقبل البذور والنباتات النافعة لحاجات البشر، ولم يكن من طبيعتها أن تنتج الشوك والحسك، لكنها أمُرت بذلك فيما بعد من قبل خالقها، هكذا أيضاً وضع الخالق البساطة في طبيعتها، أما نحن فقد قبلنا المكر والخداع فيما بعد بسبب العارات التي دخلت فينا – كما تشهد بذلك أيضاً ذرية البشر بأكملها.
19- البساطه هي التي تغرس فينا أولاً عندما نًولد، اما المكر فيأتى بعد ذلك. فالأطفال وهم ما يزالون صغاراً يكونون ممتلئين براءة ونقاوة، ولكنهم عندما يمضى عليهم الوقت في العالم يتعلمون المكر بسبب نموهو وحركتهم. فلو أن أحد أحمل طفلاً إبن سنةٍ وخرج به ورباه في برية غير مأهولة بالناس، بعيداً عن استخدام أمور هذا العالم، وحيث لا يرى شيئاً على الإطلاق من أعمال البشر، لكان ممكناً لهذا الطفل أن يثبت في البساطة الطبيعية الكاملة، وكذلك عندما يدرك قامة الرجل يستطيع أن يتقبل بسهولة كبيرة الرؤى الإلهية والأفهام الروحية، ويصير بسرعة إناءً صالحاً لتقبل الحكمة الإلهية.
20- على هذا المثال – كما أرى – عاش يوحنا المعمدان الكارز، ولأنه كان في البرية إلى يوم ظهوره لإسرائيل كما يشهد بذلك الإنجيل ( لو 8:1)، لذلك استطاع أن يتقبل ويتعلم الأسرار الإلهية، ويتلقى قوة المعمودية بالروح، قبواسطة البساطة التي نما فيها، تذوق في البرية ما لم يَتسن لأحد غيره من الأنبياء القدامى أن يتذوقه، فهو قبل أن تبطل اللعنة وحكم موت الخطية، وقبل أن ينقض حائط السياج المتوسط أي العداوة، والذي قيل عنه إنه تمزق بواسطة صليب المسيح، سبق هو فحصل على ما صار بعد الصليب. فقد قادته النعمة لكى يخرج إلى البرية ويحتفظ بالبساطة الطبيعية، لكى ما يمكنه أن يتقبل الأسرار الفائقة للطبيعة.
21- وعلى هذا النمط أيضاً بعد أن أنقذ الله الشعب من مصر، أخرجهم إلى برية فقرة حيث أقتنوا هناك البساطة. وأعتقد أنه أجرجهم إلى البرية لكى يخلصهم من عادات وتصرفات الناس ومن المكر ومن حكمة العالم التى تعلموها في أرض مصر، ولكى ما تصير البساطة الطبيعية عادة عندهم، ولكي ما يتقبلوا التعليم الإلهي بنقاوة. ومع أنه توجد أسباب أخرى كثيرة من أجلها أخرجهم الله إلى البرية، إلا أنه يبعد أن السبب الأول والأساس هو أن يتعرفوا على أسرار العناية الإلهية. ولكن لأن أولئك الذين خرجوا من مصر لم يريدوا أن يتخلوا عن الخبث والمكر الذى تعلموه في مصر وأخذوا يقاومون في كل شئ الوعد الذى اعطاهم الله إياه، لذلك أبقاهم الله في البرية أربعون سنة لكى ما يبيد الشر مع جميع صانعيه ويبطل المكر مع جميع الذين تلقنوه في مصر. وهكذا جعل الجيل الجديد الذى وُلد وتربى في البرية، وتلقى هناك تعليم البساطة بحسب ناموس الله، هو وحده يدخل إلى أرض الموعد ويرثها، لأنه يليق الذين ينشأون وينمون في البرية أن يصيروا بسطاء، ومن اللائق بالبساطة أن تسمع وصايا الله وتطيعها.
22- وإن فكر أحد أنهم آمنوا لكونهم رأوا الآيات والعجائب في البرية، ولأنهم خافوا أن ينالهم العقاب الذى جاء على الذين سبقوهم، فسيجد أن الذين خرجوا من مصر كانوا قد رأوا آيات أكثر منهم، لأنه خلاف الآيات التي عملت في مصر فقد رأوا أيضاً معجزة شق البحر، وذلك العبور الرهيب، وكيف عادة المياة وغطت المصريين الذين دخلوا وراءهم، ورأوا كذلك المعجزة التى جرت عند مازة حين صارت المياه المرة عذبة بواسطة قطعة من الخشب وأرووا عطشهم منها. وباختصار فإن الذين خرجوا من مصر كانوا قد شهدوا المعجزات في مصر وفي البرية وفي المواضع التي مروا بها إلى هناك، بينما الجيل الجديد الذى ولد في البرية فبم يروها فيما عدا الآيات التى رافقتهم باستمرار كعمود النار والسحابة المنيرة والصخرة التى جرى منها الماء والسمان الذى أتى من البحر. ومع أنهم رأوا آيات أقل من التى رآها الذين خرجوا من مصر، إلا أنهم بسبب بساطتهم ثبتوا في مخافة الله أكثر من الذين رأوا المعجزات الباهرة العديدة.
23- ولكى تعلم أن جميع المعجزات والآيات التى جرت هناك لم تستطع أن تنزع وتمحو منهم الشر الذي تعلموه في مصر، وأن الجيل الذى وُلد في البرية استطاع من خلال بساطتهم أن يبتعدوا تماماً عنه. اِفهم ذلك من كونهم بعد أن وصلوا إلى الأرض الآهلة بالسكان في ختام الأربعين سنة، حين خيموا مقابل المديانيين وأرادوا أن يدخلوا أراضى الأمم، عند رؤية بنات مديان وقد زين أنفسهن وجلسن مقابلهم، فالذين تبقوا من الشعب الخارج من مصر أعطوا أنفسهم للزنى معهن، كما ذكر الكتاب المقدس أن الشعب رأوا بنات مديان وابتدأوا يزنون معهن وتعلقوا ببعل فاغور وعبدوا أوثانهم وأو(عد 25: 9-1). والذين فعلوا ذلك كما قال الكتاب هم الذين تبقوا من الشعب الخارج من مصر. وانتابهم الوباء فمات منهم أربعة وعشرون ألفاً، كما قال إنه بهذا قد كمُل عدد الستمئة ألف جملة الذين خرجوا من مصر، والذين قال عنهم إنهم لن يدخلوا ولن يروا أرض الموعد.
24- ومن حقيقة أنهم هم الذين ماتوا وحدهم من بين الشعب كله، ندرك أنهم هم وحدهم الذين ارتكبوا الزنى، لأن الكتاب يقول إن موسى وكل جماعة بنى اسرائيل كانوا جالسين أمام الرب وهم باكون لدى باب خيمة الاجتماع في الوقت الذي فيه دخل زمرى بن سالو رئيس بيت أبٍ من الشمعونيين إلى إمرأة من بنات صور أحد رؤساء مديان أمام عينى موسى وأعين كل جماعة بنى اسرائيل، حين قام فينحاس في ذلك الوقت وأظهر غيرته الشديدة. ومن حقيقة أن الوباً قد أصاب الأحياء الاقين من الشعب الخارج من مصر، نعرف أنهم هم وحدهم الذين اقترفوا هذا الإثم الشنيع، وأن الشعب الذى كان قد وُلد في البرية، وكبر ونما في البراءة والبساطة بخوف الله، هم الذين كانوا جالسين مع موسى لدى باب الله تائبين وطالبين منه الرحمة (عد 25: 7،6).
25- وبالامكان أيضاً أن نؤكد ذلك مما جرى في أمر العجل الذهبى، لأنه عندما نزل موسى على الجبل ورأى هياج الشعب وعلم أنه ليس جميعهم اندفعوا إلى ذلك العمل المهين، بل البعض منهم فقط، أخذ الذى صنعوه وأحرقه بالنار وطحنه حتى صار ناعماً وذرًاه على وجه الماء ظهرت أفكارهم، الذين كانوا قد فكروا في صنع العجل والذين اندفعوا إلى ذلك الفعل الشرير. وقد كتب أن علامة العجل رؤيت عليهم. وأولئك هم الذين قتلوا بسيوف بنى لاوى. وبما أن الموت قد انحصر في أولئك وحدهم، نفهم من ذلك أيضاً أن الضلالة كانت قد بدأت بواسطتهم، وأنهم هم الذين تهوروا وكانوا البادئين بالعمل الشرير، وأنهم هم أيضاً الذين أدركهم العقاب الذي حكم به موسى عليهم بموجب علامة العجل التي شوهدت عليهم. هكذا هنا أيضاً من حقيقة أن الذين ماتوا فجأة بالوباء كانوا أربعة وعشرين ألفاً فقط، وأن الكتاب ذكر انه بهذا اكتمل عدد الذين خرجوا من مصر، نفهم أن أولئك وحدهم هم الذين انفعوا إلى الزنى، ويُعرف زناهم من نوع دينونتهم، ونعلم من موتهم المفاجئ أن خطية الزنى لازمت هؤلاء أيضاً، وأن الذين تذكروا عبادة الأوثان في مصر هم الذين حالما رأوا بنان مديان التهبت الشهوة فيهم.
26- أما بساطة الأبوياء الذين ولدوا في البرية فهى التي حفظتهم وراء الرب. فقد رأيناهم جالسين عند باب خيمة الاجتماع في براءة قلوبهم وبأفكار خلت من الغش والخداع يطلبون رحمة الله. ولهذا تحققت له المواعيد الأرضية التي أعُطيت لإبراهيم، ودخلت البساطة وورثت أرض الموعد، وامتدت البراءة إلى حدود ميراثها لأنه قد صار الوعد به لرئيس جنسها. والبساطة التى سلكوا بها مع الرب أهلتهم للنرة في حروبهم مع الأموريين. فبعد أن عبروا الأردن أمرهم يشوع قائدهم أن يدوروا حول أريحا ستة أيام مرة واحدة في كل يوم، وفي اليوم السابع يدوروا سبع مرات، وكان هو يتقدمهم مع الكهنة حاملين الأبواق وتابوت الرب. ومشى الشعب وراء يشوع ووراء التابوت بكل بساطة كأطفال وراء آبائهم! (يش 6: 15-2).
27- ولماذا نتحدث عن الشعب جميعه بينما يذكر الكتاب أيضاً لنا أن يشوع بن نون نفسه كانت عنده بساطة وبراءة؟ “كان يشوع بن نون الغلام لا يبرح من داخل الخيمة” (خر 11:33)، وكان هناك مواظباً باجتهاد على خدمة موسى. ولأنه امتنع عن الخروج والدخول وسط الناس، جمله هذا بالتأكيد قريباً للبساطة، لأنه إذا كان المكر والخبث يتجمعان من التلقين في العالم، فمن الواضح أن البساطة والبراءة تقتنيان من التربية والتدبير في السكون، وأنه على قدر ما يُوثر الإنسان السكنى في السكون، على قدر ما يقتنى البساطة. وبحسب ما هو مألوف في العالم بهذا الصدد، نجد أن الذين تربوا ونموا في السكون والذين لم يسلكوا في طرق وأعمال وأحاديث العالم، هم – بوجهٍ خاص – الذين كانوا أبرياء وبسطاء، وأنه عندهم بالذات خُفظ البر الذى تولدت منه الاستقامة. فجميع أبرار الشريعة بالبساطة أرضوا الله.
28- داود المغبوظ يربط أيضاً البر بالبراءة في قوله:”الأبرياء والأبرار لصقوا بي لأني انتظرتك يارب” (مز 24 (25): 21)، وهو يشهد أيضاً بخصوص برائته كيف أنها كانت مع الله:”كنت بريئاً ولم أعرف – صرت كبهيم معك” (مز 72 (73):22). لقد تذلل إلى حد أنه أعتبر نفسه جاهلاً. فالبهيمة التي تسير وراء الإنسان لا تقدر أن تحكم على عمل واحدٍ من أعماله أو تصرفاته لسبب افتقاد طبيعتها إلى العقل والتمييز. هكذا كانت معرفة داود أمام الله، فقد كان يعتبر نفسه مثل بهيمة يقودها إنسان، و1لك لكى ما يُقاد بواسطة مشيئة الله ولا يحكم هو على على مشيئة بأى نوع كان، كما يظهر ذلك من بقية الكلام. فقد قال: لأننى صوت مثل بهيم معك بكل براءة، عزتى برأيك وقدنى إلى مجدك” (مز 72 (73) :23). وقال أيضاً: ” إننى لم اطلب شيئاً مما في السماء معك، ولا مما تريده على الأرض” (25) : إننى لم أعارض أحكام عنايتك حين كنت اطلب معرفة مشيئتك في أمر من الأمور وتطلب إرادتي شيئاً آخر. ولأننى كنت أتحير من جهة تبدل أعمالك كنت أسرع لكى ما أحتمى بالبساطة. ولقد صرت كبهيم عندك لكى ما تكون مشيئتك وحدها هي التي تهدينى، وعملك يقودنى في طريق الحياة، ولكى ما تعطينى تدبير حكمتك في كل ما هو ضروري للحياة الروحية والجسدية.
وهو في المزمور نفسه يبين ايضاً أن الأبرياء بوجه خاص هم الذين تتفاضل عندهم نعمة الله: “إنما الرب صالح لإسرائيل لمستقيمي القلب” (عددا)، وقد ربط البراءة بنظر الله، لأن “اسرائيل” تعنى “يرى الله”. والذي هو بسيط ونقى في قلبه هو الذي يمكنه أن يرى الله، كما قال ربنا أيضاً في إنجيله: “طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله” (مت 8:5).
29- وقد أظهر داود النبى أيضاً أن النفس التي تبتعد عن خبث التعاليم البشرية هي التي ترجو بر الله وتمتلك الشجاعة الروحية والثقة التي تغلب كل شئ :” لأنى لم أعرف صنعة الكاتب، فأدخل في قوة الله، وأذكر نفسى ببرك وحدك” (مز 7 (71):15). وكمن يعرف في أي شئ هو ساذج وبسيط، وفي أي شئ هو عارف وحكيم يعود فيقول :”تعليمي منذ صباى وإلى الآن. هو أن أخُبر بعجائبك” ((17)، وأيضاً لكى يُظهر نقاوة أفكاره، يقارنها بيديه، ويساوى نقاوتها التي هي النقاوة م الإثم، بغسل يديه :” غسلت يدى لكى تصير نقية”، أى : ظهرت ونقيت أفكاري وانتبهت لمذبحك يارب” (مز 25 (26):6). وكذلك يقول :” كنت أسلك بدعة قلبي في وسط بيتى حتى تأتي إلى ” (مز 100 (101):2)، ثم يعود فيقول: “لا يسكن في بيتى عامل غشٍ”(عدد 7،2)، وهو ايضاً متيقن من أن الغش ينجم عن الخبث. وقال ايضاً :”جربنى يارب وامتحنى ومحص قلبي وكليتى” (مز 25 (26): 2)، كما قال: “انا وحدى قد نقيت قلبي وغسلت يدى لكى تصير نقية” (مز 72 (73):13).
30- وعلاوة على ذلك عندنا أيضاً الشهادة أنه قد أختبر من مكان تُلقنُ فيه البساطة، فقد أختير من وراء الغنم كما عرفنا هو نفسه بذلك وذكره في أحد مزاميره:”واختار داود عبده وأخذه من قطيع الغنم، ومن خلف المرضعات أتى به” (مز 77 (78):70). ولكى يبين أن مُلكه أمضاه في البساطة. قال:”فرعاهم بدعة قلبه” (عدد 71). ومن الواضح أن البراءة (أو الدعة) هي البساطة وهي النقاوة. وكتاب أخباره يُعرفنا كذلك أنه بسبب بساطته كان يقف لديه باستمرار مشير يأخد مشورته في شئون هذا العالم، فيذكر الكتاب أخيتو فل كمشير لداود (امل 32:27).
31- ومن مواضع اخرى يسهل علينا أيضاً أن نرى بساطة داود. ولقد عرفنا هو نفسه بذلك عندما تكلم مع يوناثان قائلاً: ” ليس خبث في قلبي وأبوك ينصب لى فخاخاً لكى ينتزع حياتى” (قا، اصم 1:20)، وذلك الكلام الذى قاله يوناثان أيضاً لأبيه :”لقد وضع نفسه بيده وأقام الحرب ويقتل الفلسطينيين” (أصم 5:19) هو خير شهادة على بساطة داود. وعندما أشار عليه الرجال الذين كانوا معه في المغارة أن يقتل شاول (اصم 24) تمسك أيضاً بروح البساطة عينها، واعتبر أن النصيحة التي أشاروا بها عليه بقتل شاول هي تخص خبث وخداع العالم، لأن هذه هي عادة الذين يمتلئون من خيث العالم أن يبذلوا قصارى جهدهم في إزالة العقبات من أمامهم بإي وسيلة، أما داود قد ظل محتفظاً ببساطته وشفقته.
32- وبأمكاننا أن نجد مواضع أخرى كثيرة في الأسفار المقدسة تعرفنا بدعة قلب رجل الله هذا، منها ما قاله الرب لصموئيل النبى:”قد اخترت لنفسى رجلاً حسب قلبى” (اصم 14:13)، فهذه هي أيضاً شهادة لنقاوة قلب داود. ومعلوم أن نقاوة القلب تولد من البساطة. وهو نفسه قد طلبها في صلاته: “قلباً نقياً أخلقه في يا الله” (مز 50 (51):13).
33- تأملوا أيضاً سائر الأبرار والصديقين، كيف أنهم جميعاً أرضوا الله بالبساطة، لأنه قد كتب عن تلاميذ الرسل الأولين بعد صعود ربنا إلى السماء:” وكان لجمهور الذين آمنوا قلب واحد ونفس واحدة” (أع 32:4)، وأيضاً : وكانوا يكسرون الإفخارستيا في البيت، ويتناولون الطعام باتبهاج، ويمجدون الله ببساطة قلبهم” (أع 46:2)، و ” لم يكن أحد يقول إن شيئاً من أمواله له، لأن كل شئ لهم كان مشتركاً” (أع 32:4). ومن الواضح أن هذا الوفاق يولد من البساطة، وأن تسبيحهم كان يصعد إلى الله ببساطة قلبهم، وأن البهجة التي كانوا يتناولون بها طعامهم معاً دون أن يميزوا بين الذي قدم الكثير للشركة والذي لم يقدم شيئاً – تتولد من نقاوة القلب.
34- والكتاب المقدس أظهر أيضاً كيف أن الطوباوي يشوع بن نون كان أكثر براءة من جميع الشعب لأنه كان قد تربى في داخل خيمة الاجتماع (خر 11:33)، ولأنه كان أكثر بساطة وأكثر نقاوة من الجميع لكونه نما وكبر داخل الخيمة وفي السكون. اخُتير ليقود الشعب بعد موسى (عد 18:27). وقصة يعقوب وعيسو هي أيضاً شهادة على أن البساطة هي أكثر قرباً من الذين تربوا في الخيمة وداخل البيت عن أولئك الذين تعلموا الدخول والخروج الكثير:” كان عيسو إنساناً يعرف الصيد، إنساناً البرية، ويعقوب إنساناً كاملاً يسكن الخيام” (تك 27:25).
35- ونحن نستطيع أيضاً بمقارنة أعمالهما أن نعرف الفرق بين قلبيهما. والكتاب المقدس في كل موضع كان يدعو عنيسو غضوباً وحاقداً يكتم الغضب ويخفى الحقد:”تبع بالسيف أخاه وأفسد مراحمه، وغضبه إلى الدهر بفترس وسخطه يحفظه إلى الأبد” (عا 11:1). وقال الرب أيضاً بخصوص غضبه مقابل نسل يعقوب: “قد عمل بالانتقام على بيت يهوذا وأساء إساءة وانتقم منه” (خر 12:25). وخروجه في جيش لمقابلة أخيه ومعه أربعمائة رجل، يبين أيضاً أن غضبه كان طويل الأمد، لأنه بعد عشرين عاماً”، حين رجع يعقوب من حاران طلب أن ينتقم منه بسبب امر البركة. ولو لم يكن اتضاع يعقوب وعناية الله الخفية قد أوقفنا غضبه، لكان قد تم الفعل الذى جاء من أجله.
36- أما يعقوب فقد ظهر في كل شئ على خلاف هذا، سواء عند أبوية أو في بيت خاله لا بان: لأن أعماله تُظهره بسيطاً ومطيعاً. ولهذا فالكتاب المقدس يبين لناكل بساطته في قول واحد: “كان يعقوب إنساناً بسيطاً” (كاملاً) يسكن الخيام”(تك 27:25). وهو ما كان ليفكر أن يسرق البركة لو لم تكن أمه هي التي قالت له ذلك. ولما سمع: ” الله القدير يباركك”، اقتنع ببساطة قلبه ولم يجد أية صعوبة، ولكى لا يظن أحد أن بساطته كانت بلادة طبيعية، فلينظر كيف أنه كان يحترس من لعنة أبيه ويجيب يغطنةٍ على كلام رفقة أمه:” هوذا عيسو رجل أشعر وأنا رجل أملس، ربما يحبسنى أبي فأكون في عينيه كمتهاون وأجلب على نفسى لعنة لا بركة،(تك 12،11:27). ولكن أمه التي كانت قد قبلت بإيمان المواعيد الأولى التي أعلنت لها حين مضت لتسأل الرب فقال لها :”الكبير يستعبد للصغير” (تك 23:25)، أجابته قائلة:”لعنتك على يا أبي، اسمع لقولى فقط”واعمل ما أطلبه منك (تك 13:27). فأطاع أمه في الحال مثل طفل. أما هي فصنعت أطعمة كما كان أبوه يحب، ووضعت جلود جدى المعزى على يديه وعنقه وهي المواضع التي كان يُحتمل أن يلمسها. أما يعقوب في بساطته فلم يسأل عما كانت تعمله له، وهذا الرجل بمثل هذه البساطة الكاملة صار أمام أمه كطفل بين يدى مربيته التي فعلت له كا ما أرادت. ولما أخذ الأطعمة ودخل إلى أبيه كانت أمه قد وضعت في فمه الكلام الذى كان سيقوله دون زيادة أو نقصان مثل طفل. ولما حان وقت زواجه لم يكن هو البادئ بالطلب حسب رغبته – ولكنه استمع في براءة إلى وصية أبوبه.
37- أما عيسو في خبثه وشره، فأراد أن يقم ويغبظ والديه رداً على ما استعملاه معه من حيلة، فذهب واتخذ زوجاته من بنات كنعان (تك 9،8:28،34:26)، فكن مرارة نفس لاسحق ورفقه. ولما رأى بغضة والديه قد تزايدت بسبب شرور نسائه المستمرة، ولخوفة من أن يُحرَم من الميراث الأرضى، ذهب بخيثٍ وأخذ محلة بنت اسمعيل زوجة له على نسائه، كما لو كان يضع ضمادة على الجرح، ليس كإبن انتبه لكى يتوب عما سبق أن فعله من قبل، ولكن خوفاً من أن يحرمه اسحق من ميراث الأملاك والمقتنيات التى ستؤول إلى البكر.
38- وكذلك فيما يتعلق بحق البكورية والبركة، كان عيسو مغتماً، ليس بسبب فقدانه للمواعيد الروحية التي كان مرتبطاً بها، بل بسبب حرمانه من النصيب الأكبر من الأملاك التي كانت العادة تقضى بأن يحصل عليها الإبن البكر، إلى جانب ما رآه من تغير محبة أبيه من نحوه، الأمر الذى من أجله فرك أن يحصل على أي شئ علاوة على ما يناله في الميراث. وهكذا كانت كل تصرفات عيسو تنمٌ عن خبثه وحقده تجاه من وضعه نصب عينيه.
39- كما أننا نلاحظ أيضاً بساطة اسحق أبيهما في الموضوع نفسه. فمع أن كل محبته كانت متجهة نحو عيسو، وكان يحبه بأعتباره البكر، فبمجرد أن شعر بتدبير الله الذي نقلته إليه رفقة من جهة ما قيل لها عندما مضت لتسأل الرب (تك 22:25) – تغيرت محبته لعيسو وتحول عنه إلى يعقوب الذى كان يستحق ذلك.
40- تأمل أيضاً في طاعة يعقوب: فقد كان مطيعاً لأبويه في كل شئ مثل طفل. قالت رفقة لإسحق: “إذا أخذ يعقوب أيضاً زوجة من بنات كنعان، فلماذا لى حياة؟”(تك 46:27). فدعا إسحق يعقوب وأوساه وقال له:”لا تأخذ زوجة من بنات كنعان، ولكن اذهب إلى لا بان إبن بتوئيل أخى أمك، وخذ لنفسك من هناك زوجة”. وأطاع يعقوب وخرج لوقته وترك جميع خيرات بيت أبيه، وسار في الطريق كغريب لا يمتلك شيئاً. ولم يطلب لنفسه شيئاً من أبويه، لا دوابا” لتحمله ولا عبيداً ليخدمونه ولا حاشية لكرامته، ولا شيئاً آخر مما يمكن أن نتصوره مما يهتم به الكثيرون اليوم، بل خرج من عنده بعصاته فقط، وقد تزود عوضاً عن كل الأشياء الأرضية ببركات المواعيد الثمينة (تك 4،3: 28). وقوله هو وحده يخبرنا بذلك، حين قدم الشكر لله على كل ما صنعه الله معه وطلب منه أن يخلصه من يدى أخيه، حيث قال :”بعصا عبرت هذا الأردن، والآن قد صرت جيشين. نجنى من يد أخى من يد عيسو لأنى خائق منه” (تك 12،11:32).
ولنسمع أيضاً الكلام الذي قاله في المكان الذي ظهر له الله فيه، والذي نرى منه بالتأكيد قدر بساطته :حقاً إن الرب في هذا المكان أنا لم أعلم!” (تك 16:28)، ولماذا فكرت أيها الإنسان البسيط يعقوب أن الله كان محصوراً فقط في بيت أبويك، وأنه لا يظهر ولا يتراءى في كل مكان لكل الذين يستحقون ظهوره لهم؟!
41- تأمل كذلك كم مرة تغيرت أجرته في بيت لا بان، وكيف لامه في النهاية على غدره به وقال له :”أنت غدرت بي وغيرتَ أجرتي عشر مرات، ولكن الله لم يسمح لك أن تصنع بي شراً” (تك 7:31). وأيضاً حين خدم لا بان من أجل ابنته الصغرى وأدخل لا بان الاخرى بدلاً منها خلسة، وخدعه في بساطته دون أن يلاحظ ذلك، ولما سأله عن السبب الذي جعله يسخر منه، أسرع لا بان وقدم له السبب، ومع أنه قد نالته الخديعة إلا أنه قَبل وأطاع، كم من مره خيب لابان رجاءه بخبثه! وبكم من الطرق غير وجهه تاهه بقساوته ومكره! وفي كل هذا لم تضظرب نقاوة يعقوب ولا اهتزت بساطته، ولا تحول عن براءته قط إلى المكر أو التحايل. والرب كان يعتنى به بقدر ما كان هو نفسه يراعيى شئونه. وهكذا أصبح مثاله تعليماً منيراً لكل من يريد أن يعمل مع الرب دون أن تغفل أفكاره تذكار الله، أو يستخدمها في إيجاد وسيلة لإيذاء أعدائه.
42- اثبت إذاً أيها التلميذ في نقاوة قلبك. فالرب يعرف كيف يدبر حياتك ويصنع معك ما هو نافع لك، فقد تسمع عن أناس يريدون أيذاءك، وآخرون يكمنون لقطع حياتك، وآخرون يسعون لهدم ما بنيت، وآخرون يحطون من قدر ما يمدحك، ويزمون سيرتك، و آخرون يجتهدون في النيل من كرامتك، و آخرون يتكلمون عليك بالهزء والازدراء. أو ينهالون عليك بالشتائم والاستهزاء، و آخرون قد صيروك لهم مثلاً ومالهم حديث سواك وكل همهم أن يلموك. في كل هذا أثبت أنت في بساطتك، ولا ترجع اى الوراء عن الهدف الذي تتطلع اليه، ولا تبطل مناجاتك الخفية مع الله.
43- لا تجعل المضايقات الخارجية تعطلك عن التمسك بالمرساه الخفية التي بها حياتك معلقة. فلا تكف عن التطلع الى المسيح بالرجاء الذي لا يكذب، بحسب الوعد الذي تكلم عنه القديس بولس” لنتمسك بالرجاء الموضوع أمامنا . الذي هولنا كمرساه ثابتة في نفسنا” (عب 6:18،19) لكي لا تضطرب، لانه كما أن الموساه التي تلقى في العمق تضبط وتثبت المركب في وسط الأمواج حتى لا تميل هنا وهناك ولا تدفعها التيارات في مسار خارج طريقها، هكذا أيضاً فإن الرجاء الموضوع لنا في السماء الذي هو كمرساة خفيفة موضوعة فوق، تدخل وتستتر من أجلمنا داخل سماء السموات لكي ما تضبط أفكارنا عندها وتربط سفينة نفسنا حتى لا تميل هنا وهناك أو تنساق مع التيار بواسطة العواصف والأمواج التي تلاطمها بشدة من العالم، ولكي لا تخرج عن مسار طريقها.
44- أما أنت فأثبت في البساطة مقابل ما قد سمعته، ولا تغيرك ما يتكلمون به عليك أو يجعلك تصير مثلهم. لأن العدو يجمع هذه الأمور ويضعها قبالتك، ويبذل بساطتك الى المكر لتصير شبيهاْ بالذين يقاتلون مقابلك وتمتلىْ غضباً مثلهم، وتصير إناءً للسخط مثلهم، وتلبس ثوب الخبث والشر. فإذا إنحدرت أفكارك عن تلك البساطة التي تحفظ الوحيد وحده فقط، وبدأت تهتم بما يقوله الناس عنك، فبفضل ذلك يجدك العدو كما يريد، وتصير عن قريب صيداً سهلاً جاهزاً له. أما أنت فأثبت في البساطة، فهي إناء للبر، وكما أن الإناء الطبيعي تيقبل ما يقع فيه، هكذا فإن البساطة هي الإناء النقي الثمين الذي يتقبل ثمار البر.
45- ليكن لك يعقوب البسيط الذي تكلمنا عنه نموذجاً لما قلته لك، عندما تعمل أحاديث الآخرين على إزعاج بساطتك وتبدأ أن تحس بخبث العدو الذي يريد أن يعرقل خطواتك، تفكر في ذلك الإنسان المغبوط، وتأمل سيرته كلها من البداية الى النهاية. لأنه من أجل هذا كتبت تلك الأمور وما أشبهها في الأسفار الإلهية، ولكي تصير عوناً لنفيسك إذا مالت الى السقوط، وعزاءً للأفكار المملوءة حزناً وكآبة من غضب القائمين ضدك. أنظر كم تحايل عيسو ولا بان في إيذاء يعقوب ! والرب كان يدبر كل أمورة. وفي حين أنه كان هادئاً ولم يكن على الإطلاق أن يرد على شرور أعدائة، كان الله يرد شرورهم عليهم، ويجعله يجني المكاسب بدلاً من الخسارات. كان يعقوب يجتهد أن يحفظ ببراءته، وكان الله يهتم بكل ما هو لخيره. كان يدبر في جميع شؤونه ببساطة مثل طفل، و كان الله ينجح طرقه بحكمته. لا بان فكر وسعى أن يسبب له ضرراً. أما يعقوب فلم يلاحظ، البسيط لا يدرك والنقي القلب لا يعلم، أما الله فيرى و يعرف كل شيء في وقته. لا بان يربط والله يحل، لابان يدبر بخبث لإيذاء يعقوب. والعلي يبطل تدبيره، لابان يستعمل كل وسيله ممكنه لكي يضاعف مقتنياته وينقص ما ليعقوب، والله يدبر وسيله أخرى ضده، وبينما ظل يعقوب هادئاً كان الديان يحامى عنه، وبينما كان يتقدم ببساطة في جميع أعماله، كان الله يرشده في طرقه بحكمه.
هذه الأمور التي كتبت عن يعقوب إنماهي قد كتبت من أجلك، وهي لك إذا ثبت في بساطة قلب يعقوب وفي نقاوة نفس ذلك الإنسان البسيط.
46- البسطاء هم للرب، فلا تخجل من البساطة، أما الماكرون والمخادعون فهم أوان للعدو، فلا تشته المكر ولا تسربه. المكر هو أرض تلد الشرور. أما البساطة فهىحقل يعطى ثمر البر. ومن أجل هذا يتكلم الرب مع البساطة دائماً ويجد مسرانه فيها، وتكون محط إعلاناته.
كان عالى الكاهن ينام مع أولاده في بيت الرب. وعندها أراد الله أن يتكلم مع الشعب، ترك الشيخوخة المرتبكة في الخداع والمنشغله في مشاغل العالم، والفتوة التي تعلمت خبث الشرور، واتى الى البساطة وإختار أن يتكلم ويتحدث معها. وهكذا نادى الرب صموئيل مرتين: ” صموئيل ! صموئيل!”. ونهضت البساطة وأسرعت الى الشيخوخة، ولم يعرف الطفل من الذي دعاه فجرى ليجيب عالى بدلاً من الله وحصل هذا ثلاث مرات لأنه لم يسبق له من قبل أن تلقى الإعلانات الإلهية. أما عالى فلأنه علم أن الله هوالذي دعاه طلب منه أن يجيب الله ولا يأتي اليه: ” ففهم عالي أن الرب يدعو الصبي. (أصم 8:3) . وأرسلت الشيخوخة الطفولة الى الله، وصار المكر في حاجة الى البساطة لكي يتعرف على المشيئات الإلهية. وطلب عالى من صموئيل أن يعلمهبكل ما سمعه من الرب ولا يخفي عنه شيئاً من كلامه. لأنه لما رأي أنه لم يحصل على شئ مما تكلم به الرب مع الصبي، طلب منه أن يكشف له السر الإلهي. وصارت الطفولة وسيطة بين اللاهوت والمعرفة. وقبل الطفل أن يخبره بكل شئ.
47- وهكذا نرى معرفة الله تستعلن لطفل ما زال صغيراً لم يندفع وراء ما ينشغل به كل الناس، لأن الرب يسكن في الأبرياء ويتكلم مع البسطاء. لقد إختار الجهال الذين اذا ما سمعوا الكلام لا يظنون انه لهم، ولكنهم يعرفون ذاك الذي قاله لهم ويعطونه المجد، لكي لا يصير كلام الله الذي توجه اليهم مدعاهللغرور والمجد الباطل. وأختار الذين لا يفتخرون بما قيل الله كمالو كان هو من عندهم، فلا يقولون أن كلام الحكمة الذي نتكلم به هو من عندنا، فالبسطاء والابراياء لا يفكرون هكذا ولكنهم ببساطتهم يعرفون أن عندهم إنما يخص الرب. ولهذا فنحن في كل شئ نجد أن الله يرفض الخبث والمكر ويختار البساطة. ولأن البساطة الطبيعية مقبولة ومرضية عند الله، ليس من السهل أن تجد حكيماً روحانياً يجد كعماً لحكمة هذا الدهر بعلمه الخاص. لأن البساطة هي عطية الله وجزء من التركيب الأول لطبيعتنا، فهو قد وضعها فينا منذ البداية عندما خلقنا.
48- البساطة إذا هي نقطة انطلاق، منها نصعد لنتعلم الأمور الروحية و نتحكم بالروح، وعنها ننحط لنتعلم ونتفحص أمور هذا الدهر. والذي ينحط عنها يصير ماكراً خبيثاً. وإذا كانت الأشياء تدعى بأسمائها، فنحن لا نسمى الذين يستغرقون تماماً في الأمور المادية حكماء، ولا الذين يسلكون بالبساطة في الأمور الروحية ندعوهم ماكرين وخبثاء، ولكننا نطلق إسم الماكر والخبيث على الذين لا يعرفون سوى أشياء هذا الدهر. وإسم العارف والحكيم على الذين ينشغلون بالأمور الروحية، لأن الحكمة لا تختص بغير الله وكل من يطلب الله. لأن معرفة العالم لا تستحق أن تدعى حكمة، وحكمة الله لا يمكن لمن كان حكيماً أن يدعوها مكراً أو خداعاً لأنه ليس ثمه شر في تلك الحكمة ولأنها لأتتركب من أفكار متخالفة.
49- والكتاب لم يقل لماذا يسر الله بالبساطة ويفضلها على حكمة العالم، لأن حكمة العالم هي أيضاً عطية الله، كما قال الرسول: “إن العالم وهو في حكمة الله لم يعرف الله بالحكمة”. (أكو 21:1) ولهذا فمن المعلوم أنه لو لم تكن الحكمة فينا منذ بداية خلقتنا، ولو أنها لم تكن قد وضعت في كافة الخلائق، لما كان ممكناً أن نحصل عليها من العالم. فإذا كانت حكمة العالم هي أيضاً عطيه من الله، فلماذا إذا رفضها الله وفضل عنها البساطة؟ ذلك بالتأكيد لأنه يوجد فيها إجتهاد يخصنا، ولأن الذين يمتلكوها يوجهون كل إهتمامهم نحو العالم وليس نحو الله، ويسعون وراءها باعتبار أنهم حكماء. وبإختصار لأن نفوسهم تمتلئ من الأوجاع البشرية فيما يلتقطون هذه الحكمة في المخلوقات. ولأنهم يجهدون أنفسهم في طلبها ويتحملون المشقة والألم من أجل الحصول عليها، يعتقدون أنهم لهم بالنظر الى تعبهم. ولهذا رفض الله حكماء العالم وإختار الله البسطاء مكانهم.
50- ولما كانت حكمة العالم مضادة لحكمة الله في كل شئ، ولا يمكن للإثنين أن تمتزجا الواحدة في الأخرى، كما أن النور لا يمتزج بالظلمة، فإذا أراد أحد حكماء العالم أن يصير حكيماً من أمور الروح، ينبغي له أولاً أن يتعرى من أفكار حكمته العالمية وظنون معرفته الأولى ويمسك في بداية الطريق بالدرجة الأولى التي هي البساطة والطفولة والإيمان الذي يسمع ويقبل بكل إخلاص كلمة الله. ويبدأ بالسعى في طريق حكمة المسيح، والحكمة داتها تتقدمه في مسيرته وفي حرصة الزائد على التقدم نحوها، وتظهر ذاتها له.
51- البساطة هي عطيه الطبيعة، وهي تخص الخالق، وليس شئ مما يخصنا – لا من إرادتنا ولا من جهادنا – يختلط بها. الله هو الذي يعطينا إياها حين يعطينا ذاته، وحكمته تسكن في المكان الذي أعده هو نفسه. فقد مال الى صموئيل وابتعد عن المكر، تكلم معه وترك رئيس الكهنة.
والكتاب لم ينسب الى عالى نفسه شيئاً من الشر سوى أمراً واحداً فقط: أنه أهمل وتغافل عن توبيخ أولاده. فهو لم يشترك معهم في شرهم بالأفعال، كما ولو يذكر عنه انه كان يسلك مثلهم في شبابه، فالكتاب لم يوجه إليه اللوم، ولم يقل له: “أنت سلكت في الإثم في أيام شبابك والآن أولادك يعملون مثلك”، ولكن الرب قال لصموئيل: “هوذا أنا فاعل أمراً في إسرائيل كل من سمع به تطن أذناه.. لأن عالي سمع بكل ما عمله بنوه من إثم في باب خيمه الإجتماع ولم يردعهم” (اصم 11:3-13، 22:2) ولم يدن عالي إلا تكونه أهمل، ولأن توبيخة لهم كان هشاً ضعيفاً وليس كما كان ينبغي أن يكون لمثل تلك الخطايا، هذا هو اللوم الوحيد الذي واجه عالي الكاهن: إهماله في ردع أولاده، وليس شره هو شخصياً، وعلى الرغم من ذلك إختار الله الطفولة عوضاً عنه، وجعل حديثه مع الطفولة والبساطة.
52- وكما عرفنا من الكتاب المقدس أن صموئيل قد تربى في بيت الرب على مثال يشوع بن نون ويعقوب، لأنهما تربيا هما أيضاً في بيت الرب كما قلنا سابقاً. وهذا أمر عجيب حقاً: لماذا دعا الله مختاريه من هذين المكانين بالذات، أي من الذين عاشوا في البرية ومن الذين تربوا في خيمة الإجتماع؟ لأن البساطة تقتف في هذين المكانين. فهوذا داود وموسى وآخرون أفرزهم الله من البرية لتدبيره، وصموئيل ويشوع ويعقوب إختارهم من التربية في الخيمة، ونحن نتعلم من هذا أيضاً أن البساطة محبوبة جداً عند الله، وأنها هي بداية طريق الذين يدنون الى الله.
53- كذلك يمكننا أن نرى البساطة عند هابيل أول الصديقين والكتاب المقدس يذكر لنا أنه كان أكثر بساطة من قايين: فقد قدم كلاهما قرابين أما الرب، فقبل قربان البساطة بينما رفض قربان الخبث، وأغتاظ قايين تجاه الرب وتجاه هابيل فقد اغتاظ من هابيل لأنه كان يحسده، ومن الرب لأنه رفض قربانه. فلو أنه كان بسيطاً لما صار حسوداً، ولو كان نقياً لما أغتاظ وبالأكثر مقابل الرب. ونرى أيضاً خبث قايين من التصرف الذي وصل البه من شره‘ فقد فكر أن يقتل أخاه هابيل، ولأنه لم يقدر أن يعمل ذلك أمام والديه قال له: “لنذهب الى الحقل” (تك 8:4). أما هابيل فمن أجل بساطته اسمتع له وأطاعه مثل طفل، فبساطته لم تجعله يفكر في الخبث، ولم يفحص قط في نفسه لماذا يدعوه أخوه الى الحقل، وكما إنه لم يحس بكراهية أخيه له، ذلك لأن البساطة لا تعرف أن ترى هذه الأمور، فقد كان يسلك معه ببساطة قلبه وبالمحبه الأخوية، وكان يطيعه في الحال في كل ما كان يطلبه منه.
54- تأمل هنا أيضاً أعمال البساطة وأنظر مساوئ الخبث والمكر. اجتهد أن ترافق البساطة الذين يرضون الرب في كل حين، وأرفض الخبث مثل شئ لا يليق لك ولا يناسب تدبير سيرة تلمذتك، فكلما أن قامة جسدك هي التي تحدد مقاس الثوب الذي يناسبك، فإذا لبست ثوباً آخر لا يناسبك صرت هزء ألكل الناس، هكذا فإن رداء البساطة هو الذي يناسب نفسك، فإذا لبست ثوب الخبث نالك التوبيخ من الحكماء، كما أن صاحب العرس نفسه لن يقبلك وأنت لابس هذا الثوب. (مت 12:22).
55- تأمل أيضاً يوسف العفيف، فقد كان توقيره لأبيه ومحبته لإخوته ينبع من بساطته، كان أخوته يحسدونه أما هو فلم يشعر بذلك، ثم تشاوروا في قتله ولم يعرف. أمره أبوه أن يذهب ويتفقدهم فأطاعه في الحال. كام قد رأى أحلاماً تعلن عن عظم شأنه وخضوعهم له في المستقبل، وفي بساطته أعلن لهم ذلك، ولم يدرك هذا البرئ الوديع أن الحسد زاد من حقدهم، وأن البغضة تعاظمت عندهم لما سمعوا منه ذلك. وعندما سمع أبوه الشيخ، ورأى بساطة إبنه يوسف انتهره حتى لا يكشف إحلانه لأحد، ليس لأنه كان يشك في أنها سوف تتحقق – لأن الكتاب نفسه يقول إنه حفظ هذه التنبؤات معتمداً أنها سوف تتحقق – ولكن لكي لا يزيد يوسف بغضة إخواته له.
56- حمل يوسف الزاد لإخوته ومضى يبحث عنهم من مكان الى مكان، وهو لا يدري أنه يذهب الى قاتليه وليس الى أخوته، أما هو فلما وجدهم امتلأ فرحاً في بساطة قلبه، أماهم فلما أبصروه امتلأوا مرارةً وغيظاً. وبينما تفكرتالبساطة بالخبز وتزايدت محبتها لما رأى إخوته، إزداد الحسد الذي تولد عن خبثهم وتعظم حتى إنهم إحتالوا له ليميتوه. تفكروا بالشر وفعلوا الشر.
57- ولكن تأمل نهاية الإثنين، وأنظر بأيهما شر الرب. البساطة التي لم تعرف أن تخفي أحلامها رفعت صاحبها الى منزله الكرامة، أما الخبث فطرح أصحابه الى الأرضقدامها. البساطة تأمر والحبث يطيع، لأنالبساطة قد علا قدرها في حكمة الله، والخبث إزداد في الشر. “رأيت أنه ليس بصير وحكيم مثلم” (تك 39:41 ) هكذا قال فرعون مصر لهذا الإنسان البسيط يوسف. لأن البساطة قريبة للحكمة والفهم الإلهي رفيق للبراءة: فهي الإناء المختار الذي يتقبل اعلانات الله.
58- لقد كان القديس بولس محقاً حين رفض هو أيضاً المكر، حيث يقول : “أننا لا نسلك في المكر ولا نفش كلمة الله بل نمدح أنفسنا لدى ضمير كل إنسان بإعلاننا الحق” (2 كو 2:4). فهوذا بولس الرسول أيضاً قد أدرك أن الغش يصاحب المكر، وأن الخبث هو إناء لكل الشر، ولهذا فهو أيضاً يهرب منه. وأي تلميذ لا يرفض الخبث إن كان بولس الرسول نفسه قد رفضه و أقصاه وأعتبره خارجاً عن تعليم المسيح؟ لأنه لم يعد مناسباً له على الإطلاق، فكما أن الشر هو ضد الخير هكذا فإن المكر هو ضد البساطة. وفي موضع آخر يكتب أيضاً القديس بولس الى تلاميذه ويقول “هل خدعتكم كمحتال بمكر؟” (2 كو 16:12) ، ونجده هنا أيضاً يربط بين الغش والمكر. وفي موضع آخر أيضاً يتهم الهراطقة ويبين أن كل تعليمهم هو بمكر، عندما قال : “كي لا نكون في ما بعد أطفالاً مضطربين ومحمولين بكل ريح تعليم بخداع الناس وعكرهم الذي يقود الى الضلال، بل نثبت في محبتنا حتى ينمو كل ما لنا في المسيح” (أف4: 15-14).
59- وربنا أيضاً وصف الهراطقة بالمكر والخداع، فقد قال: “أحترزوا من الأنبياء الكذبة الذين بأتونكم بثياب الحملان، ولكنهم من داخل ذئاب خاطفة” (مت 15:7) . لأن هذا هو عمل الخداع أن يبطن شيئاً ويظهر شيئاً آخر. والخداع هو الذي يعلم بما للذئاب ويتراءى بمظهر الحملان، إنه يفعل الأمرين بآن واحد، يزرع الضلالة وينميها ثم يحتال ما يعلمها للآخرين، يخفى ما يجب إخفاؤه ةيعلن ما يراه مناسباً لإعلان. الخبث أعمى، ولكنه اتخذ الخداع له عيناً.
60- وفي موضع آخر علم ربنا تلاميذه أن يحترزوا من رباء الفريسيين والصدوقيين: “تحرزوا من خمير الفريسيين وخمير هيرودس” (مر 15:8)، وإفهم أن ما يدعوه هنا خميراً هو الرياء والخبث. لأنه في موضع آخر عندما قال له الفريسيون أن هيرودس يريد أن يقتلك، دعا هيرودس ثعلباً بسبب مكره، وقال : ” قولوا لهذا الثعلب” (لو 32:13). وكما أن هيرودس لم يكن له سلطان أن يفعل ما يريد، فالرب بهذا يشبه مكائد المكر التي تقوم القوة بالثعلب. ويقول: “إنني أفعل ما أريد، والمكر لا يمكن أن يدفعني الى ذلك خارجاً عن إرادتي: “أما أنا أخرج شياطين وأشفى اليوم وغداً وفي اليوم الثالث أكمل”. وهكذا نرى ربنا يحذر تلاميذه من مكر هيرودي ومن خبث الفريسيين الذين يعملةن شيئاً ويعملون شيئاً آخر.
61- كما أن ربنا لا يحذر من تعليم موسى الذي يعلم به الفريسيون بل من تقاليدهم هم أنفسهم: لأنهم بمكرهم اتخذوا منها وسيلة مناسبة لتجارة ظالمة. فهم يتراؤون أمام أعين الناس لأبرار وغيورين على كرامة الله، بينما هم يسيئون اليه بأعمالهم في السر، يطيلون صلواتهم لكي بأكلون بيوت الأرامل، يغيرون وجوههم لكي يظهروا للناس صائمين، ينقون خارج الكأس والصحفة، أي يزينون ويحملون هيئتهم وأعمالهم الخارجية بينما في الداخل مملوؤون نجاسة وإثماً يظهرون من خارج ذوو وقار وعفة لكي يجذبوا اليهم الأنظار، بينما هم في السر مملوؤون اختطافاً وفساداً وداره ومسرة بكل الشهوان. فربا حذر تلاميذه من تعليم الفريسيين هذا. وكل هذه الأمور التي تعمل من أجل الدارة وتحت مظاهر خادعة تتولد من المكر.
62- لماذا عرض تلك الأمور ربنا من تلاميذه أن يكونواودعاء في الخير كالحمام، وحكماء كالحيات مقابل الشر؟ لأن البساطة هي عند الإيمان والحكمة هي تجاه الشر، فقد صاروا ودعاء لكي ما يجدوا حياتهم، وصاروا حكماء حتى لا يفقدونها . فالبساطة نافعة لنا لاقتناء الفضائل، والحكمة لازمة لكي نحتفظ بها ولا نفقدها. نقاوة القلب هي تجاه الله، أما تجاه الناس – فلانهم يمتلكون القدرة على انتزاع أمور الله منا – فتلزم حكمة الأفكار. ولهذا بالصواب يطلب منا ربنا أن نكون ودعاء كالحمام الواحد تجاه الآخرين وتجاهه، وحكماء كالحيات مقابل الذين يبذلون مافي وسعهم لكي يبعدوننا من الأمور الروحية.لأن الحيه تكون حكيمة تجاه الإنسان وليس تجاه نفسها، لأنها في حكمتها الطبيعية تسلم جسمها للضرب ولكنها تحرس رأسها من أي جرح قد يسبب لها الموت نهائياً.
63- والتلاميذ الذين تساءلوا بمكر: “من هو أعظم من ملكوت السموات؟” (مت 1:18)، الذين ارادوا بروح الدهاء أن يكونوا أعلى درجة من الآخرين، هؤلاء علمهم ربنا بساطة الأطفال الذين يشتهون السلطة أو التقدم على الآخرين، والذين لا يخطر على فكرهم مجد الناس: ” الحق أقول لكم أن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السموات” (مت 18: 3-4) ، وأيضاً : “من لا يقبل ملكوت الله مثل ولد في البساطة وبراءة القلب – فلن يدخله ” (مرقص 15:10).
64- والقديس بولس لا يعلمنا نحن فقط أن نكون بسطاء تجاه الله وتجاه الآخرين، ولكنه يطلب من العبيد أيضاً أن يكرموا سادتهم بالبساطة دون مكراً ورباء: “أيها العبيد أطيعوا سادتكم في كل شئ، ليس فقط حين تكون عيونهم عليكم كمن يحاول إرضاء الناس، بل كمن يطيع المسيح بخوف ورعدة في بساطة قلوبكم” (أف 6:6 ، كو 22:3).
65- ويطلب أيضاً من الذين يتصدقون أن يعطوا ببساطة: “المعطي فببساطة. المدبر فباجتهاد” (رو 8:12). لأنه لو وجد المكر عند الذين يعطون فإنهم سوف براقبون أعمال الذين يأخدون، وبسبب هذا الدافع يتعطل العطاء الذي تقدمة البساطة ولا يحسب. ليس من عادة البساطة أن تحسب وبعد ذلك تعطى، ولكنها تعطى وتشارك بسعة لكل الناس بلا حساب. وقد علمنا الرب هذه البساطة حين فال: “من سألك فأعطه” (مت 42:5). والقديس بولس يصلي من أجل الذين أن تزداد ثماربرهم ، ويقدمون عطاياهم ببساطة لكل من له احتياج. “الله الذي يقدم بذاراً للزارع وخبزاً للأكل سيقدم ويكثر بذاركم وينمى غلات بركم، لكي تفتنون في كل بساطه، لأن البساطة هي التي تنشئ شكراً لله بواسطتنا” (2 كو 11،10:9). وهكذا نرى القديس بولس يصلي هنا أيضاً لكي يصير تلاميذه أغنياء في البساطة، ويقول أنه بواسطتها ينمو ويزداد الشكر لله.
66- وقال أيضاً: “لقد أطعم اعتراف إيمان إنجيل المسيح وأظهرتم خضوعكم بواسطة بساطتكم لهم وللجميع” (2كو 13:9) كما قال: “ولكنني أخاف أنه كما خدعت الحية حواء بمكرها، هكذا تفسد أذهانكم عن البساطة التي في المسيح” (2كو 11:3). وهو يعلمنا هنا أنه ينبغي لمن يؤمن بالمسيح أن يظل بسيطاً تجاه تعليمه، ويبين لنا أيضاً أن حواء لم تقبل خديعة مكر المجرب إلا لأنها تخلت من بساطتها تجاه وصية الله.
67- وفي تحية القديس بولس الختامية في نهاية كل رسائله يطلب من تلاميذه أن يتفانوا في بذل أنفسهم بعضهم لبعض، فعذا هو ما يتولد عن البساطة، وهو ما تعطيه نقاوة القلب. فقد قال أيضاً: طإذا كنا نعيش بالروح فلنخضع للروح، ولا نكن طامحين الى المجد الباطل نغاضب بعضنا بعضاً ويحسد أحدنا الآخر. (غل 25:5) فإن البساطة ونقاوة القلب هما اللتان تعيشان بالروح وتنقادان بالروح.
68- جيد إذا لتلاميذه المسيح أن يسعوا أثر البساطة، وأن يقتنوا في قلوبهم نقاوة الأفكار، ولا يغيرون من الذين يتجاهلون في عمل الشر أو ___ الخديعة للحصول على الكرامة وعلى ملذات العالم. فهوذا جميع الأسفار الإلهية في العهدين القديم والجديد تعلمنا أن البساطة هي التي بواستطها يدنو الإنسان من الله، وأن البساطة هي مسكن الله. وبالإضافة الى تعليم الكتاب المقدس، فإن الخبرة نفسها تظهر لنا أيضاً أن البر أكثر قرباً الى البساطة منه الى المكر والخداع. لأن الماكرين والمخادعين على الرغم من أنهم قد يعملون ويجتهدون في حفظ نواميس البر، إلا أنهم ينساقون وراء الأوجاع الرديئة التي تتحرك في نفوسهم، أما البساطة فلا توجد فيها ميول مثل هذه في أعمالها: فالذي يقودها هو الناموس الصالح الذي قبلته واحتضنته، أو هو خوف المخالفة، أو أن محبة الله إذا كانت قد أدركتها، فهي التي تحفظها في إماتاتها : لأنه قبل درجة الحب يكون الخوف هو الذي يحفظ ويدعم البساطة.
69- لا تخجل إذا أيها التلميذ من هذا اللقب النبيل، حتى النهاية في كل صلاح. لأنك بالبساطة وبالإيمان قد أطعت الله وخرجت من العالم، ولم تفحص أو تفتش ما قاله لك، لأنك لو كنت قد سلكت بالمكر لما كنت قد أطعت، ولو كنت قد معت قوله بأفكار متشككة لما كنت قد خرجت وراء الله الذي دعاك، ولا أنت ولا أي أحد من الذين دعوا وأطاعوا قوله، ما كنتم سمعتم قوله ولا أطعتم وصيته مع أنكم قد دعيتم لكي ما تتبعوه وتصيروا خداماً لتدبيره بنوع أو بآخر عند الناس. وأعلم أن القلب البسيط هو أيضاً الذي يمكنه أن يتقبل تعليم هذا العالم. ولأن الطفولة هي على درجة كبيرة من البساطة، لذلك فهي تقبل بسهولة تعليم العالم وتصدق المعلمين، ولكن بقدر ما تنمو وتقتني المكر في الأمور البشرية. بقدر ما تزيدي بالمعلمين وتحتقر التعليم. كما أن الذي يقبل تعليم الروح هو البساطة، لأنها ممتلئة من المخافة للمعلم، وتحرص ألا تنسى ما تعلمته. وإذا أراد أحد أن يدنو من المكر، وبواسطته الى الشهوات، فهو في الحال يحتقر التعليم ويزدري بالله.
70- فلنقتن إذا لأنفسنا هذه العطية الفائقة ونحافظ عليها. وليكن كل تدبيرنا بنقاوة القلب. ولنطرح عنا المكر ونبتعد عن الفش، ولننبذ ونتحفظ من الرياء. ولنبتعد عن المكائد ونهرب من الأفتراء. ولنطرد عنا الكلام الذي يذم الآخرين في الخفاء. وبقلب بسيط وذهن نقي نمجد الثالوث المقدس الآب والإبن والروح القدس الى الدهور. آمين يكون.
نهاية المقالة الأولى عن البساطة
المقالة الخامسة
وهي المقالة الثانية عن البساطة
- هذا المكان هو سوق الخيرات، حيث يليق بنا أن نتحدث دائما عن المنافع الروحية،لأنني أراكم أيضا تريدون أن تسمعوا حديثا نافعا وليس لمجرد التسلية أو كفرصة للمسرة.
فالأحاديث التي تقال لتسر الأذان أ لتثير الإستحسان وتجلب مديح السامعين لا تناسب مكان التواضع هذا،إذ ينبغي بالأحرى أن تماثل المكان الذي تقال فيه.فالمكان الذي نجتمع فيه هو مكان الأرباح والمعونات الروحية إذا، لنتكلم ببساطة ونقدم المنفعة السرية لمن يتكلم ولكل من يسمع؛ لأنه مكتوب “ليشارك الذي يتعلم الكلمة المعلم في جميع الخيرات”(غل6:6).
- تكلمنا في حديثنا السابق عن البساطة والنقاوة.وعن هذا الموضوع النافع عينه سوف احدثكم الأن أيضا. فالبساطة هي فضيلة تناسبنا وهي تخصنا: ونحن بغيرها لانستطيع أن نحيا في ممارسة الأعمال الصالحة.فكما أن الأعضاء لاتقدرأن ترى بغير العين، هكذا فإن الأعمال الصالحة لايمكن ممارستها بدون البساطة، وكما أن كافة الأعضاء تصير في ظلام عند فقدان البصر، هكذا فإن جميع الخيرات تتوقف عند غياب البساطة.
- البساطة تناسب سيرتنا الرهبانية بوجه خاص، ونقاوة القلب تليق بالأكثر بمن تركوا العالم ويعيشون خارجا عنه ليس للمكر مايفعله هنا حيث لا يوجد أي شيء من أمور العالم فليس عندنا بعد لاشراء ولابيع ولا تجارة تطلب أرباحا زائلة المرء هنا لا يتعالى فوق أخوته ولا يمتلك سلطة على رفقائه. والأخ هما لايتعظم عللى الأخرين ولا أحد يتعظم عليه،لأنه ليس لدينا أي سبب للتعظم. لاتوجد حقول ولا كروم للقسمة ولاأراضي لحفظ حدودها.ليس هنا من يريد أن يكون أغنى من أخيه أو يمتلك خيرات العالم أكثر من رفيقه الإنسان هنا لايتباهى بالثياب الفاخرة طالما أن نحن جميعا لانلبس غير ثوب واحد، هو ثوب النسك والتواضع، الأخ هنا لا يستعبد لبطنه ولا يطلب أصناف الاطعمة ، لأن جميعنا نتناول طعامنا على مائدة واحدة عادية، الإنسان هنا لايريد أن يخطف لنفسة كرامة اخيه طالما أننا مطالبون جميعنا أن يكرم كل واحد منا الاخر. المرء هنا ليس له دعوى على رفيقه مادمنا ندافع كل واحد عن حقوق الأخرين. الإنسان هنا لايشتهي أن يبنى أو يشيد قصرا، لأننا نحن جميعا لنا مسكن واحد هو ديرنا هذا، وهو صغي وضيق فالمرء هنا لايطلب أن يوسع مسكنه ويقتني لقلايته اسرة فخمة ، طالما نحن نرقد على الأرض باتضاع في المكان الذي يتسع لجسدنا فقط.
4- هنا حيث الأمور تختلف عما هي في العالم، يجب بالأولى الا يوجد فيها مكر العالم وهنا حيثأ قصيت وانتفت تدابير العالم، من الائق ايضا أن يرفض مكره وخداعه لقد ازدرينا الأشياء المادية، فلنتحتقر أيضا المكر الذي يصارع من أجلها.لقد صلبنا الأنسان العتيق مع كل شهواته، فلنصلب أيضا المكر الذي هو المحام يعن الانسان العتيق لقد رفضنا الكذب ، فلنرفض أيضا المكر الذي يلده لقد طردنا عن الرياء ، فلنطرد أيضا معه أباه وأمه. فالمكان الذي اختفى منه الخداع وانتفى منه الكذب من الواجب أيضا أن يزدرى فيه بالمكر والرياء اللذن هما أباهما وأمهما تحت ثوب الشعر الذي نرتديه فلنكرم البساطة التي تليق به؛ فرداء الكتان لم يعد ملائما لمظهرنا الخارجي، والثياب المطرزة والمزينة لم تعد شيئا جميلا يناسبنا، فكم بالاكثر يكون المكر غير ناسب لتدبير التلمذة، والرياء غير لائق بسيرتنا ليس يناسبنا أن نزين رؤوسنا مثل الفسقة والمنحطين لايليق بنا أبدا أن نكون منافقين الرياء هو أول أعمال العدو؛ والمكر هو قنية المنافق وجميع خدامه أما البساطة فهي غنى المسيح وجميع تلاميذه.
5- المكر لايفيد إلا في الأمور العالم وللذين ينصرفون الى السلب والاغتصاب،والخداع لايلزم ألا للظلم والغش.فكما قال سليمان الحكيم:”إن الحكمة لا تلج النفس التي تهذ بالشر ،ومعرفة الروح لا تحل في الجسد المغلوب للخطية.(حك4:1). النفس التي تهذ بالشر هي ممتلئة بالمكر، لأن المكر هو الذي يخترع الشر. من يريد أن يخدم الشهوات يسعى لكي مايصير تلميذا للمكر، فهو بتعليمه وبمكائد الإثم التي يظهرها يتفنن في إختفاء أعماله الرديئة ويتغاضى عن الأفعال البغيضة التي يأتيها. أما أولئك الذين قد رفضوا الشهوات وقمعوا الأوجاع البشرية فإنهم يقتلعون أيضا جذورها. ويقطعون ويطرحون عنهم الأسباب التي جعلتها تنمو فيهم.
6- ولأنه لايوجد مكر في السماء، فلا يوجد غش ردىء عند جبرائيل وميكائيل،ولا يوجد رياء أو تدابير رديئة في تلك المواضع الروحانية ليس هناك نفاق في أورشليم المنيرة مدينة الحياة. ولا يوجد هناك من ينغلب للكذب، لأن الكذب لا مكان له في ذلك البلد ، ولا يحتاج الإنسان أن يخفى أعماله البغيضة أو يتحايل لكي يستر مافعله من شر. وكما أن مثل هذه الأمور لاتوجد في بلد الروحانيين، فلا ينبغى أن توجد في موضعنا هذا الذي هو مثال لما هو هناك؛ لأن تدبيرنا هو نفسه تدبير أولئك الكائنات الروحية،ومسكنا هو شبه المنازل السمائية، وعملك الذي من أجله أنت لابس جسدا هو مساو لعمل الكائنات العلوية غير المتجسدين. ومايليق بك هو ماكرز به بولس الرسول : “أعينكم تلرى جسديا لكن خدمتكم كلها روحية تلبس أجسادا، مسكنكم جيد وصاف ونقي ومقدس، وهو صورة مطايقة للمسكن العلوي الذي للكائنات الروحية.
7- كل تدبير تلاميذ الرب يسوع يتضمن البساطة، فغذا تركت البساطة ألم بك القلب والانزعاج البساطة هي لنا عنوان المجد،من يقتنيها حكيم وكما أن الانسان البسيط يعتبر عند الناس مثل ابله هكذا فان الماكر يعتبر عند حكماء ذلك البلد الروحاني مثل أحمق ، لأنه اقتنى في ذلك الموضع شيئا لايناسبه ووجد هناك ماليس له أتبحث عن الأشجار والنباتات وسط أمواج البحر؛ أو تطلب أن ترى الأمواج والأنوار على الأرض الناشفة ؟ كل شيء من هذه الأشياء إنما يطل بفي موضعه وهناك نجده.وهكذا ليس من الللائق أن يوجد المكر في البلد النقي الذي للروحانيين مكان المكر هو العالم لأنه ممتلىء بالشر، وكما أن الغناء لا يناسب الجنازات ولا البكاء حفلات العرس، هكذا إنه من غير الللائق أن يوجد مكر الشر ف بلد البساطة وفي موضع الأرباح الروحية يعتبر المكر خسارة عظيمة لجماعة الروحانيين.
8- لايكن كلامك مع أخيك بغش في أي شيء يلزمك المكر؟ أنت لم تأت الى الدير لكي ماتقتل البار في الخفاء،فما هي فائدةالمكر والخداع لك؟ لماذا تفتخر أيها الجاهل بما أنت مطالب أن تعمله؟ لماذا تتعظم بما يخزيك؟ أتستعلي بما تستحق عليه التوبيخ ؟ لماذا تفتخر بما هو ليس لك؟
أن ماتعلمته من مكر هو من العالم، وبواسطته أنت مدان موجود كل سيئات العالم عندك، لأن الثمار ترتبط بالشجرة الت يتحملها، والمكر هوشجرة الشر،وحيثما توجد تكون معها كافة الشرور وإن كانت فقد لاترى في الأعمال الظاهرة فهي مخفية في الافكار ، لأن المكر هو مرض النفس كما أن البساطة هي صحتها ، هل رايت قط مريضا يفتخر بمرضه، أو معذبا يتباهى بعذاباته ؟
الراهب الماكر ينبغي أن يخجل لأنه وجد فيما لايليق به: فكما أنه أمر مخزي وشائن له أن يتحدث مع إمرأة زانية،هكذا هو أمر معيب إن وجد عنده المكر الذي هو يشبه الزانية لأن المكر هو بداخل النفس يشبه الزانية وسط الساحة وكما أن تلك المرأة تتكلم مع جميع الناس وتتزين بكل نوع لكي مايجدها كل واحد حسبما يشتهي، هكذا أيضا فإن المكر يتراءى بكل نوع يناصب كل النفوس ويظهر بأشكال مستعارة ومزينة لكي مايصير مقبولا عند كل شخص المكر يعمل بعكس ماكتبه الرسول بهذا الخصوص : “صرت للكل كل شيء لكي أريح كل الناس” (اكو22:9)؛فهو (أى المكر) كل شيء للكل لكي يهلك كل الناس ويهزأ منهم ويضحك عليهم. فإذا كان هذا هو عمل المكر، كيف يكون لائقا لتلميذ المسيح وكيف يسمح له أن يجد موضعا عند الرهبان والبسطاء؟
9- تأمل بعين المعرفة وافهم أن سائر الشرور تنشأ من المكر “فالنفاق يكون بواطته، والكذيب يوجد فيه، والافتراء قريب منه ، والاستهزاء صديقه، والخداع وكره، والاغتياب الردىء مسكنه، والغش وعدم الأمانة هما تعليمه، والاختلاس شريكه، والتزييف نصيره،والفسق محاميه، والرياء ثوبه المزدوج، وهو ينصب الفخاخ ويقدم شهادات الزور، وهو ام لكثرة الأكاذيب .وبإختصار فإن كل الخطايا تتخذه مدافعا يدافع عنها ، وبإخفاء بعضها والتماس الاعذار لبقيتها،وهو بمضا عفة الجدال واختلاق الملل يدفع ببطلانها، ويجتهد أن يظهرها بأشكال أخرى ويقول إنه لا موضع لها وأنها لم ترتكب عن قصد، فكل بلاغه الكذب تتجمع عنده.
10- المكر يصاحب القضاة عندما يريدون الخداع،والرؤوساء يستعملونه لكي مايحصلواعلى الرشوة،وهو يرافق المجرمين عند محاكمتهم ، والزوجة التي تريد أن تخدع زوجها تتخذ المكر صديقها وتخرج في طريق الفساد التلاميذ يستخدمونه لكي يكذبوا على معلميهم، والمحامون الذين يترافعون أمام القضاة يثرون أقوالهم به ويصنعون شهرتهم بنفخته المكر ينصب فخاخ الإثم ويثبت الشراك في طرق المسافرين، ويخفى شباك الخداع ويحفر حفر الهلاك المكر يطالب مرة ثانية بسداد ديون قد تم دفعها ، من قبل أن يقترب منه لايقبلل الكذاب التراضي ، فهو مستعد أن يكذب، ولكن المكر هو الذي يعلمه كيف يكذب الإرادة الرديئة تهيء الكذب والمكر يشير عليه كيف يستخدمه ويبدأ في السير معه في الطريق المخالف للحق ، ويدعو المكر قائلا: تعال في صحبتي إثم يمضي في الطريق.
11- المكر هو معلم جميع الشرور والمدافع المستعد تماما لكافة الأعمال البغيضة .إنه يحمل شكل الكل ويترافع ويلتمس الاعذار للكل كأنما المكر يقول للخبث: افعل الشر كما تريد ولتتلذذ جميع أعضائك بالشهوات التي تروق لها، ولتتمتع كافة حواسك بكل ماتحب، ولتكن ثمارك حلوة لمذاقتها،ولتنمو وتنضج استمع بكل ما تشتهيه ولا تحبس عن نفسك شئا ابتهج ولا تغم عينيك : تحرك بالإثم الذي يسرك،واعمل الخطية والشهوة كما يحلو لك وامضي ف يطريق الشر حتى النهاية ولا تخف، كن ماهرا تماما في كل الأعمال البغيضة ولا تتردد. لاترعبك انذارات القوانين، ولا تخيفك تهديديات الدينونة، ولا تفزع من صوت الحكام،ولا تهتم بصراخ الرؤساء إنني -والكلام للمكر- قد جندت نفسي من أجلك ضد الكل ، وأنا أتكفل بالدفاع عنك مقابل كل الذين يتهمونك فمن السهل عندي أن أضفر المدحمع كل أخطائك، وأجعل كل ما يفكر الاخرون في إدانتك به إكليل غلبة لك كل اهتمامي هو بك، وأنا أقضي الليل والنهار متفكرا فيك وفي المحاماة عنك كلما دعت الضرورة أنت أيها الخبث تلذذ بمسراتك، وأنا – المكر- أتعلم فن الخطابة من أجلك سوف أسد أفواه المدعين عليك، وأغلب العدالة التي تتهمك، وأسكت صوت ضمير الذين يحكمون على أخطائك.أنا المكر لسانك أيها الخبث، لقد تهيأت أن أكون لك فما فصيحا، وكل لسان يريد أن يرتفع ضدك أنا أسكته وأدينه هذه هي التشجيعات التي يقدمها المكر للخبث ،الكلام الذي يستحثه به ويدفعه للإثم.
12- المكر هو شر الخبث وقوة الخطية وحياة الحسد في الأعمال البغيضة وإذا لم يوجد المكر ربما يتوقف الخبث خوفا من الحكم والدينونة التي أعدها العدل فالمكر إذا هو أسوأ كافة الشرور، إنه حصن الخطية، فبعد أن يكمت الخبث في الطرق وينهب كل الناس يسرع لكي يحتمي فيه من مداينيه، ويختفى عن أنظار طالبي العدالة الذين يتتبعون أثاره.
13- ها أنت ترى أي شيء تفتخر أيها التلميذ البائس، وبماذا تتباهى أيها الذئب اللابس ثوب الحمل! إن كان المكر فيك فإن كل الاثام هي عندك، وأن كان الخداع في نفسك فكافة الخطايا هي ساكنة فيك وإن كانت حياتك تمضي في مكائد الغش والنفاق، فكل الخبث كامن فيك أعمالك البغيضة لا ترى في الخارج لأن المكر يخيفها، لأنه يعد الذي يصير له تلميذا أن يتستر على خطيته فالمكر إذا لايناسبك، لأنه أم جميع الشرور، والخبث لا يليق بتدبيرك الروحاني، لأنه وكر لكافة المساوئ.
14- أها أنت أيها التلميذ المخلص فافرح ببساطتك التي تسعى بها في طريق البر، ولا تخجل من أن تدعى طفلا فهذا الإسم يوافقك، وهذا اللقب أنت أهل له: فبواسطته تعرف أنك أنقى من كل إثم، لأن إسم الطفل يشهد لنقاوته، وإسم البسيط يعلن أنه لايوجد عنده أي مكر أو خداع فكما أن الصناع في العالم أو الجنود أسماؤهم تعرفنا بصنعتهم أو برتبتهم، هكذا أيضا إسم التلميذ يعرفنا هنا أنه بسيط اجتهد إذا أن تدعى بذات الإسم الذي يدعى به الله ! لان إسم البسيط يعرفنا بمن هو وحيد فريد(غير منقسم).
15- البسيط لاتجد عنده رياء أو نفاق، وهو لاينصب الفخاخ، وليس للكذب عنده مكانا ولا للغش ولا للافتراء وهو لايغتاب رفيقه في السر، ولا يسعى لعمل الشر، ولا يفكر في الإساءة، ولايسلك بخداع من قريبه، ولا يعمل بخبث ضده ويجلس مع أخيه بسلام البسيط إناء مختار نقي، وجيرانه هم أبناء النور ليس شيء من الشرور يوجد عند الطفل في هذا العالم، كم بالأولى لمن كان قلبه بسيطا، فلا شيء عند الطفل من أجل طفولته، ولا شيء عند البسيط لسبب بساطته.
16- في اسم البساطة تجتمع كل الصالحات، كما أنه تحت سم المكر تتجمع كل الشرور البساطة هي حقل مفلوحة تقبل بذار وغروس الفضائل والمكر أرضا مملوءة شوكا وحسكا التي هي الأفكار المتقسمة والباطلة. وكما أن البذرة الجيدة تتوقف عن النمو في حقل مملوء شوكا وحسكا، هكذا أيضا فإن النمو البسيط للإيمان توقف بسبب أفكار المكر المنقسمة وكما أن نمو البذرة الجيدة يكون سليما في أرض نقيت من أصول الأشواك، هكذا أيضا فإن نمو كلمة الحق يزهو في النفس البسيطة، ولأن البساطة لا تفحص.
قول الإيمان ، ولا نبحث لماذا أوصى الله هكذا ، فليس عندها أي انشغال سوى بما طلب منها أن تعمله ، إنها تنصت بإستقامة ، وتقبل بنقاوة وتلاحظ ببساطة . البساطة تتحرك بغير ألم ، وهي لا تنهمك بأفكار تناقض بعضها بعضاً.خدة البر سهلة جداً عندها ، وهي تتقدم بلا معوق في طؤيق أعمالها .
17- لقد علم ربنا تلاميذه نقاوة الأطفال لكي يجعلهم يقتنون البساطة ، لانه رفض الماكرين واختار البسطاء، لقد أبعد عنه المرائين والكتبة وقرب إاليه العاميين والجهال . كان حنان مخادعاً وقيانا ماكراً والفريسيون محتالين والكتبة مزيفين ، ورفضهم ربنا جميعاً .عوض قيافا اختار سمعان ، وعوض حنان اهتار يوحنا ، واندريا بدلاً من الكتبة ومتى بدلاً من الفريسيين ، وفيلبس مكان الحكماء ، وبرثولماوس مكان المخادعين ، ويعقوب بدلاً من الماكرين ، وجماعة البسطاء مكان مجمع المحتالين ، والذين لا يعرفون شيئاً مكان الذين يظنون في أنفسهم كاملون في المعرفة ، لأن الحق يضيء كل حين في البساطة والإيمان يزهو في الطفولة.
18- وبعد أن رفض الرب مجامع الحكماء وجماعات الماكرين والمرائين ، واختار عوضاً عنهم الخطاة والجهال العاميين ،علمهم أن يضيفوا إلى بساطتهم أمراً أخر ولا يكتغون بالوقوف عند الدرجة الأولى من طفولتهم ، فقد دعا إليه ولداً أقامه في وسطهم وقال : “إن لم ترجعوا وتصيروا مثل هذا الولد فلن تدخلوا ملكوت السموات” ( مت 18=3 ). وقد فعل ذلك لأنه رأهم قد ابتعدوا عن روح بساطتهم بسؤالهم عن الكرامة وطلبهم أن يصير الواحد منهم أعظم درجة من الأخرين : والتلاميذ لم يضعوا سؤالاً مثل هذا ، لكنه تولد عندهم من روح ماكر ، وقد أوقفه الرب عند حده وقال لتلاميذه موبخاً إياهم بشدة : إذا كنتم حقاً تلاميذي فكونوا بسطاء ، وإن رغبتم في ملكوت السموات تمثلوا بهذا الولد ، وإن أردتم أن تحظوا بالحياة الأبدية كونوا أنقياء ، وإذا كنتم تطلبون أن تصيروا حكماء في كلمة الحياة امكثوا كما أنتم جهلاء . كبسطاء لست أريدكم أن تصيروا ماكرين ، بل كبسطاء كونوا حكماء. الذي يتحول من البساطة الى المكر ينحدر إلى أسفل، أما الذي ينطلق من الطفولة الى الحكمة فهو يسمو الى فوق ، فالمكر لا يستطيع أن يقبل تعليمي . لقد اخترتكم لكي تصيروا أطفالاً . إن ما رذلته عند الأخرين هو المكر ، فاحترزوا من أن يكون عندكم لئلا أرفضكم بسببه .وليكن هذا الولد مثالاً لكم = فكما أنه لا يرغب في أي شيء من العالم ، ولا يطلب شيئاً من الناس ، لا درجة ولا كرامة ولا غنى ولا سلطاناً ، بل غذاؤه وكساءه فقط ، لان هذا هو ما تحتاجه طفولته ، هكذا أنتم أيضاً كونوا أطفالاً مثله ، أبرياء وبسطاء بشبهه ، لكي تصيروا تلاميذي المختارين ، ولكي ما أجدكم كما اخترتكم . هوناربنا يسوع من خلال وصيته هذه يحثنا على البساطة ويحرضنا على النقاوة وعلى البراءة.
19- لا ينبغي أن نخجل من البساطة أو نرفضها كأنها شيْ من العالم لا يفيدنا . ولا ينبغي أن يكون البسطاء محتقرين في أعيننا ، أو أن نعتبرهم كمن لا يصلحون لشيْ . إنهم غير لازمين للعالم ولكنهم نافعين ولازمين لملكوت الله . فالمرفوض من الناس هو مختار عند الله . والرسل واجهوا الرفض من العالم كله، وربنا يسوع نفسه كان مبغضاً ومرفوضاً عند جميع اليهود . إذا فالذي يرذل البسطاء ويحتقرهم ويزدري بهم لكونهم بسطاء يحسب بحق مع اليهود والكتبة والفريسيين الذين رفضوا المسيح وتلاميذه .
20- انظر أي عقاب يتضمنه قول المسيح عن الذي يعثر البسطاء ، واحترس من أن تعثرهم : ” من أعثر أحد هؤلاء الصغار المؤمنين بي ، فخير له أن يعلق في عنقه حجر الرحي ويغرق في لجة البحر ” (مت 18: 6) . ومع أن هذا القول يفسر بمعاني أخرى ، إلا أنه يؤخذ أيضا بهذا المعنى إنه يجب أن لا يستهزىء المرء بمن يتصف بالبساطة والبراءة. لأنك إذا استهزأت به فإنك إنما تسخر من بساطته وتحتقر هدوءه ، وإذا ازدريت ببراءته واعتبرته مثل عاطل لا منفعة منه ، فإهانتك له بشتائمك سوف تزعجه وتدفعه أن يبطل نقاوته ويتخلى عن بساطته ويتراجع عن طفولته ، وتكون أنت قد صرت له علة وسبباً لذلك . وإذ تتحول الأقوال الصعبة إلى هزء والى اعتباره كأبله وأن وجوده كعدمه كنتيجة لتقريعك المستمر له واستهزائك به فسيقوده ذلك إلى أن يتشكك في تدبيره الأولى ويدفعه إلى أن يتخلى عنه ويتخذ بدلاً منه تدابيراً مضادة لنقاوته = فتجعله يفضل الكلام عن السكوت، وأن يكون ماكراً وليس بسيطاً كما كان من قبل ، وأن يكون مخادعاً وليس أمياً ن غضوباً وعنيفاً بدلاً من وديعاً مسالماً . ولأنك أنت هو الذي أعثرته هكذا ، ولأن استهزائك هو الذي دفعه الى التحول من الصلاح الى الشر ، كان أفضل لك لو علق في عنقك حجر الرحي وأغرقت في أعماق البحر من أن تكون عثرة لأحد هؤلاء الصغار المؤمين بإسم إبن الله .
21- تأمل أيضاً أن ربنا دعاهم صغاراً لانهم أصغر من جميع الناس ، ولكي ما تتعلم أن لا تحتقرهم لكونهم يجتهدون أن يكونوا صغاراً ، ولأنهم من أجل ذلط يكبرون في عينيك . إن منظر البسطاء عادي، فهم أميون ولهم هيئة أدنى الناس ، فإن أراد أحد أن يستهزئ بهم يتخذ من ذلك حجة للاستخفاف بهم . لأنهم لا يفكرون أن يستعرضوا أعمالهم قدام الناس ، أو يظهروا أنفسهم أمام العالم أنهم عارفون وأناس مشهورون . أما أنت فليدفعك ذلك لأن تعظمهم ويحفزك منظرهم الحقير إلى أن تكرمهم ، والاستهزاء الذي يلحقهم يستحثك بالأكثر لكي تمجدهم . فالإيمان الذي يحتفظ بكماله دون أن تفسده أغكار المكر ، هو يمجد ويكرم البساطة ، وهو يحرص عليها ويسندها حتى ولو كانت عادية في مظهرها .
22 – وبإختصار فإن الخبرة نفسها تجعلك تدرك كم يكون البسطاء أعزاء عند المؤمنين ، وكم يكون الأميون والجهلاء من أجل المسيح محبوبين لكل من هو تلميذ للمسيح . ولتدرك ذلك حين ترى حكماء العالم يسرعون الى جهال الايمان، والماكرون والرؤساء ينحون أمام بساطة المسيح . انظر وتأمل عظماء العالم حين يحتضون البسطاء بالحب ، ويوقرون ويعزون الاميين ، فالتلميذ الذي يتراءى لهم الأكثر بساطة يصير عندهم الأعظم كرامة في أعينهم .
23- أطفال العالم لا يأتون الى الأديرة لكي يروا أناساً ماكرين ومرائين . ادفع عينيك ايها التلميذ وأنظر الذين يأتون إليك ويبادرون إلى بابك بالحب : إنهم يسرعون لينظروا أطفالاً روحانيين وليس علماء وحكماء متمهرين في شؤون العالم . لأنهم لو كانوا يريدون رؤية الماكرين والمرائيين المترنين على حكمة هذا الدهر لكانوا يذهبون الى المدن والبلدان ولكن طالما أنهم يخرجون خارج العالم فهو يطلبون أن يروا أطفالاً وبسطاء: أطفال المسيح ! فليتهم لا يجدونك حية بدلاً من حمامة ، وصقراً بدلاً من عصفور ، وليتهم لا يجدون كلامك حكيماً في الشر بدلاً من أن يكون حكيماً في الخير . ليتهم يجدونك كما يتمنون أن يروك ، لأنهم هم أنفسهم قد خلعوا ثوب مكرهم وتسربلوا بالبساطة لكي يأتوا إليك أتريد أنت أن تلبس الثوب الذي خلعوه وتقتني ما قد رذلوه ؟ إنهم لم يحملوا معهم أفكار المكر بل بساطة الإيمان لكي يأتوا إليك . ليتهم لا يجدون في موضع الروحانيين ما تركوه وراءهم في العالم .
24- استمع الى إشعياء النبي وهو يخبر ببساطة تعليم ربنا ، فهو يشبهه بالحمل والنعجة أكثر الحيوانات براءة ” كشاة تساق الى الذبح وكنعجة صامتة أمام جازيها ” ( إش 7:35 ) . الاسد والذئب والدب وبقية الحيوانات المفترسة معروفة بمكرها ودهائها ، لان المكر قد امتزج بطبيعتها الوحشية عندما خلقت ، أما الخراف والنعاج والحملان فهي حيوانات بريئة وساذجة في معيشتها وحركاتها . ولهذا فإن ربنا قد شبه المؤمنين بها ودعاهم بأسمائها . لأن ربنا لم يشبه بأسد حين يسيق الى الموت ، ولم يدع رعاياه بأسماء حيوانات مائلة بطبيعتها للشر، ولكنه دعى حملاً ونعجة ، لأنه احتفظ بصمته مثلها عندما اقتيد الى الصلب والى الموت .” سكت كنعجة أمام جازيها ، وفي تذله لم يفتح فاه”.
25- ولكي يثبت ربنا كلام النبي بالفعل ، حفظ الصمت عندما أحاطوا به ، وسكت عند محاكمتهم له ، ولم يشتك عندما جلدوه ، ولم يناقش عندما أدانوه ، ولم يغضب عندما ربطوه ، ولم يتذمر عندما ضربه اليهود ، ولم يحتج عندما نزعوا عنه ثيابه كنعجة يجزونها ، ولم يلعن عندما أعطوه المر والخل ، ولم يئن عندما سمروه على الخشبة ، وحين أراد سمعان أن يبطل براءة الحمل واخذ السيف لينتقم لسيده ، جعله يرد السيف الى غمده ” رد سيفك الى مكانه ” ( مت 26:52 ) فلست بحاجة الى معونتك وحين وقف أمام الوالي وبدأ يسأله ، لم يحببه السيد ومعلم كل الحكمة : فقد حفظ ناموس البساطة لكي يحقق المكتوب ” سيق الى الذبح مثل حمل ” ( إر 11: 18 )
26- لقد ساقوه وطافوا به من موضع الى موضع ، وقادوه من مكان الى اخر ، واجتذبوه من والي إلى أخر مثل اخرس . سكت أمام حنان ومع أنه استحلفه لم يتكلم سأله بيلاطس أما هو فسكت ، ومع أنه قال له :” هل أنت ملك اليهود ؛ وهو سؤال يفهم منه أنه كان يشتبه فيه كمثير فتنة ضد قيصر – إلا أنه لم يجبه بشيء . أخذوه الى هيرودس الذي طلب أن يرى ويسمع منه أيات ، وترجاه كثيراً ، وهناك أيضاً ظل صامتاً لا يتكلم ولا يجيب سائله بشيء فاحتقره معتبراً إياه كمختل العقل لا يعرف شيئاً وكأبله لا يجيب . كان اليهود والكهنة يفكرون فيما يريدون أن يفعلوا به ، أما هو فلم يتخل عن براءة الحمل ولم يترك عنه ناموس البساطة .
27- والقديس بولس رأى أن الذين صلبوا الرب واعتبروه كمختل العقل ، وأعداؤه حسبوه جاهلاً ومجنوناً ، لانه قال عنهم نيابة عن يسوع : ” إن جهالة الله أكثر حكمة من الناس ” ( اكوا:25 ) .لهذا لا يصعب عليك أن تعتبر في بساطتك كمختل العقل ، بما أن الله تراءى هكذا عندما أمسك عن الإجابة أمام الذين كانوا يسألونه. فقد أعتبر كجاهل لأنه لم يتكلم بشيء لكي ما تحتفظ أنت بثباتك وقوتك ولا تهمل ناموس البساطة إذا اعتبرت أنت ايضاً كمجنون وحسبت كجاهل وبغير معرفة . لأن الذي ينزعج إذا اعتبر بسيطاً ويضعف قلبه ، يسلم نفسه لمحبة العلم الباطل الذي للعالم ، وإن كان يتصرف بخلاف ذلك يتملك على حياته الحزن والكابة .فينبغي أن تحتمل كل شيء أيا كان لكي ما تكمل طريقك .
28- هوذا داود النبي أيضاً قد تراءى للفلسطينيين كمجنون وكما لو كان فقد فقد عقله – بنوع من الحيلة – لكي يخلص نفسه من الموت ، وأخذ يسيل ريقه على لحيته ( اهم 14:21) كما يفعل الرجل المخبول وذلك لكي ينجو من القتل .فإن كان داود قد تظاهر بهيئة إنسان مجنون حتى لا يفقد حياته الزمنية ، كم بالأولى جداً يجب عليك لكي لا تفقد حياتك الأبدية أن تمكث في بساطتك ولا تنغلب لإهانة المستهزئين ، ولا تتحول عن الهدف الذي تنشده .
29 – وربنا ايضاً دعا المؤمنين من رعيته بأسماء تعرفنا بالبساطة : فقد قال لسمعان : إن كنت تحبني ارع خرافي وغنمي وحملاني ” ( يو 21 17:15 ) ، فكما أن كلمة النبوة قد رعته – بأسلوب رمزي – نعجة وحملاً، ودعاه يوحنا ” حمل الله ” ، هكذا هو ايضاً دعاه تلاميذه في كلا بأسماء تفيد معنى البراءة لكي ما حين يسمع كافة المؤمنين الأسماء التي دعاهم بها يدفعهم ذلك الى الثبوت في البراءة كالحملان والنعاج والخراف ، فلا يتركوا عنهم ناموس البساطة .
30- وكما أنف هذه الحيوانات البريئة لا تصرخ ولا تتذمر عندما تساق للذبح ، أو عندما تقيد للجز ، أو عندما تضفطها الحيوانات الأخرى ، لكنها تبقى في هدوئها وبساطة طبيعتها ، هكذا أيضاً فإن تلميذ الرب عندما يتعرض لكافة التجارب من الأفعال والأقوال والأحزان والشتائم والقيود والإتهامات والمظالم والسجون والغضب وشهادات الزور ، ينبغي عليه أن يظل محتفظاً ببراءة قلبه ، ولا يترك عنه تدبير سكوته، ولا يتخلى عن وداعته ، ولا يبتعد عن بساطته ، ولا يعود ليستعمل التحايل ويدبر الشر لأعدائه ، لأن مكائد الخبث وخداع الإثم هي من أعمال الأعداء ، وهم يشتغلون بها كل عمرهم . أما أنت فلك عمل خفي يفوق إدراكهم ، لأن نقاوة قلبك وحدها هي التي تقدر أن تعمله بكل إتقان ، وهو الذي يملأك بالبهجة سراً ، وهذه البهجة لا يشعرون هم بها لأنهم لم يؤهلوا لمذاقة هذه التعزيات.
31- البساطة هي بلاهم ولهذا فهي دائماً في فرح ، لأنه كما أن فرح الأطفال دائم ، وهم غالباً ما يضحكون من أجل بساطتهم ، ذلك لأن هموم العالم لا توقف الفرح الذي جبلت عليه نفوسهم ، هكذا أيضاً فإن الفرح يسكن دائماً في القلب البسيط ، ولا يمكن أن يمتلئ بالحزن إذا لم يعرض هو نفسه له . وبالعكس فإن من يريد أن يصنع الشر لعدوه ولايقدر على ذلك ، أو يبذل قصارى جهده لكي يحرز غنى ولا يغتنى ، أو يسعى لكي يقتني معرفة ويجد نفسه عاجزاً عن ذلك .فهذا الشخص يتملك الحزن والكأبة على نفسه ويرفع منه الفرح الذي يتولد من البساطة .
32- قد يبدو للعالم كأن الإنسان البسيط غير نافع لشيء، لا تغنم أيها التلميذ إذا فيل عنك أنك غير نافع . إنه لفخر للمسيحي أن لا يكون متمهراً في أمور العالم ، وأن لا يعرف أن يعمل شيئاً بالجسد ، وإن قال لك أحد: إنك لا تعرف صنعة النجارة ، أو أنك لا تجيد صنعة الإسكافي أو أي صنعة أخرى من صناعات العالم العادية، فليس هذا مدعاة للإستهزاء بك ، لأنه لا يعيب الملك أن لا يعرف أيه صنعة ، بل إن ما يعيبه ان ينحدر لكي ما يتعلم صنعة ما ، لأن سلطانه أسمى من ذلك ، وعظمته هي أن يكون بدون صنعة ، وما يشينه هو أن يسعى ليتعلم ذلك . كثيرون ممن يشغلون مراتب عالية في العالم يعرفون صناعات وأموراً أخرى أقل من درجتهم في الكرامة ، ولكنهم ينكرون معرفتهم لها ، ويعتبرون جهلهم بها مجداً ، ويتباهون بأنهم لا يعرفون صناعة ما ، هكذا ايضاً بالنسبة لتلميذ المسيح ، فإن مجده هو في كونه يجهل أمور العالم ، ومدحه يكون في عدم سلوكه بمكر أو برياء ، وشهرته هي عدم معرفته مكائد الشر ، وما يشينه حقاً هو معرفته لها.
33- إن ما يستوجب اللوم بالأكثر بالنسبة لتلميذ كتب إسمه في المملكة العليا هو أن يعرف أموراً غريبة عن سيرته وبعيدة عن تدبير تلمذته ، بل إن ذلك يعيبه أكثر مما يعيب أي ملك في العالم أن يعرف صنعة من صنائع العالم .ألا تكون حياة التلميذ بعيدة عن الانشغال بالحديث مع الله حيث ينصرف اهتمامه الى التدرب على هذه الامور الحقيرة والى ممارسة كل ما يخص الجسد والتفكير في عمل الشر وايذاء اعدائه ، وكيف يغتني ويقتني الممتلكات ، وكيف يتكلم أو يستمع الى الكلام ضذ الذين يظلمونه ، واين يجد المكاسب وكيف يحصل عليها ؟ إن حديث الانسان البسيط مع الله لا يسمح له بالتحول الى هذه الاشياء والاهتمام بها ، وهو لا ينحدر من علو معرفة المسيح الى اعمال ومشاغل هذه الاوجاع السقيمة التي تسبب المرض للأفكار التي تهذ فيها. لذلك فإنه ليس من اللائق للنفس البسيطة التي وضع فيها الايمان بالمسيح أن تنشغل من جديد بأعمال الجسد هذه ، وترتبك بخداع الفساد .
34- اذا ، لا تعتبر ذلك معيباً لك أن تجهل حيل العالم ، بل إنما هي كرامة فائقة أن تكون أكثر سمواً وأعظم رفعة باقتناء أمثلة الروحانيين من أن تكون كذلك في الامور التي تخص الجسد ، لأن الروحانيين لا توجد عندهم اختراعات الحيل التي تصلح لأمور العالم .لانه اذا كان تدبيرهم أكثر رفعة من كل تدبير جسدان ، فمن المؤكد أن نفوسهم هي أكثر سمواً عن هذه الاوجاع . إن كل أحاديثهم هي عن عجائب الله لكي ما يزداودا في المعرفية الروحية ، وفي ما هو أكثر كلواً من معرفتهم ، ولكي لا ينحدروا الى الاهتمام بما هو أدنى منهم، لأنهم لا يريدون أن يتزلوا ع درجاتهم بل أن يرتفعوا ويتقدموا كل حين في معرفة أسرار الله . إذا ، فعلى مثال هذه القوات ينبغي أن تكون النفوس التي لا تهذ بالأمور الارضية .فدرجة الروحانيين هي في عم الاهتام الا بما هو فوق العالم ، وعدم السماح لأفكارهم بإلتماس أو تعلم ما هو غريب عن تدبيرهم .
35- كما أن كل صنعة تحتاج الى تدريب خاص يختلف عن الاخرى ، والذي يتدرب عليها يجتهد في تعلمها في مكان التدريب الخاص بها دون غيرها ، هكذا أيضاً فإن كل درس التلميذ وحديثه ينحصر في أمور صنعته ، و لا يسمح لأي شي أخر أن يعطل إنشغال أفكاره بها أما صنعتنا نحن فهي أن نتعلم الامور الروحية ، وأن نضع أفكارنا وأعمالنا فوق العالم ، وأن نتقدم كل حين في الطريق الروحي والمتدرب الذي لا يسرع الى موضع التدريب لكي يتعلم صنعته يلام من معلميه ، ويستهزئ به رفقاؤه ويسخرون منه ، ومثله بل وأكثر منه الذي يريد أن يتدرب على الصنعة الروحية يستحق أن يلام إذا لم يتقدم يوماً بعد يوم ، ولم يجتهد في أتعاب الجسد وفي أفكار النفس النفس .لأن الضرر بالنسبة كما هو بالنسبة للاخر واضح ومؤكد: فالذي لا يتقبل تعليم صنعة العالم يحرم من مكاسبها والذي لا يتقبل تعليم المسيح وينمو في الصلاح يفقد ملكوت السموات والمسرات المعدة والمحفوظة لمختاري الله : ” ما لم ترعين ولم تسمع اذن ولم يخطر على بال إنسان ” ( اكو9:2 ) ، وشركة القديسين مع المسيح التي من أجلها نزل المسيح من السموات الى الارض وبإختصار ، فإنه يفقد نفسه مع بقية الخيرات الفائقة الطبيعة .
36- والنفس التي تستطيع أن تتقبل هذه الخيرات هي النفس البسيطة النقية .وكما أن نفس الطفل هي اكثر نقاوة وأكثر استعداداً من الرجل في تقبل تعليم كل شيء ، هكذا ايضاً فإن النفس البسيطة تقتني سهولة في تعلم الأمور الروحية أكثر من النفوس الماكرة والمخادعة فالبساطة هي أرض جيدة تتقبل بسهولة بذار وغروس هذا التعليم .وكما أنه يوجد نوع من التربة من طبيعتها أن تجود فيها النباتات والاشجار وتعطي أثماراً بأكثر سهولة عن الاراضي الاخرى ، هكذا أيضاً تربة أفكار البسطاء تتقبل بسهولة غروس التعليم الروحي وتأتي بثمار جيدة ، أما أرض المكر فهي أرض جدباء بالنسبة لذلك التعليم ، سواء لأنها لا تتقبلها كلها ، أو لأنها إذا ما تقبلتها يتعوق نموها بواسطة أشواك وزوان الشكوك ، وبسبب الأفكار التي تبنى وتهدم كل حين وتضاد الايمان والبساطة .
37- افرح اذا أيها التلميذ ببساطتك ، فهي لا تجعلك محبوباً فقط عند الله ، بل وتجعلك أيضاً محبوباً عند الناس أنظر وتأمل بالخبرة – إن كنت حقاً تشتاق إليها – كيف أن البسطاء محبوبون في نظر الناس أكثر من الماكرين والمنافقين .جميع الناس يحبون البساطة كما أن الكل يحبون الطفولة فالبسطاء والاطفال هم محبوبون على السواء أما المكر والخبث فهما مكروهان عند جميع الناس ، والكل يحترسون منهما لأنهما مملوءان من الرياء والنفاق ، ولانه من عاداتهما أن يقلبا نظام كل شيء .أما البساطة فإلى جانب أنها محبوبة فهي ايضا ملجأ أمين فلا أحد يحذر من البسيط فيما يفعله ، لأنه مقتنع أن نقاوته لا تعمل الشر ، وكنا أنه لا يوجد أحد يحترس من طفل إذا ما أراد أن يرتكب خطية سراً في أحد البيوت ، لأن طفولته لا تجعله قادراً أن يعرف خطيته ، هكذا ايضاً فإن أحد لا يحترس بالأكثر من إنسان بسيط فيما يريد أن يفعله ، لأنه يمائل الطفل في أفكاره .
38- من هو الذي لا يريد أن يكون محبوباً لله ومكرماً عند الناس ؟ هذان الأمران يوجدان في البساطة.فلماذا إذا تتحاشى أيها التلميذ أن تصير مقبولاً أمام الله ومكرماً عند الناس ، وأن تجد – دون تعب أو مشقة – محبة مجانية من جهة الخالق ومن جهة المخلوق معاً ؟ قد تقول : ولكنهم يهزأون بي ويعتبرونني جاهلاً وابلهاً ولا فهم أو تمييز يا هذا ! أي انسان صالح ليس له خصوم ؟ أيها التلميذ، إذا كنت تخاف من مقاومي الصلاح فهل يمكنك أن تقتني أية فضيلة ؟ فكل خير له خصومه وكل عمل صالح يمتزج به التعب ، إلى جانب أنه ايضاً يثير الغيرة والحسد .بيد أن صلاح البساطة هو بريء من كل شر ، وهو بالأكثر في مأمن من الخصوم: فلا الحسد ولا الغيرة تدوم مقابله ، ولاالبغضة ولا العداوة تصارع ضده . وإن كانت البساطة قد تحتقر قليلاً، إلا إنها دائماً محبوبة ، والذين يحتقرون البسيط هم أنفسهم يحبونه ، لأنهم لا يحتقرونه عن بغضة بل عن عجب، أو لأنه غير نافع فيما هو لازم لهم . وهم يعتبرونه كناقص الفهم بالنسبة لأمور العالم ، وكضعيف بالنسبة لأعمال الناس ، وكجاهل بالنسبة للمكر والشر.
39- يليق بك اذا أن تفرح ، لأنهم ينظرون إليك بالصفة التي دعيت بها ، وبما يجب أن تكون عليه ( أي البساطة) وإن كان أحد يقول لك : إنك لا تعرف أن تكذب أو تغش أو تسرق ، أتعتبر ذلك مسبة لك ؟ وإن قال لك أحد إنك لا تعرف أن تضبط العرة حتى تصير سائقاً ، أو إنك لا تعرف صنعة المصارعة ، أو إنك لا تعرف الغناء ولا فنون الرقص ، أو إنك لا تقدر أن تضحك وتهزل وتلعب أدوار الممثلين ، فلا أعتقد أنك تعتبر جهلك بهذه الامور مشيناً لك . وكما أنه ليس هناك أحد من الناس يلومك لكونك غريباً عن معرفة هذه الحرف كذلك لا يعتبرك احد مخطئاً لبعدك عن الغش والشر وغريباً عن سائر الأعمال البغيضة . لان داود النبي يقول إنه قد التصق بالأبرياء والصديقين ، وهو واثق من أن البراءة تولد من البساطة.
40- ولنتكلم الان عن النقاوة الروحية التي تقتنيها النفس بإقتلاع كافة الاوجاع .بساطة الطبيعة شيء، ودرجة النقاوة شيء اخر. فالبساطة هي بدء طريق تعليم المسيح ، والنقاوة الروحية هي بدء طريق البر ، والذي يبدأ بالبساطة يكمل يبالنقاوة ، مثل الرسل المطوبين الذين كانوا بسطاء في البداية عندما تم اختيارهم ، وصاروا أنقياء عند نهاية تدبير الكلمة المتجسد ( على الأرض ) بعد أن قبلوا الروح القدس.
41- البساطة تتعب وتجاهد وتصارع ضد سائر الحركات البغيضة ، لكي ما تفصل الانسان وتحمله من قيود الشر وتبعدها عنه. ومتى تنظفت منها حينئذ يستقر فيها النقاوة وصفاء الافكار وغروس الحركات الروحية التي هي أعلى من كل نفاق . البساطة هي أن لا يتحرك الانسان طبيعيا بالأفكار المقلقة ، ولكن لا تكون هي التي قد طردتها بدخولها أو غلبتها بالقتال مقابلها أو اضطرتها للخروج بواسطة الحكمة وطرحتها خارج الموضع النقي لأن هذا هو عمل النقاوة .
42- البساطة هي بداية الطريق ، وهي أرض خالية من الأشواك ومهيأة لقبول البذار الجيدة . اقتلاع الأشواك وإبادة الأعشاب وتنقية الارض وإعدادها وتجهيزها لكي ما تصلح لقبول البذار الجيدة والغروس الجميلة ، هذا شيْ وشيْ أخر هو الحقل المزروع وقد بلغت أثماره النضج ، تحرس غلته وعند الحصاد تجمع في الأهداء . النقاوة هي الارض التي تم زراعتها وأعطت أثماراً للجمع لأنه جاء أوان نضجها، والبساطة هي الحقل المفلوح الذي نظف من الاشواك وصار معداً للزرع وصالحاً لقبول كل ما يلقى فيه . أما المكر والغش فهو ارض مملوءة شوكاً وقرطباً وزواناً ، إن وقع فيها زرع صالح خنقته وأوقفت نموه.
43- كن أنت يا تلميذ حقلاً مفلحاً ومهيئأً ليسوع ، لكي يلقى فيك زرع كلمته الصالح ، ويغرس في نفسك غرس تعليمه الجديد . إن كانت لك بساطة من الطيع ، فافرح بها واجتهد أن تزيدها وتنميها ، وإن لم تكن لك من الزرع الطبيعي ، اسرع في اقتنائها بإرادتك ، ومتى وجدتها صارت نافعة لحياتك في الله .
44- البساطة تعطيك أن تعيش حياة الثقة وعدم الخوف وسط الظلمة التي تجوزها لأن البسيط لا يفكر أن يعمل شراً لأي انسان ، ولا يخاف من إساءات الاخرين له . فلأنه هو نفسه لا يتفنن في عمل الشر ، فهو لا يتصور أن الاخرين يعملونه له فالبساطة تظن أن كل الناس يتشبهون بها ، وأن الكل مثلها ، وأن كل أحد من جانبه يسلك بحسب ما هو لها : إنها ترى وتلاحظ وتعتبر كل الناس كما ترى هي نفسها ولأنها بغير رياء فهي تعتقد أن الاخرين هم ايضاً هكذا ، ومع أنهم هم أنفسهم يكونون منقسمين ومختلفين بالنسبة لإساءاتهم، فهم جميعاً لهم روح واحدة ولهذا فهى تمكث دائماً بغير عواصف، فالأمواج والأعاصير لأتقوم عندها لتقلق نقاوتها، لأن ريح المكر التي تثير أمواج الشك لا تهب عندها، فكما أن الأنوار التي تعلو على البحر تنجم عن هبوب الريح التي تلاطم سطحه، هكذا أيضاً فإن أفكار المكر المضطرية تتولد منه، ويرتفع فكر الأعمال البغيضة في داخلها من هبوب ريح الغش والخداع التي تضرب داخله، أما نفس البسيط فهي مكان هادئ لا توجد به أنوار. وكما أنه بدون الرياح تترك الأمواج البحر هادئاً، هكذا أيضاً تبقى النفس في هدوء متحررة من أمواج الخوف.
45- البساطة ميناء تحتمي فيه السفن التي تهرب من أنواء المكر، وكل من يلجأ إليه يسكن فى هدوء. فكل اضطراب يتجول الى راحة، لأن البسيط ليس هو بسيطاً وحده ، لكنه هو بدوره أيضاً يغير كل من يلجأ اليه. ولأن الطاعة مرتبطة بالبساطة، فهي لا تفحص ما تومر به ولا تجادل من يأمرها مسكنها يبهج جيرانها، والذين يتعرفون عليها يفرحون بها. ليست هناك أية مشارة في جوارها ولا جدال في ربوعها ولا مناقشة في رفقتها ولا تغصب في طاعتها ولا اعتراض على ما تؤمر به. جميع الناس ينجذبون إليها، وكثيرون يختارونها كنصيب ميراثهم، والذي يحصل عليها يعتبرها أعظم نصيب. ولأن كل معرفتها هي من أجل الخبز وليس للشر، فهي تبذل كل جهدها في إرضاء الذين يأمرونها ولا تفكر في مخالفة إرادتهم. ولذلك فالبساطة لائقة جداً لتدبير سيرة الرهبان، والبراءة للذين في حياة النسك، والنقاوة للذين في سيرة التوحد، واللطف يتفق مع العفة والطهارة مع الزهد.
46- لقد أدهش الرسل رؤساء كهنة اليهود، لأنهم مع كونهم عامين وعديمي المعرفة، أجابوهم عن الحياه العتيدة كعارفين ومتعلمين. لقد دافعوا عن المسيح بجهالتهم، لان المسيح قد اتخذ غير المتعلمين كمافعين يتكلمون نيابة عنه، لكى ما يعلن بواسطتهم مسبقاً نصره حكيمة، ولكي ما يعرف كل الناس أنهم لم يكونوا هم المتكلمين بل هو الذي كان يتكلم بواسطتهم: “ووجدوا أنهما كانا إنسانان عديم العلم وعاميان، و عرفوهما أنهما كانا مع يسوع فتعجبوا” (أ ع 13:4). وهو أيضاً أمر يدعو للتعجب أن البساطة تحقظ الوصايا، وأمر مدهش حقاً أن يعمل الجهلاء ما لم يعلمه الحكماء. فلو أن رؤساء الكهنة كانوا يعلمون من قبل أن الرسل كانوا متعلمين وكانوا يتكلمون عن معرفة، كما كانوا قد اندهشوا جداً منهم، لأن ما سمععوه منهم كان يتفق مع علمهم، ولكنهم تعجبوا لأنهم سمعوهم يتكلمون بأمور لم يتعلموها من قبل، وأجابوا يما يفوق قدر جميع الحكماء. وهكذا انتصر يسوع بواسطة بساطتهم، واستعلنت حكمتة أمام جميع الناس.
47- وربنا أيضاً اختار البسطاء ورفض الحكماء والعارفين لكي يعلم من يريد أن يكون تلميذاً له، أن يتخذ البساطة بداية له، وهكذا يتقدم بواستطها نحوه، وليس لأن المكر يعتبر عند الناس أنه حكمة فنسعى اليه، أو لأن البساطة محتقره بين الناس فترفض ان نقتنيها لأنه هوذا قد أظهرلنا باختياره أمرين: فقد اختار الخطاه كما اختار ايضاً العشارين: أي انه اختار الجهلاء والظالمين، وعديمي المعرفة والأشرار، ماهو مخالف للمعرفة وماهو مخالف للبر، لأن هذه هي الحال التي كان عليها الخطاه والعشارون: فالخاطئ محروم من المعرفة والعشار قد عدم البر. ولما أقتنوا هذين الأمرين اللذين كانوا غرباء عنهما هكذا أظهر ربنا يسوع للعالم كله أنه هو الذي يعطي الحكمة ويهب البر. كان متى وزكا يقتنيان عوائد هذا العالم عندما إقتربا من المسيح، ومع ذلك معندما صارا مختارين أصبحا بسطاء. وطاعتهما تشهد ببساطتهما. لأن المسيح لم يجعلهما يأتيان لتقبل تعاليمه. ولم يعطهما السلطة على كنوز معرفته، قبل أن يتخليا عن شكل هذا العالم ويصيرا متغربين عن المكر البشرى الذي كان عندهما، يدركا درجة بساطة الخطاه.
48- وفضلاً عن ذلك فإن يسوع يطلب البساطة من الكل، ويدعو الجميع الى التشبه بالأطفال، وقد قال ذلك لتلاميذه، كما نهى الآخرين عن إستخدام المكر. فقد علم البسطاء أن يثبتوا في بساطتهم، أما الذين تعاظموا في معرفة المكر، فقد دعاهم أن يتعروا من ذلك الثوب الدنس، لكي ما يبدأ الجميع في السير في طريق الصلاح على درب واحد خطوة بخطوة معاً: سمعان و يعقوب ويوحنا الذين كانوا خالين من المكر لأنهم كانوا أبناء البساطة، ومتى وزكا وفيلبس والآخرين الذين شبوا في العالم وتربوا في حضن المكر، فقد جعلهم يولدون من المكر الى الطفولة، وألبسهم أقمطة البساطة، وبعد ذلك جعلهم ينمون الى قامة تعليمه ويحضرهم الى درجة الرجولة الروحية. فإذا كانت البساطة ترى بهذه الدرجة من السموعند الرسل، فكيف لا تليق بالأولى أن توجد عندنا، وكيف لا تكون محبوبة في وسط جماعات الرهبات حيث تتطلبها خدمتنا، وحيث ينبغي أن يراها عندنا كل الذين يأتون ليروننا؟
49- التلميذ الماكر إذا لا يكون صالحاً في أي شئ فهو مثال ردئ لجميع التلاميذ رفاقه، يعلم الشر وليس الخير، وهو صورة للخسارات وليس مثالاً للأرباح. أنه يعلم الا نطيع، ويظهر أنه ليس طيعاً للتعليم. أنه ينساق وراء الأباطيل ويتكلم بأمور فارغة. ينغزل شارداً عن إضطرار ويقاد بالقوة الى حيث ما لا يريد، يعمل بتذمر كثير، كأجير كسول لا يمكنه أن يربح خبز يومه، يترك المكان النافع له ويمتنع عن القيام بعمله، هو حجر عثرة للساعين في الطريق، يشير الى طريق مضلة، ويدفع المتقدمين في الطريق الصالح الى طريق ردئ، ويعرج الطريق أمام الذين يسيرون في سبيل مستقيم، وهو دائما يتوقع سقوط الأمطار.
50- التلميذ الماكر يتطلع الى السلطة، ويصاحب الأغنياء ويقتني دالة عند العظماء ويرافق المتنعمين، يصوم مضطراً ويمتنع عن الأكل يقوة القانون، ويتعب بغير منفعة. هو تلميذ حسب المظهر وليس حسب الباطن، يربى الرياء ونفسه تسر بالشر ولسانه بالاستهزاء، متعجرف ومتسامخ ومعجب بنفسه وضد لكل استقامة. منظر ممتلئ صوراً كثيرة معثره. وجسد مركب من أعضاء متضادة، يلوم كل شئ ويتهم على كل عمل وينتقم من الذي لا يعتبره، بطئ بإتجاه الخير وسريع الخطى نحو الشر، وليد النوم، ابن الغفلة، عدو السهر، مبغض الصلاه، رفيق المائدة المجهزة، جليس المآدب، يتطلع الى التسليات، وهو يد ممدودة لمفترى وذراع خفيفة للعدو. هذه الأمور وما أشبهها هي التي توجد عند التلميذ الماكر وهي مجرى كل مخازية. وينبغي أن يحتقره كل الناس لكي ما يتبكت شره وخبثة بواسطة تحقيرهم له.
51- هو شع بنى الله يوبخ الذين هم أطفال في الخير وحكماء في الشر قائلاً: ” صار أفرايم كحمامة رعناء بلا قلب، يدعون مصر يمضون الى أشور … وهم لا يرجعون الى في طريق التوبة” (هو 11،10:7) . والنبي هنا يوجه اللوم الى الأطفال الذين من هذا النوع لأنهم لا يقتنون البساطة بل الحماقة. وهذه هي حماقة طفولتهم تجاه الخير: فهم عوض الإله الواحد اختاروا لأنفسهم آخرين لمعونتهم، تركوا الطريق الذي يقودهم الى الله وأسرعوا الى المصريين والأشوريين يطلبون منهم أن يأتوا لنجدتهم، ومع أنهم كانوا قد إختبروا عده مرات أنهم لا يقدرون أن يخلصوهم من الشر الذي كانوا فيه. إلا أن الخبرة لم تعلمهم الحكمة، ولم يدفعهم الى الرجوع الى حمى الله. وقد شبههم النبي أيضاً هنا بالحمام، لأن الآخرين يأخدون أطفالهم ويصيرونهم عبيداً للأخرين، وأعتبرهم بلا قلب لأنهم لم يقتنوا التمييز الذي بواسطته يرجعون الى الله.
وسليمان أيضاً يوبخ في كلامه الإنسان الذي يذهب وراء شهوته مثل طفل ومفتقر الى المعرفة التي يقابل بها ذد أوجاعه، ويقول: إنه يذهب وراءها مثل طفل وكثور الى الذبح وكالكلب الى من يقيده وكالغزال حتى يشق سهم كبده. (أمثال 22:7).
52- ومثل هذه الطفولة تستحق التوبيخ، لأنها لم تخدم الخير بل الشر، وليس من الصواب أن تدعى بإسم الطفولة حتى ولو أطلق الكتاب عليها هذا الإسم بخلاف الهدف الذي تتجه إليه، بل يجب أن تدعى حماقة وفقدان العقل والأفتقار الى التمييز وهلاك محتم. إننا لسنا نوصى بهذة البساطة التي ترضخ لكل ما يقال عن جهل، وتنقاد الى خداع كافة المعتقدات. والرسول أيضاً يحثنا أن نحترش منها اذا يقول: ” لا تكونوا أطفالاً مضطربين ومحمولين بكل ريح تعليم بحيلة الناس بمكر الى مكيدة الضلال” (أف 14:4). وقد وصف الرسول هذه النفس بالحماقة، لأن كل الآراء والمعتقدات تقودها وتبذل استقامتها بتدابير بسيطه وسيرة ونسة. لكننا نوصي بإقتناء البساطة التي كل إنشغالها هو في الخير.
53- فلنتأمل إذا بساطة جميع المؤمنين و نرى طفولة تلاميذ المسيح، فهم لم ينساقوا وراء خداع ومكر الهراطقة ولم يعرفوا مرارة تعليمهم الردئ، بل تجنبوا الاشتراك معهم وتمسكوا بالحق دون تغيير لسبب حكمة بساطتهم ومن أجل مخافة الله التي التصقت ببساطتهم. وهم لم يتبعوا كثرة أفكار المعتقدات الأخرى. فقد كانوا واسخين في تعليم إيمانهم، وكمثل الطفل الذي لا يعرف إلا معلماً واحداً، ولا يخاف غيره، ولا يرتعد إلا من أمره، ولا يرهب إلا عصاته، ولا يقبل من معلمين آخرين سواه، هكذا أيضاً فإن المؤمن هو مثل الطفل في العالم، مخافته تنحصر فقط في المعلم الوحيد وفي المربي الوحيد، وإذا أراد أي معلم آخر أن يعطيه تعليماً آخر فهو لا يقبله لأن طفولته هي من نقاوة طبيعتها وليست تحت ضلالة فساد الأفكار.
54- فلنسلك إذاً كتلاميذ المسيح في الطريق الذي أرانا إياه ونسير في السبيل الذي مهده لنا. وليكن هذا الأمر شرفاً عظيماً في إعيننا أن نكون بسطاء وأن نصير أطفالاً واولاداً صغاراً لكي نتقبل التعليم الحسن. فلنصر حكماء كالحيات مقابل العدو الذي يتحايل لإيذائنا. ولنذكر أنفسنا دائماً بما قاله المسيح ربنا لتلاميذه: طإن كل من لا يقبل ملكوت الله مثل ولد فلن يدخله” (مت 3:18)، لكي ما نؤمل جميعاً له بنعمته، ونصير وارثين مع جميع القديسين برأفة المسيح إلهنا الذي له المجد الى الدهور. آمين يكون.
نهاية المقالة الثانية عن البساطة
المقالة السادسة
عن مخافة الله ، ويبين فيها أنه بعد أن يولد الإيمان
من البساطة الطبيعية ، يضع الله مخافته في الأنسان . وكيف تتولد هذه المخافة ، وبأي شئ تتقوى وتترسخ فينا .
- نتقدم الآن بضمير خائف من الله لنتكلم عن مخافة الله ، ونستمد من الكلمة منفعة شخصية لنا وربما لنفوس الآخرين ، بقدر ما نحصل منها على القوة ، وبقدر ما نستطيع ، أي كما تعطينا نعمة الله ، لأننا لسنا نكتب لكي نظهر أنفسنا كعارفين ، ولكننا نتكلم لأننا نود أن نقدم ما قد ربحناه للأخرين ، وليس لأن كثيرين تكلموا وكتبوا قبلنا نحتفظ نحن بالصمت فلا نتكلم ، لأن الذين تكلوا قبلنا تكلموا وكتبوا كمعلمين ، أما نحن فكتلاميذ لهم نردد من بعدهم ما علموا به ، فكما أن الطفل الذي يتلقى درساً تجده يردد بلا توقف التعليم الذي قبله من معلمهع لكي لا ينساه ، هكذا نحن أيضا نردد ما قد سمعناه لكي نتذكره ، ولكي ما نحفظ أفكارنا من الطياشة في أمور باطلة وغير نافعة .
- لأنه إذا لم ينضبط الفكر بتأمل مخافة الله ، فإنه حتماً سيطيش خارجاً عنه وينشغل في موضوع خارج عن معونة الله ، فكما أنه إذا انشغل في الخير فإنه يسكن في نور تذكار الله ، هكذا أيضاً فإنه إذا ما انحل وانشغل بأفكار باطلة وفارغة فإن كل عمله يكون في الظلمة . والذي يسلك في الظلمة فهو لا يرى ولا يُرى ، لا يُلاحظ ولا يلاحظه أحد ، لا يعرف ولا يُعرف ، ولكنه يكون محروماً من
( رؤية ) جمال منظر المخلوقات ، وجميع الأعين ايضاً يمتنع عليها رؤيته ، كما إنه لا يميز طريقه ، ولا يعرف سبيله بل ولا يبصر مسار خطواتة.
- فلكي لا يحصل لنا هذا ، فلنشغل أنفسنا بلا انقطاع في الهذيذ بكلمة الله ، ليس بتحريك اللسان فقط في تلاوتها وترديدها ، بل بهذيذ القلب والتأمل الداخلي ، لكي ما يتكلم الفم من فضله القلب ، لأن اللسان ينطق خارجياً بما يهذبة الفكر سرياً ، فإذا توقف عن الكلام يمكر رغم انتباهه ، فإن سر القلب سوف تكشفه ملامح وحركات بقية الحواس ، ومنظره يُظهر من خلال تغيراته تعبير الفكر الذي يستتر داخل النفس .
- إن الذي يرتوي من التعليم الإلهي دائماً يعطى كل حين من نفسه – مثل شجرة مثمرة – أثماراً إلهيه ، إذا لم يكن إستماعه لكلام التعليم على سبيل العادة فقط ، وإذا لم يكن من أجل ما يجده من متعة في سماع كلام اله ، وإذا كان لا يتقبله كنوع من المعرفة البشرية ، وإذا كان لا يتخذه وسيلة للمجد الباطل.
- التعليم الذي يعطى بمعرفة ويسمع بتييز يثمر ثماراً روحية له جانبين : الواحد بالنسبة للسان الذي يزرعه ، والآخر بالنسبة لأذن الذي يتقبله . لأنه بالفرح يتكلم اللسان وبالبهجة تسمع الأذن كلام الله، هذا إذا كان الذي يعلم على الأقل معلماً حقيقياً وليس فاقد لتعليم الاخرين ، لأنه كما أن الممارسة المستمرة لصنعة ما تزيد معرفة المرء بها ، وتدرب كل الحواس على عملها ، هكذا أيضاً فإن التأمل الدائم في كلمة التعليم ينبه الأفكار للمعرفة ويحرك اللسان للكلام عنها ويربط الذهن بالتفكير في الله.
- ومخافة الله تنمو ايضاً عند من يفكر في الله كل حين ويتذكره دائماً في أعماق نفسة ، وتصير الله سوراً يحفظة من جميع الشرور . فكما أن سور المدينة يحمى سكانها من هجمات الأعداء ، هكذا أيضاً فإن مخافة الله تحمي الانسان من السالبين ومن أعداء نفوسنا ، وهي تمنع الجسد من التعبد للشهوات وتصون النفس الأفكار السمجة . لأن الذي يعتاد على المخافة الحقيقة لله ، لا يحفظ جسده فقط من الشهوا بل وأيضاً يحفظ قلبه من الحركات البغيضة .
6 – أ – ما هي مخافة الله ، وفي أية درجة يقوم الانسان الذي يخاف الله ، وكيف تقتنى هذه المخافة، وبأية الوسائل تنمو : هذا هو ما سوف نبينه كما تسلمناه من الذين وجهوا أنظارهم من قبل إلى معرفتها ، ومن خدام كلمة التعليم .
- لقد علمونا أن مخافة الله الحقيقة تولد من الايمان الحقيقي . فالذي يؤمن حقاً ، يخاف بحق ممن يؤمن به . وكما انه يؤمن دون فحص ، هكذا فأنه ايضاً يخاف تلقائياً . عندما يؤمن الانسان بأن الله موجود، فهو بالتالي يطيع وصاياه . والايمان يولد من البساطة الطبيعية ، ويتقوى ويحفظ بالبساطة عينها . ومخافة الله تحفظ الوصايا التي يسمعها الانسان ويقبلها . ومثلما تحفظ البساطة الايمان ، كذلك تحفظ مخافة الله الوصايا .
- مخافة الله ليست هي أن تقول فقط انني اخاف الله كما اعتاد الكثيرون أن يقولوا ، ويعتبرون أنهم بذلك يخافون الله ، بل أنها مخافة تتحرك طبيعياً في النفس تجعلها ترتعب وترهب داخلياً الى درجة أنها تحرك معها ايضاً جميع أعضاء الجسد . فالجسد يخاف مما يؤذيه ، بينما النفس تخاف ممن يستطيع أن يهلكها . الجسد يخاف من هجمات الحيوانات المفترسة ، ومن النار ، ومن السيف ، ومن الاظافر الحديدة ، ويخاف من الغرق ، ومن السقوط من الصخور العالية ، ويخاف من اللصوص ومن القضاة ومن العذابات والقيود والسجون ، كذلك فإن النفس ايضاً تخاف طبيعياً من الديان القادر أن يعذبها مع جسدها بالضيقات النفسية حسب طبيعتها .
وكما أن الجسد بطبيعته يخاف من كل الامور التي ذكرناها ، هكذا ايضاً فإن النفس بطبيعتها تخاف من دينونة الله ، ومن العذابات التي أعدها للذين يغضبونه ، ومن جهنم التي توعد بها الذين يعملون الشرور ، ومن الظلمة الخارجية والنار التي لاتطفأ والدود الذي لا يموت . والجسد يخاف مما يؤذيه كنتيجة للأدلة والبراهين ، ولكنه بمجرد أن يرى أو يتذكر هذا الشئأو ذاك يرتعب ويخاف طبيعياً ، كذلك فإن النفس عندما تشخص بعين الايمان الى التهديدات المزمعة وترى خفية العذابات المرعبة التي اظهرتها كلمة الديان ، فهي في الحال تمتلئ خوفاً وترتعد معها جميع أفكارها التي هي اعضاؤها الروحانية .
- والنفس برعدتها تجعل الجسد كله يرتعد معها ، وتملك مخافة افكارها على كافة أعضائة . وكما انها تشارك هي نفسها خوف الجسد من جانبه يشترك في مخافتها ، لأنه بالرغم من أن طبيعة النفس لا يصيبها شئ مما يصيب الجسد ، فإنها لسبب امتزاجها به تخاف هي ايضاً معه . ومع أن عين الجسد لا ترى الضيقات والعذابات المزمعة ، الا أن النفس حين تراها خفياً وترتعب وتأخذها الرعدة بسبب ذلك، تجعل الجسد يرتعب ايضاً معها ، وتملأه بالخوف والرعدة في جميع أعضائة ، والذين جربوا وذاقوا هذه الحقيقة في ذاتهم يعرفون ان النفس اذا ما تذكرت دينونة الله وارتعدت بتذكارها فهي تجعل الجسد يرتعد ايضاً معها بجميع اعضائة . لأنه عندما يتذكر الانسان الله ، وخصوصاً اذا لم تكن نفسه وجسده طاهرين من الخطية فللحال يمتلئ كله خوفاً وترتعب جميع اعضائه ، مثلما يحصل للجسد حين يرى فجأة شيئاً مؤذياً مقبلاً عليه . وإن كان احد لم يجرب هذا الأمر في نفسه – لأنه ليس الجميع قد اقتنوا منزلة مخافة الله الطبيعية – فمن حقيقة الجسد حين يرتعب يجعل النفس ترتعب معه – وهو أمر واضح ومؤكد عند كل الناس – يمكن للإنسان أن يفهم أن النفس حين ترتعب تلقى رعبتها على الجسد ايضاً .
- والذين جربوا هذا هم قلة ، هؤلاء هم الذين لم تخضع نفوسهم لموت الخطية ، لان الخطية التي تنشأ عن التهاون والانصراف عن ذكر الله الدائم هي موت كامل للنفس ، كما يدعو الكتاب المقدس الانسان الخاطئ الذي لا يتوب مائتاً. لأ الانسان عندما يتذكر الموت يتوب ، ولهذا فأن من يخطئ ولا يتذكر الله سواء في الوقت الذي يخطئ فيه او بعد ان يكون قد أخطأ ، هو إنسان نفسه مائتة إن كان يرى حياً بجسده ، نحن نعلم أن النفس تحيا عندما تداوم تكار الله ، فإن كانت تخطئ تم تتوب فهي نفس مريضة ، أما إذا أخطأت عن تهاون دون أن تتوب أو تذكر الله ، فمن الواضح أن الخطية قد أماتتها. معرفة الله هي الحياه الروحية التي للنفس . وكما أن سكنى النفس الدائم في الجسد هو حياته ، ونحن لا ندرك أنه حي لأنه يحس بكل من يقترب منه وبكل ما يقترب هو اليه ، هكذا أيضاً فإن معرفة الله هي حياة النفس ، ونحن ندرك أنها تحيا لأنها تحس بالله .
- الجسد المائت لا يحس بالضربات ، والنفس المائتة ( بالخطية ) لا تحس أيضاً بتذكار دينونة الله . إذا لحقت بجسد ماتت كافة أنواع العذابات فهو لا يتوجع ، هكذا أيضاً اذا ماتت النفس من الله بسبب جميع الشرور ، فهي لا تحس بها . يجلد الجسد المائت ولا يحس ، ويضرب ويطعن ولا يتألم، هكذا النفس المائتة من الله ، تخطئ ولا تحس ، تفعل الاثم ولا تعرف ، تذنب ولا تدرك ، فهي تعمل الشر ولا يقلقها ضميرها، وتظلم ولا تتأثر . وكما أن ضمير الحكيم لا يقلقه اذا عمل بتعقل ما يخص حاجة الطبيعة ، هكذا فإن النفس التي فسدت بالخطية وماتت من اله لا تحس أمام ضميرها أنها أخأت في شئ.
- تذكار الله إذا هو حياة النفس . وكما أن جميع حركات الجسد الحي هي مستمرة ، وممتزجة بكل أعضائه ومفاصلة طالما كان حياً ، هكذا ايضاً فإن تذكار الله يثبت على الدوام في النفس التي تقتني معرفة الله . وما دامت تذكر الله فهي لا تخطئ ، وإن عرض وقت انحجب فيه نور معرفتها بسبب دخان الشهوة، يتحرك فيها ذكر الله في الحال وتجتذبها مخافته للتوبة . لأن مخافة الله تصنع أمرين في النفس : الأول هو أنها تحثه على شفاء خطيئتة بالتوبة . إن من عادة جميع الذين وجدوا مخافة الله أو الناس ، سواء أخطأ أو لم يخطئوا أن يصححوا أعمالهم الرديئة . فمخافة الله هي حقاً درع يحفظ الانسان حتى لا يصيبه ضرر ، وسور يحميه من كافة الامور البغيضة ، وإن دخل الشر فهي كطبيب حكيم تشفيه مما يصيبه من مرض بسبب الأهمال .
- هناك من يخاف لأنه يرى الديان ، وهناك من يتب من مجرد سماع إنذاره فقط . الأول يحترس دائماً جتى لا يخطئلأن نظرة الديان تمنعه من الشر ، أما الثاني فيتوب بعد أن يخطئ ، لأن إنذار الديان يلقى فيه الرعب ، وفكر دينونته لا يأتيه إلا عند سماع صوته فقط ، لأنه في وقت الخطيئة لا يستطيع أن يرى الديان لأن الخطية تعمي النفس ، وبعد أن يخطئ لا يمكنه أيضاً أن يراه لأن نظر النفس ينحجب كما من دخان بخار الشهوة ، ولكنه يسمع تهديد الديان من افواه الاخرين ، أي من الأسفار المقدسة ، فيرتعب من الإنذار ويخاف من مما يسمعه . وهذا يحدث اذا لم تكن النفس قد ماتت تماماً من معرفة الله ومن الاحساي به . الأعمى بطبيعته لا يخاف من منظر الخطر لأنه لا يراه ، ولكنه يخاف من الخبر الذي يسمعه عنه من الاخرين فهو لا يرى الاسد الذي يقبل اليه ليمزقه ، ولا الحيه التي تزحف نحوه لكي تلدغه ، ولكنه حين يسمع آخر يحذره منها تجده يرتعب ، إنه لا يرى الصخرة أو الحفرة التي في طريقة ، ولكن عندما ينهه شخص ما بالخطر المماثل أمامه ، فهو يخاف في الحال ويرجع الى الوراء . أما صحيح البصر فهو ليس في حاجة الى آخر يعرفه بذلك ، لأن نظره يعرفه بالخطر الكامن في جسده . بهذا التشبيه نميز ايضاً بين الشخص الذي يحترس من أن يخطئ ،والذي بعد أن يخطئ يتوب.
- النفس بطبيعتها لا تخاف من مؤذيات الجسد وإن كانت تبدو أنها تخاف لأنها ممتزجة به . فإذا خافت النفس من هذه المؤذيات فإن خوفها هذا يكون خارجاً عن طبيعتها ، أي أن بخار خوف الجسد قد صعد عليها وغشى ذهنا وجعلها تخاف مع الجسد مما لم يدركها هي ذاتها . خوف النفس الطبيعي هو مخافة الله وحده . لأن الجسدد بطبيعته لا يخاف من الله ، والنفس كذلك هي بطبيعتها لا تخاف من الوحوش والمؤذيات الأخرى . ولا الوحوش أيضاً يوجد في طبيعتها خوف الله لأنها جسد فقط ، ولأنه لم يعط لها نصيب في النفس الحية ، فهي تقتني فقط خوفاً من بعضها البعض ومن بقية المؤذيات الأخرى ، هكذا ايضاً فإن الجسد – فيما يخصه – لا يخاف هذه المؤذيات ولا يعي مخافة الله إلا إذا ما أدخلته النفس لمشاركة أفكارها ، كما تعيش هي معه في الخوف من الوحوش .
- الله هو الديان الوحيد الذي يبكت النفس ، إذا أنه هو وحده القادر أن يدينها بما أنه متطلع على كل أمورها . الناس يحكمون على الجسد ويمكنهم أن يقتلوه ، أما سلطانهم فلا يمكن أن يطال النفس ، وذلك حسب قول المسيح ، لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها
( مت 28:10 ) ، ليس للحكام أي سلطان سوى على الجسد فهم يحكمون عليه ويعذبونه ويقتلونه ، أما طبيعه النفس فهي أعلى من أن تؤذيها سيوف الجلادين ، نارهم لن تحرقها ، عصيهم لا تقع على طبيعتها الروحية وسيوفهم لا تنالها ، وأظافرهم الحديدية لا تمزق جوهرها ، ولأن الحاكم جسداني هو ، ولأنه ينطلق حكمه ضد المذنبين بلسان جسدي ، بينما النفس تقلب سوأ أفكار الحكم ، ولأن كل الادوات المعده للتعذيب هي بدنية ، وأن الجسد وحده هو الذي يتلقى ضرباتها ، ولأن طبيعة النفس هي أعلى بكثير من هذه الاشياء ، وأن العذابات لا تصيب إلا الجسد ، وأن النفس ايضاً قبل أن تخترق وتدخل ( هذه العذابات) إليها تكون هي في الداخل بعيدة جداً عنها ، ولأن موتهم لا يملك على حياتها – لهذا فإن هؤلاء الحكام لا يقدرون على قتل النفس ، ومن أجل ذلك لا ينبغي أن نخاف من أحكامهم، بل خافوا بالجري من الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما في جهنم .
- الله وحده هو الذي يدين النفس ،لأنه هو الذي يحييها ، وهو وحده الذي يقدر أن يجلب الموت ويعذب طبيعتها الروحانية بعقاب روحاني ، والنفس التي قد أحست بأن الرب هو ديانها الوحيد فهي بالضرورة تخافه ، كما أن الاحياء بحيب الجسد وهم أموات بنفوسهم يردعهم عن شرورهم ذكر حكام العالم ، هكذا أيضاً فإن الانسان الحي بنفسه يمتنع عن عمل الشر إذا ما ذكر عقاب الله ، ويتوقف عن أن يخطئ طالما كان يتذكر دينونته ، لأن الدينونة القريبة ليست هي التي يضعها الحكين أمام عينيه ، بل تلك الدينونة العتيدة هي التي يعتبرها وهي التي تجعله يخاف ويرتعد . وكما أن الاشياء المحسوسة تتضح أمام عين الجسد ، هكذا أيضاً فإن الامور الخفية تتكشف لعين الايمان ، وكما أن الجسد الحي يحس بكل الاشياء المادية التي لهذا العال هكذا ايضاً فإن النفس الحية تحس بكل الامور الروحانية التي لذلك العالم وتدركها روحانيا . تذكار الله إذا هو النور الذي يظهر العذاب الآتي ، وتذكر أسمه مخيف ومرعب جداً للإنسان الخاطئ ، لأن خوف الدينونة العتيدة لا يقلق من كان ضميره غير منشغل في الخطية .
- كل إنسان يكون حيال تذكار الله على الحال الذي يكون عليه هو نفسه تجاه ذاته ، فإن كان في درجة الخطاه فهو يرى الله كديان . وإن صعد الى الدرجة الثانية التي للتائبين ، يظهر الله له بغفرانه . وإن إرتقى الى درجة الرحما ، فإنه يتفرس دائماً في غنى مراحم الله ، وإن تسربل بالوداعة واللطف، فإن لطف الله يظهر أمامه . وإن اقتنى ذهناً حكيماً ، فإنه يتأمل كل حين غنى حكمه الله الفائقة . وإن تجرد من الغضب وتخلص من الاحتداد وتملك عليه السلام والهدوء دائماً ، فإنه يرتفع لينظر صفاء نقاء الله الذي لا يتكرر أبداً . وإذا كان الايمان يضئ في نفسه بلا انقطاع ، فإنه ينظر كل وقت أعمال الله الفائقة الادراك ، ويقتني ثقة بأن ما يدرك تفسيره هو فوق تفسير . ولمن كان قائماً في درجة المحبد العالية ، فهو بحسب الدرجة التي وصل اليها يرى أن الله كله محبة.
- ياللعجب أن الله الذي هو بسيط وليس له أعضاء او اجزاء ، يظهر نفسه للكل باشكال كثيرة . وكل من يطلبه يراه من كل الجوانب التي يريدها . ومع أنه وحيد في ذاته وليس له تشابيه ، فإن النفوس تراه بأشباه مختلفة بحسب ما يظهرونه في نفوسهم . فالذي يريد أن يرى الله صالحاً ينبغي أن يصير هو نفسه صالحاً . ولا تظن أنه في إمكانك أن تراه صالحاً وأنت قائم في الشرور ، لأن التهاون والانحلال هو الذي يضع فيك هذا التصور ، وقد جعلك ترى الله بخلاف ما يريدك هو أن تراه . فأنت لم تنظره حقاً ، لأنك أردت أن تراه خارجاً عن إرادته . إنك ستراه كما هو في كل واحدة من وصاياه حينما تصير انت مثله . وإذا فكرت أنك تراه بغير ذلك ، فما تراه حينئذ يكون من صنع تصورك وليس حقيقة تظرته ذاتها .
- لذلك ينبغي لكل من هو قائم في الخطية ويحس ب الاوجاع الرديئة في نفسه ، وينخسه ضميره من أجل خطيتة أن ينظر الى الله كديان . ولا ينبغي أن يتجاسر وينظر اليه بخلاف ذلك ، لكي بهذا تكثر فيه المخافة وتمنعه من عمل الشر . فإذا شئت أن تراه غفوراً، اترك شرك واقرب من التوبة ، واغفر ايضاً لمن اساء اليك ، وبهذه الصورة ترفع عين عقلك وتراه غفوراً ، اما الذي يخطئ على الدوام ويتصور ان الله غفور ، فهو يضيف شراً الى شر ، لا تتكل على الغفران لكي لا تزيد خطيئة على خطيئة ( سى 5:5) لأنه بسبب الاتكال على الفغرات تجد الكثيرون يخطئون بإستمرار دون أن يتوبوا ، في حين أنهم لا يحسوا بالغفران بل بمجرد سماع كلمة الغفران . فالذين يغفرون للآخرين هم فقط الذين يقدرون أن يحسوا بغفران الله .
- والى أن نبلغ الى تكميل كل وصايا الله لن يكون بمقدورنا أن نحس بالصلاح الذي في الله ، الكل يعرفوا أن الله صالح لأنهم يسمعون ذلك ، لكن الصالحون فقط هم الذين يشعرون بصلاحة بمعرفة النفس. الكل يعرفون يعترفون بأنه رحوم ، وأنه طويل الأناة ورؤوف ، وأنه مملوء كله محبه ، بما سمعوه عنه ، ولكن الذين مارسوا لأنفسهم هذه الامور يذوقونها في الله لأنهم يحسون بها في أنفسهم. ولهذا فما دمت قائماً في الخطية ينبغي لك أن تتذكر دينونة الله ، وبتذكار دينونتة تمنع نفسك من عمل الشر ، ولا تتجاسر أن تفكر شيئاً آخر عنه طالما كنت في موضوع الخوف هذا .
- لأنهع يوجد موضوع الخوف ، آخر للفرح . موضع الخوف هو للتائبين وللذين يشعرون بخطاياهم، ولأناس لم يتحرروا بعد من أوجاعهم . أما موضع الفرح فهو فوق درجة الخطاة . والانسان يبلغ الى الفرح بعد أن يكون قد غلب الشهوات ، ويكون قد وطأ تحت قدميه جميع أوجاعة بقوة افكاره، فيدخل ويفرح في موضع الفرح الذي يخلو من الرعب والخوف ، لأن الخوف هو ضد الفرح ، ولا يولد الفرح حيثما يوجد الخوف ، كما أن الخوف لا يدخل حيثما يكون الفرح . لأن الخوف يرافق الشرور، أما الفرح فيصاحب الصلاح . الفرح هو ضد الخوف كما أن الصلاح هو ضد الشرور . فالذي لا يكون في الشرور لا يحس به بما أنه يولد من الصلاح ، والذي اقتنى الفرح لا بتوجع من الخوف الذي يتبع الشر . من يريد أن يكون في فرح بينما هو مازال في موضع الخوف ، يكون كالذي يفكر أنه صالح بينما هو ماكر مخادع ، أو يظن أنه غنى بينما هو في فقر مدقع .
- ينبغي إذا لمن يحس في نفسه بخطايا وزلات أن يربي منها خوف الله في كل وقت ويلهج فيه في دخوله وخروجه ، ويفكر فيه في جلوسه وقيامه ، لكي ما تمتلئ افكاره من خوف الله في كل اعماله. ولا ينبغي أن يجعل لذلك وقتاً خاصاً ، بل أن تكون كل اوقاته اوقات خوف الله . لان التهاون بحفظ وصايا الله يوجد في الانسان في الوقت الذي تفتقر فيه افكاره عن الهذيذ بخوف الله ، ولذلك تغرق افكاره في نوم الغفلة ويفكر في الشرور ويعمل أموراً بغيضة مثل أداة لا حس فيها ، فيخطئ ولا يعرف أنه أخطأ ، وإن عرف ذلك فلأنه سمع عنه وليس لأنه أدرك ذلك حقاً بضميره .
- لأن الإدراك الحقيقي للشر يلد الخوف في الحال . وكما أن النور يشرق في العين المنتفخة ، هكذا أيضاً فإن مخافة الله تشرق في النفس بتذكار الله . فهو يوقظ الانسان كما من نوم عميق ويقيمه، وكأن النور قد سطع على فراشة مبكراً ففتح عينيه ورأى النهار وانتبه وتيقظ ، وفي الحال نفض عنه ثقل النوم الذي كان غارقاً فيه . هكذا إن تهاون الانسان وأبطل عنه تذكارالله واستسلم لنوم الغفلة والاهمال، وغرق في الكسل والانحلال ، ثم حدث صدفة او بأختياره أن أشرق تذكار الله في نفسه ، فإنه ينتبه للوقت ويبعد عنه أهماله السابق ، ويمتلئ عوضاً عن ذلك خوفاً ، ويستزلي عليه الفزع عند تذكر عدل الديان . فبعد أن يطرح التهاون خارجاً تدخل التوبة مكنه ، ويمتلئ الانسان رعباً وندماً على ما عمله في الاوقات السالفة بعيداً عن تذكار الله .
- الانسان الذي يحيا في تذكار الله الدائم يمتلئ خوفاً من أصغر فكر للشهوه يتسرب الى نفسه ، فينتبه ويرتعد بسبب هذا الفكر وحده ، فيهرب منه الفكر في الحال ويختفي من قدام خوف النفس مثلما يهرب عصفور من أمام شخص أزعج هدوءه . الخوف هو صفه الذين يحفظون الجسد من الشهوات، وهو الخشية التي يقتنيها الانسان أمام الله فتجعله يحفظ حركان النفس من أفكار الشرور ، لأنه يحسب أن الله يراه في كل وقت ، ويسهر هو على نفسه بإستمرار ويحفظ إنسانه الخفي من العيوب الخفية
- احط نفسك إذا أيها الحكيم بسياج مخافة الله ، فلن تجسر الشرور على الدخول الى مدينة نفسك، اقتن ذكر الله سراً ، فتحفظ نفسك فس نقاوتها ، حرك فيها مخافة الله دائماً ، فتمنع عن أن تخطئ بالفكر. وليسكن فيك تذكار الله على الدوام ، فلن يثبت معه ذكر الشرور ، لأن النور والظلمة لا يوجدان معاً في العين في وقت واحد ، وذكر الله لا يسكن مع ذكر الشرور في النفس . فما دمت لا تنسى الله فإنك لن تذكر الشر ، وإن كنت لا تنسى الشرور ، فإن تذكار الله لن يتحرك فيك ، فإهمال الواحد هو تذكار الآخر ، وبخروج الواحد يدخل الآخر ، لأن تذكار الشر هو خطية ، وتذكر الله هو معرفة حقيقية ، والخطية هي الظلمة والمعرفة هي النور .
- كما أن الرجل يخجل من عريه في النور ، هكذا فإن النفس تخجل من خزي الشرور عند تذكر الله، وكما ان رؤية الناس تخيف الانسان وتجعله يستر عريه ، هكذا أيضاً فإن تذكار الله يحفظ النفس حتى تصير متضعة وتتسربل ثوب العفة ، وإن وجد فيها عضو واحد من أفكارها عرياناً فهي تخفيه، وإذا ضبطت أمراً مالا يناسبها فهي ترفضه وتنبذه ، وإذا انقلب حالها فهي تستعيد نظامها ، وإذا احتدت فهي تسكن نفسها ، وإذا أخطأت تعود الى البر ، وإذا تدنست بأية شائبة فهي تتنظف ، وإذا اتسخت تغتسل ، وإن كانت نجسة تتطهر ، وإن فسدت تتنقى ، وإن تبذلت تصير عفيفة ، وإن أصابتها الشهوة تصير متضعة، وإن تخلت عن وقارها تصير حكيمة ، وإن أصابها التشتت استجمعت أفكارها، وإن شردت خارجاً عنها رجعت الى نفسها ، وإن كانت فقيرة فإنها تغتني ، وإن فقدت الحياة تسعى لكي ما تستردها ، وإن كانت مريضة تستعيد صحتها ، وإن كانت ضعيفة فهي تتقوى ، ولن كانت عاجزة فهي تشفى ، وإن كانت قد اصابتها الكسور تربطها ، وإن كانت بها جروح تضمدها ، وإن كانت قد عنفت وترسخت بالخطية، وإن تذكار الله مع مخافته يجددانها.
- إن إختبار مخافة الله كائن في النفس ، والانسان نفسه هو وحده الذي يقدر أن يعرف إن كانت فيه مخافة الله أم لا ، لأن كل واحد منا ينبغي أن يقتني في نفسه هذا الصلاح . إذا أنت دعوت الله فإرتعبت، وإذا ذكرته فإمتلأت مخافة ، وإذا ارتجفت أفكارك مع أعضائك ونفسك مع جسدك ، وإذا كان عقلك قد أحنى رأسك وخجلت نفسك سراً أمام الله – إذا حدث ذلك فأعلم أن مخافة الله فيك ، وأن تذكار الله هو حقاً حاضر عندك . فليس كل من يقول إني أخاف الله هو كذلك بالحق ، بل من يحس بالتجربة في نفسه بما ذكرته ( من علامات ) هذا هو الذي يخاف الله حقاً .
- الصلاح الذي يرى بحسب الظاهر لا يدل على أن صاحية يخاف الله حقاً ،لأن الاسباب يعمل الصلاح من اجلها بين الناس كثيرة ،ولأنه توجد هناك دوافع مختلفة وتدعو لحفظ وصايا الله ،لكن الذي يحفظ الوصايا بمخافة الله هو وحدة الذي يعتبر خادعاُ حقيقياً يعمل مع الله ويخاف واضع الناموس وينفذ وصاياه. لأن الناموس الإلهي لا يحفظ بالمال ما لم يحفظ بالجسد وبالنفس معاً .
- كثيرون يتعبون أنفسهم بالاعمال الظاهرة بينما هم في الخفاء يخدمون كل انواع الشرور ، فهناك م ربطوا أعضاءهم بقيود الامانات واطلقوا افكارهم تطيش في الامور البغيضة ، وهناك من يلبسون ثوب العفة من الخارج ويرتدون الفسق من الداخل . وهناك من يصومون من الخارج وهم شرهون ونهمون في الداخل . وهناك من يتراءون انهم ابرار في الظاهر وهم مستعبدون لسائر الشرور في الخفاء . وهناك من يتظاهر أنه صوام وهو أكول . وهناك من يتراءى أنه متجرد وهو محب المال. وهناك من يظهر أنه طويل الأناه وهو محتد ، يرى من الخارج أنه صابر بينما يسكن الغضب فيه خفيه ، وهناك من يرفض الملذات في العلن ويطلبا سراً. وهناك من لا يتنازل لكي يسمع النميمة ظاهراً وهو يدين الآخرين بجسارة خفية .
- كذلك هناك من يكون حاضراً في الصلاة ( الجماعية ) وهو لا يصلي في الخفاء ، يتلو التسبحة بلسانه وليس بنفسة .وهناك من صلب جسده ولم يصلب نفسه مع جسده ، وهناك من يحترس من خطية لكي لا يلام من الناس وليس من اجل محبته للبر . وهناك من يخجل أمام الناس ولكنه لا يختشي أمام وجه الله ، وهناك من يمتنع عن الأثم لأنه يرى أن الخبث يستحق اللوم في نظر الناس، ويكره الخطيه ولكن ليس لأنها مكروهه عند الله . وهناك من يحترس من الخطية خوفاً من الدينونة الحاضرة ، ولا يبتعد من الضلالة خوفاً من الدينونة العتيدة . وهناك ايضاً من يسكن شهوته ويطفئ حركاته بتذكر النار القريبة ، بينما تذكر نار جهنم البعيدة لا يطفئ الشهوة منه ولا يجعلها تختفي . إذاً فالأعمال التي ترى خارجاً لا تكفي لكي تظهر أن الإنسان يخاف الله حقاً .
- اختبر ذاتك اذاً ، أيها الحكيم ، واتخذمن نفسك الشهادة عليك لتعرف ان كانت مخافة الله هي في نفسك حقاً . مخافة الله هي التي تعمل البر الذي يبدأ من الداخل ، أما البر الذي تبدأ أعماله في المكان نفسه وتظهر في الخارج فإن رؤية الناي هي التي تدفعه ويكون عمله من الخارج وليس في الداخل، فهو لا يرى سوى الناس ، وليست له رؤية سرية لله .
- جيدة هي أعمال النسك الظاهره ، لأنها تخضع الأعضاء وتجعلها مطيعة للأفكار ، وهي تقمع تسلط الجسد وتجعله يخضع لإرادة النفس ، الا أنها لا تظهر العقل من حركات الخطية ولا تجعل النفس تخاف الله ما لم تتعلم هي من ذاتها أن تخاف الله خفيه . فالخدمة الخفية تخص النفس ، أما العمل الظاهر فهو يخص الجسد ، في حين أن خدمة النفس قد تعتبر صحيحة بدون اعمال الجسد – هذا إذا لم يكن توقف الانسان عن العمل هو بسبب التهاون ، أو لأنه يهرب من الضيقات لمحبته في الراحة.
- نظر الناس لا يمنع الانسان من الخطية خفياً ولا ظاهراً ، بينما نظرة خوف الله تمنع النفس والجسد كليهما من الخطية . كما أن المتهم حين يمثل أمام القاضي ليعطي جواباً عن اخطائة لا يستطيع أن يعمل مثلها أمامة ، وهو في الوقت نفسه يحاول أن يخفي أخطاءه الماضية ، هكذا ايضاً لا يمكن للانسان أن يخطئ إن كان يضع الله امام عينيه مثل قاض ، إن كانت مخافة الله تجتذب إليها أفكاره كل حين ، فهو ليلاً ونهاراً يتسربل بالتواضع والتخشع في انسانه الخفي ، وبواسطة مخافة الله يطرد من قلبه كل حركة للخطية تظهر فيه .
- مخافة الله تزين الانسان الخفي ، بينما خوف الناس لا يزين سوى الانسان الخارجي . ليكن ديان أعمالك هو ايضاً مختبر جهادك ، واجعل مخافته قدام وجهك كل حين ، لأنه إذا كان خوف السادة هو دائماً أمام أعين عبيدهم ، وإذا كان خوف الملك والولاة وقادة الجيوش يستولي كل حين على مرؤوسيهم والخاضعين لهم ، وإذا كان خوف النظار والمعلمين يضبط ويحفظ نقاوة الطفولة دائماً ، فكم بالأولى جداً تلميذ الله ، والخادم الطبيعي لهذا السيد السمائي ، وجندي الملك الأبدي ، والخاضع للديان الحقيقي بحسب الناموس – يجب عليه أن يملك مخافته كل حين على كل تدبيره وأفكاره في الخفاء ، وعلى كافة أعضائه في الظاهر ، لأن مخافة الله هي لجام يضبط اندفاع الانسان نحو ضلالة، ويوقفه إذا ما تهيأ للجري وراء الشهوات البغيضة ، ليس فقط في حياتة الخارجية ، بل أيضاً – وبصفة خاصة – في حياته السرية .
- المجاهد الروحاني لا يخاف اللع كما يخاف العبيد أسيادهم ، أو كما يخاف الناس الملوك والولاة ، لأن مخافتهم تملك ( فقط ) على كافة تصرفاتهم الظاهرة وتبدو على أعضاء الجسد من الخارج ، ومع أنهم يكرهونهم في السر ويحتقرونهم بأفكارهم ، إلا أنهم يظهرون في الخارج بكل خوف . فلا تكن مخافتك لله من هذا النوع ، ولكن أظهر له أنك تخافه من الموضع الخفي الذي تخترقه عيناه حيث يرى سراً جميع حركات نفسك ، فلتملك في داخلك مخافته بكل سلطانها ، ولتخف الله بكل نفسك تماماً في حياتك الخفية كما في تدبيرك الظاهر ، لأنه هو الديان لسائر أفعالك الخفية والظاهرة ، ولتدفعك مخافته إلى الخجل من أن تخطئ أمامه والى الخزي من أن تتفكر بالاثم في حضرته ، لأنه إذا كان الخجل من الناس يمنعنا من الخطية ، فكم بالاولى كثيراً يجعلنا الخجل من الله نمتنع عن عمل الشر .
- ذكر نفسك دائماً أن الله يراك ، وتطلع أنت ايضاً إليه سراً كما يراك هو ايضاً سراً فلا يمكن أن تجد الخطية لها مكاناً في أفكارك ، فكما أن الظلمة لا تجد لها مكاناً في موضع يرى الشمس ، هكذا ايضاً فإن ظلام الشر لا يمكن أن يوجد في النفس التي يراها الله وتشعر عي بأنه يراها ، كما يقول الكتاب ” إن عيني الرب إضوا من الشمس عشرة آلاف ضعف فتبصران جميع أعمال البشر “
(سى 28:23 )، وايضاً جميع اعمال البشر كالشمس أمامه ، وعيناه على الدوام تنظران إلى طرقهم
( سى 15:17 ) .
- هكذا نرى أن نبي الله يقول هذا لكي يبكت الانسان الذي يكذب وهو على فراشه دون خوف الله ، ولكي يوبخه على تفكيرة الأحمق بأن الله لا يراه ، فيوجه إليه هذا التأكيد : إن عيني الرب أضوأ من الشمس عشرة آلاف ضعف . ومن خلال تبكيته لهذا الشخص الكاذي يعلمنا نحن جميعاً أن الله يرى أسرارنا ، لكي ما نحترس بكل اهتمام من أن نخطئ سراً. لا تخطئ بفكرك وأنت بالتالي سوف لا تخطئ سراً في مسكنك، لأن الله يراك بصفة خاصة في الاماكن المستترة ، فحالما يتحول عنك نظر الناس يلاقيك نظر الله . لأنه بالتأكيد حين لا يراك الناس فإن سيد الخليقة في ذلك الوقت هو يراك. لأنه مادام الناس يرونك فهو يعرف أنك سوف تحفظ نفسك من أعمال الخزي ، وأن الخوف والخجل يمنعانك من فعل الخطية. أما إذا كنت وحدك حيث تسترك حيطان مسكنك وسقفه من كل ناحيه ، فمن الضروري أن تتسلح بخوف الله ، لأنه في الظلام تفعل الخطية بسهولة ، ومن هنا يجب عليك أن تنهض نفسك بتذكار الله دائماً ، وتحفظ أعضاءك حتى لا تخضع للشهوه ، وتقف مثل بطل شجاع مقابل الخطية التي تريد أن تقحمك لتغلبك ، ومقابل العدو الذي يقاتلك بواسطة حركات شهوتك ليقنص حياتك.
- أفكار النفس هي أيضاً مستترة في أعضاء الجسد مثلما يستتر الجسد في بيت ما ، فهي مخفية تحت حجاب الجسد حتى أنه ليس من السهل أن يرى ما بداخل الانسان ، هكذا يسهل عليه أن يخطئ بالفكر كلما أراد ذلك . فالخطأ باأفكار أسهل جداً من الخطأ بالأعضاء ، ذلك لأن الاعضاء يمكن أن تمتنع عن الخطية لأسبابا كثيرة ، أما عمل الخطية فيكمل بالفكر بمجرد أن يرضى بذلك . فلا الزمان ولا المكان ولا الظروف لها أهمية بالنسبة للخطية التي تكمل بالفكر ، وعلى قدر نشاط حركة الفكر هكذا أيضاً تكون سرعة عمل الخطية . ولهذا صار من الضروري مواجهة حدة حركات الفكر بمداومة تذكار الله واللهج المستمر يخوف ديان هذا الامور السرية ، لأن حركة مخافة الله تكون أقوى وأسرع من حركة الفكر حتى أنه بمجرد أن تبدأ حركة فكر الخطية فإن تذكار الله يطرده في الحال . والنفس التي تضبط بهذا اللجام تهدأ وتسكت مقابل حركات الأفكار البغيضة، وإن عرض لها أن تخطف بغتة، فإن هذا التذكار يقمعها ويردها لتنظر فب ذاتها في الحال .
- ليس شئ من الصلاح إلا ويحفظ بخوف الله ، وإذا ما تمسك الانسان بخوف الله ولاحظ الجسد عمل الصلاح فلن يضل ، لأن خوف الله هو الذي يثبت الايمان ويحفظ الصوم ، وبتذكاره تدوم الصلوات عندنا، وهو الذي يحث على الصدقات ، ويهدئ الحركات السمجة بالنفس ويطفئ الشهوة المضطرمه في الاعضاء وينقي الافكار النجسة ويقتلع من النفس فكر الامور البغيضة ، وهو الذي يطرد منها أفكار البغضة والعداوة. وهو الذي يمنع النفس من اشتهاء ما ليس لها ، وهو الذي يراعي القوانين التي لا تطأا الاقدام ، ويحث الناس ألا يعصوا وصايا الله .
- خوف الله سرور منيع في وجه كافة الشرور ، ودرع ضد كل الامور البغيضة ، هو يحذر من الامور المثالية ويحث على السلوك في الاعمال الصالحة اليمينية . هو يوقف الشر ويحفز على عمل الخير، يقف في وجه الشر ويمنع الانسان من السير في طريق الاثم ، أنه نافع ومفيد في كلا الناحيتين، يمنع الانسان من السعي في سبيل الشر وينبهه للسلوك في طرق الخير ، ويحرضه على جمع الفضائل ثم يحفظ له ما قام بجمعه منها . إذا لم يوجد الخوف فإن الفساد يسود على الجميع . إنه يرافق القضاه وينفذ احكامهم ، يحيط بالملوك فلا يعصى احد ، أوامرهم ، يتبع القادة ويجعل مرؤوسيهم يخضعون لهم . إنه يحفظ الجميع في الايمان بالله ومع أنه يولد من الايمان ، إلا أنه يصير بعد ذلك حافظاً له ، لأن الذي يؤمن بالله يمتلئ مخافة ، والذي يخاف الله يحفظ وصاياه بكل اهتمام .
- لقد آمن آدم بالله ، ولكنه لم يخف الله . آمن بأنه موجود وتقبل من الوصية ، لقد جعل المشترع الخوف مرتبطاً بالوصيه حين قال : “لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت ” ، ولأن آدم طرح عنه هذا الخوف ، صدق المضل بدلاً من الله ، وداس الوصية التي كان قد وضعها له الديان . بيد أن الله لم يضع الخوف مثل سياج يحفظ الوصية بالنسبة لآدم فقط ، ولكننا نرى أنه عمل ذلك فيما بعد بالنسبة لجميع الأجيال، حيث أضاف الخوف الى وصاياه . ولأن قايين لم يقتن خوف الله عن طيب خاطر ، تملكه الخوف بالقوة حتى أنه صار مرتعداً وتائهاً في الارض . ولأنه لم يخف الشخص الوحيد الذي يجب أن نخافه، صار كل من يراه يملأه رعباً وخوفاً ، وفي شدة خوفة قال لله إن كل من سيجده سوف يقتله ، وطلب أن يخلص من هذه الحياه المملوءة من الفزع والخوف .
- وقد أعطى الله ايضاً من يد موسى النبي ناموساً يتضمن وصايا كثيرة متنوعة ، وربط الخوف بكل هذه الوصايا ،لأنه بدون خوف لا تحفظ الوصايا ، فهو مثلاً يقول : ” لا تقتل “
( خر 13:20) ، ثم يقول ” من قتل يُقتل ” (خر 12:21) . فقد أعطى دواء الخوف لمداواة المرض لكي ما يمنعه من أن يزيد ويشتد في الاثم . كما يقول : ” لا تزن ” ( خر 14:20 ) ، ثم يقول :
” وإذا زنى فإنه يقتل ” ( لا 10:20 ) . فالخوف يحفظ الوصية حتى لا يستهان بها . وكان الخوف يمنع بني اسرائيل من أن يعملوا الشر الواحد الآخر ، ولأن الله كان يراهم يميلون للشركات يمنعهم عن فعلع بواسطة خوف الدينونة .
- الخوف يحفظ الوصايا حين لا يوجد الحب . فكل وصية تحفظ بثلاثة طرق : إما عن خوف او لأجل مكافأة أو عن حب ، الخوف هو الثلاثة ، ومواعيد العطايا هو الثاني أما الثالث فهو الحب الحقيقي . الأول، أعني الخوف هو للعبيد ، والثاني للإجراء ، أما الثالث فهو الروحانيين والصدقين، الخوف هو بدء تدبير سيرة التلمذة للمسيح ، لأن كل من يبدأ بهذا التعليم يقتني قلب طفل ، والمخافة تليق بالطفولة ، ولأن الطفل لا يستطيع بعد أن يتذوق حلاوة المعرفة ، لهذ ينبغي أنيرافقة الخوف .
- وعندما يذوق الانسان حلاوة معرفة المسيح ويحس بقوة وصاياه ، فالحلاوة التي يذوقها تجتذبه لحفظ الوصايا .وطالما لم يبلغ الانسان بعد لهذه المذاقة ، يظل الخوف ضرورياً لتربيته وتهذيبة ولكي ما يذكره بجميع الوصايا ، فكما أن أطفال هذا العالم يتقبلون تعليم المعلمين ، ومن بعدهم يتكفل المربي بأن تذكرهم بما سمعوه ، هكذا أيضاً فإن الانسان بمجرد أن يتقب من الله ، المعلم الحقيقي ، تعليم الوصايا ، يكون من اللازم أن يعمل الخوف عمل المربي ، فيذكره بكل ما تقبله من الله ، وإن نسيه يذكره فيه ، وإن تهاون يستحثه وإن نام يوقظه . وهو إذا مال الى اللعب يوبخهويرده الى الطريق إذا ضل عنه ، ويحذره إذا أهمل، ويذكره بالعقاب إذا ازدرى . الخوف ضروري لمن كان محتاجاً أن يتذكر ما تعلمه . وبدون الخوف لا ينتهي التعليم ، وإذا ما انتهى بغيره لا يقبل ، وإن قبل بغيره لا يمكن أن يحفظ .
- إرسيا النبي يوبخ ” الذين كسروا نير مخافة الله وقطعوا ربطها ” ( ار 5:5 ) . وفي موضع آخر يوبخ هوشع النبي اسرائيل لكونهم تحرروا من نير وصايا الله : “إنه قد جمع اسرائيل كبقرة جامحة ، هم وملوكهم ورؤساهم ” ( هو 16:4،ار 32:32 ). صار اسرائيل عاصياً لأنهم لم يقتنوا المخافة . فقد داسو الوصايا بأقدامهم ، لأنهم لم يتذكروا التهديد ، واستهانوا بالناموس ، لأنهم لم يحتفظوا بتذكر حكم واضع الناموس . والله في حكمته ، ولأنه كان يعرف من هم الذين أعطاهم الناموس ، قصد أن يضاعف التهديدات إلى جانب وصاياه لكي ما إذ ترتبط المخافة بالناموس تجعله يحفظ حتى ولو استهانت به إرادة الانسان . ولأن الذي تقبل الناموس كان عبداً عاصياً ، فقد غصبه أن يخضع للناموس لسبب الخوف من العقاب . لقد وضع أمامه كل أشكال العذابات لكي ما بملاحظتها يحفظ الوصايا ويفهم الناموس .
- فلنبادر أن نثبت مخافة الله في قلبنا ونهذبها ليلاً ونهاراً. فإذا اشتعلت نار الشهوة نضع قبالتها نار جهنم، وإن خطفنا شره البطن نذكر ذلك الدود الذي لا يموت ، وإن خدعنا حسن الوجوه نذكر الظلمة الخارجية، وإن جاربتنا محبة المال نذكر قلوبنا بهلاكنا ، وإن جذبتنا الارباح البشرية نخاف لئلا نخسر ملكوت الابدي ، وإن قام علينا الغضب الحاد بسلاحه نفكر في تهديد الله للغضوبين ، وإذا أزعجنا المجد الباطل نحضر الى قلبنا المذلة والهوان اللذين ينتظراننا أمام الديان ، وهكذا نبطل الازعاج ونقهر الموت بالموت.
- وينبغي ايضاً لكل من يريد أن يحفظ حياته من الخطية أن يهتم بإقتناء ذكر الموت في كل وقت . لأن الذي يذكر نفسه كل حين بيوم خروجه ، ويفكر على الدوام بساعة موته ، لا يسهل عليه أن يتجه للإثم، ولن يتجاسر أن يقترب من فعل الخطية ، لأن ذكر الموت يضعف جميع الشهوات ، ويبدد الشر الذي يتجمع مقابل النفس والشهوات التي تحدق بالجسد . ليكن قرب الموت معلماً لنا قبل موت جهنم . ولنحفظ حياتنا بإحتراس من جميع النواحي . ولنذكر الله ونخاف من دينونته ونحفظ وصاياه، لكي ما إذ نتنقى من الشر ونتزين بميع الصالحات نحصل على فرح المسرات السمائية مع جميع الأبرار والقديسين ، ونمجد برفقتهم الآب والأبن والروح القدس إلى الدهور . آمين يكون
نهاية المقالة عن مخافة الله
المقالة السابعة
يعرفنا فيها أن جميع الصدقين القدامى أكملوا الوصايا بخوف الله .
- لقد صار طريق المسيح ممهداً أمام كل من يريد أن يسلك فيه بإستقامة ، وذلك بأمثلة الصديقين القدامى الذين سلكوا فيه قبلنا . فحين نرى آثار خطواتهم على هذا الطريق ننجذب اليه ونسير دون خوف من أي ضلال . فكما أن الاشارات والحواجز الموضوعة على جانب الطريق تحدد مسيرة المسافرين ، هكذا ايضاً فإن نماذج وأمثلة القدماء مع وصايا وناموس الله تحدد الطريق الذس نسلك فيه وتجعله واضحاً أمامنا بما لا يسمح لأحد أن ينحرف عنه يميناً أو يساراً . لأنه كما أننا ملتزمون أن لا نحيد طريق الحق المستقيم حتى لا نضل في أي سبيل معوج ونتعثر في إيماننا ، هكذا ايضاً فإنه لا ينبغي لنا أن نخرج عن طريق التدبير الإلهي القويم الذي دعينا إليه ، بل أن نتقدم بإستقامة في هذه السيرة النقية كما في طريق الإيمان .
- لهذا يجب علينا أيضاً أن نعرفه بداية ووسط وكمال هذه السيرة ، ونلاحظ الدرجات الكثيرة التي وضعت بترتيب الواحدة بعد الأخرى على هذا السلم الذي يصعد الى السماء . الذي اظهرهساكن السموات مسبقاً في سر لمختار الاباء المغبوط يعقوب ، والملائكة صاعدة ونازلة عليه ( تك 18:58)
ولم يكن هذا السلم يخص الملائكة السمائيين فقط ، ولكن الكتاب لما ذكر صعود ونزول ملائكة الله فوقة كان يدلنا ايضاً على أن الانسان الذي يقترب من قاعدة السلم ويبتدئ أن يصعد عليه درجة بعد درجة يعتبر في مرتبة الملائكة ويحسب في جسد الروحانيين ، وقد تسجل اسمه لكي يصير جندياً سمائياً . وكما أن الاشخاص الذين ينالون شرف الجندية ويعملون في كتائب الملك الارضي يغيرون اسم الفلاحين الذي يتحد بإختياره في جسد المسيح ليخدم مع طغمة الروحانيين يستبدل إسم إسنسان بإسم ملاك حسب قول الكتاب ، وقد استحق أن يتخذ اسم الملاك بما أنه قد بدأ يعمل في صفوف الملائكة ، وصار يدعي ملاكاً بدلاً من إنسان بسبب خدمته وسيرته وليس بسبب طبيعته .
- وكما أن الملائكة كانت تصعد وتنزل على السلم ، فقد رأى يعقوب البار أن البشر هم الذين يصعدون، لأن الصعود من الارض الى السماء إنما يخص الانسان ، وأن الملائكة هم الذين ينزلزن ، لأن السماء هي موطن الملائكة وهم ينزلون من علو مسكنهم الى الارض ، إذا ، فقد اشترك البشر والملائكة معا على هذا السلم ، لكي ندرك من الكتاب المقدس أن السيرة الحسنة هي مشتركة بين السمائيين والارضيين ، وأن الجميع مطالبون بحفظ الوصايا . فالبشر يحفظون الوصايا بإرتفاعهم من أسفل الى أعلى فوق درجات الوصايا ، والملائكة تخدم مشيئة الله عندما يرسلهم من العلو الى الارض ، لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص (عب 14:1 ). فالذين أدنى وجسدانيون بطبيعتهم يجعلهم حفظ الوصايا أعلى و روحانيين ، والذين هم أعلى وسمائيون بطبيعة خلقتهم تدفعهم وصية الله للنزول الى موضع الارضيين ليكونوا مرافقيين للجسدانيين بإستمرار ، وهكذا نرى جمعاً من اجناس مختلفة يتحدون معاً كجماعة واحدة في شركة الحب ينشدون الثلاثة تقديسات ممجدين إرادة الله ، ويتحركون كلهم بواسطة حركة روحية حية واحدة مثلما يتحرك الجسد بأكمله بحياة النفس .
- والآن ، بعد أن رأينا أن ذاك السلم التي تصعد الانسان الى السماء تتكون من درجات متعددة ، فلنرتق هذه الدرجات وعن طريقها نرتفع بدورنا مثل أولئك الذين صعدوا قبلنا فوق هذا السلم . لقد أظهرنا أن الدرجة الأولى من درجات هذا السلم هي الايمان ، والثانية هي البساطة التي هي حركة نقية طبيعية تحفظ الايمان بعد أن يكون قد ولدها ، لأنه كما أن المكر يفسد الايمان ، بالمثل فإن الطفولة والبساطة تدعمان الايمان . ومن البساطة يتولد أيضاً خوف الله ، لأن الخوف يتوافق طبيعياً مع الطفولة ، فلاأطفال يخافون الله ، بينما الماكرون يزدرون به ، البسطاء يرتعدون عند ذكر العقاب. والماكرون يبحثون عن وسيلة للتهرب منه .
- كما أن الخوف يرافق طفولة هذا العالم ويدفعها وبحثها أكثر من التعاليم الى الفهم والقراءة والكتابة، هكذا ايضاً فإن خوف الله يتفق مع طفولة النفس ويدفعها لكي تحفظ الوصايا ولا تزدري أو تحتقر ما يقدم لها بواسطة كلام الله . فالخوف هو الذي يقود الانسان حتى يبلغ كمال عقله ، والرعب والفزع من مشرع الناموس هو الذي يصاحب التلميذ إلى أن يكشف له العدل الذي يحكم ، ويعرفه بأنه ملتزم بحفظ الوصايا وبالاهتمام بمراعاة النواميس التي اعطيت له . وعندما يستعلن العدل فيه وتنهض النعمة المفروسة في نفسه طبيعياً ،فهي التي تطلب منه كمديون أن يسدد دين حفظ الوصايا ، فكما أن رائني العالم يستدعون مديونيهم ويكرهونهم على دفع ما هو مستحق عليهم ، هكذا أيضاً فإن العدل الموجود في نفوسنا يستحثنا أن ندفع لله دين وصاياه ، وإلى ذلك الحين فإن خوف الطفولة هو الذي يقودنا ، وجميع الابرار القدماء قد أرضوا الله بواسطة هذا الخوف ، لأنه لازم وضروري للذين ما زالوا في مرتبة العبيد .
- تحت جميع هذه الاشكال يصاحب الخوف العبيد ، وهو نفسه يكون كذلك مرافقاً للحب غير الكامل، فقد قال الكتاب انه لا يوجد في المحبة الكاملة ( ايو 8:4 ) ، ولكنه يرافق كل من يبدأ في المحبة ولم يصر بعد كاملاً . هناك من يخا لئلا يجلد وهذا هو خوف العبيد ، وهناك من يخاف لئلا يفقد اجرته وهذا هو خوف الاجراء ، وهناك من يخاف لئلا يغضب الله وهذا هو خوف الصديقين ، وهناك ايضاً من يخاف لئلا يفقد الميراث وهذا هو خوف البنين. ومع أن الخوف هو أسم مفرد ، الا أنه يشتمل على أنواع كثيرة متمايزة : فالأنبياء القديسون كانو يخافون الله ، وكان شعب اليهود ايضاً يخاف الله من وقت لآخر، ولكن كم كان الفرق كبيراً بين الفريقين ! كان الأنبياء يخافون لئلا يغضبوا الله كصديقين بينما كان اليهود يخافون عصا تأديبه كعبيد .
- ولكي يزيد ذلك الخوف عندهم ، كان بمجرد أن يرتكبوا مخالفة يسلمهم في الحال لعصا التأديب . فقد كان الله يعاقبهم على الخطية دون امهال ، لأن عملهم لم يكن يحتمل الامهال. وكانت عصا عدله بإستمرار مسلطة على رأسهم ، فكانوا حالما يخطئون يعاقبون ، وحالما ، يرتكبون المخالفة يضربون، وكان العقاب يدركهم في طريق خطاياهم نفسه ، لأن الامهال بالنسبة للعبد الأحمق يشجعه بالأكثر على الازدراء بسيده ، فلكي لا يندفع ذلك الشعب الجاهل الذي كان ساكناً في بيت الله إلى الازدراء كعبد أحمق، كان الله لا يمهلهم .
- وحدث هذا بوجه خاص خلال الخروج من مصر وما اعقب ذلك حيث يمكننا أن ندرك السبب في هذا العقاب السريع ولماذا لم يكن هناك أي أمهال في عقاب خطاياهم . فقد تسلم الله شعب في مصر كما يتسلم المعلم طفلاً من مربيته لكي يعلمه معرفته ويفهمه حكمته .ولأن الشعب الطفل كان ينسى التعليم الذي اعطى له ولا يحتفظ في ذكرته بوصايا الله ، كان يستعمل معه العقاب السريع على الدوام لكي
-على الاقل- يتذكر التعليم لسبب الخوف من العقاب .
- فالرجل الذي خرج يوم السبت لكي يحتطب صار رجمه بواسطة الجماعة كلها (عدد 15 : 32-36) والاخرون الذين قاوموا موسى وازدروا به ولم يوقروه ، فتحتت الارض فاها وابتلعتهم ( عدد 32:12) وبقية الذين استخفوا بكهنوتة وأرادوا أن يختطفوا الكراهمة لأنفسهم ، خرجت نار بغته وأكلتهم ( عدد 35:16) ، وآخرون ممن نالوا كرامة الكهنوت ولكنهم قدموا على المذبح ناراً غريبة غير مناسبة احترقوا وهلكوا بواسطة لسان نار خرج من الخيمة
(لا 10 :1-2 )، والذين اشتهوا لحماً واحتقروا خبز الملائكة أصابتهم ضربة عظيمة (عدد 11:20)،
والذين عبدوا العجل قتلتهم رماح اللاويين ( خر 32 : 19-28 )، والذين كانوا سبباً في ذلك التمرد اختبروا بواسطة ماء الاستقصاء لهلاك نفوسهم ( خر 20:32 )، والذين تذمروا على الرب اهلكتهم الحيات المحرقة ( عدد 9:21 )، وجميعهم ماتوا وهلكوا في البرية لأنهم قاوموا عند مدخل أرض الموعد ( عدد 14 : 26-35 )، مثل هذه الخاطايا استحقت هذا العقاب ، الى جانب الذنوب التي كانت تجلب الجزاء على الفور ، كان هذا لكي تتوبخ الذنوب بالعقوبات والخطايا بالنقمات ، ولكي ما يخاف الشعب مثلنا يخاف الطفل من المعلم الذي يعلمه ويرتعب مثل العبد البطال أمام القاضي الذي يفرض عليه عقوبة .
- وهذا هو السبب الذي من اجله كان موسى معلم الشعب يطلب منه في كل مكان أن يخاف الهه. إعمل هذا الشئ ، اكمل هذا الامر ، إحفظ الوصايا ، أتمم النواميس ، أحبب قريبك ، افتقد فقراء شعبك ، لا تعامل أخاك بقسوة ، لا تشته ما للقريب ، أكرم أباك وأمك ، لا تحلف بإسم الهك باطلاً، لا تنقل تخوم قريبك ، لا تغش ، لا تظلم ، ولا تقسو على من كان أضعف منك ، وفي نهايه كل وصيه من هذه الوصايا كان يذكره بخوف الله ، لأنه كان يعرف أن الوصايا تحفظ بواسطة الخوف، وأن خوف الله يمنع الانسان من ارتكاب الإثم .
- لقد كان صعباً على شعب اسرائيل أن يحب الهه. ولهذا دفعه موسى الى مخافته . أما وصية ” تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ” (تث 5:6 )، فقد كانت للأبرار الذين بينهم، أما الذين كانوا كعبيد ، ووكانوا يخطئون كل حين مثل العبيد ، فقد كان يوصيهم بخوف الله .الخوف يمنع الشر، أما المحبة فتعمل الخير ، الخوف يضع حداً لمسيرة الآثام ، أما المحبة فتحرض على السعي في طريق الصلاح . الوصيتان : تخاف إلهك وتحب الرب إلهك قد وضعتا في الناموس الذي اعطي للشعب حتى أن الذي يرتقى بالخوف يجد أمامه وصيه الحب الأكثر كمالاً . ولهذا السبب أيضاً نرى أن بولس الرسول لكي ما يظهر الفرق بيننا وبينهم يقول عن تلاميذ المسيح : ” نحن لم نأخذ روح العبودية من جديد للخوف ” ( رو 15:8 )، أن أنكم لم تدعوا لكي تصيروا عبيداً حتى يتولد الخوف عندكم من العبودية ، بل إنكم قد دعيتم للتبني ، هذا الذي يكمل بالمحبة في جميع الخيرات .
- من اللائق إذاً أن يرافق الخوف الطفولة ، وأن يكون ضرورياً في بداية تدبير التلمذة . لأنه بقدر ما يكون الخوف مؤلماً لمن يقتنيه هكذا فإنه يدعوه ألا ينسى ما قد تعلمه . وكما أن موسى وضع الخوف كوصية ضرورية للذين بدأوا السيرة في طريق التلمذة لله ، هكذا أيضاً فإنه ينبغي أن يرافق الخوف التلميذ الذي يبدأ السير في طريق البر ، فالذي يخاف لا يتهاون ولا يهمل ولا يزدرى بالوصايا لأن الخوف يستحثه على الدوام أن يحفظها . وإذا عرض له أن يستخف بها فإن تذكار الخوف يمنعه في الحال .
13-حالما يتذكر الانسان الله ، فإن كان هذا التذكار مغروساً حقاً في نفسه فإنه يضطرب وينزعج ويمتلئ خوفاً ورعدة ويتعجب من اهماله السابق ، فكما قال النبي القديس الذي عرف خوف الله وأحس بما يفعله هذا الخوف في نفسه : ” ذكرت الله فاضطربت ” ( مز 4:77 )، أيها النبي القديس ، إن تذكار الله ليس مصدراً للإضطراب ! لماذا إضطربت إذاً عند تذكره ؟ لماذا تذكاره المحبوب يملأك بالفزع؟ نعم ، لأني أخطأت إليه فتذكرت خطاياي وتذكرت الديان فامتلأت خوفاً . رأيت خطاياي وعقابه، وتذكاره أفزعني . فمن كان قلبه بحسب الله لا يخاف ، لأن ” قلبه ثابت ” ( مز 7:112 )، لأن تذكار الله يبهج القلب الثابت في الخير الذي يمتلك صحة الروح في إنسانه الخفي أما حينما يكون الضميير مثقلا بالخطايا،فإن تذكار الديان يجلب الخوف، فالأثيم الذي يتذكر الديان ينزعج ،والمجرم يمتلىء رعبا عند تذكر العقاب. ولهذا قال النبي إنني عندما تذكرت الله اضطربت،”ناجيت نفسي فصغرت روحي والدوار امسك عيني ،انزعجت فلا اتكلم،تفكرت في الأيام الأولى وتذكرت السنسن الدهرية، هذذت الليل بقلبي،فحصت روحيوقلت:هل يقصيني الرب الى الدهور ولايعود للرضا بعد؟”(مز3:77-7) بهذه الافكار كان نبي الله يمضي أسهاره،وكان يصلي على فراشه كما في جماعة القديسين.
14-لقد كان يتذكر كل ماهو مطالب بأن يقدمه لله كان يفكر في أيامه الماضية وفي الأجيال التي سبقت.ويأمل جميع الأبرار: كيف أرضي كل واحد منهم الله في أيامه، وبأي وسيلة وبأي سلوك ساروا قدامه منتصرين وقد كان النبي يذكر نفسه بهم لكي يذكرهم لكل الاتين من بعده ويعلم كل واحد أن يخاف الله على مثالهم وأن يتفكر في نفسه،ويتأمل أيضا بأي تحفظ واحتراس كانوا يدبرون حياتهم قدامه.
15-فقد قال إنه يعمل أمرين:كنت أتفطن في أيامي السالفة،وأتذكر الأجيال التي أرضي فيها القدماء الله.وكنت امتلىء خوفا بتذكر كلا الأمرين:كم أرضى الأبرار الله،وكم أغضبه أنا !حسبت أيامي وأحصيت سنوات عمري، تفكرتفي الأيام التي مضت والسنين التي عشتها في العالم، وتأملت في أي الأمور كنت أغضب الله،وماهي الأخطاء التي عملتها، أي الخطايا بالفعل والفكر ، بالأذن وباللسان؟ وفيما كنت أفكر في ذلك كنت أقول:”لاتدخل في المحاكمة مع عبدك، فإنه لن يتبرر قدامك حى”(مز2:143).
16-وقول النبي يدعونا أن نتبع هذا المثال ونقتدي بهذا النموذج، فنحسب ساعاتنا وأوقاتنا ونفحص أنفسنا، بأي أمر أغضب الله، وفي أي أمر نفكر لأن الذين يخرجون إالى سوق العالم يحسبون إيرادات ومصروفات كل يوم، وما يكسبونه وما يخسرونه،فكم بالأولى التاجر الروحاني الذي يخرج سعيا وراء الغني السمائي يكون ملتزما أن يعمل كذلك !لأن الإهتمام بهذين الأمرين ينشىء عنده أمرين فاضلين: يجمع ذهنه لكي يحسب، وينشغل بتأمل غناه.
17-إن ما ينبغي لنا أن نخافه إذا هو إغضاب الله،ويجب علينا أن نعتبر عظمة مجد الله ومحبته ورحمته التي بلا نهاية،والخيرات التي أسبغها على جنسنا،وما أفاضته علينا نعمته،بينما نحن بأعمالنا غير مستحقين أن ننالها.ويجب أن يتأمل الإنسان في نفسه :ماهو،وماذا كان،وماذا يستحق؟وأن يتذكر ذاك الذي أعطاه كل هذا: من هو ، وأن يتذكر أيضا الله،ويضطرب كما حدث للنبي .لأنه يليق بنا أن نخاف الله من أجل أمرين :إما لأننا أخطأنا ، وإما لئلا نخطىء،لأن الذي يذكر أنه ارتكب أخطاء ويتأمل خطاياه الماضية يجب أن يخاف من العقاب،والذي يظن أنه طاهر وليست له خطايا ماضية يتفكر فيها ويحزن عليها فإنه يجب عليه أن يخاف لئلا يغضب الله بما قد يعرض له من أخطاء بهذه الكيفية كان الأبرار يحفظون حياتهم من الخطية بفقد كانوا يداوون الجروح التي كانت تعرض لهم ويحترسون لئلا تلحقهم غيرها لأن الإصابة الأولى تعلمنا الا نعرض أنفسنا للإصابة من جديد، والمعاناة من المرض الأول تدعونا أن نحترس من معاناة أخرى جديدة.
18-يجب على الأنسان أن يتأمل الله بذهن يقظ،وينظر الى عظمة مجده وطبيعته الخفية، ويرى بعين عقله هذه الطبيعة النقية المقدسة:إن الله ليس في حاجة لأحد،مكانه في الأعلى ومسكنه مرتفع جدا،كل الغنى والبركات والكنوز هي مجتمعه عنده،هو كله نور وحياة وسعادة،وهو يغفر وهو صالح ورحوم:إنه متسامح رؤوف ومملوء محبة، هو حلو ومشتهى حسن /إنه يترجى ويطلب ويدعو كل العالم إالى الحياة إنه مشغول من أجل حياتنا ، وهو يبحث عنا لكي يجدنا، إنه يسر ويبتهج بنا أكثر بكثير منا إنه يترجانا باستمرار أن نقبل غناه،وأن نأخذ بلا حدود من خيراته،ونغنى من كنوزه ولانكون بعد فقراء.
19-إنه لايفرح بحياته كما بحياتنا، ولما كان فقرنا غير قادر أن يرتفع إالى غناه،أحدر هو غناه إلى فقرنا، ولما رأى أننا لا نريد أن نتغنى افتقر هو نفسه لكي يغنينا اسمه محبوب ولقبه مشتهي وتذكاره شهى،إنه يمنح مذاقه حلاوة الروح للنفس التي تحسه. وهو يتمجد بكثرة غنى مجد طبيعته كما لم يراه إنسان ولن يقدر أن يراه، طبيعته فائقة الوصف،غناه لايدرك،وعطاياه تشبهه وهي مثله تفوقكل حدود المعرفة.
20-إنه صالح أكثر مما نحن أردياء ،وعمته تغلب كثرة إساءتنا.طبيعته هي القياس الوحيد لنعمته،وهي وحدها مقياس محبته.نعمته ممتدة وعدله قصير الأمد، محبته تدوم الى الأبد، ونقمته الى حين.هو متقدم في غفرانه ومتباطىء في تبكيته،عقوباته قليلة واحساناته عديدة،يظهر في عقابه التحنن الذي يحمله لنا،ولأنه يرغب أن نكون له لذلك فهو يجلدنا لكي نأتي اليه.ليست عنده خسارة سوى هلاكنا،والحزن لايدركه مالم يكن من أجلنا هو لبس أوجاعنا لكي نطرحها نحن هنا،وتسربل بضعفنا لكي يشفى أمراضنا.لقد حزن لكي يفرحنا،واحتمل الغموملكي يملأنا بالبهجة ، وصار معوزا في كل شيء لكي لا يعوزنا نحن شيء.
21-ومع أنه كان يعرف أننا سوف نغضبه،إلا أنه جبل طبيعتنا كأطفال محبوبين هو في احتياج إاليهم.ومع أنه كان يعلم أننا سنكون في عداد خدام الشياطين، إلا أنه حسبنا كورثة بهذين العالمين،ومع أنه كان يرى مسبقا صورة مشيئات الشيطان مرسومة في صورتنا،فقد رسمنا وصورنا على صورته المشتهاة.ومع أنه أحس أننا لا نحافظ على ما أعطاه لنا منذ البداية، إلا أنه أعدها لنا بأعظم مما كانت.
22-المعطى الغني اذا لم نتقبل منه عطاياه يعتبر ذلك عنده خسارة ،وهو حين يعطينا يشكرنا عندما نقبل عطيته؛ وحين نأخذ من كنزه يعتبر أننا بذلك نضيف إاليه!إنه يحب البشر،وهو على الدوام صالح وخير. نقاوته التي لا تتكدر تعمل فينا بواسطة تعليمه لكي ماتصيرنا أنقياء بشبهه.هذا الغني الذي لم يفتقر قط يجتهد في التودد الينا لكي مايجعلنا نأخذ من غناه يصيرنا نكون نحن الذين نمتلك يبدو وكأنه يغتني بواسطتنا.إنه لايريد أن يمتلك شيئا بدوننا ولا يفرح بشء من غيرنا، ففرحنا هو مسرته وحززنا هو حزنه وكل خسارتنا يحسبها له لقد أعطانا جميع الخيرات ويريد لنا المزيد لقد سكب علينا كل غنى ولك يكتف بذلك حتى أعطى نفسه لنا في محبته.
23-هذا هو الله ،كم عهو غني وصالح وكريم ومتسامح.وبهذا المقدار هو حلو ورحيم ،مهتم بالتدبير وقادر على العمل، سريع التحنن والغفران، ورؤوف ومملوء محبة، غني وسخي في العطاء ،خير ومحين،صبور ومسالم،وهو الذي يحب جنسنا بهذا المقدار، ويفرح بطبيعتنا الى هذا الحد هو طبيبنا وربنا،وهو أبونا الذي ولدنا بنعمته ورفعنا بتحننه فمن هو الانسان الذي يرى كل هذه الخيرات التي وهبت لنا ولا يمجد معطيها ولا ترتقد نفسه كلما تذكرها؟ من هي النفس التي حظيت بكل هذه المواهب ولا تخجل أمام واهبها؟ إن مايجب أن تخافه هو أن لا نخاف الله وأن لا نخجل من كل هذه المحبة وأن لا نخجل من كل هذه المحبة وأن نأخذ دون خزي كل هذه النعم والخيرات الوفيرة.
24-هذه الأمور وما أشهها هي التي تذكرها النبي واضطرب بسببها.وكل من كانت له يقظة وحرس هذه النفس القديسة فإنه يضطرب مثلها عن تذكر الله،ويرتعد لتذكاره في خروجه ودخوله وفي جميع أعماله.لأن الذي يخاف لا ينام،وإذا نام فإنه يرى في حلمه مايدعوه للخوف. إنه لا يأكل ولا يشرب. وإذا اضطرته الطبيعية يختلط الخوف بطعامه وشرابه. كل مايصيب الإنسان الملوء من خوف الله يظل خارجا عنه.لأن الخوف يشغل ذهنه ويحتل كل مداخل ومخارج نفسه،مثل الحراس الذين يحرسون أبواب المدينة، فلا يسمح لأي عمل أو فكر بالدخول أو الخروج دون أن يفصحه. إنه لا يسمح بالخروج لأي فكر من أي نوع سواء كل من الداخل أومن الخارج،كما لايسمح بالدخول لأي عمل لايليق.
25-والنبي أيضا يعرفنا بخوفه لله في مواضع أخرى حيث يقول:”قد اقشعر لحمي من رعبك ومن أحكامك جزعت”(مز120-119)، وأيضا:”صرت مثل زق في جليد ولفرائضك لم أنس”(مز82-119)؛كما قال:”الحزن في قلبي اليوم كله”(مز3:12):”الى متى تحجب وجهك عني؟”(مزمور4:13)،”الى متى يارب تنساني؟الى الانقضاء؟”(مز 13:3).وقال أيضا :”اشفني يارب فإن عظامي قد رجفت ونفسي قد ارتاعت جدا”(مز2:6)”تعبت في تنهدى،أعوم كل ليلة على سريري وبدموعبي أبل فراشي،توجعت عيني من غضبك،”(مز7،6:6).قال هذا وهو متيقن من أن كل ذلك كان بسبب خوف الله.وقد قال أيضا :”كنت أئن من تنهد قلبي”(مز8:38)،وقال:”اهدني يارب بخوفك وبعدلك”(مز9:5) وقال:”ليست في جسدي صحة من وجه غضبك ولا سلامة لعظامي بسبب خطاياي، لأن آثامي قد طمت فوق رأسي كحمل ثقيل قد ثقلت علي ،قد نتنت وقاحت جراحاتي ،شقيت وانحنيت من جهة خطاياي واليوم كله أمشي حزينا،لأن عقباي قد امتلأتا احتراقا، تعبت وتزللت جدا”(مز9:4:38).
وقال أيضا :”قلبي قد اضطرب وفارقتني قوتي ونور عيني أيضا ليس معي”(مز11:38)،وأيضا:”صممت وصرت مئيبا وحزينا بلا مسرة وتجدد وجعي،حمى قلبي في بالمنى واشتعلت نار في جسدي (مز3:39-4) وقال أيضا:صمت،لا أفتح فمي لأنك أنت فعلت ،قنيت من تبكيت خطاياي”(مز10:39).
وفي موضع اخر يغبط الإنسان الذي يخاف الله ويعرفنا بالخيرات التي ينشئها خوف الله في الذي يخافه، ويقول:”طوبى للرجل الخائف الرب”(مز1:112)وهنا نجد أن الذي يخاف الله هو الذي يحظى بالتطويب. وفي حين أن الرب يمنح تطويباته من أجل أعمال أخرى (مت*:3-12)،نجد أن داود النبي يطوب الرجل الذي يخاف الرب. ويقول “طوبى للرجل الذي لم يسلك في طريق الخطاة (مز1:1)،وهو متيقن من أنه لم يسلك في طريق الخطاة لأنه يخاف الله.وقال أيضا:طوبى للرجل الذي تؤدبه ياربوتعلمه من شريعتك”(مز12:49) ،وواضح أن خوف الله هو الذي يعلم الشرائع وأن الرجل الذي يخاف الله الذي يبل تأديبه.وقال أيضا:”طوباهم الذين بلا عيب في الطريق،السالكوت في ناموس الرب.(مز1:118)،وهنا أيضا فإن خوف الله هو الذي يحفظ الإنسان من العيوب ويحثه على السير في طريق الناموس،كذلك يقول:”طوباهم الذين غفرت لهم آثامهم وسترت خطاياهم”(مز1:32)، وواضح هنا أيضا أن خوف الله هو الذي يقود الغنسان الى التوبة التي من أجلها تغفر الخطايا ،وأن خوف الله هو الذي يلد الحزن والدموع التي من أجلها تستر عن عيني الإنسان صور خطاياه.
27-وقال أيضا:”طوبى لجميع الذين يتقون الرب السالكين في طرقه”(مز1:128)،وهنا أيضا “يوضح داود النبي أن خوف الله هو الذي يجعله يسلك في طرق وصاياه،وفي موضع آخر يقول عن الذي يخاف الرب إنه يحفظ الوصايا التي اعطاها الرب(مز12:19)،ويدعو جميع البشر أن يتقربوا الى الله بخوف،ويطلب من الخليقة جمعاء أن تخاف الرب الذي صنعها:”لتخش الرب كل الأرض ،وليرتعد قدامه كل سكان المسكونة “(مز8:33). وقول النبي قد أوجب الخوف على كل سكان العالم،وعلم الخليقة كلها أن يأتوا الى الله بواسطة هذا الطريق،وكل من يشعر بعبودبته يلزمه أن يخاف سلطان من يخضع له.ينبغى اذا أن كل مخلوق وكل من وهب تمييزا لكي يحس بخالقه،أن يدنو اليه بخوف ورعدة.ِ
28-إنه من المناسب لطبيعتنا أن تخاف الله،وأما أن نحبه فذلك يعطى لنا بنعمته،لأن الإنسان غير قادر أن يحب الله،لكن الله هو الذي يتنازل كي يحب من الأنسان .والخليقة مرتبطة بطبيعتها بخوف الله،وحين ترتفع لدرجة الحب،فليس ذلك لأنها قادرة بطبيعتها أن ترتفع الى هناك،بل لأن النعمة هي التي تتنازل اليها لكي ترفعها الى علو درجة الحب الإلهي،بحيث أنها تحب الله بواسطة النعمة بعد أن كانت مرتبطة بخوف الله بواسطة العدل. الملوك والرؤساء لايسمحون لكل الناس أن يظهروا لهم الحب وأن يكون لهم دالة وألفة معهم، ولكن كل مرؤوسيهم الخاضعين لهم يظهرون أمامهم بالخوف والخضوعع وليس بالدالة والحب.لأن السلاطين البشريين المعتادين بالمستويات العالية يعتبرون محبة الفقراء لهم نوعا من الإهانة ،ولهذا فهم يفرضون الخوف على جميع الناس كأسياد وليس الحب كآباء.أما الله فقد صارلنا أبا بنعمته،ومنحنا القدرة أن نحبه،ولكن لاينبغي لنا أن نرتفع الى هذا الحب بجسارة كما لو كان بقوتنا وإرادتنا.لأنه لايليق بنا سوى أن نثبت في الخوف كل أيام حياتنا حتى إذا شاء هو نفسه،ترفعنا نعمته لدرجة محبته.فليس هو على مستوى طبيعتة نفسنا أن نحب الله،بل إن مستواها الطبيعي هو الخوف.ولهذا تحض الكتب المقدسة بصفة خاصة على اقتناء الخوف أكثر من الحب؛أن الاحتراس يرافق الخوف والثقة تلازم الحب.
29-الحب هو ثمرة الخوف،فلن يحصد الإنسان الحب قبل أن يكون قد تعب وزرع بالخوف،وكما أن حصاد الفلاحين في هذا العالم في يد الله،وأن ليس باختيارهم سوى العمل والزرع،هكذا أيضا فإنه ليس باختيارنا سوى أن نتعب ونعمل بالخوف،أما إدراك قياس الحب وجمه ثماره فهو بإرادة الله،قبل ظهور المسيح الذي أتى بالحب للعالم كان الخوف هو الذي يتدبر به جميع البشر في العالم،والى أن يستعلن المسيح للإنسان(في نفسه)ينبغي أن تستمر حياته في مسارها الطبيعي أي في عبودية الخوف.وإن كان خالقنا بنعمته قد دعانا نبين له لكي يكرمنا ويرفعنا،ولكنه من واجبنا أن نمكث في الاتضاع ونثبت في خوف العبيد. ليس لنا أن تدعى بنين، ولكن ذلك هو لنعمة ذاك الذي دعانا.ليس لنا أن نتوقع ونطلب أجرة،بل علينا أن نخدم في خوف،والله هو الذي يعطيناأجرة المحبة.ولسنا نخطىء حين ندعو الحب أجرة الخوف،فكما أن العامل يأخذ أجرته بعد العمل ،هكذا فإن الرب يسوع يذيقنا حلاوة حبه بعد خدمة الخوف.
30-ومن هذه المذاقة نبلغ الى الفرح،وعند ذلك نقوم في ثقة البنين،ومن هنا أيضا يجد انساننا الخفى الحرية بالقرب من الله ،ويستمد ذهننا كل حين الفرح الروحي،ويتنعم سرا في حياة النور السمائي،ويتولد في النفس الازدراء بكل الأشياء المرئية،ونصبح كما لو كان مسكننا منذ الآن في الملكوت المعد للقديسين.هذه الأمور وما يشبهها هي من خاصة النفس التي تذوق الحب الإلهي،لأن الإنسان الذي يكون في الحب الكامل هو في الله.وأي سعادة تماثل هذه السعادة،وأي راحة تساوي الوجود في الله؟القيام في الحب الكامل هو النقاء من جميع الشرور وكمال كل صلاح،لكن ربنا يسوع المسيح لا يعطى غنى الحب هذا إلا للإنسان الذي يعرف أنه يستحقه.
31-لأنه إذا كان الحب يلد الثقة،فإن التهاون هو في المقابل يلاشى الثقة، ولاتوجد أية فضيلة وإلا ويكون بالقرب منها ثغرة يمكن أن تسلب عن طريقها،أما الخوف فليس فيه تهاون، بل هو مملوء يقظة واحتراس وسهر دائم يحفظ الفضائل من السلب،لأن خوف الله يدفع الإنسان الى جمع الكنوز،وبعدما جمعها يعظم خوفه ويتضاعف لأنه الآن يهتم بحراسة مقتنياته لكي لاتسلب منه.
32-خوف الله نفاع جدا وضروري،من كل جهة الحياة الانسان في العالم ،فموضع الحياة الزائلة هو مكان الخوف.أما عالم الأحياء الذين لايموتون فهو مسكن الحب.فلننتبه إلى موضعنا ونزيد فينا الخوف،ولنتأمل المسكن الذي نحن مقيمون فيه ونقتنى لنا الرعدة أمام الله.وليملك علينا فكر طاعته دائما،ولنتيقظ تماما كالذي ينهض من نوم عميق ونحرص على حفظ وصاياه.لأن هذه هي طبيعة خوف الله،فهي لاتنبهنا على أمر واحد دون الآخر ،بل تحثنا على عمل جميع الوصايا.
33-ولهذا فإن روح الله أراد أن يعلمنا خوف الله عن يد جميع الأنبياء.لأن داود النبي قال أيضا:”ليخف الرب كل عابري الأرض ،ويجثو أمامه كل من ينحدر إالى التراب”(مز3:22)،كما قال:”اهدني يارب في خوفك وفي برك”(مزه:8-9)،ولأنه كان يعرف منفعة مخافة الله طلبها من الله كعطية من عنده،لأن البر وكل اهتمام للنفس يرافقه خوف الله ويوجهه،ومخافة الله هي التي تقدر أن تطلب من الله أن ينسى خطايا صبه (مز7:25).وقد قال أيضا:”رأس الحكمة مخافة الرب” (مز111-10)، لأن كمال طريق الأعمال الجيدة هو الحب الروحاني،والحكمة المتولدة من الحب،ولهذا بصواب علمنا داود الطوباوي أن بداية طريق الحكمة هي مخافة الله.كما أن لكل عمل في العالم بداية ونهاية،وأن الطرق المفتوحة للسير لها أيضا بداية ونهاية،هكذا أيضا فإن طريق الصلاح له بداية ونهاية.فبدايته هي خوف الله ونهايته هي الحكمة التي تولد من الحب.يجب إذا على من يريد أن يبدأ طريق المسيحية أن يبدىء بخوف الله حسب تعليم داود الطوباوي،وكما قال قال بني آخر:”خوف الله يفتح أذني”(إش50-5)حسب الترجمة السبيعينية).
34-وقد كتب عن يونان النبي أنه خاف من الله وهربالى يافا(يون3:1).وقد تولد خوفه من بساطته،فقد هرب كشخص يخاف الله لكي لايلتزم بعمل كان يرى أنه يفوق طاقته.وعندما سأله الملاحون من أين هو،ومن هو الإله الذي يعبده،قال لهم:”أنا خائف من الرب إله السماء “ولما رأوا الأعاجيب التي عملها الله في البحر –لأن البحر وكأنه قد وهب تمييزا،اضطرب ليعلن لهم عن ذلك النبي الهارب،ثم عاد فهدا ووقف عن هيجانه عندما طرحوه فيه-رأوا في هذا قوة الرب.وكتب عنهم:”فخاف الرجال من الرب خوفا عظيما وذبحوا ذبيحة للرب ونذروا نذورا”(يون 1-16).
35-لقد طلب الله من اليهود الخوف ،وذلك حين بكتهم عن يد إرميا النبي مستشهدا بالطبائع الصامتة التي ترتقد عند قول الرب مع كونها صامتة في الوقت الذي فيه يحتقرون هم وصاياه:”إياى لا تخشون يقول الرب،أو لاترتعدون من وجهي أنا الذي وضعت الرمل تخوفا”للبحر كفريضة أبدية لا يتعداها؟”(إر5-22). هنا أيضا نجد أن الخالق يطلب من الخلائق الخوف والرعدة.ولأنهم تركوا عنه مخافته استحقوا التوبيخ عن طريق الطبائع الصامتة ،فهي تخاف وترتعد قدام عظيمة الخالق،بينما البشر يحتقرون ويزدرون بوصاياه.
36-وقد أظهر الله عن يد النبي عظمة طبيعته لكي يضع خوفه في الذين يسمعونه،وهم الذين سيحتقرون اتضاعه لو أنه أظهر لهم=لقد أعلن لهم مجد طبيعته لكي يرتعدوا قدامه،أما الذين أحبوه أكثر عند سماعهم بتنازله فقد أظهر لهم حلاوته واتضاعه.لأن الجاهل من عادته أن يحتقر من يتضع قدامه،أما الحكيم فيحبه أكثر بسبب اتضاعه.والجاهل ليس له عين يرى بها الحب فبي الاتضاع،ولهذا فقد أظهرت له عظمة الله،وكتب التوبيخ من أجله،وتمثلت القسوة والرعبة أمامه لكي بواسطة ذلك يخاف أكثر ذلك الذي أظهرها له،والشهادات التي سوف أذكرها تكشف عن السبب لماذا استخدمت إرادة الله أصوات الخلائق لدى الناس:البحر يطيعني فيضبط عظمة أمواجه بحدود الرمل الحقيرة،ويرتفع دون أن يتجاوز الحاجز المتواضع الذي يحيط به،وانت يا إنسان تحتقر الإله المخوف!
37-وفي موضع آخر يعرفنا الله أنه استخدم كل الوسائل النافعة مع اليهود،فقد بين لهم مبررات كل من الخوف والحب ووضعها أمامهم ،أما هم فلم يكن لهم خوف ولا حب :”إن كنت أنا ربا”،فلماذا لا تهابوني؟وإن كنت أبا فلماذا لا تكرموني؟”(ماد1-6):فإن كنتم لا تهابوني كرب،فلماذا لا تكرهوني كأب؟.ولهذا فهو من الجهة الواحدة يعدد أمام الشعب الأعمال التي عملها لهم:الخروج من مصر،خيرات البرية،الدخول الى أرض الموعد،اخضاع شعوب الغرباء،الخيرات المتعددة الفائضة عليهم كل الأيام-لكي مايقودهم إلى محبته بتذكار هذه النعم الجزيلة.ومن الجهة الأخرى يحصى الأعمال العظيمة التي عملها في الطبيعة،سائر الطبائع التي أوجدها بغمر إرادته ،وهي كلها قائمة بقدر كلمته،وهي تراعي كل حدودها ،وكلها خاضعة لتدبير مشيئته:”وزن الجبال بالقبان والأكام بالميزان ،وقاس السموات بالشبر وكال بالكيل تراب الأرض….كل الأمم كلا شىء قدامه،من العدم والباطل تحسب عنده”(إش 40 :12-17)؛.قال هذا كله عن يد النبي لكن يعلن عظمته وبذلك يجلب الخوف لكل من يسمعه.
38-عندما يكلم الله الذين هم في درجة العبيد،فهو يعدد أمامهم الأمور الرهيبة والمخوفة التي لطبيعته،أما الذين أدركوا درجة الحب فيخبرهم بحبه واتضاعه،وأيضا بتنازل لكي يتعلم معهم،لأنهم لا يستخفون به في تصاغره بل يحبونه أكثر في هذا أيضا.وفي الموضع الذي لايثق فيه بالناس بسبب صغر أرواحهم وطفولة معرفتهم، يعلن لهم ويتحدث اليهم هن الأمور الرهيبة والمخوفة،ولا يعطيهم حرية الدنو اليه ولا دالة الثقة في محبته خوفا من أنهم حين يشعرون بمعرفته وتسامحه وعلى الأخص بمحبته وصلاحه-يحتقرون لطفه وحلاوته،وينشغلون جسديا بالعبودية لكافة الشرور.وهذه الأمور (الرهيبة)لا تظهر لأولئك الذين قد اقتنوا ميراث النبوة بنعمته وبجهاداتهم،لأنهم يحبون مذاقة محبته،وقد صاروا صالحين لأنهم يحسون بصلاحه،كما أنه عندما أستعلن لهم تنازله واتضاعه،دفعهم ذلك إلى أن يصيروا مشابهين لأبيهم،ولهذا كانت استعلانات الله الأولى متوافقة مع الخوف،والأخيرة متناسبة مع الألفة والمحبة:في الأولى يستعلن كإله لنا وفي الأخيرة كأب.في الماضي كان يسمح باقتراب الناس اليه في درجة العبيد،والآن هو يدعوهم لميراث النبوة.
39-وعندما كان يستعلن ليجمع العبيد،كان يحمل السيلط والقيود والضربات والعقوبات ،والالام والعذابات،والخوف والرعب،والتوبيخ والصرامة والمجازاة السريعة،وعصا ممدودة فوق رؤوس المذنبين،وقضاء حاضر وقاض مستعد.هناك كانت ترفع الخشبة لصلب المجدف،وتجمع الحجارة للرجم،وتشعل النار للتعذيب بالحريق،وتعد السياط لتأديب المجرمين،ةتهيأ الأدوات لانتزاع الأسنان الواحدة بعد الأخرى،وتفقع العيون،ويعد الحديد المحمى لتسديد الديون.هناك كانت تلطم الخدود،وتكتب الأحكام على الخطايا .مثل هذه الالام كانت معدة للعبيد،حتى لاريفع العبد الأثيم رأسه ويتشامخ على الديا:فهو يكسر ساقية لكي لا يقاوم، ويطع يديه لكي لا يضرب،ويقلع أسنانه لكي لا يعض ،ويخزق عينيه لكي لا يرى ولا يشتهي ما ليس له، يقاض بالخسارات حتى لايسبب الخسارة للغير.
40-لقد كان يقمع شرور هذا الشعب بخوف العذابات ،وذلك لأنهم لم يقتنعوا بأن خوف الله يمنعهم من إتيان تلك الأعمال البغيضة،لأن الإنسان الذي يخاف الله لا يحتاج الى الخوف من العذاب ؛فخوف الديان الخفى يجتذبه بعيدا عن كل الرذائل .اقتن في نفسك إذا أيها التلميذ هذا الخوف وأنت لا تخاف من شيء.لأن من يخاف الله لا يخاف العالم،أما الذي يخاف من العالم فلا يخاف الله.فلنخف من أن نغضب الله،حبل الخوف قد وضع عليك لكي ماتخاف الله،لأنه يوجد شيء في العالم يثير الخوف في النفس التي شعرت بخوف الله. والإنسان الذي يرتعب بواسطة عدل الله لايرعبه الخوف من الاحزان في شيء.لقد استبدل ربنا خوفا بخوف،فقد رفع عنا خوف الموت الزمني ووضع علينا خوف الموت الأبدي.لاتخف من الموت الأول ،ولكن خف من الثاني:”لاتخافوا من الذين يقتلون الجسد. بل خافوا بالحرى من الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما”(مت 10-38).فالذين يقتلون لا يكونون مصدر رعبة أو خوف طالما كان هناك من يقيم ويحيى،لكن الذي يوجب الرعب والخوف حقا هو الذي يميت بينما ليس هناك من يحيى ومن يقتل وليس هناك من يعيد الى الحياة.
41-الخوف من كل ماهو زائل يزول معه،أما الذي لا يزول ولا يتغير فيليق به أن نقدم له الخوف،وخوفه لا بطل :فهو “الناظر الى الأرض فترتعد ،ويمس الجبال فتدخن”(مز 104-32)كما قال:”من انتهارك تهرب ومن صوت رعودك تفزع”(مز 7:104)فهوا ذا حسب قول النبي يحل خوف الخالق أيضا على الطبائع الصامتة تخافه، ملتزم طبيعيا بالخوف.فإذا كانت الطبائع الصامتة تخافه ،فكيف لاتخافه بالأولى الخلائق الناطقة التي وهيت إدراكا وتمييزا؟النار الزمنية تكون مرعبة للناس،بينما تذكار النار الأبدية بعيد عن ذهنهم،منظر العذابات المرئية يملأهم رعدة،بينما العذابات الأتية بعيد عن رؤية أنفسهم؛الموت الزمني هنا ممتلىء فزعا،بينما صورة الموت الأبدي لا نضعها أمام أعيننا !لأنه حالما يدخل تذكار ماهو مكتوب فإن التفكير في كل ماهو أرضى يختفى من القلب.
42-وبالعكس ،مادامفكرنا خاليا من خوف الله الدائم فإن كل خوف يلاقينا يرعبنا،وما دام الملك بعيدا،فالخوف يكون من القاضي،أما إذا حضر الملك بسلطانه يتوقف الخوف يكون من القاضي،وليس هذا فقط،بل إن القاضي أيضا هو نفسه وكل الذين تحت يده يخضعون للسلطة الملكية.والذين كانوا مصدر خوف يمسكون بالخوف بدورهم ،لأن كل أنواع الخوف تنضم وتتحد الى خوف واحد،وكل القادة والرؤساء الذين يملك خوفهم على جميع من هم تحت سلطانهم يطيعوت هم أيضا ويخضعون تحت خوف واحد يسيطر على كل الأنواع الأخرى ،حتى لايبقى سوى خوف واحد واجب.وبهذا الخوف يبطل سلطان كل أنواع الخوف الأخرى وتتوقف الرعدة التي تتولد عنو جميع المقتدرين،ويحنى كل رئيس رأسه أمام الرأس الملكي الواحد لذي يملك على الكل.وبالمثل فإنه بهذه الصورة حينيبتعد خوف الله عن النفس ،فإنها بالتالي تخاف من الكل:من السلاطين والقضاة والرؤساء والحكام والأغنياء والقادة.ومن الشعوب وكل البشر،ومن الصغار والأدنياء،هذا الى جانب الاحزان والخسائر والعذابات والأمراض والالام والعوز والفقر وهجران الأهل وابتعاد الأصدقاء والنفي من البلاد.فكل هذه الأمور تصبح مصدر خوف ورعبة للإنسان الذي لا يخاف الله.
43-فإذا دخل خوف الله في النفس وسكن فيها وضبط جميع أفكارها،فإن هذه النفس لاتقدر أن تتقبل أي خوف أخر (سواء من السلاطين أو من غيرهم).لأن كل خوف يريد أن يدخل النفس إذا نظر خوف الله ساكنا فيها فإنه يهرب حيث لايوجد مكان في ذلك المنزل لساكن آخر.فكما أن الإناء الممتلىء لايمكن أن يقبل بأي شيء اكثر إلا إذا صار تفريغه مما به،هكذا أيضا فإن النفس الممتلئة من مخافة الله لا تستطيع أن تقبل خوف العالم أو أي شيء مما في العالم،لأنها منشغلة تماما بهذهه المخافة الواحدة الحقيقية لله. فلنحرص إذا أن نقتني هذه المخافة ونزدرى بكل شيء،ونتخلى عن كل شيء لكي نتفرغ فقط للعمل الواحد، أن نخاف الله،وبتذكار اسمه المخوف العظيم نحفظ حياتنا بكل يقظة، ونقدم التمجيد كل حين للآب والإبن والروح القدس الى الدهور آمين يكون .
نهاية المقالة السابعة عند خوف الله عند الأبرار القدامى
المقالة الثامنة
يقول فيها أنه لايقدر أحد أن يصير تلميذا كاملا للمسيح مالم يتجرد أولا من كل المقتنيات البشرية،
وما لم يخرج من العالم خارجيا وداخليا.
1-لابد للانسان الذي يريد أن يسير في الطريق المرئي للكمال أن يبدأ بالترتيب الفاضل الذي يليق بهذا الطريق،ليس بالترتيب الفاضل الذي يليق بهذا الطريق،ليس بالترتيب الذي يبدو له أنه جيد،ولكن بحسب الترتيب الذي أظهره المسيح ربنا في كلامه لتلاميذه،مثلما سار هو نفسه جاعلا نفسه ناموسا لنا،وتاركا لنا مثالا صالحا لكي نتبع خطواته (ابط22:2)لأن الرب يسوع صار معلمنا ليس فقط بكلامه ،بل وأيضا بالأعمال الكاملة التي عملها.فهو حقا المعلم الصالح الذي علم وعمل بكل ماعلم به حتى صار تعليمه عملا وعمله تعليما.وهنا هو ما أظهره لنا في خدمته الخاصة ،فبعدما أكمل كل بر الناموس وحفظ الوصايا التي تمارس في العالم،ترك العالم وخرج منه لكي يعلمنا الكمال.
2-إننا لا نقول أن الذين هم في العالم لا يقدرون أن يصيروا أبرارا،ولكننا نقول إنه ليس بإمكانهم أن يدركوا الكمال،لأن العالم،أى بره وبر الناموس الذي يمارس فيه.هما أضداد الكمال،والإنسان لا يقدر أن يقوم بالعملين معا ويصير كاملا في الفضيلتين وهو في العالم.ولهذا وضعت وصايا خاصة منفصلة للذين يسلكون في العالم لكي ما يمكنهم بواسطتها أن يقتنوا خلاصهم،وتعينت طريق أخرى هي طريق الكمال الذي هو فوق العالم.
3-إن السيد المسيح يريد للجميع أن ينهجوا طريق الملائكة،وأن لايحيدوا عن مثال ترك العالم الذي وضعه بين الطريقين؛ولكن ذ ليس الجميع لهم قدرة على الخروج من العالم،وهو يريد أن الكل يخلصون،وضع وصايا مختلفة لكل إنسان لأجل خلاصه،ورتب مقاييس ودرجات لتعليمه،من اجل الذين يتقبلونها والذين هم في حاجة اليها وبدونها لا يقدرون أن يخلصوا.فطريق العالم يوافقه تدبير الناموس.وطريق الخروج من العالم يناسبه تدبير الكمال.وحيث ينتهي طريق العالم يبدأ طريق الكمال بالتجرد من جميع الممتلكات .
4-مادام الإنسان يملك غنى جسداني قليلا أو كثيرا،فهو لايقدر أن يسير في طريق الكمال ،لأنه حسب مقدار الغنى تكون رباطات النفس التي تربط جناحات العقل فتعطل طيرانها في طريق السماء.فالذي يقتنى غنى يفكر فيه بالضرورة،والذي بفكر في الغنى لا يفكر في الله،واذا ما تحرك فيه تذكار الله فلا يكون ذلك على الدوام، لأنه لا يمكن أن يهذ بتذكار الله بينما هو يفكر في مقتنياته،وإذا ظن أنه يتذكره فهو تذكار زائف وليس حقيقي. لأنه لايمكن لهذين التذكارين أن يسكنا معا في النفس،وإن سكنا فلا بد أن يكون الواحد زائفا والآخر حقيقيا، وإن تصور أحد أنه يفكر في الله حقا في حين أنه يوجد في نفسه فكر الغنى،فهو لا يفكر في الله بكل قوة نفسه التي يليق به أن يعطيها بالكمال لله.إنه لا ينبغي لنا أن نخدم الله بجزء واحد من أنفسنا بينما نخدم العالم بجزء آخر،بل ينبغي لنا أن نعطى كل قوتنا لعمل وصايا الله،وأن تكون كل الأوقات نافعة لتذكار الله،لكي نكون هياكل له وحده خاليين من كل الأفكار الغريبة عنه.إن قول مخلصنا:”لاتقدرون أن تخدموا الله والمال”(مت6: 24)يشهد بأن الإنسان صاحب الغنى ومالك المقتنيات في العالم لا يستطيع أن يخدم الله كما يليق به.
5-اذا تفكر أي مستمع في نفسه أن باب البر قد أغلق هنا أمام جميع الناس لأنهم لا يقدرون أن يتحرروا تماما من فكر الغنى،ولأنه-بحسب قول المسيح-كل من يفكر فيه لا يفكر في الله،فمن الضروري أن نفهم ماذا يعني هذا القول إن الشخص الذي يفكر في الغن لا يقدر أن يفكر في الله كي يصير كاملا،لكنه يستطيع أن يكون باراعلى قدر مايمكن لمالك المقتنيات في العالم أن يكون،اذا لم يكن عبدا لغناه بل سيدا له.لأنه يوجد أناس عبيد لغناهم،وآخرون يستخدمونه.فقول ربنا إذا يخص من كان عبدا لغناه،فهو الذي لا يقدر أن يكون خادما لله،لأنه”لا يقدر أحد أن يخدم سيدان،واظهر من يكونان حين قال:سيدا له لا يقدر أن يخدم الله،لأنه سوف يخدم السيد الذي اختاره لنفسه بحرية إرادته،وهو يحب خدمته وقد جعله سيدا له لأنه يخضع له بإرادته .وقد اعتاد الناس أن يحبوا السيد الذي يختارونه أكثر من الذي يفرض عليهم اضطرارا وبحكم الطبيعة.
6-والقليلون الذين أرضوا الله أو يرضونه هم الأسياد على غناهم،يستخدمونه كعبد صالح في كل عمل=ليطعم الجياع ويكسو العراة ويعتق الاسى ويقدم الذبائحوالتقدمات لله ويطلق المسجونين بسبب ديونهم،والى حيثما أرادوا يرسلونه ليعمل حسبما يريدون كخادم مطيع .هكذا كان ابراهيم واسحق ويعقوب وأيوب ويوسف وداود وخرقيال.البعض منهم كانوا أغنياء وآخرون رؤساء وآخرون ملوكا.وكان الكل بصفة عامة أصحاب غنى وكثرة من الممتلكات ،ولكنهم كانوا متسلطين على غناهم وليسوا مستعبدين له.فقد كان غناهم هو الذي يخدمهم في كل الأعمال الصالحة حسبما كانوا يريدون،ولم يكونوا قط عبيدا للشرور التي يطلبها منهم المال.
7-هناك إذا تنوع في الوصايا،ويمكن معرفة لمن تتوجه كل منها .وقوله هنا:”لا تقدرون أن تخدموا سيدين،الله والمالطبحسب معناه يكون قد قيل للذين يريدون أن يكونوا أبرارا في العالم وإن كان لايلزم أن يكونوا سائرين في طريق الكمال.فهو ينصحهم ويحذرهم من أن يصيروا عبيدا للمال،ويحثهم أن يتمسكوا بالله سيدا لهم،وهو الذي يتكفل بخلاصهم طبيعيا.”لاتكنزوا لكم كنوزا على الارض حيث يفسد السوس والصدا وحيث ينقب السارقون ويسرقون ،بل اكنزوا لكم كنوزا في السماء حيث لا يفسد سوس ولا صدا وحيث لا ينقب السارقون ويسرقون”(مت19:6-20 ) هذه الوصية من الواضح أنها لا تناسب المتوحدين والكاملين.إذكيف يقول:”لا تكنزوا على الأرض “لمن أمرهم:”لا تهتموا للغد”(مت6-34)؟وقوله :”اكنزوا في السماء بصدقاتكم ،كيف توافق الإنسان الذي قال لهطلا تقتنوا ثوبين ولا كيسا للمال ولا خرجا ولا نقودا في مناطقكم”(مت 10:10)؟وما هو الشيء الذي يمكن أن يأخذه السارق أو يفسده السوس عند الذي قد طلب منه أن لا يمتلك شيئا؟
8-إذا فقوله:”لا تقدرون أن تخدموا الله والمال “هو وصية للذين يمتلكون .والرب حين رأى أنهم لن يرتقوا الى درجة الكمال، تنازل بقوله هذا مقتربا اليهم،ووضع لهم الناموس الذي يناسب الموضع القائمين فيه.فقد قال: بما أنكم لا تقدرون أن تتركوا الغنى ،فعلى الأقل لا تجعلوا أنفسكم عبيدا له ، ولا تخضعوا له ، بل كونوا أنتم أسيادا له واهدوا اليه بكل الأعمال الفاضلة.لأنه لو كان هو سيدا لك فسوف يقودك حيثما يشاء ،الى أعمال السلب والسرقة وشهادة الزور والغش والاختلاس والأقسام الباطلة،وحينا الى القتل وحينا ىخر الى مشاركة الشياطين، ولا يترك أمرا رديئا إلا ويطالبك بأن تعمله طالما كان هو المتسلط عليك وأنت عبدا له.إذا كنت أنت سيدة فسوف ترسله لعمل كل صلاح، أما إذا كان هو سيدا لك فسوف يكلفك بكل الشرور،لأن ناموس السيد هو الأمر وعمل العبد هو الطاعة والخضوع. ومادام هناكسيد فهو الذي يأمر، ومادام هناك عبد فهو الذي يتلقى الأمر وينفذه. والموضع الذي يوجد فيه أشخاص يأمرون وآخرون يؤمرون، تكون الأعمال حسب إرادة الذين يأمرون.
9-وهذه الوصية التي وضعها الرب يسوع للذين يمتلكون غنى أن يكونوا أسيادا على غناهم ليست وصية صعبة،فهو إما يعرفهم-بحسب درجتهم- بما يرغبون فيه وهم لا يعرفون كيف يحصلون عليه.وكما أن من يحب أن يصير عالما ولا يعرف كيف يقتنى العلم،أو من يحب أن يكون غنيا ولا يعرف كيف يمكنه ذلك،أو من يريد أن يسكن منزلا مزينا جيدا ولا يعرف كيف يبنيه ويزينه-نبغي له أن يعثر على شخص يعلمه،هكذا أيضا فإن الذين يريدون أن يكونوا أصحاب غنى وينقصهم العلم يصيرلهم الغنى سيدا.والمعلم أشفق على الذين يمتلكون المقتنيات، لذلك علمهم أن يصيروا هم أنفسهم أسيادا على غناهم كما يريدون وكما أظهر لهم بحسب درجتهم كيف يصيرون هكذا. لأنه شيء آخر أن يحب الإنسان أن يعمل، وشيء آخر أن يعرف كيف يعمل. فهذا يحب ولا يعرف كيف يجد ما يحبه وذاك يعرف كيف يجد ويقتنى بينما هو لايحب . فالذين يحبون أن يصيروا أسيادا للغنى، وخوفا من أن يتسلط الغنى عليهم عندما يمتلكونه، أعطاهم الرب يسوع معرفة مايحبونه.
10- أولئك إذاً هم الذين طلب الرب يسوع أن يكونوا أصحاب غنى على أن لا يكونوا عبيداً له. أما الكاملون فيطلب منهم ان لا يكونوا أصحاب غنى ، بل وينصحهم ايضاً الا ينحدروا الى مستوى أن يكونوا أصحاب اشياء صماء. لقد حرر الذين يمتلكون من العبودية للأشياء التي لا حياة فيها خوفاً من أنهم بخدمتهم لها يصيرون عابدي أوثان ، وهي التي قال عنها : ” ليس في أفواهها نفس ، ومع أنه لها أعين واذان وأيدي الا أنها لا ترى و لا تسمع ولا تعمل شيئاً ” ( مز 115=5 ، 135 : 6 ) .ولهذا السبب يدعو بولس الرسزل محبة المال عبادة اوثان ؛ لأنه كما أن الوثنيين يعبدون اشياء صماء لا حياة فيها ولا حس ، هكذا ايضاً فإن الذين يحبون الغنى يخدمون ذهباً صامتاً وفضةة خرساء مع بقية المقتنيات التي لا حياة فيها .
11- والرب يسوع اذا يطلب من الواحد أن لا يصير عبداً للغنى ، ويضع للأخر ناموساً أن لا يقتني أي غنى على الاطلاق . يقول للواحد : ” إنه امر مهين لحريتك أن تستعبد للذهب ” ، وللأخر يقول ” ” انت متسلط على كل الخلائق ، وهو امر يشين سلطانك عليها أن تننحدر لتمتلك نفايات الخلائق والذي تجرد من جميع مقتنياته ولكنه أمسك بمحبة شيء صغير منها .قال له ” كن مالكاً لما تقتنيه لا ان يملك ما تقتنيه عليك ” . والذي قد ارتفع فوق خدمة الغني وصعد ايضاً الى درجة اعلى منها ،يقول له :” لا تكن بعد ممتلكاً لأي قنية، لانه كما أنه أمر معيب هو لمن يريد أن يمتلك غنى أن يصبح خادماً له ، بالمثل ايضاَ فإنه أمر مخزي لمن تحرر من عبودية الغنى على اقل تقدير أن يكون صاحب قنية . الفقير يمتلك مقتنيات الفقر ،والغني يمتلك مقتنيات العئيمة التي للغنى : اذا فالذين يمتلكون الغنى والمقتنيات الدنيوية وهم فقراء ( بالنسبة للغنى الابدي) إنما يمتلكون الفقر ، والذين تجردوا من كل المقتنيات وهم اغنياء ،فإنه امر مشين لإسمهم أن يقتنوا الفر والذهب والفضة والملابس ،ويستبدلون الغنى الابدي بالفقر الزمني والخير السمائي بمال الدنيا .
12-واضح إذا أن هذه الوصية : ” لا تخدموا المال ” ، قالها الرب يسوع للذين يحبون المال ، وأن الوصية:” كن سيداً على مالك وليكن هو خادمك العامل بأمرك ” قالها لأغنياء العالم الذين كان يخاطبهم ، أما الاخرون الذين يريدون أن يسلكوا في الطريق الأسمى الذي للكمال ، فقد قال لهم : ” لا تقتنوا ذهباً ولا فضة ولا نحاساً في مناطقكم ولا ثوبين ولا أحذية ولا عصا ، لأن الفاعل مستحق طعامه ” ( مت 10:9 ) ، وهذا يعني أن الحرية تليق بهذا العمل . فقد جعلهم يتجردون من العالم تماماً ، وبعد ذلك طلب منهم أن يخرجوا من العالم ، أخرجوا ، اتركوا كل شيء مكانه في العالم ، ولا تأخذوا معكم اشياء مائتة في بلدة الحياة . لقد دعيتم أن تلبسوا الارجوان انزعوا عنكم أولاً ثياب العالم القذرة ( قارن : زك 3 : 4 ) وبعد ذلك إلبسوا أرجوان الملوكية ! .
13- من هو الذي يريد أن يتسربل بالمجد الأبدي ؟ عليه اولاً أن يخلع الملابس البالية وبعد ذلك يلبس المجد الذي لا يبلى .ومن يطلب أن يكتب اسمه في اورشليم العليا عليه أن لا يمتلك مسكناً على الارض ، وأن يسكن في تلك البلد .ومن يريد السكنى في مواضع المطوبين عليه ألا يمتلك هنا لا كيساً ولا مالاً. ومن يريد أن يقتني الله عليه الا يقتني النحاس مع الله . فالذي يقتني اشياءاً زمنية مع تلك الابدية لا يحس بعظمة مقتناه ( الحقيقي ) ، ولهذا يسعى لإقتناء الفقر مع غناه . ولكنه ليس ممكناً أن يكنز الاثنين معاً في إناء واحد ، لأن لا أحد يضع قشاً مع الذهب ولا خشباً وحطباً مع الاحجار الكريمة .
14- هذه اذا هي الوصية التي اعطاها الرب للتلاميذ عندما ارسلهم كصيادين الناس للخلاص. لقد حررهم من كل قيود العالم وحلهم من كل الرباطات البشرية ، وبعد ذلك ارسلهم ليحرروا الاخرين من قيودهم ، لأنه لم يكن ممكناً لشخص مقيد أن يفك قيود أخر ، لأن مقتنيات العالم تربط كل الاعضاء وتقيد سائر الحواس ، والانسان كله بظاهره وبداخله مقيد ومربوط بها ، ولهذا حل ربنا تلاميذه أولاً من رباطات العالم ثم أرسلهم بعد ذلك لكي ما يحلواهم الاخرين ، حتى يرى المربوطون الذين يحلونهم حاملين علامة الحرية وسمة الملوكية ويصدقون الذين طرحوا عنهم رباطات العالم حين يرونهم احراراً . وهذا هو الهدف من تلك الوصية التي أعطاها ربنا للرسل أن لا يقتنوا شيئاً ، لقد جردهم من كل شيء وهكذا ارسلهم كخدام مشيئته ليتلمذوا الاخرين ، فينبغي على من يريد أن يكون خادماً لله ان يتعلم من هذا أن يكون متغرباً عن كل مقتنيات العالم وان يتجرد من كل شيء على مثال الرسل ثم يخرج ويكون خادماً لمشيئة الله الكاملة .
15- حينما كان الرسل مرافقين ليسوع يتجولون معه من مكان الى مكان ، لم يكونوا بعد في درجة الكمال ، ولهذا أخفى ربنا عنهم هذه الوصايا ما داموا معه ، وتركهم يعملون ما يتفق مع حضورهم الدائم بقربه والذي كان نافعاً جداً لكل الذين كانوا يأتون إليه : فقد خدموا الجموع الذين جلسوا يأكلون في البرية ( مت 15 = 36 ) ، وكان يرسل البعض منهم في أعمال تختص بأمور العالم مثلما أرسل بطرس الى البحر لكي يصطاد سمكة ويعطي الجزية ( مت 17 = 26 ) ، وكما حدث عندما دعوا معه لعشاء العرس ( يو 2 : 2 ) ، وعندما كانوا يتجولون معه من مدينة الى اخرى ، كانوا يقدمون له الكرامة الظاهرة امام الجموع ، ويبعدون عنه ضغط الجمهور لكي لا يزحمه الناس فيما كانوا يريدون أن يقتربوا منه كالمكتوب : ” حينئذ قدم إليه أولاد لكي يضع يديه عليهم ويباركهم ، فانتهرهم التلاميذ ” ( مت 19 = 13 ) ، وكانوا في كل مكان يقدمون له تكريما من هذا النوع بحسب قياس معرفتهم في ذلك الوقت . اما هو فكان يتنازل ويقبل منهم ذلك من حين الى اخر ، لأنه كان يعرف أنهم لم يكونوا بعد قادرين أن يقدموا له شيئاً أخر كخدمة مرئية ، ولما كانت خدمتهم على قدر معرفتهم غير كاملة ن نظر يسوع الى ارادتهم الجيدة وتقبل منهم خدمتهم .
16- إن هذه هي عادة الرب يسوع اليوم كما في ذلك الزمان أن يطلب خدمة المشيئة ، فهو لا يطلب أن يكون العمل أعلى كثيراً من ( قامة ) الخادم ، لأنه لو كان أعلى يكون الناموس هو الذي يعمله ، أو العادة ، او الجراءة ، والرب يسوع لا يسر بذلك لأنه ليس هذا هو عمل إنسان قد وهب نطقاً ، ولكنه عمل الة صماء . والرب في تنازله بقبول أعمال سائر الدرجات حسب تمييزهم كان ينهيهم بواسطة تعليمه حتى يرتقوا من خدمة غير الكاملين الى خدمة الكاملين ، بحيث تكون الاولى طريقاً نحو الثانية والعمل الفاضل الاول يكون تمريناً وتدريباً لعمل أخر أكثر كمالاً .
17- وهذا هو ما عمله عند مريم و مرثا : الاثنتان قدمتا له الخدمة ، الاثنتان خدمتاه ولكن الواحدة خدمته جسدانياً والاخرى روحانياً . وقد قبل الرب كلا الخدمتين ومدح الاكثر كمالاً : “فاختارت مريم النصيب الصالح الذي لن ينزع منها ” ( لو 10 : 43 ) ، كما لو أنه قال : وأنت ايضاً يا مرثا اتركي ما هو أدنى وارتقي الى الدرجة الاعلى ، إته لم يرذل خدمة مرثا لأنها كانت بحسب قياس معرفتها وحبها ولكنه كان يريد منها أن ترتفع من الامور الصغيرة الى الكبيرة ومن خدمة الجسد الى خدمة الروح . وخدمة مريم و مرثا تشبه على سبيل المجاز خدمة الرسل القديسيين الاولى والاخيرة ؛ فالخدمة الاولى التي كانوا يقدمونها ليسوع جسدانياً ، ألم تكن مساوية لخدمة مرثا ، والاخيرة التي تعلموا أن يقدموها بحسب الوصية ، لا تقتنوا شيئاً ، ألم تكن مماثلة لخدمة مريم المغبوطة ؟ كثيرون برروا مثل مرثا و زكا ، ومثل النساء اللواتي كن يتبعن يسوع ويخدمنه من اموالهن ، وكذلك هناك من هم مثل مريم والرسل الذين كانت خدمتهم كلها روحانية.
18- بهذه الخدمة الروحانية يسر الرب . إنه يريد أن يدرك كل الناس الكمال ، وقد أتى الى العالم ليسلم للبشر عمل الروحانيين ، كما علمنا الرسول القديس :” ليكن إنسان الله كاملاً لكي تكون كل أعماله صالحة وتامة ( 2 تي 3 : 13 ) ، هذا اذا هو الكمال الذي سلمه الرب يسوع لتلاميذه في الوصايا التي أعطاها لهم بخصوص التجرد ، عندما أفرزهم من العالم كلية ، ومن كل ما هو في العالم ، وليس هم وحدهم ، بل وعن طريقهم ومعهم كل الذين يسعون في اثر الكمال . لانه بوضعه الناموس في شخص الرسل ، سلم التعليم للجماعة ولكل جنس البشر ، محرضاً على اقتناء الكمال جميع الذين يريدون أن يطيعوه .
19- كذلك فإنه عندما اختار الرسل ودعاهم لكي يتبعونه ، كتب بخصوص ذلك ، وحالما كان يدعوهم كانوا للوقت يتركون كل شيء ويذهبون وراءه ( قارن : مر 1 = 20 ) ، وكانوا يطرحون شباكهم في البحر فرأهم ودعاهم فتركوا شباكهم وسفينتهم ويتبعوه ( قارن = مت 4 =18 ) ورأى اخوين يعقوب ويوحنا في سفينة مع زبدى ابيهما فدعاهما ايضاً ، فللوقت تركا الشبكة مع زبدى ابيهما وتبعاه ( قارن :مت 4 = 21 ) . هذا هو تدبير التلمذة لله والقانون المستقيم الذي سطر لنا في الكتب المقدسة . وعليه فلكي تصير تلميذاً لله ، ينبغي أن تتمثل بخروج الرسل ، فترذل وتحتقر كل ما يرى ، وأن تتجرد من العالم تماماً . وقد قال المسيح إن كل من يريد أن يصير تلميذاً كاملاً له ينبغي ايضاً أن ينكر نفسه ( مت 16 = 24 ) . فإذا كان الانسان يصير تلميذاً بإنكاره لنفسه حسب قول مخلصنا ـ وانه بدون ذلك لا يقدر أن يكون كاملاً ، فكيف يمكن أن يكون كذلك بدون التجرد من مقتنيات العالم او بدون الازدراء بالغنى المرئي والملذات الجسدية؟ انني لا اقول هذا من عندي بل بحسب ما جاء في الكتب ، وانا ملتزم بالقانون الذي وضعه الملك . لأن المسيحيين يبدأون أن يكونوا تلاميذاً كما بدأ الرسل . وهكذا كانت دعوتهم كما هو مكتوب ، إنهم حالما دعاهم الرب تركوا كل شيء وتبعوه. فعلى كل من يريد أن يكون تلميذاً أن يتأمل هذا المثال ويرى في كل أفكاره أن هذه هي اشارة موضوعة له أن يتجرد من كل شيء بخفاياه وظواهره ، ومن ثم يبدأ السير في طريق السماء .
20- ليس أحد يقدر أن يمتلىئ قبل أن يكون قد تفرغ من كل شيء ، ولن يكون بمقدورنا أن نضع ايدينا على الغنى السمائي قبل ان نكون قد تخلينا عن الفقر الممسكين به . فليس لنا أن نحصل على الواحد دون أن نهجر الاخر ، لان الاثنين يضاد الواحد منها الاخر ، وحضور الواحد يجعل الاخر يختفي . واذا لم تكن خدمتنا لائقة بالله بعد أن نكون قد تجردنا من كل شيء وصرنا مستعدين فقط لحفظ وصاياه ، فكيف يكون ممكناً لنفسنا أن تقدم لله خدمة الحب في حين أن قوتها منقسمة تنجذب من جانب الى اخر وقد أمسكت بمحبة قيان العالم ؟ هذه الوصية ثقيلة هي بالنسبة لمن كان مقيداً بمحبة الغنى وبدون التحرر من العالم . إنها صعبة وعسيرة على الذين أمسكوا في الخضوع للعالم وارتضوا برباطاته وقيدتهم ملذاته ، وعلى الذين ألقوا عنهم العناية بسائر أعضائهم وقبلوا على نفسوهم أن يكونوا خاضعين للعالم وليس خداماً للمسيح .
21- إن الرب يسوع يقدم لك الحرية ، والعالم يهييء لك العبودية . فإذا ارضتتك عبودية العالم فليس ذلك لأنه يمتلك في طبيعته ما هو مسر ، بل لأن شهوتك قد فسدت ولأنك اشتهيت رديئاً .شهوة العالم ليست صحيحة ، إنها شهوة مريض يطلب ما لا يفيده ، ويشتهي ما يسبب له مضرة . والمرضى – بصفة عامة – يشتهون خسارتهم أكثر من منفعتهم ، وما هو مضاد لصحتهم أكثر مما هو لشفائهم ، وتبدلت عندهم الصحة بالمرض ، وتحولت قوة الشضهوة الطبيعية عن مسار طبيعتها لأنهم فقدوا الاتزان الطبيعي وصحة الجسد اللذان يحفظان صحة الشهوة ، فإذا اضطرب مزاج الجسد اضطرت معه الشهوات الجسذية. فالذي تدركه الحمى يشتهي أن يشرب الماء البارد ، ويطلب ذلك بالرغم من أنه يضره ، ويغضب مقابل الذين يمنعونه عنه . لكن الطبيب الحكيم لا يستجيب له لأنه يعرف أن تلك هي شهوة مريضة عمياء تطلب مت هو ضار بصحته . وبالمثل فإن غنى العالم محبب وإمتلاكه مشتهى عند مرضى النفوس ، فلأنهم محرومون من صحة المعرفة الإلهية يطلبون ما يتسبب في هلاكهك ، لكن طبيبنا السمائي بتحذيراته الشافية ينهانا عن الاشياء الضارة ، ويطلب منا أن نعمل لا ما يرضينامما نتلذذ به بل ما هو نافع ومفيد لنا حتى ولو كنا لا نسر بعمله، لأن الطبيب الحكيم لا يتبع مشيئة المرضى ولا يوافق على شهواتهم الضارة بصحتهم ولكنه يجتذبهم بالقوة الى كل ما هو نافع لشفائهم ويعلمهم أن يغلبوا شهوتهم من أجل هذا الهدف الافضل .
22- فلنقبل إذا نير التجرد كما يطلب منا مخلصنا حتى وإن ثقل علينا ، وهو لا يثقل على الارادة التي تقبل وصايا المسيح . لأن لا يوجد أحد يرفض أن يصير حراً ويتخلص من نير العبودية – العالم نفسه يفضل اسم الحرية على العبودية . وربنا عندما أن نبتعد عن العالم قد أعطانا الحرية الحقيقية التي كان يحيا بها هو نفسه عندما كان في العالم ، فهو حر بطبيعته بما أنه هو الله ، وهو ايضاً عندما أخذ شكل العبد سلك في الحرية وكان أعلى من كل اهتمامات العالم . لأنه مكتوب عنه أنه ” اخذ صورة عبد صائراً في شبه الناس، ووجد في الهيئة كإنسان” ( في 2 : 7،8 ). لقد صار حقاً في ما نحن عليه ، لكنه لم يشاركنا في ما هو خارج عنا ، اي انه لم يمتلك على الارض غنى ولا مقتنيات ولا مالاً ولا أملاكاً ولا بيوتاً ولا حقولاً ولا كروماً . وهو لم يمتلك شيئاً من ذلك لكي يعلم خواصه أن لا يمتلوكها ، ولم يكن منشغلاً بها لكي يحررنا من كل اهتمام . إنه لم يخضع لنير عبودية العالم لكي لا تثقل العبودية كاهلنا ؛ ولم يتقيد بالاشياء البشرية لكي يفكنا من قيودها ، ولم يرتبط بأي اهتمام باطل لكي ما يخلص تلاميذه من الاهتمام والقلق من اجل الاشياء المرئية، واذ هو حر سكن بحريته في الخليقة لكي ما يعلمنا بالفعل ان نسكن فيها في حرية .
23- ينبغي اذاً على كل من يريد أن يكون تلميذاً لهذا المعلم أن يتأمل تدبير معلمه في العالم ويكون مثله ، لأن سيد العالم عاش غريباً ومرتحلاً في العالم ، وينبغي على العبيد أن يكونوا مثل السيد ، ولينظر كيف تجرد من الاشياء البشرية ، فمع أنه كان فيه كل الملئ الا أنه لم يكن له بيت ولا مأوى كما للحيوانات والطيور ” للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار وأما ابن الانسان فليس له أين يسند رأسه ( مت 8 : 20 ) .
24- تدبير سيرتك أيها التلميذ مرسوم بتعليم معلمك ، فما لم يكن له لا يكن لك أنت ايضاً ، وما لم يمتلكه هو لا تقتنيه انت . إن التلميذ لا يعرف من شكله الخارجي ، بل من موافقة أعماله لأعمال معلمه ، ولأنه يسلك في اثار خطواته ويسير في السبيل الذي مهده له . فلو أن الطريق لم يمهد أمامنا ، ولو كانت أثار خطواته غير ظاهرة ، لكان هناك عذر للمتكاسلين في تمسكهم بمعوقات العالم ، ولكن هوذا السبيل الواضح والطريق معروف ، والجميع يرون أثار الاقدام عليه في نور الحق . وإن كان أحد لم يره ولم يضع اقدامه عليه ، فمن الواضح أنه قد حرم من نور الايمان الذي يرشده ، فهو يظن أنه يسير على الطريق ولكنه يسير خارجاً عنه في سبيل معوج. إن ما قاله يسوع لك أنه ليس له أين يسند رأسه كان القصد منه أن يعلمك أنت ايضاً الا يكون لك . لقد قال إن للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار ، اذا ًفإن كنت تمتلك بيتاً فأنت تشبهها ، وإن كان لك مسكناً في العالم فأنت مساو للحيوانات والطيور كما يفهم ذلك من الكلام بكل وضوح ، أما اذا تجردت من كل ما هو في العالم ، ولم يكن لك أين تسند رأسك على الارض ، فقد شابهت إلهك ! .
25- لقد أظهر المسيح لتلاميذه في شخصه ما يريد أن يكونوا عليه . وقد ثبت لنا تعليمه بأقواله ، كما كتب بهذا الخصوص أنه ابتدأ ” يعمل ويعلم ” منذ معمودية يوحنا الى اليوم الذي ارتفع فيه ( قارن : أع 1 : 1 ). والتدابير الفائقة التي اظهرها في شخصه كانت بأعمال فاضلة ، ومع أن إقامة الموتى وتطهير البرص وفتح أعين العميان وشفاء العرج وتصحيح الايدي اليابسة وتقويم الظهور المنحنية واخراج الشياطين والمشي على الامواج وتهدئة الرياح – كانت كلها أعمال لأنها كانت أيات ومعجزات ، الا ان الكاتب ذكر الاعمال مرتبطة بالتعليم كتدبير روحي واحد رأه في شخص المسيح . فقد أتى لكي يعمل الخير وليس الايات ، وكان تعليمه اذا هو القانون الروحي ، وهذا التعليم هو الذي بدأ يعمل به لكي يظهر لنا نموذج الكمال .لقد ترك العالم وكل تصرف وسط الناس بعد معموديته من يوحنا مباشرة ، وخرج الى البرية .
26- كان لربنا تدبيراً خاصاً الى وقت معموديته ، فقد كان يحفظ كل ما يتعلق بالناموس القديم بكي يوفي الدين الذي كان بسببه كل جنسنا خاضعاً لعبودية الخطية وللناموس وللموت .لقد أكمل في شخصه كل ما كان يجب ان يعمله الذين يتدبرون بناموس البر في العالم ، فكان يصعد الى الهيكل ، ويصنع تقدمات وكان خاضعاً لأبويه ، ويكمل كل ما هو مكتوب ففي الناموس . وقد عمل ذلك لأمرين : لكي ما يوفي الدين. ولكي ما يعلم الذين في العالم أن يجتهدوا في حفظ بر الناموس وفي خدمة الله بممارسة متطلباته . فهو لم يترك امور الناموس الصغيرة دون ان يحفظها ، لكي ما يعلم الذين في العالم أن يحفظوا كل ما يأمرهم به الناموس في خضوع كامل له .
27- إن كل من يرتبط بنظام العالم وبهموم الناس في الاخذ والعطاء هو للان لا يزال تحت الناموس ، أما الذي يتجرد من العالم ويخرج منه فهو مرتفع فوق العالم ، وهو بالضرورة مرتفع فوق الناموس ايضاً؛ لأنه ليس للناموس استطاعة أن يخضع الذين هم فوق العالم . فالذي يكون في بلد العبودية يتدبر قسراً بالناموس، والذي في بلد الحرية يكون مثل إنسان حر في كل تصرفاته ، فهو يعمل الخير بحرية إرادته مثلما يتحرك الإنسان الحر بدافع من سلطانه الخاص وليس كمن هو خاضع تحت نير الناموس. وبإختصار فإن كل موضع يوجد فيه الشر ، يوجد هناك ايضاً الناموس مع القدرة على الضبط والقمع بحسب شهادة معلمنا بولس الذي يقول : ” إن الناموس لم يوضع للبار بل للأثمة والمتمردين ، للفجار والخطاة ، الدنسين ولضاربي أبائهم ، للقاتلين والفاسقين والناة ، وللبقية ” ( اتى 1 : 9 ) . فعلى هؤلاء اذا بملك يملك الناموس .
28- ولكننا نريد أن نقول ايضاً إنه ليس الكاملون وحدهم هم فوق الناموس لأنهم يسلكون بحسب الروح ، فالقديس بولس يقول إن الابرار الذين هم اقل من الكاملين هم ايضاً احرار من الناموس ، لأنهم لا يعملون الخير خوفاً من الناموس بل من أجل تكميل الناموس . فالذي لا يقتل خوفاً من أن يسلم للموت بينما هو في نفسه مستعد أن يقتل ، هو قاتل والذي لا يرتكب الزنى مع أنه يشتهي أن يفعل ذلك لكنه لسبب الخوف من ان يدينه القاضي ويسلمه لحكم الناس ، هو زاني ؛ والذي يتصور الاساءة ويمتنع عن ذلك خوفاً من العقوبات التي حددها الناموس ، فهو يعتبر أنه قد فعل كل شر في إرادته ، أما الابرار فيمتنعون عن عمل الشر ليس لأنهم يخافون مما سوف يلحق بهم ( من عقاب ) ، بل لكي لا يغضبوا الله بأي عمل لا يرضيه . هناك إذا من يمتنعون عن عمل الشر لأنهم يخافون من الشر ، وهناك من يمتنعون عنه لانهم يحبون الخير ، ولا يمكن لأحد أن يعمل الخير إن لم يتوقف عن عمل الشر .
29- كان ربنا اذا قبل العماد يسلم الناس تدبير بر الناموس لكي ما يعملوا الخير المكتوب عنه في الناموس ؛ فيقدمون الذبائح من مقتنياتهم ، وينذرون نذوراً ويوفونها ، ويذهبون باستمرار الى هيكل الله ويتقبلون بركات الكهنة ، ويكون الابناء خاضعين لابائهم ويخدمونهم ، ويطلبون ايضاً كلمة الحياة ويتعلمون من المعلمين كل ما يلزم معرفته لأجل عمل الخير ، ويقدمون الطاعة والخضوع للانبياء .هذا هو الناموس كله الذي يلائم الصديقين الذين يمتلكون المقتنيات في العالم ، اذا كانوا يفكرون في توزيعها اكثر من تكديسها ، فهذا هو البر الذي اعلنه ربنا في تدبير سيرته منذ البداية حتى العماد .
30- وكل شيء عمله كان لكي ما يعلمنا أن نعمله مثله ؛ فقد تطهر بحسب وصية الناموس لكي يعلم الامناء أن يتطهروا من الاثم ، وقبل الختان لكي يختتنوا هم ايضاً وينزعوا عنهم غلف القلب ويطرحوا من نفوسهم خدمة سائر الشهوات. لقد صعد الى الهيكل حاملاً تقدمات لكي ما يمهد لهم الطريق فيسرعوا الى بيت الله حاملين تقدماتهم ونذورهم ، وقدم للكاهن لكي يباركه ويصلي عنه – الذي اذ كان الروح القدس عليه قال عنه اموراً اخرى عظيمة – كي يعلم الاتقياء ان يطلبوا هم ايضاً صلاة الكهنة ويحنوا رؤوسهم مع اولادهم لينالوا البركة كان يصعد كل سنة الى الهيكل كما هو مكتوب عنه لكي يعلم الامناء ان يأتوا الى هيكل الله كل حين .
31- وكان يحتفل بالاعياد بحسب التقاليد لكي ما يحثك ان تحتفل بأعياد الكنيسة بتمييز وتعيد بها بحسب جميع طقوسها . لقد جلس وسط المعلمين يسمعهم ويسألهم ويميل أذنه ويقبل التعليم ، لكي يعلمك أنت ايضاً أن تسمع وتسأل وتهيئ أذنك دائماً لسماع الوصايا الالهية ، وتطلب وتتعلم ما هو نافع لحياتك ، حتى ومن الذين هم أقل منك علماً ، كما فعل هو ايضاً حين تعلم من المعلمين الناموس الذي وضعه هو نفسه . وأخيراً حين رأى جميع الخطاة يأتون الى معمودية يوحنا بني الله ، أتى هو ايضاً معهم وأحنى رأسه تحت يد الكارز، وقبل أن يعمد – كمن له احتياج -–بوساطة من كان هو نفسه محتاجاً إليه ، ترك مسكن الناس وذهب الى البرية مع الجموع نحو يوحنا ، لكي ما يعلم أصحاب الاملاك وسكان العالم أن يذهبوا الى القديسيين وينطلقوا الى المتوحدين ، ويكرموا الانبياء والابرار ، ويطيعوا تحذيرات أقوالهم بتمييز إيمانهم . هذا البر وهذا التدبير هو الذي وضعه مخلصنا وأظهره للأتقياء يمكن لأحد أن يخلص ما لم يعمل الصلاح ، والأعمال الفاضلة يختلف الواحد منها عن الاخر والوصايا هي ايضاً مختلفة مثل الفضائل .
34- لقد كتب عن يسوع أنه كان قبل العماد خاضعاً لأبويه ” وجاء معهما الى الناصرة وكان خاضعاً لهما ” ( لو 2 :51 ) ؛ أما بعد عماده ، عندما وضع للناس تدبيراً أكثر كمالاً ، لم يقبل أن يعرف أبويه بعد حسب الجسد ، فقد فقال للذي كلمه : ” من هي أمي ومن هم أخوتي ؟ ” فبعد أن كان قبل العماد يطيع ابويه ويخضع لهم ، فهوذا بعد العماد حينما كان يعلم ناموس الروحانيين يقول أنه لا يعرفهم . لقد طلبوا منه أن يخرج معهم ولكنه لم يوافق ، وكلمته أمه ولم يسمع لها ، لأنه كان منذ الان يتم مشيئة الاب وليس وصايا متواضعة ، فلو أنه تصرف هكذا قبل العماد حينما كان يحفظ الناموس ، ولم يطع أمه عندما طلبته ، لكان يعتبر متعدياً للناموس، ولكنه الان يظهر لنا طاعته للأب لكي يعلم الكاملين طاعة الاب بالنعمة أكثر من الاباء الطبيعين حيث قال : ” لأني لا أطلب مشيئتي بل مشيئة الذي أرسلني ” ( يو 5 : 30 ) . وايضاً : ” لأني قد نزلت من السماء ليس لأعمل مشيئتي بل مشيئة الذي أرسلني ” ( يو 6: 38 ) . قال هذا في الوقت الذي كان يعلم فيه الكمال ، حتى يعرف الروحانيين الذين هم خارج العالم من هذا أنه يجب أن لا يطيعوا ولا يخضعوا للأباء الجسدانينين فقط ، بل ولا ايضاً لمشيئاتهم الخاصة ، ولا يوافقوا اهتماماتهم ومسراتهم الشخصية ، بل ينكروا ذواتهم ايضاً كما قال المخلص : ” من لا يبغض …. حتى نفسه ايضاً فلا يقدر أن يكون لي تلميذاً ” ( لوقا 14 : 26 ) .
35- مكتوب أنه بعد ثلاثة أيام من عودته من البرية دعي يسوع الى العرس مع امه وأخوته وتلاميذه ( يو 2 : 1 ، 12 ) ، ولما فرغت الخمر قالت له أمه : ” ليس لهم خمر “. لقد كلمته بسلطان كأم مثلما اعتادت أن تفعل من قبل ، لكن يسوع أوقف هذه الحرية معلناً أنه قد أوفى دين تكريم الوالدين ولم يعد خاضعاً لهما كما كان من قبل . انظر بأي عتاب منع عن امه سلطانها الأول :” مالي ولك يا امراة ؟” وهو قول صعب وكان على صواب لأنه أعطى بذلك مثالاً للكاملين لكي لا يسلكوا قيما بعد بناموس الاباء حسب الطبيعة طالما كانوا خارج العالم حيث يسكن أباؤهم ، لأن مريم كانت تسلك بحسب تدبير واحد بينما يسوع قبتدبير اخر ، فهيبحسب تدبير الناموس أما هو فبحسب الروح . ولم يكن من الصواب وهو في تدبير الروح أن يتلقى الامر ممن كانت ما زالت في تدبير الناموس.
36- مريم طلبت كما لو كانت ما زالت تمتلك سلطاناً ، أما يسوع فأجابها كمن أصبح منذ الان في الحرية ، مريم قالت له :” ليس لهم خمر ” وتكلمت بسلطان الام ، أما يسوع فأجاب : ما لي ولك يا امرأة ؟ وتكلم معها مثل امرأة غريبة وليس مثل أمه ، لأنه لم يقل لها :” ما لي ولك يا أمي ” ، لكنه قال ” ما لي ولك يا امرأة” وكأنه يقول لها : لقد صرت أمي بالنعمة ، وقد ولدت منك ، وكنت خاضعاً ومطيعاً لك من أجل التدبير وليس لأن ذلك كان واجباً عليً من نحوك طبيعياً ، إنني لم أستمد بدايتي منك لكي اشكرك من أجل أنني أتيت الى الوجود بفضلك . أنت لم تحمليني في احشائك ولم تلديني بالأوجاع ؛ انت لم تربيني حتى أكون ملتزماً أن أكافئك مقابل ذلك ، إنني انا الذي أعطيتك ما أعطيتني إياه . أنت حبلت بي وحملتيني في احشائك وولدتيني واعتنيت بي بفضل قدرتي ، فإذا كنت قد أطعتك وصرت خاضغاً لك ، فلم يكن ذلك لكي أرد لك شيئاً لست مديناًبه لك ، ولكن لكي أوفي الدين وأكمل الناموس عوضاً عن حميع الابناء الذين كانوا يتمردون على ابائهم. والان بعد أن أوفيت الدين وأكملت التدبير القانوني ، ما لي ولك يا امرأة ؟ .
37- وهذه العبارة تشبه قوله :” من هي أمي ؟” وما قاله ليوحنا ” هوذا أمك ” ولمريم ” هوذا ابنك “. ومثل ما قاله ايضاً حينما أراد أخوته أن يصطحبوه معهم الى العيد في أورشليم حسب عادته قبل العماد ،فقد ألغى هذه العادة قائلاً :” اصعدوا أنتم الى هذا العيد ، أنا لست أصعد بعد ” ( يو 7 : 8 ) . ولما صرفهم دون أن يصعد معهم ، صعد وحده في منتصف العيد ، ولم يكن هذا مخالفاً لما قاله ” لست أصعد ” ذلك لأنه قال ” لست أصعد كخاضع بما أنهم كانوا يصعدون كخاضعين للناموس ليكملوا أعمال الناموس ، بينما كان صعود يسوع هو بإرادته الخاصة ولكي يجمع المدعوين الى عيد جديد . فهو لم يكن خاضعاً للأبوين ولا للناموس بعد ، لأن من كان خاضعاً لأبويه يلتزم أن يعمل ما يأمرانه به ومن كان تحت الناموس ويحفظ وصاياه فهو ملتزم أن يصعد من بدابة العيد كما يفعل جميع اليهود كانوا يصعدون ايضاً قبل العيد ببضعة أيام للتطهير لكي يكونوا أطهاراً منذ اليوم الاول في العيد . أما يسوع فلم يعمل ولا شيئاً واحداً من هذه الامور : فهو لم يصعد معهم لكي يظهر أنه ليس خاضعاً لهم ؛ كما أنه لم يصعد من بداية العيد ليبين أنه لم يصعد ليحتفل بالعيد . ثم أنه صعد في منتصف العيد بحرية إرادته ، وبعد ان قال لأبويه ” لست أصعد ” مثلما فعل في عرس قانا الجليل بعد أن قال لمريم ” ما لي ولك يا امرأة ” كعلامة تدل على أنه لا يطيعها، ثم عاد وعمل ما كانت ترغب فيه ، ليس لأنها هي التي طلبت منه ولكن بسلطانه الشخصي ، ولأنه كان قد حان الوقت لكي ما يظهر بواسطة الايات أنه كائن ، ولكي ما يعلن مجده ويجمع تلاميذه . واذ قد صار حراً منذ ذلك الحين كان يفعل كل شيء بسلطان وليس بحسب الضعف البشري ولا بالخضوع للأبوين ولا لوصية الناموس.
38- إننا في كل ما نقوله نرجع الى الكتاب المقدس ، لهذا يجب على القارئ أن يلاحظ ذلك ايضاً عند قراءة مقالنا ويرى أن معنى الأقوال التي ذكرناها موافق وهذا لكي ما نوجه الانتباه إلى أننا قد فسرنا الاقوال كلا على حجة وأظهرنا الفرق بين رتبتين من التدبير ، الاولى قبل المعمودية والثانية من المعمودية الى الصليب. فكل البر هو محدود في هاتين الرتبتين : أن نخدم الله بذاتنا أو أن نخدمه بمقتنياتنا . أما خدمتنا له بمقتنياتنا فهي بر خارج عنا ، وأما خدمتنا له بذاتنا فهو كمالنا ، لأن بر الناموس شيء هو وبر المسيح شيء اخر : فبر الناموس يعمل حتى المعمودية ، وبر المسيح يعمل بعد المعمودية حتى الى الصليب ، وابتداء من الصليب الى ما بعد ذلك تكون المسرات وحياة فوق العالم . ويسوع بلغ الى المعمودية في حدود بر الناموس ، ثم بدأ من المعمودية وحتى الى الصليب يسلك في سيرة الكمال الروحي والمسرة التامة التي جلبها للعالم .
39- ينبغي أن ندرك من هذا أن جميع الذين يعملون الصلاح في العالم هم كالأبرار القدماء ، اي مثل ابراهيم واسحق ويعقوب وكل الانبياء والصديقين القدامى. وبر الناموس هو بر الانسان الذي يخدم الله في العالم ؛ فهو يكسو العريان ويعزي المتألمين ويأوي الغرباء في بيته ويزور المرضى ، ويذهب الى القديسين والمتوحدين والرهبان ، ويرتب مواعيداً للصلاة ، ويتواجد على الدوام في بيت الله ، ولا يقرض بالفائدة أو الربا ، ولا يشتهي مال الغير ،ويكون خاضعاً لأبويه ، ويطيع ويكرم الكهنة والمعلمين ، ويعمل الخير لكل الناس ، أي انه يعمل للأخرين ما يريد أن يعملوا هم له . هذا هو البر الذي يعلم به الناموس القديم ، وهو الذي أكمله ربنا حتى عماده ، وهو ما يلتزم يتكميله جميع الاتقاء الذين لم يتجردوا من ممتلكاتهم . اما التدبير الروحي والكمال ، فهو الذي علمنا إياه يسوع ، والذي كان يتدبر به من عماده الى صلبه ، حتى نكون نحن أهلاً له بنعمته . لأن له المجد الى الدهور أمين يكون .
نهاية المقالة الثامنة عن التجرد وهي التي وضعها مارفيلوكسينوس الطوباوي اسقف منبج .
المقالة التاسعة
على الهدف الأساسي من التجرد بحسب شهادات الكتب المقدس وأمثلة التلاميذ الأولين، ويُعلمًنا فيها أنه بدون ترك العالم لا يقدر أحد أن يصير تلميذاً كاملاً للمسيح ولا أن ينال نصيباً في سر المعرفة الإلهية
- إن خروج المسيح ربنا إلى البرية هو أفضل مثال نتعلم منه التجرد. فكما ترك هو السكنى مع الناس لكى يقاتل العدد، هكذا نخرج نحن أيضاً من العالم لكى نحارب الشيطان دون أن نأخذ أي شي من العالم معنا سوى سلاحنا الروحي الذي ليس هو من العالم. لقد خرج يسوع بعد العماد مباشرة، وترك العالم وكل ما فيه ومضى وحده، بقوًته الخاصة، لكى يقيم الحرب مع المضاد. ومكتوب أنه كان ممتلئاً بالروح القدس. وأن الروح هو الذي أخرجه إلى البريه، ليس لأنه كان محتاجاً إلى قوة الروح، إذ أنه مساو للروح وهو الذي يعطيه لنا للغلبة، بل لكى ما يدرب الذين يخرجون من العالم من إثر الكمال، ويعرفهم مسبقاً أن قوة الروح القدس تصحب خروجهم وتعين محاربتهم وتكلل جهادهم.فالتلميذ الذين يتركون صحبة العالم يعينهم الروح في الحال، وهم عندما يرفضون المعونات البشرية يجدون المعونات السمائية، وما أن يردروا بالقوة الجسدية تصحبهم القوة الروحية على الفور.
- لقد أكمل ربنا طريق بّرالناموس بالعماد، ثم ابتدأ تدبيره الخاص اعتباراً من الأردن، فحتى الأردن كانت خدمة الناموس، أى أنه كان طائعاً للناموس منثل خادمٍ، وابتداءً من هنا صارت الحرية، حيث بدأ يعلم تدبيره وليس وصايا الناموس بعد. يسوع قد وُلد جديداً بالمعمودية (إن جاز القول بالنسبة ليسوع)، والبلد الروحي اقتبله من أحشاء الناموس، كما قال هو نفسه :” إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكون الله”(يوحنا 3:3). ومن أجل هذا بدأ يكرز بملكون السموات بعد عماره.والذى يريد أن يكون تلميذاً للمسيح يتبع نفس الطريق: فهو يترك العالم، ويُولد من العالم الجسدانى للعالم الروحاني، وينتقل منى الغنى إلى الفقر، ومن التنعمات إلى الإمانات ومن العائلة إلى ترك الوالدين، ومن تعدد الأصدقاء إلى الوحدة، ومن الراحة إلى الضيقة، ومن التدبير الجسداني إلى التدبير الروحاني، ومن الحديث مع الناس إلى الحديث مع الله، ومن معرفة إلى معرفة أخرى، ومن مسيرة أخرى. وبإختصار يولد الإنسان من حياة إلى حياة أخرى حينما ينتقل من تدبير العالى إلى تدبير المسيح، ومن امتلاك المقتنيات إلى التجرد الذي يدعوه الله إليه. وكما أنه عندما يكون الإنسان في العالم فقانون العالم يطلب منه أن يعمل كل أمور العالم، هكذا فإنه عندما يخرج من العالم ويتبع يسوع يكون مطالباً أن يعمل كل أمور التدبير الروحي بحسب نظام المكان الذي يأتي إليه. إنها حياة أخرى تكون بترك العالم والإنسان العتيق وأفكار الخاصة والضلالة والجهل.
- ويقال إن الإنسان يترك العالم عندما يتجرد من كل ما هو في العالم ويوزع كل عناه ومقتنياته على المحتاجين، ويهجر العالم ويخرج منه عرياناً بشخصه فقط كما لو كان من الأخشاء، لأن سكن العالم هو بالنسبة للإنسان كالأحشاء الطبيعية بالنسبة للجنين الذي تحمله، وكما أن الجنين في الأحشاء يكون في ظلمة وفي موضع معتم ورطب حيث لا يشعر بأي شئ من أشياء هذا العالم، ولا يخظر على باله شئ ما مما هو في الخليقة خارجاً عن الأحشاء، هكذا أيضاً فإن الإنسان المحبوس في تدبير العالم كما في الأحشاء، وقد احتجب تمييزه في عتمة اهتماماته الكثيرة، وانطمرت بصيرته في ظلمة المشاغل البشرية، لا يقدر أن يشعر بسعادة وغنى تدبير المسيح، ولا يرى الأمور الروحية ما دام تمييزه قد غطته ظلمة الأشياء الجسدية. وكما أن الجنين لا يأتي إلى الخليقة (المنظورة) ما لم يخرج من الأحشاء، هكذا أيضاً فإن الإنسان لأ ياتي إلى التدبير الروح ما لم يخرج من العالم تماماً. ومثلما يترك الجنين الأحشاء ويأتي إلى الخارج، هكذا يترك الإنسان العالم ويخرج خارجاً منه، فالعالم هو كالأحشاء والإنسان يترك العالم مثلما يترك الجنين الأحشاء.
- والجنين بعد ما يُحبل به يكون كاملاً وتاماً في تركيب طبيعته مع كل حواسه وأعضائه، إلا أنه لا يستخدمها في وظائفها الطبيعية لأنها لا تبلغ إلى درجة النمو والقوة اللازمة لذلك وهي في الأحشاء. أما عندما يخرج من الأحشاء إلى العالم يحصل جسده منه على النمو مع سائر حواسه وأعضائه. وبمقدار ما ينمو يمكنه أن يتذوق ويختبر كل ما هو موجود في العالم، ويستخدم جميع أعضائه على النحو الصحيح بحسب وظيفة طبيعتها: العين للنظر، والأذن للسمع، والحنك للتذوق، والأنف للشم، واللسان للكلام، والايدى للعمل، والأقدام للمشى، والجسد كله للمس، والقلب للتمييز ، والكبد للنشاط، والمراره لحدّة الذهن، والكلى للفهم، والطحال للخوف، والمخ للفطنى والإدراك، مع بقية الأعضاء التي في العالم. وهي بنموها تأتي قليلاً إلى قياس قامتها الكاملة وتمتلئ من قوة وظيفتها، ويكتمل الإنسان جسدياً في العالم لأنه يولد من الأحشاء لأجل العالم، أما العالم فيقبله ويملأه من كل علم ومعرفة.
- هكذا هو الحال بالنسبة للإنسان الروحاني، إنه يبتدئ كجنين ثم يخرج من الأحشاء، وينمو قليلاً قليلاً إلى أن يصير “إنساناً كاملاً إلى قياس قامة ملء المسيح” (أف 13:4)، كالمكتوب. فهو يبدأ أولاً بالحبل به مثل الجنين الطبيعى، هذا يتشكل في الرحم بواسطة الزرع والدم، والإنسان الروحاني يتشكل في مياه المعمودية بواسطة النار والروح، الجنين الطبيعي يأتي من العدم إلى الوجود، والجنين الروحاني من عدم وجوده كإبن إلى أن يكون ابناً لله وروحانياً. كما أن الجنين الطبيعي بعد أن يتكون مما لم يكن، يتشكل قليلاً قليلاً وتنمو جميع أعضائه بحسب القياس المحدد لها وهي في الأحشاء، والجنين الروحاني بعد أن يصير ابناً لله مما كان عبداً وجسدانياً، ينمو في العالم كما في الأحشاء إلى قياس بر العالم. وأخيراً يخرج الجنين الطبيعي من الأحشاء إلى العالم، والجنين الروحاني بعد أن يُكتمل كل برّ الناموس في العالم كما في أحشاءٍ، يخرج من العالم بواسطة الميلاد الجديد، ويأتي بعد ذلك إلى عالم آخر هو بلد برّ المسيح، ويتقبل نمواً آخر ويصير كاملاً، ليس في جسم البر الذي كان يلتزم به في العالم، بل في الإنسان الروحاني الذي يحضره إلى كمال قامة ملء المسيح.
- تَصور إذاً المعمودية كأحشاء، والذي يُعمد ويصير إبناً لله حيث لم يكن كذلك من قبل، مثل الجنين الطبيعى الذي يتكون مما لم يكن، والعبور من الطبيعة الجسدانية إلى الطبيعة الروحانية، مثل انتقال الزرع والدم إلى جسد متكامل مع جميع أعضائه، والجنين الروحى يتصور بواسطة المعمودية مع سائر أعضائه وحواسه الروحانية كما يتصور الجنين الطبيعي في الأحشاء مع جميع أعضائه وحواسه الجسدانية، وكما ينمو الجنين الطبيعى إلى قياس القامة المحدده له في الأحشاء، هكذا ينمو الجنين الروحى في العالم بعد أن يكون قد تصور في المعمودية بحسب قياس بر العالم. وكما أن الجنين لا يقدر أن يتقبل وهو في الأحشاء النمو الذي ينتظره خارجها ويصير رجلاً كاملاً، لأن هذا النمو هو الذي سوق يُعطى له في العالم بعد ميلاده، هكذا فإن الرجل الروحاني لا يقدر أن يدرك ملء الكمال الروحي ويبلغ إلى قياس قامة الإنسان الكامل ما دام قائماً في العالم كما في أحشاء، لهذا كان من الضرورى أن يترك العالم كلية أولاً، مثلما يترك الجنين الطبيعى الأحشاء، لكى ما يتسنى له بعد ذلك أن يقبل النمو الآخر الذي يجعله يبلغ إلى الكمال الروحي.
- إن كل البر الذي يمارسه الإنسان في العالم، وكل الأعمال الفاضلة التي يعملها فيه هي مثل أعضاء الجنين في الأحشاء، وما دام ينمو يتقوى في ذلك البر فهو لا يزيد عن كونه جنين، لأنه محبوس في العالم كالجنين في الأحشاء، فالجنين لا يقدر أن يصير إنساناً وهو في الاحشاء، والإنسان لا يقدر أن يصير كاملاً وهو في العالم. وأياً كانت قامة الجنين في الاحشاء، فإن قياس نموه محدود باتساع تلك الأحشاء، ومهما كان بّر الإنسان في العالم، فإن قياسه محدود بأحشاء العالم الذي يعيش فيه.
- وطالما كان الإنسان موجوداً في الأحشاء الطبيعية فهو يُدعى جنيناً، وعندما يولد يُسمى بأسماء جديدة: مولود جديد، طفل صغير، صبى، شاب، ثم رجل كامل، وبالمثل فإن الجنين الروحى طالما كان في العالم ولا يزال ينمو في كل أعمال البر، فبحسب القياس الذي يبلغ إليه يتقوى ويتشدد وينمو، يُدعى: مستقيماً وباراً ومحسناً وكريماً مع بقية الأسماء التي تتناسب مع السلوك الفاضل في العالم. ولكنه حين يولد من العالم بعد أن يكون قد اكتمل في تلك الصفات الأولى التي ذكرناها،يخرج إلى المجال المختلف تماماً الذي لتدبير المسيح – مثل الجنين الذي يخرج من الأحشاء – وتؤخذ منه تلك الأسماء ويُدعى زاهداً، متبتلاً، ناسكاً، متقشفاً،وقوراً، مصلوباً للعالم، صبوراً، طويل الاناة، روحانياً، متمثلاً بالمسيح، إنساناً كاملاً، رجل الله، إبناً محبوباً، وارثاً خيراث أبيه، رفيق يسوع، حاملاً الصليب على كتفيه، مائتاً للعالم، قائماً في الله، لابساً المسيح، رجل الروح، ملاكاً جسدانياً، عارفاً بأسرار المسيح، وحكيماً بالله تلك هي الأسماء والتشابيه التي تليق أن يُدعى بها الإنسان الذي يولد من العالم لكى يرتقى إلى بلد معرفة المسيح.
- عندما يولد الجنين الطبيعى من الأحشاء، فمع أنه يتركها إلا أن الغشاء الذي كان يحيط به يرافقه ويخرج معه، وحالما يُولد يُقطع ويُطرح عنه مع بقية الأشياء الزائدة التي كانت ملتصقة به، ويظهر شكل الإنسان وحده متحرراً من كل ما عداه. وهذا بعينه هو ما يحصل عندما يخرج الإنسان من العالم، فمع أنه يتركه كما من احشاءٍ، إلا أنه يخرج منه لابساً أوجاع نفسه وشهوات جسده كالغشاء الذي يحيط بالجنين الطبيعي، ولأنه لا يمكن أن يُنزع ذلك الغشاء عن الجنين طالما كان في الأحشاء، كذلك لا يمكن للإنسان أن يتعرى من أوجاعه القديمة التي كان يلبسها كغشاءٍ حين كان موجوداً في أحشاء العالم. ولأن ذلك الغشاء لا يُنزع عن الجنين سوى بعد مولده، بالمثل فإنه بعد أن يولد الإنسان من التدبير الجسداني الذي في العالم يمكنه أن يتعرى وينزع عنه الأوجاع البغيضة التي للإنسان العتيق.
- وكما أن الجنين لا يقدر أن ينمو في قامته ما دام مغلفاً بغشائه هذا، وأنه فقط حين يُنزع منه ويصير حراً بكيانه، يبداً في النمو إلى قامة طبيعته، هكذا فإن الإنسان الذي ما زالت تغطية الأوجاع البغيضة، لا يقدر أن ينمو في القامة الروحية وإنه فقط حين يتعرى منها وينزعها عنه، ويقطع جميع أعضاء الجسد من الخطية ومن تلك الاوجاع البغيضة – تبدأ قامته (الروحية) أن تنمو، وتبدأ الأعضاء الجديدة الأخرى التي تخص الإنسان الروحاني الجديد أن تعمل فيه وتحركه بدلاً من الأعضاء القديمة التي انتزعت منه. وبمقدار ما يترك الإنسان العتيق المكان ويختفى، بنفس المقدار يوجد الإنسان الجديد ويستعلن في النور.
- ومع أننا قد خلقنا الإنسان العتيق في المعمودية حسب تعليم بولس الرسول، ولبسنا الجديد مكانه، إلا أننا لم نشعر متى جعلنا ومتى لبسنا، ذلك لأن النعمة هي التي عملت كلا الأمرين. وقد حصل لنا هذا السرّ في تلك اللحظة بسمع الإيمان فقط، وهو يتحرك الأن بينا من إرادة خلغ الإنسان العتيق، ونحس بأننا نخلعه بواسطته جهادنا وتعبنا وليس من سماع الإيمان فقط، وأيضاً بحب الله وبالصلوات النفية، وبالطلبات الدائمة والعَجب وتأمل عظمة الله، وبسعى الإنسان الجديد الحثيث نحو الرب. فبهذه الوسائل وما يشبهها نلبس الإنسان الجديد سريعاً، ليس بسماع الأذن فقط، ولكن بإحساسنا وبخبرة حقيقة بالمعرفة الروحية.
- واعتباراً من هذه اللحة ومن هذا الموضع يبدأ الإنسان أن ينمو في المعرفة التي هي أعلى من العالم، حيث يوجد المكان المناسب للقامة التي يبلغ إليها ينموه، والتي تمتد به وترتقى حتى علو العظمة (الإلهية). لأنه طالما كانت الاوجاع البغيضة تلّف الشخص مثل الغشاء الجنينى، وتعوق الإنسان الجديد، يتعطل النمو ولا يقدر الإنسان أن يبلغ إلى قامة المسيح كقول بولس الرسول : “ننمو جميعنا إلى إنسان واحدٍ كاملٍ ،إلى قياس قامة ملء المسيح” (فارن: أف 13:4). وليس من الممكن أن نبلغ إلى ذلك القياس بدون الخروج من العالم، كما ولا يكون بمقدورنا أن تفتنى تلك المرفة ونحس بعظمة ماوُهب لنا بواسطة المسيح بدون أن نخلع أولاً كل التدبير الجسداني.
- نحن بالمعمودية قد خلعنا الإنسان العتيق ولبسنا الجديد، انتقلنا من العبودية إلى الحرية، ومن حالة جسدانية إلى حالة روحانية، ومن الخطية إلى البر، وما أشبه ذلك، ولكن هذا كله كان بسماع الإيمان فقط، ومع أن هذا قد حصل عندنا فعلاً بميلاد المعمودية، إلاّ أنه يبقى غريباً عن إحساسنا، أما الآن وقد بلغنا السن الذي يجعلنا قادرين أن نميز بين الخير والشر، يصير الامر متعلقاً بإراتنا وبإجتهادنا أن نخلع الشر ونلبس الخير، نستبدل الإثم بالبر والغش بالسخاء والقساوة بالرحمة والجفاء بالوداعة الشراهية بالاعتدال وأمور أخرى كثيرة مثلها. وهذه كلها تجد لها مكاناً عندن بواسطة إرادة مخافة الله ومقاومة العالم، وقليلاً قليلاً ينمو الإنسان بواسطة هذه الأمور إلى أن يترك العالم كله تماماً، ويتجرد من كل شئ فيه، ويصير حراً في نفسه، ويُرى في بلد تدبير المسيح.
- إذا ترك الإنسان العالم يالكيفية التي ذكرتها، وتجرد تماماً من كل المرئيات، فهو حينئذ يبدأ بالتخلى عن الاوجاع الرديئة التي فيه، مثل محبة الفستق والزنا والشره والسُكر وما إلى ذلك، التي هي الشهوات المفسدة للفضيلة. فإذا طرحها فعلاً من أعضائه الجسدانية، تبدأ بعد ذلك في إبعادها من أفكاره، ومثلما أزاحها من الجسد ينزعها أيضاً من النفس، حتى لا يعود يفعلها لا بالأعضاء الخارجية ولا بالأفكار الداخلية وبعد أن يكون قد أبعد عن النفس الأفكار البغيضة، يُبعد منها أيضاً الجهالة والضلالة والأوهام التي تتولد من خدمة الشهوات حينما يتقسى القلب بالملذات والشهوات المختلفة التي يتعاطف معها.
- فإذا ما أبعد الإنسان عنه شهوات الجسد، فإنه يبادر إلى الله يتطلع خالص لكى ما يتحرر أيضاً من أعواز الجسد. لأن القلب يتقسى ليس من خدمة الشهوات فقط، بل وأيضاً حينما يحصل الجسد على الملء من احتياجاته. وحينما لا يغتسل العقل ويتبقى من الجسدانيات. فإذا كانت حاجته باعتدال فهو يكتفى بما هو اقل من الوسط، لأنه إذا كان الجسد في الوسط فهو لا يخضع لمشيئة النفس بالكمال، لأن الوسط يشير إلى تساوى الناحيتين. وكما أن مؤشر الميزان إذا كان في الوسط فهو يدل على تساوى وزن الكفتين، بالمثل فإن الجسد الذى تكون حاجته في الوسط يكون وزنه متساوياً مع النفس، وطالما كان مساوياً لها فلن يكون بالأولى خاضعاً لرغباتها. ولهذا فمن اللازم أن نضعف الجسد باعطائه أقل قدر من الغذاب بحسب حاجته الضرورية، حتى يصير خاضعاً وكائفاً للنفس. ولكنى أكف عن الكلام عن هذا الأمر فسوف أتكلم عنه في المقالة القادمة. وما يجب أن نفهمه هنا هو أن الإنسان لا يمكن أن يلبس (الجديد) ما لم يتعرى أولاً (من القديم)، فلكى نلبس التدبير الروحاني ينبغى أن نتجرد من التدبير الجسداني. ينبغى أن نتجرد من العالم لكى ما نسير في طريق الكمال.
- التجرد خفيف هو عند الذين يقتنونه. ويحق لنا أن نقول إن الذي يفتقر من أجل الله يستغنى، لأن هذه هي الحقيقة. ولهذا فإن ربنا قد أراح تلاميذه من ينر ثقيل حين جعلهم يتجردون من غنى العالم :”تعالوا إلى يا جميع المتعبين وثقيلى الأحمال وأنا أريحكم” (مت 28:11). ومن هم أولئك سوى المتعبين من زيادة الغنى والذين يحملون نير هموم العالم الثقيل؟ وأي تعب أكثر مشقة من أن يتعب الإنسان فيما كان يقصد أن يرتاح؟ أن طلب الغنى البشرى هو طريق لا نهاية له في الحياة، قبقدر ما يتقدم الإنسان فيه بقدر ما يطول الطريق أمامه، وليس هناك ما يضع له نهاية غير الموت. إذا كنت تجمع الغنى لكى ما يريحك فيما بعد، فإن راحتك هي نفسها تعب لك. وإذا كانت راحة العالم تعب، فكيف تدعوها أنت راحة؟ وإذا كانت مباهج العالم ومسراته هي أعمال ثقيلة، فتعبه وشقاؤه ماذا تدعوه؟ العالم مثقل بكل مشاغله، والذين يحملون أثقاله لا يشعرون بها لأنهم يحبونها، إنهم يصطدمون به كالعميان دون أن يتمزوه، إنهم يحملون أحمالاً ثقيلة وهم يظنون أنها خفيفة، ويتعبون في السعى وراء الخسارات وهم لا يعرفون.
- وربنا حين رآهم يتعبون مقابل لا شئ، دعاهم قائلاً:”تعالوا إلى وأنا أريحكم”، لا توجد راحة لتعبكم لأن التعب يلد تعباً والمشقة تنبع مشقة والغنى يجمع فقراً، مسرتكم هي انزعاج، ولذتكم تعب ومشقة، ونزهتكم ضيقة نفس. إن طريق شهوة الغنى الذي اخترتموه لأنفسكم بإرادتكم ليس له نهاية، أما إذا أقبلتم إلى فطريقى ينتهى عندى. لقد تذوقتم طريق العالم، تعالوا الآن لتذوقوا طريقى، وإذا لم يرضيكم تجنبوه، لقد حملتم أحمال العالم الثقيلة وأحسستم بمقدار ثقلها، تعالوا الآن احملوا نيرى عليكم، وسوف تعلمون بالخبرة كم هو حلو ومبهج. إننى لا أجعل منكم أعنياء ينشغلون بأشياء كثيرة، بل أغنياء حقيقيين لا يحتاجون لشئ، لأن الغنى الحقيقى ليس هو الذي يمتلك كثيراً، إنما هو الذى لا يحتاج لشئ قط.
- إنكم إذا أتيتم عندى وتجردتم من كل شئ ، سوف تصبحون أغنياءً حقاً. أما وأنتم في العالم، فبقدر ما تمتلكون بقدر ما تكونون في احتياج: لإنه حينما تتوفر لكم الحاجة الاولى تفسح المكان لحاجة ثانية، ومتى وجد المرء ما يطلبه، يعود ليبحث عن شئ آخر، وعندما تتحقق الرغبة الأولى تفسح المجال بسعة لرغبة أخرى أعظم منها. وإذا ما أشبعتم الشهوات تجعلكم تجوعون إليها أكثر،والجائع يذهب ليأكل، والغنى كلما إزداد عناه إزداد فقره، وكلما جمع مالاً أكثر كلما إزدادت رغبته في الجمع، وكلما اقتنى شيئاً ازدادت شهوته للاقتناء أكثر. وحتى لو اقتنى الإنسان نصف العالم فإن شهوته لا تشبع بما قد اقتناه، إنه يريد أن يمتلك العالم كله لو استطاع ذلك، وحين يكون قد امتلكه – رغم أن ذلك مستحيل – فإن شهوته لن تتوقف عند هذا الحد، لكنه سوف يشتهى أن يقننى عالماً آخر لا وجود له، ويعذب نفسه بالبحث عن أي شئ آخر يعمله، فمن لا يبكى، بل بالأخرى يضحك من هذا الفكر الذي أوثق بقيود محبة ما هو غير موجود؟
- فتعالوا إلى يا من تعبتم من الغنى واستريحوا في الفقر، تعالوا يا أصحاب المفتنيات والممتلكات واقتنوا مسرة التجرد، تعالوا يا أحباء العالم الحاضر واقتنوا مذاقة العالم الأبدى. لقد اختبرتم عالمكم، تعالون الآن اختبروا عالمى، لقد جريتم عناكم، تعالوا جربوا فقرى. غناكم هو مجرد غنى، أما فقرى فهو الغنى الحقيقى. ليس هو شئ كبير أن يُدعى الغنى غنى، ولكن العجيب والعظيم حقاً أن يكون الفقر هو الغنى ويكون التواضع هو الرفعة. فإذا ما اختبرتم فقرى ولم تجدوه أكثر متعه وأخف كثيراً من عناكم، ارجعوا حينئذ واحملوا أثقالكم الأولى.
- لقد أظهر لنا ربنا هنا أنه لا يمكن لأحد أن يحمل نير المسيح دون أن يكون قد طرح عنه ثقل العالم، لأن كلا النيرين يضاد الواحد منهما الآخر، فالبر يمكن اقتناؤه في الغنى، أما الكمال فيوجد في التجرد. وجميع الذين كانوا يسعون وراء الكمال سواء في العهد الجديد أو القديم قد تجردوا من الغنى أولاً، وبعد ذلك تبعوا ذاك الذى دعاهم. وربنا نفسه أظهر لنا في شخصة نهاية طريق العالم وبداية طريق الكمال، ووضع حداً فاصلاً بين الطريقين عند نهر الأردن. فهناك أنهى طريق الناموس الذي كان يتدبر فيه بموجب الناموس، واعتباراً من هناء بدء طريق الكمال الذي أظهره في نفسه لكى يُعمله للذين يحبونه. وبعد ما غلب العالم وازدرى ورفض كل ما فيه، خرج لكى يصارع إله هذا العالم، وكما دكّ بأقدامه معقل العدو، داسه هو أيضاً تحت قديمة.
- لقد صار له الأردن معبراً من عالم إلى عالم آخر، من عالم جسداني إلى عالم روحاني، ومن تدبير الناموس إلى تدبير العهد الجديد. فكما وضع الحبر الأحمر للعبرانيين نهاية للخوف من المصريين، وبداية للتقدم نحو أرض الحرية حيث لا يتسلط عليهم أحد، ولا يخضعون لمشيئة أحد إلا الله وحده، هكذا أيضاً كان الأردن بالنسبة ليسوع نهاية لخدمة الناموس وبداية تدبير الحرية. وكما اقتبلت البرية اليهود عند خروجهم من البحر، هكذا أيضاً استقبلت البرية الرب يسوع عند خروجه من الأردن، ومن ذلك الحين لم تكن مشيئة الناموس بعد هي التي كان يتممها، بل المشيئة التامة الكاملة التي لأبيه، لكى يعطى وصايا صالحة ويظهر التدبير الروحى الكامل الذي يرضيه.
- واعلم إنه عندما خرج يسوع إلى البرية خرج وحده دون رفيق أو معين أو صديق يعتنى به، وبدون أشياء ثمينه أو غنى أو قنية أو ملابس أو حلى، فلم يأخذ معه أي شئ من العالم كالمكتوب، فقد كان هو وحده برفقة الروح القدس. خذلك يا أخي مثالاً من خروج معلمك لخروجك أنت من العالم، اخرج أنت أيضاً وليس لك أى شئ من العالم فيرافقك الروح القدس. تأمل الحرية التي خرج بها يسوع واخرج مثله أنت أيضاً: انظر إلى أي أحد رافقه تدبير العالم وأين تركه، واترك أنت أيضاً تدبيرا العالم حيثما ترك هو تدبير الناموس، واخرج معه لتصنع الحرب مع قوات الضلال، أي لكى ما تغلب العالم. كما أنه من عادة العالم أن يطارد الذين يتركونه ويعتزلون عنه، فإذا خرجت التفت لكى ما تجاهد ضده: كن مصلوباً في وجهه وأذكر ما قاله بولس الرسول: ” قد صُلب العالم لى وأنا للعالم” (غل 14:6).اطرح ثقل العالم لكى يسهل عليك القتال الذي يُعدّه ضدك. اغتسل في مياه المعرفة عند الأردن، وبعد أن تكون قد اغتسلت أخرج إلى تدبير الروح.
- إن ما حدث لليهود هو نموذج لما يحصل لك. فكما اختفت كل شرور المصريين من أمام العبرانيين، بالمثل أيضاً تختفى من امامك كل شرور العالم، وكل أباطيله وأثقاله، وكل مشاغله واحتماماته، حتى البحر الأحمر كان العبرانيون يعملون الحساب المصريين، وابتداءً من الحبر لحساب الله. عبودية اليهود في مصر كانت مثالاً لعبوريتك في العالم، والحرية التي عادوا إليها في البرية هي مثال للحرية التي تتقبلها بعد خروجك من العالم. كان المصريون يتسلطون على العبرانيين بصنع الطوب والتعب والعمل والشاق، والعالم يتسلط عليك بالهموم والمشاغل وبالأحزان والتنهدات، لقد اغتسل اليهود من طين مصر عندما عبروا البحر الأحمر، وأنت أيضاً قبلت معموديتين، تلك التي من النعمة بواسطة الماء، والتي من إرادتك عندما اغتسلت من العالم في محبة الله، وخرجت منه مثلما خرج العبرانيون من البحر يتبعون تدابير أخرى، وينالون غذاءً آخر، ويشربون مياهاً جديده، ويحفظون وصايا ناموس آخر، ويعاينون رؤى سمائية، ويرون مناظر روحية، ويسمعون صوت الله يتكلم معهم عن قرب، ويشاهدون الملائكة يختلطون معهم، ويأتون غلى محفل وشركة القوات الروحية، ويسكنون بالقرب من الخيمة التي كانت قائمة في وسطهم، ويقبلون تفسير الخدمة التي كانوا يقومون بها، وينالون الشفاء من لدغات الحياة المحرقة بواسطة الحية المصلوبة التي رفعت من أجلهم في البرية، لقد كانوا يعبرون عالماً آخر يخلو تماماً من كل عادات العالم.
- إذا خرجت من العالم كما من مصر، فقد عبرب بحراً من الأحزان، وكنت في خوف وفي آلام، وهم أيضاً كانوا ممتلئين خوفاً وهم على الشاطئ وفي البحر، وكانت رعبة المصريين وخوف البحر يقلقانهم، ولم يملأهم الفرح قبل أن ينزلوا في البحر ويعبروا فيه ويصعدوا منه ليروا جثث أعدائهم طجافية بين الأمواج. هكذا أيضاً التلميذ عندما يخرج من العالم وهو يريد أن يتحرر من عبوريته، فإنه الفرح لا يأتيه في الحال، ولا يقتنى مذاقه المسرات الروحية سريعاً. إن ما يعرض لك أولاً أيها التلميذ بعد خروجك من العالم هو الخوف من الأحزان وضيقة الأفكار، والندم على كونك خرجت منه وعلى توزيعك كل مقتنياتك وتركك ميراثك ورحيلك من بين أبيك، إذ تجتمع عليك الشياطين سراً مثل المصريين مع ابليس رئيسهم مثل فرعون، ويغرقونك في المشاغل التي تظلم نفسك وتحرمها من نظرة نور معرفة المسيح.
- وهذه هي الأفكار التي يبدأون بتحريكها في نفسك، لماذا تركت العالم حيث كان من السهل عليك أن تتبرر وأنت هناك؟ لماذا وضعت على نفسك أن تفرق غناك الذي كنت تصنع منه الصدقات عندما كان بين يديك؟ ها قد وزعنه باستعجال وأعطى للذين لا يستحقونه، فلوكنت قد احتفظت له لكى تتصرف فيه بحكمة، لكنت تريح به المتعبين وتضيف الغرباء وتسكوا العراة، وكنت تفتقد المتوحدين والرهبات بعطاياك، وتساند الأرامل والأيتام، ويصير بيتك مكاناً لكل الأعمال الصالحة، كما أنه طالما كان غناك معك كنت ستقضى به احتياجاتك وتربح به كثيرين آخرين، ويكون برك مثل ابراهيم وأيوب والأنقياء الآخرين الذين تبرروا مثلهم. أتريد أن يكون برك أعظم منهم؟ تشبه بالله برحمتك حسب قول معلمك، وستكون مشهوراً بين الناس، ويدعوك الجميع أباً للأيتام، وكل الذين يرونك ويسمعون عنك سوف يغبطون أعمالك الصالحة، وبقدر ما يتألق بّرك أمام الله بقدرما يُستعلن أيضاَ لنظر الناس، وسوف تكون مثالأ حسناً للأخرين، فحين يرى الناس إنساناً غنياً مثلك يعطى من مقتنياته على المحتاجين، سوف يدفعهم ذلك أن يكونوا هم أيضاً أسخياء مثلك، وتربح أنت لنفسك من هذا الأمر براً مضاعفاً بما تعطيه أنت مما لك وبسبب الرحمة التي ستكون أنت السبب فيها.
- وأن كنت تريد أن تصوم فسيكون ذلك سهلاً عليك في العالم أيضاً مثل الكثيرين الذين رأيتهم يفعلون هذا، بل وسيكون صومك جديراً بالثناء – هكذا تقول لك أفكار العدو – إذا كانت الأطعمة قريبة منك وكانت شهوات البطن مصفوفة أمام عينيك، فتغلبها جميعاً بقوت نسكك وبذلك تتفوق على المتوجدين، لأن الذي بتنسك عن ما هو في متناول يده رغم أنه يقدر أن يستعلمه لو أراد ذلك، يحرز نصراً عظيماً أكثر من الذي يتنسك لأنه لا يملك شيئاً، وحتى لو أنه طلب ما يلذ له لن يجده جاهزاً أمامه. أما إن كنت تحب الصلاة، فسيكون من السهل عليك أيضاً أن تصلى في منزلك في الخفاء، وأن تذهب في كل وقت إلى بيت الله وتصطحب الآخرين أيضاً معك. وليس هناك عمل صالح لا يسهل عليك عمله في العالم. فمن هو الذي يرفض المسرات مع الملك؟ من هو الذي يرفض أن يمتلك البهجة الُمعدة له، كالتي ستكون لك أنت نفسك من أجل رحمتك وصدقاتك للفقراء؟
- وبعد ذلك تجتمع الأرواح الخبيثة مع الشيطان رئيسهم مرة أخرى مقابل نفسك ويصورن قدام عينيك أتعاب السيرة النسكية والآلام الصعبة التي تنشأ عن الصوم، والأمراض الشديدة التي تنجم عن نقص الإغذية والتي يصعب شفاؤها، كما ولا يكون من السهل عليك أن تعالجها لأنك لا تقدر أن تستخدم الأدوية، وإذا ارتضيت أن تستخدمها بسبب شدة تلك الآلام تصير عثرة للذين يرونك، إنه طويل جداً طريق هذا التدبير! إنه لا ينتهى إلاّ بالموت – هكذا هم يقولون لك – وإن أردت أن تضع له نهاية بينما أنت في الحياة وتوقف أتعابه، فإنك تصير مثار هزءٍ وازدراء لجميع الذبن يعرفونك،ولكى لا تبطله سوف تتحمل إذن ثقل الاماتات وتضاعف آلامك بالكثير من هذه الأمور، فأولاً، بثقل الجهادات، ثم بطول مدتها وأيضاً بالآلام والأمراض التي تتولد منها، والتي لا يكون بمقدورك أن تجلب لها الدواء، لأنك لو أردت ان ترتاح وتحصل على معونة، فإنك ستعرض نفسك للخسرية من الذين وتحصل على معونة، فإنك ستعرض نفسك للسخرية من الذين يرونك! لقد صرت غريباً عن أهلك وأصدقائك، وقوانين تدبيرك لا تسمح لك حتى أن يكون لك حديث أو مقابلة معهم! وهكذا تصير محتاجاً ان تأخذ صدقة من الآخرين الذين كنت قبلاً تتصدق أنت عليهم! وأذا ارتضيت أن تأخذ فسوف تلتزم بالتملق إلى الذين يعطونك! وأن أردت أن لا تأخذ فسوف تعرض نفسك لآلام العوز والحاجة.
- فهذه الأفكار وما أشبهها هي التي تجمع الشياطين معاً وتجلبها على تفس التلميذ حالماً يخرج من العالم. فهم يلقونه في خوف ورعية ويحيرون أفكاره ويوقعونه في الكآبه حتى أنه لا يعرف ماذا يفعل، ويغرقون نفسه في الحزن ويجعلونه يقف حائراً بين الأمرين، حيث يتذكر ما قد تركة ويتخوف مما سوف يعرض له، وهو يحتفظ بنصائحهم في فسه كما لو كانت محتملة. والأفكار التي تبدأ أولاً أن تتحرك فيك ليست هي أفكار النجاسة أو الفساد أو التصرفات الرديئة، بل أفكار الرحمة ومحبة إعطاء الصدقة مع بقية أنواع الفضائل التي يمكن الأنسان أن يمارسها في العالم، إلا أنهم لا يحركونها في نفسك محبةً في الصلاح، ولكن لكى ما يحدرونك من درجة البر الأعظم إلى ما هو دونه كثيراً. فإذا أطعتهم وتنازلت معهم جذبوك إلى ما هو أكثر عمقاً، وقليلاً يمسكونك ويقودونك إلى أن يدفعوك ويغوقوك في أعماق الشرور، ولأنهم ممتلئون مكراً في نصائحهم، فهم يُعذون أوجاعك التي يرون أنك ما زلت محتفظ بها، وهم لا يغصبونك على عمل أي شئ تبغضه. بل على ما تحبه، لكى ما تبرد هّمتك قليلاً من شدة تمسكك بقانون تدبيرك.
- وحينئذ تقوى عليك كآبه الأفكار في كل شئ، ثم يتجدد فيك الحزن والغم، ويتبعد عنك الفرح، فرح العالم لكونه تركته، وفرح المسيح لأنك لم تبلغ إليه بعد، وتبقى نفسك وسط هذه العواصف مثل مركب قد نام ربانها: فهى تتخبط هنا وهناك وتتشرد وتتحطم من كا ناحية، وتندفع فوق الصخور، وتزعزعها الشكوك، وتضطرب مسيرة تدبير الروح عندها، ثم تختفى من قدامك علامات الطريق، ويزداد الثقل عليك، ويمسك النوم وبجسدك ونفسك فتغرق في نوم التراخى الثقيل كما في الليل. وكما أن الخوف يزداد أثناء الليل للمقائمين فيه، كذلك يزادد لك، لأن نفسك صارت مظلمة ومفتقره إلى نور المعرفة. لأن المعرفة هي في النفس مثل النور في العالم، ومنها يولد الفرح. وكما أن العتمة تولد في الخليقة برحيل النور، هكذا فإن عتمة القلق وظلمات الكآبة تهيمن على النفس بفقدات النور الروحى، وعند ذلك يبدأ أن يتولد فيها الخوف من الماضى والمستقبل، من القلق والرعب والفزع، من الضعف والتهيب، ومن هّم الأفكار، وتتجدد كآبتها في كل حين بواسطتها وفي داخلها. ويصل بها الأمر إلى أن تقلق رغم دعم وجود داع للقل، ويضطرب عقلها رغن أنه لا يعرف سيياً لاضطرابة، ولا تعود أى حركة من حركاتهُ مسرة له.
- هذا إذا هو الحال الذي يجب أن تجتازه أيها التلميذ عند خروجك من العالم، فقد دُعيت للخروج من مصر مثل العبرانيين، أولئك كان البحر عائقاً أمامهم والمصريون يسعون وراءهم، وهكذا أنت قد وُضعت أمامك أعماق مخيفة من الأحزان والأوجاع والمشقات والهموم والآلام، والفقر والعوز والأمراض، والحرمان من الأهل والأصدقاء والبعد عن الوالدين، والصمت والسكون والحبس الضيق والملابس البسيطة والغذاء الضعيف، والعفة والنسك والمحقرة، وما قد يعرض لك من مخاطر وإصابات، والأعمال والأتعاب التي تُكلف بها، والأسهار المضنية، والعطش الشديد الذي يضعف الجسد ويرهقه. هذا الأشياء جميعا وما يشبهها تشكل – مثل البحر العميق – حواجز أمام خروجك، والشياطين يتعقبونك مثل المصريين.
- لا تخف، ولا يصعب عليك الأمر، لأن يسوع معك عوض موسى. وكما كان موسى ملازماً للعبرانيين، هكذا فإن المسيح ملتصق بنفسك سراً، وهو يقول لأفكارك المتألمة الحزينة ما قاله موسى لليهود: “الرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون” (خر 14:14). لا تكن خائفاً كما كان الشعب، بل انهض نفسك واسهر مثل موسى واصرخ إلى الرب كما صرخ هو، لأنه مكتوب عن موسى أنه صلى الليل كله بصراخ كثير وتنهدات وعند اقتراب النهار قال له الرب:”مالك تصرخ إلى … مدّ يدك على البحر وشقه”، وهكذا عبر بتو اسرائيل البحر، أما المصريون فغرقوا. وكل ما حدث هناك هو مثال لما يحدث لك.
- والشياطين الأشرار هم الأعداء الذين يجمعون ويكدسون هذه الأفكار المحزنة على نفسك كما جمعها المصريون الذين أسرعوا وراء بنى اسرائيل على نفوس الشعب. ولكن كما طرح موسى عنه خوف المصريين وتحول إلى الصلاة والصراخ نحو الله، اطرح عنك أنت أيضاً الهموم والافكار التي يحركها الشياطين فيك، وارجع إلى الصلاة في الحال، واصرخ بخوف من كل قلبك، وليرتفع صوت صراخك من عمق أفكار نفسك، فتسمع أنت أيضاً على الفور ذلك الكلام الذي قيل لموسى:” مالك تصرخ إلى … مد يدك على البحر وشقه”، وفي الحال تترك الضيقات المكان وتزول من أمام وجهك سحابة الغموم وينشق عمق الأحزان الرهيب قدامك. كنت تفكر أنك لا تعبرها بقدميك، وها أنت تمشى فوقها وتجتاز عمقها، والأشياء الصعبة تصير لك سهلة، وذلك السور المتين الذي كنت تظن أنك لا تقدر أن تهدمه يسقط أمامك، وتشق صلاتك هوة الشرور التي وُضعت أمامك وتجوزها. وكما أن عمود السحاب الذى كان وراء بنى اسرائيل قد أخذ مكانه في مواجهة المصريين لكى يحجز الظلام بينهم، بالمثل هنا أيضاً سوف يشرق نور الخلاص أمامك ويقف الظلام بين الشياطين أعداؤك وبينك. وهناك في الموضع الذى عبرته تراهم غارقين: فالأخزان التي انعتقت منها تريد وتصير لهم، وكآبتك وحيرتك تتحولان إليهم، والفرح الذي كان لهم حين كانوا يظنون أنهم يصارعوك ويغليوك يرتفع من أمامهم ويثبت أمامك مثل عمود النور الذي أرتفع من أمام المصريين واتخذ مكانه أمام بنى اسرائيل. وكما غرق فرعون والمصريون في البحر يغرق الشيطان وكل جنوده في عمق الضيقات التي عُتقت أنت منها، حينئد تردد في أفكارك ما قاله موسى :”الرب يحارب عنكم وأنتم تصمتون”.
- فكل هذه الانتصارات هي معك، كموسى مع بنى اسرائيل. لقد تملك عليهم الخوف أثناء الليل، فليكن هذا مثالاُ لك، لأنه طالما كان الخوف عندك فستكون حياتك في الليل. ولكن حينما إنقضى الليل وعند اقبال الصبح زال عنهم الخوف، بالمثل هنا أيضاً فإنه حالما يشرق لك نور الخلاص عند نهاية صلاتك، تتبدد ضيقاتك، وتخف أفكارك مثل الجوارح في الصباح، والسحابة القائمة تتلاشى، والنور المضئ يشرق في نفسك، وتعبر بحر الأحزان بقدميك، وسور الضيقات ينهدم، وتمشى بجساوة في الموضع المرعب، وتجوز في العمق الذي لم تعبر فيه أبداً، وتسلك طريقاً لم تسلكه الطبيعة القديمة قط، وتفلت من نير العبودية وتصعد إلى بلد الحرية، وتترك مصر وكل بؤسها، وتستقبلك البرية الممتلئة من كل الخيرات السمائية، وتتصور وتولد من جديد لعالم التدبير الروحي الجديد. وفي الموضع الذي يحبل بك ويلدك، تغوص بكرات مركبات أعدائك في الطين ويتوقف اندفاع حركتها تتعطل عن سيرها، عن ضجيج صراخهم يهدأ ويصمت، وترتد اليهم الاحزان كالأمواج وتغطيهم، والذين أرادوا أن يبتلعوك يُبتلعون في عمق الهوة. أما أنت فتعبر فوق بحر الأحزان والضيقات، وعلى شاطئه – بعد عبور سعيد – عندما تلتفت وراءك تنظر حطام أعدائك، وغرق الأوجاع مع الشياطين، ونهاية كل تدبير الإنسان العتيق.
- عندما ترى نفسك ذلك وتُسّر بهلام أولئك الذين كانوا يبغضونها، وتستعيد ثقتها بموت أعدائها، حينئذ تتحول بنظرها نحو جبل الله المقدس، وتبدأ المسير في موضع لم يسبق لك السير فيه قط، حيث تسير في العالم الروحاني الذي هو التدبير الروحي. ومن هنا تقتنى رؤية ما هو فوق العالم، وتأكل من المَن الروحي الذي لم يأكله آباؤك، وتشرب من الماء الحلو المنعش الذي ينبع لك من الصخرة التي هي المسيح، وتسكن في سحابة النور، وتستضيء بواسطة عمود الروح، وترى ما لم تره من قبل، وتسمع أصواتاً لم تسمعها قط، وتقترب في مسيرتك يوماً بعد يوم من جبل صهيون المقدس مسكن الجوهر الخفي، وتشترك في معرفة الملائكة، وتحس بالأمور الروحية التي تفوق العالم. ومع نمو قاصتك يتسع ثوبك وحذاؤك، أي مع النمو اليومي لإنسانك الجديد تُستعلن لك زينة ثوبك الذي هو المسيح (غل 3:27)، وينمو حذاؤك الذي هو “استعداد انجيل السلام” (اف 3:5).
- ثم تدخل في أسرار الروح، وتشترك في غنى معرفة المسيح، وتتحرك كل وقت بحركات حية، ويُخطف عقلك بتأمل عظمة الله الفائقة، لأنك أخذت من العالم المرئي كله وصار مسكنك في العالم الروحاني. والذين يرونك إنما يرونك فقط بجسدك، بينما إنسانك الخفي هو في سموات السموات، وتجد مسرتك في مواضع لا تحصى ولا تحد، حيث لا يوجد هناك أي هيئة جسدية ولا أي تركيب مادي، كما لا يوجد تغيير للطبائع ولا انتقال للعناصر. فهناك لا يوجد سوى السكون والراحة، حيث كل سكان الموضع الروحانيين يصرخون بأصوات غير مركبة وينشدون تسبحة الثلاثة تقديسات للجوهر للسجود له. وهناك تذوق ما لم تتذوقه من قبل يحنك الجسد، وتحس بما لم تدركه الحواس الجسدية، وتعرف فقط أنك تمتلك النعيم، ولكنك لا تقدر أن تصف كيف هو. وعوض الحديث الذي كان لك مع الناس أصبحت الآن تتحدث روحياً مع يسوع المسيح، وتحتمل الأتعاب دون أن تحس بضيقاتها، لأن الشعور بالمسيح لا يسمح لك بالإحساس بها، وانخطاف عقلك إلى الله يبعدك عن جميع ما يحس به الترابيون.
- الآن أنت ترى وتسمع وتذوق وتحس، وبجميع حواس إنسانك الخفي تدرك مذاقة عالم الله، وبحسب طبيعته تتذوقه روحانياً. الإعلانات الإلهية تُستعلن لك – كما كانت مع موسى – وجهاً لوجه، والرؤى والعجائب تتلقاها داخل قدس الأقداس الذي صنعه الله لا الإنسان. هناك يتراءى سر مجد الله على أفكارك، ويكون عملك بين القوات الروحية. هناك يستقر تابوت الإعلانات الروحية والمعرفة الإلهية ليس في مثالٍ بعد ولكن حقيقة، لأن المعرفة تأتي لملاقاة معرفتك دون وسيط. ولا يوجد هناك بعد مذبح من ذهب حيث يرفع البخور المادي، ولكن مذبح الروح الذي يتقبل البخور النقي الذي للأفكار المقدسة العقلية. ولا يوجد هناك قسط المن الذي كان موضوعاً كمثال، ولا الطعام الذي كان يُعطى بتوسُّط ملائكة، بل المائدة الحية التي هي المسيح نفسه، لكي يتقبل منه جميع أعضائه الروحانيين – كأعضاء الجسد – الغذاء الروحي. كذلك لا توجد هناك تلك العصا التي كانت علامة اختيار هارون، محفوظة كتذكار، ولكن رئيس الكهنة نفسه يسوع المسيح يكرس أمام أبيه جواهر حية عقلية، وهناك تكون قد تركت تماماً الإحساس بكل ما يُرى، ولم تعد تسمع شيئاً مما يُقال ويحس بالتركيب، لأن جميع أعضاء الإنسان العتيث التي فيك قد ماتت، وقد لبست الإنسان الجديد الذي يتجدد بالمعرفة إلى صورة خالقه. في عالم الروح وكانت حركته بحسب تدبير ذلك الموضع، فهو يصير روحانياً بحسب ترتيب الموضع الذي يمارس فيه حركاته. يليق إذا بالتلميذ الذي يخرج من العالم أن يسرع في طلب هذا النصيب، لأن هذا هو ميراثنا وهذا هو تدبيرنا بحسب تعليم بولس الرسول الذي قال : “إن سيرتنا نحن هي في السموات التي منها أيضاً ننتظر ذاك الذي سيقيمنا، ربنا يسوع المسيح لكي ما يغير جسد تواضعنا إلى جسد مجده بحسب عظمة قدرته التي بواسطتها الكل خاضع له” (فى 20:3-21).
- لكن الإنسان – كما قلنا – لا يستطيع أن يحس بهذه السيرة طالما كان مسجوناً في أحشاء العالم، حتى وإن خرج من العالم بأعماله الخارجية ولم يخرج منه بأعماله الداخلية، فإنه لا يستطيع الإحساس بها، لأن هذا الحس لا يكون بالجسد ولكن العقل هو الذي يتذوق هذه السيرة عندما يتطهر من الأفكار والهموم الجسدية. لذلك – كما قلنا – فإن بداية طريق الكمال هي نهاية طريق العالم، وإلى أن يُنهى الإنسان طريق الجسد فهو لن يتقدم في طريق الروح. ونهاية طريق العالم هي التجرد الكامل من كل ما هو في العالم، بحيث لا يتجرد الإنسان عن شيء دون الآخر، ولا يترك شيئاً لكي يحتفظ عوضاً عنه بشيء آخر، بل يٌخلِّص ويحرِّر جميع أعضائه من كل الأشياء الجسدانية التي للعالم حتى لا يُمسَك الإنسان بقربها.
- بعض الناس يكونون مرتبطين بالعالم بكل أعضائهم، وآخرون بعضوين، وآخرون نصف أعضائهم مستعبداً والنصف الآخر حرّاً, وهناك مَن هم أحرارٌ بجزءٍ واحدٍ فقط وبقية أعضائهم في العبودية. وآخرون معيّدون بجزء صغير من نفوسهم والباقي حراً. وهناك من هو مقيد بعضوٍ واحد فقط وبقية أعضائه تتحرك ولكنه مع ذلك يظل كما هو واحد فقط، يكون بسببه مقيداً كله بالعالم، ويشبه في ذلك عصفوراً مقيداً في شَرَكٍ برجل واحدة فقط، إذ يكون ممسكاً كله بواسطة تلك الرجل الواحدة. ومع أن جناحيه غير مقيدين يحركهما محاولاً أن يطير إلا أن القيد الذي قيدت به رجله يعوقه ولا يسمح له أن يطير في الجو، لكنه يبقى في مكانه يضرب الأرض بجناحيه ويعفرهما مع جسمه بالتراب. هكذا يكون حال الإنسان الذي قد انحلَّ من كل قيود العالم إلَّا من قيد واحد فقط، فهو بسبب هذا القيد الواحد يكون كله مقيداً، ومع أنه مقيد صغير إلا أنه يصير كما لو كان مقيداً كله بقيودٍ قوية. ومن ثَم يجب على الذين يريدون أن يكونوا أحراراً من رباطات العالم أن يتحرروا منها جميعها، وينزعوا عنهم الثوب القديم ويلبسوا الجديد الذي هو تدبير المسيح، لأن هذا هو ثوب الملكوت الذي ينبغي أن يكون مزيناً بأفضل التدابير، فعلى من يريد أن يغير ثوبه أن يتعرى منه تماماً لكي ما يلبس الثوب الجديد بكامل زينته.
- هذه بعض المقارنات كمثال لما أنصحكم به، لكن عن طريق الأمور الجسدانية يمكنكم أن تفهموا الأمور الروحية إن من يريد أن يصب شيئاً ما في إناءٍ، لا يعمل ذلك قبل أن يفرغه مما قد يكون فيه، وإذا كان ما بالإناء لا يجوز أن يختلط بما يريد أن يملأه به، فهو يغسله أولاً ويطهره من طعم ورائحة الشيء الذي كان فيه لكي لا تتغير رائحة الشيء الآخر الذي سوف يضعه فيه. والزراع الذي يريد أن يضع بذاره الجيدة في أرضه، إذا رأى أنه يوجد بها شوك وحسك، فإنه يقتلعه أولاً ثم يعزق الأرض جيداً وعندئذ ينثر البذار الجيدة فيها. والذي يريد أن يلبس ثوباً جديداً، يخلع أولاً القديم الذي كان عليه وبعد ذلك يلبس الجديد. والذي يداوي جرحاً يجتهد أولاً أن يويل الصديد الذي عليه باستعمال الأدوية المطهرة القوية، وبد ذلك يستعمل الضمادة التي تسمح بنمو الجلد الجديد. وهناك أمثلة كثيرة من هذا النوع تحدث في الطبيعة، والناس بصفة عامة لا يقتربون من الجديد قبل أن يطرحوه عنهم كل ما هو قديم، وبالأخص إذا كان يضاد الواحد منها للآخر. وهذا هو ما ينبغي أن يعمله تلميذ المسيح إذا بريد أن يدنو من التدبير الكامل الذي للمسيح. أن يقطع ويطرح عنه كل تدبير العالم القديم، وعندئذ يتقدم إلى التدبير الجديد، وأن يترك الجهل وبعد ذلك يلبس المعرفة الروحية.
- الارتباط بالأشياء التي لا تدوم يتولد من الجهل، والتحرر منها يتولد من المعرفة. من يترك العالم يترك الجهل ومن يلبس العالم يتسربل بالحماقة. المعرفة تكون حقيقية إذا كانت لا تخطئ في الحكم على ما هو مرتبط به ويتصور ما هو زائل كأنه حقيقي. والذين يلبسون العالم يلبسونه كأنه شيء دائم، وهم بحق يُدعون جهلاء لأنهم يخطئون إذ يعتبرون الظل حقيقة، وبالعدل يُدعى أولئك الذين يبتعدون عن العالم حكماء، لأنهم يطرحون عنهم الثوب البالي قبل أن يتركوه. والذي يتركه العالم لا يُكافأ عن ذلك لأن العالم نفسه هو الذي ولّى عنه وتركه ورفضه كمن هو لا لزوم له، أما الذين يبتعدون عن العالم بإرادتهم الصالحة، ويخرجون منه لكي لا يعوقهم عن التقدم، فهؤلاء هم الذين يستحقون المدح والغبطة.
- إن هموم العالم تقف في مواجهة التطلع إلى الله مثل ستار يحجز الرؤية. وكما أن نظرتنا لا تقدر أن تخترق الأجسام السميكة التي أمامها مثل جبلٍ أو بناءٍ أو أي شيء من هذا النوع، وأن الإنسان لا يقدر أن يرى ما وراءها ما لم يرتفع فوقها أو يتقدم لكي يتجاوزها، هكذا أيضاُ فإن فِكرنا لا يقدر أن يرى ما هو خارج العالم طالما كان سور العالم قائماً أمام نظرنا، وكانت ظلاله الثقيلة وجبال وتلال اهتماماته مكدَّسة فوقنا. فإن أراد أحد أن يرى التدبير الروحي الذي هو خارج العالم، أو يتأمل الأمور السمائية التي هي فوقه، يجب عليه أن يخرج خارج العالم أو يصعد فوقه، وحينئذ يرى كلا الأمرين : التدبير الروحي الذي يشتمل على حركة الأفكار الحية، وملكوت السموات الذي هو أعلى من العالم. لأن الإنسان عندما يتحرر من أوجاع العالم يصير مسكنه في ملكوت السموات.
- وما هو تنعم ملكوت السموات؟ أليس هو توقف جميع الآلام والتمتع بكل الأفراح؟ حيث “يهرب الحزن والتنهد” (إش 11:51) ونحن نتقبل المسرة من المباهج والأفراح المعدة والمحفوظة لنا بحسب اختلاف الأشخاص الروحانيين دون توقع للضيقات أو خوفٍ من الخسارات، لأن ذلك العالم هو بلد الأفراح والساكنون فيه ينعمون كل حين بأفراح. ولأن هذه الأفراح محفوظة وهذه المسرات دائمة، فهي تجلب أيضاً الحياة للنفس التي تحررت من الأوجاع وأبعدت عنها ظلال الأوهام. وبالصواب قال أحد المعلمين الروحانين : “إن ملكوت السموات هو النفس الخالية من الأوجاع مع معرفة ماذا تكون”، أي الأقوال والحركات الجسدانية. لأن النفس عندما تتخلص من أوجاع الشرور التي تلد الخوف والكآبة والقلق والشك، تمتلئ في الحال بالرجاء والشجاعة والفرح ومسرة الأفكار، لأنه على أي شئ يمن أن يقلق الإنسان أو يخاف بينما هو قد رذل وقطع عنه كل أسباب القلق والخوف؟