كتاب البحوث الجزء الثاني

المحتوى

تمهيد

القانون العقيدي لكنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية

الوحي الإلهي

الكتاب المقدس

الـتـقـلـــيــد

وجود اللّه تعالى

في سرّي التجسّد والفِداء

عقيدة التجسد الإلهي في كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية

عقيدة طبيعة المسيح الواحدة في الطقس السرياني

مـأســـاة الصليب

أسبوع الآلام المحيية في كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية

القديسة مريم العذراء في الكنيسة السريانية الأرثوذكسية

الـمـلائــــكــــة

الـصـــــوم

الأعـيــاد في كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوكسية

يــــوم الأحـــــد

تجلي الربّ يسوع

المسيح آتٍ

الصــلاة الـربــانـيـــة

لمحات من تاريخ النبي يونان وصوم نينوى

الإنسان الذي جاء إلى يسوع ليلاً  (يو 3: 1 ـ 21)

مار توما الرسول

الـرهــبـــانـــيــــة في كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية

طقس إلباس الإسكيم الرهباني في كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية

بحوث

لاهوتية عقيدية تاريخية روحية

الجزء الثاني

 

لقداسة مار إغناطيوس زكا الأول عـيـواص

بطريرك أنطاكية وسائر المشرق

الرئيس الأعلى للكنيسة السريانية الأرثـوذكـسية في العالم أجمع

 

 

منشورات دير مار أفرام السرياني

معرة صيدنايا ـ دمشق ـ سوريا

 

2008

/1500/ نسخة

الطبعة الثانية


قداسة مار اغناطيوس زكا الأول عيواص

بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للسريان الأرثوذكس

 

تمهيد

 

سبق أن أصدرنا كتاباً سمّيناه «بحوث تاريخية دينية أدبية» ويسرنا اليوم أن نصدر مجموعة أخرى من تلك البحوث تعتبر الجزء الثاني من الكتاب المذكور تحوي بحوثاً لاهوتية عقيدية تاريخية روحية. كنا قد ألقينا بعضها كمحاضرات في مؤتمرات دينية وكتبنا بعضها الآخر كمقالات في فترات متفاوتة، ومناسبات شتّى، ونشرناها على صفحات مجلتنا البطريركية بدمشق وغيرها من المجلات. وكما ضمّ كتابنا (حصاد المواعظ) جزءاً منها. وآثرنا أن نجمع معظمها تعميماً للفائدة وإظهاراً لعظمة كنيستنا، كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية المقدسة، وإحياء لتراثنا النفيس وتخليداً لما صنعه آباؤنا من تاريخ مجيد هو برهان ساطع ودليل قاطع على تمسّكهم بحقائق الإيمان الأرثوذكسي القويم الرأي، وإسهامهم في خدمة الحضارة الإنسانية ابتكاراً وإبداعاً ورقياً.

والله تعالى نسأل أن يعضدنا في كل عمل يؤول إلى خير الكنيسة المقدسة والوطن العزيز والإنسانية جمعاء.

15/8/1998

المؤلف

 

 

 

 

القانون العقيدي)*(

لكنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية

 

القانون: كلمة يونانية (كانون) بمعنى المسطرة، ويراد بها مقياس كل شيء([1]) وطريقه. وقد نقلت اللفظة تجوّزاً إلى الدلالة على القضية أصلاً وقاعدةً، وتلك الأحكام فروعاً([2]). أما في الاصطلاح الكنسي، فالقانون هو نصٌ في قواعد الإيمان والآداب والترتيب، والقانون العقيدي هو مجموعة قواعد العقائد الإيمانية الموحى بها من الله، وأقرّها سلطان الكنيسة.

وكلمة عقيدة بالسريانية دوجما DOGMA هي كلمة دخيلة تعني التعليم والعقيدة والرأي([3]) وهي ما عقد عليه القلب والضمير، أو ما تديّن به الإنسان واعتقده وبحسب الاصطلاح الكنسي تدل لفظة عقيدة بمعناها الدقيق على حقيقة أوحى بها اللّه وأوجبت السلطة الكنسية على المسيحيين الاعتقاد بها اعتقاداً جازماً، والاعتراف بها بثبات، ملزمة إياهم بذلك إلزاماً في الضمير، بحيث يعتبر المخالف أثيماً بل أناثيما، أي محروماً وغريباً عن الكنيسة([4]).

  • مصدر العقائد المسيحية:

ومصدر العقائد المسيحية هو الوحي الإلهي المعلن في أسفار الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، وفي التقاليد الكنسية الرسولية، والأبوية، المعطاة أساساً من الرب يسوع نفسه لرسله الأطهار، وتلاميذه الأبرار، الذين بدورهم سلّموها إلى خلفائهم فاعلنت في تعاليم هؤلاء، وقوانين المجامع المقدسة المعتمدة، وكتب الطقس البيعي، وهذه التعاليم موافقة كل الموافقة لتعاليم الكتاب المقدس.

 

ويستند تقرير الكنيسة للعقائد المسيحية إلى شهادة الرسل المجمع عليها من كل الكنائس الرسولية، إذ أن قاعدة الإيمان تستند إلى تعليم الرسل الذي هو تعليم الروح القدس. فعند ظهور أي تعليم يخالف تعليمهم ترجع الكنيسة إلى شهاداتهم المُجمع عليها من كل الكنائس الرسولية([5]) وللسلطة الكنسية وحدها الحق في إعلان هذه العقائد بعد التأكد من صحة نسبتها إلى الرب يسوع ورسله الأطهار.

وحيث أن بعض هذه العقائد تعلو على إدراك عقولنا البشرية، ولكنها لا تناقضها، فالكنيسة تحافظ عليها كما تسلمتها، وطالما مصدرها الوحي الإلهي، فهي تلزم المؤمنين اعتقادها وتصديقها بيقين. ولها الحق في شرحها وتوضيحها دون تغييرها أو إضافة عقائد جديدة إليها. إذ لا قيمة لاي تعليم ديني مسيحي ما لم يستند إلى الكتاب المقدس والتقليد الرسولي([6]) ليكون ضمن «الإيمان الذي سُلِّم مرة للقديسين»(يه3).

 

  • العقيدة والعبادة:

لم يفصل آباء الكنيسة العقيدة عن العبادة حتى غدت العقيدة جزءاً لا يتجزأ من الطقوس الدينية، لأن الغاية الأولى من استعمال الطقوس هي منح المؤمنين حياة ونمواً وبراً وقداسة عن طريق العبادة. ولا تكون هذه كاملة مالم تقترن بالعقيدة الصحيحة. لذلك فمنذ القرن الرابع للميلاد أدخلت الكنيسة (قانون الإيمان النيقاوي القسطنطيني) في خدمة القداس (الليتورجية) والعبادة اليومية. علماً بأن قوانين إيمان عديدة واحدة بمعناها وفحواها ولئن عُبِّر عنها بأساليب مختلفة كانت تُتلى، منذ فجر المسيحية، أثناء خدمة طقس المعمودية خاصةً، بلغات عديدة وأماكن شتى فأضحى الطقس البيعي والحالة هذه مصدراً مهماً للعقائد المسيحية لاشتماله على مجموعة آراء آباء الكنيسة الثقات.

 

  • العقيدة والسلوك الشخصي:

لا يمكن فصل العقيدة الدينية عن الحياة، حيث أنها تظهر في سلوك صاحبها وطريقة تصرفه في الحياة الروحية. فإذا كانت العقيدة الدينية سليمة، كانت الحياة الدينية القائمة عليها سليمة أيضاً، ذلك أن الاقتناع بالفكرة الدينية يتحول إلى عقيدة، والعقيدة من تلقاء ذاتها تتحول إلى سلوك. فإذا استحالت الفكرة إلى عقيدة دينية فلن يستطيع صاحبها أن يفلت من التعبير عنها في كلامه وسلوكه، فهي توجه تصرفاته كلها . ولو بدت هذه التصرفات وكأنها لا ترتبط بالعقيدة التي يؤمن بها. إذن ليست الحياة الروحية المسيحية عاطفة روحية خالية من العقيدة الدينية، بل هي تقوم على العقيدة الدينية كما تقوم على العاطفة الروحية([7]).

  • قواعد الإيمان الأولى:

لما أرسل الرب يسوع تلاميذه إلى العالم أجمع، أمرهم أن يتلمذوا الأمم كلها أي أن يعلّموهم حقائق الإيمان ثم يعمدوهم قائلاً لهم: «فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمِّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس وعلِّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به»(مت28: 19و20) وبهذا الأمر رسم الرب سر المعمودية المقدس، وجعل منه أمراً ضرورياً للخلاص بقوله: «من آمن واعتمد خلص ومن لم يؤمن يُدَن»(مر16: 16) كما أعلن بذلك عن عقيدة الثالوث الأقدس الإله الواحد، العقيدة السمحة التي يتوجب على كل من يتقدم لنيل سر المعمودية أن يعترف بها جهراً. وعلى كل من يقدم أحد المرشحين لنيل هذا السر أن يعلمه هذه العقيدة وسائر عقائد المسيحية ليؤمن بها (مت28: 19) من هنا جاءت قوانين الإيمان المختصرة التي صاغها الرسل الأطهار وتلاميذهم وخلفاؤهم ولقنوها طالبي الانضمام إلى المسيحية.

وهكذا وجدت قواعد عقيدية مختصرة تتضمن جوهر الحقائق الإيمانية، في لغات شتى وكلها متفقة في المعنى ولئن اختلفت في المبنى ولا يجوز تعميد طالب العماد دون أن يُختبر (لتتأكد الكنيسة من إقباله إلى الرب بنية صادقة، وطوية نقية، وإيمان متين، وثبات على العقائد المسيحية).

وقد أخذت الكنيسة عن الرسل قوانين الإيمان هذه كما ذكرنا وتناقلتها وتوارثتها الأجيال معترفة بها قبل أن يقرّها مجمع، وكانت المجامع تعقد لإقامة الحجة على أصالة التعليم الصحيح، ودحض الهرطقات، وتستند بكل ذلك إلى شهادات الرسل التي تحتفظ بها الكنائس الرسولية. لذلك اكتفى آباء الكنيسة في قبول أي عقيدة بتلك الشهادة([8]). فقانون الإيمان النيقاوي القسطنطيني كان متضمناً في كتابات الآباء، ومقبولاً من الكنيسة منذ فجر المسيحية، ولكن المجمعين النيقاوي (325) والقسطنطيني (380) صاغاه بشكل واضح وألزما قبوله على المؤمنين تحت طائلة الحرم. وتدل شهادة الوثائق القديمة على أن المسيحيين اعتبروا القرارات المتعلقة بالعقيدة الصادرة عن المجمعين المذكورين معصومة من تلقاء ذاتها وذات سلطة ملزمة بالقبول بل هي أحكام إلهية([9]).

  • التحديات العقيدية:

واجهت المسيحية منذ بدء تاريخها تحديات عقيدية عنيفة، ونزعات داخلية، فقد حاول بعضهم مزج عقائدها السمحة بعقائد يهودية ووثنية، ونظريات غريبة فيما يخص الإيمان بالسيد المسيح والتثليث والتوحيد، فلو تساهلت المسيحية مع البدع والهرطقات في القرون الأولى لاندثرت وبادت، ولانتصر أعداؤها عليها، فقد بذلوا الجهود الكبيرة لتغيير عقائدها، ولكنهم باءوا بالفشل الذريع، وصمدت المسيحية على صخرة الحق متمسكة بالإيمان القويم غير مساومة أعداءها على حساب العقيدة وهكذا حافظت عليها سليمة نقية من كل شائبة.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، نذكر أن المسيحية دحضت محاولة تهويدها، وقد تحدى الرسول بولس هذا التيار بجرأة وإيمان، مؤكداً أن لا حاجة للوثني المهتدي إلى الدين المسيحي أن يتهود أولاً ثم يتنصر. وجاء قرار مجمع أورشليم عام (51م) مؤيداً ما أعلنه الروح القدس على لسان الرسول بولس أولاً([10]).

كما انتصرت المسيحية أيضاً على أتباع الفلسفة النوستيكية GNOSTICISM أي (المعرفة) أولئك الذين ادعوا بأن لهم معرفة خاصة بالله وبالعالم تفوق ما لدى سائر البشر. وتجد جذور هذه البدعة في كتابات يهودية في تلك الحقبة الزمنية، منها كتابات فيلو الاسكندري اليهودي (20ق.م ـ 40ب.م). وقد علقت النوستيكية أهمية كبرى على طبيعة اللّه وعلاقته تعالى مع العالم. كما بحثت طبيعة البشر. وقال أتباعها إن اللّه هو كلي الصلاح، ولكن لماذا خلق العالم المادي الشرير؟ وعندما طبّقت هذه النظرية على العقيدة المسيحية، اعتُبِر يسوع الكائن الإلهي الأعلى الذي كان الإله الحقيقي قد أوجده. ــ والعياذ بالله ــ وقالوا أيضاً أن يسوع لم يأخذ جسداً حقيقياً لأنه كان أقدس من أن يتصل بمادة الجسد الشريرة، لذلك فقد كان يسوع روحاً فقط ظهرت بشكل إنسان. وحوّر هؤلاء (العارفون) أيضاً عقيدة الفداء المسيحية لكي تتناسب مع نظريتهم الغريبة عن الخطية والشر… وقال بعضهم بما أن الجسد شرير، ويُطرَح إبان الموت، فعليه ليس من الخطأ أن يعيش الإنسان في أسوأ حالات الدعارة، لأن الروح تبقى نقية في وسط أي فسق جسماني. كما قال آخرون، طالما الجسد شرير فيجب أن يعامل بقسوة ليتحمل الجوع والعطش والتعب والإهمال. وهكذا نرى أن فكرتي التمرغ بالخطية، والزهد، المتناقضتين تتفرّعان من أصل واحد هو فلسفة (العارفين).

ويشير التقليد الكنسي إلى أن يوحنا الرسول كان يفكر في دحض آراء فئة (العارفين) الضالة والمضلة، حينما كتب إنجيله المقدس، ورسالته الأولى، وهو يصف الرب يسوع الإله المتجسد قائلاً: «والكلمة صار جسداً وحلّ فينا ورأينا مجده مجداً كما لوحيدٍ من الآب مملوءاً نعمة وحقاً»(يو1: 14). «الذي كان من البدء الذي سمعناه الذي رأيناه بعيوننا الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة. فإن الحياة أُظهرت وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأظهرت لنا، الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به لكي يكون لكم أيضاً شركة معنا»(1يو1: 1ــ3) «بهذا تعرفون روح اللّه كل روح يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فهو من اللّه»(1يو4: 2) وعلى الأرجح أيضاً أن النقولاويين الذين حُكِم عليهم في رؤيا يوحنا بأن اللّه يبغض أعمالهم، كانوا من فئة (العارفين) (رؤ2: 6و15). الذين حارب آباء الكنيسة الأولون بدعتهم منذ فجر النصرانية. وكان ظهور هذه البدعة وغيرها من البدع الوخيمة وازعاً لخلفاء الرسل القديسين، وآباء الكنيسة الميامين، ليحددوا العقائد الإلهية، وأن يقروا قانونية أسفار العهد الجديد الينبوع النقي الذي استقت منه الكنيسة مياه تعاليم المسيحية المجيدة معتمدة بذلك على إرشاد الروح القدس ورعايته وهكذا اتخذت الإنجيل المقدس سلاحاً روحياً قوياً للدفاع عن تعاليمها الإلهية، وعقائدها الدينية السمحة، صامدة أمام أعدائها من اليهود والوثنيين والهراطقة المبتدعين.

 


 

 

 

 

 

 

 

الوحي الإلهي)*(

الوحي لغةً هو المكتوب أو الرسالة، وكل ما ألقيته إلى غيرك ليعلمه، ثم غلب في ما يلقيه اللّه إلى أنبيائه([11]).

أما في الاصطلاح الكنسي فالوحي الإلهي، هو إعلان اللّه تعالى للبشر، حقائق إلهية تفوق إدراك عقولهم، ومعرفتها ضرورية جداً لخلاصهم، ويتم هذا الإعلان على ألسنة أناس اصطفاهم اللّه ودعاهم وأنار الروح القدس عقولعهم وأوحى في قلوبهم كل ما أرادهم أن يعلنوه وصانهم من الخطأ والزلل أثناء ذلك وأرسلهم ليبلغوا البشر إرادته الإلهية. فكانوا بيد الروح القدس آلات حية، عاقلة، دون أن يفقدوا إرادتهم الحرة، وقواهم العقلية. فلم يغيّر الوحي شيئاً من طبيعتهم، لذلك فقد عبّر كل واحد منهم عن الحقائق الإلهية وأعلن النبوات الصادقة، بأسلوبه الخاص، وبحسب قابليته الذهنية والعلمية، مبلّغاً البشر مشيئة اللّه بأمانةٍ تامة.

ويُدعى الوحي وحياً إذا كان مداره النبوات الصادقة، والأسرار الإلهية، والشرائع السماوية، والنواميس والسنن التي القاها اللّه على الكتبة بألفاظها وعباراتها وأرشدهم إلى تنظيم الكلام للتعبير عنها، أما إذا كان الوحي يجري على الحوادث التاريخية التي سبق لهؤلاء الأنبياء والمرسلين، معرفتها من دون الوحي فيسمى وحياً.

وتظهر إمكانية الوحي الإلهي من محبة اللّه للإنسان، فقد خلقه تعالى على صورته كشبهه، كائناً خالداً، ذا عقلٍ راجح، وضمير ثاقب، وإرادة حرة، تواقاً إلى معرفة الحقائق الإلهية، وهو يحتاج إلى الوحي الإلهي ليتمكن من فهم ما يفوق إدراكه منها. وإن صفاته العقلية والأدبية تؤهله لتقبل الوحي الإلهي الذي يعلنه اللّه له.

فالله تعالى إذن جدير بأن يهب الإنسان نعمة الوحي والإلهام، والإنسان فطر على التوق والتشوق لمعرفة اللّه والاتصال به تعالى، بل هو يحتاج إلى ذلك، والوحي هو الوسيلة الفريدة لبلوغ هذا الأرب. فعقل الإنسان مثلاً دلّه طبيعياً إلى وجود اللّه فآمن به تعالى. ولكن الوحي كشف له عما لا يستطيع من دونه أن يعرفه كسمو ذات اللّه وتثليث أقانيمه ووحدانيته بالجوهر، وصفاته الإلهية السامية وبخاصةٍ محبته العميقة للبشر، وإرساله ابنه الحبيب الوحيد لخلاص العالم. كما سنّ الوحي للإنسان النواميس والشرائع والسنن وحدد له بذلك مبادئ معاملة اللّه له ومعاملته للّه ومعاملته لأخيه الإنسان، مبيناً له مصيره الأبدي الذي يتعلق بكيفية تمسّكه بالمبادئ الإلهية على الأرض.

وعن طريق الوحي الإلهي تسلمت الكنيسة المقدسة العقائد الدينية السمحة يتضح ذلك من جواب الرب يسوع للرسول بطرس بعد اعتراف الأخير بلاهوت السيد المسيح بقوله له: «أنت المسيح ابن اللّه الحي، فأجاب يسوع وقال له طوبى لك يا سمعان بن يونا، إن لحماً ودماً لم يُعلِن لك لكن أبي الذي في السموات وانا أقول لك أيضاً أنت بطرس وعلى هذه الصخرة ابني كنيستي وأبواب الجحيم لي تقوى عليها»(مت16: 16ــ18) فالعقيدة التي أعلنها الرسول بطرس، وسائر العقائد التي أعلنها الآباء القديسون والرسل الأطهار ودوّنوها في اسفار الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، وما تسلمناه من حقائق إلهية عن طريق التقليد الإلهي والرسولي والأبوي، ليس هو من عنديات البشر، بل هو وحي من اللّه أعلنه تعالى على ألسنة أناس اصطفاهم ليكونوا واسطة لإذاعته وتدوينه. وبهذا الصدد يقول الرسول بطرس: «لأنه لم تاتِ نبوة قط بمشيئة إنسان بل تكلّم أناس اللّه القديسون مسوقين من الروح القدس»(2بط1: 21) ولذلك أيضاً أوصى الرب يسوع تلاميذه قائلاً: «وتُساقون أمام ولاة وملوك من أجلي شهادةً لهم وللأمم فمتى أسلموكم فلا تهتموا كيف أو بما تتكلمون لأنكم تُعطون في تلك الساعة ما تتكلمون به، لأنكم لستم أنتم المتكلمين بل روح أبيكم المتكلم فيكم»(مت10: 18ــ20) وقال النبي أرميا: «فقال الرب لي لا تقل إني ولد، لأنك إلى كل مَن أُرسلك إليه تذهب وتتكلم بكل ما آمرك به… ها قد جعلت كلامي في فمك»(أر1: 7و8).

 

  • كيفية الوحي الإلهي:

يبلغ اللّه تعالى إرادته الإلهية إلى من اصطفاهم إذ يوحي في قلوبهم بطرق شتى:

فإما مشافهة، أي فماً لفم، إذا صح التعبير، كما كلّم تعالى آدم وحواء في الفردوس (تك3: 9ــ19) وكلّم النبي موسى بصوتٍ مسموع شفاهاً (عد12: 6ــ8).

أو برؤيا، يراها النبي أو الرسول وهو بين يقظان ونائم، كما حدث مثلاً لإشعيا النبي (إش6: 8و9) وللرسول بطرس (أع10: 11).

أو بحلمٍ نبوي يلقيه على عبده، كما حدث ليوسف الصديق (تك37: 5).

وبهذا الصدد يقول كاتب الرسالة إلى العبرانيين: «اللّه بعدما كلّم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثاً لكل شيء الذي به أيضاً عمل العالمين»(عب1: 1) هكذا تدرّجت وسائل إيصال الوحي الإلهي إلى الإنسان فبعدما كانت بالمشافهة والرؤى والأحلام، صارت شخصياُ بتجسد ابن الله، واتحاد لاهوته بناسوتنا وهو الكلمة المتجسد. ففيه كلمنا الله، وهو مركز الدائرة، في الحقائق الإلهية الموحى بها من اللّه منذ البدء، والمدونة في أسفار الكتاب المقدس، فعنه تنبّأ الأنبياء وفيه تمت نبواتهم بحذافيرها. وبعد أن أتمّ الفداء وخلص البشرية أرسل روحه القدوس ليحل في المؤمنين به ولتظهر مفاعيله في أفكارهم وأقوالهم وأعمالهم وقد قال له المجد: «كل شيء دُفِع إليّ من أبي، وليس أحد يعرف الابن إلا الآب، ولا أحد يعرف الآب  إلا الابن ومن يريد الابن أن يكشف له»(مت13: 11) وبحلول الروح القدس على التلاميذ أعلن الابن الوسيلة التي يكشف بها عن أسراره للمؤمنين به وبذلك تمت نبوة النبي يوئيل القائل على لسان الرب: «ويكون بعد ذلك أني اسكب روحي على كلّ بشرٍ فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويحلم شيوخكم أحلاماً ويرى شبابكم رؤى»(يؤ2: 28 وأع2: 17).

  • دلائل الوحي الإلهي:

إن أخص العلامات التي تميز الوحي الإلهي من ادعاءات الكذبة، هي المعجزات والنبوات.

فالمعجزة: هي حادث خارق لنواميس الطبيعة يصنع بقوة اللّه إثباتاً لأمرٍ إلهي أو تأييداً لصحة الوحي والرسالة السماوية التي يحملها إنسان مُرسَل من الله، ليبلّغ الناس إرادته تعالى، فتساعدهم المعجزة على تصديقه، ويكون سر المعجزة فائقاً لإدراك البشر، كما أن صنعها يفوق قدرتهم، فلا يستطيع صنعها إلا اللّه وحده، ولكنها قابلة للامتحان، لتتميز من أعمال الشيطان وشعوذات الكذبة. وتسمى المعجزة أيضاً أعجوبة وقوة وآية.

وبصدد عمل المعجزات لإثبات رسالة سماوية قال الرب يسوع لليهود: «إن كنت لست أعمل أعمال أبي فلا تؤمنوا بي، ولكن إن كنت أعمل، فإن لم تؤمنوا بي فآمنوا بالأعمال لكي تعرفوا وتؤمنوا أنّ الآب فيّ وأنا فيه»(يو10: 27و28). وقال الرسول بطرس عن الرب: «يسوع الناصري رجلٌ قد تبرهن لكم من قبل اللّه بقواتٍ وعجائب وآيات صنعها اللّه بيده في وسطكم كما أنتم أيضاً تعلمون»(أع2: 22) فمن كان قد نال من الله موهبة اجتراح المعجزات يكون قد أُيِّد منه تعالى بهذه القوة التي تفوق تصور البشر ومقدرتهم، وهذا ما أنعم الرب به على تلاميذه لما أرسلهم للكرازة بالإنجيل، إذ كان يثبت الرسالة بالآيات والعجائب (مر16: 15و20 وعب2: 3و4).

أما النبوة: فهي إنباء يقين بحوادث مستقبلة لا يمكن أن يُهتدى إلى معرفتها بأسبابها ومقدماتها بمجرد استدلال العقل البشري، ويجب أن يعبر عنها بألفاظ واضحة وجمل صريحة تدلّ على معنى واحد معين ومسمى، غير ملتبس ولا مشترك بين معنيين.

بفعل الروح القدس يسري إعلان النبوة إلى عقول الأنبياء الصادقين الذين دعاهم اللّه إليه، وأطلعهم على الأسرار الإلهية، وكشف لهم عن المستقبلات، وأرسلهم لإعلان إرادته للبشر.

وتعد النبوة معجزة المعجزات، ولا تتدخل النبوة في حرية الإنسان، ذلك أن اللّه يعلم مقدماً ما سوف يعمله الإنسان بملء حريته، فما يحدث لا يحدث لأنه أُنبئ به، بل بالحري أنبئ به لأن اللّه عرف أنه سيحدث.

ومن دلائل صدق الأنبياء والمرسلين، أعمالهم الصالحة التي تشهد على صدق أقوالهم، فنقاء سيرتهم وصفاء سريرتهم، وتضحياتهم ونكران ذواتهم، وتأكدهم من أنفسهم أنهم مرسلون من اللّه كل هذا يدل على مصداقيتهم للرسالة السماوية التي يحملونها وصدق هذه الرسالة وأنها موحى بها من الله. ليبلغها هؤلاء إلى البشر لخلاص نفوسهم.

 


 

 

 

 

 

 

 

الكتاب المقدس)*(

  • تدوين الوحي الإلهي

إن الكتاب المقدس، الذي بين أيدينا، هو كلام اللّه الحي، الذي أنزله تعالى على ألسنة أناس قديسين، اختارهم ليكونوا وسطاء بينه وبين البشر، فتلقّنوا الوحي منه، وبلّغوه البشر. كما أمرهم أيضاً بأن يدوّنوه في كتاب، ليكون مناراً للهدى، ليس لجيلهم فقط، بل أيضاً لسائر الأجيال والدهور. وفي هذا الصدد كتب الرسول بولس إلى تلميذه تيموثاوس قائلاً: «وأنك منذ الطفولية تعرف الكتب المقدسة… كل الكتاب هو موحى به من اللّه ونافع للتعليم والتوبيخ، للتقويم والتأديب الذي في البّر»(2تي3: 15و16).

ومن المسلَّم به أن أول مَنْ أمره اللّه بتدوين الوحي الإلهي هو النبي موسى الذي عاش قبل الميلاد بنحو ألف وخمسمائة سنة، وكلّمه اللّه فماً لفمٍ (خر19: 14ــ19). وعلى أثر المعجزات الباهرة التي عملها اللّه لخلاص شعب النظام القديم، إذ أطعمهم خبز الملائكة، المنّ النازل من السماء، وأرواهم من ماء فجّره من صخرة، كان تعالى قد أمر موسى قائلاً: «اكتب هذا تذكاراً في الكتاب»(خر17: 14). وجاء في سفر التثنية ما يأتي: «فعندما كمّل موسى كتابة كلمات هذه التوراة في كتاب إلى تمامها، أمر موسى اللاويين حاملي تابوت عهد الرب قائلاً: خذوا كتاب التوراة هذه ودعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم ليكون هناك شاهداً عليكم»(تث21: 24ــ26).

  • وحدة الكتاب المقدس:

اشترك بكتابة أسفار الكتاب المقدس، أكثر من أربعين شخصاً، يمثلون نواحي شتى في الحياة، فقد عاشوا في أماكن مختلفة، وفترات زمنية متباينة، فالفترة الزمنية الممتدة ما بين كتابة السفر الأول والسفر الأخير من الكتاب، تقارب الألف وخمسمائة سنة. كما قد تفاوتت درجات ثقافة الكتّاب، ورتبهم الاجتماعية والدينية. وانعكس كل ذلك على أساليب كتاباتهم، ولكنهم خضعوا جميعاً للوحي الإلهي الذي مصدره اللّه تعالى، ولذلك لما جمعت أسفار الكتاب المقدس، بإرشاد الروح القدس، جاءت متكاملة متسلسلة، على الرغم من تعدّدها وتنوع مواضيعها، وكوّنت كتاباً واحداً مقدّساً، بوحدة عجيبة فريدة، وغاية واحدة، هي إعلان اللّه ذاته الإلهية للبشر، وتحديد علاقته بهم ووعده إياهم بإرسال المخلص، وإتمام الوعد الإلهي بتجسد الإله الكلمة الرب يسوع المسيح الذي فدى البشرية بإهراق دمه الثمين، وهو محور الكتاب المقدس من ألفه إلى يائه، ومركز الدائرة فيه، الأمر الذي جعل الرسول يوحنا أن يختم إنجيله بقوله: «وأما هذه فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله، ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه»(يو20: 31).

  • الكتاب المقدس ينطوي على كلام الله:

يقيم الكتاب المقدس الدليل الناصع على أنه موحى به من الله، فقد صرّح كتّابه بأن ما دوّنوه إنما هو كلام اللّه تعالى الذي أنزله على ألسنتهم وبهذا الصدد جاء في سفر الخروج ما يأتي: «فكتب موسى جميع أقوال الرب»(خر24: 4) ويقول النبي إشعيا: «اسمعي أيتها السموات، واصغي أيتها الأرض لأن الرب يتكلم»(إش1: 1و2) ويقول النبي إرميا: «كانت كلمة الرب إليّ قائلاً، قال الرب لي»(إر1: 4و7) و «هكذا تكلّم الرب… قائلاً اكتب كل الكلام الذي تكلّمتُ به إليك بسفرٍ»(إر30: 2) وجاء في سفر حزقيال النبي ما يأتي: «وصار كلام الرب إلى حزقيال، وكانت عليه يد الرب»(حز1: 3) والرسول بولس يقول: «نشكر اللّه بلا انقطاع لأنكم إذ تسلمتم منا كلمة خبر من اللّه قبلتموها لا ككلمة أناس بل كما هي بالحقيقة كلمة اللّه»(1تس2: 13). «وأعرّفكم أيها الإخوة الإنجيل الذي بشرت به أنه ليس بحسب إنسان لأني لم أقبله من عند إنسان ولا عُلِّمتُه، بل بإعلان يسوع المسيح» (غلا1: 11و12).

  • أمانة كتّاب الكتاب:

لا بد من أن نذكر ههنا، إن كتّاب الأسفار المقدّسة، لم يتمكنوا أغلب الأحيان من إدراك الحقائق الإلهية والعقائد السمحة التي أوحاها اللّه في قلوبهم، ومع ذلك فقد أودعوها أسفارهم بأمانة تامة، إذ كتبوا ما أمرهم اللّه أن يدوِّنوه، دون أي اعتراض أو احتجاج، وبهذا الموضوع يقول الرسول بطرس: «نائلين غاية إيمانكم خلاص النفوس، الخلاص الذي فتّش وبحث عنه أنبياء، الذين تنبّأوا عن النعمة التي لأجلكم، باحثين أيُّ وقتٍ أو ما الوقت الذي كان يدل عليه روح المسيح الذي فيهم، إذ سبق فشهد بالآلام التي للمسيح والأمجاد التي بعدها. الذين أُعلِن لهم أنهم ليس لأنفسهم بل لنا كانوا يخدمون بهذه الأمور التي أُخبِرتم بها أنتم الآن بواسطة الذين بشّروكم في الروح القدس المرسل من السماء»(1بط1: 9ــ12).

  • تحقيق النبوات التي يبرهن على صدق الكتاب:

ومما يبرهن على صدق الكتاب المقدس، وأنه موحى به من الله، محتوياته، فهو ينطوي على نبوات صادقة، وحقائق إلهية سامية، لا يمكن أن تكون من إنتاج بشر. فأغلب النبوات المدونة في أسفار العهد القديم قد تحققت بعد مرور قرون عديدة على إعلانها، نذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر، النبوات التي قيلت عن مجيء المخلص الرب يسوع المسيح: فمن ميلاده بالجسد من عذراء تنبّأ النبي إشعياء قائلاً: «ولكن يعطيكم السيد نفسه آيةً. ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل»(إش7: 14) وتنبّأ النبي ميخا أنه يولد في بيت لحم أفراثة(مي5: 2) كما حدد دانيال زمن مجيئه إلى العالم وأنه يموت في سنة 482 من خروج أمر ملك فارس لبناء المدينة (9: 25و26) وحددت النبوات أن موته يكون صلباً، أي بثقب يديه ورجليه(مز22: 16) وإن صالبيه يقتسمون ثيابه بينهم وعلى لباسه يقترعون(مز22: 18) وإن صلبه يكون بين آثمين(إش53: 12) وإن عظماً لا يُكسَر منه، وإنه يطعن في جنبه(عد9: 12 وزك12: 10) وإنه يقوم من بين الأموات (مز68: 1) في اليوم الثالث (يو1: 17و2: 10ومت12: 10) وأنه يصعد إلى السماء ويجلس عن يمين الله(مز110: 1). وقد تنبّأ الرب يسوع نفسه نبوات عديدة نذكر منها نبوته على خراب المدينة المقدسة سنة 70م.

ولأهمية النبوات كبرهان على صدق الكتاب قال الرسول بطرس: «وعندنا الكلمة النبوية وهي أثبت، التي تفعلون حسناً إن انتبهتم إليها كما إلى سراج منير في موضع مظلم إلى أن ينفجر النهار ويطلق كوكب الصبح في قلوبكم»(1بط1: 19).

فكل هذه النبوات التي ذكرناها، التي تحققت بحذافيرها في أوانها، لدليل ناصع قاطع على أن الكتاب المقدس الذي بين أيدينا هو كتاب الله.

  • سمو تعليم الكتاب المقدس وتأثيره الروحي:

يتّضح صدق الكتاب المقدس أيضاً من سمو تعاليمه الأدبية والروحية، وتأثيره الخفي في حياة الأفراد والجماعات. فقد تغيّرت حياة ملايين من البشر ونالوا الخلاص بعد قبولهم إياه دستوراً لهم في الحياة، وإيمانهم بأنه رسالة اللّه تعالى التي أوحاها على لسان عبيده لتكون للبشر دستوراً للإيمان والأعمال. فبعد أن كانوا خطاةً ضالين عادوا إلى اللّه تائبين سالكين الطريق المستقيم، مؤمنين بالرب يسوع صائرين قديسين. كما أن مجتمعات عديدة، اتخذت الكتاب المقدس أساساً لقوانينها وشرائعها ونظمها، فسادت العدالة وتوطّد السلام في جوانبها. فالكتاب المقدس نور لسبيل الأفراد والأمم، وهو خير مرشد إلى الطريق والحق والحياة، وبهذا الصدد كتب لوقا في سفر أعمال الرسل قائلاً: «كانت كلمة اللّه تنمو، وعدد التلاميذ يتكاثر جداً، في أورشليم. وجمهور كثير من الكهنة يطيعون الإيمان» (أع6: 7) «وكان اسم الرب يسوع يتعظم، وكان كثيرون من الذين يستعملون السحر يجمعون الكتب ويحرقونها أمام الجميع… هكذا كانت كلمة اللّه تنمو وتقوى بشدة» (أع19: 17ــ20).

  • أسفار الكتاب المقدس:

يتكون الكتاب المقدس من جزئين، يسمى الجزء الأول بالعهد القديم، والجزء الثاني بالعهد الجديد. وتعني كلمة (عهد) الوصية أو الميثاق أو العقد الذي يرتبط به اثنان، وتشير هذه اللفظة هنا إلى العهد الذي قطعه اللّه بينه وبين ابراهيم أبي الشعوب وبينه تعالى وبين كليمه موسى وشعب النظام القديم في سينا، وفي عهده مع ابراهيم وموسى هيأ اللّه للعهد الذي سيعقده فيما بعد بينه وبين البشرية جمعاء بدم ابنه الوحيد يسوع المسيح الذي سفك لأجل خلاص العالم وهذا هو العهد الجديد.

وتنقسم أسفار الكتاب المقدس من حيث مواضيعها إلى أسفار الشريعة والأسفار التاريخية والحكمية والنبوية.

فأسفار العهد القديم: كُتِبت باللغة العبرية، وعددها ستة وأربعون، تنقسم إلى:

 

أولاً ـ أسفار الشريعة وهي: ــ أسفار موسى الخمسة وتعرف بالتوراة أي الشريعة. وقد كتبها موسى حوالي سنة ألف وخمسمائة قبل الميلاد وهي: 1ــ التكوين. 2ــ الخروج. 3ــ اللاويين. 4ــ العدد. 5ــ التثنية.

ثانياً ــ الأسفار التاريخية: وهي: 6ــ يشوع، وكتبه يشوع ابن نون. 7ــ القضاة، وكتبه صموئيل. 8ــ راعوث، وكتبه صموئيل. 9و10ــ صموئيل الأول والثاني، وكتبهما صموئيل وجاد وناثان. 11و12ــ الملوك الأول والثاني، وكتبهما ناثان، وقيل أن جاد وإشعياء النبي ويعدو اشتركوا معه. 13و14ــ الأيام الأول والثاني، كتبهما عزرا الكاهن. 15ــ عزرا، وكتبه عزرا الكاهن. 16ــ نحميا، وكتبه نحميا. 17ــ طوبيا، وكتبه طوبيا. 18ــ يهوديت، وكتبه يواكيم. 19ــ أستير، يقال إن كاتبه عزرا الكاهن أو مردخاي. 20و21ــ المكابين الأول والثاني.

ثالثاًــ الأسفار الحكمية: وهي: 22ــ سفر أيوب، نظمه بالعبرية أو العربية أيوب الصدّيق أو موسى النبي، وهو أقدم الأسفار الإلهية كتابةً. 23ــ المزامير، نظم أكثرها داود والباقي نظمه موسى وهامان وآساف ويدثون وأنبياء آخرون. 24ــ الأمثال. 25ــ الجامعة. 26ــ نشيد الأنشاد. 27ــ حكمة سليمان. وهذه الأسفار الأربعة كتبها سليمان. 28ــ حكمة يشوع ابن سيراخ وهو شبيه بسفري الأمثال والحكمة.

رابعاًــ الأسفار النبوية: وكلها بأسماء كاتبيها الذين يسمون بالأنبياء الكبار والأنبياء الصغار بحسب حجم سفر نبوتهم، فأسفار الأنبياء الكبار هي: 29ــ إشعياء. 30ــ إرميا. 31ــ مراثي إرميا. 32ــ حزقيال. 33ــ دانيال.

وقد حذف بعض البروتستانت من سفر دانيال تسبحة الفتية الثلاثة في أتون النار، وقصة سوسنة العفيفة، وقصة بال والتنين.

أما أسفار الأنبياء الصغار فهي: 34ــ باروخ. 35ــ هوشع. 36ــ يوئيل. 37ــ عاموس. 38ــ عوبيديا. 39ــ يونان. 40ــ ميخا. 41ــ ناحوم. 42ــ حبقوق. 43ــ صفنيا. 44ــ حجّاي. 45ــ زكريا. 46ــ ملاخي.

أما أسفار العهد الجديد فهي سبعة وعشرون سفراً كتبها بعض الرسل الأطهار والتلاميذ الأبرار باللغة اليونانية ماعدا إنجيل متى فقد كتب باللغة الآرامية، ويُظَن أن الرسالة إلى العبرانيين قد كُتِبَت بالآرامية أيضاً، وهذه الأسفار مسماة بأسماء كاتبيها أو بأسماء الأشخاص أو الأماكن المكتوبة والموجهة إليهم، وهي بحسب التقسيم الذي اتبعناه بسرد أسماء الأسفار السابقة كالآتي:

أولاًــ أسفار الشريعة: وهي الأناجيل الأربعة، ولفظة إنجيل تعني البشارة السارة. وهي: 1ــ إنجيل متى، كتبه سنة 39م. 2ــ إنجيل مرقس كتبه سنة 61م. 3ــ إنجيل لوقا كتبه سنة 63م. 4ــ إنجيل يوحنا كتبه سنة 98م. وتعتبر الأناجيل الأربعة تاريخية أيضاً لاشتماله على سيرة السيد المسيح وتدابيره الإلهية بالجسد، وقد كتبت بعد صعوده إلى السماء بمدة تتراوح بين أربع إلى ست وستين سنة.

ثانياًــ الأسفار التاريخية: 5ــ سفر أعمال الرسل وقد كتبه لوقا البشير سنة 64م.

ثالثاًــ الأسفار التعليمية: وهي قسمان: أولهما من 6 ـ 19 تتضمن رسائل الرسول بولس، وقد كتبت بعد صعود الرب إلى السماء بمدة تتراوح من عشرين إلى ثلاث وثلاثين سنة وهي موجهة إلى: 6ــ رومية كتبها الرسول بولس في إفسس سنة 55 أو 57م، وكورنثوس الثانية كتبها الرسول بولس في مكدونية سنة 57 أو 58م. 9ــ غلاطية كتبها الرسول بولس في كورنثوس أو إفسس سنة 55 أو 58م. 10ــ إفسس كتبها الرسول بولس في رومية سنة 57م. 11ــ فيليبي كتبها الرسول بولس في رومية سنة 62م. 12ــ كولوسي كتبها الرسول بولس في كورنثوس سنة 52م وتسالونيكي الثانية كتبها الرسول بولس في مكدونية سنة 57 أو 58م. 15و16ــ تيموثاوس الأولى: كتبها الرسول بولس في مكدونية أو رومية سنة 64م، والثانية كتبها الرسول بولس في رومية سنة 65و68م. 17ــ تيطس كتبها الرسول بولس في نيكوبوليس أو إفسس سنة 64م. 18ــ فليمون كتبها الرسول بولس في رومية سنة 61م. 19ــ العبرانيين كاتبها مجهول، إذ لم يصرح باسمه. ويُظَن أنه الرسول بولس. والقسم الثاني من 20ــ26 الرسائل الجامعة وهي: 20ــ رسالة يعقوب، كتبها يعقوب في مدينة أورشليم سنة 61م. 21ــ رسالة بطرس الأولى كتبها بطرس بين سنتي 63و67م. 22ــ رسالة بطرس الثانية، كتبها بطرس بين سنتي 64و68م. 23و24و25ــ رسائل يوحنا الثلاث كتبها يوحنا في إفسس، الأولى سنة 98م، والثانية والثالثة سنة 70م على ما يظن. 26ــ رسالة يهوذا، كتبها بين سنتي 64و66م.

ولا بد من أن نذكر أنّ رسائل الرسول بولس والرسائل الجامعة تتضمن علاوة على الأمور التعليمية، بعض الشرائع والحوادث التاريخية وحتى النبوات.

رابعاًــ الأسفار النبوية: 27ــ سفر الرؤيا كتبه على الأغلب يوحنا الرسول الذي يوصف أيضاً بالرائي، وذلك بين سنتي 90و100م، ويتضمن النبوات بتدبير الرب الإله عالمنا إلى منتهى الدهر.

 

  • قانونية الكتاب المقدس)*(

القانون لغة، هو مقياس كل شيء، وفي السريانية (قنيو) أي قصبة المساحة التي كانت تستعمل كمقياس، وطولها أربعة أو ستة أو ثمانية أذرع، وأيضاً بالسريانية (قونونو) أي قاعدة، وقانون ومقياس. أما بالعربية فهي (القناة) أي العصاة المستقيمة([12]) وفي علم اللاهوت، تعني القواعد والأصول، فقانونية (الأسفار المقدسة) هي الاعتراف بكونها موحى بها من الله، وهي المعتبرة أجزاء من الكتاب المقدس.

استمدت اسفار الكتاب المقدس قانونيتها، منذ زمن تدوينها، فهي وحي إلهي، وقد هُيِّئ شعب العهد القديم مثلاً لتقبل أسفار العهد القديم كوحي إلهي وحفظها، وصيانتها. وكان مطلب هذا الوحي حال نزوله واضحاً صريحاً، إنه كلام الله، كما جاء في سفر إرميا، ما يأتي: (فدعا إرميا باروخ بن نيرنا فكتب باروخ عن فم إرميا كل كلام الرب الذي كلمه به، في درج السفر)(إر36: 4).

درست الكنيسة المسيحية قانونية أسفار العهد القديم التي كانت بيد اليهود، فقبلتها ككتاب موحى به من الله. وبهذا الصدد يقول الرسول بطرس: «إنه لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان، بل تكلم أناس اللّه القديسون مسوقين من الروح القدس» (2بط1: 21) وقال الرسول بولس: «كل الكتاب موحى به من الله»(2تي3: 16).

واقتبس السيد المسيح ورسله الأطهار وتلاميذه الأبرار آيات من أسفار العهد القديم، فقد وردت في أسفار العهد الجديد (465) آية من العهد القديم.

ويكفي أن السيد المسيح وحده ذكر عشرين شخصاً من أشخاص العهد القديم. وذكر منه حوادث عديدة وأشار إليها بوضوح، مثل: الطوفان (مت24: 37) وانقلاب سادوم وعامورة واحتراقهما بالنار والكبريت (لو17: 28ــ30و32) والمن والسلوى(يو6: 31و32) ورفع موسى الحية النحاسية في البرية (يو30: 14) وحادثة النبي يونان والحوت، وتوبة أهل نينوى (مت12: 39ــ41).

ونذكر أيضاً على سبيل المثال لا الحصر بعض أقوال الرب يسوع التي بها يشير إلى أسفار العهد القديم، فقد قال لابليس المجرب (مكتوب)(مت4: 4و7و10) وقال لليهود: «فتشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية وهي تشهد لي… لأنكم لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني، لأنه هو كتب عني. فإن كنتم لا تصدقون كتب ذاك فكيف تصدقون كلامي» (يو5: 39و45ــ47). وفي ذات اليوم الذي قام فيه من بين الأموات ظهر للتلميذين اللذين كانا ذاهبين إلى قرية عمواس، وقال لهما: «أيها الغبيان والبطيئا القلوب في الإيمان بجميع ما تكلم به الأنبياء، أما كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده، ثم ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب»(لو24: 25ــ27) ولما ظهر لتلاميذه في العلية قال لهم: «هذا هو الكلام الذي كلمتكم به وأنا بعد معكم أنه لا بد أن يتم جميع ما هو مكتوب عني في ناموس موسى والأنبياء والمزامير. حينئذٍ فتح ذهنهم ليفهموا الكتب» (لو24: 44و45).

  • مكانة الأسفار المقدسة في العهد القديم:

كانت أسفار موسى الخمسة التي تدعى التوراة تقرأ سنوياً أمام الشعب كله، في عيد المظال(تث31: 9ــ11) وكلمة توراة العبرية تعني الناموس أو الشريعة. وكان اللّه تعالى قد أمر كل من يتوج ملكاً فيهم، أن يستكتب له نسخة من أسفار الشريعة لتكون معه دائماً، ويقرأ فيها كل أيام حياته، لكي يتعلّم ان يتقي الرب إلهه ويحفظ جميع كلمات هذه الشريعة وهذه الفرائض ليعمل بها(تث17: 18ــ20) وكان القارئ أيّاً كان لا يجرؤ على أن يلمس الكتاب بإصبعه لرهبته من قدسية الكتاب المقدس.

وعندما سبي الشعب، وتشرد وتشتت، كان من الطبيعي أن يصطحب معه نسخاً من الأسفار المقدسة أينما رحل، وحيثما حل، وإذ كان قد فقد هيكله، وتوقف عن تقديم الذبائح والمحرقات وغيرها، اقتصرت عبادته للّه على تلاوة الأسفار المقدسة، موجهاً عنايته إليها، بل قد تطرف بعضهم في تكريمها إلى درجة عبادتها. أما العقلاء الأتقياء المعتدلون، فقد ركزوا اهتمامهم على دراسة النبوات، وغدوا ينتظرون إتمامها بفارغ الصبر، وقوي بذلك إيمانهم بعناية الله، ورجاؤهم بإتمام وعوده تعالى بمجيء المخلص. ولكي يفهم الجيل الصاعد شريعة الله، نقلت الأسفار المقدسة إلى اللغات المحلية، وهكذا صار السبي وسيلة لنشر تعاليم الله، فعرفت الشعوب الوثنية الشيء الكثير عن نبوات أنبياء اليهود عن مجيء المخلص الذي سيأتي لفداء العالم أجمع.

وكانت الأسفار المقدسة تُقرأ في مجامع اليهود، أثناء العبادة، كل يوم ست خلال السبي البابلي، واستمر الحال على هذا المنوال، بعد العودة من السبي في القرن الخامس قبل الميلاد، حيث كانت المجامع قد انتشرت في الأرض المقدسة، كما نوه بذلك القديس يعقوب بقوله: «لأن موسى منذ أجيال قديمة له في كل مدينة من يكرز به، إذ يُقرأ في المجامع كل سبت» (أع15: 21). وقال البشير لوقا عن الرب يسوع ما يأتي: «وجاء إلى الناصرة حيث كان قد تربى، ودخل المجمع حسب عادته يوم السبت، وقام ليقرأ، فدفع إليه سفر إشعيا النبي، ولما فتح السفر وجد الموضع الذي كان مكتوباً به…» (لو4: 16و17). وكلام البشير لوقا هذا يدل على أن الأسفار المقدسة كانت تتلى على مسامع الشعب في المجامع حتى ذلك العهد. وكانت لها المكانة الأولى في قلوبهم.

وكانت أسفار العهد القديم، المكتوبة باللغة العبرية، قد جُمِعت ونُظِّمت لتكون مجموعة واحدة مؤلفة من تسعة وثلاثين سفراً قانونياً وذلك سنة 534ق.م بهمة عزرا الكاهن وبمساعدة النبيين حجي وملاخي. أما الأسفار المكتوبة بالآرامية فاستثنيت من تلك المجموعة. وسنة 285ق.م عندمت ترجمت أسفار العهد القديم إلى اليونانية بأمر بطليموس فيلادلفوس في الاسكندرية أضيفت إلى هذه الأسفار رسمياً الأسفار السبعة التي كتبت باليونانية والآرامية ما عدا سفر المكابيين الذي كتب بعد ذلك التاريخ وترجم بعدئذ وضمّ إليها أيضاً.

وكان هناك خلاف بين يهود الاسكندرية ويهود فلسطين حول هذه الأسفار التي دعيت بعدئذ، من بعض الكنائس، بالأسفار القانونية الثانية، فالاسكندريون دون الفلسطينيين كانوا يقبلونها كلها. وقد تسلمت المسيحية أسفار العهد القديم من اليهود ومعها تسلمت الخلاف حول بعضها، وظلّ الحال على هذا المنوال، حتى القرن الخامس للميلاد حيث قبلت الكنائس كافة، مجموعة الأسفار كاملة.

 

  • حذف بعض الأسفار:

وجدد الجدل حول قانونية بعض أسفار العهد القديم، مع ظهور الكنيسة البروتستانتية، إذ رفض بعض فرقها أسفاراً من العهد القديم دعتها (أبوكريفا)([13]) وهذه الأسفار هي: 1ــ طوبيا. 2ــ يهوديث. 3ــ حكمة سليمان. 4ــ حكمة يشوع بن سيراخ. 5و6ــ المكابيين([14]) الأول والثاني. 7ــ بعض أجزاء من سفر أستير. 8ــ بعض أجزاء من سفر دانيال كتسبحة الفتية الثلاثة القديسين وقصة سوسنة وغيرها. 9ــ باروخ.

وحجة رافضي هذه الأسفار هي أنها لم تكن في تعداد الأسفار القانونية التي جمعها عزرا الكاهن سنة 534ق.م. وإن الإعلانات الإلهية، حسب عقيدة شعب العهد القديم، قد توقفت بعد نبوة ملاخي الذي كان معاصراً لنحميا سنة 433ق.م([15]) وإن هذه الأسفار كتبت سنة 200ق.م وما بعدها وإن الأسفار القانونية كلها كتبت بلغتهم العبرية. وإن السيد المسيح ورسله الأطهار لم يستشهدوا بعباراتٍ منها.

ورداً على اعتراضاتهم هذه نقول: إن الوحي الإلهي لا يقتصر على لغة واحدة، وإن عزرا الكاهن وحجي وملاخي لم ينظموا في قانون الأسفار المقدسة سنة 534ق.م إلا ما كان مكتوباً بلغتهم العبرية إذ جمعوها معاً كأسفارٍ قانونية، أما ما كان مكتوباً بالآرامية، أو ما كتب بعد ذلك التاريخ، فلئن كان مكرماً لديهم، ومصدقاً منهم، ولكنهم لم يضعوه ضمن كتبهم القانونية، لعدم ظهور أنبياء لديهم بعد ذلك التاريخ، يخلف أحدهم الآخر، لكي يعترف الخلف بما كتبه السلف، وبهذا الصدد يقول مؤرخهم يوسيفوس فلافيوس: «لدينا فقط اثنان وعشرون سفراً. ومن أيام أرتحشستا([16]) إلى يومنا هذا دونت كل الحوادث، ولكننا لا نستطيع أن نضع فيما دُوِّن نفس الثقة التي نضعها في التواريخ السابقة لأنه لم تكن هناك سلسلة متعاقبة من الانبياء اثناء هذه الفترة»([17]).

أما عدم استشهاد السيد المسيح ورسله الأطهار بعبارات من هذه الاسفار فليس دليلاً على عدم اعترافهم بقانونيتها، فهم لم يستشهدوا بعبارات من العديد من الأسفار التي يعترف البروتستانت بقانونيتها أيضاً. علماً بأن آباء الكنيسة الأولى قد استشهدوا بآيات منها في كتاباتهم كما أن فصولاً منها تقرأ في الكنائس أثناء الصلاة ضمن القراءات التي نظم جدولها آباء الكنيسة([18]).

كما أن هذه الاسفار كانت قد ضمت إلى الأسفار التي نقلت إلى اليونانية في الإسكندرية عام 285ق.م كما يتضح ذلك من مخطوطة المتحف البريطاني في لندن.

ولا بد من أن نذكر أيضاً أن شعب العهد القديم التزم بما جاء فيها من توجيهات فعيَّد عيد تجديد الهيكل (يو10: 22) مثلاً، بناءً على ما رسمه يهوذا المكابي حين طهّر الهيكل من نجاسات الأمم الوثنية، وجدد مذبحه كما هو وارد في سفر المكابيين الأول (4: 59).

 

أما قانونية أسفار العهد الجديد التي بين أيدينا اليوم وهي سبعة وعشرون سفراً فقد أقرتها الكنيسة الأولى في أوائل القرن الثاني وأجمعت على قبولها كأسفارٍ موحى بها من اللّه كتبها الرسل والتلاميذ الذين اختارهم الرب يسوع وحلّ عليهم الروح القدس فأرشدهم إلى استعمال العبارات اللائقة، وصانهم من الخطل والزلل فكتبوا ما كتبوه بعباراتٍ واضحة، ومما يبرهن على صدقهم، بساطتهم في سرد شهادتهم عن السيد المسيح، فقد كتبوا ما رأوه بأم العين، وما سمعوه بالأذن، ولمسوه بالأيدي. وأتموا بذلك وصية الرب إذ قال: «فتكونون لي شهوداً في أورشليم وجميع اليهودية وفي السامرة وإلى أقصى الأرض»(أع1: 8) وقد قدموا شهاداتهم عن أمورٍ عرفها عدد كبير من معاصريهم، فلو كذبوا لكذّبوهم حينذاك. كما أثبتوا صدق كلامهم بالمعجزات الباهرات التي اجترحوها، وبسيرتهم الفاضلة، وإيمانهم حتى الموت بصدق ما بشّروا به وكتبوه. قال الرسول بولس: «إنه إن بشّرناكم نحن أو ملاكٌ من السماء بغير ما بشّرناكم فليكن أناثيما»(غلا1: 9) فلا عجب إن كان لرسالتهم تأثير على عقول الناس وقلوبهم فأذعنت للمسيح وآمنت به.

وبعد أن أخذت أسفار العهد الجديد الصفة القانونية، كما ذكرنا، صار قبولها إلزاماً على المؤمنين كأسفارٍ موحىً بها من الله. لا يُزاد عليها حرفٌ، ولا يُحذف منها حرفٌ كقول الرسول يوحنا في سفر الرؤيا: «لأني أشهد لكل من يسمع أقوال نبوة هذا الكتاب، إن كان أحدٌ يزيد على هذا يزيد اللّه عليه الضربات المكتوبة في هذا الكتاب، وإن كان أحدٌ يحذف من أقوال كتاب هذه النبوة، يحذف اللّه نصيبه من سفر الحياة، ومن المدينة المقدسة، ومن المكتوب في هذا الكتاب»(رؤ22: 18و19).

  • سلامة الكتاب المقدس:

صان اللّه تعالى كتابه المقدس سالماً من أي تحريفٍ أو تبديل أو تناقض أو ناسخ أو منسوخ، فلم يعتره خلل منذ كتب وإلى الآن ولن يعتريه أبداً.

ومن البديهي أن يحافظ المؤمنون على سلامته، طالما يؤمنون بأنه كتاب اللّه الذي كتبه الأنبياء الصادقون، والرسل القديسون، مسوقين من الروح القدس وهو يحتوي على كل ما قصد اللّه تعالى أن يودعه فيه من معانٍ لخلاص الإنسان.

ومما يدل على حرص شعب العهد القديم مثلاً على الحفاظ على الأسفار المقدسة سليمةً من أية زيادة أو نقصان أسلوب نسخ الأسفار. فقد كان النساخ يعنون العناية التامة بكتابتها، وكانوا يعرفون عدد كل حرفٍ في كل سطرٍ أو صفحة، ويخافون العقاب من زيادة حرفٍ أو نقطة أو حذفهما. وعلى الرغم من انقسام اليهود إلى شيع وفرق عديدة واختلافاتهم في أمورٍ كثيرة، كانوا مجمعين على أن الأسفار المقدسة موحى بها من الله. وكذلك المسيحيون بالنسبة إلى نصوص العهدين قد أجمعوا على أنها كلام اللّه الحي «كل الكتاب موحى به من الله»(2تي3: 16) و«كلامك هو حقٌ»(يو17: 17) وقد اؤتمن شعب العهد القديم على حفظ أسفار الناموس والنبوات كقول الرسول بولس: «فلأنهم استؤمنوا على أقوال الله»(رو3: 1و2).

فالكتاب المقدس الذي بين أيدينا اليوم بلغاته الأصلية، هو هو كما دوّنه الأنبياء والرسل، وتسلّمه آباؤنا الميامين، وسلّمونا إيّاه، سليماً صحيحاً. وقد تُرجم إلى كل لغةٍ ذات شأنٍ في العالم، ومع هذا مهما اختلفت الترجمات في الألفاظ، والأساليب في التعبير فهي جميعها تتطابق كل المطابقة بعضها لبعضٍ في الجوهر ولا خلاف بالمعنى. ويرجع تاريخ أقدم مخطوطاته العديدة بلغاتٍ شتى، إلى القرن الأول قبل الميلاد لأسفار العهد القديم. أما الكتاب المقدس بعهديه فإلى القرون: الثاني والرابع والسادس والسابع للميلاد. وهي محفوظة في شتى متاحف العالم وخزانات الكتب الشهيرة. وكان الكتاب المقدس أول كتاب نشر بالطبع بعد اختراع صناعة الطباعة في القرن الخامس عشر. وقد فحص العلماء هذه المخطوطات، وكذلك ما طبع من أسفار الكتاب حتى اليوم بلغاتها الأصلية وترجماتها وقابلوا نصوصها، بتدقيقٍ، فرأوها، رغم قدمها وتباعد البلدان التي جُمعت منها المخطوطات، مطابقة كل المطابقة بعضها لبعض. ولا خلاف فيها بالمعنى أبداً. ولئن اختلفت الترجمات في الألفاظ والأساليب في التعبير. وكلما اكتُشفت مخطوطة قديمة أضافت برهاناً جديداً على سلامة الكتاب المقدس لتطابقها كل التطابق مع النسخ التي بين أيدينا.

 

لم يجسر اليهود على تبديل أو حذف آية واحدة من نبوات الأنبياء التي تعلن حقيقة مجيء المسيح المخلص وموته وقيامته. فعلى الرغم من عدم إيمانهم بالمسيح يسوع وقد اعتبروه عدواً لدوداً لهم، حافظوا على مئات النبوات التي تنبّأ بها أنبياؤهم عن مجيئه قبل مجيئه بمئات السنين مفصلين مراحل تدبيره الإلهي على الأرض بوضوح، وكأنهم يكتبون تاريخ حياته بالجسد، وبقيت هذه النبوات برهاناً ناصعاً، وشهادة صادقة على أن يسوع الناصري هو المسيح المنتظر، وأن اليهود لم يعرفوا زمن افتقادهم فرفضوا المسيح فرفضهم الله.

ولو حاولوا حذف شيء من الأسفار المقدسة أيضاً لحذفوا ما دوّنه أنبياؤهم من الحقائق التي تسيء إلى  سمعتهم وسمعة آبائهم بقساوة قلوبهم وتمردهم على اللّه وأعمالهم الهمجية التي يُندى لها جبين الإنسانية خجلاً. ولكنهم لم يجرؤوا على حذف نقطة واحدة أو كلمة واحدة من الأسفار المقدسة أو زيادة ذلك عليها. وكذلك الحال بالنسبة إلى المسيحيين بحفاظهم على أسفار العهدين.

كما إن اليهود والمسيحيين ينقسمون إلى فرقٍ عديدة، وشيعٍ لا يُحصى لها عددٌ، فلو فكرت فرقةٌ من الديانتين أن تحرّف أسفار العهدين لشنّعت بها سائر الفرق. ولكن ذلك لم يحصل ولن يحصل أبداً.

ولا ننسى أن نذكر إن قبول الرسل الأطهار الحقائق الإلهية ولئن فاقت إدراكهم، لهو دلالة واضحة على أمانتهم في حفظ الكتاب سليماً من أي تبديل. فعقيدة صلب السيد المسيح مثلاً لم يكن من الهيّن قبولها، حتى إن سمعان بطرس لما سمعها من الرب قال له: «حاشاك يا رب. لا يكن لك هذا»(مت16: 22) ورغم صعوبة الفكرة، كانوا يبشّرون بها لأنها حقيقةٌ إلهية. مما يدل على أن الإنجيل صحيح. وقد كرزوا أولاً بالإنجيل المكتوب في قلوبهم لمدة ثلاثين سنةً، ثم بعد ذلك كتبوا الأناجيل الأربعة من مناطق بعيدة عن بعضها وأماكن متفرقة وبدون سابق اتفاق أو تواطؤ على كتابتها. وقد جاءت أناجيلهم مختلفة النصوص ولكنها واحدة في الجوهر. مما يدل على أن الإنجيل صحيح وصادق. وقد أجمعوا بالشهادة التي قدّموها بالإنجيل على صلب المسيح، وموته، وقيامته رغم أن التبشير (بالمسيح المصلوب) كان وما يزال عثرة لليهود وجهالة لدى الأمم (1كو1: 18) فهذا أقوى دليل على صدق جميع أسفار الكتاب، وسلامتها. كما إنه قد كُتب من الأناجيل آلاف النسخ وانتشرت في العالم بلغاتٍ مختلفة ولم توجد نسختان تختلف الواحدة عن الأخرى من الإنجيل الواحد، أو تختلف عن سائر النسخ. فهل يعقل أن تجمع هذه النسخ من أنحاء العالم وتُحرَّف وتُباد النسخ الأصلية وتبقى المحرفة!

  • لغات الكتاب المقدس:

كُتِب معظم أسفار العهد القديم باللغة العبرية، ويُظن أن سفر أيوب كُتِب أولاً بالعربية شعراً ثم نُقِل إلى العبرية نظماً أيضاً. ومنذ القرن الخامس قبل الميلاد أخذت اللغة الآرامية مكان اللغة العبرية في شؤون الحياة اليومية لدى اليهود، إذ كان الشعب قد نسي اللغة العبرية أثناء السبي البابلي، وأخذ يتكلّم اللغة الآرامية، فكتبت بالآرامية أسفار: طوبيا ويهوديث وبعض أجزاء من سفري عزرا ودانيال. وكُتِبت باليونانية (الدارجة) أسفار الحكمة والمكابيين الثاني. علماً بأن اللغة العبرية بقيت اللغة الدينية لدى اليهود.

أما أسفار العهد الجديد فكُتِب أغلبها باللغة اليونانية (الدارجة) وكان هؤلاء الكتّاب ذوي ثقافة آرامية، ومطبوعين في تفكيرهم بالطابع الآرامي السرياني. وقد تكلّم السيد المسيح ورسله باللغة الآرامية السريانية وبها كتب الرسول متى الإنجيل المقدس ويقول أوسابيوس القيصري(263ــ339) بهذا الصدد: «لأن متى كرز أولاً للعبرانيين، كتب إنجيله بلغته الوطنية»([19]). أما الرسالة إلى العبرانيين فقد كتبت أصلاً باليونانية الفصحى، وقيل بل بالآرامية أو العبرية ونقلت إلى اليونانية.

  • أهم ترجمات الكتاب المقدس:

ترجم الكتاب المقدس من لغاته الأصلية إلى لغات عديدة بلغت اليوم ما ينوف على ألف ومئتي لغة ولهجة، وأهم هذه الترجمات القديمة هي:

1ــ الترجمة السبعينية: التي تمت في الاسكندرية بأمر الملك بطليموس فيلادلفيوس وذلك نحو سنة(282ق.م) وأطلق عليها اسم السبعينية إما لأن مجلس السنهدريم وهو مجلس اليهود الأعلى المؤلف من سبعين عضواً قد صادق على صحتها، أو لأنها تمت على أيدي 72 مترجماً باللغتين العبرية واليونانية، الذين حبسوا أنفسهم في 72غرفة حتى انتهوا من عملهم بعد 72 يوماً. ولما قورنت ترجمة كل منهم بترجمات الآخرين، وجدت جميعها وكأنها عمل شخصٍ واحد، مما يبرهن على أن اللّه سبحانه وتعالى يصون كتابه المقدس، وأن الترجمة جاءت مطابقة للأصل مطابقة تامة. وقد استعملت مجامع اليهود هذه الترجمة في العبادة، ما عدا المجامع التي في فلسطين إذ كانت الأخيرة تقرأ الأسفار المقدسة بالعبرية وتنقلها إلى الآرامية.

وللترجمة السبعينية أهمية كبرى، فمنها نقلت أسفار العهد القديم إلى اللغة اللاتينية في منتصف القرن الثاني للميلاد، وكذلك عنها نقلت الترجمات القبطية بين القرنين الثالث والخامس للميلاد، وغيرها.

2ــ الترجمة السريانية: المعروفة بـ (فشيطتا) أي البسسيطة:

روى مار يعقوب الرهاوي (+708) أن أبجر الخامس ملك الرها (+50) بعدما آمن بالرب يسوع على يد البشير أدى الذي أوفده إلى الرها أخوه الرسول توما، أرسل ابجر من الرها إلى فلسطين عدة علماء تفرّغوا لنقل أسفار الكتاب المقدس إلى اللغة السريانية وعادوا بها إليه. وهذه الترجمة مفقودة([20]).

أما الترجمة السريانية التي أطلق عليها في القرن التاسع اسم فشيطةا (فشيطتا) أي البسيطة، فقد جرت على مرحلتين: المرحلة الأولى وقد تمت في أواخر القرن الأول للميلاد حيث نقل جماعة من العلماء اليهود المتنصرين أسفار العهد القديم عن العبرية إلى السريانية، في الرها على الأغلب، وسميت أورة كةب (صورات أكثوب) أي متن الكتاب المقدس ونصه. أما المرحلة الثانية فقد تمت في أوائل القرن الثاني للميلاد حيث نقل العلماء السريان أسفار العهد الجديد من اليونانية إلى السريانية ودعيت هذه الترجمة أيضاً بـ (صورات أكثوب) أي متن الكاب المقدس ونصه. وقد حوت كل أسفار العهد الجديد ما عدا رسالتي مار يوحنا الثانية والثالثة ورسالة مار بطرس الثانية ورسالة مار يهوذا ورؤيا يوحنا الرسول. وقد أجمع العلماء على أنها ترجمة صحيحة وأمينة بدون أن تكون حرفية، وسميت بالبسيطة لبساطتها ووضوحها وترك أفانين البلاغة وتعقيداتها في نقلها([21]) واستعملتها الكنيسة السريانية لبساطتها، دون الترجمة السبعينية، وذكرها آباؤها الأولون مقتبسين منها في كتاباتهم وكانت في أواسط القرن الرابع قد قوبلت على النص اليوناني الذائع يومئذ في كنائس الجالية اليونانية في أنطاكية. وما تزال الكنيسة السريانية تستعمل هذه الترجمة بنصها وفصها وما تزال هذه الترجمة ذات أهمية كبرى، وتعد من المراجع المهمة جداً في دراسة الكتاب المقدس. وأقدم مخطوطة لها، محفوظة في المتحف البريطاني في لندن وترقى إلى القرن الرابع للميلاد. وقد أحصى بعضهم خمساً وخمسين مخطوطة سريانية بالقلم الاسطرنجيلي من الترجمة البسيطة، مكتوبة في القرون الخامس والسادس والسابع، محفوظة إلى اليوم في مكتبات الشرق والغرب، يقابلها اثنتان وعشرون نسخة لاتينية وعشر نسخ فقط يونانية([22]).

 

وفي السريانية ترجمات أخرى منها:

الترجمة الأنطاكية: المعروفة اليوم بـ (السينائية) لاكتشاف نسختها في دير طور سينا عام 1892 وقد كتبت بخط يوحنا العمودي في دير مار قانون في معرة مصرين([23]) سنة 698م أو 789م ونشرتها السيدة لويز عام 1910. وعلى الأغلب أن ططيانس قد اعتمدها في جمع الدياطسرون([24]) أي «من خلال الأربعة» وهو الإنجيل الموحد أو المختلط كما يسميه آباؤنا السريان.

الترجمة الفلكسينية: التي تمت على يد الخورفسقفوس فوليقربوس بعناية مار فيلكسنوس مطران منبج عام 505م واقتصرت على ترجمة أسفار العهد الجديد ويظن أنه نقل بعض أسفار العهد القديم أيضاً([25]) ولم تصل إلينا هذه الترجمة.

الترجمة الحرقلية: وهي مشهورة جداً كتب عنها المؤرخ السرياني الشهير البطريرك مار ميخائيل الكبير (1199+) ما تعريبه بتصرف «في عهد البطريرك أثناسيوس الأول (595ــ631) اشتهر توما الحرقلي من دير ترعيل وهو أسقف منبج، الذي درس اللغة اليونانية منذ نعومة أظفاره في قنسرين. ولما صار أسقفاً، ونفي من كرسيه بدسائس دوميطان أسقف ملاطية في عهد موريقي الملك كان توما المغبوط في جملة الأساقفة الذين هربوا بسبب الاضطهاد إلى بلاد مصر. وانكفأ في الدير المسمى أنطون بجوار الاسكندرية، حيث نقح بدقة فائقة الترجمة السريانية لكتاب الإنجيل المقدس وسائر كتب العهد الجديد وهذه الترجمة كانت قد جرت بهمة مار فيلكسينوس أسقف منبج وفي زمانه»([26]).

  • الترجمة السبعينية السريانية:

وفي هذا الزمن أيضاً نقل إلى السريانية مار بولس مطران تلا بين سنتي 615ــ617 بأمر البطريرك الأنطاكي مار أثناسيوس الأول 595ــ631. الترجمة السبعينية لأسفار العهد القديم بحسب هكسلا أوريجانس([27]) وسميت هذه الترجمة بالسبعينية السريانية، واعتمدها العديد من علماء السريان في دراساتهم، منهم العلامة مار غريغوريوس يوحنا ابن العبري (1286+) في كتابه آوأر آإزا (أوصار روزي) أي مخزن الأسرار، وقد ذكر ابن العبر ي ذاته في كتابه أمحا (صمحي) (في نحو اللغة السريانية) أن هذه الترجمة هي أفضل من الترجمة البسيطة لبلاغة عباراتها([28]).

ومما هو جدير بالذكر أن بولس بن عرقا الرهاوي الأديب السرياني الشهير في أوائل القرن الثالث للميلاد، استنبط الخط الاسطرنجيلي لكتابة الإنجيل المقدس بالسريانية. فقد اهتم الخطاطون السريان على مرّ الدهور والأجيال بإجادة نسخ أسفار الكتاب المقدس.

  • بعض الترجمات العربية:

يذكر التاريخ أن ورقة بن نوفل نقل أجزاء من الإنجيل المقدس إلى العربية([29]). أما أشهر ترجمة عربية للإنجيل يذكرها تاريخنا السرياني فهي الترجمة التي تمت على أيدي علماء الكنيسة السريانية الأرثوذكسية العرب من بني طي وتنوخ وعاقولا (الكوفة) وقد قاموا بذلك بأمر البطريرك يوحنا الثالث أبي السذرات (+648) استجابة لرغبة عمرو بن سعد بن أبي وقاص الأنصاري أمير الجزيرة. قال فيها البطريرك مار ميخائيل الكبير (+1199) في تاريخه الشهير ما يأتي: ــ «في هذا الزمان استقدم عمرو بن سعد بن أبي وقاص الأنصاري أمير الجزيرة، البطريرك يوحنا الثالث أبي السذرات (631ــ649) فلما مثل بين يديه ابتدأ يناقشه ويجادله بقضايا لا تتفق والكتاب المقدس، ويوجه إليه أسئلة ملتوية، ففند البطريرك اعتراضاته بحجج دامغة اقتبسها من أسفار العهدين القديم والجديد، ومن بينات طبيعية، فأعجب الأمير بشجاعته وغزارة علمه، وطلب إليه قائلاً: «ترجم لي إنجيلكم إلى اللغة العربية على أن لا تدخل فيه اسم المسيح اللّه أو المعمودية أو الصليب، فأجابه البطريرك المغبوط بجرأة قائلاً: «حاشا لي أن أنقص حرفاً واحداً أو سطراً واحداً من الإنجيل مهما سامني جندك من صنوف العذاب بالسيوف والرماح. فلما رأى شجاعته وصموده قال له: اذهب واكتب بحسب إرادتك. فجمع البطريرك العلماء العرب والأساقفة من بني تنوخ وعاقولا (الكوفة) وطي، المتبحرين في اللغتين العربية والسريانية، وأوعز إليهم لينقلوا الإنجيل إلى اللغة العربية، وأوصاهم بأن تتلى عبارة عبارة من الترجمة على مسامع شارحي (الكتاب المقدس) كافةً. وبعد أن ترجموه ونقّحوا عباراته أخذوه إلى الملك»([30]). وهذه الترجمة مفقودة.

وقد اكتشف في دير كاترينا بشبه جزيرة سينا عام 1950 أقدم ترجمة عربية للتوراة عرفت في التاريخ وهي من القرن السابع للميلاد([31]).

وإن يوحنا أسقف أشبيلية في إسبانيا قام بترجمة أجزاء من الكتاب المقدس إلى العربية سنة 750 معتمداً على الترجمة اللاتينية لهيرونيموس([32]).

 

وظهرت ترجمات عديدة لأسفار الكتاب المقدس بالعربية بعد ذلك التاريخ نقلت عن اليونانية أو السريانية. وفي القرن التاسع عشر نقلت أسفار الكتاب من العبرية واليونانية القديمة إلى العربية وطبعت سنة 1864 في لبنان وقد أسهم بهذا العمل الدكتور كورنيليوس فانديك بمؤازرة الشيخ ناصيف اليازجي والمعلم بطرس البستاني والشيخ يوسف الأسير.

 

وفي عام 1876 صدرت الترجمة العربية المعروفة باليسوعية لأسفار الكتاب المقدس كاملة مترجمة عن العبرية واليونانية. كما ظهرت ترجمات عربية عن السريانية.

 

الترجمة المليالمية: وهذه الترجمة يستعملها أبناء كنيستنا السريانية الهنود في كيرالا في جنوب الهند وفي الهند وخارجها. وقد قام بها الربان فيلبس السرياني الملباري الهندي ناقلاً الكتاب المقدس برمته من السريانية إلى المليالم لغة جنوب الهند، وذلك في القرن التاسع عشر([33]).

  • ترجمات أخرى:

ولابد من أن نذكر الترجمة الأرمنية لأسفار الكتاب المقدس التي تعاون على إنجازها الملفان دانيال السرياني ومسروب الأرمني سنة 404م والترجمة الفارسية التي تمت سنة 1221 على يد يوحنا ابن القس يوسف السرياني التفليسي.

 

  • الدياطسرون:

في حدود سنة 172 للميلاد جمع ططيانس([34]) السرياني (ت180) الأناجيل الأربعة وصاغها كتاباً واحداً، مبتدئاً من الآية الأولى من الإنجيل بحسب يوحنا: «في البدء كان الكلمة» ومتتبعاً بإنشاء سهل ممتنع ما انفرد به كل من الأناجيل الأربعة للموضوع الواحد ودعا هذا الكتاب بـ (الدياطسرون) وهذه كلمة يونانية معناها: (من خلال الأربعة) وسماه السريان الإنجيل المختلط أو الموحد محلطا تمييزاً له عن الأناجيل المفردة، ويضم خمسة وخمسين فصلاً. وقد وضعه بالسريانية معتمداً فيه، كما ارتأى بعض العلماء، على الترجمة التي تعرف اليوم بالسينائية لاكتشاف مخطوطاتها في دير كاترينا في شبه جزيرة سيناء، أو على الترجمة البسيطة على رأي غيرهم من العلماء. ونقله إلى اليونانية([35]). وقد أحب السريان (الدياطسرون) وقرؤوه في كنائسهم خاصة في الرها وولايتي الفرات وما بين النهرين حتى ألغى استعماله رابولا مطران الرها في القرن الخامس حرصاً على سلامة الكتاب المنزَّل، وأحلّ محله الأناجيل الأربعة المفردة. ولا وجود اليوم لمخطوطة كاملة منه. وقد فسّر مار أفرام السرياني (373+) (الدياطسرون) ونقل بعضهم هذا التفسير إلى الأرمنية وله مخطوطة بالأرمنية كتبت عام 1195 نشرت بالطبع مع ترجمتها اللاتينية سنة 1876 كما نقل في القرن الحادي عشر إلى العربية. وفي عام 1888 نشر النص العربي مترجماً إلى اللاتينية، ثم نقل إلى الإنكليزية فالألمانية سنة 1896ــ1926 ([36]).وقد اكتشفت المخطوطة السريانية الفريدة لتفسير مار أفرام للدياطسرون ونشرت بالطبع في أوكسفورد سنة 1963 مترجمة إلى اللاتينية.

  • بعض مخطوطات الكتاب المقدس الباقية:

اكتشفت عبر الأجيال مخطوطات لأسفار الكتاب المقدس، مجموعة أو متفرقة بلغاته الأصلية أو ترجماته. من ذلك مخطوطات البحر الميت في فلسطين، التي اكتشفت عام 1947 وهي ملفات من الرق، أهمها نص كامل، باللغة العبرية، لسفر النبي إشعيا الذي عاش في القرن الثامن ق.م وتنبّأ عن ميلاد السيد المسيح من عذراء، وعن صلبه وموته. ويعود تاريخ نسخ هذه المخطوطة إلى القرن الأول للميلاد، وتظهر أهميتها لعدم وجود مخطوطات كاملة بالعبرية يرجع تاريخها إلى ما قبل القرن اللتاسع للميلاد.

 

  • والمخطوطة الفاتيكانية الكاملة:

وتضم أسفار العهد القديم مع الجزء الأكبر من الأسفار القانونية الثانية([37]) وأسفار العهد الجديد ما عدا رسالتي تيموثيؤس الأولى والثانية ورسالة تيطس وسفر الرؤيا. وقد عني الملك قسطنطين بنسخها باليونانية سنة 328م.

  • المخطوطة السينائية:

باليونانية وتتضمن ثلثي اسفار العهد القديم، ويرتقي تاريخ نسخها إلى القرن الرابع للميلاد، وقد اكتشفت هذه المخطوطة النفيسة في دير سانت كاترين عند سفح جبل سينا، وأهديت إلى القيصر نيقولا الثاني امبراطور روسيا وقد طبعها ونشرها سنة 1862 وظلت النسخة الأصلية في مكتبة ليننغراد ثم بيعت إلى المتحف البريطاني عام 1933 وتحتوي على أسفار العهد القديم بكاملها وعلى القسم الأكبر من الأسفار القانونية الثانية واسفار العهد الجديد([38]).

واكتشفت أيضاً في الدير نفسه (دير كاترينا) سنة 1844 نسخة يونانية للعهدين خُطَّت في القرن الرابع، وهي محفوظة الآن في المكتبة الملوكية في بطرسبرج(2).

 

  • المخطوطة المعروفة بالاسكندرية:

ويرتقي عهد نسخها إلى القرن الخامس للميلاد، وهي تضم أسفار العهدين كاملة، وبعض الأسفار القانونية الثانية وهي المكابيين وطوبيا ويهوديث وعزرا الأول والثاني والحكمة وحكمة سليمان. وكانت هذه المخطوطة ضمن مخطوطات بطريركية الاسكندرية حتى سنة 1628 حيث أهديت إلى شارلس الأول ملك انكلترا وهي الآن محفوظة في المتحف البريطاني في لندن. وقد كتبت باليونانية بالحرف الاسفيني الذي كان مستعملاً حتى القرن التاسع للميلاد.

  • النسخة الأفرامية:

وهي محفوظة في مكتبة السلطانية بباريس، وسميت بالأفرامية لأن أحدهم اقتناها باعتبارها أسفار الكتاب المقدس، ولكن إذ بهت لون كتابتها، كتب عليها ميامر أفرام السرياني(+373) فوق كتابة الأسفار المقدسة. واستطاع أحد العلماء أن يمحو منها ميامر مار أفرام فظهرت الكتابة الأصلية للكتاب المقدس باليونانية وهي قديمة جداً إذ تعود كتابتها إلى القرن الرابع للميلاد.

  • مخطوطة الإنجيل بحسب يوحنا باليونانية:

اكتشفهاغ عام 1956 السيد مرتان بودمير أحد أساتذة اللاهوت في جنيف، وهو القسم الأكبر من إنجيل يوحنا (من الفصل الأول وإلى الفصل الرابع عشر) وقد كتب على ورق البُردي ويرجع تاريخ كتابته إلى القرن الثاني للميلاد أي بعد وفاة الرسول يوحنا بمدة وجيزة جداً. وهو مطابق كل المطابقة لنص الإنجيل اليوناني الذي بين أيدينا ولسائر المخطوطات، كمخطوطة الفاتيكان التي نسخت سنة 328م والسينائية التي يرقى تاريخ نسخها إلى القرن الرابع أيضاً والاسكندرية التي يرجع تاريخها إلى القرن الخامس.

  • مخطوطات بالسريانية:

ومن المخطوطات المهمة جداً، والقديمة جداً، نسخة للأناجيل الأربعة المقدسة بالسريانية بخط الكاتب يعقوب في الرها كتبها عام 411م وهي محفوظة اليوم في المتحف البريطاني في لندن([39]).

والمخطوطة السريانية للكتاب المقدس كتبت سنة 548م ومحفوظة في مكتبة الفاتيكان. ومخطوطة مكتبة فلورنسا التي كتبها بالسريانية سنة 586م الربان رابولا ولذلك تدعى بـ (إنجيل رابولا) وتنطوي على ست وعشرين صورة ملونة([40]) وفضلاً عن امتياز هذه المصاحف بجودة الخط وحسنه، فقد تميّزت أيضاً بالنقوش والصور التي جاءت آية في الفن والإبداع.

 

ومن النسخ المحفوظة في مكتبات الكنائس والأديرة السريانية والمتاحف وخزانات الكتب العالمية نذكر على سبيل المثال لا الحصر نسخة قديمة للعهد الجديد مكتوبة بالسريانية ومنقولة إلى العبرية نُسخت سنة 1189 ومحفوظة في دير مار متى في الموصل ــ العراق([41]).

 

إلى جانب هذه المخطوطات، هناك آيات مقدسة وعبارات كريمة لا يحصى لها عدد اقتبسها آباء الكنيسة الأولون من أسفار الكتاب المقدس منذ فجر المسيحية. وهي محفوظة ضمن كتاباتهم بمخطوطات قديمة العهد. وهي أقوى برهان وأدمغ حجة على سلامة الكتاب المقدس لأن نصوصها مطابقة كل المطابقة لنصوص الكتاب المقدس. وقد قيل عن مار أفرام السرياني مثلاً: «لو نفدت ترجمة الكتاب المقدس السريانية الأصلية لتيسر جمع نصوصها من تصانيف مار أفرام»([42]).

  • نشر أسفار العهد الجديد بالطبع بالسريانية:

في أواسط القرن السادس عشر للميلاد أرسل البطريرك الأنطاكي السرياني مار إغناطيوس عبدالله اسطيفان (1520ــ1557+) القس موسى ابن القس اسحق الصوري([43])   إلى النمسا، وبوساطة أستاذ القانون الكنسي المستشرق العلامة يوحنا بدمانستاديوس الذي كان يجيد اللغة السريانية اهتم بطبع أسفار العهد الجديد من الكتاب المقدس لأول مرة باللغة السريانية طبقاً لنص الترجمة البسيطة (فشيطتا) وذلك في فيينا سنة 1555م على نفقة فرديناندرس (1503ــ1564م) ملك رومانيا وجرمانيا وهنغاريا وبوهيميا ورئيس رؤساء النمسا الشرقية والغربية يومذاك.

وقد طبع الكتاب بالقلم السرياني الغربي الذي وضع في القرن التاسع للميلاد. أما العناوين فقد كتبت بالخط الاسطرنجيلي.

ويحتوي الكتاب على أسفار العهد الجديد ما عدا رسالتي يوحنا الثانية والثالثة ورسالة يهوذا وسفر رؤيا يوحنا الرسول. ذلك أن بعض الآباء لم يكن قد تبين لهم قانونية هذه الأسفار وبعض أسفار العهد القديم. أما اليوم فقد زالت الشكوك التي كانت تثار حولها وهي في الكنيسة السريانية تعتبر كسائر الأسفار القانونية.

وقسمت أسفار الكتاب المذكور إلى فصول تتلى عادة في الكنيسة السريانية في بدء القداس أيام الآحاد والأعياد. ويعتبر الكتاب تحفة من تحف فن الطباعة وهو أول كتاب سرياني ينشر بالطبع([44]).

  • تقسيم الكتاب المقدس إلى فصول:

كان كل سفر من أسفار الكتاب المقدس في أول الأمر فصلاً واحداً من أوله إلى آخره ما عدا سفري المزامير ونشيد الأنشاد. وقيل أن أسفار العهد القديم تم تقسيمها إلى ستمائة وتسعة وتسعين فصلاً على يد عزرا الكاتب أو موسى النبي.

 

أما تقسيم سائر الأسفار إلى فصول، المعوَّل عليه لدينا نحن السريان فقد جرى على يد العلامة مار يعقوب الرهاوي([45]) الذي قسّم الترجمة السريانية البسيطة (فشيطتا) إلى فصول واضعاً في مقدمة كل فصل ملخصاً لمحتوياته وفي الهامش شرحاً للكلمات الصعبة كما ضبط اللفظ الصحيح([46]).

 

  • تلاوة الكتاب المقدس في الكنيسة:

عيّن السريان فصولاً خاصة من أسفار الكتاب يتلونها أيام الآحاد والأعياد في الكنيسة ضمن الطقس البيعي. فقد عينوا لكل أحد وعيد ثلاث قراءات من العهد القديم على أن تكون الثالثة من أسفار النبوات، وثلاثاً من العهد الجديد أي من سفر أعمال الرسل أو إحدى الرسائل الجامعة ومن الرسائل البولسية والإنجيل المقدس. وتزيد هذه القراءات وتنقص بالنسبة إلى المناسبة في ممارسة أسرار الكنيسة والأصوام والمواسم. ومما يلاحظ أن السريان استثنوا من الكتاب المقدس قراءة سفري نشيد الأنشاد ورؤيا يوحنا وأكثر سفري المكابيين([47]).

وقد وضع آباء الكنيسة صلوات خاصة يتلوها المؤمنون قبل البدء بقراءة الكتاب المقدس في تأملاتهم الفردية والعائلية والطقسية، وهي أدعية فيها يطلبون من الرب أن ينير أذهانهم لفهم معاني كلمة الحياة ذلك أن للكتاب المقدس مكانة سامية في الكنيسة. وبموجب طقسنا السرياني يُنصب في وسط باب المذبح المتوسط في كل كنيسة منبر صغير من الخشب يقال له بالسريانية (كوغولتو) أي الجلجلة. ويُصمد عليه الإنجيل المقدس ويكون ظاهر الإنجيل مغشى بصفيحة من الذهب أو الفضة المذهبة موسوماً عليها صور الإنجيليين الاربعة والصليب المقدس ليقبِّله المؤمنون تبركاً عند دخولهم الكنيسة ومغادرتهم إياها. كما خصصت الكنيسة مناداة يرتلها الشماس قبل قراءة الإنجيل المقدس في الكنيسة خلال الخدمات الطقسية، يدعو بها المؤمنين أن يقفوا منتصبين، ويصغوا بخوفٍ وحكمة لسماع كلام بشارة الخلاص، ويعبق البخور أثناء ذلك. وقارئ الإنجيل في الطقس السرياني عندنا هو مقرِّب الذبيحة الإلهية بطريركاً كان أو مطراناً أو كاهنا.

 


 

 

 

 

 

 

 

 

الـتـقـلـــيــد )*(

 

التقليد هو التعليم الروحي الذي ورثناه من الرسل الأطهار وآباء الكنيسة القديسين وهو إما إلهي، أو رسولي، أو أبوي.

أما التقليد الإلهي، فهو التعليم الذي تسلمه الرسل الأطهار من السيد المسيح مباشرةً ومشافهةً، غير مدوّن بكتاب، ثم دوّنوه([48]) بإلهام الروح القدس وإرشاده. ويتضمن أسفار العهد الجديد، وحقائق الإيمان.

 

أما التقليد الرسولي، فيتضمن تعاليم الرسل، وقوانينهم، وتسليماتهم المقدسة، التي تسلمها منهم تلاميذهم وخلفاؤهم الأقربون مشافهة، وهي مبنية على التقليد الإلهي الذي منه يستمد التقليد الرسولي قوته. وهذه التعاليم والتسليمات ولئن لم تدون بين دفتي الكتاب المقدس، غير أنها مطابقة لتعاليمه، ولا تناقضها وتعدّ الشاهد الأمين على صحة الإعلان الإلهي، والمفسّر الصحيح له، بل المساعد على فهمه. ويشتمل التقليد الرسولي على ما وضعه الرسل من دساتير الإيمان التي مصدرها اللّه، وعلى أسرار الكنيسة السبعة، وعلى القوانين التي سنّوها، والطقوس التي نظموها، كطقس القداس الإلهي.

أما التقليد الأبوي، فهو ما تسلّمته الكنيسة المقدسة منذ فجر تاريخها من آبائها الميامين من تعاليم سامية، مبنيّة على تعاليم الرسل الأطهار، في تفسير العقائد، وشرح الكتاب المقدّس، وتنظيم الطقوس الدينية، وسنّ القوانين وخاصة قرارات المجامع المقدسة والقوانين التي سنّها بعض الآباء كالبطريرك قرياقس (817 +) ومؤلّفات هؤلاء الآباء.

 

  • قدم التقليد:

إن التقليد أقدم عهداً من كتابة الأسفار المقدسة. ففي نظام العهد القديم قبل كتابة الأسفار المقدسة بأجيال عديدة، كان الخلف يتسلّم من السلف، الاعتقاد بالإله الواحد، والسير بموجب الشريعة التي تُعرف بشريعة الضمير. وأخذ الواحد عن الآخر عبادة اللّه وتقديم الذبائح الحيوانية له تعالى، واعتُبر بكر العائلة كاهنها وزعيمها المدني في آن واحد، كما تناقل المؤمنون، جيلاً عن جيل، أخبار القدامى والحوادث التاريخية مشافهة، من ذلك قصة خلق العالم، وخلق الإنسان، وسقوطه في الخطية، وتاريخ الفداء الذي يتضمّن تاريخ الآباء الأولين، ودعوة ابراهيم وتجربته، والعهد الذي قطعه اللّه معه ومع نسله، بسن شريعة الختان كعلامة لذلك، وغيرها من الحوادث التي جرت عبر الدهور، وأخذها الخلف عن السلف، حتى مجيء موسى النبي الذي دوّنها بإلهام ربّاني، كما تسلّم موسى الوصايا العشر شريعة مكتوبة، ودوّن سائر الشرائع الضرورية التي أخذها من اللّه تعالى، وعلى الرغم من كتابة الناموس فقد بقي التقليد مستمراً لدى شعب النظام القديم، لذلك فالكتاب المقدس يوصي الشعب قائلاً: «وتخبر ابنك في ذلك اليوم قائلاً من أجل ما صنع إلينا الرب حين أخرجنا من مصر» (خر 13: 8) و«اسأل أباك فيخبرك وشيوخك فيقولوا لك» (تث 32: 8)، وكان التعليم الشفهي ضرورياً أيضاً، لأن أغلب الشعب كان أمياً.

وفي المسيحية أيضاً سبق التقليد كتابة أسفار العهد الجديد. وذلك أن الرب يسوع لم يدوّن إنجيله، فلم يعطِه مكتوباً لرسله وأتباعه. بل كان يكرز ببشارة الخلاص، ويدعو الناس إلى التوبة. ولذلك سلّم الإنجيل المقدس إلى رسله الأطهار مشافهة، فحفظه هؤلاء على ظهر قلب، وكذلك فعل أغلب التلاميذ والتلميذات.

ولما أرسل الرب تلاميذه إلى العالم للكرازة بالإنجيل قائلاً: «اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلّها» (مر 16: 15) لم يأمرهم بكتابة هذه البشارة، كما لم ينوّه بعدم كتابتها، ولمّا طُلب من بعضهم أن يدوِّنوا ما بشروا به، دُوِّن الإنجيل المقدس، وذلك بإرشاد الروح القدس الذي صانهم من الخطل والزلل حسب وعد الرب لهم بقوله: «وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلّمكم كل شيء ويذكّركم بكل ما قلته لكم»(يو 14: 26). وممّا يوضح هذه الحقيقة ما كتبه البشير لوقا في افتتاح الإنجيل الذي دوّنه قائلاً: «إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقّنة عندنا، كما سلّمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخدّاماً للكلمة، رأيت أنا أيضاً، إذ قد تتبّعت كل شيء من الأول بتدقيق أن أكتب على التوالي إليك أيّها العزيز ثاوفيلس لتعرف صحّة الكلام الذي عُلِّمت به»(لو 1: 1 ـ 4) فالإنجيل المقدس الذي هو بشارة الخلاص، هو شهادة تلاميذ الرب يسوع عمّا شاهدوه أو سمعوه منه. وما دُوِّن في الإنجيل المقدس هو ذات ما بشّر به التلاميذ شفهياً أولاً. ولمّا دُوِّن في كتاب، أقرّت الكنيسة المقدّسة بإلهام الروح القدس، صحة الإنجيل الحقيقي، ورفضت الكتب المزوّرة، مبنيّة ذلك على شهادات الرسل الأطهار والتلاميذ الأبرار وخلفائهم الميامين، فالكنيسة المسيحية أقدم من كتابة أسفار العهد الجديد، ومرّ على تأسيسها فترة زمنية لم يكن لها خلالها أسفار مقدّسة مدوَّنة سوى أسفار العهد القديم، وكان المؤمنون يتداولون الإنجيل المقدس شفهياً، ويحفظونه على ظهر قلب، وينشرونه في العالم أجمع، وأول من دوّن الإنجيل المقدس هو الرسول متى وذلك باللغة الآرامية سنة 39 م وآخر سفر كتب من أسفار العهد الجديد هو سفر الرؤيا الذي كتبه يوحنا الرسول باليونانية بين سنتي (90 و100)م وإن كان التقليد الشريف أقدم من الأسفار المقدّسة المدوَّنة، وإن أثبتت الكنيسة المقدسة صحة هذه الأسفار وسلامتها، فإن هذه الأسفار أخذت سلطانها من الروح القدس مباشرة، هذا الروح الناطق بالأنبياء والرسل، الذي صان تعاليم الكنيسة وعقائدها، وألهم أباءها وذكّرهم بكل ما قاله المسيح لرسله وتلاميذه وأرشدهم إلى الحق لأنه روح الحق الذي من الآب ينبثق.

قال العلامة أوريجانس (185 ـ 253) «إني عرفت من التقليد الأناجيل الأربعة وإنها هذه وحدها» وقال أوغسطينوس (354 ـ 430) «إني ما كنت أؤمن بالإنجيل لو لم يقنعني بذلك صوت الكنيسة الجامعة»([49]).

وحيث أن التقليد هو أقدم عهداً من الإنجيل المدوَّن، فمن يقبل تعاليم الإنجيل المقدس، يُسلّم بالتقليد الإلهي والرسولي حتماً من حيث يدري أو لا يدري، ولا يمكن أن يقبل الإنجيل ويرفض التقليد، في الوقت الذي يُعدّ الإنجيل جزءاً من التقليد، والتقليد والإنجيل هما واحد، ولا يستغنى عن أحدهما، لأن الواحد منهما يكمل الآخر، وهناك نصوص عديدة في الإنجيل المقدس تدلّ على أن الرسل الأطهار لم يدوّنوا فيه كل ما قاله الرب يسوع، وكل ما عمله، وممّا يبرهن على صحة هذا، قول الرسول يوحنا في ختام الإنجيل: «هذا هو التلميذ الذي يشهد بهذا وكتب هذا وتعلّم أن شهادته حق. وأشياء أُخَر كثيرة صنعها يسوع إن كتبت واحدة فواحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة»(يو 21: 24و25). كما قال أيضاً: «وآيات أخر كثيرة صنع يسوع قدّام تلاميذه لم تكتب في هذا الكتاب، وأمّا هذه فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن اللّه، ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه»(يو 20: 30). فهذه الآيات الأخر الكثيرة، وهذه الأشياء الأخر الكثيرة، التي صنعها يسوع والتي لم تذكر في الإنجيل المدوَّن، صارت في ذمّة التقليد الشريف من ذلك ما علّمه الرب لتلاميذه، خلال ظهوراته في فترة الأربعين يوماً بعد قيامته وحتى صعوده إلى السماء، فقد جاء في سفر أعمال الرسل: «أنه ظهر لتلاميذه أربعين يوماً وتكلّم عن الأمور المختصّة بملكوت اللّه»(أع 1: 31). ولكن هذا السفر لم يذكر شيئاً عن هذه الأمور، ولم يدوِّن هذه التعاليم، ونحن على يقين بأنّ هذه التعاليم أعطيت شفهياً للمؤمنين فحفظوها وتداولوها وتناقلوها جيلاً عن جيل وصارت في ذمّة التقليد.

كما أن بعض الرسل والتلاميذ كتبوا الإنجيل المقدّس، وبعضهم كتبوا رسائل ضمّت إلى أسفار العهد الجديد، ولكن تلك الكتب لم تتضمّن كل ما بشّروا به العالم، عمّا قاله الرب يسوع وعمله خلال تدبيره الإلهي في الجسد، وبعض الرسل والتلاميذ لم يكتبوا شيئاً ولكنهم بشروا شفهياً، وبعضهم كتبوا ولم تصل إلينا كتبهم ضمن أسفار العهد الجديد، ولكن بعض تعاليمهم وصلت إلينا عن طريق التقليد، فقد تسلّمنا من آباء الكنيسة الأولين القوانين التي نسبت إلى الرسل، والأنظمة التي وضعوها لبنيان الكنيسة، كما تسلّمنا العقائد المهمة التي سلّموها شفهياً للكنيسة فلم تدوَّن في أسفار العهد الجديد بل مارستها الكنيسة منذ فجر وجودها. من ذلك تقديس يوم الأحد، بدلاً من السبت اليهودي، وعماد الأطفال، وغيرها من التسليمات الشفهية. قال الرسول يوحنا في رسائله: «إذ كان لي كثير لأكتب إليكم، لم أرد أن يكون بورق وحبر لأنّي أرجو أن آتي إليكم وأتكلّم فماً لفم»(2يو 12 و3يو 13و14) فهذا التعليم الذي سلّمه الرسول للكنيسة فماً لفم، هو التقليد الرسولي الشفهي الذي قد يكون شرحاً لحقائق الإيمان، أو توضيحاً للعقائد السمحة، أو تفسيراً لتعاليم الرب، أو قد يكون تنظيماً لأحد طقوس العبادة وغير ذلك. لأن الروح القدس قد ألهم الرسل والتلاميذ تكميل ما احتاجت إليه الكنيسة المقدسة من تنظيم حسب متطلّبات الزمن مثال ذلك إيجاد رتبة الشماسية في الكنيسة، وانتخاب الشمامسة السبعة ورسامتهم (أع 6: 1 ـ 8) ونهج طريقة عقد المجامع المقدسة بعقدهم مجمع أورشليم عام (51)م واتّخاذهم القرارات التي اعتبروها من الروح القدس لذلك كتبوا قائلين: «لأنه قد رأى الروح القدس ونحن»(أع 15: 28). ويظهر عمل الروح القدس خاصة لدى انتخاب الأساقفة وإرسالهم، فقد جاء في أعمال الرسل ما يأتي: «وبينما هم يخدمون الرب ويصومون قال الروح القدس افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه. فصاموا حينئذ وصلّوا ووضعوا عليهما الأيادي ثم أطلقوهما»(أع 13: 2). ولم يكن دور الروح القدس في تنظيم الكنيسة مفاجئاً للرسل والتلاميذ، فقد سبق الرب وأنبأهم بذلك بقوله: «إن لي أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، أمّا متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق»(يو 16: 12). فهذا الإرشاد إلى جميع الحق ليس فقط ما دوِّن في الإنجيل المقدس بل أيضاً التعليم والتنظيم اللذين صار بإمكان التلاميذ فهمهما وتحمّلهما بعد أن حلّ عليهم الروح القدس، وهذا كله يوافق تعليم الإنجيل المقدس ولكنّه لم يدوَّن فيه، بل تناقله الآباء شفهياً وبهذا الصدد يوصي الرسول بولس تلميذه تيموثاوس قائلاً: «ما سمعته مني بشهود كثيرين أودعه أناساً أمناء يكونون أكفاء أن يعلّموا آخرين أيضاً»(2تي 2: 2). ويقول لأهل تسالونيكي: «فاثبتوا إذن أيّها الإخوة وتمسّكوا بالتعاليم التي تعلّمتموها سواءٌ كان بالكلام أو برسالتنا» (2تي 2: 15) وفي صدد شرحه سرّ القربان المقدس لأهل كورنثوس، يوضح الرسول بولس حقيقة استناد التقليد الرسولي إلى التقليد الإلهي، بقوله: «لأنني تسلّمت من الرب ما سلّمتكم أيضاً أن الرب يسوع في الليلة التي أسلِم فيها أخذ خبزاً وشكر وكسر وقال خذوا كلوا هذا هو جسدي المكسور لأجلكم» (1كو 11: 23 ـ 30) ويختم الرسول بولس كلامه بقوله: «وأما الأمور الباقية فعندما أجيء أرتّبها»(1كو 11: 34). وبهذا الكلام يؤجل الرسول بولس شرح بعض الأمور التنظيمية أو الطقسية إلى حين ذهابه لزيارتهم. وهذه الأمور التي سلّمها فماً لفم أي شفهياً وتداولتها الكنيسة وتناقلتها بالتقليد عبر الأجيال، قد صانها الروح القدس سليمة إلى يومنا هذا ومارستها الكنيسة الجامعة بمختلف اللغات وبموجب شتّى الحضارات المكانية، ذلك أن التقليد الأبوي أيضاً يستند إلى التقليد الرسولي في التنظيمات الطقسية والقوانين الكنسية، والتقليدان يستندان إلى التقليد الإلهي في التسليم بصحة الكتاب المقدس والعقائد الإيمانية.

وما تزال مكانة التقاليد منذ فجر النصرانية، رفيعة في الكنائس المسيحية الرسولية، فقد كُتب في تاريخ أوسابيوس القيصري([50]) عن القديس الشهيد مار إغناطيوس النوراني (107 +) تلميذ يوحنا الرسول أسقف أنطاكية الثالث ما يأتي: «ويقول التاريخ أنّه أرسل من سوريا إلى روما، وأصبح طعاماً للوحوش البرية بسبب شهادته للمسيح، وفي أثناء رحلته وسط آسيا، وكان تحت حراسة حربية شديدة، كان يشدّد الكنائس في المدن المختلفة حيثما حطّ رحاله، وذلك بعظات ونصائح شفوية… وينصحهم للتمسّك بتقاليد الرسل. وكان علاوة على هذا يرى من الضروري أن يدعم تلك التقاليد بأدلّة يكتبها، وأن يعطيها شكلاً ثابتاً ضماناً لسلامتها».

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وجود اللّه تعالى)*(

 

يعجز عقل الإنسان عن إدراك طبيعة اللّه تعالى وجوهره وكيانه فهو تعالى أسمى من أن تحصره طبيعة مخلوقاته، فهو على حد قول الرسول بولس «الذي وحده له عدم الموت ساكناً في نور الكرامة والقدرة الأبدية. آمين»(1تي 6: 16). ولكن عقل الإنسان بنوره الطبيعي الذي وهبه إيّاه اللّه، يستنتج من المخلوقات وجود خالق لها، فكل معلول له علة، الأمر الذي يعد من بديهيات العقل، وشريعة المنطق، يقول أيوب الصدّيق «فاسأل البهائم فتعلمك وطيور السماء فتخبرك أو كلّم الأرض فتعلمك، ويحدثك سمك البحر، من لا يعلم من كل هؤلاء أن يد الرب صنعت هذا»(أي 12: 7) ويقول الرسول بولس: «لأن أموره غير المنظورة منذ خلق العالم مُدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته حتى أنّهم بلا عذر»(رو 1: 20).

فقد فطر اللّه الإنسان الناطق العاقل، على الاعتقاد بوجوده تعالى، وقد صار هذا الاعتقاد شبه غريزة في الإنسان، لذا نرى البشر في كل أجيالهم منذ بدء التاريخ على وجه هذه البسيطة، يبحثون عمن أبدع هذه الدنيا بما فيها وما عليها، وخلق الإنسان دون سائر الأحياء ناطقاً عاقلاً، فنور العقل الطبيعي، والشعور الغريزي في الإنسان يحمله على الاعتقاد بوجود كائن أزلي قدير واجب الوجود، لا علة له، وهو علة العلل كافة. كما أن العواطف الدينية راسخة في كيان الإنسان فهو ميّال إلى التعبّد وتقديم الخضوع لخالقه، ولذلك ففي كل أجيالهم عبد البشر إلهاً أو آلهة بغض النظر عن ماهية هذا الإله، وهم بعبادتهم حتى الأصنام برهنوا على أن في داخلهم وازعاً يدفعهم إلى الاعتقاد بوجود اللّه. وإذ أخفقوا في معرفة الإله الحقيقي، أعلن هو عن نفسه لآباء العهد القديم والأنبياء بالرؤى والأحلام وكلّم بعضهم فماً لفم حتى جاء مشتهى الأمم الرب يسوع الإله المتجسّد فكلّمنا اللّه به (عب 1: 1) وهو «الله ظهر بالجسد»(1تي 3: 16) وكما يقول الرسول بولس «الله لم يره أحد قط الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر»(يو 1: 18) لأنه بهاء مجده ورسم جوهره (عب 1: 3).

استخدم الرسول بولس شعور الإنسان بوجود اللّه، ولئن جهل هذا الإله، استخدم ذلك وسيلة ناجحة ليبشر أهل أثينا بالإله الحقيقي. ويذكر لوقا في سفر أعمال الرسل، أنه فيما كان الرسول بولس يتجوّل بين تماثيل مدينة أثينا، مهد الحكمة وكعبة الفلسفة والفلاسفة يومذاك، وجد «مذبح الإله المجهول» فرأى تلك التسمية اعترافاً صادقاً من فلاسفة اليونان بعجزهم عن الوصول إلى معرفة الإله الحقيقي، مما دعاهم إلى إقامة العبادة على هذا المذبح (للإله المجهول) فانتهزها فرصة ذهبية سانحة ليعلن لهم أن ذلك الإله الذي يعبدونه ولا يعرفونه هو الإله الحقيقي الذي خلق العالم وكل ما فيه. هذا إذ هو رب السماء والأرض ولا يسكن في هياكل مصنوعة بالأيادي، ولا يخدم بأيادي الناس كافة كأنه محتاج إلى شيء، إذ هو يعطي الجميع حياة ونفساً وكل شيء… لأننا به نحيا ونتحرّك ونوجد (أع 17: 22 ـ 34).

لقد كانت قلوب اليونانيين مهيّأة لقبول الإيمان الحق، لأن عقولهم التي كانت ثاقبة كانت كعقول سائر البشر تملك الميل الطبيعي الغريزي بوجود اللّه، ووجوب عبادته، وكانت تمتاز عن غيرها باستنارتها بنور الفلسفة، فتلك الحكمة ألهمتهم الاعتراف بوجود الإله العظيم الذي يفوق أصنامهم ويمتاز بما وصفه به شعراؤهم وحكماؤهم بالحكمة والمقدّرة والحياة «لأننا به نحيا ونتحرّك ونوجد» فآمنوا على يد الرسول بولس بالله، الإله الحقيقي، وقبلوا الرب يسوع المسيح مخلصاً.

والكتاب المقدس، الموحى به من اللّه، يشهد على وجود اللّه خالق الكون ومبدعه ومدبّره، والكتاب المقدس ينطوي على النبوات التي أوحى بها اللّه إلى أنبيائه الصادقين، وتمّت بحذافيرها في أوانها بعد أن أعطيت بمئات السنين، فهي أقوى حجة، وأوضح برهان على وجود اللّه تعالى الذي جعل الأوقات والأزمنة تحت سلطانه المطلق، فالماضي والحاضر والمستقبل معروفة لديه، بل الأكوان والأزمان كلها تحت أمرته وسلطانه، وهو قد وضع لها نظمها لتسير بموجبها، وهو يتصرّف بها بحسب مقاصده الإلهية.

وقد تناول آباء الكنيسة القديسون عقيدة وجود اللّه بالدرس الدقيق، وتركوا لنا أبحاثاً نفيسة، ومن هؤلاء مار سويريوس يعقوب البرطلي مطران دير مار متى وأذربيجان (1241 +) الذي يقول: «إن اللّه غير مدرك، فالمدرك ـ كما يقول الفلاسفة ـ إنّما يدرك بأمرين: إما بالعقل وإما بالحواس الخمس فالذي يسمو عن حواس المخلوقات وفكرها لا يدرك البتة، إذن اللّه غير مدرك، وإننا نستدلّ على وجود اللّه من الطبيعة، والكتاب المقدس، فمن الطبيعة من البرهان الآتي وهو: إذا شاهدنا بناء نفهم أن بنَّاءً قد شيّده، ونحن نستدلّ على ذلك، ولئن كان البنّاء غائباً، هكذا عندما نتأمل المخلوقات نفهم أن اللّه قد خلقها (وإن كنا لا نتمكّن من رؤية اللّه وإدراك طبيعته).

والكتاب المقدس يشهد (على وجود اللّه) فقد كتب موسى ما يلي: «في البدء خلق اللّه السموات والأرض»(تك 1: 1) وأيّد ذلك الأنبياء في أسفارهم، إذن اللّه موجود»([51]).

  • وجوب الإيمان بوجود اللّه:

فالله تعالى موجود ومن صفاته العامة أنه تعالى روح محض لا جسم له منزّه عن المادة وخواصها، غير منظور ولا يمكن أن يقع تحت الحواس الخمس وهذا ما قاله الرب يسوع للسامرية «اللّه روح والساجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا»(يو 4: 24) وهو تقدّس اسمه واجب الوجود وهو سرمدي أزلي أبدي، كان دائماً منذ الأزل فليس له بداية، وسيكون دائماً إلى الأبد فليس له نهاية وبهذا الصدد يقول صاحب المزامير «من قبل أن تولد الجبال وأبدأت الأرض والمسكونة منذ الأزل وإلى الأبد أنت اللّه»(مز 90: 2). واللّه واجب الوجود من ذاته، وعلة كل موجود فهو خالق السماء والأرض، وضابط الكل يصنع ما يشاء بحكمة وبمجرد إراداته.

وهو غير محدود في وجوده وكمالاته «أإلى عمق اللّه تتصل أم إلى نهاية القدير تنتهي»(أي 11: 7) وقال سليمان الحكيم: «لأنه هل يسكن اللّه حقاً على الأرض هوذا السموات وسماء السموات لا تسعك فكم بالأقل هذا البيت الذي بنيت» (1مل 8: 27).

وهو غير متغيّر في وجوده، وقدرته، وقداسته، وعدله، وجودته وحقه «لأني أنا الرب لا أتغير»(مل 3: 6) ويقول الرسول يعقوب «كل عطية صالحة وكل موهبة تامة هي من فوق نازلة من عند أبي الأنوار الذي ليس عنده تغيير ولا ظل دوران»(يع 1: 17).

وهو رب الكل فلا يحدث شيء في الدنيا إلاّ بأمره أو بإذنه وهو موجود في كل مكان في السماء والأرض وفي جميع المواضع المنظورة وغير المنظورة، ويرى جميع الأشياء ويرى الماضي والحاضر ويعرف حتى ما في الأفكار. «وهكذا قال الرب السموات كرسيّ والأرض موطئ قدميّ»(إش 66: 1) «ألعلّي إله من قريب يقول الرب، أما أملأ أنا السموات والأرض يقول الرب»(إر 23: 23). «فاعلم وردّد في قلبك أن الرب هو الإله في السماء من فوق وعلى الأرض من أسفل ليس سواه»(تث 4: 39). «لأنه يجب أن الذي يأتي إلى اللّه يؤمن بأنّه موجود وأنّه يجازي الذين يطلبونه»(عب 11: 6).

  • في توحيد ذات اللّه وتثليث أقانيمه:

ليس بمقدورنا أن ندرك طبيعة اللّه وجوهره، ولكن عدم إدراكنا كنهه جلّ شأنه لا ينفي حقيقة وجوده. وإن ما نعرفه عنه تعالى نستمدّه من الوحي الإلهي المعلن في الكتاب المقدس بعهديه. وهو المصدر الأول لعقائدنا الدينية. كما نستقي هذه العقائد السمحة من التقليدين الرسولي والأبوي المستندين إلى تعاليم الكتاب المقدس والمفسِّرين والموضحين تلك التعاليم بشروحات صحيحة مبنية على شهادات الرسل وتلاميذهم وقوانين الإيمان التي كانت محفوظة في الكنائس بلغات شتّى، والتي تظهر خاصة واضحة بقرارات المجامع المسكونية الثلاثة المنعقدة في نيقية (325) وقسطنطينية (381) وإفسس (431).

وحيث أن عقولنا محدودة ولا تقدر أن تدرك ذات اللّه غير المحدودة، علينا أن نؤمن بما أعلنه لنا اللّه عن ذاته في الكتاب المقدس: بأنه تعالى واحد ذو ثلاثة أقانيم الآب والابن والروح القدس، وأن هؤلاء الأقانيم الثلاثة طبيعة واحدة وذات واحدة وجوهر واحد، فالآب إله، والابن إله، والروح القدس إله، ومع ذلك ليسوا ثلاثة آلهة بل إله واحد، إلاّ أن الآب هو الجوهر ويتميّز بخاصة الأبوّة، فليس هو مولوداً ولا منبثقاً بل هو أب. وإن الابن هو نفس الجوهر للإله الواحد ويتميّز بخاصة البنوة من الآب أزلياً، وأن الروح القدس هو نفس الجوهر للإله الواحد ويتميّز بخاصة الانبثاق أي الانبعاث من الآب أزلياً، فليس هو والداً ولا هو ابناً ولا مولوداً بل هو منبثق من الآب. فهذه الأقانيم الثلاثة متحدة بلا انفصال ومنفصلة بالاتحاد، إله واحد بالجوهر وهي اللّه الآب وكلمته وروحه القدوس، وهي وإن كانت ثلاثة معان متميّزة بالخواص، إلاّ أن الذات واحدة إذ لا انفصال بين اللّه وكلمته وروحه القدوس في الجوهر، وأن لاهوت الأقانيم الثلاثة واحد وهم متساوون في الأزلية والأبدية والقداسة والمجد والصلاح والحكمة والقدرة وسائر الصفات والكمالات الإلهية وإن صفات اللّه تعالى الذاتية الثبوتية أو خواصه الثلاث لا شبيه لها في الخليقة، ويتّصف بها تعالى منذ الأزل وإلى الأبد. وهي الذات والنطق والحياة، وكل من هذه الأسماء هو غير الآخر، وبهذا الصدد يقول أحد الآباء: «إن الآب قائم بذاته، ناطق بابنه، حي بروح قدسه». وإن الابن قائم بالآب ناطق بذاته (لأنه هو الكلمة وهو النطق) حي بالروح القدس. وإن الروح القدس قائم بالآب ناطق بالابن حي بذاته (لأنه هو الحياة).

ولكي يقربوا من أذهان البشر مفهوم هذه العقيدة، سمح آباء الكنيسة لأنفسهم أن يمثلوا اللّه تقدس اسمه بالشمس بقرصها وشعاعها وحرارتها، ومع ذلك فهي كوكب واحد وشمس واحدة وليست ثلاث شموس.

وشبّهوا الثالوث الأقدس أيضاً بالمثلث المتساوي الأضلاع بخواصه المتعدّدة وهو مثلث واحد.

كما مثّلوا الثالوث الأقدس بالنفس التي هي ذات حية ناطقة فإن ذاتها غير حياتها ونطقها، وإن حياتها غير ذاتها ونطقها، وإن نطقها غير حياتها وذاتها. ومع ذلك فهي نفس واحدة غير متعدّدة الذوات.

  • عقيدة التثليث والتوحيد في الكتاب المقدس:

إن الكتاب المقدس مملوء بالنصوص والشواهد الدالة على توحيد اللّه وتثليث أقانيمه. وبعض هذه روت عن كل من الأقانيم الثلاثة بمفرده.

ففي العهد القديم عندما أعطى اللّه لوحَيْ الوصايا لموسى كليمه نصت الوصية الأولى على لسان الرب ما يأتي: «أنا الرب إلهك لا يكن لك آلهة أخرى أمامي»(خر 20: 2و3) والوصية الثالثة تقول: «لا تنطق باسم الرب إلهك باطلاً لأنه الرب إلهنا رب واحد»(تث 6: 4) وجاء في سفر إشعيا «لأني أنا اللّه وليس آخر»(إش 45: 22) و«هكذا يقول الرب أنا الأول وأنا الآخر ولا إله غيري»(إش 44: 8) وقال نحميا النبي وهو يخاطب الرب: «أنت هو الرب وحدك أنت صنعت السموات» (نح 9: 26).

عندما سأل موسى الرب الإله عن اسم يطلقه عليه تعالى أجابه: «هكذا تقول لبني اسرائيل أهْيَهْ أرسلني إليكم» (خر 3: 14). أما عن عقيدة التثليث فقد أشير إليها في العهد القديم بورود اسم الجلالة بالعبرانية بصيغة الجمع، فالكلمة المترجمة (اللّه) هي بالعبرانية (إلوهيم) وهي جمع مذكر سالم. و«يم»هي علامة الجمع.

وجاء في سفر التكوين قول اللّه تعالى «نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا»(تك 1: 26) ولم يقل «أعمل على صورتي» وقوله: «هوذا آدم صار واحداً منا»(تك 3: 2) وقوله: «ننزل ونبلبل هناك لسانهم»(تك 11: 7). والنبي أشعيا يقول عن السرافيم أنهم واقفون حول العرش يصرخون قائلين: «قدوس قدوس قدوس رب الصباؤوت»(إش 6: 3) فتثليث التقديس يشير إلى الثالوث، وبقولهم رب الصباؤوت إشارة إلى وحدة الطبيعة والجوهر.

كما أن بعض آيات العهد القديم روت عن كل من الأقانيم الثلاثة بمفرده، وبذلك يتضح أن كل أقنوم من الأقانيم ذو وجود فعلي مستقل في معناه، ولكن الأقانيم الثلاثة واحد بالجوهر، ومن هذه الآيات: «الرب قال لي أنت ابني وأنا اليوم ولدتك» (مز 2: 7) ومنها «قال الرب لربي اجلس عن يميني» (مز 110: 1). وقوله «ويحلّ عليه روح الرب روح الحكمة والفهم روح المشورة والقوة روح المعرفة ومخافة الرب» (إش 11: 2). وقوله: «مَنْ ثبت أطراف الأرض ما اسمه وما اسم ابنه إن عرفت»(أم 30: 4).

إن ما لمحت إليه أسفار العهد القديم صرّح فيه الرب يسوع في الإنجيل المقدس، ورسله الأطهار في سائر أسفار العهد الجديد. والرب يسوع هو أجدر شخص يوضح لنا عن اللّه أبيه السماوي، فالرسول بولس يقول: «اللّه لم يره أحد قط الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر»(يو 1: 18) «لأنه بهاء مجده ورسم جوهره»(عب 1: 3).

فالرب يسوع أعلن عقيدة تثليث أقانيم اللّه وتوحيده، ومساواة الأقانيم الثلاثة بالسلطان والقدرة ووحدتهم بالجوهر، بقوله لتلاميذه: «فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس»(مت 28: 19).

 

وقد تجلّى ظهور الثالوث الأقدس حين عماد الرب يسوع إذ أنه له المجد «لما صعد من الماء انفتحت السموات فرأى روح اللّه نازلاً مثل حمامة وآتياً عليه وصوت من السماء يقول هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت»(مت 3: 16و17) فالابن كان يعتمد في نهر الأردن والآب شهد له من السماء والروح القدس حلّ عليه بشبه حمامة.

كما تتّضح هذه العقيدة أيضاً من قوله له المجد لتلاميذه: «متى جاء المعزّي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق»(يو 15: 26) فالمتكلّم هو الابن والمعزّي هو الروح القدس والذي ينبثق منه الروح القدس هو الآب.

ويصيغ الرسول بولس عبارة البركة بقوله: «نعمة ربّنا يسوع المسيح، ومحبة اللّه، وشركة الروح القدس مع جميعكم آمين»(2كو 13: 14) ويقول أيضاً: «لنا إله واحد»(1كو 8: 6) والرسول يعقوب يقول: «أنت تؤمن أن اللّه واحد حسناً تفعل» (يع 2: 19) فاللّه هو الإله الحقيقي وهو ثلاثة أقانيم ولكنه واحد بالجوهر.

أما أقوال الآباء بهذا الصدد فلا يحصى لها عدد. قال الذهبي الفم (407 +) عن تساوي الأقانيم الثلاثة فيما بينهم أكمل تساوٍ: «فالابن ليس بأدنى من الآب والروح القدس غير المخلوق مثل الآب والابن يؤلف معهما وحدة غير منقسمة فما تقوله عن الآب قلته عن الابن وما تثبته بشأن الابن أثبته أيضاً بشأن الروح القدس. فليس بينهم إلاّ طبيعة واحدة وقوة واحدة وإرادة الآب هي إرادة الابن والروح القدس.. إن سر إعادة الولادة بالمعمودية يمثّل لنا بأوضح بيان صورة الثالوث الإلهي لأن مخلص البشر قال لرسله: «فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس»(مت 28: 19) أرأيتم كيف كرامة واحدة ووحدة كاملة وثالوث غير منقسم»([52]).

وقال مار سويريوس يعقوب البرطلي مطران دير مار متى وأذربيجان (1241 +) في كتابه المسمّى (الكنوز): «إننا نعترف بإله واحد الآب الضابط الكل، وبرب واحد يسوع المسيح الإله الذي فوق الكل، وبرب واحد الروح القدس الذي منه الكل، الثالوث الأقدس، الآب والابن والروح القدس، ثلاثة أقانيم، جوهر واحد، طبع واحد، فعل واحد، لاهوت واحد، إرادة واحدة. وندعو هذه الثلاثة بالأقانيم: إذ نعطي لكل واحد اسماً خاصاً، وصفة خاصة متميزة لا من حيث الطبائع بل بالنسبة للأقانيم. فنقول: الآب والابن والروح القدس، مثلما نقول العقل والنطق والحياة، ولا نقول بثلاثة آلهة كما نقول بثلاثة أسماء، بل إله واحد له نطق وحياة، فندعو النطق ابناً، والحياة روحاً مضافاً إليها (القدس) تمييزاً عن بقية الأرواح. ونعطي الآب خاصة الأبوّة، والابن: البنوة، والروح: الانبثاق. ولا يمكننا أن نبدّل أو نفسد خواص هذه الأقانيم أي أن ندعو الآب مولوداً أو منبثقاً، والابن والداً، والروح القدس والداً أو مولوداً. لأن هذه الخواص هي أزلية لكل من الأقانيم الثلاثة فلا تتبدّل ولا تتغيّر. فنقول: الآب والد، والابن مولود غير والد، والروح منبثق لا والد ولا مولود: الواحد ثلاثة بالخواص، والثلاثة واحد بالألوهة، تمييز موحّد، وإضافة مميِّزة. إذ ليس ذلك الواحد دون الثلاثة ولا الثلاثة هم دون ذلك الواحد. فالأقانيم هم عين اللاهوت واللاهوت عين الأقانيم([53]).

 

 

 

 

 

 

 

 

 

في سرّي التجسّد والفِداء )*(

 

إن عقيدتي التجسّد والفداء هما أساس عقائد الديانة المسيحية، فبدونها تتقوّض سائر أركان مبادئها الإيمانية.

وتشتمل هاتان العقيدتان على حقائق خلقة الإنسان، وتجربته، وسقوطه في وهدة الخطية، التي عمّت جميع نسله، ودُعيت بالخطية الجدية، ومحبة اللّه للجنس البشري، وإرساله ابنه الوحيد إلى العالم، فتجسّد من الروح القدس ومن العذراء مريم، وكفّر عن الخطية الجدية بموته على الصليب، وقيامته من بين الأموات، وهذا ما سنتناوله بالدرس باختصار فيما يأتي:

  • خلقة الإنسان وسقوطه:

يعلمنا الكتاب المقدس أن اللّه تعالى خلق الإنسان على صورته كشبهه (تك 1: 26) فقد جبله من تراب الأرض ونفخ في أنفه نَسَمَة حياةٍ فصار آدم نفساً حيةً (تك 2: 7) فالإنسان إذن مركّب من عنصرين هما الجسد الكثيف المأخوذ من تراب الأرض، والروح اللطيفة الناطقة العاقلة الخالدة. ويؤكّد كاتب سفر الجامعة ذلك وهو يصف موت الإنسان قائلاً: «فيرجع التراب إلى الأرض كما كان، وترجع الروح إلى اللّه الذي أعطاها»(جا 12: 17) كما يوضح الرب يسوع عقيدة خلود الروح بقوله لتلاميذه: «ولا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها. بل خافوا بالحري من الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما في جهنّم»(مت 10: 28).

وإن معنى خلق اللّه الإنسان على صورته كشبهه هو منحه تعالى هذه الروح الخالدة غير الفانية، وإنعامه عليه بالعقل الثاقب الذي يميّز به بين الحق والباطل، كما وهبه تعالى ضميراً نيراً يُعدّ صوت اللّه في الإنسان، وبه يفرّق بين الخير والشر، وأعطاه فهماً وإدراكاً، وقوة ابتكار، وقد خلقه في حالة البر والقداسة وسلّطه على باقي المخلوقات (تك 1: 28).

ويقول بعض آباء الكنيسة أن اللّه سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان على الصورة الجسمية التي اتّخذها ابنه الوحيد في تجسّده الإلهي في ملء الزمان.

  • سقوط الإنسان في الخطية:

ووضع اللّه الإنسان في جنة عدن ليعملها (تك 2: 15) وإذ خلقه تعالى ذا إرادة حرّة، أمره، تمريناً له على طاعته، ألاّ يأكل من ثمرة شجرة معرفة الخير والشر وحدها في الوقت الذي أطلق له الحرية التامة بالأكل من جميع أشجار الجنة. ووعده بالحياة إن أطاعه، وتوعّده بالموت إن هو عصاه. وخالف الإنسان أمر اللّه (تك 2: 17) وذلك بغواية إبليس، فطرد من الجنة (تك 3: 23) وهوى ساقطاً من حال البر والقداسة إلى درك المعصية، وفقد الشركة مع اللّه، وخسر حياة النعمة.

وبهذا الصدد يقول بعض آباء الكنيسة: لو لم يخطئ الإنسان لرفعه اللّه هو ونسله من الفردوس إلى ملكوته السماوي، ليحلّوا محل الملائكة الساقطين، ويرثوا رتبتهم أي ملكهم، ولكن إذ أخطأ الإنسان رزح تحت نير إبليس وصار أسيراً للخطية، محكوماً عليه بالموت، وشاب طبيعته الفساد. وصار ميالاً إلى الشر (إف 2: 1 ـ 3 وتي 3: 3) وابتُلي بآلام الجسد من جوع وعطش ومرض، وبأتعاب النفس من تعذيب الضمير والخوف وتشويش الفكر والقلق والاضطراب. هكذا شوّهت الخطية صورة اللّه تعالى في الإنسان. وحكم اللّه على الرجل بأن يأكل خبزه بعرق جبينه، وعلى المرأة بأن تلد الأولاد بالأوجاع والآلام (تك 3: 16) ولكن اللّه الرحيم، أبقى للإنسان حرية الاختيار أي حرية الإرادة، حتى بعد سقوطه بالخطية، ولم يسمح لإبليس أي يتسلّط عليه قسراً، وألاّ يُقدم على تجربته، بدون سماح من اللّه تعالى، ذلك لأن الإنسان قد أخطأ مخدوعاً بغواية إبليس الذي حسده على برّه وطهره وقداسته، وحياة النعمة التي نالها من اللّه، والشركة معه تعالى. فأوقعه إبليس في الخطية ليسقط من المرتبة السامية التي كان عليها وليثير غضب اللّه عليه فيتجرّد من النعمة الإلهية.

  • الخطية الجدية:

وعمّت خطية آدم جميع نسله، لأنّهم ولدوا من بعد سقوطه بالخطية، ولذلك سميت بالخطية الجدية. وبهذا الصدد يقول الرسول بولس: «بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع»(رو 5: 12) ذلك أن آدم عندما جُرِّب في الفردوس كان ينوب عن ذريته التي كانت في صلبه، وكان في معرض الربح كما كان في معرض الخسارة، فلمّا سقط في الخطية وحكم عليه بالموت، شملت خطيته الجنس البشري كافة، وسميت بالخطية الجدية. كما دعيت بالخطية الأصلية، لأنها الخطية الأولى التي اقترفها الإنسان، بل هي أصل كل الخطايا وعنها تفرّعت سائر الخطايا التي يرتكبها بنو البشر بإرادتهم الحرة (رو 5: 12 ـ 19). وبهذا المعنى قال الرسول بولس: «الجميع زاغوا وفسدوا معاً ليس من يعمل صلاحاً ليس ولا واحد» (رو 3: 12). وقال صاحب المزامير: «قال الجاهل في قلبه ليس إله فسدوا ورجسوا بأفعالهم ليس من يعمل صلاحاً، الرب من السماء أشرف على بني البشر لينظر هل من فاهم طالب اللّه، الكل قد زاغوا وفسدوا ليس من يعمل صلاحاً ليس ولا واحد»(مز 14: 1 ـ 3).

  • عمل الفداء:

حيث أن الإنسان قد هوى في وهدة الخطية بغواية إبليس، وُجد باب لتداخل الرحمة الإلهية التي سعت لخلاص الإنسان، فوعده اللّه بالفداء بإعلانه أن نسل المرأة يسحق رأس الحية أي إبليس، إذ قال اللّه للحية المجربة: «وأضع عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه» (تك 3: 15). وبعد أن طرد اللّه الإنسان من فردوسه إلى أرض الشقاء، حاول بعض الأتقياء من نسل آدم أن يرضوا اللّه بأعمالهم الصالحة، وحيث أن القاعدة المتبعة في الكتاب المقدس بالنسبة إلى الحصول على مغفرة الخطايا، هي تقديم الذبائح، كقول الرسول بولس: «وكل شيء تقريباً يتطهر حسب الناموس بالدم، وبدون سفك دم لا تحصل مغفرة»(عب 9: 22) لذلك كان اللّه تعالى قد أوصى شعب العهد القديم قائلاً: «لأن نفس الجسد هي في الدم فأنا أعطيتكم إيّاه على المذبح للتكفير عن نفوسكم لأن الدم يكفر عن النفس»(لا 17: 11) وصورت تلك الذبائح النتائج الوخيمة المتأتية عن الخطية، وما يستحقه الخاطئ من عقاب صارم. فقد قيل أن «أجرة الخطية هي موت»(رو 6: 23) و«النفس التي تخطئ هي تموت»(حز 18: 4) ولكن اللّه سمح أن يموت الحيوان عوضاً عن هذا الخاطئ، ليعتبر الخاطئ أنه هو ذاته كان مستحقاً الموت. هذا من الناحية الزمنية، أي من ناحية العقاب في هذه الحياة، والموت الطبيعي. أما الناحية الأبدية، فيشير إليها حرق الذبيحة، فكأن الخاطئ وهو يرى الحيوان وقد ذبح وأحرق، يدرك أنه كان من العدل أن يحرق هو مكان ذلك الحيوان، لأنه هو الذي أخطأ لا ذلك الحيوان البريء، ولكن اللّه تعالى لمحبته للإنسان سمح بأن تحلّ التقدمة محل الخاطئ لتكفر عن خطاياه الشخصية، غير أن تلك الذبائح الحيوانية التي قدّمها الإنسان أجيالاً عديدة، قبل مجيء السيد المسيح، عجزت عن تحريره من ربقة الخطية، لأنها لا تساويه قيمة لتصلح أن تكون فادية له. ولكنها استمدّت قوتها المؤقتة من كونها ترمز إلى ذبيحة المسيح فادي البشرية. وقد أدرك الإنسان أن الذبائح الحيوانية كانت عاجزة عن خلاصه، وبهذا الصدد قال صاحب المزامير مناجياً الرب: «لأنك لا تسر بذبيحة وإلا كنت أقدمها، بمحرقة لا ترضى»(مز 51: 6).

  • شروط الكفارة:

حيث أن الخطية الجدية غير متناهية لتوجيهها مباشرة إلى اللّه غير المتناهي، لذلك اقتضى للكفارة عنها فدية غير متناهية، تكون معادلة للّه غير المتناهي، ومساوية للإنسان الخاطئ، في الوقت نفسه، وألاّ يكون محكوماً عليها بالموت مثله، بل أن تكون بلا خطية، أي معصومة من الخطية. وأن تكون نائبة عن البشر وقادرة على بعث الحياة الروحية فيهم. لذلك لم يكن بالإمكان إتمام هذه الشروط إلاّ بأن يتّخذ اللّه طبيعة الإنسان ليكون بديلاً عن الإنسان، فيفدي الإنسان بالجسد. ولكي يوفّق بين عدل اللّه ورحمته: ذلك أن اللّه تعالى عادل، وعدله يقتضي عقاب الإنسان الخاطئ لتعدّيه على شريعة اللّه، وفي الوقت ذاته، إن اللّه رحيم ومحب للبشر، ورحمته تقتضي أن يسامح الإنسان، ولكي لا يناقض اللّه ذاته، ولا يخالف إحدى صفاته الإلهية، اقتضى أن يتجسّد ابنه الوحيد، رحمة منه بالبشر، ليفي العدل الإلهي حقه.

وكان من غير الممكن أن يكون الفادي مجرّد إنسان أو ملاك أو خليقة أخرى لأن الإنسان قد أخطأ وليس بإمكانه ن يتشفّع بالخطاة طالما هو مثلهم تحت طائلة العقاب، ولأن الملاك لا يمثّل الإنسان، كما أنه والإنسان وأيّة خليقة أخرى غير معادلين للّه، فلا يصلحون إذن للقيام بعمل الكفارة أبداً.

أما الرب يسوع فهو اللّه الابن، المولود من الآب قبل كل الدهور، وهو في الوقت نفسه قد ولد من العذراء مريم في ملء الزمان. وهو معصوم من الخطية، خالٍ منها «الذي لم يعرف خطية» (2 كو 5: 21) «مجَرَّب في كل شيء مثلنا بلا خطية» (عب 4: 15) ولم يرتكب خطية واحدة في حياته بالجسد، وقد تحدّى مرة أعداءه وأعلن لأتباعه قائلاً: «من منكم يبكّتني على خطية»(يو 8: 46) ولم يعترض عليه أحدٌ لقوله هذا. وكان كاملاً في صفاته. لقد كانت فضائله في تكافؤ. فهو الإله المتجسّد الذي شاء أن يكون بديلاً عن الإنسان الخاطئ، فمات كفّارة عنه، ويقول الرسول بولس بهذا الصدد: «المسيح الذي مات… الذي هو أيضاً عن يمين اللّه، والذي أيضاً يشفع فينا» (رو 8: 34) ويقول أيضاً: «يوجد إله واحد، ووسيط واحد بين اللّه والناس الإنسان يسوع المسيح الذي بذل نفسه فدية لأجل الجميع»(1 تي 2: 5و6) وقال يوحنا الرسول: «إن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار وهو كفارة لخطايانا ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم أيضاً»(1 يو 2: 2). فلو لم يمت المسيح فدية عن البشر لما صار فادياً لنا وشفيعاً. ولو لم يكن معصوماً من الخطأ لما صار لنا مخلّصاً. لأن الخاطئ لا يستطيع أن يفدي خاطئاً آخر وإن عصمة الرب يسوع مبنيّة على أنّه ليس من زرع بشر بل قد حبلت به العذراء مريم أمه بقوة الروح القدس فهو حقاً «اللّه ظهر في الجسد» (1 تي 3: 16) «وليس بأحد غيره الخلاص لأنه ليس اسم آخر تحت السماء قد أعطي بين الناس به ينبغي أن نخلص» (أع 2: 12).

  • ولادة ابن اللّه من عذراء:

إن الرب يسوع المولود من الآب أزلياً، ولد من العذراء مريم في ملء الزمان. فقد أرسل اللّه ملاكه جبرائيل إلى مدينة الناصرة، إلى العذراء مريم التي كانت مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف، فبشرها الملاك بالحبل الإلهي بقوله: «السلام لك يا مريم، يا ممتلئة نعمة الرب معك، مباركة أنت في النساء.. ها أنت تحبلين وتلدين ابناً وتسمّينه يسوع… هذا يكون عظيماً وابن العلي يدعى، وسيعطيه الرب الإله عرش داود أبيه ويملك على آل يعقوب إلى الأبد، ولن يكون لملكه انقضاء» وتسأل مريم ببساطة: «كيف يكون هذا وأنا لا أعرف رجلاً؟» فيجيبها الملاك: «الروح القدس يحلّ عليك وقوة العلي تظلّلك، ومن أجل ذلك فالقدوس المولود منك يدعى ابن اللّه» وتجيب مريم بتواضع: «ها أنا أمة الرب فليكن لي حسب قولك» (لو 1: 26 ـ 38).

إن العذراء مريم كسائر البشر قد ورثت الخطية الأصلية الجدية (لو 1: 35) فقد حبل بها حسب الناموس الطبيعي، فهي من رجل هو يواكيم وامرأة هي حنة، وأنها ابنة العاقرين كاسحق، وصموئيل، ويوحنا المعمدان. وإنها مثلهم وكسائر الناس قد ورثت عن أبويها خطية أبوينا الأولين آدم وحواء. ولذلك ترفض كنيستنا السريانية المقدسة عقيدة الحبل بالعذراء مريم بلا دنس من والديها يواكيم وحنة، هذه العقيدة التي قرّرت في الكنيسة الكاثوليكية الرومانية سنة 1854 وهي غير مبنية على تعاليم الكتاب المقدس والتقليدين الرسولي والأبوي الثابتين. وقد تسلّمت كنيستنا من الرسل الأطهار والآباء الأبرار، أن الروح القدس لما حلّ على العذراء مريم قد طهّرها ونقّاها فصارت أهلاً ليحلّ فيها اللاهوت الذي أخذ من لحمها ودمها جسداً كاملاً، بغير زرع بشر (مت 1: 18) وصار مجرباً في كل شيء مثلنا بلا خطية (عب 4: 15) وهو الوحيد الفريد ممن لبس الجسد لم يحبل به تحت حكم الخطية الجدية، لأنه لم يحبل به من زرع رجل بل من الروح القدس. لذلك قال عنه الملاك أنه قدوس وابن اللّه يدعى (لو 1: 35).

  • العذراء الدائمة البتولية:

دعيت العذراء مريم دائمة البتولية، وبكر الأبكار، وعذارء العذارى، لأنها كانت بتولاً قبل ولادتها الإله المتجسّد، وبقيت بتولاً في الولادة وبعد الولادة. أمّا العبارة التي دوّنها الرسول متى في الإنجيل المقدس وهي: «لم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر» (مت 1: 25) فقد قصد بها أن يثبت لنا أن مريم كانت عذراء قبل ولادتها الرب يسوع وفي الولادة وأنها قد حبلت بابنها الوحيد من الروح القدس، وليس من زرع رجل. أمّا حالة مريم بعد ولادتها الرب فلم يتطرّق إليها الرسول متى. كما أن النفي في عبارة (لم يعرفها) معرفة زواج قبل ولادتها يسوع، لا يحمل في مضامينه البتة التأكيد بأنّه عرفها بعد ولادتها يسوع. فلفظة (حتى) لا تستعمل دائماً للدلالة على قطع حكم ما قبلها عمّا بعدها، وأننا نفهم ذلك من استعمالها في الكتاب المقدس في مواضع أخرى، من ذلك قول الكتاب: «ولم يكن لميكال بنت شاول ولدٌ حتى يوم موتها» (2 صم 6: 23) فمن يستنتج من ذلك أنها ولدت بنين بعد مماتها؟ (انظر أيضاً تك 8: 7 و28: 15 ومز 110: 1).

وقد يكون معنى «لم يعرفها» أي لم يعرف جليل قدرها، ومكانتها الروحية لدى اللّه حتى ولدت ابنها البكر، فرأى يوسف أعاجيب الميلاد، وشاهد الملائكة حول المذود… الخلاصة أن يوسف لم يعرف العذراء مريم معرفة زواج البتة، وأنها دائمة البتولية. أما تسميتها «امرأة يوسف» الواردة في الإنجيل المقدس (مت 1: 20) فلا يفهم منها حصول الزواج لأن الوحي الإلهي اعتاد أن يطلق صفة امرأة حتى على الخطيبة، كما قد أطلقها على حواء قبل أن يعرفها آدم معرفة زواج (تك 2: 23) وهو يقصد انتساب الأنثى إليه أكثر من التزاوج.

  • الابن البكر:

أما عبارة «ابنها البكر» التي وردت أيضاً في إنجيل لوقا (2: 7) فهي لا تعني أن العذراء مريم ولدت أولاداً آخرين بعد يسوع، وبالتالي ليست دائمة البتولية، لأن لفظة البكر تطلق على أول الأولاد سواء كان له بعده أخوة أم لم يكن، وهذا هو مفهوم الكتاب المقدس، حيث أمرت الوصية بأن يتمّ طقس فداء البكر في حينه ولم يكن ينتظر حتى يتبعه أخوة ليشهدوا له بالبكورية، وممّا لا شكّ فيه أنه لو كان ليسوع أخوة لسلّم إليهم أمه وهو على الصليب، ولما كان استودعها تلميذه يوحنا الحبيب، لأنّهم كانوا أحق من تلميذه فيها. وقد دُعي يسوع بكراً بمعانٍ كثيرة أيضاً، فهو بكر الآب السماوي، وبكر مريم، وبكر الراقدين وإلخ… (انظر كو 1: 15 ورو 8: 29).

  • إخوة الرب:

أما الذين دعوا في الإنجيل المقدس أخوة الرب (مت 13: 55) فهم أقاربه أي أبناء عمومته أو أبناء خؤولته، لأن الوحي الإلهي يطلق لفظة (إخوة) على الأقارب وأفراد العشيرة الواحدة (تك 31: 37 وخر 2: 11) ولأجل ذلك دعا ابراهيم لوط ابن أخيه، أخاه.

  • والدة اللّه:

وقد أطلقت الكنيسة المقدسة على العذراء القديسة مريم تسمية «والدة اللّه» ذلك أنها ولدت الإله بالجسد، وكانت إليصابات زوجة زكريا الكاهن وأم يوحنا المعمدان. بإلهام الروح القدس قد دعت السيدة العذراء بأم الرب عندما زارتها العذراء وهي حامل بالرب يسوع فقالت لها إليصابات: «من أين لي هذا أن تأتي أم ربي إليّ»(لو 1: 42) فبما أن العذراء مريم قد ولدت الإله المتجسّد، حق لها أن تدعى «والدة اللّه» (لو 1: 35 و43 وغلا 4: 4 وإش 7: 14). ولكن نسطور بطريرك القسطنطينية في القرن الخامس أنكر على العذراء هذه التسمية الشريفة، فحرمه المجمع المسكوني الثالث الملتئم في مدينة إفسس سنة 431 والمؤلف من مئتي أسقف، ووضعوا مقدمة دستور الإيمان التي تثبت أن القديسة مريم العذراء هي والدة اللّه قائلين: «نعظمك يا أم النور الحقيقي ونمجّدك أيتها العذراء القديسة والدة الإله لأنك ولدت مخلّص العالم كلّه»([54]).

لا غرو فإن لقب «والدة اللّه» هو خلاصة عقيدة التجسّد السمحة، وقد استعملته الكنيسة المقدسة منذ العصور الأولى للمسيحية وذكره الآباء الأولون في كتاباتهم، ثم أقرّه وأثبته مجمع إفسس سنة 431 فقد قال القديس كيرلس الكبير: «وهذا هو التعليم الذي تفرضه الأرثوذكسية في كل مكان بكل تدقيق، وإلى هذ1 الحد كان يتمسّك به آباؤنا القديسون، لذلك كانوا واثقين في تلقيبهم العذراء القديسة مريم بـ والدة اللّه (يلدة ءلؤا) و (ثيئوتوكس) باليونانية ليس لأن طبيعة الكلمة أو اللاهوت أخذ بدايته من العذراء القديسة مريم، ولكن بما أن جسده المقدس الحاوي نفساً عاقلة قد ولد منها، وهذا الجسد كان متّحداً بشخص اللّه الكلمة، لذلك قيل عنه أنه ولد جسدياً([55]). فتسمية العذراء بوالدة اللّه، ليس لتكريم العذراء وحسب بل أيضاً هي عقيدة لاهوتية تثبت أن المسيح المولود من العذراء هو لاهوت وناسوت متّحدان في أقنوم واحد وطبيعة واحدة حالما حبلت العذراء مريم بابن اللّه المتجسّد من الروح القدس. لذلك يحقّ لنا أن نسمّي العذراء والدة اللّه.

 

ولا عجب من ذلك فنحن نسمّي أمّ أي إنسان والدة فلان، وهو مركّب من جسد ونفس خلقها اللّه ولم تلدها تلك المرأة، ولكننا نسمّيها والدته لأن نفسه وجسده متّحدان بطبيعة واحدة وأقنوم واحد وشخص واحد، فحق لها أن تسمّى والدته، وكذلك العذراء مريم تدعى والدة اللّه.

جاء في صلاة صبح يوم الأربعاء من كتاب صلاة الفرض الأسبوعي المسمّى بالإشحيم([56]) ما ترجمته: «ليكن محروماً كل من لا يؤمن بأن مريم ولدت اللّه، وأن مَن لا يعترف أن المولود هو اللّه وابن اللّه فهو يكفر به (ينكره). فقد ولد من الآب أزلياً، وأشرق في آخر الأزمنة من مريم: فالمولود من الآب ومن مريم هو واحد أحد يسجد له ويمجد، فمحروم المماحك الذي يحاول سبر سره». وقال القديس غريغوريوس النزينزي (329 ـ 389 +): «إن كان أحد لا يؤمن أن القديسة مريم هي والدة اللّه (ثيؤتوكس) فهو غريب عن اللّه».

  • الإله المتجسد أقنوم واحد وطبيعة واحدة:

عرّف علماء اللاهوت الطبيعة بقولهم: الطبيعة تطلق على ماهية الشيء أي حقيقته وذاته، فقولنا طبيعة اللّه أي اللّه ذاته([57])  أما الأقنوم فهو كلمة سريانية الأصل تشير في مسماها إلى كائن حي مستقل بذاته ينسب أفعاله إلى نفسه فهو إذن طبيعة مفردة وشخص فرد، وهو القيام بالذات. فالأقنوم هو الذي يميّز الأشخاص بعضها من بعض فيميّز حنا من يوسف ويوسف من يعقوب. وقال بعضهم أن لفظة أقنوم معربة عن اليونانية من مصدر (قم) ومعناها الذات أو الشخص.

قد أجمعت المسيحية في المجمع الافسسي المسكوني المنعقد عام 431 على أن سر التجسّد هو اتّحاد اللاهوت والناسوت في أحشاء القديسة العذراء مريم، وهذا الاتحاد جوهري طبيعي حقيقي بدون اختلاط ولا امتزاج وهو منزّه عن الافتراق والتغيير والاستحالة. وأنه بعد الاتحاد لا يسوغ أن يقال عن المخلّص أنه ابنان أو مسيحان ولا أنه طبيعتان أو مشيئتان وفعلان، بل أنه ابن واحد ورب واحد ومسيح واحد، وطبيعة واحدة من طبيعتين، ومشيئة واحدة من مشيئتين، فالمسيح واحد لا ينقسم (1كو 1: 13) إلى ذاتين وفعلين ورأيين ومشيئتين. فإن مدلول الاتحاد ومعناه هو صيرورة اثنين أو أكثر شيئاً واحداً، وهذا الاتحاد إمّا أن يكون عرضياً أو جوهرياً، والمسيحيون متّفقون على أن اتحاد اللاهوت بالناسوت في أحشاء العذراء مريم كان جوهرياً وطبيعياً وأقنومياً وبالتالي حقيقياً، لذلك فالمخلص هو أقنوم واحد قائم من اتحاد أقنومين وطبيعة واحدة قائمة من اتّحاد طبيعتين مع حفظ خواص اللاهوت والناسوت بغير امتزاج ولا اختلاط ولا استحالة. والذي اتّحد لا يسمى اثنين بل واحداً. فلا يصحّ القول بالتثنية بعد الاتحاد وإلاّ فلا يكون الاتّحاد جوهرياً بل عرضياً وهذا مرفوض.

 

قال مار سويريوس يعقوب البرطلي مطران دير مار متى (1241 +) ما ترجمته «عندما نقول عن المسيح أنه طبيعة واحدة بعد الاتحاد لا نعني بذلك أنّه كان قبل الاتحاد طبيعتين. فقد كان قبل الاتحاد بسيطاً، وأصبح من بعده مركباً. فلم يكن قبل الاتحاد اثنين، ولم يصبح بعد الاتحاد اثنين: إذن قبل الاتحاد كان واحداً بسيطاً، وبعد الاتحاد صار واحداً مركباً، ونقول عنه واحداً ليس لتشابه الطبيعتين، بل واحداً مركباً كأنه واحد بسيط إذن المسيح طبيعة واحدة وليس طبيعتين»([58]).

ولاتحاد اللاهوت والناسوت اتحاداً جوهرياً طبيعياً حقيقياً، حق لنا أن ندعو الرب يسوع إنساناً كما أن ندعوه إلهاً، فهو كما قال عنه الرسول بولس «اللّه ظهر بالجسد»(1تي 3: 16) وكما عبر الرسول يوحنا عن ذلك في افتتاحه الإنجيل المقدس بقوله: «في البدء كان الكلمة… والكلمة صار جسداً وحلّ فينا ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً» (يو 1: 1 و14).

جاء في كتاب زَلجًا زلكي للعلامة مار غريغوريوس ابن العبري (1286 +) ما يأتي: «يقول غريغوريوس العجائبي (217 ـ 270) في مقالة الإيمان: «إن غير المتجسّد الذي ظهر متجسّداً هو إله حقيقي وليس أقنومين ولا طبيعتين» ويقول القديس يوليوس في التجسّد: لا يوجد في الكتب المقدسة أي تمييز بين الكلمة والجسد ولكنه طبيعة واحدة وأقنوم واحد، وفعل واحد، وفرصوف فرأوفا (شخص) واحد، كله إله وكلّه إنسان».

وقال القديس أثناسيوس في رسالته إلى الملك يولينوس: «يجب أن نعترف أن للكلمة طبيعة واحدة، وأقنوماً واحداً متجسّداً، فهو عينه في كل أوضاعه، نعترف أنه ابن اللّه وأنه بالروح، وهو ابن الإنسان المتجسّد فليس للابن الواحد طبيعتان، لكن طبيعة واحدة للّه الكلمة المتجسّد»([59]).

 

وقال القديس كيرلس الاسكندري في الفصل الثالث من حروماته: «من فرّق بعد الاتحاد المسيح الواحد إلى أقنومين وطابقهما في بعضهما بعض بالمصاحبة فقط أم بالعظمة أم بالقدرة أم بالسلطان ولم يحسن أن يوحدهما بوحدانية طبيعية فليكن محروماً»([60]).

إن الكتاب المقدس يشهد بهذا الاتحاد ولا يفرّق بين الطبيعتين المتحدتين اتحاداً جوهرياً حقيقياً، فإن اللّه الآب شهد لابنه الوحيد قائلاً «هذا هو ابني الحبيب»(مت 3: 17) فالابن المشهود له المنظور والزمني هو نفس الابن الأزلي. وقول الرب يسوع عن نفسه: «قبل أن يكون ابراهيم أنا كائن» (يو 8: 58) وقول الرسول بولس لنا أب واحد «ورب واحد يسوع المسيح الذي به جميع الأشياء ونحن به»(1كو 8: 6) وقول يوحنا الرسول «والكلمة صار جسداً»(يو 1: 14) وقوله «الذي كان من البدء الذي سمعناه الذي رأيناه بعيوننا الذي شاهدناه ولمسته أيدينا»(1يو 1: 1) وقول الرسول بولس لقسوس كنيسة أفسس: «احترزوا إذاً لأنفسكم ولجميع الرعية التي أقامكم الروح القدس فيها أساقفة لترعوا كنيسة اللّه التي اقتناها بدمه»(أع 20: 28) وقول صاحب الرؤيا على لسان الرب: «أنا هو الأول والآخر والحي وكنت ميتاً وها أنا حي إلى الأبد» (رؤ 1: 17و18). هذه النصوص تتكلّم عن الرب يسوع كطبيعة واحدة فقط، لذلك تنسب ما للاهوت للناسوت وما للناسوت للاهوت. ويلاحظ من قول الرسول بولس مثلاً أنه يتكلّم عن دم اللّه، وهل يمكن أن ينسب للاهوت دماً، ما لم يكن ذلك على أساس وحدة الطبيعة؟ وعليه لا يصحّ أن يقال عن السيد المسيح أنه أقنومان أو طبيعتان أو جوهران بعد الاتحاد. وإذا سلّمنا بالاتحاد الأقنومي الطبيعي الجوهري نسلّم بالضرورة باتحاد المشيئتين، والكتاب لا ينسب إلى الرب إلاّ مشيئة واحدة بناء‌ً على قوله له المجد: «الحق الحق أقول لكم لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئاً إلاّ ما ينظر الآب يعمل»(يو 5: 19) وقوله: «طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمّم عمله» (يو 4: 34).

هذه العقيدة السمحة تمسّكت بها الكنيسة منذ فجر وجودها، وما زالت تتمسّك بها بعروة وثقى، وقد ترجمتها في طقوسها البيعية: فنحن نقرأ في صلاة عيد الميلاد من كتاب المعذعذان([61]) ما يأتي: «ولد الابن الأزلي بالجسد من العذراء الممتلئة نعمة، من أجل خلاصنا… حلّ في أحشاء العذراء القديسة تسعة أشهر وهو الأزلي ابن الآب الأزلي… وولد منها بالجسد إلهاً تاماً، وإنساناً تاماً، بنوع يفوق الناموس الطبيعي، ولم يُعرف ولا أعترف به بأنّه طبيعتان أو بطبيعتين بل بطبيعة واحدة من طبيعتي اللاهوت والناسوت اللتين اتّحدتا معاً بدون استحالة ولا امتزاج، وقد صان والدته من انثلام بتوليتها، أي أنه بعد أن ولد منها بالقداسة حفظها بتولاً سليمة من كل شائبة وقد ولد منها ميلاداً عجيباً لائقاً باللّه([62]).

ولإيمان الكنيسة المقدسة بأن الرب يسوع الإله المتجسد قد فداها بدمه الكريم رتّبت في صلواتها الفرضية أن يتلو المؤمنون صلاة التقديسات الثلاث وهي: قدوس أنت أيها الإله، قدوس أنت أيها القوي، قدوس أنت أيها الحي غير المائت، يا من صلبت عوضاً عنا ارحمنا».

وبحسب التقليد البيعي الشريف أن العبارات الأولى من هذه الصلاة رتّلتها الملائكة أثناء دفن جسد الرب يسوع الطاهر، وسمعها يوسف الرامي ونيقوديموس فأضافا عبارة «يا من صلبت عوضاً عنا ارحمنا» وهنا نرى خلاصة عقيدتي التجسّد والفداء فنحن نرى جسداً مات على الصليب كفارة عن خطايا العالم، ولكننا نسمع الملائكة تسبّحه وهي تدعوه «قدوساً» وتصفه بأنه حي غير مائت، وذلك لأن لاهوته حتى بعد موته بالجسد، لم يغادر لا نفسه ولا جسده لحظة واحدة. وفي هذه التسبيحة أيضاً نسمع يوسف الرامي ونيقوديموس وهما يقومان بمراسم دفن جسده الطاهر يعلنان أنه مات لأجلنا، ويطلبان منه الرحمة معترفين بلاهوته.

وهذه الأنشودة قديمة في الطقس الكنسي وقد ضمّها القديس سويريوس الكبير البطريرك الأنطاكي (538 +) إلى الترتيلة التي ألّفها وتدعى (معنيث)([63]) وينشدها الشمامسة في بدء الاحتفال بالقداس الإلهي وتوجه إلى الرب يسوع وتلخص تدبيره الإلهي بالجسد وبإنشادها يعترف المؤمنون بلاهوت الرب يسوع ويوضحون عقيدتي التجسّد والفداء، والكفارة التي تمّت بموت المسيح على الصليب. هذه العقيدة السمحة التي يلخصها مار اسحق السرياني أحد ملافنة البيعة بقوله: «بهذا تفتخر الكنيسة أن اللّه مات على الصليب» وهو يقصد بذلك موت الرب بالجسد.

وهذا هو ذات الإيمان، الذي يعترف به الكاهن السرياني في القداس الإلهي عند تقسيم القربان المقدس (القصي) وترتيبه على شكل مصلوب وهو يتلو بالسريانية النبذة البليغة التي وضعها العلامة مار ديونيسيوس يعقوب ابن الصليبي مطران آمد (1171 +) قائلاً ما ترجمته:

«هكذا بالحقيقة تألّم كلمة اللّه بالجسد، وذبح وكسّر في الصليب، وانفصلت نفسه عن جسده بينما لاهوته لم ينفصل قط لا عن نفسه ولا عن جسده، وطعن في جنبه بالحربة، فجرى منه دم وماء غفراناً لكل العالم. وتضرّج بهما جسده المقدس. وعوضاً عن خطية العالم كله مات الابن على الصليب، وعادت نفسه واتّحدت بجسده وحولنا من التصرف اليساري إلى التصرّف اليميني، وسالم بدم أقنومه ووحّد السماويين مع الأرضيين، والشعب مع الأمم، والنفس مع الجسد، وفي اليوم الثالث قام من القبر. واحد هو عمانوئيل ولا ينقسم إلى طبيعتين من بعد الاتحاد غير المنقسم، هكذا نؤمن. وبهذا نعترف وهكذا نقر، بأن هذا الجسد هو لهذا الدم، وهذا الدم هو لهذا الجسد».

  • خلاصة عقيدتي التجسّد والفداء:

تؤمن الكنيسة المقدسة بالمبادئ والأصول الآتية:

1ـ إن اللّه الكلمة، أي ابن اللّه الوحيد، الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، تجسّد من الروح القدس ومن مريم العذراء.

2ـ إنّه اتّخذ من جسم العذراء ناسوتاً كاملاً ذا جسد ونفس عاقلة واتّحد به منذ اللحظة التي بشرت العذراء مريم بالحبل به وقالت للملاك «ليكن لي كقولك». وهذا الناسوت الكامل ليس دون النفس الناطقة كما زعم أبوليناريوس. فالمسيح كامل باللاهوت وكامل بالناسوت، وإن كمال الناسوت يقتضي وجود الأقنومية ولا يمكن أن يكون خالياً منها، لذلك نرفض التعبير الخلقيدوني القائل بأن للمسيح أقنوماً واحداً «وطبيعة واحدة متجسّدة» التي يقصد بها الخلقيدونيون طبيعة اللاهوت قبل التجسّد كما يقصدون بالأقنوم الواحد أقنوم اللاهوت ولا يعترفون بأقنوم الناسوت. وأول من قال هذه العبارة الأخيرة هو فلابيانس القسطنطيني الذي حكم عليه بالفصل والقطع المجمع الإفسسي الثاني عام 448م وتعد هذه العبارة تحريفاً لقول القديس كيرلس وآباء الكنيسة الأقدمين القائلين بـ: «طبيعة واحدة للّه الكلمة المتجسّد».

3ـ إن اتحاد اللاهوت بالناسوت هو اتحاد طبيعي جوهري أقنومي، وليس خيالياً، ولا عرضياً، ولا بالمشيئة والإرادة فقط، بل هو اتحاد حقيقي.

4ـ إن هذا الاتحاد هو أبلغ وأقوى من اتحاد النفس بالجسد ومنزّه عن الاختلاط والامتزاج والاستحالة.

وعليه فإن ربنا يسوع المسيح هو أقنوم واحد قائم من اتحاد أقنومين، وطبيعة واحدة قائمة من اتحاد طبيعتين، لأن الذي اتّحد لا يسمّى اثنين بل واحداً، مع حفظ خواص اللاهوت والناسوت، بدون اختلاط ولا امتزاج ولا استحالة، ولا بتغيير الناسوت عن كثافته وتلاشيه باللاهوت كما زعم أوطاخي، بل باتحاد ذات الكلمة الكامل بذات الناسوت الكامل.

أما القول بالتثنية فيجعل الاتحاد عرضياً أدبياً وبالمشيئة فقط كما زعم نسطور (428 ـ 451) على أن نسطور بقوله بالأقنومين اعترف بكمال كل من اللاهوت والناسوت ولكن خالف في حقيقة اتحادهما الحقيقي الجوهري.

وإن ليون الروماني (440 ـ 461) بقوله باتحاد الطبيعتين بالأقنوم الإلهي أنكر كمال الناسوتية لأنه لا طبيعة بغير أقنوم. وبقوله بطبيعتين بعد الاتحاد، جعل الاتحاد أدبياً كزعم نسطور. قال المطران جرجس شاهين للسريان الكاثوليك المتوفى بدمشق سنة 1928 ما يأتي: «إن الذي نادى بالطبيعتين والأقنومين أولاً هو نسطور وقد حرم في المجمع الإفسسي المنعقد سنة 431 والذي نادى بالطبيعتين والأقنوم الواحد هو ليون الحبر الروماني، وقد أيّد قوله المجمع الخلقيدوني سنة 451»([64]). والحقيقة هي: «أن الاعتقاد بطبيعة واحدة للكلمة المتجسد كان اعتقاداً عاماً لسائر الكنائس المسيحية شرقاً وغرباً»([65]).

قال القديس كيرلس وهو يدحض زعم نسطور ومن لف لفه: «من فرّق من بعد الاتحاد المسيح الواحد إلى أقنومين وطابقهما في بعضهما بعض بالمصاحبة فقط أم بالقدرة أم بالسلطان ولم يُحسن أن يوحدهما بوحدانية طبيعية فليكن محروماً»([66]).

فللمسيح يسوع ربنا إذن، كما ذكرنا، أقنوم واحد قائم من اتحاد أقنومين إلهي وإنساني، وطبيعة واحدة قائمة من اتحاد طبيعتيهما الإلهية والإنسانية([67]).

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

عقيدة التجسد الإلهي)*(

في كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية

 

  • مقدمة

في 24 كانون الثاني 1959 وجّه اليَّ الصديق البروبست يواخيم فيكلت رئيس الكنيسة اللوثرية في القدس، دعوة الاكاديمية اللاهوتية الألمانية لحضور مؤتمر القدس، الذي نوت عقده في 15 و 16 نيسان، لبحث موضوع «طبيعة السيد المسيح ومجمع خلقيدونية»، وإلقاء محاضرة في موقف كنيستنا السريانية الأرثوذكسية إزاء هذه العقيدة. وبعد أن استأذنت سيدي صاحب القداسة مار إغناطيوس يعقوب الثالث بطريرك أنطاكية وسائر المشرق الكلي الطوبى، لبّيت الدعوة وحضرت المؤتمر المذكور وألقيت المحاضرة المطلوبة بعنوان «طبيعة واحدة لله الكلمة المتجسد». وقد كتبتها بإسلوب بسيط، متحاشياً جهد إمكاني الإصطلاحات اللاهوتية والفلسفية العويصة، معالجاً الموضوع من الوجهة التاريخية، مثبّتاً عقيدة كنيستنا المقدسة ببراهين دامغة وواضحة، نقلية وعقلية، وبشهادات الخصم نفسه. وألقيت ملخّصها في جلسة المؤتمر الأولى، وتُرجمت حالاً إلى اللغتين الإنكليزية والألمانية.

ومما هو جدير بالذكر أن الدكتور فريدريك هاير Dr. Friedreich Haywr أستاذ اللاهوت في الأكاديمية الألمانية المذكورة والذي كان يرئس جلسات المؤتمر، علّق على المحاضرة بقوله: «لقد اقتنعنا بما أثبته المحاضر بأن مجمع خلقيدونية لم يجتمع بروح الله». وأردف قوله: «لقد غدا واضحاً لدينا جميعاً، أنَّ الكنائس الأرثوذكسية الشرقية القديمة التي تعتقد بطبيعة واحدة للسيد المسيح بعد الاتحاد بدون امتزاج ولا اختلاط ولا تبلبل، وترفض مجمع خلقيدونية وعقيدته، ليست أوطاخية المذهب كما كنّا نظن، فهذه الكنائس كقول المحاضر تحرم أوطاخي وهرطقته كما تحرم نسطور وبدعته أيضاً. إنها إذن لأمانة في عنق كل منّا، عند عودته إلى بلاده، أن يصلح التاريخ الخاطئ المجحف في حق هذه الكنائس».

ولا بدَّ لي أن أذكر أنه قد مثلت في هذا المؤتمر الودّي، الكنائس الأرثوذكسية: السريانية والقبطية والأرمنية والحبشية. والكنائس البروتستانتية: الأسقفية والإنجيلية واللوثرية التي كان ممثلوها من الأردن وألمانيا وكندا وبلجيكا وغيرها.

هذا وإنني نزولاً عند رغبة بعض الأفاضل الغيارى أقدمت على نشر محاضرتي هذه آملاً أن تفيد القارئ الكريم وتكون له وسيلة حسنة لتفهم الحقيقة المجرّدة، والعقيدة المسيحية القديمة السمحاء، وحسبي الله ونعم الوكيل.

حمص في 30 حزيران 1959

الربّان زكّا بشير عيواص


  • طبيعة واحدة لله الكلمة المتجسد

كلمة مجملة عن سرّي التجسد والفداء

عندما هوى الإنسان الأول في وهدة المعصية شملت خطيئته كل الجنس البشري من بعده «فبإنسان واحد دخلت الخطيئة إلى العالم وبالخطيئة الموت وهكذا اجتاز الموت على جميع الناس إذ أخطأ الجميع»([68]) «وزاغوا وفسدوا وأعوزهم مجد الله»([69]) «ولم يوجد بينهم بارٌّ ولا واحد»([70]).

وإذا كانت تلك المعصية غير متناهية لتوجيهها مباشرة إلى الله اللامتناهي، لذلك كان غير ممكن للملائكة والآباء والأنبياء المتناهين، أن يقدموا الكفارة عنها، ويفوا العدل الإلهي حقَّه، حتى ولا الناموس الموسوي، إلاّ الله وحده غير المتناهي، إذ لا يوجد شيء في هذا الكون إلاّ وهو متناهٍ، كقول الرسول بولس: «لأن ما لم يستطعه الناموس وضعف عنه بسبب الجسد، فقد أنجزه الله إذ أرسل ابنه في شبه جسد خطيئة وقضى على الخطيئة بالجسد من أجل الخطيئة»([71]) فصار «كفارة عن خطايانا وليس عن خطايانا فقط بل خطايا العالم كلّه أيضاً»([72]).

فعندما بلغ ملء الزمان تجسد ابن الله([73]) من الروح القدس ومن القديسة مريم العذراء التي اصطفاها تعالى لهذا التدبير الالهي: ذلك أنّ الروح القدس حلَّ على العذراء وقدّسها من الدنس الأبوي فصارت أهلاً لحلول ابن الله في أحشائها، ثم جبل من دمائها الطاهرة ناسوتاً كاملاً بجسم ونفس عاقلة ناطقة لابن الله الذي شاء أن يتجسد. غير أنه لا اللاهوت وجد في أحشاء العذراء قبل وجود الناسوت فيها ولا الناسوت وجد قبل اللاهوت، بل كلاهما وجدا معاً في لحظة واحدة فاتحدا اتحاداً ذاتياً طبيعياً جوهرياً أقنومياً بدون اختلاط أو امتزاج أو استحالة، بسرّ لا يُدرك. وولدته العذراء بعد تسعة أشهر وهي بتول، فصار الكلمة جسداً([74]) ودُعي عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا([75]) يسوع المسيح الذي كان منذ البدء الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا الذي شاهدناه ولمسته أيدينا([76]) الذي أخذ كلَّ ما لنا ما عدا الخطيئة([77]).

ونما في القامة والحكمة، ولما أكمل الثلاثين من عمره اعتمد في نهر الأردن من عبده يوحنا، فنزل الروح القدس من السماء بشبه حمامة، وحطَّ على هامته، وسمع صوت الآب من السماء قائلاً: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت»([78]).

وخلال تجواله في الأرض، قال الناس فيه ما قالوا، فشاء له المجد أن يلقن تلاميذه الأطهار الدرس الخالد في العقيدة السمحاء التي يجب أن يؤمنوا بها ويسلّموها أتباعه من بعدهم، فسمعناه في نواحي قيصرية فيلبس يوجّه إليهم سؤالاً قائلاً: «من يقول الناس أني أنا ابن الإنسان؟ فقالوا: قوم يوحنا المعمدان وآخرون إيليا وآخرون أرميا أو واحد من الأنبياء. قال لهم وأنتم من تقولون أني أنا؟ فأجاب سمعان بطرس وقال: أنت هو المسيح ابن الله الحي. فأجاب يسوع وقال له: طوبى لك يا سمعان بن يونا، إنَّ لحماً ودماً لم يعلن لك لكن أبي الذي في السموات، وأنا أقول لك أيضاً أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها»([79]). فعلى صخرة الإيمان بابن الله الحي وُضعت أساسات الكنيسة، ولا يُبنى إذن أساس المسيحية إلاَّ على المسيح الواحد، ولا يوجد مسيحان يمكننا أن نبني هذا الأساس على أحدهما دون الآخر، ولكن المسيح هو واحد لا غير، وهو هو ابن الله الحي وابن الإنسان مريم، والمسيحية لا يمكن أن تُبنى إلاّ على حقيقة المسيح بأكملها.

وسمعناه مرّة أخرى يتحدث إلى رسله عمّا هو عتيد أن يحتمله من الآلام الفادحة من رؤساء اليهود، وكيف أنه سيموت وفي اليوم الثالث يقوم. ولا نستغرب إذا عرفنا أن رسله اعترتهم الدهشة، عند تأملهم ماهية هذا الخبر، فلم يدركوا كنهه، ولم يسبروا غوره، فأخذوا يسألون أنفسهم كيف يحتمل الآلام والموت وهو ابن الله الحي بل هو الله؟ ورأينا بطرس يأخذه جانباً وينتهره قائلاً: حاشاك يا رب لا يكون لك هذا، فيلتفت إليه يسوع موبّخاً وقائلاً: «اذهب عني يا شيطان، أنت معثرة لي، لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس».([80]) نعم لم يكن بطرس ورفاقه يدركون معنى آلام ابن الله، وموته بالجسد، الموت الذي به سينالون والعالم أجمع الحياة والخلاص من أسر الخطيئة والموت والشيطان. أما يسوع الذي كان عارفاً «بأنه لهذا أتى إلى عالمنا» «فإذ وُجد بالهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب»([81]) ومحا بموته الصكّ المكتوب على البشرية، ووفى العدل الإلهي المتجسد على يد اليهود الذين «لو عرفوا لما صلبوا ربَّ المجد» ونزل إلى الهاوية متحداً بروحه الناسوتية، وخلّص أرواح الراقدين على الرجاء به، وفكّهم من الأسر([82]) وأصعدهم إلى الفردوس([83]) وفي اليوم الثالث قام من بين الأموات بقوة لاهوته([84]) وظهر بعد قيامته لتلاميذه منفردين ومجتمعين عدة مرّات، وللنسوة. ومرّة دخل العلية والأبواب مغلقة وبيّن لتلاميذه أثر جروحه، وأكل قدامهم([85]) مظهراً لهم نفسه حياً ببراهين كثيرة([86]) وبقي متردداً إليهم أربعين يوماً يفسر لهم ما كتب عنه([87]) ثم أخذهم على جبل وباركهم وصعد بناسوته إلى السماء عياناً أمامهم([88]) وجلس عن يمين العظمة([89]) وسيأتي ثانية بمجد عظيم جداً للدينونة([90]).

هذه خلاصة سرّي التجسد والفداء الذي قام بهما الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس بأقنومه الواحد وطبيعته الواحدة ومشيئته الواحدة.

  • الكنيسة والمبتدعون

وبعد أن تجلبب الرسل الأطهار قوة الروح القدس([91]) خرجوا إلى جميع أقطار المسكونة ناشرين البشارة بالمسيح يسوع، ومعمّدين المؤمنين به باسم الآب والإبن والروح القدس إله واحد، مسلّمين إياهم تعاليمه السمحاء نقية طاهرة، قوية جبارة، بسيطة سهلة، بحيث يفهمها أبسط الناس وأكثرهم سذاجة، وصعبة مستعصية بحيث لا يستطيع سبر غورها أكبر الفلاسفة وأعظمهم. وكان من أهداف تعاليمهم هذه المكتوبة والمنقولة، نشر العقيدة القويمة بالثالوث الأقدس التي آن أوان نشرها بوضوح، في عهد ناموس الكمال، وإعلان الإعتقاد بالمسيح يسوع ابن الله الحي الذي به خلق الكون بأسره، وعليه تدور جميع أبحاث الكتاب المقدس بعهديه من ألفه إلى يائه.

وهكذا غزت المسيحية أفكار الشعوب وملكت على قلوب البشر، وانتشرت في كل بقعة من بقاع المسكونة ونما زرع الحق النقي الذي زرعه يسوع في حقله العظيم زرعاً جيداً، وظهر إلى جانبه أيضاً زؤان الضلال الذي زرعه بينه إبليس عدو الخير. ذلك أن الجماهير الغفيرة التي دخلت النصرانية من اليهود والوثنيين بقيت في رواسي رؤوس بعضها أشياء من سخافات الوثنية البالية وفلسفتها المتشعبة وأضاليلها الفاضحة، وخرافات اليهودية الخاملة المكبلة بقيود الجنسية المحدودة والمتمسكة بالأرضيات دون السماويات. أولئك نفر حاولوا جهد طاقتهم خلط حقائق الدين المسيحي القويم بسخافات ديانتهم القديمة، فتنكبوا عن تعاليم المسيحية السمحاء التي سلّمها الرب لرسله، وهَوَوْا في مزالق الفساد قائلين باطلاً ومعلّمين ضلالاً، حائدين عن جادة الحق مذيعين تعاليم غريبة، مقلقين بذلك راحة الرسل والمبشرين. ولم يتركوا وسيلة إلا تذرعوا بها لخداع البسطاء من المؤمنين، فأضلوا عقول ضعاف الإيمان منهم واصطادوهم في شراك الباطل، بيد أن رؤساء الكنيسة كانوا دائماً بالمرصاد لأولئك القوم الضالين والمضلين والأنبياء الكذبة الكافرين، الذين نازلوهم في ساحة القتال، وظفروا بهم واحداً فواحداً بقوة الراعي الصالح يسوع المسيح، محذّرين الكنيسة منهم تحذيراً. هكذا ناصبت اليهودية والوثنية المسيحية العداء حسداً، ولكن المسيحية خرجت من ساحة الوغى عالية اللواء ناصعة الجبين منتصرة محتفظة بجوهرة الإيمان نقية صافية، داحرة عدوتيها البغيضتين.

ويخبرنا التاريخ المسيحي أنه في كل مرحلة من مراحله، وعلى كل مسرح من مسارحه، وفي كل دور من أدواره وعصر من عصوره، وجد في الكنيسة المقدسة من حاول دسَّ السمِّ في تعاليمها الطاهرة، فكان يتصدى له آباء قديسون وأبطال صناديد يذودون عن حياض الكنيسة محافظين ـ حتى الدم ـ على نقاء إيمانها وسلامة عقيدتها، داحرين غزوات موجات التعاليم الغريبة التي حاولت الامتزاج بمبادئها القومية.

ففي العهد الرسولي ظهر الأنبياء الكذبة والأخوة المضلّون، فحرمهم الرسل القديسون وأبعدوهم عن حظيرة السيد المسيح. واقتفى أثرهم في العصور الأولى عشرات المبتدعين، أخطرهم آريوس الذي ظهر في أوائل القرن الرابع واعتقد «بأن الابن ليس إلهاً لكنه خلقه الله في أول خلائقه، وهو أصغر من الآب، وسلطانه منبثق منه، وبالتالي ليس مساوياً للآب في الجوهر». وأخذ يبثُّ هذه العقيدة الشنعاء في الامبراطورية الرومانية. حتى فنّدها المجمع النيقاوي المسكوني الأول سنة 325 م ورتب الجزء الأول من دستور الإيمان المسيحي المبني على أساس الكتاب المقدس ويبتدئ بعبارة «نؤمن بإله واحد…» وينتهي بعبارة «ونؤمن بالروح القدس…» وخلاصته (أن ربنا يسوع المسيح هو إله حق وابن الله الأزلي حقاً، ومساوٍ لأبيه في الجوهر).

ثم التأم المجمع المسكوني في القسطنطينية سنة 381 م وفنّد بدعة مقدونيوس الذي أنكر ألوهة الروح القدس وقال عنه: «أنه مخلوق يشبه الملائكة ولكنه ذو رتبة أسمى منهم». ورتب المجمع الجزء الثاني من قانون الإيمان وهو «نؤمن بالروح القدس الرب المحيي الكل الذي من الآب ينبثق والذي مع الآب والإبن يُسجد له ويمجّد الخ…».

  • وحدة الاله المتجسد والمبتدعون، تاريخياً

وجاء القرن الخامس يحمل بين البدع الوخيمة والآراء العقيمة، التي عنها نتجت الشقاقات والتفرقات، التي لا يزال أثرها ظاهراً في جسم الكنيسة الواحدة حتى يومنا هذا. ذلك أن آباء الكنيسة في القرون الأربعة الأولى بما فيهم آباء المجمعين المسكونيين النيقاوي والقسطنطيني، الذين تسلّموا الإيمان من الرسل الأطهار، كانوا يعتقدون بالمسيح يسوع بأنه ابن الله الحي والأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، وهو ابن طبيعي لله الآب وللعذراء مريم، وقد اتحد في تجسده اللاهوت والناسوت معاً بدون تبلبل أو امتزاج أو اختلاط، ولذلك فله طبيعة واحدة مركبة من طبيعتين([92]) ومشيئة واحدة([93]). وأقوال الآباء بهذا الصدد لا تُحصى، وسنذكر بعضها في مكان آخر.

هذه كانت عقيدة الكنيسة الجامعة، حتى ظهر نسطور بطريرك القسطنطينية في القرن الخامس، الذي سقط في بدعة شنيعة شغلت الكنيسة أجيالاً عدة، إذ اعتقد «بأن العذراء مريم لم تلد إلهاً متجسداً لكنها ولدت إنساناً بحتاً حلَّ عليه الروح الإله عند عماده في الثلاثين من عمره» وقال «من أجل ذلك لا ينبغي تسمية العذراء بوالدة الإله، وأنَّ للسيد المسيح طبيعتين وأقنومين». وقد عاب على المجوس سجودهم للطفل يسوع([94]). وقال أيضاً: «حيث أنَّ الله لم يولد فلا يجوز القول أنه صُلب ومات أيضاً. بل انه حين جاء إلى الصلب انفصل لاهوته عن ناسوته، وكان المعلَّق على العود إنساناً بحتاً». ولذلك تجرأ فاستقطع عبارة: يا مَن صُلبت من أجلنا من التقاديس الثلاثة التي ترتلها الكنيسة في صلواتها([95]).

فثار ضده الشعب المؤمن واستنكر بدعته النكراء، وأظهروا له انحرافه عن الإيمان القويم. كما كتب إليه بعض آباء الكنيسة كالقديس كيرلس بابا الإسكندرية، مفحمين آراءه الوخيمة وناصحين إياه ليرعوي. ولكنه لم يرتدع بل أصرَّ على عناده، فعقد المجمع المسكوني الثالث في مدينة أفسس سنة 431 م بأمر الإمبراطور ثيودوسيوس الثالث، وحضره نحو 200 أسقف فحصوا بدعته وتعاليمه الوخيمة، وإذ وجدوها غريبة عن روح المسيحية حرموه وإياها، وأيّدوا العقيدة الصحيحة من الكتاب المقدس، وأثبتوا أنَّ للسيد المسيح أقنوماً واحداً وطبيعة واحدة بعد الإتحاد بدون اختلاط ولا امتزاج، وأن العذراء هي والدة الإله.

وبناء على هذا القرار المجمعي أمر الملك بنفي نسطور إلى ديره ثم إلى أووسا (أخميم) بصعيد مصر حيث قضى نحبه. ولكن بدعته بقيت بعد هلاكه منتشرة متفشّية في جسم الكنيسة وخاصة في الشرق. وقام الآباء القويمو الرأي يذودون عن حياض الإيمان الحق، ويقيمون الحجة على صحته رافضين بدعة نسطور الشنعاء. وكان من جملة المناضلين: أوطاخي رئيس دير في ضواحي القسطنطينية، ففيما كان هذا يسفه هذه البدعة، تطرّف في منهج التعبير في سر التجسد وسقط هو الآخر في بدعة أكثر شناعة منها إذ قال باستحالة الناسوت إلى اللاهوت، وخلط ومزج إحدى طبيعتي السيد المسيح بالأخرى، وآل به الأمر إلى أن ينكر كون المسيح اتخذ ناسوتاً حقيقياً من العذراء.

فحاججه أوسابيوس اسقف دوريليوم من أعمال فريجية، وكان صديقه الحميم، ونصحه بالاقلاع عن رأيه. وبينما كان يحاول إقناعه بخطأ تعليمه «بالطبيعة الواحدة الممتزجة» هوى هو الآخر في ضلال نسطور إذ قال «بفصل طبيعتي السيد المسيح بعد الإتحاد». وشكا أوطاخي إلى بطريركه فلابيانوس القسطنطيني وإذ كان هذا من المتشيعين لنسطور، قبل شكوى أوسابيوس وعقد على أوطاخي مجمعاً في القسطنطينية وبرئاسته سنة 488 حضره 30 أسقفاً، وفيه حرم أوطاخي وعزله من رئاسة ديره، وأيّد مذهب نسطور الوخيم القائل: «بأن للمسيح طبيعتين ومشيئتين بعد الاتحاد» وبذلك سقى غرسة العقيدة الخاطئة التي نضجت واكتملت في مجمع خلقيدونية، والتي يرفضها الآباء القديسون السالفون بكتاباتهم وأقوالهم وتصريحاتهم ومجامعهم.

وما ان سمع أوطاخي بهذا الحكم، حتى هرع إلى الملك ثاودوسيوس يستغيث به من جور بطريرك القسطنطينية، مدّعياً أنه لم يفعل شيئاَ سوى الدفاع عن الإيمان المستقيم. فأمر الملك فاجتمع المجمع ثانية في القسطنطينية في شهر نيسان من السنة التالية، بحضور فلابيانوس وفلورنسيوس معتمد الملك ومقدونيوس القائد. وابتدأوا في استعراض أعمال المجمع السابق ليتأكدوا من صحتها ورغم أن أغلب هذه الهيئة هم بعينهم أعضاء المجمع المكاني المطعون فيه، إلا أنهم بدأوا يتراجعون ويتنصلون من أقوالهم ملقين التبعة بعضهم على بعض، وأخيراً أرفضت الجلسة كما عقدت دون جدوى.

  • مجمع أفسس الثاني

وانتهز أوطاخي فرصة تألب الرأي العام ضد فلابيانوس لقوله: «بأن للمسيح طبيعتين بعد الاتحاد» فرفع شكواه إلى ثاودوسيوس الثاني، كما كتب إلى آباء كثيرين، من جملتهم لاون اسقف روما، باسطاً لهم آراء بطريرك القسطنطينية، وما لقيه منه من الظلم، طالباً التوسط لدى الامبراطور لإعادة النظر في قضيته، واستأنف الحكم في مجمع مسكوني. فأجابه لاون برسالة مؤرخة في أول حزيران عام 449 يقول فيها «إلى الإبن العزيز أوطاخي القس من لاون الأسقف، لقد بلغنا من رسالتك أن بعض أناس بأغراضهم القبيحة قد أنشأوا ثانية ارتقة نسطور، فنعرفك أننا سررنا باهتمامك وعنايتك بهذه القضية، ومن رسالتك تحقق عندنا ما في نيتك، لذلك لم نشكّ في أن الرب الذي كوَّن الأمانة الجامعة سيسعفك في كل شيء. فأما نحن متى بلغنا بالكمال أمر أولئك الذين بنفاقهم يفعلون ذلك، فيلزم أننا بتوفيق الله نعتني بقطع هذا الرأي القبيح، فليصنك الله عزت  قدرته أيها الإبن العزيز»([96]).

أما الإمبراطور ثيودوسيوس الثاني فإذ وجد أن الخلاف قد تفاقم جداً، لبى طلب أوطاخي وكتب إلى سائر البطاركة والأساقفة بعقد مجمع مسكوني سنة 431 في مدينة أفسس لحسم هذا الخلاف. فلما شعر فلابيانوس بصدور هذا الأمر السامي، أرسل إلى لاون الروماني ثاودوريطس أسقف قورش وغيره من المتشيعين لنسطور، يستنجد به فأرسل إلى المجمع نواباً عنه هم الأسقف يوليانس، والقس راناد، والشماس ايلاروس([97])، يحملون رسالة إلى فلابيانوس لا إلى المجمع كما يقضي القانون.

وبعث الامبراطور بثلاث رسائل إلى البابا ديوسقوروس الاسكندري بهذا الصدد، خوَّله في الثالثة منها حق رئاسة المجمع. ومما قاله: «اعلم أننا أمرنا سابقاً أن ثاودوريطس اسقف قورش لا يحضر في المجمع إلى أن يظهر ما ينبغي بخصوص خصومه لكونه تجاسر وتكلم في الأمانة، بخلاف ما كتب كيرلس الصالح ذكره… وإننا نوهب قداستك سلطاناً ونجعلك متقدماً، ليس فقط فيما يخص ثاودوريطس بل وبما يخص كل المجمع المقدس([98]). ثم عين الملك اثنين من معيته نائبَيْن عنه في المجمع. وأمرهما بأن الذين كانوا قضاة في أمر أوطاخي يكونون حاضرين بالصمت دون أن يجالسوا القضاة.

وهكذا اجتمع إلى أفسس مائة وثلاثون أسقفاً من سائر أنحاء المسكونة وعقدت جلسات المجمع في كنيسة العذراء ابتداء من اليوم الثامن من شهر آب سنة 449.

ودعي أوطاخي وسئل عن عقيدته، فاعترف أمام المجمع بالعقيدة الصحيحة السليمة، وأيَّد قوله بأن قدَّم له أيضاً اعترافاً صحيحاً مكتوباً بتوقيعه، معلناً تمسكه بإيمان مجمعي نيقية وأفسس وجميع الآباء الأرثوذكسيين السالفين. وحرمه لجميع الهراطقة ولا سيما ماني ووالنطينس وأبوليناريوس ونسطور حتى سيمون الساحر، مشهداً على ذلك السيد يسوع المسيح([99]).

وتلا الآباء أعمال مجمع أفسس الأول المسكوني، وقانون إيمان المجمع النيقاوي وتعاليم الآباء القديسين في سرّ التجسد المجيد. ولم تقرأ رسالة لاون الآنفة الذكر.

ولم يقرر هذا المجمع شيئاً جديداً، بل أثبت ما قرره المجمع الأفسسي السابق([100]). معلناً وجوب التمسك بعقيدة الكنيسة القويمة. وبعد البحث الكثير خلص إلى القرار التالي: «للمرة الثانية نحدد القول بطبيعة واحدة بعد الاتحاد للكلمة المتجسد بدون اختلاط أو امتزاج أو استحالة».

أما فلابيانوس ودمنوس الأنطاكي وثاودوريطس القورشي وهيبا الرهاوي وأوسابيوس أسقف دوريليوم فحطهم المجمع عن كراسيهم ورتبهم لتمسكهم بالقول بطبيعتين للسيد المسيح بعد الاتحاد ورفع الآباء قرارات المجمع إلى الإمبراطور ثيودوسيوس الذي أثنى عليها وأصدر أمراً بنفي فلابيانوس([101]). وعاد الآباء إلى أبرشياتهم فرحين مسرورين بالرب، مطمئني البال إذ قد حافظوا على الإيمان القويم، ودحضوا البدع الوخيمة.

أما أوطاخي فقد عاد بعدئذٍ إلى غيّه ونادى بتعاليم تناقض المعتقد الأرثوذكسي الصحيح، وتبيّن أن ما أظهره في المجمع السابق كان خلاف ما يبطنه. أما المجمع المقدس فكان مضطراً لإثبات براءته بعدما قدم صورة إيمانه السليمة، واعترافه الصريح أمام الآباء ولو أنه حكم عليه بعكس ما حكم لاعتبر حكمه ظلماً، ولكنه بالوقت نفسه حرم تعاليمه. وإذ عاد أوطاخي إليها أسقطه الأساقفة من رتبته وحرموه([102]).

أما نوّاب لاون أسقف روما فعادوا إلى سيدهم بعد أرفضاض جلسات مجمع أفسس الثاني، وحملوا إليه صورة عن قرارات وأحكام هذا المجمع وأوقفوه على كل ما دار فيه، وإذ علم أن رسالته لم تقرأ في المجمع، عدَّ ذلك إهانة كبرى له، وهو الذي يحلم في الرئاسة العامة على الكنيسة وبالعصمة التامة. وكيف لا يغضب والمجمع لم يكتف بعدم الأخذ برأيه الموافق لرأي فلبيانس بطريرك القسطنطينية، بل حرم فلبيانس وكل من يعتقد باعتقاده، وعدّهم مبتدعين لمناداتهم بطبيعتين للسيد المسيح بعد الاتحاد. حيئنذٍ ألّب لاون حوله الأساقفة المقطوعين الذين إذ اكتشفوا نقطة الضعف فيه اشبعوا كبرياءه إذ لجأوا إليه فقبلهم في شركته، وكتب إلى الامبراطور ثيودوسيوس متوسلاً إليه ليسمح له بعقد مجمع في كرسيه يستأنف فيه الأحكام التي أصدرها مجمع أفسس الثاني، فأجابه الإمبراطور يقول: «إن مجمع أفسس قد فحص كل شيء بمقتضى رسوم العدل والإيمان فأقصي فيه غير المستحقين من الكهنوت، وأعيد المستحقون إلى درجاتهم»([103]).

فلما رأى لاون أن ثيودوسيوس لم يلبِّ رغبته، التمس بدموع غزيرة من والنطيان قيصر الغرب ليكتب إلى ثيودوسيوس بالموضوع ذاته، ففعل، فأجابه ثيودوسيوس برسالة أظهر فيها عدم ضرورة عقد مجمع آخر، ومما قال: (أما من حيثية فلابيانوس فنقول لأنه من حكمه انكشف أمر جديد مهم ضد مذهب الإيمان، فهو قد نال ما استحقه وبعدما طرد ذاك أصبح في البيعة صلح وسلام وليس فيها إلا الحق المسيحي)، كما قال المؤرخ ثاوفانيس([104]).

وذكر بعض المؤرخين أنه عندما بلغ ديوسقوروس الإسكندري أن لاون قبل الأساقفة المطرودين في شركته، جمع مجمعاً في مدينة الإسكندرية من جميع أساقفة الكرازة المرقسية وحكم على لاون الروماني بالحرم وأذاع هذا الحكم.

ودار الزمان دورته، ومرّت سنتان على مجمع أفسس الثاني المقدس، وانتقل الملك ثيودوسيوس المظفر إلى جوار ربه، ولم يعقب خلفاً سوى أخت اسمها بلخارية كانت قد نذرت العفة وترهّبت في أحد الأديار، فأفتاها بعض الأساقفة المرائين([105]) للتزوج من مرقيان أحد قوّاد الجيش وكان من أنصار نسطور، فنكثت نذرها وتزوّجته، وسلّمت إليه مقاليد المملكة فأصبح امبراطور الشرق.

وانبسطت أسارير لاون أسقف روما بهذا التغيير المفاجئ في الحالة السياسية في الشرق، وزمجر يريد الإنتقام من عدوه ديوسقوروس. وبعث إلى بلخارية وزوجها مرقيان وفداً مؤلفاً من الأساقفة المقطوعين ملتمساً عقد مجمع يستأنف أحكام مجمع أفسس. وإذ كانت بلخارية ميالة إلى فلبيانس، وترغب من مدة في حدِّ نفوذ البابا ديوسقوروس([106]) وإذ كان زوجها مرقيان تابعاً لنسطور، ساعدا لاون على تكميل رغائبه وأمرا بانعقاد مجمع لفحص وقائع مجمع أفسس الثاني.

ودعا مرقيان البابا وديوسقوروس إلى المجمع فحضر إلى القسطنطينية، وسأل عن سبب عقد مجمع، فقيل له لتوضيح الإيمان، أجاب بجرأته المعهودة «إن الإيمان لفي غاية الكمال ولا يعوزه شيء من الإيضاح، وهو مقرر ومثبت من الآباء، أمثال أثناسيوس وكيرلس وغيرهما». وإذ حاول مرقيان وبعض الأساقفة أن يستميلوه ليوافق على رسالة لاون التي تثبت الطبيعتين بعد الإتحاد، قال: «إن اعتقاد البيعة ينبغي ألاّ يزاد عليه أو ينقص منه، فالمسيح واحد بالطبع والجوهر والفعل والمشيئة كما كرز الآباء. اسمعوا ماذا قال أبي القديس كيرلس إن اتحاد اللاهوت بالناسوت هو كاتحاد النار بالحديد، فإذا ضرب الحديد بالمطرقة فإن الحديد هو الذي يتأثر ولكن النار لا يلحقها شيء».

وإذ ثبت لبلخارية ومرقيان وبعض الأساقفة المقطوعين ما وهب الله لديوسقوروس من قوة الحجة ووضوح البرهان لتفسير الإيمان، اتفقوا على أن يكون المجمع بعيداً عن العاصمة في مدينة خلقيدونية بالقرب من البسفور، لئلا يحدث ما لا تحمد عقباه، وعلى أن لا يناقشوا ديوسقوروس في أمر الإيمان بل يقتصروا على البحث في أمر الأساقفة المقطوعين ورسالة لاون.

  • مجمع خلقيدونية

الجلسة الأولى:

لقد وضعت كنيسة روما كتاباً سردت فيه ما حدث في مجمع أفسس الثاني والمجمع الخلقيدوني، وأسمته (تاريخ المجمع الخلقيدوني)، وترجمته من اللاتينية إلى العربية بواسطة الراهب فرنسيس اللاتيني ثم طبعته بمدينة روما 1694 م ونشرته([107])، وإنني بسرد حوادث هذا المجمع سأعتمد كل الإعتماد على هذا الكتاب دامغاً الخصم ببرهانه مثبتاً الحقائق من أقواله.

عقد هذا المجمع في اليوم الثامن من شهر تشرين الأول عام 451 م([108])، في كنيسة أوفيميا في مدينة خلقيدونية([109])  «قاضي كوي» اليوم تجاه مدينة القسطنطينية. واختلف المؤرخون في عدد أساقفته، فبعضهم قال إنهم كانوا 330 وبعضهم ارتأى أنهم بلغوا 630، أشهرهم ديوسقوروس بابا الإسكندرية، ومكسيموس بطريرك أنطاكية، ويوبيناليوس أسقف أورشليم، وأناطوليوس بطريرك القسطنطينية. كما أوفد لاون أسقف روما ثلاثة نواب عنه هم: الأسقفان باسكاسينوس ولوشنسيوس والقس يونيتاسيوس.

وجلس في وسط المجمع القضاة الذين اختيروا لإدارة جلساته، وجلس الأساقفة كل بمكانه فوقف باسكاسينوس نائب لاون الروماني وقال: «معنا أوامر الاقنوم الطوباوي أسقف رومية يأمر بها أن ديوسقوروس لا يكون له جلوس في هذا المجمع، ولكن أحضروه هنا كي يرد الجواب عن فعله، ونحن ملزمون بحفظ ذلك، فأمروا أن يخرج وإلا نخرج نحن».

فسأله القضاة عما فعله الأب ديوسقوروس مخالفاً للقوانين. فقال: «ينبغي له أن يحضر ويرد الجواب عما حكم به كونه إذ لم يكن معه سلطان بهذه القضية، عقد باقتراحه مجمعاً بغير دستور الكرسي الرسولي».

لو عقد مجمع أفسس الثاني بدون علم من أسقف روما لما قلّل أهميته لأنه كان مستوفياً شروط المجامع المسكونية التي إنما كانت تعقد بأمر الملك لفض المشاكل الكنسية، ولم يذكر التاريخ الكنسي أن أحدها عقد بإذن من أسقف روما، الذي كان صوته فيها كصوت أحد الأساقفة لا غير. وحضوره فيها وغيابه عنها كان سواسية. ونص المرسوم الملكي الصادر بانعقاد مجمع أفسس الثاني مدون في كتب المدّعين أنفسهم([110]).

ومما يدعو إلى الإستغراب تجاهل نائب روما للواقع بادعائه هذا الكاذب فإذا لم يكن لأسقف روما علم بعقد مجمع أفسس الثاني، فمن الذي بعث بنواب روما الثلاثة الأسقف يوليانوس والقس راناد والشماس ايلاروس؟ وبالنيابة عن من حضر هؤلاء في المجمع المذكور؟ ومن الذي كتب طومس لاون الذي طفقوا يطلبون قراءته؟.

هذا ما لاحظه القضاة فزجروا باسكاسينوس نائب لاون الروماني بقولهم: «إن كنت بمقام قاض لا يصح لك أن تدعي كالمشتكي». فلاذ بالصمت إثر هذا التبكيت([111]).

حينئذٍ قدم أوسابيوس اسقف دوريليوم المحروم شكواه ومضمونها أن بابا ديوسقوروس هو رفيق أوطاخي، وقد حكم عليه وعلى فلابيانوس أسقف القسطنطينية ظلماً. فأجاب ديوسقوروس «سيبدو الحق واضحاً عند قراءة أعمال مجمع أفسس الثاني، إذ دوّنت فيه كل الأمور بوضوح تام».

 

فأمر القضاة بقراءة رسائل الملكين ثاودوسيوس وفالنتيانوس إلى البابا ديوسقوروس يدعوانه بالحضور إلى أفسس، ورسالة الملك ثاودوسيوس إليه أيضاً بخصوص حضور رئيس الدير مار برصوم السرياني. وقال قسطنطين كاتب الديوان الملكي أنه توجد رسائل أخرى لأساقفة آخرين تدعوهم إلى الحضور فلم يتريث القضاة حتى تقرأ هذه الرسائل، ولكنهم صرحوا بدخول ثاودوريطوس أسقف قورش إلى المجمع «لكون لاون الروماني رده إلى كرسيه والملك أمر بحضوره المجمع» كذا. ولما دخل قال أساقفة مصر واليريا وفلسطين «ارحمونا يا قوم الآن باد الإيمان، اعلموا أن القوانين تطرد هذا خارجاً فاطردوه أنتم عنا».ولكن القضاة لم يعيروا لأقوالهم أهمية بل خضعوا لرأي الغوغاء، الشمامسة النساطرة الذين كانوا في هذا المجمع أكثر من الأساقفة، والذين كانوا يهيجون ويموجون لإجلاس ثاودوريطوس في المجمع. وهذا ما حدا بأساقفة مصر ومن معهم على أن يقولوا للقضاة «أفالشمامسة كانوا الأولين في تثبيت القضية فلماذا يصرخون الآن؟ فالمجمع ليس هو اجتماع شمامسة بل اجتماع أساقفة، فاطردوا إلى خارج من ليس له كلام في المجمع ومن ثبت القضية يحضر في وسط المجمع، لأننا نحن ثبتناها من بعد تثبيتهم لها».

واستأنف الكاتب قراءة بقية أعمال مجمع أفسس الثاني وعندما انتهى من تلاوة رسائل الإمبراطور الآمرة بانعقاد المجمع قال ديوسقوروس «لقد اتضح مما تلي على مسامعكم أن الملك ثيودوسيوس، لم ينط أمر المجمع بي وحدي، بل ولّى معي في القضاء يوبيناليوس وتلاسيوس، فلماذا إذن ينسبون اليَّ وحدي ما تمَّ في أفسس؟ والواقع أننا كنا متساوين في السلطان، وأن ما أصدره المجمع من قرارات قد وافق عليه جميع الأساقفة فأقرّوا بأصواتهم ووقعوا بأيديهم وأخبرنا الملك بذلك وهو ثبت بأمر عال كل ما حكم به المجمع المقدس»([112]). فأجاب بعض الأساقفة الشرقيين قائلين: «إننا لم نوافق على قرارات المجمع السالف إلا مرغمين ولم نحكم على فلابيانوس من تلقاء أنفسنا، أغصبونا وأرعبونا بالضرب فأمضينا قرطاساً أبيض ونحن محاطون بالجنود شاهري السلاح».

فأجابهم أساقفة مصر قائلين: «إن المسيحي لا يخاف من أحد. جندي المسيح لا يرهب القوة التي لا تخيف سوى الجبان. ائتوا بالنار إلى هنا ونحن نعلمكم كيف يكون الاستشهاد. لو كان الشهداء يخافون الناس لما فازوا بالشهادة».

واستأنف الكاتب قراءة أعمال المجمع، ولما وصل إلى قول الأساقفة: «إن جدّد أحد يكون محروماً، إن فحص أحد في إيمان القديسين السالفين يكون محروماً، فلتحفظ أمانة الآباء الأطهار» قال أساقفة الشرق: «لم نقل هذا» واتهموا كتبة ديوسقوروس بأنهم وحدهم الذين كتبوا الأعمال، فسأل القضاة عن كاتب النسخة التي بين أيديهم. فقال ديوسقوروس: «كل واحد من الأساقفة كان له كتبة كتبوا نسخته». فأقرَّ بذلك يوبيناليوس وثلاسيوس وأسقف قورش وغيرهم. فقال ديوسقوروس: فلمَ قالوا عن كتبي إنهم وحدهم كتبوا الأعمال.

ثم أمر القضاة بتلاوة بقية الأعمال، وعندما بلغ القارئ اعتراف أوطاخي الذي قدمه إلى مجمع أفسس الثاني ومصادقة الأساقفة على أرثوذكسيته، ومن بينهم باسيليوس أسقف سالوقيا، أنكر هذا مصادقته. فتألم ديوسقوروس لكذبه وقال: «لست أدري ما الذي يدعو باسيليوس إلى إنكار خطابه المحرر في دفتر الأعمال وهو يعلم أنه إنما صادق على تعليم صحيح قدم إلينا.» ثم استطرد قائلاً: «إذا كان أوطاخي قد جحد العقيدة الصحيحة التي دونها في رسالته، ونادى بتعليم غريب فهو لا يستحق العقاب فقط بل هو جدير بأن يحرق بالنار. أما أنا فلا أتزعزع قيد انملة عن إيمان الكنيسة الجامعة الرسولية، إنني لا أهتم إلا بخلاص نفسي وبالمحافظة على العقيدة الصحيحة والإيمان المستقيم».

واستأنف الكاتب القراءة، فسرد ما نادى به باسيليوس السالوقي الآنف الذكر إذ قال: «إنني أحرم كل من يفصل المسيح الواحد، بعد اتحاد لاهوته بناسوته، إلى طبيعتين أو أقنومين أو جوهرين، ولا يسجد لطبيعة واحدة هي طبيعة الإبن الوحيد المتجسد» وعاد الأسقف فأنكر أيضاً اعترافه بهذا القول. وعندئذ سأله القضاة عن سبب حرمه لفلابيانوس إن كان يعتقد باعتقاده، فقال: إن حكمي كان لاحقاً لحكم مائة وعشرين أو مائة وثلاثين أسقفاً، فالتزمت أن أطاوعهم في الأمور التي فرضوها». فنظر إليه ديوسقوروس وقال: الآن كذّبت الكتاب القائل «من فمك تتبرر ومن فمك تدان»(مت 11: 37)، لقد استحييت من الناس فتجاوزت حدود الصلاح وأهنت الإيمان، لعلك ما سمعت ما كتب: «لا تخجل من شيء يهلكك».

فتأثر الأساقفة المدعون زوراً وبهتاناً على ديوسقوروس من تأنيبه إياهم، وضعفوا أمام قوة حججه وسديد براهينه، فلم يجدوا بداً من التسليم، فوقفوا في المجمع قائلين: «كلنا أخطأنا وكلنا نطلب الغفران».

وهنا جابههم القضاة قائلين لهم «لماذا ذكرتم سابقاً أنكم اضطررتم رغماً عنكم وقهراً أن تكتبوا أسماءكم في قرطاس أبيض في عزل فلابيانوس؟» فلم يتمكنوا إلا من تكرار اعتذراهم الأول قائلين: «كلنا أخطأنا وكلنا نطلب الغفران».

ومن الغريب أنه بينما يعترض الخلقيدونيون على ديوسقوروس بعدم السماح لأوسابيوس أسقف دوريليوم بدخول مجمع أفسس الثاني، نراهم يسمحون لثاودوريطس النسطوري الأسقف المقطوع بالحضور في مجمع خلقيدونية، الأمر الذي حدا بالبابا ديوسقوروس أن يصيح فيهم قائلاً: «أنتم تثلبونني كأني تعديت القوانين. فهل أنتم تحفظونها في إدخال ثاودوريطس؟» أجابه القضاة: «ثاودوريطس دخل بصفة مشتك» قال ديوسقوروس: «ولأي سبب جلس في درجة الأسقفية؟» قالوا: «إن أوسابيوس وثاودوريطس جلسا في صف المشتكين».

وقد أوضح ديوسقوروس عدالة الحكم على فلابيانوس إذ قال: «هو أمر واضح أن فلابيانوس عزل، لأنه قال بطبيعتين بعد الاتحاد، وعندي شهادات من أقوال الآباء القديسين، من أثناسيوس وغريغوريوس وكيرلس، أنه لا ينبغي القول بطبيعتين بعد الاتحاد، بل طبيعة واحدة لله الكلمة المتجسد».

قال أساقفة الشرق : «هذا قول أوطاخي هكذا يقول ديوسقوروس» قال ديوسقوروس: «لسنا نقول بالاختلاط ولا بالامتزاج ولا بالاستحالة»([113]).

بهذا القول الصريح نفى ديوسقوروس عن ذاته التهمة التي ألصقها به أعداوءه بأنه رفيق أوطاخي بالإيمان. وأثبت أن إقراره بالطبيعة الواحدة إنما هو نتيجة الإقرار بالاتحاد الطبيعي. أما تعليم أوطاخي بالطبيعة الواحدة فهو نتيجة إقراره بالامتزاج والاستحالة والاختلاط، والفرق عظيم بين كلا الاقرارين([114]) ولولا ذلك لما رأينا آباء الكنيسة القديسين الذين رفضوا مجمع خلقيدونية كمار طيمثاوس الثاني الإسكندري وسويريوس الأنطاكي وثاودوسيوس الإسكندري وفيلكسينوس المنبجي وبطرس الثاني الأنطاكي ويعقوب السروجي واسحق الأنطاكي وغيرهم، يحرمون أوطاخي كما يحرمون نسطور، وهذه كتاباتهم تشهد لهم([115]). وعلى منوالهم نسجت الكنيسة الأرثوذكسية الجامعة المقدسة الرسولية. ومن هذا ينفضح كذب بعض المؤرخين القدامى والجدد من البيزنطيين والغربيين الذين يلصقون هرطقة أوطاخي بكنيستنا المقدسة. قال المؤرخ المدقق موسيهم: «ان أوطاخي اعتقد بأن طبيعة المسيح الإلهية امتزجت بالإنسانية حتى صار المسيح بطبيعة واحدة إلهية. غير أنه لا يتضح جلياً أكان ذلك أكيداً أو غير أكيد. أما هذه العبارة مع اسم أوطاخي فقد تركهما ورفضهما مقاومو المجمع الخلقيدوني الذين اقتادهم زينون وبطرس القصار ولهذا يسمون ذوي الطبيعة الواحدة لا أوطاخيين لأن كل الذين يطلق عليهم هذا الاسم اعتقدوا أن الطبيعة الالهية والطبيعة الإنسانية اتحدتا وصارتا طبيعة واحدة فقط ولكن بدون تحويل أو امتزاج»([116]).

أما تبرئة أوطاخي في مجمع أفسس الثاني، فلا يستدل منها ممالأة المجمع له في العقيدة. نحن نعرف أن المجامع المسكونية السابقة لم تكن لتصدر أحكامها على المبتدعين إلا بعد أن تتأكد من أنهم مصرون على التمسك بأقوالهم المناقضة للإيمان المستقيم. وحتى في هذه الحال كانوا يصدرون حكمهم متألمين ومتأسفين. إذ أنهم كانوا يتمنون لو عاد المبتدعون إلى التمسك بالعقيدة القويمة، لكي يصدروا حكمهم ببراءتهم، ومجمع أفسس الثاني لم يخرج على هذه القاعدة المجمعية في تبرئته أوطاخي، لقد ناقشه الآباء في عقيدته شفاهاً فأقر واعترف بالإيمان السليم، ثم قدم إلى المجمع صورة إيمانه مكتوبة بخط يده، فإذا بها أرثوذكسية صحيحة فماذا على المجمع بعد هذا. أو لم يكن مضطراً إلى أصدار حكمه ببراءته؟.

كان على الخلقيدونيين أن يعترضوا على ديوسقوروس وآباء مجمع أفسس الثاني لو أنهم رأوا في اعتراف أوطاخي الكتابي والمدون في أعمال المجمع ما يخالف إيمان الآباء القديسين والكنيسة الجامعة. اما ان أوطاخي قد عاد إلى بدعته ثانية بعد تبرئته وبعد ارفضاض المجمع، فهذا ما لا دخل لديوسقوروس ولآباء المجمع فيه. إذ كان من الممكن إن تعاد محاكمة أوطاخي في مجمع آخر على أساس عودته إلى بدعته. هذا علاوة على أن لاون أسقف رومية كان قد شجع أوطاخي قبل أن يحله آباء مجمع أفسس الثاني، ذلك أنه انفذ إليه رسالة «يثني فيها على عنايته بأمر الإيمان، ويدعوه فيها بالإبن القس العزيز» كما أسلفنا([117]).

والنتيجة التي يمكننا استخلاصها من كل ما سبق هي أن ديوسقوروس بريء من كل ما نسب إليه في مجمع خلقيدونية من إدعاءات باطلة وأقوال لا محل لها من الصحة. عندئذٍ قرر القضاة حل الجلسة الأولى من المجمع ورفعها إلى ما بعد خمسة أيام([118]).

الجلسة الثانية:

وإذ ضاق نواب رومية ذرعاً بسديد أجوبة ديوسقوروس وتأكدوا من أنه لو استمر المجمع معه بالأخذ والرد لخرج منه ظافراً منتصراً، انتهزوا فرصة غياب القضاة، واتفقوا مع الأساقفة الشرقيين النساطرة وبعض الأساقفة الجبناء المتذبذبين، وعقدوا جلسة سرية في اليوم الثالث من حل الجلسة الأولى، أي قبل الموعد الذي حدده القضاة بيومين كاملين. ولم يعلموا بهذا القضاة، ولا دعوا أساقفة مصر ومن معهم. ووضعوا حراساً على باب البيت الذي كان يقطنه ديوسقوروس لكي يمنعوه من الخروج إذا حاول ذلك. ثم أرسلوا يستدعونه لحضور جلستهم غير القانونية. وعندما قال لرسلهم: «إن الحراس يمنعونني من الخروج» أجابوه بأنهم سيخبرونهم ليسمحوا له بذلك وكلما أراد الخروج كانوا يمنعونه بحرابهم. واستدعوه ثانية وثالثة فأخبرهم بأمر الحراس وأخيراً حين علم بعدم حضور القضاة بينهم قال: «لقد نظر المجمع والقضاة في أمري فما الذي يريده المجمع الآن؟ هل يقصد إبطال ما حدث بحضور القضاة؟ إنني لا أحضر هذا المجمع إلا إذا حضره القضاة»([119]).

فاجتمع هذا النفر من الأساقفة الجبناء تحت ضغط وتهديد نواب أسقف روما، ودون أن يحاججوا ديوسقوروس أصدروا حكمهم المغرض الزائف الذي جاء فيه «قد ظهرت وتحققت الأمور التي صنعها ديوسقوروس… فقد قبل أوطاخي بخلاف ما تأمر به القوانين… واستخص لذاته الولاية قهراً… ولم يأذن أن تقرأ رسالة لاون صاحب كرسي كنيسة رومية. وقد دعاه المجمع ثلاث مرات بموجب القوانين الكنائسية فخالف أمره وأبى السير إليه… فلأجل ذلك لاون الحبر الأقدس بواسطتنا.. قد نزع عنه درجة الأسقفية وعزله من خدمة الكهنوت، فالآن هذا المجمع المقدس يحكم في دعوى ديوسقوروس بما رسمته القوانين»([120]) كذا..

وأعلنوا هذا الحكم حالاً، فاحتجَّ قضاة المجمع على هذا الإستبداد وطلبوا سحب إعلان الحكم، فلم يفلحوا إذ قد جاء هذا الحكم مشبعاً لنهم بلخارية وزوجها مرقيان ورغبتهما الجامحة بالإنتقام من ديوسقوروس.

وها نحن اليوم نضع هذه الحوادث الشائنة، بل المهازل الدامية، أمام الضمير المسيحي النقي، نضعها مجردة من كل تعليق معتمدين بسردها كما ذكرنا، على تاريخ مجمع خلقيدونية من وضع الخصوم أنفسهم.

فما حكمكم على الحكم الجائر الذي صدر في جلسة سرية غير قانونية وفي موعد مخالف لما نص عليه المجمع في جلسته الأولى؟ ومن هيئة لا تمثل مجمعاً مسكونياً، بل أغلب أعضائها محكوم عليه في مجامع مسكونية سابقة قانونية لتمسكهم بعقيدة نسطور؟ وبعد حضور القضاة، ونواب الملك، والأساقفة الأرثوذكسيين، وصدر الحكم الزائف غيابياً رغم وجود المدعى عليه قريباً من مقر الجلسة وصدر بناء على تهم تثبت براءته منها في الجلسة السابقة بحضور المجمع بكامل هيئته. إذ اعترف المدعون آنذاك قائلين: «أخطأنا ونطلب الغفران» وحتى في هذه الجلسة لم يدعوا قط لا في تهمهم الباطلة ولا في حكمهم، بأن ديوسقوروس قد انحرف عن الإيمان القويم، أي المسألة الوحيدة التي تجيز الحكم على الأساقفة بالقطع، وقد أثبتوا براءة ديوسقوروس ومجمعه منها، واعترفوا بشرعية مجمع أفسس الثاني، دون أن يعرفوا، فمجمع أفسس كان قد أدان دمنوس أسقف أنطاكية وفلابيانوس أسقف العاصمة بذنب واحد، وهو الإقرار بالطبيعتين بعد الإتحاد الطبيعي الجوهري.

فإذا كان ما أجراه ديوسقوروس ومجمع أفسس الثاني في غير محله، فلماذا لم يردوا دمنوس إلى كرسي أنطاكية ويعزلوا مكسيموس وأناطوليوس؟ فإن رسامتهما على حسب ما قرروه كانت بالطبع غير شرعية([121]).

 

فمن مجرى حوادث جلستهم الأولى وهذه الجلسة غير القانونية، يظهر لنا غرضهم البغيض وأنهم قد أثبتوا براءة ديوسقوروس ومجمع أفسس الثاني من حيث يدرون، أو لا يدرون فحكمهم عليه ساقط بالبداهة.

وذكر بعض المؤرخين أن ديوسقوروس رغب في قراءة صورة إيمان المجمع الخلقيدوني، فأرسلت إليه، فتلاها أمام رهط من أساقفته وإذ وجدوها جميعاً مخالفة لأقوال الآباء القديسين وإيمان المجامع المسكونية المقدسة، كتبوا على هامشها من الجهات الأربع، ما يظهر فسادها، حارمين كل من يعتقد بها، ويتجاسر على تغيير العقيدة الأرثوذكسية الصحيحة أو يتلاعب بقوانين المجامع المسكونية([122]).

ثم أمر مرقيان بنفي مار ديوسقوروس إلى غنفرة في بفلاغونيا من آسيا الصغرى، وحاول الخلقيدونيون جهدهم إرغام أساقفة مصر الميامين على التوقيع على رسالة لاون وقرار مجمعهم، فأبوا وعزموا على أن لا يتزعزعوا قيد شعرة عن الإيمان الصحيح ولو قدّموا أعناقهم في سبيل ذلك.

وهكذا ارفضَّ مجمع خلقيدونية بعد أن غيّر الإيمان القويم وأيّد ضلال نسطور القائل بالطبيعتين للسيد المسيح بعد الإتحاد، قاسماً المخلص الواحد إلى اثنين، شاطراً الكنيسة الجامعة مشتتاً أبناءها بدلاً من أن يجمعهم ويوحدهم. فابتدأت منذ ذلك اليوم الشقاقات وعم التنافر بين الأحزاب، وما زالت الكنيسة حتى اليوم تعاني الآلام من جرّاء ذلك الإنقسام البغيض. كيف لا وقد أثير على أثره اضطهاد عظيم على من رفض مجمع خلقيدونية حتى أن فرطوريوس الذي اغتصب الكرسي الاسكندري، قتل بواسطة الجنود البيزنطيين أربعة وعشرين ألفاً ممن تمسكوا بإيمان الآباء القديسين، أغلبهم أساقفة وقسوس ورهبان([123]) وطرد بقية الأساقفة الأرثوذكسيين من كراسيهم وأقام مكانهم دخلاء. وقد بذلت الدولة الرومانية كل ما في وسعها من جهد، في العزل والنفي والتنكيل، لتجري قانون المجمع الخلقيدوني([124])، ولكنها باءت بالفشل الذريع. فإن الإيمان الأرثوذكسي لم تخمد جذوره في قلوب هؤلاء الأبطال الذين لم يرهبوا سطوة الرومان وقوتهم العسكرية حسبما شهد مؤرخو الخصوم أنفسهم([125]). واستهزأوا بالضيقات ولم يبالوا بالنفي والطرد، وكان في مقدمتهم من السريان البطريرك الأنطاكي بطرس الثاني الملقب بالقصار والقديس برصوم الناسك رئيس أديرة الشرق. وفيلكسينوس المنبجي وسويريوس الأنطاكي وغيرهم. وعقدت الكنيسة بعدئذ عدة مجامع حرمت فيها قرار مجمع خلقيدونية وطومس (رسالة) لاون. أخصها مجمع القسطنطينية المسكوني الذي انعقد سنة 476 بأمر الإمبراطور باسيليسكوس وحضره مار بطرس الثاني البطريرك الأنطاكي والقديس طيمثاوس الثاني البطريرك الإسكندري ونحو خمسمائة أسقف. ثم أصدر باسيليسكوس مرسوماً ضد المجمع الخلقيدوني ورسالة لاون، مثبتاً عقيدة الطبيعة الواحدة للسيد المسيح بعد الإتحاد([126]) وقّعه نحو سبعمائة أسقف([127]).

وفي سنة 482 انعقد مجمع آخر في القسطنطينية بأمر الإمبراطور زينون، وأصدر قراراً قبلته كل من أنطاكية والإسكندرية وأورشليم والقسطنطينية ووقع عليه نواب اسقف رومية، وأثبته الملك زينون (بالهنوطيقون) أي منشور الإتحاد الذي كتبه بإشارة أقاق البطريرك القسطنطيني ووجّهه إلى الأساقفة والمؤمنين في الإسكندرية وليبية والمدن  الخمس. جاء فيه: «نعلمكم أن أي بحث كان أو تحديد إيمان آخر كان خارجاً عن الأمانة التي قررها الآباء الثلاثمائة وثمانية عشر، فإننا نرفضه بل نجعله غريباً عنا، لأن هذه الأمانة غير معابة، وأنها مستقيمة وقد أيدها الآباء القديسون المائة والخمسون بالقسطنطينية واتّبعها آباؤنا القديسون الذين اجتمعوا مع القديس كيرلس وعزلوا المنافق نسطور وقبلوا أيضاً الإثني عشر فصلاً التي للطوباوي كيرلس. ونحن أيضاً نحرم نسطور وأوطيخا الخيالي وكل من ظن بأمانة أخرى خارجاً عن الأمانة التي سبقنا وأخبرنا عنها. ونعترف بأن الله الوحيد الجنس إلهنا وربنا ومخلصنا يسوع المسيح الذي صار إنساناً بالحقيقة، المساوي لله بحسب اللاهوت ومساوٍ لنا أيضاً بحسب الناسوت الذي تنازل وتجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء القديسة، هو ابن الله. وأما الذين يفرقونه أو يجعلونه إثنين أو يظنون فيه خيالاً أو امتزاجاً. فلا نقبلهم بالكلية لأن المولود من العذراء لم يزد ابناً آخر، لكن الثالوث ثبت ثالوثاً أيضاً من بعدما صار كلمة الله الواحد من الثالوث جسداً…»([128])

نستنتج مما سبق أن الإيمان بالطبيعتين الذي أقرّه مجمع خلقيدونية كان دخيلاً على تعاليم الكنيسة، أدخل إليها قسراً. فقاومه الآباء الميامين وقبل به على مضض بعض الأساقفة الجبناء، وعندما سنحت لهم الفرص أنكروه. دليلنا على ذلك أن هنوطيقون زينون السابق لم تقبل به كنائس أنطاكيا والإسكندرية فحسب بل وكنيسة القسطنطينية أيضاً. وهو لا يعترف إلا بإيمان المجامع المسكونية الأولى وبفصول كيرلس الإثني عشر التي تؤيد الطبيعة الواحدة لله الكلمة المتجسد.

ويطول بنا الشرح لو تتبعنا الحوادث التاريخية التي عقبت هذه الحقبة كيف تطور الجدل من الطبيعة والطبيعتين إلى المشيئة والمشيئتين، وكيف أن هرقل مثلاً في القرن السابع، اقترح أن يُترك البحث بعقيدة الطبيعة والطبيعتين، وأن يعمم الإعتقاد بمشيئة واحدة في الكلمة المتجسد، فوافقه أغلب الأساقفة ومنهم أنوريوس أسقف رومية الذي على أثر ذلك أرسل لسرجيوس بطريرك القسطنطينية يقول: «أنه من حيث المشيئة، يعترف بمشيئة واحدة في المسيح»([129]). والإعتراف بالمشيئة الواحدة ينقض التعليم بالطبيعتين.

وإن ما ذكرناه في هذه العجالة كافٍ لإقناع الباحث اللبيب بأن الإعتقاد بالطبيعة الواحدة لله الكلمة المتجسد إنما كان إعتقاد الكنيسة الجامعة منذ صدرها.

  • وحدة الإله المتجسد وآباء الكنيسة

لقد اعتقد آباء الكنيسة الأولون في جميع أجيالهم بوحدة الطبيعة لله الكلمة المتجسد كما ذكرنا، وتركوا لنا في هذا الموضوع أبحاثاً واسعة وشروحاً واضحة واعترافات صادقة نذكر في ما يلي بعضاً منها:

1ـ قال القديس غريغوريوس العجائبي (270 +) في كتابه عن الإيمان «الله الحقيقي الذي بغير جسد ظهر في الجسد وهو تام في اللاهوت الحقيقي الكامل، ليس له شخصان ولا طبيعتان ولا نقول أننا نعبد رابوعاً. الله، وابن الله، وإنساناً، والروح القدس»([130]).

2 ـ عندما وضع آباء مجمع نيقية قانون الإيمان النيقاوي المعروف عزوا الأمور الأزلية والزمنية، والأفعال الرفيعة والوضيعة معاً إلى الواحد هو السيد المسيح، فقالوا: «إله حق من إله حق.. نزل من السماء وتجسد.. وصلب… وتألم ومات ودفن وقام.. وصعد إلى السماء».

3 ـ قال القديس أثناسيوس الرسولي (373 +) في رسالته إلى الملك يوبيانوس «ينبغي أن نعتقد بطبيعة واحدة وأقنوم واحد لله الكلمة المتجسد المتأنس بالكمال. ومن لم يقل ذلك فإنه يخاصم الله ويحارب الآباء القديسين»([131]).

وقال في مقالته عن التجسد «أن غير الجسد والجسد، اشتركا بالاجتماع إلى طبيعة واحدة، وهو الله والإنسان معاً، وهو لا يقبل تغييراً ولا استحالة… بل أقنوم واحد ووجه واحد وفعل واحد وطبيعة واحدة لله الكلمة الذي صار جسداً»([132]).

4 ـ كتب يوليوس أسقف رومية (في القرن الرابع) في رسالته إلى ديونيسيوس أسقف قبرص يقول: «الذين لا يعترفون بالإله الذي نزل من السماء أنه تجسد من عذراء وأنه واحد مع جسده يذهبون في قول المنافقين الذين يقولون على ما بلغني أنه ذو طبيعتين. بالضرورة يلزم الذين يعتقدون بطبيعتين أن يسجدوا للواحدة ولا يسجدوا للأخرى»([133]).

وقال فيما قال في إحدى رسائله في موضوع (المساوي في الجوهر): «إننا لم نجد في الكتب الإلهية فرقاً بين الكلمة وجسده لكنهما طبيعة واحدة وأقنوم واحد وشخص واحد وفعل واحد جميعه الله وجميعه إنسان». وقال أيضاً: «إذا كان الفاعل واحداً فيكون الفعل واحداً أيضاً أعني حركة الفاعل»([134]).

5 ـ قال مار أفرام (373 +) شمس السريان ونبيّهم، في ميمره في جمعة الآلام: «قدّموا لذراع الخالق العظيم قصبة الهزء، وسمروا الشبر الذي مسح السماء على العود. أن الله كوَّن بمسيحه البرايا وقد سمر أولاد آدم اليدين اللتين جبلتا آدم. قام الله في المحكمة وقبل اللطم في دار الحكومة، نحن سمعنا أن الله لا يمكنه الاصطبار على سماع كلمة صغيرة وقد تعلق على العود فاغتاظت الموجودات. ولقد شربنا سلافة وارتكبنا العظمة».

6 ـ قال باسيليوس في تفسيره الآية القائلة «إن الرب خلقني»: (لسنا نقول عن الإبن الوحيد أنه إثنان. ولا نقول أن «اللاهوت» منفرد بذاته. ولا «الناسوت» بذاته بل نقول طبيعة واحدة وأقنوماً واحداً. لأن بطرس الرسول لم يذكر طبيعتين لكن اعترف وقال: «إن المسيح تألم من أجلنا بالجسد» وأيضاً من جهة ولادته بالجسد بشر الملاك الرعاة قائلاً: «إنه ولد لكم اليوم مخلص المسيح الرب»([135]).

7 ـ قال القديس غريغوريوس الثيؤلوغس «هو أقنوم واحد، طبيعة واحدة سجدت له المجوس، لأن وحدانية الله الكلمة ليست بعدد طبائع ولا أقانيم فقد ولد من عذراء، وحفظ أيضاً عذرتها وبتوليتها بلا تغيير… هو ابن واحد. ليس للمسيح طبيعتان بعد الاتحاد، ولا هو مفترق ولا مختلط في ما اجتمع من الجهتين، لأن طبيعة اللاهوت وطبيعة الناسوت اجتمعتا إلى وحدانية».

8 ـ وقال القديس الذهبي الفم في المقالة الثالثة من تفسيره رسالة أفسس: «ولكنني أبين الأمر أن الله الكلمة أخذ الإنسان كله من طبيعتنا وهو كامل في كل شيء، وله أقنومه فيه أعني الكلمة فلأجل هذا نقول عنه أنه طبيعة الكلمة الله واحدة، الله الكلمة صار جسداً».

9 ـ قال القديس كيرلس الإسكندري: «نعترف بأن ابن الله هو إله بالروح وابن الإنسان بالجسد، وليس طبيعتين لذلك الإبن الواحد أحدهما يسجد له والآخر لا، بل المتجسد طبيعة واحدة».

وقال في رسالته إلى ثيؤدوسيوس الملك «إننا لا نعري الناسوت من اللاهوت، ولا نعري الكلمة من الناسوت بعد ذلك الإتحاد الغامض، الذي لا يمكن تفسيره، بل نتعرف بأن المسيح الواحد، هو من شيئين اجتمعا إلى واحد مؤلف من كليهما، لا بهدم الطبيعتين، ولا باختلاطهما بل باتحاد شريف في الغاية».

وقال: «إنّ الطبيعتين اتّحدتا وإنّ الكلمة صار إنساناً وتجسد ونقول أن هذا الإتحاد طبيعي لنفي الغير الحقيقي والإضافي الذي لنا مع الله بالإيمان والقداسة، لأننا صرنا (شركاء الطبيعة الإلهية)» (2بط 1: 4)([136]).

 

وقال في رسالته إلى سوقينوس «إذا تأملنا الآن في المسير الذي لا ضرر فيه قائلين أن الطبائع قبل الإتحاد طبيعتان وأما بعد الإتحاد فلا نفرق الطبيعتين من بعضهما ولا نقول أنهما إبنان ولا نفصل ذلك الذي لم ينقسم، بل نقول إن الإبن واحد كما قال الآباء وكيان الله الكلمة المتجسد واحد»([137]).

وقال في الفصل الخامس من فصول الإثني عشر: «من يتجاسر ويقول أنَّ المسيح إنسان وقد سكن فيه الله ولم يقل أنه إله بالحق وابن واحد بالطبيعة لأنّ الكلمة صار جسداً (يو 1: 4) واشترك مثلنا في اللحم والدم (عب 2: 12) فليكن محروماً»([138]).

  • وحدة الإله المتجسد لاهوتياً

تعتقد الكنائس الأرثوذكسية الأنطاكية السريانية، والإسكندرية القبطية والأرمنية والحبشية، بطبيعة واحدة، وأقنوم واحد ومشيئة واحدة، وفعل واحد لله الكلمة الأزلي المتجسد بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير.

أما الكنائس اللاتينية واليونانية والبروتستانتية، فتعتقد بأن للسيد المسيح من بعد الاتحاد الطبيعي الجوهري الحقيقي طبيعتين، طبيعة لاهوتية تعمل ما يختص باللاهوت وطبيعة ناسوتية تعمل ما يختص بالناسوت.

فبينما تعترف كنيستنا باتحاد الطبيعتين لفظاً وفعلاً، تنادي الكنائس الأخرى بانفصالهما فعلاً وأن عمدت إلى اتحادهما لفظاً، وبذلك تفرق بين المسيح الإله والمسيح الإنسان، إذ تنسب للاهوت أفعالاً وللناسوت غيرها. كقول لاون الروماني في طومسه: «حقاً يأتي المسيح الإثنان الإله والإنسان الواحد يبهر بالمعجزات والآخر ملقى للإهانات»، بينما تنادي كنيستنا بأن كل ما يتعلق باللاهوت وكل ما يتعلق بالناسوت ينسب على حد سواء إلى الكلمة المتجسد دون تفريق، مستندة بذلك إلى حجج ساطعة، وبراهين قاطعة، كتابية، ومنطقية، وتاريخية، وإلى شهادة الخصوم أنفسهم.

ولكي نزيد هذا الموضوع العويص وضوحاً، لا بد لنا أن نعرف ما هي الطبيعة، وما هو الأقنوم، وما يقصد بالإتحاد الأقنومي الطبيعي.

عرّف الفلاسفة الطبيعة بقولهم الطبيعة: تطلق على ما هية الشيء (أي حقيقته وذاته) فقولنا طبيعة الله أي الله ذاته. أما الأقنوم فهو يطلق على قيام ذلك الشيء بذاته. أو بعبارة أوضح الأقنوم جوهري روحي شخصي لطبيعة قابلة الإشتراك بكثيرين شأنه يقيمها بذاتها ويحجر عن الإشتراك([139]) أي أنَّ الأقنوم هو الذي يميز الأشخاص من بعضهم فيميز بطرس من بولس وبولس من يوحنا.

والأقنوم، أعم من الشخص، لأن السريان يعرّفونه بأنه الجوهر المخصوص، أو الطبيعة المخصوصة بخاصة، فيتناول الخالق والمخلوق معاً. أما الشخص فيتناول المخلوق فقط. فإذا تخصصت الذات كانت أقنوماً سواء كانت ذات الباري أو غيرها، وإذا تعيّنت الصفة كانت شخصاً([140]).

وذكر العلامة مار غريغوريوس يوحنا ابن العبري (1286 +) في موسوعته اللاهوتية (منارة الأقداس) قال: في عرفنا نحن الكنيستين، كل جوهر طبيعة، وكل طبيعة جوهر لأن الطبيعة عندنا لا تحمل على الأعراض لكن الأعراض قائمة في الطبيعة، أما عند الخوارج فكل جوهر طبيعة، وليس كل طبيعة جوهر. فالأعراض نفسها في ذاتية طبيعتها عندهم مختلفة عن بعضها. والطبيعة عندنا وعند الخوارج، إما عامة أو خاصة، فالطبيعة الخاصة تسمى أقنوماً وعليه فلا يمكن للطبيعة أن توجد بدون أقنوم فعلاً، إنما في الكينونة فقط. أما الأقانيم الكثيرة فليس من المستحيل أن توجد في طبيعة عامة تجمعهم([141]).

وقال الأسقف ايسيدورس: «الطبيعة، بالقياس إلى المخلوقات المعقولة أو المحسوسة تعم وتخص فإذا عمت تناولت كل أفراد النوع كبطرس وبولس ويوحنا من نوع الإنسان، والفرس والسبع والحمار والقط من نوع الحيوان، وميخائيل وجبرائيل من نوع الأرواح، وإذا خصت تناولت الشخص أو الفرد الواحد من النوع كبطرس فقط من نوع الإنسان والفرس فقط من نوع الحيوان وميخائيل فقط من نوع المعقولات.

وقال أحدهم، (حيث يوجد الجوهر وجد معه الخصوص والعموم. فإن كل الخصوص كان الجوهر ذا أقنوم واحد. وإن كان العموم كان ذا أقانيم كثيرة).

وقال أيضاً: «الذات أو الطبيعة أو الجوهر بخاصة هي الأقنوم أو الشخص، ولهذا لا يمكن أن يكون جوهر أو طبيعة أو ذات بدون أقنوم بالفعل ما عدا في العقل»([142]).

  • ما معنى الإتحاد

الاتحاد عامة هو مصير شيئين أو أكثر شيئاً واحداً. أما الاتحاد في علم اللاهوت فهو اجتماع يحصل بدون تغيير في طبيعة الجوهر التي تكون متحدة أي لا يقبل في ماهياته التغيير ولا الاستحالة ولا التفاسد كاتحاد النفس بالجسد اللذين لا يشوبهما أدنى اختلاط أو امتزاج وكاتحاد النار بالحديد، والكهرباء بالسلك.

فكل من النفس والجسد يحفظ ما يخصه بالإتحاد الذاتي مثال ذلك، لو أن النفس استحالت إلى حيث الجسد، لعدم منها النطق والعقل وباقي الأفعال المختصة بها، وبقيت مثل الحيوان. وكانت تهلك عند الموت، وتصير تراباً. ولو أنّ الجسد استحال إلى حيث النفس، لكان لا يحتاج إلى أكل وشرب. فكل منهما حفظ ما يخصه بالإتحاد الذاتي. والنفس اللطيفة باتحادها بالجسد الكثيف تؤثر فيه ولا تتأثر منه، إذ أوصلت له ما لها من الحياة وشرفته عن طبع الحيوان بالعقل والنطق، فقام الإنسان من جوهرين، جوهر حيواني أرضي وجوهر سماوي فصار كياناً واحداً وجوهراً واحداً لاتحادهما الذاتي، فمهما وقع من الحوادث بجزء من هذا الكيان الواحد المركب من جزئين ينسب لكليته، مع أن بعض الأفعال لا تقع إلا بالنفس وغيرها لا تقع إلا بالجسم أو بجزء من أحد أجزائه المؤلفة له. ولكن لما كان مركباً وقائماً كياناً واحداً من الأجزاء المتحدة إتحاداً ذاتياً طبيعياً، فمهما نال أحد أجزائه أمراً ينسب للأجزاء الأخرى، كقولنا، يوحنا أكل أو شرب أو نام أو سالم مهندس أو محام أو ميت أو حي.

قال القديس كيرلس بطريرك الإسكندرية: «فأخذنا لنا مثالاً لاتحاد اللاهوت بالناسوت كاتحاد النار بالحديد، وأن كانا طبعين مختلفين، فباتحادهما صارا طبعاً واحداً. لا أن طبع النار استحال فصار حديداً، ولا أنّ طبع الحديد استحال فصار ناراً، بل نار اتحدت بحديد هي النار وهي الحديد… وأن الحديد إذا ضرب بالمرزبة هي النار المضروبة والحديد الذي يتألم. والنار لا يتألم([143]).

وقال أيضاً في رسالته إلى لوكيطس أسقف قيسارية: «يجب أن نأخذ لنا مثالاً من طبعنا نحن البشر لأننا مخلوقون من نفس وجسد وهما طبيعتان مختلفتان قبل الإتحاد، وباتحادهما صارا إنساناً واحداً بطبع واحد لم تتغير النفس عن طبعها باتحادها بالجسد، فصارت جسداً، ولا الجسد صار نفساً، بل النفس والجسد طبع واحد، وإنسان واحد([144]).

هكذا نفهم إتحاد اللاهوت والناسوت في المسيح الواحد. وهذا ما قصده الكتاب العزيز بنصوصه الإلهية، والآباء الأطهار بأقوالهم الشريفة وهذا ما يفهمه المنطق السليم ويؤمن به العقل. ولا يمكن أن نطلق التثنية على جوهرين بعد اتحادهما. فبعد اتحاد اللاهوت بالناسوت بطلت منهما التثنية في الأسماء. كما أن اتحاد النفس والجسد في الإنسان الواحد لا يقال لهما بعد الإتحاد حيوان وناطق بل حيوان ناطق. ولم نجد مثالاً أقرب إلى العقل من هذا تقريباً لاتحاد لطافة الكلمة بكثافة ناسوته. فبعد الإتحاد لا يقال الإنسان والإله، ولا الإله والإنسان، بل الإنسان الإله، والإله الإنسان. وبعبارة الكتاب المقدس «الإله الكلمة المتجسد».

  • وحدة الإله المتجسد والكتاب المقدس

مرَّ بنا سابقاً أن أتباع مجمع خلقيدونية بينما يعترفون باتحاد طبيعتي السيد المسيح، اللاهوتية والناسوتية لفظاً، ينادون بانفصالهما فعلاً. ويفسر اعتقادهم هذا ما ورد في رسالة (طومس) لاون القائل: «حقاً يأتي المسيح الإثنان الإله والإنسان، فالأول يبهر بالمعجزات والآخر ملقى للإهانات». هذا الإعتقاد بعيد عن روح الكتاب المقدس بعد الثريا عن الثرى. فكتاب الله العزيز لم يفرق بين طبيعتي السيد المسيح وأقنوميه. ونصوصه الإلهية تظهر جلياً وحدة الطبيعة للإله المتجسد، إذ تنسب له الأفعال الرفيعة والوضيعة معاً، وأحياناً تعزو فعل الأزلي للزمني والزمني للأزلي غير مميزة أو مفرقة أفعالاً من أفعال. والسبب في ذلك هو أن كل ما فعله السيد المسيح إنما يعزى إلى الواحد وهو الإله الكلمة المتجسدة.

1 ـ قال يوحنا اللاهوتي على لسان السيد المسيح، أنا هو الأول والآخر، الحي وكنت ميتاً، وها أنا حي إلى أبد الآبدين([145]). فالمتحدث هنا هو اللاهوت الأزلي الأبدي، ولكنه يقول أيضاً (كنت ميتاً) مع أنَّ موت الكلمة المتجسد لم يقع بالفعل على اللاهوت بل وقع على الناسوت. ولكن لفظة (أنا) في بدء الآية ونهايتها دليل قاطع على وجود الطبيعة الواحدة للكلمة المتجسد، وهي التي سولت للمتحدث أن يعزو الحياة والموت لذاته. ولا عجب فالكتاب المقدس يعزو الموت إلى النفس بسبب إتحادها بالجسد. مع أنَّ النفس الخالدة، والموت يقع على الجسد. فقد ورد في التوراة «فتعيّنون لأنفسكم مدناً تكون مدن ملجأ لكم ليهرب إليها القاتل الذي قتل نفساً سهواً»([146]) وكقول صاحب الأمثال «أما هم فيكمنون لدم أنفسهم. يختفون لأنفسهم»([147]) فلا تخرج عن أسلوب الروح وقوة الكتب المقدسة بقولنا أنَّ الإله تألم وصلب ومات ذلك لأنَّ اللاهوت والناسوت بعد الإتحاد الطبيعي الجوهري أصبحا واحداً.

2 ـ قال السيد المسيح «قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن»([148]) فالذي كان قبل إبراهيم هو اللاهوت لا الناسوت، لأنَّ الأزلية هي من صفات اللاهوت. ومع ذلك فالمتحدث هنا هو الناسوت الذي له بدء، والحديث يدل على أزليته التي هي من صفات اللاهوت. فلم يقل لاهوتي كائن بل (أنا كائن) وفي ذكر كلمة (أنا) عن ذاته دليل قاطع على وحدة الطبيعة في الكلمة المتجسد. (فأنا) بديهياً لا تقبل التثنية بتاتاً.

3 ـ قال الرسول بولس «لو عرفوا لما صلبوا ربَّ المجد»([149]) إنَّ الذي كان منظوراً على الصليب هو إبن الإنسان ـ الناسوت ـ ولكن الآية تقول أنَّ المصلوب هو ربُّ المجد نفسه، وهذه التسمية لا يمكن إطلاقها على إنسان بسيط، فرب المجد هو إله حق. وفي الآية منتهى الدقة بعد التعبير إذ أنَّ رب المجد الواحد في طبيعته وهو عينه صلبه اليهود. ولو صلبوا إنساناً بحتاً لما رافقتهم اللعنة في كل أجيالهم، ولكنا بعد في الخطيئة، ولما تمت الغاية من تجسد الإله الكلمة، والتي هي خلاص البشر من عبودية الموت والشيطان والخطيئة، إذ ليس من المقبول عقلاً أن يستطيع هذا الناسوت مهما كان طاهراً أن يمحو صكَّ المعصية الأولى لو لم يكن متحداً فعلاً باللاهوت، الذي أعطاه القيمة الكبرى التي تتناسب مع أهمية عمل الفداء وإيفاء العدل الإلهي حقه. وباشتراك اللاهوت مع الناسوت في الآلام والصلب والموت لم يتأثر جوهره. فالإنسان المركب من النفس والجسد، قد يقع على نفسه أحياناً بعض الآلام فيتأثر الجسد من ذلك ويمرض. وأحياناً تقع الآلام والأوجاع على جسد الإنسان كبتر أحد أعضائه فتشترك معه الروح في الآلام، وفي كلا الحالتين لا يمكن أن ينقص شيء من الروح في جوهرها بالرغم من أنَّ الجسم ينتابه النقصان، وعلى هذه الصورة يكون اللاهوت قد اشترك مع الناسوت في الآلام اشتراكاً أدبياً دون أن ينقص شيء من جوهره. وهذا ما فهمه الآباء القديسون وملافنة الكنيسة منذ العصور الأولى. قال مار اسحق الأنطاكي في ميمر له بالسريانية عن الإيمان: «إنَّ فخر الكنيسة هو أنَّ الإله مات على الصليب».

4 ـ وقال الرسول بولس أيضاً «إن كنا ونحن أعداء قد صولحنا مع الله بموت ابنه فبالأولى كثيراً ونحن مصالحون نخلص بحياته»([150]) أليس ابن الله إلهاً؟ فكيف يمكن أن يموت ابن الله؟ فالرسول لم يفرّق بين اللاهوت والناسوت بآيته هذه إذ يقول «إنَّ الله صالحنا بموت ابنه» أي موته بالجسد لأجلنا، وبذلك أثبت وجود الطبيعة الواحدة والفعل الواحدة للكلمة المتجسد.

5 ـ وقال يوحنا الإنجيلي «هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد»([151]) وهذه الآية لا تفرق شيئاً عن الآية السابقة فإنها تظهر محبة الله للعالم في بذل ابنه، ولا يمكن أن يقال أنَّ المبذول هو الناسوت فقط، لأنَّ المقصود في هذا  النص هو، ابن الله الوحيد. ولا يمكن أن يقال أنَّ المبذول هو لاهوت الإبن فقط، لأنَّ البذل وقع فعلاً على الناسوت. إذن تكون النتيجة أنَّ المقصود بذلك هو الإبن الكلمة المتجسد بطبيعته الواحدة وأقنومه الواحد.

6 ـ قال الرسول بولس «احترزوا إذاً لأنفسكم ولجميع الرعية التي أقامكم الروح القدس فيها أساقفة لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه»(أع 20: 28). فهل المقصود هنا هو دم الله؟ فالله روح والروح ليس له (لحم ودم). إذن هل تم عمل الفداء بدم الناسوت فقط؟ فما هي أهميته للعالم؟ ولماذا ينسب النص الدم لله؟ النتيجة أن الفداء تم بواسطة الإبن الكلمة المتجسد، ونسبة صفات إحدى الطبيعتين للأخرى، كما في الآية دليل قاطع على وحدة الطبيعة قولاً وفعلاً.

7 ـ قال يوحنا الإنجيلي عن السيد المسيح «ليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء»(يو 3: 13) فلقب ابن الإنسان أطلق على الإبن الكلمة بعد تجسده. والرسول هنا ينسب إليه النزول والصعود إلى السماء، وهما من عمل اللاهوت لأن الذي نزل من السماء هو لاهوته لا ناسوته الذي أخذ من العذراء مريم. إذن صح نسبة النزول والصعود إلى السماء إلى ابن الإنسان، لاتحاد أقنوم الكلمة الأزلي مع الجسد الزمني وصيروتهما طبيعة واحدة. وفي ذكر كلمة (الذي) عن ذاته دعم لما ذكرناه.

8 ـ قال بولس الرسول «يسوع المسيح هو هو أمس واليوم وإلى الأبد»(عب 13: 8) هذه الآية تشبه سابقتها إذ أنَّ لفظة (يسوع) هي الأسم الذي اتخذه الكلمة عند تجسده، والآية تنسب له صفة الوجود الدائم التي هي من صفات اللاهوت. وفي ذكر كلمة (هو) مكررة عن ذات يسوع، تأكيد الدليل على وجود الطبيعة الواحدة والأقنوم الواحد لله الكلمة ا لمتجسد.

9 ـ قال يوحنا الرسول «الإبن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبَّر»(يو 1: 18) فالإبن الوحيد الذي خبَّر هو الإنسان المنظور الذي رآه الإنجيلي وسمعه. والآن يقول عنه هنا إنه (هو) عينه موجود في حضن الآب. ولا يجوز أن يكون هذا الإبن الوحيد واحداً بالعرض بل بالجوهر. فإذاً بموجب النص والعقل هو واحد في الجوهر كما انه ابن واحد، له أقنوم واحد، وطبيعة واحدة. وفي ذكر كلمة (هو) مكررة عن ذات الإبن تأكيد الدليل على وحدة الطبيعة.

10 ـ عندما اعتمد الكلمة المتجسد من عبده يوحنا في نهر الأردن سُمع الصوت الإلهي من السماء موجهاً إليه قائلاً: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت»(مت 3: 17) فهل قصد بأنه بالناسوت فقط؟ لأن الناسوت كان يعتمد. والناسوت بمفرده لا يصلح أن يكون ابناً طبيعياً لله الآب. كما لا يمكن أن يقال أنّ المقصود هو لاهوت الإبن، لأن النطق الإلهي صدر عندما كان السيد المسيح قائماً في الماء، والحمامة نزلت على هامته… فالمقصود بذلك إذن هو الإبن الكلمة المتجسد بطبيعته الواحدة المتحدة.

11 ـ قال الرسول بولس «لأنَّ الله نفسه بنعمته ذاق الموت لأجل كل واحد لأنه لاقى بذاك الذي من أجله الكل وبه الكل وهو آت بأبناء كثيرين إلى المجد، أن يكمل رئيس خلاصهم بالآلام»(عب 2: 9 و 10) ([152]).

فالرسول بقوله «الله نفسه بنعمته ذاق الموت» لم يفرق بين اللاهوت والناسوت وبذلك يؤيد أن للسيد المسيح طبيعة واحدة وأقنوماً واحداً. ويدعم هذا القول الآباء القديسون فمار أفرام (373 +) يقول في ميمره الآنف الذكر عن الآلام: (لقد قدموا قصبة السخرية إلى ذراع الخالق العظيم، لقد سمروا على الصليب الشبر الذي قاس السماء. إنَّ الله بمسيحه برأ الخلائق وأبدعها. لقد سمر أبناء آدم اليدين اللتين جبلتا آدم، انتصب الله في الحكمة ولطمه العبد على وجهه. نحن لا يمكن أن تحتمل أسماعنا كلمة صغرى، والله معلق على الصليب، والخليقة مجلببة بالحداد). ويقول القديس كيرلس في حرمه الثاني عشر (من لا يعترف بأنَّ كلمة الله تألم بالجسد وذاق الموت بالجسد وصار بكر الأموات إذ هو حي ومحي هو الله، فليكن محروماً).

وقس على ذلك النصوص الآتية :

الذي نزل هو الذي صعد أيضاً فوق جميع السموات لكي يملأ الكل (اف 4: 11). رب واحد يسوع المسيح الذي به جميع الأشياء ونحن به (اكو 8: 6) ولكن لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من أمرأة مولوداً تحت الناموس (غل 4: 4) لذلك يقول إذ صعد إلى العلا سبى سبياً وأعطى الناس عطايا، وأما أنه صعد فما هو إلا أنه نزل أيضاً أولاً إلى أقسام الأرض السفلى، الذي نزل هو الذي صعد أيضاً فوق جميع السموات، لكي يملأ الكل (اف 4: 8 ـ 10) وبالإجماع عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد تبرر في الروح تراءى لملائكة كرز به بين الأمم أؤمن به في العالم رفع في المجد (اتي 3: 16) فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضاً الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبد صائراً في شبه الناس وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب (في 2: 6 ـ 8) الله بعدما كلم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثاً لكل شيء الذي به أيضاً عمل العالمين، الذي وهو بهاء مجده ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته، بعدما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا، جلس في يمين العظمة في الأعالي (عب 1: 31). وكانوا (بنو اسرائيل) يشربون من صخرة روحية تابعتهم والصخرة كانت المسيح (اكو 10: 4). لا تجرب المسيح كما جرب أيضاً أناس منهم فأهلكهم الحياة (اكو 10: 9) من أين لي هذا أن تأتي أم ربي إليَّ (لو1: 44). فإنه فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً (كو2: 9). منتظرين أرجاء المبارك وظهور مجد الله العظيم ومخلصنا يسوع المسيح الذي بذل نفسه لأجلنا لكي يفدينا من كل أثم (تي 2: 13) أنا والآب واحد (يو 10: 38) وأنَّ الآب فيَّ وأنا فيه، ومن رآني فقد رأى الآب الخ.

 

ومن هذه النصوص الإلهية العديدة يتضح لنا أن بين كلمة الله الأزلي والجسد المجبول بواسطة الروح القدس من القديسة مريم العذراء وحدة حقيقية طبيعية منزهة عن ا لتثنية والإنقسام.

هذا علاوة على أن في ولادة السيد المسيح الخارقة الطبيعة دليلاً قاطعاً على اتحاد لاهوته بناسوته قولاً وفعلاً. إذ قد استمرت بتولية العذراء بعد ولادته. وتمت بذلك نبوءة حزقيال القائل عنها: «هذا الباب يكون مغلقاً لا يفتح لأنَّ الرب دخل فيه»(حز 44: 2). فإذا اعتبرت الولادة مختصة بالناسوت فقط ـ حسب رأيهم ـ كان لا بد من افتضاض بكارة العذراء مريم. أما وقد استمرت بتوليتها كما كانت قبل الولادة، ففي ذلك برهان سديد على اتحاد اللاهوت بالناسوت قولاً وفعلاً. قال أحد الآباء سائلاً الذين يعتقدون بطبيعتين للسيد المسيح: (هل ولدت العذراء مريم إلهاً أم إنساناً؟ فإن قلتم إلهاً ضللتم لأنَّ الله لا يولد. وإنْ قلتم إنساناً، كانت أم إنسان لا أم إله، وذلك تنكرونه طبعاً. وإنْ قلتم ولدت إلهاً وإنساناً كانت أم إله وإنسان، فلها إبنان أحدهما إله والآخر إنسان وهذا قول ينقصه العقل ويزيفه. فإذاً لا يصح إلا أن تقولوا أنَّ الإله والإنسان صارا واحداً، ولذلك مريم ولدت واحداً. فالذي ولدته لا إلهاً بالإطلاق ولا إنساناً بالإطلاق، ولا إلهاً وإنساناً، بل إلهاً متأنساً وهذا هو الحق)([153]).

  • وحدة الإله المتجسد وخصوم الكنيسة

1 ـ جاء في تاريخ الإنشقاق للسيد جراسيموس مسرة للروم الأرثوذكس صحيفة 193 قوله (وكان معلمو الغرب على الغالب متفقين مع الإسكندريين في المنهج والتعبير كما يتضح من رسائل يوليوس بابا رومية إلى ديونوسيوس أسقف قبرص في أواسط القرن ا لرابع حيث ينكر الإعتراف بطبيعتين استناداً إلى قول الإنجيل) والكلمة صار جسداً، وقول الرسول بولس: رب واحد يسوع المسيح «ويعترف بطبيعة واحدة للاهوت غير المتألم والناسوت المتألم.»

جاء في كتاب (الإيمان الصحيح في السيد المسيح) الذي وضعه أحد أساقفة اللاتين، وترجم إلى العربية في رومة وطبع فيها أولاً ثم طبع في بيروت سنة 1864 قال ص 92 و 93: إنَّ الكنيسة الرومانية، تعتقد وتعلم بأنَّ المسيح هو طبيعة واحدة. كما تدون ذلك في المجمع اللاتراني المنعقد بأمر (القديس) مرتينو البابا سنة ستمائة وتسع وأربعين في القرن الخامس بهذه الألفاظ، (من لا يعتقد بموجب رأي الآباء القديسين أنه توجد طبيعة واحدة للإله الكلمة في المسيح خاصة وحقاً، دلالة على أنَّ المسيح أخذ جوهرنا كله كاملاً ما  عدا الخطيئة فليكن محروماً).

3 ـ وجاء في كتاب (مختصر المقالات اللاهوتية) لبيروني اليسوعي ترجمة الخوري يوسف الدبس الجزء الثالث ص 171 في ملاحظته على قول الآباء: «طبيعة واحدة للكلمة المتجسد» ما نصه: (فإن أريد أنهم يعلمون أن الطبيعة المتجسدة صارت واحدة بعد الإتحاد فأنا أسلم بذلك. وإن أريد أنهم يقولون ذلك في الطبيعة بالإطلاق فأنا أنكر).

وقد جاء أيضاً ص 183 من الكتاب نفسه ما يؤيد القول بالفعل الواحد للسيد المسيح إذ قال: «فأسلِّم أن المسيح أظهر فعلاً واحداً أو بالحري فعلاً جديداً تياندريكيا (مركباً) بسبب الإتحاد العجيب بين الطبيعتين واجتماعهما على الفعل الواحد».

4 ـ وجاء في كتاب «نظام التعليم في علم اللاهوت القويم» للبروتستنت المجلد الثاني ص 199، ما يتفق وعقيدتنا السمحاء، قال: (إن أعمال المسيح بعضها إلهي محض كالعجائب وبعضها بشري محض، كالأكل والشرب والنوم، وبعضها إلهي وبشري وهو ما يشترك في عمله الطبيعتان كعمل الفداء، ولا يخفى أن جميع تلك الأعمال هي أعمال شخص واحد وأن أعمال المسيح هي أعمال شخص إلهي وأن اختصت بطبيعة البشرية ولذلك يجوز أن تعتبر طاعة المسيح وآلامه، وإن كانت ليست طاعة وآلام الطبيعة الإلهية، إنها طاعة وآلام شخص إلهي… فإن نفس الإنسان لا يمكن أن تجرح ولا أن تحرق، ولكن متى أصاب الجسد شيء من ذلك نسبناه إلى الإنسان كله، وعلى هذا المبدأ نقول أنّ طاعة المسيح من الله، وأنّ دم المسيح دم إلهي، ومن ذلك نتج الإستحقاق غير المحدود وفاعلية عمله… وربما سمي شخص المسيح بإحدى طبيعتيه ونسب إليه من الأعمال ما هو خاص بالطبيعة الأخرى، فإنه في الكلام على تسليمه نفسه للموت سمي الله وابن الله ورب المجد، وسمي أيضاً الإنسان وابن الإنسان ونسب إليه من الأعمال ما هو خاص بسلطانه الإلهي فقط، ومن ذلك القول أنَّ ابن الإنسان هو الذي يغفر الخطايا، ورب السبت، وبقيم الموتى، ويرسل ملائكته ليجمع مختاريه).

5 ـ قال الارشمندريت فلايمير جيتي Guette الكاثوليكي في المجلد الخامس من كتابه (التاريخ الكنسي)، عن المجمع الخلقيدوني الذي قرر عقيدة الطبيعتين، قال ما نصه: (إنّ لقرارات المجمع الخلقيدوني من العبارات ما يمكن الخروج منها على بدعة نسطور، التي كان شبحها المفزع ما زال ماثلاً أمام العيون).

ويفصح هذا المؤلف أيضاً فيقول. (إنَّ العدد العديد من الأساقفة الذين امتنعوا عن الاعتراف بصحة المجمع الخلقيدوني، كان لهم العذر كل العذر في امتناعهم لأنّ قرارات ذلك المجمع الخاصة بالعقيدة، تخللتها عبارات قد تؤدي إلى التردي في البدعة النسطورية.) (جيتي مجلد 5 ص 46) (Guett T.5.P.46).

وقال أيضاً: (إنَّ لاون أسقف رومية كان مدفوعاً في نضاله الديني برذيلة الحسد التي كان يحجبها بالغيرة الكاذبة على الدين) (مجلد 5 ص 21).([154])

فمن الشهادات السابقة التي هي للخصوم أنفسهم، ندرك، ويدرك معنا كل من له ذرّة من الضمير الحي، بأن كنيستنا المقدسة لم تحد قيد شعرة عن إيمانها القويم الذي تسلمته من الرسل الأطهار والآباء الميامين، بل بقيت محافظة عليه، وثابتة على عقيدتها السمحاء منادية «بطبيعة واحدة لله الكلمة المتجسد» وقد بذلت في سبيل الحفاظ على هذه العقيدة القويمة الغالي والنفيس. وقدّمت ألوف الشهداء، مسجّلة لها في التاريخ صفحة ناصعة البياض في الجهاد المثمر، ونالت إكليل الغلبة بقوة ربها ومخلصها يسوع المسيح الذي وعد بأن يكون معها إلى الأبد وأبواب الجحيم لن تقوى عليها.

  • الخاتمة

هذا ما خَطَر لي أن أخاطبكم به في هذا المؤتمر الودي إجابة إلى رغبة ودعوة أعضائه الأفاضل، طالباً من الله أن يسدد خطواتنا جميعاً إلى ما فيه مجده تعالى وانتشار ملكوته السماوي. وأن يجمع الخراف المشتتة إلى حظيرة واحدة، هي حظيرة المسيح يسوع ربنا، مثبّتاً كنيسته المقدسة على صخرة الإيمان القويم.

إنه السميع المجيب آمين.

 

المصادر

باللغة السريانية

1 . الكتاب المقدس ـ العهد القديم والعهد الجديد.

2 . ميامر مار أفرام السرياني 373+ مخطوط.

3 . ميامر مار يعقوب السروجي 521+ مخطوط.

4 . ميامر مار اسحق الأنطاكي 460+ مخطوط.

5 . تاريخ مجمع أفسس الثاني (449).

AKTEN DER EPHESINISCHEN SANODE

VON JAHER 449 (SYRISCH) BERLIN 1917

6 . ميخائيل الكبير بطريرك أنطاكية 1199+. تاريخه الديني طبعة باريس 1899 ـ 1910.

7 . غريغوريوس يوحنا ابن العبري مفريان المشرق 1286+.

آ ـ منارة الأقداس (مخطوط)

ب ـ تاريخ البطاركة (مخطوط).

باللغة العربية

  • غريغوريوس يوحنا ابن العبري ـ تاريخ مختصر الدول طبعة بيروت 1958.
  • تاريخ مجمع خلقيدونية طبعة رومية سنة 1694.
  • سويريوس ابن المقفع أسقف الأشمونين ـ تاريخ المجامع.
  • الارشـمندريت جراسموس مسـرة ( تاريـخ الانشقاق) طبعة 1899 م.
  • موسيهم ـ تاريخ المسيحية القديمة والحديثة ـ ترجمة.
  • ا . ل تبشر ـ تاريخ الأمة القبطية وكنيستها ـ مصر 1900 م ـ ترجمة.
  • المطران يوسف الدبس  ـ تاريخ سوريا ـ بيروت 1893 ـ 1903.
  • الأسقف ايسيدوروس ـ الخريدة ا لنفيسة في تاريخ الكنيسة ـ عين شمس 1923 م. ج 1
  • الأسقف ايسيدوروس ـ المطاليب النظرية في المواضيع الإلهية.
  • المطران جرجس شاهين ـ نهج وسيم في تاريخ الأمة السريانية القويم.
  • القمص كيرلس الأنطوني (عصر الجامع) مصر 1952 م.
  • القس منسى يوحنا ـ تاريخ الكنيسة القبطية.
  • ميخائيل مينا ـ اللاهوت ثلاثة أجزاء.
  • المطران أدى شير ـ تاريخ كلدو وآثور بجزئين. بيروت 1912 ـ 1913.
  • الدكتور أسد رستم ـ تاريخ كنيسة مدينة الله العظمى أنطاكية 3 أجزاء.

البطريرك يعقوب الثالث ـ تاريخ الكنيسة السريانية الأنطاكية بجزئين ـ بيروت 1953 ـ 1957.


 

 

 

 

 

 

 

 

 

عقيدة طبيعة المسيح الواحدة

في الطقس السرياني)*(

 

الطقس طكسا لفظة يونانية معناها نظام أو ترتيب، وفي العرف الكنسي تطلق على شعائر الديانة وحفلاتها.

يعتبر الطقس السرياني رسولي الوضع والمنشأ ذلك أن أول ليتورجية وضعها مار يعقوب أخو الرب كانت بالسريانية الآرامية([155]) التي لا تزال لغة الطقس في الكنيسة السريانية.

ولم يكن الطقس السرياني حتى القرن الرابع سوى مجموعة مزامير داودية وأناشيد روحية وقراءات من الكتاب المقدس. ولما جاء القرن الرابع أخذ الطقس يجنح إلى مناهضة البدع والهرطقات، فرأينا القديس مار أفرام السرياني (373+) شـجـبـاً لمعاصريه من المبتدعين ينظم الميامر والمداريش([156]) يلقنها الفتيان والفتيات لإنشادها في الكنائس فدخلت الطقس الكنسي.

وبعد هذا العهد ظهرت بدع أخرى كانت أشد وطأة على الكنيسة مما سبقها كبدعة نسطور القائلة بالطبيعتين والأقنومين للسيد المسيح بعد الاتحاد، وبدعة اوطيخا القائلة بتلاشي الطبيعة الإنسانية في الإلهية، وبدعة المجمع الخلقيدوني القائلة بأقنوم واحد وطبيعتين بعد الاتحاد. فكان آباء الكنيسة ينظمون الأناشيد المناهضة لهذه البدع ويدخلونها الطقس الكنسي، مثال ذلك معانيث([157]) مار سويريوس الأنطاكي التي تظهر عليها صبغة لاهوتية واضحة. وأخذت من ثم سائر الفروض الطقسية عند السريان تنتظم وتترتب في أواخر المئة السابعة ثم أضيف إليها طرف في القرون التالية([158]).

ومن الواضح أن آباء الكنيسة لم يفصلوا العقيدة عن العبادة، ذلك أن العقيدة تعتبر جزءاً لا يتجزأ من الطقوس التي تعتبر حياة الكنيسة. فالغاية الأولى من استعمال الطقوس هي منح المؤمنين حياة ونمواً وبراً وقداسة بواسطة العبادة. ولا تكون هذه كلها كاملة ما لم تقترن بالعقيدة الصحيحة، لذلك أدخلت الكنيسة قانون الإيمان النيقاوي في العبادة اليومية. فأضحى الطقس الكنسي والحالة هذه مصدراً لاهوتياً هاماً لاشتماله على مجموعة آراء آباء الكنيسة الثقات.

وللكنيسة السريانية طقسان، غربي وشرقي.

1 ـ الطقس الغربي ويُستعمل في البلاد الخاضعة مباشرة للبطريرك الأنطاكي ويشمل تقاليد أنطاكية والرها ودير قنسرين وملاطية، ويمتاز بالاختصار.

2 ـ الطقس الشرقي: ويُستعمل في البلاد الخاضعة لمفريان المشرق الخاضع للبطريرك الأنطاكي، وهي بلاد ما بين النهرين السفلى، ويمتاز هذا الطقس بالإسهاب وكثرة المزامير، وتظهر فيه الصبغة اللاهوتية بأجلى مظاهرها حتى أنك لتجد فيه خطباً لاهوتية صرفة لمشاهير آباء الكنيسة كالقديسين أفرام السرياني ويعقوب السروجي وإيوانيس الذهبي الفم بعد كل فرض من فروض الصلاة في الأعياد، وبعد كل قومة من صلوات أسبوع الآلام. هذا فضلاً عن مزج حوادث وآيات الكتاب المقدس ببعض أبيات الأناشيد مما يناسب العيد أو المناسبة التي وضع الطقس لأجلها.

ولا يزال هذا الطقس مستعملاً في أبرشيات العراق السريانية، وسأعتمد هذا الطقس ببحثي موضوع عقيدة الكنيسة السريانية بالطبيعة الواحدة على ضوء الميلاد والعماد والآلام.

  • 1 ـ طقس الميلاد

تعتقد الكنيسة السريانية بأن اللّه الكلمة الأزلي نزل من السماء واتّخذ له من العذراء مريم جسداً بشرياً ذا نفس عاقلة ناطقة اتحد به اتحاداً حقيقياً ذاتياً طبيعياً أقنومياً، لذلك فهو طبيعة واحدة من طبيعتين وأقنوم واحد من أقنومين بدون اختلاط ولا امتزاج ولا استحالة.

وحيث أن اتحاد اللاهوت بالناسوت في المسيح يسوع صيره واحداً، لذلك فالطقس لا يميّز بين الكلمة المولود من الآب أزلياً والمولود من العذراء مريم زمنياً، فيقول بلحن (لنقف حسناً) مخاطباً السيد المسيح:

(من أجل محبتك الفائقة للجنس البشري تنازلت إلى الضعة البشرية واتحدت في العذراء بأقنوم بشري ذي نفس حية عاقلة وهكذا ظهرت إنساناً كاملاً نستعطفك).

ويقول في (معنيث):

(الذي ولد من الآب إلهياً وبدون ألم، هو بذاته ولد من العذراء جسدياً وبدون ألم أيضاً، إذ هو واحد من اثنين أي من اللاهوت ومن الناسوت. لهذا الواحد سجد المجوس وبواسطة قرابينهم أعلنوا بصمت أنه الإله. فقدّموا له اللبان اعترافاً بألوهته والذهب إقراراً بملكه والمرّ إشارة إلى موته مانح الحياة، ذلك الذي من أجلنا اقتبل الآلام بإرادته الذي وحده محب البشر).

وجاء في (مدراش) بلحن (مقتول في مصر خروف الفصح) ما يلي:

(إنك في أبيك حقاً وفي مريم بدون أي شك، وعلى المركبة وفي المذود الوضيع، إنك في كل مكان وأنت الخالق وأنت في الكل لأنك الجابل، أنت من الآب وأنت من مريم وأنت واحد أنت، أنت هو الذي أتى وسيأتي بمجده هللويا).

وبلحن (القوقاي) يقول الطقس على لسان المصلي:

(إذا أنكرتُ ولادتك أكون محروماً، ومن يرتاب بميلادك فليكن مقطوعاً، أعترف يا ربي بأنك من الآب، وأؤمن بأن مريم قد ولدتك، إنك من الآب ومن مريم دون ريب أو شك، إنك واحد ويدعونك واحداً، مبارك الآب الذي أرسلك)

ومما يبرهن على حقيقة الطبيعة الواحدة للّه الكلمة المتجسد تسمية الكنيسة للعذراء مريم بوالدة الإله، وهذه الحقيقة يأخذها الطقس بصورة جميلة فيقول في (معنيث):

(إن اشعيا الذي سبق فأشار إلى الولادة من والدة الإله مريم بدون زرع، ذلك الميلاد الذي صار بعجب واندهاش، هتف بصوت عال وقال هوذا العذراء تحبل وتلد… ولما تأمل بذلك المولود وعرف أنه ابن أزلي من الآب، وهو نفسه صار جسداً بدون تغيير. قال بنبوته لقد ولد لنا ولد وأعطينا ابناً الذي هو أيضاً ملاك العهد العظيم ومشير عجيب وكما سمّاه أيضاً إلهاً قوياً. إذن كيف لا تكون والدة الإله، تلك التي ولدت الإله القدير؟ الويل لغير المؤمنين والبلهاء والأغبياء، يا من أدركتم هذا كله وسجدتم معنا قولوا المجد لك).

وفي (معنيث) آخر يقول:

(الوحيد من الوحيد الذي ولد إلهياً وبدون ألم قبل كل الدهور، كلمة الآب، إنه وحده ولد متجسّداً من الأم وحدها، ذلك الذي بميلاده لم يفض أختام بتوليتها لذلك أظهر أنها والدة الإله لأنه لم يتغيّر عندما شاء وصار إنساناً).

  • 2 ـ طقس الدنح أي عماد الرب

تتجلى في طقس الدنح عقيدة كمال كل من الطبيعتين الإلهية والإنسانية واتحادهما اتحاداً طبيعياً في المسيح يسوع الإله المتجسّد. فيظهر لنا المعتمد كإنسان بسيط متواضع جاء مع المذنبين إلى يوحنا المعمدان ليقتبل منه العماد في نهر الأردن وفي الوقت نفسه يظهر لنا كإله ممجّد قوي وابن طبيعي للّه الآب بشهادة الآب له من السماء بقوله «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت».

فالذي كان واقفاً أمام يوحنا يقتبل العماد هو نفسه الذي أعلن عنه الآب أنه ابنه الحبيب وهو الذي حلّ عليه الروح القدس بشبه حمامة ليميّزه عن بقية الناس ويعلن أنه ابن اللّه.

فيقول الطقس بلحن (المسيح اعتمد):

(رأتك المياه فارتعدت والأعماق خافت وارتعشت تهيباً من جلالك ورشت الغمام ماء على النهر كي يتبارك من غسلك المقدس).

وبلحن (طروفوريون) يقول الطقس على لسان المصلي:

(في الوقت الذي لم تغادر فيه حضن الآب يا رب أتيت لزيارتي بجسد ذي نفس حية وحّدته بك، فلا تفصل إلى طبيعتين بنوع ما أبداً).

ويقول في (معنيث):

(إن الكلمة خالق الكل الذي صار ابن الإنسان حقيقة بدون تغيير… وهو ابن طبيعي للّه الآب كما شهد الآب من العلى بصوته، وهو واهب الروح اقتبل حلول الروح القدس… غير المحتاج تراءى كمحتاج وسمي آدم الثاني وأصبح لنا باكورة في كل شيء).

وفي (معنيث) آخر:

(لقد اعتمد يسوع الإله الكلمة مخلصنا لا لحاجته إلى العماد بل لأجل تطهيرنا، فلنصغِ ونسمع قول يوحنا «أنا محتاج أن أعتمد منك وأتطهّر، وأنت يا سيدي أتيت إليّ، فعندما نرى إخلاءه من أجلنا يجب أن لا نضل ولا نظن أن ذلك نقص في الألوهة، ذلك الذي هو قادر أن يظهر المعمّد كيف يمكن أن يحصى في عداد بقية المتطهرين؟ فمن أجل هذا ينبغي أن نقدّم لتنازله مجداً لا يقاس ونهتف جميعاً المجد لك يا سيد الجميع يا كثير الرحمة).

ويقول الطقس في خطبة مار إيوانيس فم الذهب:

(… أنت إله حقيقي لبست جسداً من أجل خلاصنا دون أن تتغير من كونك إلهاً. أنت الكلمة الذي عند اللّه منذ البدء… أنت شعاع مجد الآب أنت اتّخذت من الجنس الذي أغضبك جسداً بلا دنس ولا خطية… ولئن اجتجبت بحجاب جسدي طاهر، فإنني أبتهل إلى ربوبيتك واعترف بألوهتك).

  • 3 ـ طقس الآلام

يشخّص طقس الآلام عقيدة الكنيسة في تألّم الإله المتجسّد وموته على الخشبة مصلوباً، ذلك أن الكنيسة تعتقد بأن الآلام ولئن وقعت على الناسوت الذي وحده قابل الآلام، ولكن اللاهوت كان متحداً به اتحاداً طبيعياً غير قابل للانفصال لذلك فالآلام تنسب إلى كليهما معاً. فوحدتهما تجعلنا أن نعزو إلى الواحد ما نعزوه إلى الآخر فنقول تألم الإله على الخشبة ومات، فالفادي الذي مات لأجلنا لم يكن إنساناً بحتاً لأن دم إنسان بحت لا يستطيع أن يكفّر عن خطية آدم غير المتناهية. لذلك فالأمور الرفيعة والوضيعة تعزى إلى الواحد الوحيد الإله الكلمة المتجسّد، فيقول الطقس في (معنيث):

(أيها المسيح إلهنا عندما كنت تصلي لتعبر عنك كأس الموت المؤلم كان الرسل القديسون قد ناموا من شدة وطأة الألم والضيق، وجمهور الملائكة كانوا متعجبين قائلين إن الذي هو جالس في الأعالي ويقبل الصلوات كلها واقف الآن ويتضرع، المجد لتدبيرك من أجلنا، المجد لك يا سيد الكل).

 

وبلحن (قانون ـ بصلاة والدتك) يقول:

(صرخ الله على الصليب عوض آدم الذي فقد مجده وقال لماذا تركتني وابتعدت عني يا خلاصي… من هو هذا الذي علق على الخشبة في الجلجلة وجرى منه دم وماء كفارة عن الخطايا؟… لقد احتاط الأشرار بالإله وثقبوا يديه ورجليه وطعنوا جنبه بالحربة فجرى دم وماء).

وبلحن (القوقاي) يقول:

(صعد الإله إلى الصليب وذاق الموت ونزل إلى الهاوية إلى عند الأموات ودكّ أسوارها العالية وكسر الأبواب والأمخال النحاسية وأحيى آدم صورته التي فسدت).

وفي أبيات (الحاش) يقول:

(أمال رأسه فوق الخشبة وأسلم روحه بيد أبيه ذلك الذي نفخ روحاً في آدم عندما خلقه ولم يفهم الشعب الكافر من صلبوا).

ويظهر لنا الطقس كمال ناسوت الإله المتجسد ولاهوته في ميمر لمار يعقوب السروجي حيث يقول:

(أيها الكافر الذي ينكر جسد ابن اللّه (أسألك) على من وقعت آلام الصليب إذن؟ وأنت أيها اليهودي الذي تقول إن المصلوب كان إنساناً بحتاً، (أسألك) من الذي أيقظ الأموات بصوته إذن؟ يا مرقيان إذا كان اللّه قد مات دون جسد فبمن دقت مسامير الألم جسدياً؟ وأنت أيها الصالب إذا كان آباؤك قد صلبوا إنساناً بحتاً فمن استأصل مدينة ابراهيم العظيمة؟.. وأنت أيها الصالب الذي مسك بيديه الناسوت وبّخ مرقيان الذي أنكر الجسد خطأً… فإننا نعرفه واحداً بألوهته وبناسوته، وقد ثبت لنا ذلك بصلبه إذ كان يمارس الأمور الرفيعة والوضيعة معاً… صعد إلى الصليب وارتعدت المخلوقات بطبعها وإنه لصعب جداً أن يأتي إنسان بمثل هذا. ثم عاد فأسمع صوت تنهدات الآلام التي كان يتحمّلها تحقيقاً لناسوته الذي اتخذه من ابنة داود… أيتها الكنيسة المفتداة اسجدي للمسيح برأي واحد، اسجدي حقاً لابن اللّه الذي خلّصك بدمه… فلتأتِ الكنيسة ولتظهر الحق للكاذبين ولتعترف علناً بألوهته وناسوته).

ويثبت الطقس حقيقة عقيدة الكنيسة بأن اللاهوت لم يفارق لحظة واحدة لا النفس ولا الجسد في أثناء الصليب والموت، فيقول بلحن (القوقاي):

(قال نيقوديموس ليوسف الرامي أريد أن أشاركك (في دفن) جسد العلي… فإن لي دهناً ثميناً أمسح به جسد ذلك الذي خلق السماء والأرض وجميع الكائنات).

وفي (سوغيث: الشعب والشعوب) يقول:

(لماذا لا تتأمل يا صاح لترى مدى قوته؟ لقد تفتحت القبور وتشققت الصخور. فلو كان إنساناً بحتاً لما حدث هذه كله).

ويقول في (طلبة) لمار أفرام:

لقد دخل الإله وحلّ في القبر كإنسان وأظهر في عظام الأبرار قوة ألوهته فعرفوه بأنه سيأتي ويقيم أجسادهم من التراب فهتفوا مجداً لنعمته لأنه تنازل لافتقادهم).

ومن أهم ميزات طقس الآلام تلاوة (التقاديس الثلاثة) بعد خدمة دفن الصليب وهي ( قدوس أنت يا اللّه قدوس أنت أيها القوي قدوس أنت غير المائت يا من صُلبت عوضاً عنا ارحمنا) ويتضح من معنى هذه الصلاة أنها ترفع إلى الأقنوم الثاني من الثالوت الأقدس فقط لكونه تعالى تأنّس وهو الإله ولبس جسدنا الضعيف وهو القوي ومات بالجسد وهو حي لا يموت. وهذه الصلاة قديمة في الكنيسة نسبها بعضهم إلى مار إغناطيوس النوراني بطريرك أنطاكية([159]) (107+). وفيها يتضح اتحاد اللاهوت بالناسوت في الإله المتجسّد.

هذا ما عنّ لي أن أكتبه في موضوع عقيدة طبيعة المسيح الواحدة في الطقس السرياني محاولاً إعطاء فكرة عامة عن مدى أهمية الناحية اللاهوتية في طقس الكنيسة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مـأســـاة الصليب )*(

 

تتجّه أبصارنا وبصائرنا، يوم الجمعة العظيمة، إلى هضبة الجلجلة، خارج أسوار مدينة أورشليم «قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها» (مت 23: 37)، ونتخيّل برهبة وخشوع يسوع الناصري القدوس معلّقاً على الصليب، بين لصين زنيمين قبل عشرين قرناً، لا لذنب اقترفه، أو جريمة ارتكبها، فهو البارّ المعصوم من الخطأ. بل لأنه شاء بملء إرادته الإلهية أن ينوب عن البشرية الخاطئة، ليكفّر عن خطية أبوينا الأولين آدم وحواء.

أجل! كانت الخطية الجدية قد عمّت الجنس البشري كله، لأن آدم كان ينوب عن نسله، وكان على رجاء الربح كما كان في خطر الخسارة، عندما جرّبه إبليس في الفردوس، وإذ هوى في وهدة الخطية، سقط معه الجنس البشري كله. وحيث أن الشريعة الطبيعية العامة والعادلة تقضي أن يكون عقاب الخطية عظيماً أو زهيداً بالنسبة إلى الشخص الذي توجّه ضده، لذلك لم يكن بإمكان البشر كافة ولا حتى الملائكة أن يكفّروا عن خطية آدم وحواء، لأنها كانت موجّهة إلى اللّه الأزلي غير المتناهي، وهؤلاء جميعاً متناهون، لذلك اقتضى للتوفيق بين عدل اللّه ورحمته أن يتجسّد الابن الأزلي الذي هو معادل للآب، بل هو والآب واحد، وحيث أنه قد كتب في الكتاب المقدس أيضاً: «بدون سفك دم لا تحصل مغفرة» (مت 23: 37)، فالمسيح الإله المتجسّد، هو البديل الوحيد الصالح الذي توفّرت فيه شروط الذبيحة الكفارية المقبولة لدى اللّه الآب، ولذلك، وبإرادته الإلهية، مات بالجسد، باذلاً ذاته بسفك دمه الزكي الثمين على الصليب «لأنه هكذا أحبّ اللّه العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كلّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية» (يو 3: 16). فبإرادة اللّه الآب والابن والروح القدس تمّ بذل ابن اللّه الوحيد ذاته ومات بالجسد، لخلاص العالم، وبهذا الصدد قال الرب يسوع: «والخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم» (يو 6: 5)، وقد سلّم جسده ودمه الأقدسين ليلة آلامه لتلاميذه على شكلي الخبز والخمر، قبل أن يُسلّم إلى صالبيه ليموت على الصليب. وقال لتلاميذه عن جسده المقدس: «هذا هو جسدي الذي يبذل عنكم» (لو 22: 19)، وقال عن دمه الطاهر: «الذي يسفك عنكم» (لو 22: 20). بهذه العبارات أعلن لنا الرب أنه بذل عنا جسده المقدس الذي علق بعدئذ على الصليب ومزقته المسامير والحربة.

لقد أنبأ يسوع تلاميذه عن موته على الصليب ودفنه في القبر الجديد وقيامته من بين الأموات، قائلاً: «أنه ينبغي أن يذهب إلى أورشليم ويتألم كثيراً… ويقتل» (مت 16: 21)، وبهذا يكشف لهم عن زمن آلامه وموته، ومكانه، وكيفيته، بقوله: «تعلمون أنه بعد يومين يكون الفصح وابن الإنسان يسلّم ليُصليب» (مت 26: 2). ولمّا دهنت المرأة الخاطئة التائبة قدميه بالطيب قال: «إنها فعلت ذلك لأجل تكفيني» (مت 26: 7 ومر 14: 3 ويو 7: 35)، فبملء إرادته حمل الرب يسوع الصليب الذي مثّل خطية العالم كله، وعلّق عليه ومات، واعتبر ذلك مجداً كما أعلن قبل ذلك بقوله: «قد أتت الساعة ليتمجّد ابن الإنسان» (يو 12: 23)، وكان يدرك مرارة كأس الموت التي قدمت إليه، ولكنه كان يدرك أيضاً وجوب تناولها من يد أبيه السماوي فقد قال: «الكأس التي أعطاني الآب أشربها» (يو 18: 11)، ورفض يسوع شرب الخلّ الممزوج بمرارة الذي قدّم إليه وهو على الصليب لتخفيف آلامه ليتجرّع كأس آلام محبته للبشر حتى الثمالة على الرغم من مرارتها، فتتمّ بذلك نبوة أشعيا عنه: «لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحمّلها» (اش 53: 5).

أجل! إن بين المسيح يسوع وصليبه علاقة متينة لا تنفصم عراها، فالصليب بالنسبة إليه هو هدف تدبيره الإلهي بالجسد، ولم يتقابل معه صدفة، ولا واجهه لأول مرة يوم الجمعة العظيمة، بل ظهر الصليب منذ لحظة بشارة الملاك جبرائيل للعذراء مريم بالحبل به، وسيبقى الصليب رايته المقدسة حتى مجيئه الثاني. فيوم بشّر الملاك العذراء بالحبل به أطلق عليه اسم «يسوع» أي المخلّص (لو 1: 31)، وعندما ظهر الملاك في الحلم ليوسف خطيب العذراء ليطمئنه عن طهرها قال له: «إنّ الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس، وستلد ابناً وتدعو اسمه يسوع لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم» (مت 1: 20و21)، ويوحنا المعمدان دعاه «حمل اللّه الذي يرفع خطية العالم» (يو 1: 29). حقاً لقد حمل الرب يسوع خطية العالم ورفعها معه على الصليب، ومات، وبموته منحنا الحياة، وقام من الأموات، وأقامنا معه. وحتى بعد قيامته بقيت آثار آلامه المحيية ثابتة، آثار المسامير في يديه ورجليه وآثار الحربة في جنبه، وستبقى إلى الأبد برهاناً ساطعاً على محبته للبشر وتحمّله الآلام والموت على الصليب لأجل خلاصهم، وهي تؤكّد الارتباط الأبدي الذي بينه وبين صليبه الذي هو رمز المحبة والسلام، لذلك عندما ظهر الرب يسوع لتلاميذه في العلية عشية قيامته وقف في وسطهم «وقال لهم سلام لكم، ولمّا قال هذا أراهم يديه (المثقوبتين بالمسامير) وجنبه (المفتوح بالحربة)» (يو 20: 19و20). وكان زكريا النبي قد قال على لسانه: «فيقول له: ما هذه الجروح في يديك؟ فيقول: هي التي جُرحت بها في بيت أحبائي» (زك 13: 6)، إنه يدعو الذين أسلموه للموت أحباءه، هؤلاء الذين أحبّهم المسيح أبغضوه مجاناً، فاضطهدوه وعذّبوه، وأخيراً علّقوه على العود، ظناً منهم بأنهم قد تخلّصوا من توبيخه إياهم على معاصيهم وقساوة قلوبهم وغلاظة رقابهم وعبادتهم المادة دون اللّه، وأرادوا أن يلحقوا به اللعنة حسب ظنهم الفائل، لأنه مكتوب لديهم «ملعون كل من علق على خشبة»، ولكن المسيح حوّل لعنة الصليب إلى بركة إلهية للبشرية (غل 3: 13). ولما ارتفع على الصليب صالح الأرض مع السماء، والسماء مع الأرض، وأقام الصلح بين اللّه والإنسان، والمسيح حمل اللّه الذي رفع خطايا العالم سيبقى أبد الدهر كما شاهده يوحنا الرائي في وسط العرش في السماء «خروفاً قائماً كأنه مذبوح» (رؤ 5: 6)، وستظهر علامة صليبه المقدس في السماء يوم مجيئه الثاني (مت 24: 30)، فإنّ علامة الصليب بعد صلب المسيح غدت موضع فخر المؤمنين به، لأن المسيح حوّل لعنة الصليب إلى بركة (غل 3: 13) وأصبح الصليب رمز التضحية ونكران الذات، ووضعه الرب يسوع شرطاً أساسياً للتلمذة له بقوله: «إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني» (مت 16: 24)، فيحقّ للمخلّصين بدم المسيح أن يقولوا مع الرسول بولس: «أما من جهتي فحاشا لي أن افتخر إلاّ بصليب ربنا يسوع المسيح الذي به قد صلب العالم لي وأنا للعالم» (غلا 6: 14).

أجل، على الصليب تمّت غلبة الإنسان على الخطية والموت والشيطان، بوساطة يسوع المصلوب الإله المتجسّد «الذي أطاع (أباه) حتى الموت، موت الصليب» (في 2: 8)، الذي خلّص شعبه من خطاياهم وهكذا تمّ ما قرّره اللّه في البدء عن نسل المرأة الذي يسحق رأس الحية، فقد تمّ الخلاص بوساطة يسوع المصلوب. وعلى الصليب نادى: «قد تمَّ» أي قد تمَّ الخلاص، وتمّت النبوات بحذافيرها بموته على الصليب الذي يعني غفران الخطايا، فقد أمات الموت بموته، ومنح الحياة للبشر، وتبيّن عمق محبة اللّه لنا لأننا «ونحن خطاة مات المسيح لأجلنا» (رو 5: 7و8).

ففي هذا اليوم المبارك، ونحن نحتفل بذكرى مأساة الصليب، نحن في حالة مواجهة مع المصلوب وصليبه، فقد صُلب بإرادته من أجل خلاصنا، وصالحنا مع أبيه السماوي، إذ غفر لنا ذنوبنا ماحياً صكّ الخطايا، فبرّرنا وقدّسنا وأعادنا إلى رتبة البنين… «فإذ تبرّرنا بالإيمان لنا سلام مع اللّه بربنا يسوع المسيح» (رو 5: 1)، وهذا السلام لا يبقى ثابتاً ما لم نثبت بالإيمان بالمسيح الفادي، ونقبل عمل الفداء بإيمان متين، وما لم نجدّد علاقتنا باللّه أبينا السماوي الذي «أحبّنا وبذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية» (يو 3: 16).

إنّ سرّ قوة الصليب هو استمرار استحقاقات صلب المسيح عليه، فهل نحن متمتّعون ببركات الصليب واستحقاقات دم المسيح فادينا الذي سفك دمه على الصليب لأجل خلاصنا؟.

وهل حملنا صليبه وتبعناه في طريق الجلجلة كتلاميذ له صالحين؟ لقد دفنا معه بالمعمودية للموت حتى كما أقيم المسيح من بين الأموات بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضاً في جدة الحياة (رو 6: 4). فالحياة الجديدة هي حياتنا بالمسيح وحياة المسيح فينا، فرسالة هذا اليوم يوم الجمعة العظيمة ذكرى ماساة الصليب هي أن يقول كل واحد منا بإيمان متين وتصميم على ترجمة القول بالعمل كما قال الرسول قبل عشرين قرناً: «مع المسيح صلبتُ فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ، فما أحياه الآن في الجسد إنّما أحياه في الإيمان إيمان ابن اللّه الذي أحبّني وأسلم نفسه لأجلي» (غلا 2: 20).

وما أروع وأبدع ما أنشده ملفان الكنيسة العظيم، القديس مار يعقوب السروجي (+521) وهو يتخيّل مأساة الصليب فيرى بعين الروح المسيح يسوع معلّقاً على الخشبة يتألّم ويموت ليفي العدل الإلهي حقّه بذبيحته الكفارية، فيخاطب الملفان الآب السماوي قائلاً: «يا أبا الحقّ، هوذا ابنك قد صار ذبيحة ليرضيك، فتقبّل ذلك، فقد مات من أجلي لأنال به المغفرة. وسفك الأثمة دمه على الجلجلة، وهو يشفع فيَّ لديك فتقبّل طلبتي إكراماً له. لو عقدت المقارنة بين وزن مآثمي وبين مراحمك، لرجحت كفّة حنانك على كفّة الجبال التي وزنها معروف لديك. تأمل (يا إلهي) الخطايا، ثمّ تأمل الضحية التي قُدّمت عنها، ترَ أن الضحية والذبيحة أعظم بكثير من الخطايا. لأنني أخطأت تحمّل حبيبك (آلام) المسامير والحربة. إنّ آلامه كافية لترضيك، وبوساطتها أنال الحياة»، آمين.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أسبوع الآلام المحيية

في كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية )*(

 

  • تمهيد:

إن كلمة طقس يونانية الأصل، استعملت باللغة السريانية ثم عرّبت، وهي تعني النظام والترتيب، ويراد بها في المصطلح الكنسي، مجموع صلوات نظمت خصيصاً لتتلى في احتفال ديني معين، وتكون غالباً مقرونة بحركات ومراسم وطرق لائقة بعبادة الله، تدلّ على تكريم المؤمنين إياه تعالى، مثل رسمهم علامة الصليب على أنفسهم، وانحناء الرأس والسجود والركوع أثناء الصلاة والطواف أي الدورة في الكنيسة كلها أو في المذبح، وتبخير المذبح أو الصور أو الشعب وغير ذلك من الحركات والطرق التي يشير كل منها إلى أمور روحية سامية إذ تمارس بترتيب ونظام وتكريم واحترام أمام اللّه الذي «ليس هو إله تشويش بل إله سلام» (1كو 14: 33) على حد قول الرسول بولس. أما لغة الطقس الرسمية في كنيستنا فهي اللغة السريانية الآرامية، التي كانت لغة السيد المسيح ورسله الأطهار ولغة سورية القديمة، وتعدّ أسفار الكتاب المقدس بعهديه أهم الكتب التي تستعمل في الطقس البيعي، وتتلى اليوم باللغات المحلية إلى جانب اللغة السريانية بترجمتها البسيطة الخاصة (فشيطةا) التي استعملتها كنيستنا منذ القرن الأول وأوائل القرن الثاني للميلاد وإلى الآن. وقد رتّب آباؤنا الميامين فصولها على مدار السنة تبعاً للمناسبات الطقسية. والكتب الطقسية التي تلي الكتاب المقدس أهمية هي كتاب الإشحيم وهو مجموعة الصلوات الأسبوعية البسيطة وكتاب الفنقيث بأجزائه، ويتضمّن الصلوات القانونية التي تتلى أيام الآحاد والأعياد، وكتاب المعذعذان ويتضمّن رتب التبريكات والدورات أي الطوافات أيام الأعياد، وكتاب القداس (النافورا) للكاهن والشماس وكتاب الرسامات الكهنوتية وأنواع التقديسات كتقديس الميرون ومسحة المرضى وغير ذلك.

وقد اقتبست الكنيسة المسيحية عن الشريعة الموسوية أن تتلو في صلواتها أجزاء من سفر المزامير ومن أسفار الأنبياء وغيرها. قال الرسول بولس: «لتسكن فيكم كلمة المسيح بغنىً وأنتم بكل حكمة معلّمون ومنذرون بعضكم بعضاً بمزامير وتسابيح وأغانيّ روحية بنعمة مترنّمين في قلوبكم للرب» (كو 3: 16) و(أف 5: 19). كما تستعمل الكنيسة أثناء الصلاة، بعض ما كان يستعمل في العبادة الطقسية الموسوية كالتبخير، ويجب أن تكون مادة البخور، من اللبان الخالص. والتبخير علامة للتطهير ومغفرة الخطايا، واقتبست الكنيسة أيضاً إنارة السرج أي القناديل التي تشير إلى النيرات السماوية، وقد استعملت الكنيسة المسيحية إنارة الشموع، التي تمثّل نفوس المؤمنين التي تذوب كالشمعة لتنير العالم بنور شريعة المسيح الذي هو نور العالم، وقد اقتدى كهنة العهد الجديد بكهنة العهد القديم بالاتّشاح بألبسة جميلة للمجد والبهاء (خر 28: 2) إكراماً للّه تعالى الذي يقومون بخدمته. كما أخذت الكنيسة المسيحية من الشريعة الطقسية الموسوية تخصيص بعض أيام السنة، لتحتفل بها كأعياد تمتنع خلالها عن أعمالها الدنيوية، وتكرّسها لعبادة اللّه ذاكرة النعم التي أسبغها عليها في تلك المناسبة التي تعيّد لها وقد ألغت الكنيسة المسيحية السبت اليهودي، واتّخذت يوم الأحد ذكرى قيامة الرب يسوع من بين الأموات يوماً مقدّساً يكرّس لعبادة اللّه وعمل الخير. كما عيّنت أياماً أخرى أعياداً لمناسبات دينية مختلفة. كما أخذت الكنيسة المسيحية مبدأ فريضة الصيام عن شريعة العهد القديم. أما القرابين والذبائح والمحرقات فقد ألغيت مع كهنوت العهد القديم، وكانت تشير وترمز إلى ذبيحة الرب يسوع الكفارية وموته على الصليب في سبيل فداء البشرية. وبهذا المعنى يقول الرسول بولس: «فلو كان بالكهنوت اللاوي كمال، إذا الشعب أخذ الناموس عليه، فماذا كانت الحاجة بعد إلى أن يقوم كاهن آخر على رتبة ملكي صادق ولا يُقال على رتبة هارون، لأنه إن تغيّر الكهنوت فبالضرورة يصير تغيّر للناموس أيضاً» (عب 7: 11و12). وقد دوّن أغلب الطقوس الموسوية في أسفار الخروج واللاويين والتثنية من الكتاب المقدس.

ونعلم من التقليد الكنسي أن السيد المسيح سلّم رسله الأطهار أسراره الإلهية، خلال تدبيره الإلهي العلني بالجسد، وخاصة يوم خميس الفصخ ليلة آلامه وصلبه الذي يدعى خميس الأسرار، وخلال الأيام الأربعين التي وقعت ما بين قيامته من بين الأموات وصعوده إلى السماء. وقد أخذ التلاميذ عن الرب كيفية ممارسة هذه الأسرار المقدسة وسلّموها إلى تلاميذهم وخلفائهم حتى وصلت إلينا وستبقى إلى انقضاء الدهر. من ذلك تقديم الذبيحة الألهية غير الدموية أي سر القربان المقدس الذي يشرح لنا الإنجيل المقدس كيفية تسليم الرب إياه لتلاميذه كالآتي: «وفيما هم يأكلون أخذ يسوع الخبز وبارك وكسّر وأعطى التلاميذ وقال: خذوا كلوا هذا هو جسدي وأخذ الكأس وشكر وأعطاهم قائلاً: اشربوا منها كلكم لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا» (مت 26: 26و27) «اصنعوا هذا لذكرى» (لو 22: 19).

وبهذا الصدد يقول الرسول بولس: «لأنني تسلمت من الرب ما سلّمتكم أيضاً إن الرب يسوع في الليلة التي أُسْلِمَ فيها أخذ خبزاً، وشكر فكسّر وقال خذوا كلوا هذا هو جسدي المكسور لأجلكم، اصنعوا هذا لذكري. كذلك الكأس أيضاً بعدما تعشّوا قائلاً: هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي اصنعوا هذا كلما شربتم لذكري. فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء» (1كو 11: 23 ـ 26).

ونستدل من حادثة إظهار الرب يسوع ذاته للتلميذين في طريق عمواس يوم قيامته من بين الأموات، وحديثه معهما في الطريق، وقبوله دعوتهما للمبيت في قريتهما أنهما لم يعرفاه إلاّ بعدما كسّر الخبز بطريقته الخاصة التي يعرفانها وهو جالس معهما على مائدة الطعام، ثم اختفى عنهما، نستدل من ذلك أن تلاميذ الرب يسوع أخذوا عنه كيفية مباركة الخبز والخمر وتكسير الخبز في سر القربان المقدس. ويذكر التاريخ الكنسي أن أول من احتفل بالقداس الإلهي هو مار يعقوب أخو الرب أسقف أورشليم وذلك باللغة الآرامية السريانية وعلى النمط الذي تعلّمه من الرب يسوع، وما تزال الكنيسة تمارس هذا الطقس بلغات شتّى وأماكن مختلفة من العالم بترتيب. فأقسام القداس الرئيسة متشابهة في جميع الكنائس الرسولية كما أن ترتيب مراحله متقاربة جداً، وكذلك معنى الصلوات التي تتلى خلاله. وهكذا أيضاً سلّم الرب سرَّي الكهنوت والعماد المقدسين وسائر أسرار الكنيسة.

وفي صدد ممارسة الطقوس البيعية يكتب الرسول بولس إلى المؤمنين في كورنثوس لكي يراعوا النظام والترتيب في العبادة قائلاً: «ليكن كل شيء بلياقة وبحسب ترتيب» (1كو 14: 40) ويردف قائلاً: «وأما الأمور الباقية فعندما أجيء أرتّبها» (1كو 11: 34)، وفي رسالته الثانية إلى المؤمنين في تسالونيكي يقول: «ثم نوصيكم أيها الإخوة باسم ربنا يسوع المسيح أن تتجنّبوا كل أخ يسلك بلا ترتيب وليس حسب التعليم الذي أخذه منا» (2تس 3: 6).

وتمارس الكنيسة المقدسة الطقوس الدينية، وتعتبرها ترتيبات روحية ضرورية لتنظيم العبادة ولمساعدة الإنسان لينتفع روحياً من ممارستها، ذلك أن الإنسان يتركّب من روح وجسد وأن «اللّه روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا» (يو 4: 24) على حد تعبير الرب يسوع، وحيث أن الروح متّحدة بالجسد فلا بدّ من أن يشترك الجسد مع الروح في عبادة اللّه بممارسات مادية خارجية محسوسة تنسجم ووضعه المادي وتتوافق وغاية الروح من العبادة وهذا هوالهدف الأسمى من وضع الطقوس الدينية، التي تترجم الشعور الروحي الداخلي للمؤمنين وتعلن العقائد الإيمانية والحقائق والمبادئ التي يتمسّكون بها. كما تبرهن على صدق محبتهم للّه تعالى، ومشاركة أجسادهم لأرواحهم في تمجيده. ومثال ممارسات الجسد هذه رفع الأيدي أثناء الصلاة، والانحناء والسجود والركوع، واستلام أي تقبيل الإنجيل المقدس ولثم صور القديسين إكراماً لمن تمثلهم لا عبادة للصور. وإن أمثال هذه الحركات والممارسات تعبّر عما تكنّه قلوب المؤمنين ونفوسهم من ميول داخلية صادقة وشعور حي بالمحبة لله تعالى الذي يؤمنون بوجوده، ويعترفون بقدرته، ويشكرون محبته لهم وعنايته بهم. ومن أهم هذه الحركات التي تسلّمناها من آبائنا رسم المسيحي علامة الصليب على نفسه ليعلن إيمانه بالمسيح المصلوب وقبوله نعمة الفداء الذي أكمله الرب يسوع على الصليب، وافتخاره بالصليب شعار المسيحية، وصلب ذاته مع المسيح على حد تعبير الرسول بولس القائل: «أما من جهتي فحاشا لي أن أفتخر إلاّ بصليب ربنا يسوع المسيح الذي قد صلب العالم لي وأنا للعالم» (غلا 6: 14) وقوله أيضاً «مع المسيح صُلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ» (غلا 2: 20).

فالمسيحي يلمس بسبابة يده اليمنى على التوالي جبهته وصدره وكتفه اليسرى فاليمنى، ثم قلبه وهو يقول: باسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد آمين. وبذلك يعبّر عن إيمانه بالثالوث الأقدس الإله الواحد، وعن قبوله الفداء الذي تمّ بالصليب، فعندما يلمس جبهته وهو يقول باسم الآب يعلن أن الآب هو في السماء وهو بمثابة العقل من الجسم وعندما ينقل يده إلى صدره وهو يقول: الابن، يعلن أن الابن نزل من السماء وتجسّد من الروح القدس ومن مريم العذراء، وعندما يلمس كتفه اليسرى ثم يحوّل اصبعه إلى اليمنى ويقول: والروح القدس، يعلن إيمانه بالروح القدس الأقنوم الثالث من الثالوث الأقدس الذي كان دوره واضحاً في عمل الفداء الذي أتمّه الرب يسوع حيث قد نقل المؤمنين به من الظلمة المكنى بها عن الشمال إلى النور والهدى المراد بهما اليمين. ثم يلمس موضع قلبه ويقول: الإله الواحد آمين، أي أنه يؤمن من كل قلبه وفكره وإرادته أن الأقانيم الثلاثة المتساوية بالجوهر هي إله واحد، ويختم بكلمة آمين التي تعني حقاً. ويرسم الصليب باصبع واحدة وهي السبابة إشارة إلى أن المسيح المصلوب هو واحد. وعندما نرسم علامة الصليب السامية بإيمان متين نقهر الأبالسة التي قهرها الرب يسوع بصليبه، فتهرب منا.

مما لا يختلف فيه اثنان أن الإنسان المركب من النفس والجسد يتأثر بحواسه الخمس بما يحتاط به، فهو عندما يتأمل الصليب المقدس مثلاً يتذكّر الآلام الفادحة التي تحمّلها الرب يسوع بحمله الصليب وبتسميره عليه أي صلبه وموته في سبيل خلاص جنسنا البشري، وتنقل حواس الجسد هذه التأثيرات الروحية إلىالروح، فيتولّد الخشوع ويبدأ الإنسان بالسجود والركوع وممارسة سائر الحركات الطقسية حسب النظام الذي رتبته الكنيسة المقدسة. كما أن المؤمن عندما يدخل مبنى الكنيسة المقدسة، وهو يؤمن بوجود اللّه في كل مكان ووجوده خاصة في ذلك المكان الذي كرّس وخصص، وقُدّس، لتمجيد اسمه تعالى، يجثو المؤمن أمام المذبح المقدس ويستلم الإنجيل المقدس، ويلثم الصور والأيقونات ليعبّر عن محبته للرب يسوع وأمه القديسة مريم وسائر القديسين الذين تمثّلهم هذه الصور. وهكذا بحواس الجسد يتنشّط الإيمان في النفس، وانفعالات النفس يُعبر عنها الجسد بممارسته الطقوس الدينية التي هي علامات خارجية تعبّر عن صدق العقائد الإيمانية، وإطاعة الإنسان للّه ومحبته إياه تعالى، والسعي للعمل بوصاياه وتجنب نواهيه. هذه الأمور تتفاعل في النفس، فتجذب المؤمن إلى المواظبة على الصلاة والقيام بالفروض الدينية، ليكون قريباً من اللّه تعالى وما أجمل ما كتبه مار أفرام عن اشتراك النفس والجسد في عبادة اللّه قائلاً ما تعريبه عن السريانية: «حينما تصلي اجمع عقلك والجم أفكارك وتوجّه بها نحو قلبك، لا يكن جسدك قائماً، وقلبك تائه في الأشغال بل اجعل جسمك بيعة وعقلك هيكلاً فاخراً وفمك مجمرة وشفتيك بخوراً ولسانك شماساً لترضي اللّه تعالى».

ومنذ فجر المسيحية اهتمت كنيستنا السريانية المقدسة بتوفير الطقوس الدينية اللازمة للمؤمنين، وحافظت عليها سليمة. وتعدّ الطقوس أحد فروع الأدب السرياني بل هي التراث النفيس الذي يمثل فلكلور السريان. وقد ورثنا عن آبائنا الميامين تقليدين مشهورين في الطقوس الكنسية، هما الطقس الشرقي ويمتاز بالإسهاب ويستعمل في بلاد العراق قاطبة، والطقس الغربي ويمتاز بالاختصار([160]) وهو اليوم منتشر في سائر أبرشياتنا في العالم ما خلا أبرشيات العراق. وقد اعتمدنا في بحثنا هذا الطقس الغربي الموجز والمطبوع في الهند.([161])

  • طقس أسبوع الآلام المحيية:

لأسبوع الآلام المحيية في كنيستنا المقدسة ميزة فريدة. حيث يكرّسه المؤمنون للصوم والصلاة، والتأمل بآلام الرب يسوع الإله المتجسّد الذي تحمّلها من أجل فداء البشرية. ولذلك رتّب آباء الكنيسة طقوس العبادة جامعين إياها من مؤلفات الملافنة القديسين، كمار أفرام السرياني (373+) ومار يعقوب السروجي (521+) وغيرهما. وهي أدعية خشوعية منظومة ومنثورة، لحّنوها بما يلائم المناسبة الحزينة بنغمات تدعو إلى الخشوع والبكاء، وتزيد معانيها تأثيراً في النفوس، فترفعها إلى السماء وتخلق جواً من الخشوع أمام اللّه والتلاشي قدامه تعالى، لمحبته للبشر «لأنه هكذا أحبّ اللّه العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية» (يو 3: 16).

وتلخّص الطقوس بروحانيتها عقيدة التجسّد والفداء، وتُكثر من ذكر النبوات والرموز التي تشير إلى آلام الفادي التي تحمّلها بملء إرادته، ولا غرو من ذلك فإن ثلثي الإنجيل المقدس قد خصص لتدوين مراحل الآلام المحيية، وشرحها بالتفصيل.

فهلمّ معي أيها السامعون الكرام، لنتأمل بهذه العجالة آلام الرب يسوع وموته لأجل فدائنا، كما شرحها آباؤنا السريان في الطقوس البيعية. ولنبدأ تأملنا بحادثة دخول الرب يسوع يوم الشعانين إلى أورشليم بتواضع، ونتوقف عند حدث تسليمه سرّ القربان المقدس لتلاميذه، بعد أن غسل أقدامهم، ثم نتخيّله وقد ألقي القبض عليه، وحوكم من السلطات الدينية ثم المدنية، وحكم عليه بالموت ظلماً، وحمل صليبه وعُلّق عليه فوق الجلجلة ومات ودُفن وقام من بين الأموات في اليوم الثالث. لنتأمل بهذه الحوادث ملياً كما يصوّرها لنا الطقس الكنسي ويمثّلها أمامنا وكأننا نعيشها كما جرت، وبذلك تقرّب الحقائق الإلهية إلى أذهان المؤمنين فتزداد رسوخاً في عقولهم وتمكناً في قلوبهم ويزدادون قرباً من الرب ومحبة له وشكراً على تضحيته في سبيلنا، حيث قد سفك دمه الأقدس على الصليب ومات ليمنحنا الحياة الأبدية.

  • أحد الشعانين:

وهو الأحد الذي يُفتتح به أسبوع الآلام، وتحتفل به الكنيسة السريانية الأرثوذكسية المقدسة إحياء لذكرى دخول الرب يسوع إلى أورشليم ظافراً، ودعي عيد الشعانين نظراً إلى الطواف أي الدوران في الكنيسة الذي يحمل أثناءه الإكليروس والشعب أغصان الزيتون وسعف النخل، ويعود تاريخ احتفال الكنيسة بهذا العيد إلى ما قبل القرن الرابع للميلاد وقد أغنى مار أفرام السرياني (373+) طقس الاحتفال به بما نظمه من أناشيد وميامر نفيسة يدعونا بها إلى مشاركة جميع الرسل والأتقياء الذين استقبلوا الرب يسوع في أورشليم بترانيم الفرح والتهاليل، وبالتلويح بأغصان الزيتون وسعف النخل، واعتاد المؤمنون على اصطحاب أطفالهم إلى الكنيسة وقد اتّشحوا بالثياب النظيفة والجميلة والتي تكون غالباً بيضاء، وبأيديهم أغصان الزيتون والشموع لينالوا بركة المسيح كما نالها الأطفال والرضّع يوم دخوله إلى أورشليم.

كان اليوم الذي دخل المسيح فيه إلى أورشليم يوماً مقدساً فقد وقع في تلك السنة في العاشر من شهر نيسان بحسب تقويم شعب العهد القديم، وكانوا عادة في العاشر من نيسان يفرزون حملان الفصح ويأتون بها إلى الكهنة، ليحكموا فيما إذا كانت بلا عيب وتصلح لتقدّم للرب أم لا. وكانت تُذبح في اليوم الرابع عشر منه المصادف عيدَ الفصح لديهم. فشاءت الإرادة الربانية أن يقدّم يسوع المسيح، حمل اللّه الذي يرفع خطية العالم إلى الكهنة يوم الأحد الذي صادف العاشر من نيسان، عندما دخل إلى أورشليم بمجد عظيم راكباً على أتان وجحش ابن أتان، واستقبلته الجماهير في المدينة المقدسة، الكبار منهم والصغار الرجال والنساء وحتى الأطفال والرُّضَع، وفي أيديهم سُعُفُ النخل وأغصان الزيتون، وفرشوا أمامه ثيابهم وهم يهتفون أوشعنا مبارك الآتي باسم الرب، ومعنى كلمة أوشعنا السريانية الآرامية «يا رب خلّص». ذلك أن خبر معجزة إقامته لعازر بعد موته ودفنه بأربعة أيام، كان قد انتشر بين الجموع فتاقوا أن يروا يسوع، النبي من الناصرة، صانع المعجزات الباهرات، الذي دعاه يوحنا المعمدان حمل اللّه الرافع خطايا العالم، وقد فرز من القطيع في ذلك اليوم المصادف العاشر من نيسان ليقدم إلى الكهنة ليحكموا عليه فيما إذا كان بلا عيب، ويصلح أن يقدّم ذبيحة كما يفعلون مع الخراف التي تقدم إليهم في العاشر من نيسان لتذبح يوم عيد الفصح الواقع في الرابع عشر منه. وإذ نهش الحسد أفئدة الكتبة ورؤساء الكهنة، حكموا عليه بالموت. وقال رئيس الكهنة متنبئاً: «إنه خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب من أن تهلك الأمة كلها» (يو 11: 50). وبهذا يكون الكهنة قد حكموا بأن يسوع الناصري، يصلح ليُقدّم ذبيحة. ولم يدروا بأن الإرادة الربانية قد قررت ذلك منذ أن سقط الإنسان في وهدة الخطية. ومما هو جدير بالملاحظة أن البشير لوقا ذكر بأن الرب يسوع «نظر إلى المدينة وبكى عليها قائلاً: إنكِ لو علمت أنت أيضاً حتى في يومك هذا ما هو لسلامك، ولكن الآن قد أخفي عن عينيك. فإنه ستأتي أيام ويحيط بك أعداؤك بمترسة ويحدقون بك ويحاصرونك من كل جهة. ويهدمونك وبنيك فيك، ولا يتركون فيك حجراً على حجر لأنكِ لم تعرفي زمان افتقادك» (لو 19: 41و42)، وقد تمّت نبوته هذه بحذافيرها سنة 70م عندما حاصر تيطس الروماني المدينة ودمّرها.

  • طقس تبريك الأغصان:

نظم آباؤنا الميامين، طقساً لتبريك الأغصان في هذا العيد المجيد كالآتي:

توضع على مائدة في (الخورس) أي بين الكودين كمية كافية من أغصان الزيتون وسعف النخل إن توفّرت الأخيرة. وبعد الانتهاء من صلاة الصباح يلبس رئيس الكهنة حلّته الحبرية، ويحمل أغصان الزيتون المرتبة على شبه صليب كبير كما يلبس الكهنة (همانيخهم) والشمامسة قمصانهم وهراراتهم ويسيرون حاملين الصليب والإنجيل ومجامر البخور والمراوح وأغصان الزيتون ويخرجون من الباب الشمالي للمذبح بحسب الترتيب المتّبع عادة في مناسبات كهذه، وهم يرتلون بالسريانية الترانيم الخاصة بهذا العيد المبارك، فيما يتمنّى المؤمنون لو أصعدوا إلى جبال أورشليم العالية (في ذلك الزمان)، واكتحلت عيونهم برؤية ابن اللّه راكباً على جحش وداخلاً إلى أورشليم، وأمامه جوقة الأنبياء، ووراءه جوقة الرسل والأطفال والرضع وبأيديهم أغصان الزيتون وهم يصرخون أوشعنا لابن داود مبارك الذي أتى وسوف يأتي ثانية، لك المجد يا رب.

وعندما يبلغون أمام المذبح، (وقديماً إلى وسط الكنيسة) يبدأ رئيس الكهنة بطقس مباركة أغصان الزيتون وسعف النخل بتلاوة صلوات وتراتيل وحساء وطلبة لمار يعقوب السروجي تبدأ بـ قديش قديش قديش مريا قعو يلودًا وتعريبها: صرخ الأطفال قدوس قدوس قدوس هو الرب. قدوس الرب الذي ركب على جحش ودخل أورشليم، ـ ثم تتلى قراءات من الكتاب المقدس منها كالآتي:

1 ـ نبوة زكريا (9: 9 ـ 11).

2 ـ رسالة مار يوحنا الرسول الأولى (2: 9 ـ 17).

3 ـ رسالة بولس الرسول إلى رومية (11: 13 ـ 24).

4 ـ ويتلو رئيس الكهنة آيات مقدسة مختارة من الإنجيل المقدس بحسب يوحنا الرسول (12: 12 ـ 22) أو بحسب مرقس (11: 1 ـ 8).

ثم يبدأ بصلاة تبريك الأغصان بلحن القداس ويداه مبسوطتان، وهو يسأل اللّه تعالى أن يبارك الأغصان والأشجار التي قطعت منها… وأن يجعل تلك الأغصان سبب بركة لماسكيها ولدورهم العامرة… وتعد أغصان التمجيد والقداسة لثبات المؤمنين على الإيمان القويم ولرفع شأن الكنيسة وبهاء الأديرة.

بعد الانتهاء من صلاة مباركة الأغصان يزيّح أغصان الزيتون المرتبة على شكل صليب، بحسب العادة المتّبعة في الأعياد بعبارات التمجيد بالسريانية التي تبدأ بما ترجمته «يا من تخدمه الملائكة» الخ. وقد جرت العادة أن توزّع الأغصان على المؤمنين الذين يحتفظون بها في دورهم للبركة طلية أيام السنة. وتتجدد عندما يحتفلون بالعيد في السنة التالية وتحرق الأغصان التي احتفظوا بها من السنة السابقة. وبعد صلاة تبريك الأغصان يحتفل رئيس الكهنة بالقداس الإلهي ويلقي عظة العيد، ويختم القداس بالبركة.

  • طقس النهيرة:

يقام هذا الطقس مساء أحد الشعانين، أي ليلة اثنين الآلام، وحيث أن اليوم الطقسي عندنا يبدأ عادة بصلاة المساء لذلك تعتبر ليلة اثنين الآلام بدء أول يوم من أيام أسبوع الآلام ويتمّ الترتيل في أثناء صلاة طقس النهيرة بلحن الحاش (الآلام).

 

فبعد أن نكون قد احتفلنا صباحاً بعيد دخول الرب يسوع إلى أورشليم الأرضية، هاتفين: «(أوشعنا) أي (يا ربّ خلّص) مبارك الآتي باسم الرب الجبار، أوشعنا بالأعالي». نحتفل مساء أحد الشعانين، بطقس النهيرة أي الأنوار، وهو يمثّل دخولنا مع الرب يسوع المسيح إلى أورشليم السماوية، أي إلى ملكوت الله، وفي هذا الطقس نتأمل بعقيدة مجيء الرب يسوع ثانية، بمجد عظيم ليدين الأحياء والأموات (مت 25: 31 ـ 46) هذا المجيء الذي لا نعلم متى سيكون (مت 24: 42) ولكن الرب يسوع حدّثنا عنه بالتفصيل وبيّن ما سيسبقه من ضيقات، ونحن نؤمن أنه له المجد سيأتي ثانية وستظهر رايته المقدسة التي هي علامة الصليب في السماء ويأتي الرب راكباً على السحاب، وتنظره كل عين بحسب النبوات، وينفخ رئيس الملائكة بالبوق، وسيسمع جميع الذين في القبور صوت ابن اللّه، فيخرج الذين عملوا الصالحات إلى قيامة الحياة، والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة. كما أن الأحياء من البشر تتغيّر أجسادهم المادية إلى أجساد روحانية، ويختطف الأبرار فيهم مع الرب يسوع في الجو. فالأبرار الأحياء والراقدون ينتظرون مجيء الرب ثانية بفارغ الصبر، لينالوا المكافأة على إيمانهم به وأعمالهم الصالحة.

ويُقرأ خلال هذا الطقس الفصل الخامس والعشرون من الإنجيل بحسب متى من الأعداد (1 ـ 13) وهو يتضمن مثل العذارى الخمس الحكيمات والخمس الجاهلات. وإن المؤمنين المجتمعين في الكنيسة بإيمان متين ورجاء لا يخيب، يحملون الشموع المضاءة التي تمثّل المصابيح المضاءة التي كانت تحملها العذارى الخمس الحكيمات، المملوءة زيتاً، والزيت يشير إلى أعمال المحبة والرحمة التي يمارسها المؤمنون الصالحون، وقد مارستها العذارى الخمس الحكيمات اللواتي كنّ ينتظرن مجيء العريس بفارغ الصبر فاستحققن أن يدخلن معه إلى ملكوته.

ومن ضمن طقس الكنيسة في هذا اليوم، الطواف في الكنيسة أي (الدورة) التي يقوم بها رئيس الكهنة والكهنة والشمامسة في الكنيسة، حيث تطفأ الأنوار دلالة على ظلمة العالم الذي يجتازونه في حياتهم على هذه البسيطة، وهم يحملون بأيديهم شموعاً مضاءة، إشارة إلى الإيمان والرجاء والمحبة، الفضائل التي تظهر أمام الناس مضاءة كالأنوار بالأعمال الصالحة، طبقاً لقول الرب: «ليضئ نوركم هكذا قدّام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجّدوا أباكم الذي في السموات» (مت 5: 16). ومما هو جدير بالذكر أن بعض كنائسنا لا تزال محتفظة بالعادة القديمة، وهي أن تبدأ هذه الدورة من باب المذبح الذي يقع على يسار الخارج من المذبح حيث تجلس النساء إكراماً للعذارى الحكيمات.

وعندما يصل الموكب أمام المذبح المسدل ستاره، تقدم أدعية استغفارية، وصلوات توبة وندامة لطلب الرحمة والمغفرة من الرب، سائلين إياه تعالى أن يؤهلهم لدخول السماء معه في مجيئه الثاني برفقة العذارى الخمس الحكيمات اللواتي انتظرن مجيئه ومصابيحهن مترعة بالزيت، وكان لهن زيت احتياطي في آنيتهن. وأمام عتبة باب المذبح يجثو رئيس الكهنة والكهنة والشمامسة والشعب ساجدين أربعين مرة ويقولون بخشوع مع كل سجدة قوريليسون، ثم بالسريانية يا رب ارحمنا، ويا رب اشفق علينا وارحمنا، ويا رب استجب صلواتنا وارحمنا. ثم يكملون بانسحاق القلب صلوات التوبة… ويتلون دستور الإيمان، ويتقدم رئيس الكهنة ويقرع ستر المذبح الذي يمثّل باب الملكوت ثم يرتل ثلاث مرات صلاة توبة تبدأ بعبارة عل ؤَو ةرعا بريا وتعريبها «أمام الباب البراني» ويتخيل الإكليروس والشعب وهم يرتلون هذه الصلاة التي تمثّل تقديم الرسول بطرس توبته الصادقة المقرونة بالبكاء، وبعد تورطه بإنكار الرب يسوع أمام جارية، ويتخيّلونه واقفاً أمام الباب الخارجي للملكوت يقرعه بتوبة وندامة وانكسار القلب وهو يتضرّع إلى الرب ليفتح له باب الملكوت ويذكّره بأنه تلميذه الذي كان قد أنعم عليه ووهبه مفاتيح باب ملكوت السماء وقد ضيّع هذه المفاتيح بعد أن هوى إلى وهدة الخطية وأن السماء والأرض تبكيان عليه. ويرتل رئيس الكهنة أو الكاهن المترئس هذه الترتيلة ثلاث مرات وفي كل مرة يجيبه الشعب بالصلاة ذاتها. ثم يضرب رئيس الكهنة الستار الذي أمام المذبح الذي كان في أغلب كنائسنا القديمة باباً مصنوعاً من الخشب، أما اليوم فالباب عبارة عن ستار مصنوع من قماش، يلمسه رئيس الكهنة وهو يخاطب الرب بخشوع قائلاً: «يا رب يا رب افتح لنا» وعندما يكرر هذه العبارة ثلاث مرات، يفتح ستار باب المذبح حالاً، وتضاء أنوار الكنيسة، ويدخل رئيس الكهنة ومن رافقه بالطواف إلى المذبح إشارة إلى دخول الصالحين إلى ملكوت اللّه مع المسيح يسوع ربنا عند مجيئه الثاني، وهم يرتلون أنشودة بدؤها: طوبيؤون لعبدًا طبًا أي طوبى للعبيد الصالحين الذين عندما يأتي سيدهم يجدهم ساهرين. ثم تلقى موعظة موضوع المجيء الثاني، وتختم الصلاة بأدعية خاصة بآلام الفادي، ويصرف رئيس الكهنة المؤمنين بالبركة.

ومما هو جدير بالذكر، أن تاريخ تنظيم هذا الطقس يرجع إلى القرن السابع للميلاد.

وحيث أن أسبوع الآلام يكون قد ابتدأ ليلة الإثنين المحيية، توشح الكنيسة بالسواد، وترفع كل أغطية المذبح والكأس والصينية وما يتبعها من الأواني المستعملة أثناء الاحتفال بالقداس الإلهي وكذلك يرفع الطبليث، الذي يرمز إلى الصليب، والذي يوضع عليه عادة الكأس والصينية، على المذبح، والمذبح يرمز إلى الجلجلة…

  • صوم الفصح أي صوم أسبوع الآلام:

إن أول صوم وضعته الكنيسة وفرضته على المؤمنين هو صوم الفصح، الذي يسمى أيضاً صوم الآلام المحيية. وفيه ينقطع المؤمنون عن الطعام والشراب من عصر (بعد ظهر) يوم الجمعة العظيمة، ذكرى آلام الرب يسوع وصلبه وموته، وإلى فجر يوم أحد القيامة، وذلك للمشاركة بالآلام المحيية التي تحمّلها ربنا يسوع المسيح من أجل خلاص البشرية، إتماماً لقول الرسول بولس: «لأنه إن كنا قد صرنا متّحدين معه بشبه موته، نصير أيضاً بقيامته عالمين هذا أن إنساننا العتيق، قد صلب معه ليبطل جسد الخطية» (رو 6: 5و6) وكانت الكنيسة في فجرها، تمارس هذا الصوم وتحتفل بذكرى آلام الرب يسوع وموته وقيامته مرة واحدة، كل ثلاث وثلاثين سنة، ولما رأت أن الكثيرين يولدون ويموتون دون أن يحظوا بالاحتفال بهذه الذكرى المقدسة، احتفلت به سنوياً.

ومع تمادي الزمن، أضيفت إلى هذا الصوم الأيام الأربعة السابقة له، فصار اسبوعاً كاملاً دُعي أسبوع الآلام، يبدأ صباح يوم الإثنين الذي يلي يوم أحد الشعانين، وينتهي في فجر يوم عيد القيامة. وكان يصام حتى المساء انقطاعاً عن الطعام والشراب، ويفطر فيه على الخبز والمءا والملح، ويُصام في أيامنا أيضاً انقطاعاً عن الطعام إلى الظهر أو إلى العصر. ثم يتناول الصائمون طعاماً صيامياً، يقتصر على الحبوب والبقول والفواكه، وخالياً من اللحوم ومنتجات الحيوانات وحتى الحلويات، مشاركة بآلام الفادي الذي عند عطشه أعطوه خلاً ممزوجاً بمرارة([162])، وقد ألحق صوم أسبوع الآلام في الربع الثاني من القرن الرابع بالصوم الأربعيني الذي بوشر به في القرن الثالث للميلاد فصار الصوم الأربعيني سبعة أسابيع مع صوم أسبوع الآلام([163]).

  • مضمون الصلاة في أسبوع الآلام:

تتضمن الصلاة الترانيم الحزينة والألحان البديعة، وقراءات من الكتاب المقدس، وبخاصة الإنجيل أيام الإثنين والثلاثاء والأربعاء من أسبوع الآلام صباحاً وظهراً ومساء، وتتناول تعاليم الفادي التي يتنبأ بها عن آلامه الخلاصية مؤكداً أنه إنما جاء ليتحمّلها فداء عن البشرية. وتشير الصلاة إلى بعض النبوات التي تضمنتها أسفار أنبياء العهد القديم عن الرب يسوع المسيح وآلامه التي تحملها في سبيل فداء البشرية والرموز التي أشارت إلى هذه الآلام. وبذكر بعض أمثال الرب وأقواله تنجلي معرفة الرب يسوع الإلهية بما كان يضمره الكتبة والفريسيون ورؤساء اليهود بمحاولتهم المباشرة أو بوساطة جواسيسهم وعيونهم، اصطياده بكلمة متحيّنين الفرص ليلقوا القبض عليه. أما هو فقد سبق وأنبأ عن آلامه وكيفية وموته وذكر الخائن الذي سيسلمه كما أنبأ بإنكار بطرس وتشتيت التلاميذ وشكهم. وكان الرب يسوع يقول كل ذلك بوضوح وبدون اضطراب وبتأكيد إلهي وثقة تامة تسمو عن البشر. فصلاة يوم الإثنين تذكرنا بمأساة قتل قايين أخاه هابيل الصدّيق الذي يرمز إلى المسيح. كما يتناول آيات الإنجيل المقدس (لو 20: 9 ـ 19) التي تتلى في أثناء الصلاة: المثل الذي ضربه الرب يسوع عن الكرم وفيه يعلن لليهود أنه ماسيا المنتظر وهو ابن اللّه الوحيد وقد جاء يطلب الثمار التي تليق بالتوبة. قال الرب في المثل: «إنسان غرس كرماً وسلّمه إلى كرّامين وسافر زماناً طويلاً وفي الوقت أرسل إلى الكرّامين عبداً لكي يعطوه من ثمر الكرم فجلده الكرامون وأرسلوه فارغاً فعاد وأرسل عبداً آخر فجلدوا ذاك أيضاً وأهانوه وأرسلوه فارغاً ثم عاد فأرسل ثالثاً فجرحوا هذا أيضاً وأخرجوه، فقال صاحب الكرم ماذا أفعل؟.. أرسل ابني الحبيب لعلهم إذا رأوه يهابون، فلما رآه الكرّامون تآمروا فيما بينهم قائلين هذا هو الوارث هلّموا نقتله لكي يصير لنا الميراث… فأخرجوه خارج الكرم وقتلوه، فماذا يفعل بهم صاحب الكرم… يأتي ويهلك أولئك الكرامين ويعطي الكرم لآخرين… فلما سمعوا قالوا: حاشا، فنظر إليهم وقال: إذاً ما هو هذا المكتوب الحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية… كل من يسقط على ذلك الحجر يترضض ومن سقط هوعليه يسحقه. فطلب رؤساء الكهنة والكتبة أن يُلقوا الأيادي عليه في تلك الساعة ولكنهم خافوا الشعب، لأنهم عرفوا أنه قال هذا المثل عليهم».

ومن الطقس الكنسي نتعلّم تفسير المثل، فرب الكرم هو الآب السماوي والكرم هو الشعب اليهودي الذي جمعه في أرض كنعان وأعطاه الناموس سياجاً والذبائح معصرة والبرج منارة والكرامون الكهنة واللاويون ثم الكتبة والفريسيون، وفترة سفر رب الكرم الزمنية هي المدة الزمنية ما بين إعطاء الناموس ومجيء ماسيا حيث تدهورت حالة اليهود الروحية. ومع هذا لم يمرّ زمن إلاّ وأرسل الرب أنبياء لهداية الشعب وإرجاعه عن ضلاله، ولكن ذلك الشعب كان دائماً قاسي القلب غليظ الرقبة فلم يحفظ الشريعة… وأعطى ثماراً رديئة…

كما أن الرب يسوع في لعنه التينة التي كانت أوراقها خضراء ولكنها لم تعطِ ثمراً يظهر حالة تلك الأمة التي بدت للعيان وكأنها جيدة ولكنها أعطت ثماراً رديئة… فقد اضطهدت الأنبياء، طاردت إيليا، ونشرت أشعياء، وطرحت في الجب الآسن إرميا، وقتلت زكريا… فوبّخها الرب يسوع بقوله: «يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها فلم تريدوا هوذا بيتكم يترك لكم خراباً حتى تقولوا مبارك الآتي باسم الرب»(مت 23: 37 ـ 39).

وحمّلهم جريمة آبائهم بقتل الأنبياء قائلاً: «ويل لكم لأنكم تبنون قبور الأنبياء وآباؤكم قتلوهم. إذاً تشهدون وترضون بأعمال آبائكم لأنهم هم قتلوهم وأنتم تبنون قبورهم، لذذلك أيضاً قالت حكمة اللّه أني أرسل إليهم أنبياء ورسلاً فيقتلون منهم ويطردون. لكي يطلب من هذا الجيل دم جميع الأنبياء المهرق منذ إنشاء العالم من دم هابيل إلى دم زكريا الذي أهلك بين المذبح والبيت» (لو 11: 47 ـ 51).

وفي مثل الكرم والكرّامين الأردياء، يكشف الرب حقيقة أنه ابن اللّه الوحيد وأنه مرسل من الآب، وأن المسؤولين عن الشعب الذي يعدّ نفسه مختاراً سيقتلونه… وأن الكرم سيؤخذ منهم ويعطى لآخرين، وهذه إشارة إلى الأمم التي ستؤمن بالابن فتنال الفداء بدمه الكريم… وقد تنبّأ عن ذلك بقوله لليهود: «لذلك ملكوت اللّه ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره» (مت 21: 43).

وتتلى يوم الإثنين أيضاً آيات مقدسة من الإنجيل المقدس بحسب يوحنا (2: 12 ـ 25) التي تتضمن طرد الرب يسوع الصيارفة وباعة الحمام من الهيكل وإشارته إلى موته وقيامته بمثل هدم الهيكل وإقامته بعد ثلاثة أيام.

كما تتلى آيات من الإنجيل المقدس بحسب لوقا (لو 20: 20 ـ 26) عن محاولة الفريسيين والهيرودسيين تجربة الرب يسوع، فأرسلوا جواسيسهم يتراءون أنهم أبرار لكي يمسكوه بكلمة حتى يسلّموه إلى حكم الوالي. فسألوه قائلين: «يا معلم، نعلم أنك بالاستقامة تتكلّم وتعلّم ولا تقبل الوجوه بل بالحق تعلّم طريق الله. أيجوز أن نعطي جزية لقيصر أم لا؟ فشعر بمكرهم وقال لهم: لماذا تجربونني. أروني ديناراً، لمن الصورة والكتابة؟ فأجابوا وقالوا: لقيصر. فقال لهم: أعطوا إذاً ما لقيصر لقيصر وما للّه للّه. فلم يقدروا أن يمسكوه بكلمة قدّام الشعب وتعجّبوا من جوابه وسكتوا» (لو 20: 20 ـ 26).

أما الصلاة يوم الثلاثاء، فتتضمّن آيات من الإنجيل المقدس بحسب يوحنا ونسمع الرب يوبّخ اليهود على افتخارهم بكونهم أبناء ابراهيم فيقول لهم: «لو كنتم أولاد ابراهيم لكنتم تعملون أعمال ابراهيم» (يو 8: 39).

وتتناول الصلاة في ذلك اليوم أيضاً تفسير حادثة طلب اللّه تعالى من خليله ابراهيم ليقدم له ابنه اسحق ذبيحة، وتظهر إيمان ابراهيم باللّه وإطاعته إياه، وتعقد المقارنة بين المسيح المصلوب واسحق، وكيف أن اسحق كان رمزاً للمسيح المتألم خاصة عندما حمل الحطب الذي صار مذبحاً مدده أبوه عليه ليذبحه والمسيح حمل صليبه الخشب إلى موضع الصلب وتمدّد عليه وسُمّر ورُفع على الصليب، فقدّم الآب السماوي ابنه الوحيد الحبيب يسوع الذي أحبّه فدية عن البشرية، أما الرب فكان قد منع ابراهيم من ذبح اسحق لأنه لا يصلح ليكون ذبيحة لفداء البشر، وهيّأ كبشاً قدّمه ابراهيم ذبيحة بدلاً من ابنه وكان الكبش أيضاً رمزاً للمسيح الذي قدّم ذبيحة مقبولة عن البشرية. وبألحان الآلام (الحاش) الحزينة نترنّم بحوار جرى بين ساره وابراهيم، فساره ترى ابراهيم وقد هيّأ الحطب والنار والسكين وترى ابنها اسحق الذي أحبته، يحمل الحطب ولا ترى خروفاً للذبيحة فتناجي ابراهيم إلى أين تأخذ الصبي!؟ وبألم تودعهما… والسؤال الذي طرحه اسحق على أبيه ربما كان صدى سؤال أمه فقد قال لأبيه: أبتاه هوذا الحطب والسكين والنار فأين الخروف للذبيحة ويأتيه الجواب: اللّه يجد له الكبش للذبيحة. ولكن اللّه تعالى الذي أشفق على اسحق (لأنه لا يصلح أن يكون ذبيحة كفّارية عن البشر) لم يشفق على ابنه الوحيد «لأنه هكذا أحبّ اللّه العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية» (يو 3: 16).

كما يذكر الطقس البيعي يوم الثلاثاء بأول جريمة قتل وقعت بنسل آدم حيث قتل قايين أخاه هابيل البار جسداً، ويشبّه قايين برؤساء الكهنة والكتبة والفريسيين وكان هابيل رمزاً للمسيح البار القدوس.

وفي صلاة الثلاثاء تظهر تلاميح عن ذكر مؤامرة الكهنة الأشرار ويهوذا التلميذ الخائن.

وفي صلاة يوم الأربعاء نلمس هيجان الكهنة والفريسيين واجتماعهم وتآمرهم للتخلّص من يسوع باي ثمن «وإعلان يسوع استعداده أن يضع نفسه عن الخراف»… وهو يسألهم عن سبب رغبتهم في قتله (يو 7: 14 ـ 27) وتصريحه عمّا اقترفه آباؤهم ويقترفونه هم من جرائم بقوله: «لا يمكن أن يهلك نبي خارجاً عن أورشليم، يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها» (لو 13: 34). وحيث أن أعداء الرب يسوع قد تآمروا على قتله، وقرروا إلقاء القبض عليه بالتعاون مع يهوذا الخائن يوم الأربعاء، فالكنيسة المقدسة منذ فجرها فرضت الصوم على المؤمنين كل يوم أربعاء طيلة أيام السنة، ما عدا أيام الخمسين الواقعة بين عيدي القيامة والعنصرة.

  • عيد الفصح أو خميس الفصح:

ويدعى أيضاً خميس الأسرار. وتحتفل به الكنيسة المقدسة بإقامة القداس الإلهي وتتلو فصولاً من الكتاب المقدس، تذكّر بها المؤمنين بالحدث الخطير، الذي هو اجتماع الرب يسوع مع تلاميذه في العلية حيث أكل الفصح اليهودي معهم، ثم سلّم إليهم سرّ جسده ودمه الأقدسين. فقد جاء في الإنجيل المقدس حسب الرسول متى ما يأتي: «وفيما هم يأكلون أخذ يسوع الخبز وبارك وكسّر وأعطى التلاميذ وقال: خذوا كلوا هذا هو جسدي. وأخذ الكأس وشكر وأعطاهم قائلاً: اشربوا منها كلكم، لأن هذه دمي الذي للعهد الجديد الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا» (مت 26: 26 ـ 28). اصنعوا هذا لذكري (لو 22: 19).

ويدعى هذا السر، سرّ الأسرار، وكان الرب قد مهّد له إذ قال عن ذاته إنه «الخبز الحي الذي نزل من السماء، إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد» (يو 6: 51) كما قال: «الحق الحق أقول لكم: إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم من يأكل جسدي ويشرب دمي، فله حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير، لأن جسدي مأكل حق، ودمي مشرب حق. من ياكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيّ وأنا فيه» (يو 6: 53 ـ 56).

والمسيح الذي وُلد تحت لناموس، كمّل الناموس. فأكل الفصح اليهودي مع تلاميذه ليلة آلامه، ثم أعطاهم الفصح المسيحي، الذبيحة غير الدموية، عندما سلّمهم سرّ جسده ودمه الأقدسين قبل أن يسلّم جسده للصالبين باختياره. وهكذا ألغى الذبائح الحيوانية، ورسم الذبيحة غير الدموية التي كانت تقدمة ملكيصادق ملك ساليم رمزاً إليها، إذ كان يقدّم خبزاً وخمراً، ولذلك دعا الرسول بولس الرب يسوع «كاهناً إلى الأبد على رتبة ملكيصادق» (عب 5: 6) واعتبر المسيح فصحنا الجديد.

أما احتفال الرب يسوع بالفصح القديم فقد كان ليكمّل الناموس، وكانت ذبيحة خروف الفصح رمزاً إلى المسيح يسوع الذي يقول عنه الرسول بولس: «لأن فصحنا هو المسيح أيضاً» (1كو 5: 7). وكلمة فصح العبرية تعني العبور، وهي تشير إلى عبور الملاك المهلك عن دور شعب العهد القديم بدون أن يمسّ أبكارهم بأذى وذلك عند رؤيته دم خروف الفصح وقد رُشّ على شكل صليب على قائمتي باب الدار وعتبته العليا. وهو يرمز إلى دم المسيح الذي يسفك على الصليب. ويقول الكتاب على لسان الرب «فأرى الدم وأعبر عنكم» (خر 12: 13). وقد وقف المسيح وتلاميذه بين الفصحين، فأكلوا الفصح القديم مع الحشائس المرّة وأحقاؤهم مشدودة، كعادة شعب النظام القديم. ثم أكلوا الفصح الجديد بمرارة النفس نتيجة إعلان الرب لهم عن قرب تقديم ذاته ذبيحة عن البشرية.

والمسيح فصحنا، أنقذنا من الخطية الجدّية، بسفك دمه الكريم على الصليب وبرّرنا وقدّسنا وأهّلنا لنكون أولاداً لأبيه السماوي بالنعمة وورثة لملكوته.

وفي عيد الفصح، يفرض على المؤمنين الاعتراف القانوني أمام الكاهن والتوبة الصادقة. ثم أن يشتركوا بالقداس الإلهي ويتناولوا القربان المقدس، ليثبتوا في المسيح.

 

  • كيف نحتفل بخميس الأسرار أي خميس الفصح في أيامنا هذه؟

يشرح لنا ذلك المثلث الرحمة العلامة البطريرك أفرام الأول برصوم في جواب لسؤال أحدهم فيقول:

صباح الخميس تقدم الذبيحة الإلهية، ويتناول القربان المستعدون بالاعتراف القانوني، ويتناولون فطورهم طعاماً صيامياً، ثم غداءهم. هذا هو الجاري اليوم في الكنيسة (السريانية) كلّها. أما في الزمان القديم فقد كان قداس خميس الفصح يقام بعد الساعة التاسعة أي بعد العصر. فيتناول المؤمنون القربان المقدس نحو غروب الشمس وبطبيعة الحال يأكلون غداءهم.

أما الذي قرأتموه في القانون الرابع الذي وضعه مجمع اللاذقية على ما ورد في الفصل الأول من الباب الخامس من كتاب الهدايات، فليس معناه كما ظننتم، الأكل العادي أي الإفطار على طعام الصيام، لكن قديماً كان بعض المؤمنين يجعلون خميس الفصح مثل عيد القيامة أعني أنهم يكفون فيه عن الصوم([164]).

وقد نصت القوانين الكنسية لدينا على عدم جواز ترك أي جزء ولو كان يسيراً، من القربان الذي قدّس في قداس خميس الأسرار إلى اليوم التالي الذي هو جمعة الآلام العظيمة، ذكرى تقديم الرب يسوع ذاته اختيارياً للموت على عود الصليب.

وكانت رتبة غسل أقدام التلاميذ، التي يحتفل بها في خميس الفصح، تسبق إقامة القداس الإلهي، وكان القداس يقام بعد العصر. غير أنه لما جرت العادة مؤخّراً أن يقام القداس قبل الظهر لطول الصلوات الفرضية، ثم لأجل إتمام تقديس الميرون المقدس قبل رتبة القداس الإلهي، عندما تقتضي الحاجة إلى تقديس الميرون، الذي لا يقدّسه إلا قداسة البطريرك([165])، لذلك جرت العادة في أيامنا أن يحتفل برتبة الغسل عصراً حيث يوضع كرسي لرئيس الكهنة، وإثنا عشر كرسياً للكهنة أو الشمامسة أو التلاميذ المعينين ليمثّلوا الرسل في هذا الطقس. ثم يوضع الإنجيل المقدس في المذبح على نصبته المسماة الجلجلة (ججولةا) كوغولتو ويتلو أحد الكهنة أو الشمامسة الفصل المخصص من الإنجيل المقدس لهذه الرتبة. وبعد أن يجلس رئيس الكهنة، ينادي بأسماء الرسل الإثني عشر، داعياً كل واحد من المعيّنين للغسل باسم أحد الرسل الإثني عشر فيتقدّمون تباعاً حيث يحنون رؤوسهم أمام المذبح والإنجيل المقدس ثم أمام رئيس الكهنة ويجلسون على كراسيهم وهم متّشحون كل واحد بهمليخه (بطراشيره) إن كان كاهناً، أو قميصه وهراره إن كان شماساً بحسب رتبته، أو بقميص أبيض يتّشح به عادة المرتلون أثناء الخدمة في المذبح. ثم يبدأ رئيس الكهنة بالصلاة، وترتل الترانيم المختصّة بهذه الرتبة بلحن الحاش أي (الآلام) ثم يقرأ الشمامسة القراءات من الكتاب المقدس، المخصصة لهذه الخدمة، ويبدأ رئيس الكهنة بقراءة فصل الإنجيل الخاص لهذه المناسبة ويكمّله أحد الكهنة أو الشمامسة… وبحسب العادة وعندما يصل إلى الموضع الذي يقال فيه عن الرب يسوع أنه قام عن العشاء وأخذ منديلاً واتّزر به، يقوم رئيس الكهنة، ويأخذ المنديل المعدّ مع محزم لهذه الغاية ويتّزر به  ثم يأخذ منشفة ويصب ماء في مطهرة، ويبدأ بغسل أقدام التلاميذ مبتدئاً بآخرهم. ولما يبلغ رئيس الكهنة إلى الشخص الذي يمثّل بطرس ويكون أحد الكهنة على الأغلب، يمتنع هذا أولاً عن أن يغسل له رئيس الكهنة قدميه. ويحاوره رئيس الكهنة، وأخيراً يرضخ لأمره. ويجري الحوار بينهما بالعبارات التي تبادلها الرب يسوع مع تلميذه سمعان بطرس، كما هو مدوّن في الإنجيل المقدس. ثم إن الكهنة أو الشمامسة الذي غسل رئيس الكهنة أقدامهم اليمنى ونشّفها ومسحها بالزيت البسيط، يجتمعون حول رئيس الكهنة، ويغسلون قدمه اليمنى ويمسحونها بالزيت البسيط أيضاً. وحينئذ يكمل رئيس الكهنة قراءة فصل الإنجيل المقدس بعد أن يكون قد خلع عنه المنديل ولبس ثيابه، ثم يعظ مبيّناً الغاية السامية من إتمام هذه الرتبة المقدسة بحسب أمر الرب، لكي نتأمل بتواضع ربنا الجمّ ونقتدي به. وبعد العظة يتلو المؤمنون قانون الإيمان النيقاوي وبعض الصلوات ويصرف رئيس الكهنة الشعب بالبركة.

  • جمعة الآلام العظيمة:

تحتفل الكنيسة المقدسة في جمعة الآلام العظيمة بذكرى مأساة الجلجلة متسربلة بالسواد متشحة بثوب الحداد، علامة الحزن والكآبة. وفي صلواتها المسهبة شعراً ونثراً وفي قراءاتها المختارة من الكتاب المقدس، تستعرض النبوات التي أشارت إلى آلام الفادي، فلم يكن ما حدث يوم صلب الرب يسوع على الخشبة ابن ساعته. بل إن السماء قد أعلنته بالنبوات والرموز والإشارات منذ بدء الخليقة وعبر الدهور والأجيال وهذا كله يُعلنه لنا الطقس المقدس. وتريدنا الكنيسة أن نتخيّل لنرى بعين الروح، يسوع فادي البشرية في بستان الجثسيماني في جبل الزيتون ليلة الجمعة، يصلّي ويتألّم. إن الرب يسوع سمح لثلاثة من تلاميذه أن يصلوا معه إلى مكان معين في البستان ويقول الإنجيل المقدس: «ابتدأ يدهش ويحزن ويكتئب». ثم يسلّم إرادته بيد أبيه أمام تلاميذه الثلاثة بطرس ويعقوب ويوحنا الذين اصطحبهم معه «وانفصل عنهم رمية حجر وجثا على ركبتيه وصلّى قائلاً: أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس، ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك» (لو 22: 42). ثم يغادر المكان مع التلاميذ الثلاثة لينضمّ إليهم التلاميذ الثمانية، وعند باب البستان يسلّمه تلميذه الخائن يهوذا إلى أعدائه بقبلة الغدر «فقال له يسوع: يا يهوذا أبقبلة تسلّم ابن الإنسان» (لو 22: 48)  ولذلك يمتنع المؤمنون طيلة أسبوع الآلام من تقبيل الإنجيل أو الصور المقدسة أو حتى بعضهم بعضاً. وفي الساعة الواحدة صباحاً ذهب به أعداؤه إلى حنّان (يو 18: 13) وفي الساعة الثانية إلى رئيس الكهنة قيافا حيث اجتمع الكتبة والشيوخ… وحوالي الساعة السادسة صباحاً إلى مجمع السنهدريم، وهم أثناء ذلك يعاملونه معاملة المجرمين، ويحضرون شهود زور لا تتفق شهاداتهم الكاذبة. وكان هو صامتاً يتحمّل صنوف العذاب النفسي والجسدي بصبر جميل. ولم ينبس ببنت شفة إلاّ عندما استحلفوه بالإله الحي أن يجيب فيما إذا كان هو المسيح، فيقول بهدوء: «نعم أنا هو» ويضيف قائلاً: «وسوف تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة آتياً على سحاب السماء».

كان يسوع في تلك اللحظات في قدس أقداس آلامه المحيية، لذلك ففي صلاة ليلة جمعة الآلام التي يقضيها المؤمنون ساهرين، يرتلون الأناشيد الحزينة الداعية إلى الخشوع والبكاء ويقولون فيما يقولون: إن شبل الأسد محبوس فمن يقوى على النوم… هل يعقل أن تغفو عين المؤمن بالمسيح وهو يتخيل يسوع يهان ويقف كمجرم أمام المجرمين، وهو البر بالذات. ويحكمون عليه بالموت وهو الحياة ومانح الحياة للبشر. أما تلاميذه فقد هربوا ليتمّ الكتاب: ضُرب الراعي فتبددت الخراف.

وصباحاً أحضروه أمام بيلاطس ممثل السلطة الرومانية متّهمين إياه بأنه رفض ان يدفع الجزية لقيصر وأنه يقول عن نفسه أنه ملك… ويحاول بيلاطس إعلان براءة يسوع: لم أجد فيه علة للموت، يقول لليهود. أما هم فكانوا يصرخون: اصلبه اصلبه… وعندما يخيّرهم بين إطلاق سراح يسوع أو سراح باراباس المجرم الكبير، يجيبونه: أطلق باراباس. والطقس الكنسي يعقد المقارنة بين البار القدوس يسوع وبين باراباس المجرم الكبير… ويأخذنا الطقس الكنسي إلى بيت بيلاطس لنرى امرأته قلقة مضطربة لحلم رأته في تلك الليلة وترسل إلى زوجها لتقول له إيّاك وذلك البار، إنه سيحاكمك وإذا ما حكمت عليه بالموت، ستنصب لعنة السماء عليك فخذ الماء، واغسل يديك لتكون بريئاً من دمه الطاهر ليكن دمه على يهوذا وقيافا وحنّان الذين أسلموه للموت الويل لهم إلى الأبد. فغسل بيلاطس الجبان يديه بالماء معلناً أنه بريء من دم البار يسوع، وأخذت الأمة اليهودية مسؤولية موته على عاتقها ونادى الشعب الجاهل قائلاً: دمه علينا وعلى أولادنا، وحكم على البار بالموت صلباً وتحمّل الآلام والجلد المبرح والضرب الأليم وحمل صليبه بين جمهور من الناس المستهزئين به، وعُلّق عليه ما بين السماء والأرض وكأني به وقد رفضته السماء لأنه قبل على ذاته أن يحمل خطية الأرض وسكانها، والخطية مرفوضة رفضاً باتاً من إله السماء، ورفضته أيضاً الأرض لأنه بكّت رؤساء كهنتها، وقرّع فرّيسيها، ووبّخ وأنّب الذين حادوا عن شريعة الله، فعُلّق على العود، ليربط السماء بالأرض ويقيم الصلح بين اللّه أبيه والبشر الذين صار واحداً منهم، وليحوّل لعنة الخشبة إلى بركة سماوية بل ليجعل الصليب سلّماً يصعد عليها إلى السماء الذين آمنوا به مخلّصاً للبشرية، فتبرروا وتقدّسوا وصاروا أولاداً للّه بالنعمة وورثة لملكوته السماوي. كما تبرهن لنا الكنيسة أن الإله المتجسّد المسيح يسوع الذي تنبأ هو ذاته عن الآلام التي سيتحمّلها والموت على الصليب وبعدئذ القيامة، وأنبأ تلاميذه بذلك قبل حدوثه، مبرهناً على أنه إنما قبل الصلب والموت اختيارياً. كان أنبياء العهد القديم قد تنبّؤوا عنه بأنه يحصى مع الأثمة ولذلك صلب معه لصان «اشتركا أولاً بتعييره مع المعيّرين… ولكن أحدهما وهو يسمع الرب وهو يتألم على الصليب يطلب من الآب أن يغفر لصالبيه، أنعم اللّه عليه فدافع عن يسوع البار وكان هذا الوحيد أثناء صلب المسيح يدافع عنه وهو يوبّخ زميله قائلاً: «إذا كنا قد حكم علينا، فإنما نلنا جزاءنا الحق، ولكن هو لم يصنع ما يستوجب ذلك الحكم» في هذه الكلمات نلمس الندامة والاعتراف والتوبة… ويلتفت إلى الرب قائلاً: «اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك فقال له يسوع: الحق أقول لك أنك اليوم تكون معي في الفردوس» (لو 23: 42و43) وعلى الصليب والمسيح في قدس أقداس آلامه لم ينسَ أمه الحزينة مريم العذراء فيوصي بها تلميذه يوحنا… لقد تألّم وتكلّم وأعلن أن الخلاص قد كمل، وأخيراً ناجى أباه قائلاً: «أبتاه بيديك أستودع روحي». والكنيسة المقدسة بالاحتفال في هذه الذكرى المقدسة، تريدنا أيضاً أن نقبل المسيح مخلّصاً لنا وتحثّنا على التوبة والتخلّي عن الخطية وأن نحيا في المسيح وأن نسلّم إرادتنا له ونحمل صليبه ونتبعه في طريق الجلجلة، كما يصف ذلك الرسول بولس بقوله: «مع المسيح صُلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ» (غل 2: 20).

 

وتعتقد الكنيسة أن يسوع المسيح الذي مات على الصليب، هو الإله المتجسّد إذ سلّم روحه بيد أبيه، وإن لاهوته لم يفارق لا روحه ولا جسده، لحظة واحدة، ويقول مار اسحق بهذا الصدد «شوبؤرا دعدةا ؤنو دءلؤا مية بزقيفا» «إن الكنيسة تفتخر، أن اللّه مات على الصليب» وفيما يأتي شرح لأهم طقوس جمعة الآلام.

  • رتبة سجدة الصليب ودفنه:

طيلة أسبوع الآلام، يجلس رئيس الكهنة خارج المذبح أثناء القيام بتقديم الصلوات. وبعد نهاية صلاة الساعة الثالثة صباح يوم الجمعة العظيمة، التي تصادف الساعة التاسعة صباحاً في توقيتنا اليوم، يلبس الكهنة بدلات سوداء، ويسيرون بالترتيب، ورئيس الكهنة يحمل على كتفه فوق البدلة صليباً من خشب بغير صلبوت، وتبدأ الدورة من الباب الجنوبي كالمعتاد، حيث يسير حامل مجمرة البخور قدام الصليب، ويسير رئيس الكهنة وراء الكهنة وحاملا المروحتين ويرفّان بهما فوقه إلى أن يبلغوا إلى باب المذبح الوسطاني حيث يكون الخادم قد سبق فهيّأ صمدة ترمز إلى الجلجلة. وهذه الصمدة تكون على شكل صليب ينصب في أعلاها عند الانتهاء من الدورة، الصليب المقدس، وعلى جانبيه توقد شمعتان تمثّلان اللصين اللذين صلبا مع ربنا. وفي أثناء قراءة إنجيل الظهر، وعندما يصل القارئ إلى الموضع الذي قيل فيه: «فانتهره رفيقه…» أي اللص التائب الذي يقال أنه كان عن يمين الرب، انتهر اللص الشرير الذي شارك الصالبين بتعيير الرب، يطفئ الشماس الشمعة الشمالية، حين يقول: «وانشقّ حجاب الهيكل من فوق إلى أسفل»، يُزاح نصف الستار. وخلال الدورة يرتل الإكليروس ترانيم خاصة بهذه المناسبة، وتوضع الأواني والمواد المعدّة للتحنيط من بخور وطيوب في صينية على المذبح. وبعد صلاة الساعة التاسعة يلبس كل كاهن همليخه الأسود، ورئيس الكهنة يرتدي حلّة سوداء كاملة ويبدؤون برتبة سجدة الصليب، التي تتضمن صلوات وقراءات من الكتاب المقدس، آخرها قراءة الفصل التاسع عشر من إنجيل يوحنا بدءاً من العدد (25 وحتى 37).

وعندما يصل القارئ إلى الموضع الذي يقال فيه: «أن تكسر سيقانهم ويرفعوا. فأتى العسكر وكسروا ساقي الأول والآخر المصلوب معه، وأما يسوع فلما جاءوا إليه لم يكسروا ساقيه لأنهم رأوه قد مات» (يو 19: 31 ـ 33)، يكسر الشماس الشمعتين الموضوعتين عن يمين الصليب ويساره. وبعد الانتهاء من قراءة الإنجيل يعظ رئيس الكهنة، ثم يأخذ المجمرة ويضع البخور ويبخّر أمام الصليب المقدس قائلاً: «سجدينن لـأليبا دبؤ ؤوا فورقنا لنفشًةن» أي «لنسجد للصليب الذي فيه نلنا خلاص نفوسنا…» ثم يزيّح الصليب بالعبارات المعروفة التي تبدأ بالعبارة الآتية: «يا من تمجده الملائكة» (ؤو دملاكًا).

وإن نصب الصليب وتكريمه في هذا اليوم العظيم وفي كل يوم، مجرداً من الصلبوت أي التمثال بحسب عادة كنيستنا، يذكّرنا بالحية النحاسية التي تعد رمزاً للصليب، والتي قال عنها الرب يسوع لنيقوديموس: «وكما رفع موسى الحية في البرية، هكذا ينبغي أن يرفع ابن الإنسان لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية» (يو 3: 14و15). وبحسب ما دوّنه آباؤنا السريان في كتاب المعذعذان (معدعدنا) الذي هو كتاب طقس الأعياد الحافلة الذي يضمّ ترانيم الطواف (الدورة) على مدار السنة كاملة([166])، فإن رئيس الكهنة يحمل على ذراعيه الصليب، كما حُمل جسد ربنا كميت([167]) ويبدأ الكهنة والشمامسة بالترانيم، وتبدأ الدورة من الجهة الشمالية، وعندما يبلغون إلى المذبح يصعد رئيس الكهنة على درجته ويغسل الصليب بماء الورد، كما فعل يوسف ونيقوديموس، حيث غسلا جسد الرب قبل أن يقوما بدفنه في القبر الجديد. وبعدئذ يحنّط رئيس الكهنة الصليب بالبخور والطيوب ويلفّه بكتان نقي ويضع منديلاً على رأسه، ويربط زناراً على حقويه، ويدفنه في المكان المخصص لهذه المناسبة وراء مائدة الخلاص على الأغلب أو تحتها. ولا يجوز أن يقام القداس الإلهي يوم السبت على تلك المائدة المدفون تحتها الصليب، بل يحتفل بقداس هذا السبت العظيم الذي يدعى سبت البشارة أو سبت النور على مذبح آخر، ويجب أن يكون وجه الصليب المدفون متجهاً نحو الشرق، ويغطى القبر، ويختم بالشمع، ويضاء قنديل قدام القبر. ثم يبدأ رئيس الكهنة صلاة التسبحة بالسريانية وهو يبخّر القبر والحاضرين بالمجمرة والشعب يشاركه التسبيح. وعندما يصلون إلى عبارة «قدوس أنت يا اللّه، قدوس أنت أيها القوي، قدوس أنت الحي غير المائت يا من صُلبت عوضاً عنا ارحمنا»، ينفرد رئيس الكهنة بإنشادها، فيرددها بعده الكهنة والشمامسة والشعب كله. ذلك أن تقليدنا السرياني يعتبر أن هذه الصلاة التي تعرف بصلاة التقاديس، موجّهة إلى السيد المسيح، وهي قديمة في الكنيسة، وبحسب تقليدنا السرياني إن الملائكة سبّحوا الرب بتلك العبارات أثناء قيام يوسف ونيقوديموس بدفن الجسد المقدس، وعندما وصل الملائكة بالتسبيح إلى عبارة أنت الحي غير المائت كمّل يوسف ونيقوديموس التسبحة بقولهما: «يا من صلبت عوضاً عنا ارحمنا».

وبعد الانتهاء من تلاوة هذه التسبحة، تصلى الصلاة الربانية، ثم يُتلى دستور الإيمان النيقاوي، ويصرف رئيس الكهنة الشعب بالبركة. ويأخذ المؤمنون من ماء الورد الممزوج بالخل والمرارة الذي غسل به الصليب المقدس ويشربونه للبركة، ويحذرون لئلا يسكب منه على الأرض لأنه مقدّس. ومما هو جدير بالذكر أن أبناء الكنيسة اعتادوا في أسبوع الآلام وخاصة في جمعة الآلام العظيمة ألاّ يشربوا أو يأكلوا شيئاً حلو المذاق، لأن المسيح عند عطشه طلب ماءً فأعطي بأسفنجة خلاً ممزوجاً بمرارة. كما اعتاد المؤمنون ألاّ يُقبّلوا بعضهم بعضاً، لأن يهوذا الخائن بقبلة سلّم الرب إلى صالبيه. كما أننا لا نحتفل بالقداس الإلهي يوم جمعة الآلام، لأن ذلك اليوم العظيم هو ذكرى تقديم المسيح ذاته ذبيحة كفّارية على الصليب. أما في أيام أسبوع الآلام وأيام الصيام الأربعيني، فنحتفل بما نسمّيه رسم الكاس وهو تقديس القدسات السابق تقديسها مقتصرين على الاحتفال بالقداس الإلهي في فترة الصيام على أيام السبت والأحد فقط. ولا نصوم أيام السبت والأحد انقطاعاً عن الطعام تكريماً لهما، ما عدا سبت البشارة الذي يلي جمعة الآلام حيث نصومه انقطاعاً عن الطعام على اعتبار أن جسد الرب كان في ذلك اليوم لا يزال مدفوناً في القبر. وتوضع عادة مروحتان على جانبي الموضع الذي دُفن فيه الصليب المقدس، ليمثّلا الحرس الذين وضعتهم السلطة الرومانية بناء على طلب رؤساء اليهود لحراسة القبر الذي دُفن فيه جسد الرب المقدس. ولا يدخل إلى ذلك المكان أحد إلى ما بعد نصف ليلة السبت أي فجر يوم الأحد، الوقت الذي فيه جاءت المريمات إلى القبر، فبشّرها الملاك أن الرب يسوع قد قام من بين الأموات. وفي هذا الوقت عادة يأتي رئيس الكهنة ويرفع المروحتين، مبعداً إياهما عن جانبي القبر. ويفتح الموضع الذي دُفن فيه الصليب معلناً أمام المؤمنين الحاضرين في الكنيسة أن المسيح قد قام من بين الأموات، فيجيبونه: حقاً قام.

  • سبت البشارة ويدعى أيضاً سبت النور:

هو السبت الوحيد، طيلة السنة، الذي يسمح فيه لدينا بأن نصومه انقطاعاً عن الطعام والشراب حتى الظهر حيث يحتفل بالقداس الإلهي على مذبح غير المذبح الذي دُفن تحته الصليب المقدس كما ذكرنا. وفي هذا اليوم نمارس طقس المسامحة بعد الساعة التاسعة أي الثالثة بعد الظهر حيث تتلى صلوات التوبة والندامة والطلب من اللّه ليؤهّلنا أن يسامح بعضنا بعضاً كما سامحنا اللّه بالمسيح، ثم يتلى الفصل (18) من الإنجيل بحسب متى بدءاً من (العدد 12 وحتى العدد 35). ثم يجثو المؤمنون ويطلب بعضهم من بعض المسامحة والمغفرة. ثم يخرجون ويصلون صلاة مساء عيد قيامة المسيح من بين الأموات، القيامة التي برهنت على أنّ اللّه الآب قد قبل حقاً ذبيحة ابنه الوحيد كفّارة عن البشرية فمحا صكّ الخطية الجدية وانتصر على إبليس والموت والخطية، ومنح المؤمنين به نِعَم التبرير والتقديس والتبني. وأخيراً إن عملوا بشريعته يستحقون أن يرثوا كبنين بالنعمة ملكوت السماء.

إلى هنا أعاننا الرب فتحدّثنا عن أسبوع الآلام المحيية بحسب طقس كنيستنا السريانية، بناء على دعوة أصدقائنا المسؤولين في كلية اللاهوت في جامعة هايدلبرغ ـ ألمانيا، ونشكركم وإياهم على حسن إصغائكم والرب يبارككم.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

القديسة مريم العذراء )*(

في الكنيسة السريانية الأرثوذكسية

 

  • مقدمة:

ما أشهى الحديث عن والدة الله القديسة مريم العذراء! فقد أشبع آباء الكنيسة الميامين سيرتها درساً وتمحيصاً، ونظم الشعراء الكنسيون الملهمون بديع القصائد في تبجيلها، ونحت لها الفنانون الشهيرون أجمل التماثيل، وملأ الرسامون الماهرون الدنيا بصورها الرائعة، وشيّد ا لمؤمنون على اسمها أفخم الكاتدرائيات في العالم.

  • أعيادها:

وهذه كنيستنا السريانية الأرثوذكسية منذ فجر وجودها تتغنى بفضائلها، وتطوّبها متشفعة بها، مرددة في صلواتها اسمها الكريم صباح مساء. كما رتّبت لها أعياداً على مدار السنة، ففي الثامن من شهر أيلول تحتفل بعيد ميلادها، والكنيسة عادة تعيّد للشهداء والقديسين تخليداً لذكرى انتهاء جهادهم الروحي على الأرض وانتقالهم إلى السماء، وانضمامهم إلى كنيسة الأبكار، ولكنها استثنت من هذه القاعدة العذراء القديسة مريم ومار يوحنا المعمدان. وكانت تعيّد للعذراء أيضاً عيد دخولها إلى الهيكل. كما يُعيّد لها ثلاثة أعياد لبركة الزرع والسنابل والكروم.

وينسب الشعراء السريان المسمّون بالقواقين([168]) وضع هذه الأعياد إلى القديس يوحنا الإنجيلي حيث يقولون ما تعريبه: «رشت أرض أفسس ونضحت بندى وطلّ عندما جاءها مار يوحنا يكتب العذراء التي دوّن فيها وجوب الاحتفال بأعياد العذراء المباركة ثلاث مرات في السنة. ففي شهر كانون الثاني عيدها (لبركة) الزرع، وفي شهر أيار عيدها (لبركة) السنابل، وفي شهر آب عيدها (لبركة) الكروم التي يصور فيها سر الحياة». وهذه الأعياد الثلاثة تقع في اليوم الخامس عشر من الأشهر الثلاثة المذكورة. وقد حلَّ عيد انتقال السيدة العذراء محل عيد بركة الكروم الذي يقع في الخامس عشر من شهر آب([169]). ولقدسية عيد انتقال السيدة العذراء فرضت الكنيسة صوماً يلتزم به المؤمنون استعداداً لاستقباله ويسمى صوم السيدة. وكان سابقاً أربعة عشر يوماً بدؤه في اليوم الأول من شهر آب. وكان المؤمنون يقتصرون في هذا الصوم على أكلة واحدة في اليوم يتناولونها مساءً خالية من لحم كل حيّ، والبيض والحليب ومشتقاته، ويكتفون بتناول: الخضراوات والبقول ويمتنعون عن المسكرات أيضاً. وقد تساهلت الكنيسة في هذا الجيل فخففت هذا الصوم وجعلته خمسة أيام تبدأ في اليوم العاشر من شهر آب. وفسّحت وسمحت بتناول وجبتين أو ثلاث وجبات في النهار وبتناول السمك والحيوانات المائية. وتعيّد الكنيسة أيضاً للعذراء في اليوم الثاني لعيد ميلاد الرب يسوع، عيد تهنئة العذراء بالميلاد، وفي اليوم الثاني لعيد قيامة الفادي من بين الأموات، عيد تهنئة العذراء بقيامة ابنها. كما تعيّد في الخامس عشر من شهر حزيران عيد أول كنيسة بنيت على اسم العذراء. هذا ومن أهم الأعياد في النصرانية عيد بشارة العذراء بالحبل الإلهي ويقع في الخامس والعشرين من شهر آذار. كما خصّصت الكنيسة السريانية في بدء السنة الطقسية ما يسمى بالآحاد السابقة للميلاد، ضمنها أحد بشارة العذراء وأحد زيارة العذراء لنسيبتها اليصابات، وأحد وحي يوسف وهو تطمين الملاك جبرائيل ليوسف خطيب العذراء ببراءتها وكشف السر الإلهي له، إن الذي حُبل به في العذراء مريم هو من الروح القدس.

وتفنن آباء الكنيسة في مديح العذراء في الأعياد نثراً وشعراً ونظموا طقوساً ضمتها مجلدات ضخمة سميت بالفناقيث([170]) كما يضم كتاب فرض الصلوات اليومية التي تكرر أسبوعياً المسمى (بالإشحيم)([171]) أناشيد روحية منظومة ومنثورة ترتل يومياً صباح مساء وموضوعها إعلان العقيدة المستقيمة الرأي بالعذراء مريم والإقرار بها، وإظهار مكانة العذراء السامية في قلب المؤمن وفي الكنيسة عامة والتشفع بها والاستغاثة بصلواتها المستجابة. ورأينا أن نقتبس منه في بحثنا هذا شذرات زيادة للفائدة.

ففي موضوع أعياد العذراء والغاية من الاحتفال بها نقرأ في صلاة القومة الأولى ليلة الاثنين ما ترجمته:([172]) «ليكن ذكرك للبركة يا والدة الله العذراء، فأجيبي سؤل البعيدين والقريبين، ومنّي بالشفاء على المرضى واطلبي (من ابنك) أن يمد المتضايقين شجاعة، واطردي الشرير ممن يعذّبهم، فبقوة صلاتك وطلبتك لتحلّ علينا المراحم هاليلويا ولتعضدنا صلاتك».

وفي صلاة مساء الاثنين([173]) نقرأ ما ترجمته: «ليكن ذكر المباركة العذراء والدة الإله مؤبداً لأنها ولدت لنا في بتوليتها المسيح الملك مخلص العوالم كافة هاليلويا فلتكن صلاتها معنا».

وفي نشيد يرتل مساء الخميس([174])  نقرأ ما ترجمته: «أيتها المباركة التي صارت أم الله بالطهارة والقداسة ودون زواج، استمدي الرحمة في يوم ذكراك هذا لتكون فيه الراحة للأموات والرجاء للأحياء.. إن كان جسدك بعيداً عنا أيتها القديسة فصلواتك معنا دائماً، فتضرعي إلى القوة الخفية (الابن) الذي هبط من عليائه وحلَّ فيك لكي يغفر لنا».

وفي صلاة مساء الجمعة([175]) نقرأ لمار يعقوب السروجي (ت 521) طلبة يقول فيها ما ترجمته: «ما أجمل وما ألذّ يوم تذكار العذراء مريم المباركة التي صارت أماً لأبن الله فبجاه صلواتها يا رب أبعد قضبان الغضب عن كل من يلتجئ إليها مؤمناً».

وفي صلاة القومة الأولى من ليلة السبت([176]) يقول مار يعقوب ما ترجمته: «هلم أيها الأفاضل لنبجل يوم عيد الطوباوية (مريم) ونعظمه بمحبة فائقة وإيمان (ويقظة) وسهر طويل، والاستمرار بتقديم الصدقات ورفع الصلوات (فالعذراء)  تفي مكرّميها أجراً مضاعفاً».هلمي أيتها القديسة ووزعي في يوم عيدك الهدايا على جمعنا المتعطش إلى صلواتك وطلباتك، وليكن الرب سوراً لجميع من يكرّمونك، وليصد عنهم الضربات وقضبان الغضب كافة.. إن القوة التي قَوَّتكِ هي التي تقوي جمعنا ليتمكن من تقديم المدح لك. وتدعونا بجاه صلواتك إلى خدور النور وليُحْصِ الرب مع جوقة الملائكة كل من كرم عيدك والتجأ إليك من الأحياء والأموات.. يا رب في يوم عيد أمك ترفع إليك رعيتك التسبيح النقي بنغمة عذبة وتهليل، فارسم بصليبك أبوابها العالية وأبعد عنها الأضرار ولتصعد إليك المجد وإلى أبيك وإلى الروح القدس…

وجاء في صلاة صبح السبت([177]) ما تعريبه: «ليكن في الكنائس والأديار ذكر مريم والدة الله النقية والقديسة في بتوليتها وقد حسنت لملك الملوك فهبط وحلَّ في حشاها»…

  • العذراء مريم من خلال نبوات الكتاب المقدس:

ففي ميدان دراستنا لتاريخ حياة العذراء القديسة مريم وتأملنا بسيرتها الطاهرة، لا بد أن نستند إلى أسفار الوحي الإلهي وما تركه لنا آباء الكنيسة من دراسات واسعة في تفسير الكتاب المقدس، فبحسب تعاليم هؤلاء الآباء أن عشرات النبوات التي أعلنها الوحي الإلهي ودوّنت في الأسفار النبوية في العهد القديم قد تمت في العذراء مريم، كما أن الآباء رأوا في بعض شخصيات الكتاب المقدس وحوادثه رموزاً وإشارات إليها. فهي المرأة المقصودة بوعد الله تعالى للإنسان بالخلاص بقوله تعالى: «ونسل المرأة يسحق رأس الحية»(تك 3: 15) ونسلها المسيح يسوع الذي حُبل به فيها من الروح القدس وليس من زرع رجل، وهي حواء الجديدة، كما أن ابنها المسيح هو آدم الجديد، وإذا كان الله قد أخذ ضلعاً من جنب آدم وصنع منه حواء المرأة الأولى، ففي تجديد الخليقة ولد الإله المتجسد وهو آدم الثاني من العذراء التي هي حواء الثانية. وهي العذراء التي قال عنها النبي اشعيا (القرن الثامن ق.م) نبوته الشهيرة: «هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل»(اش 7:14) الذي تفسيره الله معنا (مت 1: 23) وقد تناول الآباء بكتاباتهم هذه النبوات والرموز والإشارات وضم بعضها إلى كتب الصلوات، وإليك جزءاً مما دون في كتاب فرض الصلاة الأسبوعي (الإشحيم) فقد جاء في القومة الأولى من صلاة ليلة الأربعاء([178]) ما ترجمته: «أطلق الصديقون الأولون على مريم ابنة داود، العذراء القديسة، أسماء جميلة وبهية، فحزقيال ابن السبي سمّاها باباً مغلقاً([179]) وسليمان دعاها جنّة موصدة وينبوعاً مختوماً، وداود دعاها مدينة نبت فيها المسيح عشباً، دون زرع، وصار مأكلاً للشعوب. وفي يوم ميلاده حررنا من اللعنة».

وفي صلاة صبح الثلاثاء([180]) نقرأ ما ترجمته: «إنَّ العوسجة التي رآها موسى على جبل سينا ترمز إليك أيتها العذراء القديسة، فالعوسجة تمثل جسدك المقدس، وأوراقها التي لم تحترق ترمز إلى بتوليتك هاليلويا وهاليلويا والنار الذي في العوسجة يرمز إلى الله الذي حلَّ فيك…».

وفي صلاة مساء الأربعاء([181]) نقرأ ما ترجمته: «إنَّ المركبة التي رآها النبي المختار حزقيال لا تطال جمالك، فالحيوانات المشدودة إليها والكاربيون يباركون. وصور الوجوه الأربعة، أي صورة الأسد والثور والنسر والإنسان يختلف بعضها عن بعض. أما ركبتاك أيتها الأم المباركة فقد صارتا له مركبة، وذراعاك صارتا له عجلة، وفمك يرنّم المجد».

وجاء في صلاة مساء السبت([182]) ما ترجمته: «لقد رمز إليك موسى بالعليقة (يا مريم) ورمز إليك أبوك داود بتابوت العهد، وجدعون بالجزة ويعقوب الصدّيق بالسلم الذي ارتقى به الجنس البشري إلى السماء».

وجاء في طلبة لمار يعقوب ضمن صلاة صبح الأربعاء([183]) ما تعريبه: طوباك يا مريم فإن تابوت العهد الذي صنعه موسى كمثال، يرمز إليك بصورة سرية، فقد احتوى اللوحين اللذين كتبهما الله، وأما أنت يا مريم فقد حويت خبز الحياة الحقيقي.

وفي صلاة صبح السبت([184]) نقرأ ما ترجمته: «لقد رمزت إليك الصخرة التي نبعت منها الأنهر في البرية، أيتها البتول القديسة، فقد أشرق منك للعالم ابن الله الذي هو صخرة الحق على حد قول الرسول بولس.. أيتها العذراء الممتلئة فتنة عنك تنبأ الملك داود قائلاً: إنَّ ابنة الملك قامت (عن يمين الملك) بمجد وقداسة، واشتهى الملك جمالها فنزل وحلَّ في حشاها».

هذا وقد رأى بعض الآباء رموزاً أخرى تشير إلى العذراء كالشجرة التي وجدت في جبل موريا وحملت كبشاً خلص اسحق من الذبح، وعصا هارون التي أزهرت وأثمرت لوزاً. وغير ذلك.

  • نسب العذراء:

تنتمي العذراء القديسة مريم إلى سبط يهوذا وهي من نسل داود، وتتصل بصلة القرابة مع اليصابات أم يوحنا المعمدان التي تدعى في الإنجيل المقدس نسيبة العذراء (لو 1: 36) ويقال أنها كانت خالتها. كما أنَّ سالومي زوجة زبدي وأم يعقوب ويوحنا هي الأخرى تمّت بصلة القرابة إلى العذراء مريم (مت 27: 56 و 19: 25) وقد وردت في الإنجيل المقدس سلسلة نسب السيد المسيح من ناحية يوسف خطيب العذراء (مت 1: 16 و لو 3: 23 و أع 2: 20 و رو 1: 3) والعذراء ويوسف هما من سبط واحد. فالعذارء مريم إذاً هي سليلة الكهنة والملوك والأنبياء، وهي ابنة داود، ولذلك قال لها الملاك لما بشّرها بالحبل الإلهي: «ستحبلين وتلدين ابناً… يكون عظيماً وابن العلي يدعى… ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد…»(لو 1: 31 ـ 32).

  • العاقران يواكيم وحنة والدا العذراء مريم:

ويذكر لنا التقليد الكنسي المستند إلى تعاليم الرسل، أنّ والدي العذراء مريم هما يواكيم وحنة، وأن أبا حنة هو الكاهن متّان من سبط لاوي ومن آل هارون، وأنَّ والدة حنة هي مريم من سبط يهوذا. وأن يواكيم وحنة كانا يقيمان في قرية بالقرب من الناصرة من أعمال الجليل وكانا ميسورين ويوزعان أرباحهما على الهيكل والفقراء، وما تبقى لهما يسدان به حاجتهما. وكانا عاقرين وبارّين أمام الله وسائرين بحسب نواميسه الإلهية، وكان العقر، لدى اليهود يعتبر لعنة من الله، وعاراً أمام الناس، ذلك أنَّ كلَّ فتاة يهودية كانت تطمح وتصلي أن يولد منها المسيح ماسيا المنتظر، فكان يواكيم وحنة يواظبان على الصلاة والطلب إلى الله ليزيل العار عن دارهما، وهكذا بلغا سن الشيخوخة دون أن تستجاب طلبتهما. ويُحكى أن يواكيم أتى مرّة إلى هيكل الرب ليقدم تقدمة فرفض الكاهن التقدمة لأنَّ مقدمها (عاقر) فعاد يواكيم إلى داره مغتمّاً، كسير القلب، ذليلاً، وأكثر من البكاء أمام الله، تشاركه بذلك زوجته حنة، فاستجاب الله طلبتهما ورزقهما ابنة سمياها مريم. وهو اسم سرياني مركب من (مور) و(يام) ومعناها بحر المرارة. وقال بعضهم إنَّ معنى كلمة (مريم) نجمة البحر، وكذلك النور.

  • الحبل بالعذراء مريم وولادتها:

لا بدَّ أن نذكر هنا أن الحبل بالعذراء مريم قد تم حسب الناموس الطبيعي، فهي من رجل هو يواكيم وإمرأة هي حنة. وأنَّ العذراء ابنة ا لعاقرين كاسحق وصموئيل ويوحنا المعمدان. وأنها مثل هؤلاء وكسائر الناس قد ورثت عن أبويها خطية أبوينا الأولين آدم وحواء التي تسمى الخطية الأصلية أو الجدية([185])، التي تشمل كل الإنسانية بدءاً من آدم الذي لما أخطأ كان يمثل نسله فاشتركت سلالته بمسؤولية الخطية التي لم يكن بالإمكان محوها من الإنسانية الساقطة إلا بتجسد الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، لذلك يقول الرسول بولس: «بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم، وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع»(رو 5: 12) وقال داود: «هاأنذا بالإثم صوّرت وبالخطية حبلت بي أمي»(مز 51: 5) ولم يستثن من إرث هذه الخطية ممن لبس الجسد إلا ربنا يسوع المسيح «الذي أخذ كل ما لنا ما عدا الخطية» والذي صار كفارة عن خطايا العالم «متبرّرين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح الذي قدّمه الله كفارة بالإيمان بدمه لإظهار برّه من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله»(رو 3: 23 و 24) وكما بإنسان دخلت الخطية إلى العالم كذلك بإنسان زالت (رو 5: 12 و 15) فالعذراء مريم إذن كسائر الناس ولدت تحت حكم الخطية وقد ولدت على الأرجح في الناصرة.

  • العذراء في الهيكل:

لما بلغت العذراء مريم الثالثة من عمرها وفى أبواها نذرهما وقدماها إلى الهيكل، وفي غضون إقامتها في الهيكل توفيا دون أن يعرفا شيئاً عن مستقبل ابنتهما، وقد جاء في الطقس الكنسي رأي آخر للآباء، ففي صلاة صبح يوم الجمعة في كتاب فرض الصلوات اليومية (الإشحيم)([186]) نقرأ ما ترجمته: «صارت مريم يتيمة الأب والأم، لقد مات أبواها وتركاها فنقلها الكهنة إلى بيت المقدس وفقاً لأمر موسى وربّوها، فانحدر رب الأنبياء إليها وباركها وقدسها هاليلويا، فلتكن صلاتها سوراً لنا وحمى» وفي الرأيين نرى أن العذراء ربيت في الهيكل منذ نعومة أظفارها، وصارت لله وحده تعبده تعالى وتخدم في هيكله مع النساء المسنات العابدات مثل حنة النبية بنت فانوئيل التي كانت «لا تفارق الهيكل»(لو 2: 37). وكانت العذراء مريم تدرس أسفار الوحي الإلهي، وتحفظ الناموس.

ولا يفهم من نذر مريم أنها نذرت البتولية طوال أيام حياتها، فإن نذر البتولية مدى الحياة لدى الفتيات لم يكن متبعاً لدى اليهود، ولأن كل فتاة يهودية كانت تتوق إلى أن يولد منها ماسيا، لذلك كانت تنتظر يوم زفافها بفارغ الصبر. ولهذا نرى ابنة يفتاح لما علمت بأن أباها نذر بتقديم أول من يخرج لاستقباله بعد عودته منتصراً، محرقة للرب، وكانت هي أول من خرج لاستقباله، وكان لا بد أن يكمل أبوها هذا النذر فيها، ولئن اعتبر النذر ضد شريعة الله (تث 12: 31) طلبت إليه قائلة: «اتركني شهرين فاذهب وانزل على الجبال وأبكي عذراويتي أنا وصاحباتي«(قض 11: 37) لقد كانت الرهبانية معروفة لدى الوثنية ودخلت اليهودية أيضاً حيث تبنّاها (الآسينيون) ولكن ذلك كان خروجاً على تقاليد  اليهود الدينية وعلى تعاليم التوراة التي تعتبر سنّة الزواج ضرورة إتماماً لأمر الله تعالى «أثمروا واكثروا»(تك 1: 28). وقد ظهر بعض الأنبياء ممن حافظ على البتولية كإيليا، ويوحنا المعمدان وغيرهما. ولكن ذلك كان لغاية ربّانية، واعتبروا من الشواذ، والشاذ لا يقاس عليه.

  • العذراء تخطب ليوسف البار:

لما بلغت مريم الرابعة عشرة من عمرها، ولكونها لطيمة قد فقدت والديها، اعتبر الكهنة بمثابة والديها، وبحسب العادة المتبعة عصرئذ استدعوا أقرب أقربائها وألقيت القرعة عليهم فوقعت على يوسف الصدّيق فاعتبر خطيباً للعذراء مريم. ولقد ارتأى بعض الآباء أن يوسف كان أرملاً وكان له أولاد من زوجته المتوفاة، دعوا فيما بعد أخوة للرب. وقال آخرون إنه كان بتولاً. ومن مجريات الحوادث نعلم يقيناً أنه كان فقيراً مدقعاً، وكان يزاول مهنة النجارة البدائية البسيطة في الناصرة.

 

  • البشارة:

كان المتعارف عليه في ذلك الزمان أن الخطبة تعقد لمدة عام قبل الزواج، ففي الفترة التي كانت فيها مريم مخطوبة ليوسف، أُرسل إليها الملاك جبرائيل من الله وهي في مدينة الناصرة في الجليل، فبشرها بالحبل الإلهي بقوله: «السلام عليك يا مريم، يا ممتلئة نعمة، الرب معك.. ها أنت تحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع.. هذا يكون عظيماً وابن العلي يدعى وسيعطيه الرب الإله عرش داود أبيه ويملك على آل يعقوب إلى الأبد، ولن يكون لملكه انقضاء» وتسأل مريم ببساطة: «كيف يكون هذا وأنا لا أعرف رجلاً» فيجيبها الملاك: «الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك، ومن أجل ذلك، فالقدوس المولود منك يدعى ابن الله». وتجيب مريم بتواضع «ها أنا أمة الرب فليكن لي حسب قولك» (لو 1: 26 ـ 38).

وفي اللحظة التي قبلت مريم أمر الرب حلَّ عليها الروح القدس فطهّرها من الخطية وقدّسها (لو 1: 35) وحلَّ اللاهوت في حشاها وجبل له من دمائها جسداً كاملاً وبدأ بذلك سر التجسد الإلهي بغير زرع بشر (مت 1: 18) وأخذ الإله من العذراء الطبيعة البشرية بكاملها، أي جسداً حقيقياً ذا نفس عاقلة ناطقة (لو 23: 46 مت 26: 38)([187]) وهكذا شابهنا في كل شيء ما خلا الخطية (عب 4: 15) فالمولود من العذراء سمي قدوساً وابن الله (لو 1: 35).

وتعتبر حادثة بشارة العذراء بالحبل الإلهي بدء سري التجسد والفداء، وإكراماً للسيدة العذراء القديسة مريم رتب آباء الكنيسة السريانية أن يتلو المؤمنون، السلام الملائكي عند ختام الصلوات الفرضية صباح مساء، وحتى إذا شاؤوا عند ختام الصلوات الفردية ودونك صلاة السلام الملائكي:

«السلام عليك يا مريم العذراء الممتلئة نعمة، الرب معك، مباركة أنت في النساء ومبارك ثمرة بطنك يسوع. يا مريم القديسة، يا والدة الله صلّي من أجلنا نحن الخطأة الآن وفي ساعة موتنا آمين».

وقد جاء في صلاة مساء الثلاثاء([188]) بموضوع البشارة ما ترجمته: «طار جبرائيل بالأجنحة الروحية ووصل إلى مريم وبلّغها السلام الذي أرسل إليها قائلاً لها: السلام عليك، الرب معك، إنَّ مخلص العوالم يشرق منك.. تعجب جبرائيل ببتوليتك يا أم الله، وكتف يديه، وسجد أمامك وحيّاك لأنه رأى ربه قد حلَّ فيك وأنك مثل المركبة تحملين حامل البرايا»..

وفي صلاة الساعة الثالثة من يوم الأربعاء([189]) نقرأ أبياتاً شعرية لمار يعقوب السروجي وترجمتها: «إنني أتكلم متعجباً منذهلاً من الدرجة العظمى التي ارتقتها ابنة البشر. فهل أنَّ النعمة أهبطت إليها ابن العلاء أم أنها هي التي أرادت أن تكون أماً لوحيدها!؟ من الواضح أنَّ الله نزل إلى الأرض بالنعمة، وحيث كانت مريم طاهرة كثيراً اقتبلته، وقد نظر إلى تواضعها ووداعتها فحلَّ فيها، إذ يروق للقدوس أن يسكن في المتواضعين… إني لا أسكن إلا في الودعاء والمتواضعين. لقد نظر فرأى أنها الأكثر تواضعاً بين بني البشر مولودي النساء فلم يتواضع منذ البدء أحد قط مثل مريم. ومن الواضح أنه لم يرتفع أحد مثلها أيضاً… المجد للآب الذي اختارها لتواضعها، والسجود للابن الذي بتواضع هبط (من علياء سمائه) وحلَّ فيها، الشكر للروح (القدس) الذي يروق له أن يسكن في المتواضعين المجد للطبيعة الواحدة لثلاثتهم… بصلوات تلك التي حملتك تسعة أشهر، أبعد عنا يا ابن الله قضبان الغضب».

  • العذراء مريم تزور نسيبتها اليصابات:

سمعت مريم الملاك يقول لها: «هوذا اليصابات نسيبتك هي الأخرى حبلى في شيخوختها، وهذا هو الشهر السادس للمدعوة عاقراً… »(لو 1: 36) فتبتهج مريم لهذا النبأ العجيب، وتفرح لنجاح القريب، وهذا فعل محبة فائقة. وتغادر مريم الناصرة متّجهة نحو جبل اليهودية لتزور اليصابات زوجة زكريا، فحيّتها اليصابات بأنشودة نبوية جاء فيها: «من أين لي هذا أن تأتي أم ربي إليَّ هوذا عندما وقع صوت سلامك في أذني ارتكض الجنين في بطني.. طوبى للتي آمنت أن يكون لها هذا من قبل الرب» .. فأجابتها مريم بأنشودة أكثر روعة من أنشودتها وبكلمات نبويّة خالدة تتلوها الكنيسة صباح كل يوم في صلواتها، قالت فيها: «تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلّصي، لأنه نظر إلى تواضع أمته فهوذا منذ الآن تعطيني الطوبى جميع الأجيال لأن القدير صنع بي عظائم واسمه قدوس ورحمته إلى جيل الأجيال للذين يتّقونه…» (لو 1: 42 ـ 55) ومكثت مريم مع اليصابات مدة تقرب من ثلاثة أشهر، ويقول بعضهم إنها انتظرت إلى أن وضعت اليصابات ابنها، ويقول آخرون إنها غادرت بيت زكريا قبل أن تضع اليصابات ابنها يوحنا لئلا تقوم السيدة العذراء أم الرب بخدمة نسيبتها أم يوحنا الذي قال بعدئذ إنه لا يستحق أن يحل سير حذاء الرب يسوع.

وما أجمل الكلمات التي كتبها الآباء في وصف لقاء العذراء باليصابات ففي صلاة صبح الأربعاء([190]) نقرأ ما ترجمته «إنَّ اليصابات أم يوحنا (المعمدان) ومريم أم يسوع حصنان اختارهما الملك، العقر والبتولية، لقد ارتكض الجنين للجنين، الجديد للقديم، وسلم على سيده قائلاً: هلم بسلام فإنَّ سلامك يؤمن المسكونة» وجاء في صلاة مساء الجمعة([191]) ما تعريبه: «إنَّ مريم واليصابات سفينتان عجيبتان اتجهتا نحو الميناء، فاليصابات ولدت الكارز ومريم ولدت مخلص العالم هاليلويا صلاتهما تعضدنا». وفي صلاة صبح السبت([192]) نقرأ ما ترجمته: «من ترى شاهد جفنتين مغروستين في كرم الرب والمسكونة كلها تتلذذ بخمر عناقيدهما فالجفنتان هما مريم واليصابات والعنقودان هما المسيح ويوحنا، الاشبين والعريس خطيب البيعة المقدسة».

  • شكوك يوسف واطمئنانه:

لما عادت مريم إلى الناصرة ظهرت أمارات الحبل عليها فلم يشك فيها أحد سوى يوسف خطيبها، ذلك أنَّ العذراء كان قد عقد لها على يوسف عقد زواج بحسب عادة اليهود، وكان خلال السنة التي تخطب فيها الفتاة للرجل، يحق فيها للرجل أن يعرفها معرفة زواج ولئن كانت لا تزال في دار أهلها، وقبل أن تزف إليه في الحفلة الكبرى فتنتقل على أثرها إلى داره. ولذلك لم يشك أحد بمريم سوى يوسف الذي أراد تخليتها سراً. أما الآخرون فقد ظنوا بأنها حُبلى من يوسف، إذن مريم اعتبرت خطيبة يوسف لأنها لم تكن قد زفَّت إليه بعد، واعتبرت امرأته لأنه كان قد عقد له عليها عقد زواج، ولما طمأنه الملاك بطهرها سماها امرأته قائلاً: «يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك لأنَّ الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس»(مت 1: 20).

 

  • العذراء تلد الإله المتجسد:

وتُزف العذراء إلى يوسف فتسكن في داره في الناصرة، ويذهبان معاً إلى بيت لحم (لو 2: 4 ـ 20) ليكتتبا بحسب الأمر الذي صدر من أغسطس قيصر. وفي بيت لحم وفي مغارة بسيطة كانت تستعمل كاسطبل، وملحقة بالنزل هناك، وضعت مريم ابنها البكر، وبحبلها به وبولادته منها وبعدهما بقيت بتولاً عذراء كما كانت قبلهما. وكما يجب لجلال هذا الأمر العظيم أي تجسد الإله الكلمة فهي بتول قبل الولادة وعند الولادة وبعد الولادة، وقد ولد الرب منها بأعجوبة، وذلك كما تنفذ أشعة الشمس من الزجاج دون أن تثلمه أو تكسره، وكما دخل الرب بعد قيامته على التلاميذ في العلية والأبواب مغلقة، وكما خرج من القبر وهو مختوم، هكذا خرج بجسم الطفولة والخاتم مصان، فلا عجب إن حافظت العذراء مريم على بتوليتها بعد ولادة ابنها البكر الرب يسوع، وهي التي قالت عن نفسها: «لأنَّ القدير صنع بي عظائم» وهي التي رأت هذه العظائم والعجائب التي صنعها القدير فيها ولها. لذلك دعيت العذراء الدائمة البتولية، وبما أنها ولدت الله الإله المتأنس فقد دعيت أيضاً والدة الله (لو 1: 35 و 43 ـ غلا 4: 4 ـ اش 7: 14).

جاء في صلاة القومة الأولى من ليلة الاثنين([193]) ما تعريبه: «لا أعلم بماذا أسمّيك يا بنت داود، ولا أدري أي اسم أطلق عليك يا مريم؟ هل أسميك بتولاً؟ فهوذا ابن يرضع منك! هل أسمّيك أمّاً؟ وبكارتك ثابتة!؟ إذن أدعوك والدة الله وليخز المجادل المماحك الذي يتجاسر بالبحث عن سرِّ ابنك هاليلويا محروم من حاول سبر غور سرّه.

 

وجاء في صلاة القومة الأولى من ليلة الأربعاء([194]) ما تعريبه: «إنَّ العذراء ولدت عجباً فهلم نذهب ونتأمل بمن هو أقدم من الدهور وقد لف بالقمط، الشيخ القديم الأيام قد ولدته العذراء، الجبار الذي يزن الجبال حملته الشابة (على ذراعيها) الذي يمنح الجائعين خبزاً يرضع الحليب مثل طفل. الابن (الأزلي) الذي لا بداية له شاء وصارت له بداية وأتى للولادة وهو (أبدي) لا نهاية له».

وجاء في صلاة مساء الأربعاء([195]) ما تعريبه: «قالت مريم (مناجية ابنها): لقد قوّيتني فحملتك، ولما ولدتك في المغارة أظهرت لي مجدك، فهوذا النار تحف بالمذود الصغير، والساروفيون ذوو الأجنحة الستة يرفرفون فوقه فأصدر إليهم أمرك ليرفعوا أجنحتهم (ويفسحوا لي المجال) لأدخل وأسجد لك وأرضعك حليباً نقياً تستحسنه.. قالت مريم إنني فقيرة، فليس لي بيت في الأرض ولا مضجع ولا فراش، فقد لففت بالقمط الأقدم من كل شيء، ووضعتُ في المذود رب الخلائق. لا شريك لأبيه في السماء، ولا مثيل لأمه على الأرض وهو الرب وأنا أمته والكنيسة هي خطيبته»..

وفي صلاة القومة الأولى لليلة الخميس([196]) نقرأ: «قالت مريم للمسيح لما ولدته لست أدري، يا بني، بما أدعوك، هل أدعوك طفلاً وأنت أقدم من الدهور؟ أم أدعوك شيخاً وأنت طفل؟ إنني أدعوك شعاعاً أشرق من الآب، وجاء فأضاء الخلائق كلها هاليلويا مبارك ضياؤك ومبارك إشراقك، والسجود لأبيك الذي أرسلك لخلاصنا.. قالت مريم للعذارى رفيقاتها: إنني مبتهجة ومسرورة جداً لأنني أحمل حامل البرايا الذي تخدمه الملائكة، وأناغي من علم اللحن للبشر، فصفوف النورانيين تحيط بجلاله هاليلويا وتهتف له: قدوس قدوس قدوس هو الرب مبارك وقاره».

وجاء في صلاة صبح الاثنين([197]) ما ترجمته: «لقد أشرق لنا الرب من الآب، (وولدت) بنت داود المخلص، (ومنحت) بيت لحم خبز الحياة للشعوب التي آمنت به. السجود للآب الذي أرسل ابنه، ومباركة مريم التي ولدته، وطوبى للكنيسة التي اقتبلته وهي ترتل له (ترانيم) المجد.. إنني كنت مارّاً بيت لحم، فسمعت في المغارة صوت مريم وهي تناغي ابنها قائلة له: الطوبى لي يا بني لأني صرت أمك. ولأني أرضعتك الحليب، ولن أقترب منك ما لم تسمح لي بذلك..».

  • العذراء الدائمة البتولية:

هذه هي العذراء والدة الله، الدائمة البتولية بكر الأبكار وعذراء العذارى التي ولدت الإله المتجسد وهي بتول قبل الولادة وفي الولادة وبعد الولادة كما ذكرنا آنفاً. أما العبارة التي يذكرها الإنجيلي متى وهي «لم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر»(مت 1: 25) فقد قصد متى من كتابتها أن يثبت لنا أنَّ مريم كانت عذراء قبل ولادتها الرب يسوع وفي الولادة وأنها قد حبلت بابنها من الروح القدس وليس من زرع رجل. أما حالة مريم ما بعد ولادتها الرب فلم يتطرق إليها متى، كما أنَّ النفي بأن يوسف لم يعرف العذراء مريم معرفة زوجية قبل ولادتها يسوع لا يحمل في مضامينه البتة التأكيد بأنه عرفها بعد الولادة، فلفظة (حتى) لا تستعمل دائماً للدلالة على قطع حكم ما قبلها عما بعدها، وإننا نفهم ذلك من استعمالها في الكتاب المقدس في مواضع أخرى، من ذلك قول الكتاب: «ولم يكن لميكال بنت شاول ولد حتى يوم موتها»(2صم 6: 23) فمن يستنتج من ذلك أنها ولدت بنين بعد مماتها؟([198]).

وقد يكون معنى «لم يعرفها» أي لم يعرف جليل قدرها، ومكانتها الروحية لدى الله حتى ولدت ابنها البكر، فرأى يوسف أعاجيب الميلاد وشاهد الملائكة حول المذود.. الخلاصة أنَّ يوسف لم يعرف العذراء مريم معرفة زواج البتة، وأنها دائمة البتولية.

  • الابن البكر:

أما عبارة «ابنها البكر» التي وردت أيضاً في إنجيل لوقا (2: 6 ـ 7) فهي لا تعني أنَّ العذراء مريم ولدت أولاداً آخرين بعد يسوع، وبالتالي ليست دائمة البتولية، لأنَّ لفظة البكر تطلق على أول الأولاد سواء كان له بعده أخوة أم لم يكن، وهذا هو مفهوم الكتاب المقدس حيث أمرت الوصية بأن يتم فداء البكر ولم يكن ينتظر حتى يتبعه أخوة ليشهدوا له بالبكورية، ومما لا شكَّ فيه أنه لو كان ليسوع أخوة لسلّم إليهم أمه، ولما كان استودعها تلميذه يوحنا الحبيب. وقد دعي المسيح بكراً بمعانٍ كثيرة، فهو بكر الآب السماوي، وبكر مريم، وبكر الراقدين والخ… ([199]).

  • إخوة الرب:

أما الذين دعوا في الإنجيل المقدس أخوة الرب (مت 13: 55) فهم أقاربه أي أبناء عمومته أو أبناء خؤولته، لأنَّ الوحي الإلهي يطلق لفظة (اخوة) على الأقارب وأفراد العشيرة الواحدة (تك 31: 37 وخر 2: 11) ولأجل ذلك دعا ابراهيم لوط ابن أخيه، أخاه.

  • والدة اللّه:

وقد أطلقت الكنيسة المقدسة على العذراء القديسة مريم تسمية (والدة الله) كما مرَّ بنا، ذلك أنها ولدت الإله بالجسد. ولكن نسطور بطريرك القسطنطينية في القرن الخامس أنكر على العذراء هذه التسمية الشريفة فحرمه المجمع المسكوني الثالث الملتئم في أفسس سنة 431 المؤلف من مئتي أسقف أقروا بأن المسيح هو أقنوم واحد وطبيعة واحدة بعد الاتحاد، بدون اختلاط، ولا امتزاج ولا استحالة، ثم وضعوا مقدمة دستور الإيمان التي تثبت أن القديسة مريم هي والدة الله قائلين: «نعظّمك يا أم النور الحقيقي ونمجدك أيتها العذراء القديسة والدة الإله لأنك ولدت مخلص العالم كلّه»([200]).

لا غرو فإنَّ لقب «والدة الله» هو ملخص عقيدة التجسد السمحة وقد استعملته الكنيسة المقدسة منذ العصور الأولى للمسيحية وذكره الآباء الأولون في كتاباتهم ثم أقرّه وأثبته مجمع أفسس سنة 431 فقد قال القديس كيرلس الكبير: «وهذا هو التعليم الذي تفرضه الأرثوذكسية في كل مكان بكل تدقيق، وإلى هذا الحد كان يتمسك به آباؤنا القديسون، لذلك كانوا واثقين في تلقيبهم العذراء القديسة مريم بـ والدة الله (ثيئوتوكس) ليس لأن طبيعة الكلمة أو اللاهوت أخذ بدايته من العذراء القديسة، ولكن بما أن جسده المقدس الحاوي نفساً عاقلة قد ولد منها، وهذا الجسد كان متحداً بشخص الله الكلمة لذلك، قيل عنه أنه ولد جسدياً»([201]) فتسمية العذراء بوالدة الله (يلدة ءلؤا) (ثيئوتوكس) ليست لتكريم العذراء إنما هي عقيدة لاهوتية تثبت أنَّ المسيح المولود من العذراء هو لاهوت وناسوت متحدان في أقنوم واحد، وطبيعة واحدة. لذلك يحق لنا أن نسمي العذراء والدة الله وهي قد ولدت الجسد، بما أن ذلك الجسد هو ذو نفس عاقلة وهو متحد باللاهوت بطبيعة واحدة وأقنوم واحد وشخص واحد. وكما أننا نسمي أم أي إنسان والدة فلان، وهو مركب من جسد ونفس خلقها الله ولم تلدها تلك المرأة، ولكننا نسميها والدته لأن نفسه وجسده متحدان بطبيعة واحدة وشخص واحد لذا تسمى والدة ذلك الشخص. وكذلك العذراء مريم تدعى والدة الله.

وجاء في صلاة صبح الأربعاء([202]) ما ترجمته: «ليكن محروماً كل من لا يؤمن أن مريم ولدت الله، وإن من لا يعترف أنَّ المولود هو الله وابن الله فهو يكفر به (وينكره). فقد ولد من الآب أزلياً وأشرق في آخر الأزمنة من مريم: فالمولود من الآب ومن مريم هو واحد أحد يسجد له ويمجد. فمحروم المماحك الذي يحاول سبر سره» .. وقال القديس غريغوريوس النزينزي (329 ـ 389 +): «إن كان أحد لا يؤمن أن القديسة مريم هي والدة الإله (ثيئوتوكس) فهو غريب عن الله».

  • مريم تربي ابنها يسوع:

وقد توالت سلسلة من الحوادث بعد الميلاد رأينا فيها العذراء مريم والدة الله الأم التي تصنع إرادة الرب وتربي ابنها بحسب ناموسه تعالى، فقد كان حقاً ينمو في القامة والنعمة لدى الله والناس. ففي اليوم الثامن من ميلاده اختتن الصبي، وبعد أربعين يوماً من ميلاده قدّم في الهيكل، وقامت مريم بفروض التطهير بحسب شريعة موسى (لو 2: 22 ـ 39) وحمله الشيخ سمعان وقال لمريم أمه، إنَّ سيف الحزن يغوص في قلبك. وهذه النبوة تمت بحذافيرها في حياة مريم الأم الحزينة.

… وجاء المجوس فزاروا الطفل المولود وسجدوا له مقدمين هداياهم ذهباً ولباناً ومراً… وانكشفت نوايا هيرودس الخبيثة الذي أراد أن يهلك الصبي.

 

  • الهروب إلى مصر:

فأمر الملاك يوسف أن يهرب بالطفل وأمه إلى مصر ففعل… ومن القصص الطريفة التي تحكى عما جرى للعذراء وهي هاربة بابنها إلى مصر مع يوسف البار، أنهم مرّوا بفلاح يبذر الزرع فباركت العذراء الأرض فنما الزرع وارتفع، ولما غادروا المكان جاءت ثلة من جنود هيرودس تريد إلقاء القبض عليهم فلم يجدوهم، ولما سألوا الفلاح فيما إذا مرّ به رجل وامرأة ومعها طفل، أجابهم نعم قد مرّوا من هنا، وسألوه متى كان ذلك؟ أجابهم يوم كنت أبذر الزرع، فلما رأى الجند أن الزرع قد نما وارتفع ظنوا أن العائلة قد مرّت قبل شهور فعادوا أدراجهم يائسين من ملاحقتهم.

 

ويحكى أيضاً أن العائلة المقدسة قبل وصولها إلى مصر تعرّض لها لصوص حاولوا التعدي على العذراء وابنها ومار يوسف سلباً وضرباً، فمنعهم زعيمهم فكافأه الله، وأهّله بأن يصلب عن يمين الفادي ويؤمن به، تائباً، واستحق أن يسمع من الفادي كلمة وعد «اليوم تكون معي في الفردوس». هذا ويقول بعض الآباء إن أصنام مصر تحطّمت حيثما مرّ موكب يسوع الطفل بهياكلها. وبدخول الرب مصر رفع اللعنة عنها وتمّ ما قد كُتب على لسان الرب «مبارك شعبي مصر».

  • السكن في الناصرة:

ولما هلك هيرودس، بعد سنة من هروب العذراء مريم بابنها إلى مصر، ظهر الملاك بالحلم ليوسف وأمره بالعودة إلى فلسطين فعاد إلى الناصرة وتمّت النبوّة القائلة: «من مصر دعوت ابني» (هوشع 11: 1) وسكنت العائلة المقدسة في الناصرة.

  • العذراء المرأة الفاضلة والأم الرؤوم:

وكانت العذراء مريم في حياتها اليومية تسير سيرة النسوة الفاضلات المدبرات بيوتهن حسناً، وتمّ فيها ما قاله سليمان: «امرأة فاضلة من يجدها إنّ ثمنها يفوق اللآلئ» (أم 31: 10)، وكان يوسف خطيبها يعمل في مهنة النجارة لتحصيل العيش، «وكان الطفل يسوع ينمو في القامة والنعمة عند اللّه والناس»  ولا بد أنه درس مع أطفال البلدة الناموس والنبوات، ومارس مهنة النجارة في حانوت يوسف الذي اعتبر أباً له. ورأينا العذراء مريم تمارس الفروض الدينية بموجب شريعة موسى فكانت تزور اورشليم لحضور عيد الفصح سنوياً (لو 2: 41) ولما بلغ الصبي يسوع الثانية عشرة من عمره أخذاه إلى الهيكل حيث يعتبر بهذه السن حسب تقليد اليهود «ابن التوراة» أي ملزماً بجميع وصايا الناموس من صلاة، وصيام، وزيارة لهيكل الرب (تث 16: 16). وبعد انقضاء أيام العيد الثمانية في تلك الزيارة رجعوا إلى الناصرة مع معارفهم وأصحابهم الذين رافقوهم إلى اورشليم، وكانت كل فئة من رجال ونساء تسير وحدها، ويلتقي الجميع عند المغيب في المحطة التي يتفق عليها للمبيت. ولما دنا المساء وقد وصلت القافلة بلدة قيل أنها (البيرة) للمبيت فيها، افتقد يوسف ومريم بعضهما مطمئنين بوجود الصبي مع أحدهما، ولكن لم يجداه، وفتّشا عنه لدى الأصدقاء فلم يعثرا عليه، فعادا إلى اورشليم فوجداه بعد ثلاثة أيام في الهيكل جالساً في وسط علماء الناموس يحاججهم، فقالت له أمه: «يا بني لماذا صنعت بنا هكذا هوذا أبوك وأنا كنا نطلبك مُعذَّبَين»(لو 2: 48) فقال لهما: «ألم تعلما أنه ينبغي أن أكون فيما لأبي»(لو 2: 49).

  • العذراء الشفيعة في قانا الجليل:

وتزداد مسؤولية العذراء مريم لما بدأ يسوع تدابيره الإلهية جهراً وهو في الثلاثين من عمره، ففي عرس قانا الجليل سمعناها تقول له: «ليس عندهم خمر» فيجيبها: «ما لي ولك يا امرأة لم تأتِ ساعتي بعد» وتلتفت مريم إلى الخدام قائلة: «مهما يأمركم به فافعلوه» علماً منها أنه لا يخيب لها أملاً، وهكذا اجترح الرب أولى معجزاته أمام تلاميذه بناء على طلب والدته، فحوّل الماء خمراً.

وكان موقف مريم من رسالة الرب يسوع واضحاً، فهي مؤمنة بابنها وهل يمكن أن تشكّ به، وقد أعلن لها الملاك عندما بشّرها عن مركزه الإلهي، فهو «قدوس وابن العلي يدعى، ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه ويملك على آل يعقوب إلى الأبد». فلما نقرأ في الإنجيل المقدس أن أقرباءه خرجوا ليمسكوه لأنهم قالوا أنه مختل (مر 3: 21) لا يعني أن أمه جارت هؤلاء وتنكّرت لابنها. ونقرأ أيضاً ما كتب مرقس قائلاً: «فجاء حينئذ إخوته وأمه ووقفوا خارجاً وأرسلوا إليه يدعونه، وكان الجمع حوله، فقالوا له هوذا أمك وإخوتك خارجاً يطلبونك، فأجابهم قائلاً، من أمي وإخوتي، ثم نظر حوله إلى الجالسين وقال، ها أمي وإخوتي، لأن من يصنع مشيئة اللّه هو أخي وأختي وأمي»(مر 3: 31 ـ 35). وبهذا الكلام لا يريد السيد المسيح أن ينتقص من كرامة أمه، إنما يريد أن يرفع المؤمنين به، وخاصة تلاميذه الذين كان قد اختارهم لتوّه، أن يرفعهم إلى درجتها الروحية السامية. ولا غرو فقد ذكر الإنجيل المقدس عن أمه «أنها كانت تحفظ الكلام مفتكرة به في نفسها» فكل تلميذ وكل مؤمن من الجنسين يحفظ كمريم كلام اللّه ويعمل به ينال ما نالته من نعمة.

ويذكر الإنجيل المقدس أيضاً (لو 11: 27 ـ 28) أن امرأة في اورشليم رفعت من الجمع صوتها قائلة ليسوع: «طوبى للبطن الذي حملك، وللثديين اللذين رضعتهما». أما هو فقال: «بل طوبى للذين يسمعون كلام اللّه ويحفظونه» وهذه الآية أيضاً تتضمن مديحاً للعذراء.

  • العذراء عند الصليب تسلّم إلى يوحنا الحبيب:

وقد تبعت العذراء مريم ابنها يسوع إلى الجلجلة، وتحت الصليب تحققت فيها النبوة التي فاه بها سمعان الشيخ وهي: «يجوز في نفسك سيف الحزن» فقد رأت ابنها البار القدوس معلقاً على الصليب. بل رأته ميتاً، واشتركت بدفنه، ثم رأته قائماً من بين الأموات. ولا بدّ أنها كانت مع تلاميذه في جبل الزيتون فرأته صاعداً إلى السماء.

وذكر سفر أعمال الرسل (1: 14) العذراء مريم مع التلاميذ وإخوة الرب تواظب على الصلاة، وكانت معهم يوم الخمسين في العلية، حيث حلّ عليهم الروح القدس. ويوم الخمسين هذا يعتبر يوم ميلاد الكنيسة، فقد آمن ثلاثة آلاف شخص على أثر خطاب هامة الرسل بطرس، واعتمدوا، ولضرورة المعمودية للخلاص بحسب قول الرب: «من آمن واعتمد خلص، ومن لم يؤمن يُدنْ»(مر 16: 16)، يتساءل بعضهم هل نالت العذراء مريم سرّ المعمودية؟ لقد سكت الكتاب عن ذلك حتى لم يذكر عن الرسل أنهم اعتمدوا أم لا؟ وفي الكنيسة السريانية يذكر مار إيوانيس الداري (ت 860) في معرض بحثه تقديس الميرون على أيدي الرسل، أن العذراء اعتمدت، وقصده بذلك إعطاء موضوع المعمودية والميرون أهمية كبرى، ولم نعثر في التقليد على نص آخر يؤيّد رأي الداري، على كل حال ليس هذا الأمر عقيدة قررتها الكنيسة، إنما هو مجرد رأي خاص لأحد الآباء.

ولا نعلم بالضبط أين سكنت العذراء بعد أن أخذها يوحنا الحبيب إلى عنده، ويرجّح أنها مكثت في اورشليم، وارتأى بعض المؤرّخين أنها زارت أفسس برفقة يوحنا ومكثت فيها مدة، ثم عادت إلى اورشليم.

  • انتقال العذراء إلى السماء:

وكانت العذراء تتوق إلى أن تنطلق إلى السماء لتكون مع ابنها يسوع، وقد رقدت بالرب بسلام، ولم يتّفق المؤرّخون على سنة وفاتها، وكم بلغت من السنين، ويُرجّح أنها انتقلت إلى السماء سنة 56 للميلاد، وقد بلغت السبعين من عمرها، كما أن موضوع انتقالها إلى السماء نفساً وجسداً لم تقرّه الكنيسة السريانية كعقيدة إيمانية، إنما هو تقليد أبوي إيماني، نستند به خاصة إلى قصة مار توما الرسول السريانية الموضوعة، وفيها نقرأ عن اختطاف الرسل بالروح واجتماعهم في اورشليم لتجنيز العذراء مريم وتأخّر توما، ومقابلته العذراء في الهواء وهي صاعدة إلى السماء، وأخذه منها زنارها الذي أتى به إلى الرسل، وطلب منهم فتح ضريحها، ولما فعلوا ولم يجدوا جسدها الطاهر، أعلن لهم توما حقيقة صعودها إلى السماء بالجسد الممجّد، وأنه رأى موكبها، وأخذ منها زنارها كشهادة لذلك، فصدّقوه. ويحدّثنا التقليد السرياني عن الزنار الذي أخذه الرسول توما معه إلى الهند. وإن توما استشهد على أيدي كهّان الوثنية. وعندما نُقِلَ رفاته إلى الرها في القرن الرابع نقل معها الزنار، وأخيراً وصل إلى كنيسة العذراء في حمص التي دُعيت منذ ذلك التاريخ كنيسة أم الزنار، واكتشف الزنار عام 1852 على عهد مطرانها مار يوليوس بطرس (بعدئذ البطريرك مار إغناطيوس بطرس الرابع) ووضع في موضعه في المذبح، واكتشف ثانية على يد المثلث الرحمات البطريرك أفرام الاول برصوم عام 1953، وهو الآن موضوع في تلك الكنيسة في حمص يتبرّك منه المؤمنون.

  • إمكانية انتقال العذراء إلى السماء:

قلنا أنَّ التقليد يذكر أنها انتقلت إلى السماء، فهل انتقلت بروحها إلى الفردوس كسائر الأبرار والأتقياء؟ أم أنها انتقلت نفساً وجسداً إلى السماء؟.. إن انتقالها إلى السماء بالجسد الممجّد ليس غريباً عن روح الكتاب المقدس والحقائق الإيمانية المسيحية السمحة. فإذا كان أخنوخ قد أخذه الله إلى عنده لأنه سار مع الله (تك 5: 24) وإذا كان إيليا النبي قد صعد حياً إلى السماء بمركبة نارية (2مل 2: 11) فهل كثيراً على والدة اللّه مريم التي حملت الإله تسعة أشهر في حشاها، وولدته وأرضعته لبنها، أن يحفظ جسدها بلا فساد؟ وأن يتحول إلى جسد روحاني؟ وان تصعد السماء نفساً وجسداً لتتنعم مع ابنها الحبيب الرب يسوع المسيح؟ قال مار يعقوب السروجي الملفان (521+) في ميمره السرياني في وفاة العذراء: «ولما دنت وفاة العذراء انحدر إليها بأمر اللّه الملائكة والأبرار والأنبياء والآباء، وقدم الرسل الإثنا عشر والمبشّرون… ودفنوها في مغارة صخرية، وعمّ المجد السماء والأرض، حينما شاهد الملائك نفسها صاعدة، وطائرة إلى المنازل النورانية([203])». وجاء في الكتاب المنسوب([204]) إلى ديونيسيوس الأريوباغي أسقف أثينا (ت 95): «إنه عند وفاة مريم اجتمع جميع الرسل بسرعة من جميع أقطار الأرض حيث كانوا يبشّرون، إلى أورشليم إلى بيت هذه المباركة، وحينئذ أتى يسوع مع ملائكته. وأخذ نفسها وأحضرها إلى ميخائيل رئيس الملائكة. وفي اليوم التالي وضع الرسل الجسد في القبر وحرسوه منتظرين ظهور الرب. فظهر المسيح ثانية ونقل جثتها المقدسة إلى السماء على سحابة، وهناك اتحد أيضاً الجسد بالنفس، وفاز بالسعادة الأبدية»([205]).

  • شفاعة العذراء:

إن الكنيسة السريانية تتشفّع بالسيدة العذراء مريم، وإن العجائب التي اجترحتها العذراء للكنيسة وللمؤمنين، لا تحصى. أما زنارها فهو موضع تكريم ومصدر بركة، ولا عجب فإذا كانت الثياب توضع على جسم الرسول بولس ثم تؤخذ فتوضع على المرضى فينالون الشفاء، فكم بالحري زنار سيدتنا العذراء الذي نسجته بيديها الطاهرتين، وتمنطقت به، بل على الأغلب قد لامس أيضاً جسد الفادي بالذات!؟

  • لا نعبد إلاّ اللّه:

قلنا إننا نتشفّع بالعذراء وقد مرّ بك ترجمة بعض الصلوات التي ترفع إلى اللّه وتتضمّن الشفاعة بالعذراء مريم ولكننا لا نعبدها، بل لا نعبد إلاّ اللّه وحده. ونستنكر خرافة عبادة مريم، فليس في السماء ولا على الأرض ولا تحت الأرض اسم سوى اسم يسوع، له تجثو الركب كافة، لأنه مخلّص العالم. أما العذراء فهي بشر، ومن عبدها كفر (أع 14: 11 ـ 16) وهي تقول عن نفسها: «تبتهج روحي باللّه مخلصي، لأنه نظر إلى تواضع أمته فهوذا منذ الآن تعطيني الطوبى جميع الأجيال، لأن القدير صنع بي عظائم»(لو 1: 49) فعلينا أن نطوّبها بالاقتداء بفضائلها بحفظ كلام اللّه والتفكّر به في قلبها بصلاة عقلية حقيقية، فهي المثال الصالح للبتوليين والبتولات والمتزوّجين والمتزوّجات، وللآباء والأمهات بتربية الأولاد التربية الصالحة، بالمحافظة على شريعة الرب والقيام بفرائضه، فليبارك الرب كل من تشفّع بالعذراء مريم واقتدى بسيرتها الطاهرة. وإن خير ما نختم به حديثنا عنها طلبة لمار يعقوب السروجي القائل ما ترجمته: «صلاتك معنا أيتها المباركة، صلاتك معنا. إن الرب يستجيب إلى صلواتك ويغفر لنا. فتضرعي أيتها الممتلئة نعمة والتمسي ممن هو مملوء رحمة ليرحم النفوس التي تطلب الرحمة([206]) آمين».

 

 

 

 

 

 

 

 

الـمـلائــــكــــة )*(

  • المقدمة:

بين دفتي الكتاب المقدس، من تكوينه إلى رؤياه، وفي كل الأحداث المهمة التي سطرت على صفحاته، نقرأ عن كائنات روحية، سمّيت بالملائكة. شاهدت حدث خلق الإنسان، وواكبت هذا الإنسان في مجده وذلّه في نهضته وسقوطه في حال بره وخطيته. كما سارت مع الخطوات التي اتّخذها الرب الإله لفدائه.

  • طبيعة الملائكة:

والملائكة أرواح سماوية عاقلة ناطقة. خلقهم اللّه تعالى في بدء المخلوقات لتمجيده وتسبيحه وخدمته، كما يستنتج من قوله تعالى لعبده أيوب: «أين كنت حين أسّست الأرض… عندما ترنّمت كواكب الصبح معاً وهتف جميع بني الله» (أيوب 38: 4 ـ 7).

  • منظرهم:

يقول عنهم كاتب الرسالة إلى العبرانيين: «أليس جميعهم أرواحاً»(عب 1: 14) «والصانع ملائكته أرواحاً وخدّامه لهيب نار»(عب 1: 7 ومز 104: 4). فيعتقد بأنهم أرواح خالصة غير هيولية، ويظن أيضاً أنهم ولئن كانوا أرواحاً فإن لهم أجساداً هوائية لطيفة غير منظورة بالعين المجردة ولا تخضع للحاجات التي تحتاجها أجسادنا البشرية. وقد وُصف الملاك الذي دحرج الحجر عن باب قبر الرب بعد قيامة الرب من الأموات أن «منظره كالبرق ولباسه كالثلج» (مت 28: 3) وأما ما ذكر في الكتاب المقدس عن ملائكة ظهروا بأجسام مختلفة وأشكال شتّى، فتلك الأجسام مستعارة ووقتية، تتّخذ لتؤهل الناس للاطمئنان إلى رؤية الملائكة والتحدث إليهم. ويدعو الرسول بولس هذه الأجسام قائلاً: «يُزرع جسماً حيوانياً، ويقام جسماً روحانياً، يوجد جسم حيواني ويوجد جسم روحاني، هكذا مكتوب أيضاً، صار آدم الإنسان الأول نفساً حية وآدم الأخير روحاً مُحيياً… الإنسان الأول من الأرض ترابي والإنسان الثاني من السماء، كما هو الترابي هكذا الترابيون أيضاً وكما هو السماوي هكذا السماويون أيضاً، وكما لبسنا صورة الترابي سنلبس أيضاً صورة السماوي. فأقول هذا أيضاً أيها الإخوة إن لحماً ودماً لا يقدران أن يرثا ملكوت الله. ولا يرث الفساد عدم الفساد» (1كو 15: 44 ـ 50). ويصف الرب يسوع المؤمنين القديسين الوارثين ملكوته السماوي الأبدي قائلاً: «ولكن الذين حسبوا أهلاً للحصول على ذلك الدهر والقيامة من الأموات لا يُزوِّجون ولا يُزوَّجُون. إذ لا يستطيعون أن يموتوا لأنهم مثل الملائكة وهم أبناء اللّه إذ هم أبناء القيامة» (لو 20: 35 و36).

  • عددهم:

فالملائكة لا يولدون، ولا يُزوِّجون، ولا يُزوَّجون، ولا يتناسلون، ولا يشيخون، ولا يموتون، وهم موجودون في السماء ويرسلون إلى الأرض لخدمة البشر. وقد خلقهم اللّه بأعداد هائلة، علمها عنده تعالى فقط. قال صاحب المزامير: «مركبات اللّه ربوات ألوف مكررة»(مز 68: 17) وقال أليشع النبي لخادمه الذي خاف إذ وجد حولهما عدداً كبيراً من جنود الأعداء: «لا تخف لأن الذين معنا أكثر من الذين معهم، وصلّى أليشع وقال: يا رب افتح عينيه فيبصر، ففتح الرب عيني الغلام فأبصر وإذا الجبل مملوء خيلاً ومركبات نار حول أليشع» (2مل 6: 16و17). وقال دانيال النبي: «كنت أرى أنه وضعت عروش وجلس القديم الأيام. لباسه أبيض كالثلج وشعر رأسه كالصوف النقي، وعرشه لهيب نار وبكراته نار متقدة. نهر نار جرى وخرج من قدامه. ألوف ألوف تخدمه وربوات ربوات وقوف قدامه.» (دا 7: 9و10). وقال الرب يسوع لتلميذه سمعان بطرس: «… أتظن أني لا أستطيع الآن أن أطلب إلى أبي فيقدّم لي أكثر من اثني عشر جيشاً من الملائكة؟»(مت 26: 53). وقال صاحب الرؤيا: «ونظرت وسمعت صوت ملائكة كثيرين حول العرش… وكان عددهم ربوات ربوات وألوف ألوف» (رؤ 5: 11) وقد استنتج آباء الكنيسة من ذلك أن عدد الملائكة هائل جداً، ويفوق عدد البشر وعدد سائر الخلائق المادية في كل الأجيال.

  • قوتهم وقدرتهم وعملهم:

يفوق الملائكة بني البشر معرفة، وعلماً، وقوة، وقدرة، ولكمال طبيعتهم يعرفون الأمور المستقبلة التي لا بد من وقوعها. أما الأمور المقيدة بإرادة حرة سماوية أو أرضية، فلا سبيل لهم إلى معرفتها، لأن معرفتها من خصائص اللّه تعالى.

قال صاحب المزامير وهو يناجي اللّه تعالى: «فمن هو الإنسان حتى تذكره أو ابن آدم حتى تفتقده، وتنقصه قليلاً عن الملائكة وبمجد وبهاء تُكلّله» (مز 8: 5) ويخاطب صاحب المزامير الملائكة قائلاً: «باركوا الرب يا ملائكته المقتدرين قوةً الفاعلين أمره عند سماع صوت كلامه»(مز 103: 20).

يعبد الملائكة اللّه ويسجدون له ويسبحونه باستمرار، وإن صحّ التعبير فليلَ نهار. وهم على أهبة إتمام مشيئته وتنفيذ أوامره دائماً. فاللّه غير المنظور يتصل بالإنسان بوساطة الملائكة، «الله لم يره أحد قط» (يو 1: 18) وملائكته واقفون أمامه في كل حين. يغطون وجوههم بأجنحتهم كما رآهم النبي أشعيا (أش 6: 1 ـ 4) ويرسلهم اللّه إلى أرضنا للعناية بالمؤمنين، ورعايتهم وحراستهم، وإنقاذهم من أعدائهم الروحيين والجسديين كقول صاحب المزامير للإنسان المؤمن «لأنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك في كل طرقك. على الأيدي يحملونك لئلا تصدم بحجر رجلك»(مز 91: 11 ـ 13) «وملاك الرب حول خائفيه وينجيهم»(مز 34: 7).

والكتاب المقدس مليء بذكر الخدمات التي قدّمها الملائكة للبشر تنفيذاً لأوامر اللّه تعالى. من ذلك: لما طرد اللّه آدم من جنة عدن «أقام (اللّه) الكروبيم لحراسة طريق شجرة الحياة» (تك 3: 24) وتظهر هنا مقدرة الملائكة وسلطتهم المستمدة من اللّه. «وإن ملاكاً بسط يده ليهلك أورشليم» (2صم 24: 16) وأن «ملاكاً أهلك من جيش سنحاريب مائة وخمسة وثمانين ألفاً في ليلة واحدة» (2مل 19: 35).

وقد أعطى الرب الإله الملائكة سلطاناً على أن يراقبوا العناصر المادية ويديروها ويحرسوها، ولكن لا يسمح لهم أن يغيروا نواميسها التي وضعها الله، ولا أن يبدّلوا مجريات الأمور فيها بغير إذنه تعالى.

وفي ميدان إتمام الملائكة المهام الموكلة إليهم من اللّه، لا تحول دون ذلك الحواجز المادية ولا البشرية، ولا قوى الطبيعة ونواميسها. فقد أرسل الرب ملاكه وأنقذ عبيده سيدراخ وميشاخ وعبدنغو من أتون النار في بابل (دا 13: 25 ـ 28) فحوّل حرارة النار إلى برد كما نجّى الرب عبده دانيال النبي من جب الأسود فقال دانيال: «إلهي أرسل ملاكه وسدّ أفواه الأسود فلم تضرني لأني وجدت بريئاً قدامه»(دا 6: 22).

وفي العهد الجديد، نقرأ في سفر أعمال الرسل عن إلقاء رئيس الكهنة اليهودي وشيعة الصدوقيين أيديهم على الرسل ووضعهم في حبس العامة، كيف أن ملاك الرب جاء ليلاً وفتح أبواب السجن وأخرجهم وقال:« اذهبوا قفوا وكلموا الشعب في الهيكل بجميع كلام هذه الحياة» (أع 5: 19و20).

ولما قبض هيرودس الملك على الرسول بطرس ووضعه في السجن، مسلِّماً إياه إلى أربعة أرابع من العسكر ليحرسوه… وكان بطرس نائماً بين عسكريين مربوطاً بسلسلتين. «وكان قدام الباب حرّاس يحرسون السجن، وإذا ملاك الرب أقبل ونور أضاء في البيت فضرب جنب بطرس وأيقظه قائلاً قم عاجلاً. فسقطت السلسلتان من يديه. وقال له ملاك الرب تمنطق والبس نعليك ففعل هكذا. فقال له البس رداءك واتبعني. فخرج يتبعه. وكان لا يعلم أن الذي جرى بواسطة الملاك هو حقيقي، بل يظن أنه ينظر رؤيا. فجازا المحرس الأول والثاني وأتيا إلى باب الحديد الذي يؤدي إلى المدينة فانفتح لهما من ذاته، فخرجا وتقدما زقاقاً واحداً وللوقت فارقه الملاك، فقال بطرس وهو قد رجع إلى نفسه، الآن علمت يقيناً أن الرب أرسل ملاكه وأنقذني من يد هيرودس ومن كل انتظار شعب اليهود…» (أع 12: 1 ـ 11).

  • الملاك الحارس:

شاءت عناية اللّه ومحبته للبشر أن يقيم تعالى لكل إنسان مؤمن ملاكاً يحرس نفسه وجسده، ويلازمه منذ بدء تكوينه في بطن أمه وإلى أن تنفصل نفسه عن جسده فتعود الروح إلى اللّه باريها، ويعتقد بعضهم أن الطفل وهو جنين في بطن أمه أنيطت مسؤولية حراسته إلى الملاك الحارس لأمه، وحالما يولد يُخصّص له ملاك حارس. والملاك الحارس يرافق المؤمن في هذه الحياة، ويحمل صلاته إلى اللّه، ويتشفع به إليه تعالى. ويرشده إلى طريق الاستقامة لعمل مشيئة اللّه تعالى وتجنب مواطن التهلكة، والملاك الحارس يسكن السماء ولكن بإمكانه أن يهرع إلى الأرض بلحظات لإتمام خدمته بحراسة من أوكلت إليه حراسته. وإذا صحّ أن ننسب إلى الملائكة الانفعالات النفسية التي تطرأ علينا نحن البشر، من فرح وحزن وتعجب وغيرها، نشعر بمشاركة الملائكة البشر في ظروف حياتهم كلها. وقد قال الرب «هكذا أقول لكم يكون فرح قدام ملائكة اللّه بخاطئ واحد يتوب» (لو 15: 10) فالملائكة يحاولون إبعاد المؤمنين عن الخطية ويحاربون عنهم الأرواح الشريرة ويصونونهم من سهام إبليس، ومن المصائب والكوارث التي يثيرها ضدهم والتجارب التي يدخلونها. وذلك بالصلاة لأجلهم وبهذا الصدد يقول الرب يسوع: «انظروا لا تحتقروا أحد هؤلاء الصغار، لأني أقول لكم إن ملائكتهم في السموات كل حين ينظرون وجه أبي الذي في السموات» (مت 18: 10).

وعقيدة تخصيص ملاك حارس لكل مؤمن كانت في عداد عقائد النظام القديم لذلك نقرأ عن يعقوب أبي الأسباط أثناء مباركته ولدي يوسف قوله: «الملاك الذي خلّصني من كل شرّ يبارك الغلامين» (تك 48: 16) وقال صاحب الجامعة: «لا تدع فمك يجعل جسدك يخطئ، ولا تقل أمام الملاك أنه سهو» (جا 5: 6).

ويبقى الملاك الحارس مع المؤمن حتى انفصال نفسه عن جسده، حيث أن الملائكة يحملون نفوس الصالحين ويصعدون بها إلى العلاء كقول الرب في مثل لعازر والغني: «فمات المسكين وحملته الملائكة إلى حضن ابراهيم» (لو 11: 22) فالملائكة يُدْخلون الأرواح الطاهرة إلى فردوس النعيم لتنضمّ إلى نفوس الأبرار منتظرة مجيء الرب ثانية لتتحد بأجسادها وترث معها ملكوت السماء. وارتأى بعضهم أن أرواح الأشرار بعد مغادرتها أجسادها تحملها الشياطين إلى أماكن الظلمة لتنتظر العذاب يوم القيامة العامة حيث تنال عقابها الأبدي. وخالفهم بعض اللاهوتيين بقولهم أن الملائكة الصالحين فقط يحملون أرواح الأبرار والأشرار إلى الفردوس أو إلى الظلمة.

  • ظهور الملائكة وتبليغ البشر أوامر الله ونواهيه:

قال كاتب الرسالة إلى العبرانيين عن الملائكة: «أليس جميعهم أرواحاً خادمة مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص» (عب 1: 13و14).

ففي ميدان الخدمة ظهر الملائكة بأشكال شتى، وبلّغوا البشر رسائل متنوعة. من ذلك: فقد ظهر ثلاثة ملائكة لابراهيم الخليل وكانوا أشخاصاً ملموسين قدّم لهم ابراهيم زبداً ولبناً، والعجل الذي عمله… وإذ كان ابراهيم واقفاً لديهم تحت الشجرة أكلوا… وقال له أحد الملائكة الثلاثة: سأرجع إليك في مثل هذا الوقت من قابل ويكون لسارة امرأتك ابن» (تك 18: 1 ـ 10) وقد تمّ ذلك.

وتجلّى ملاكان للوط، فصنع لهما ضيافة وقدّم لهما خبزاً فطيراً وأمراه ليغادر سدوم لأن اللّه يهلكها بنار وكبريت (تك 19: 1 ـ 3) ويقول كاتب الرسالة إلى العبرانيين «لا تنسوا إضافة الغرباء لأن بها أضاف أناس ملائكة وهم لا يدرون» (عب 13: 2).

وقصص ظهور الملائكة للبشر شيّقة منها قصة السلّم التي رآها يعقوب في الحلم منصوبة على الأرض ورأسها في السماء والملائكة صاعدون نازلون عليها (تك 28: 12) وقصة صراع يعقوب مع ملاك الرب وانتصار يعقوب عليه. وقصة الملاك الذي منع بلعام ابن بعور من لعن من باركهم اللّه وكيف تكلّمت أتان بلعام (عد 22: 23 ـ 24).

ومن الظهورات المهمة للملائكة ظهور جبرائيل أحد رؤساء الملائكة للنبي دانيال حيث خاطبه عن مستقبل شعبه وبشّره عن مجيء ماسيا المنتظر، محدداً له موعد مجيء هذا المخلص العظيم قبل مجيئه بخمسمائة عام. (دا 8: 16 و9: 21) ومن حديث جبرائيل الملاك مع النبي دانيال نعلم أن هناك ملاكاً معيّناً لكل شعب وكل مدينة (دا 10: 13و20).

والملاك جبرائيل نفسه، ظهر بعد نحو خمسمائة سنة من ظهوره لدانيال، لزكريا الكاهن في هيكل البخور وبشّره بولادة ابنه يوحنا المعمدان. كما ظهر للعذراء مريم في الناصرة وبشّرها بالحبل الإلهي من الروح القدس وبولادتها الرب يسوع الذي يخلّص شعبه من خطاياهم.

وظهر جبرائيل نفسه ليوسف خطيب مريم العذراء وأمره ليأخذ الصبي وأمه ويهرب إلى مصر لأن هيرودس يطلب نفس الصبي.

والملائكة خدمت الرب يسوع في البرية بعد صومه وعماده، وتجربته من الروح.

كما ظهرت الملائكة للرب يسوع في بستان الجثسيماني قبيل آلامه وكانت تقوّيه…

وملاك دحرج الحجر عن باب قبر الرب وجلس عليه بعد قيامة الرب من الأموات، وبشّر النسوة بقيامة الفادي (مت 28: 2).

وكان الملائكة وما يزالون وسيبقون أبداً في خدمة القديسين، مشجّعين المعترفين والشهداء على الثبات في الإيمان.

  • رُتَب الملائكة:

وينقسم الملائكة من حيث المقام والعمل إلى فرق منظمة ورتب ومقامات، وقد دعاهم الآباء القديسون استناداً إلى تعاليم الكتاب المقدس والتقليد الكنسي بأسماء تسعة موزّعة على ثلاث رتب: عليا، ووسطى، وسفلى، ففي الرتبة الأولى، الكروبيم (تك 3: 23و24) والسرافيم (أش 6: 1 ـ 4) والعروش (كو 1: 14 ـ 16)وفي الرتبة الثانية الأرباب والأجناد والسلاطين (1بط 3: 22) وفي الرتبة الثالثة: القوات ورؤساء الملائكة والملائكة (1بط 3: 22) وهذه الرتب الثلاث ترمز إلى رتب الكهنوت المسيحي الثلاث وهي الأسقفية والقسوسية والشماسية.

وفي هذا الصدد قال العلامة مار إيوانيس الداري (ت860) في كتابه الموسوم بالرتبة السماوية والرتبة الكنسية ما يأتي: «الناطقون قسمان: ملائكة وبشر، وأما الملائكة فهم روحيون ومثلهم رئاسة كهنوتهم هي روحية بحتة وتسمو عن هذا العالم. وبما أنه لا يطرأ عليهم تبدّل في العمر كالصبوة والشيخوخة، يجب أن يكون كهنوتهم ثابتاً لا يزيد ولا ينقص ولا يتبدل، ولا ينتقلون من درجة إلى أخرى. أما البشر فبما أنهم مرتبطون بالجسد المتبدل على الدوام، يكبرون ويتكاملون ويشيخون ثم يموتون، فقد منح لهم كهنوت يناسب هذه الأوضاع».

  • أسماء بعض الملائكة:

ورد في الكتاب المقدس أسماء أربعة من الملائكة فقط من الرتبة الأولى ومن الرؤساء وهم:

1 ـ جبرائيل ومعناه جبروت اللّه وقوته (دا 8: 6 و9: 10) وهو الملاك الذي قال عن نفسه: أنا جبرائيل الواقف أمام اللّه (لو 1: 19) وهو بشارة سرّ التجسّد والفداء.

2 ـ ميخائيل (دا 10: 13و21 و12: 1) ويعني اسمه من هو الذي يماثل اللّه وهو الذي سيدعو الموتى للقيامة (1تس 4: 16).

3 ـ روفائيل أي نور اللّه (طوبيا 12: 19).

4 ـ أورئيل (عزرا الثاني 4: 10).

  • الملائكة الأشرار ـ سقوطهم في الخطية:

إن للملائكة إرادة حرة، وقد دخلوا في تجربة، فسقط بعضهم بخطية التمرّد والمعصية، وسمي الملائكة الذين ثبتوا في طاعة اللّه تعالى بالملائكة القديسين أو الأخيار لأن اللّه تعالى بسابق علمه الإلهي ومعرفته السامية عرف أنهم سيثبتون في طاعته فاختارهم. أما الملائكة الذين شقوا عصا الطاعة للرب، متكبرين فسقطوا مع زعيمهم إلى أسافل الجحيم فيدعون بالملائكة الأشرار. وعملهم محاربة الناس محاربة شديدة وإيذاؤهم وإغراؤهم بأنواع التجارب. وهم كالملائكة الأبرار منظمون تحت رئاسات يخضع بعضها لبعض.

وقد نوّه أشعيا النبي عن حدث سقوط الملائكة الأشرار بقوله: «كيف سقطت من السماء يا زُهرةُ بنت الصبح، كيف قُطِعتَ إلى الأرض يا قاهر الأمم. وأنت قلت في قلبك أصعد إلى السموات ارفع كرسي فوق كواكب اللّه واجلس على جبل الاجتماع في أقاصي الشمال. أصعدُ فوق مرتفعات السحاب أصيرُ مثل العلي. لكنك انحدرت إلى الهاوية إلى أسافل الجب» (أش 14: 12 ـ 15). وجاء في رسالة يهوذا عن عقاب الرب للملائكة المتمردين ما يأتي: «والملائكة الذين لم يحفظوا رئاستهم بل تركوا مسكنهم حفظهم إلى دينونة اليوم العظيم بقيود أبدية تحت الظلام» (يه 1: 6) ويقول الرسول بطرس: «اللّه لم يشفق على ملائكة قد أخطأوا بل في سلاسل الظلام طرحهم في جهنم وسلّمهم محروسين للقضاء» (2بط 2: 4).

وقد سقط عدد كبير من الملائكة من جميع الرتب ومختلف الأصناف. ورئيسهم دُعي إبليس، ويعني هذا الاسم: المجرّب والمشتكي أو المخادع أو القاذف. وهو الذي أراد أن يكون معادلاً للّه. كما ذكر أشعيا النبي (أش 14: 12). ويدعى أيضاً الشيطان أي المضاد أو المخاصم أو المقاوم، كما أطلق عليه أسماء عديدة منها بعلزبول وهو في الأصل إله عقرون الإله الأعظم عند الفلسطينيين (2مل 1: 2) والشرير، وبليعال، ورئيس هذا العالم، ورئيس سلطان الهواء، وقتال الناس، وكذاب، وأبو الكذب والحية، والتنين.

وقد احتفظ الملائكة الأشرار بطبيعتهم من حيث عدم الهيولية، والقوة، والفهم والمقدرة، ولكن هذه الطبيعة إذ سقط صاحبها تحوّلت إلى الشر، وكرّست نفسها في خدمة الإثم. وأبغضوا الإنسان لأنه نال حظوة لدى اللّه إذ خلقه عاقلاً ناطقاً وسلّطه على الكائنات ومن هنا جاءت تجربة إبليس للإنسان في فردوس عدن وسقوط الإنسان في الخطية بغواية الشيطان الذي دخل الحية. ومنذ سقوط الإنسان بالمعصية وضع اللّه عداوة بين نسل المرأة ونسل الحية أي إبليس وهذه العداوة من نعم اللّه على الإنسان، لأنه بوساطتها كشف نوايا إبليس الخبيثة ضد الجنس البشري وأعلنه عدواً معروفاً، وإبليس يريد أن يتخفّى ليفتك بالبشر.

والحرب بين الإنسان وإبليس مستمرة لذلك يقول الرسول بولس: «فإن مصارعتنا ليست مع دم ولحم بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشر الروحية في السماويات»(أف 6: 12).

  • عددهم:

وعدد الشياطين هائل، وهم يهاجمون الإنسان بأعداد كبيرة، كما جاء في حادثة شفاء مجنون كورة الجدريين الذي أخرج منه الرب الروح النجس، ولما سأل الرب الشيطان عن اسمه قال: «اسمي لجئون لأننا كثيرون» (مر 5: 8). وكلمة لجئون تعني فرقة من الجند يقدر عددها بحوالي ستة آلاف جندي، فنستنتج من ذلك أن ستة آلاف شيطان كانوا داخل ذلك الإنسان وأخرجهم الرب منه جميعاً وبسماح منه له المجد دخلوا في قطيع الخنازير ورموها بالجرف فهلكت.

 

  • قوتهم:

وقوة الأبالسة المادية هائلة ومخيفة وكذلك قوتهم المعنوية وهم يتفاوتون بالقوة بتأثيرهم في عقول الناس وكذلك بأساليب الخداع والمراوغة لإسقاط الإنسان في الخطية، وأعمال التخريب في العالم، كما يتفاوتون بالرتب والمراكز. وقد قال الرب: «متى خرج الروح النجس من الإنسان يجتاز في أماكن ليس فيها ماء يطلب راحة وإذ لا يجد يقول ارجع إلى بيتي الذي خرجت منه. فيأتي ويجده مكنوساً مزيناً. ثم يذهب ويأخذ سبعة أرواح أُخَر أشرّ منه فتدخل وتسكن هناك. فتصير أواخر ذلك الإنسان أشرّ من أوائله» (لو 11: 24 ـ 26). وقال أيضاً عن أحد أصناف الشياطين أو عن الشياطين ككل: «إن هذا الجنس لا يخرج إلاّ بالصلاة والصوم» (مت 17: 21).

وإن للشياطين قوة على صنع أمور خارقة للطبيعة، كإنزال نار من السماء (رؤ 13: و16: 14) كما يساعد أتباعه من السحرة والعرّافين وغيرهم على أتيان أعمال تفوق طاقة البشر، أو استطلاع الغيب ومعرفة بعض حوادث المستقبل وهذا ما نسمّيه بالسحر والعرافة ومن جملة ذلك استشارة أرواح الموتى وهي بالحقيقة استشارة إبليس ذاته ـ لأنه ليس للشيطان سلطان على أرواح الموتى، إنما إبليس يتكلّم نيابة عن الروح مقلّداً ذلك الإنسان لمعرفته السابقة به. والسحر بكل أنواعه مرذول من اللّه لأنه رجس ومن أعمال إبليس.

وتتضاعف قوة إبليس في أساليبه الخدّاعة إذ هو يحاول الاختفاء والتنكّر ويضلّل الناس ليعتقدوا بأنه غير موجود أبداً. وبالحقيقة فالشياطين شخصيات روحية، ولكل منها «ذات» له وجود، ولذلك فالرب يسوع لما كان يخرج بعضها من أناس كان يأمرها كذات وكشخص أن تخرج من الإنسان وألاّ تعود إليه (مت 4: 24 مر 1: 32).

وقد انتصر الرب على الشيطان لما حاول هذا تجربته في البرية وأعطانا اللّه الغلبة بربنا يسوع المسيح، وأوصانا أن نصلي إلى الآب قائلين: «لا تدخلنا في التجربة لكن نجّنا من الشرير» (متى 6: 13) وقد أبطل الرب قوة إبليس عنا بقوة صليبه المقدس، فمتى رسمنا علامة الصليب على جباهنا تهرب الأبالسة منّا مرتعدة خائفة. وفي هذا الصدد قال الرب: رأيت الشيطان ساقطاً من السماء مثل البرق (لو 10: 18) وقال قبيل آلامه: «الآن دينونة هذا العالم قد حضرت، الآن يلقى رئيس هذا العالم (إبليس) خارجاً» (يو 12: 13).

وإذ حفظ هؤلاء الأبالسة للعذاب الدائم الذي يبدأ في اليوم الأخير، فقد رآهم صاحب الرؤيا مندحرين وكتب عنهم قائلاً: «وحدث حرب في السماء ميخائيل وملائكته حاربوا التنين وحارب التنين وملائكته ولم يقووا فلم يوجد مكانهم بعد ذلك في السماء، فطُرح التنين العظيم الحية القديمة المدعو إبليس والشيطان الذي يُضلّ العالم كله، طُرح إلى الأرض وطُرحت معه ملائكته وسمعت صوتاً عظيماً قائلاً في السماء الآن صار خلاص إلهنا وقدرته وملكه وسلطان مسيحه لأنه قد طرح المشتكي على إخوتنا الذي كان يشتكي عليهم أمام إلهنا نهاراً وليلاً، وهم غلبوه بدم الخروف وبكلمة شهادتهم ولم يحبّوا حياتهم حتى الموت»(رؤ 12: 7 ـ 11).

  • الخاتمة:

إن الكائنات الروحية تحتاط بنا من كل جانب، إنها أرواح طاهرة هي الملائكة المختارون، وأرواح شريرة هي الملائكة الأشرار أو الأبالسة والشياطين. وهذه الأخيرة عدوة لدودة لنا ولجنسنا البشري. ويحذّرنا الرسول بطرس بقوله: «إبليس خصمكم يزأر مثل الأسد ويجول ملتمساً من يبتلعه فقاوموه» (1بط 5: 8) ولكن الأبالسة مهما ملكت من قوة لا تقوى على إرغامنا على الخطية إنما تخدعنا فنخطئ بملء إرادتنا.

شكراً للّه الذي لمراحمه الجزيلة وعنايته الربانية بنا جعل لكل منّا ملاكاً حارساً يرافقه طيلة حياته ويلهمه الخير ويرشده إلى الصلاح ويرفع صلواته ليقدمها أمام عرش الله. ويتشفّع به إليه تعالى. فعلينا أن نتبع مشورة ملاكنا الصالح ونكرّمه، ولكن لا نعبده، لأن عبادة الملائكة كفر. كقول الرسول بولس: «لا يخسركم أحد الجعالة راغباً في التواضع وعبادة الملائكة» (كو 2: 18) وجاء في سفر الرؤيا أن يوحنا حاول السجود لملاك فأجابه هذا «انظر لا تفعل أنا عبد معك ومع إخوتك الذين عندهم شهادة يسوع اسجد للّه» (رؤ 19: 10) والكنيسة تعيّد لبعض الملائكة مكرّمة إياهم كأولياء اللّه، فلنكرّمهم نحن أيضاً متمنّين أن نكون معهم ومثلهم في اليوم الأخير مالكين مع المسيح إلى الأبد.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الـصـــــوم)*(

  • تعريفه:

الصوم هو زهد اختياري، ودلالة على طاعة اللّه وشرائعه والعمل بفرائضه تعالى وذلك بالانقطاع الإرادي عن تناول أي طعام أو شراب مدة معينة من الزمن، ثم تناول مأكولات خفيفة في مقدارها، خالية من الدسم، فيقتصر الصائم على أكل الحبوب، والبقول، والفواكه، وزيوت النبات ويمتنع عن أكل اللحوم ونتاج الحيوانات باستثناء السمك وسائر الحيوانات المائية، وعسل النحل، لأن النحل حيوان بغير شهوة.

  • درجاته:

يقول العلامة ابن العبري (1286+): «الصوم درجات ثلاث فهو عام، وخاص، وخاص للغاية. أما الصوم العام فهو أن يمتنع الإنسان قطعياً عن الأكل والشرب النهار كله، ويأكل الحبوب والبقول مساءً، أو يمسك عن أكل لحوم الحيوانات ومنتجاتها فقط وذلك نهاراً. ولهذا الصوم قوانين… لأنه قد يمتنع الكثيرون عن الطعام عرضاً فلا يعدّون بين الصائمين. أما الصوم الخاص فهو صوم المتوحدين… والصوم الخاص للغاية، هو صوم الكاملين الذين يقرنون الصوم عن الطعام، وصوم الحواس، بصوم النفس عن الأفكار الرديئة. والشرط الوحيد لهذا الصوم هو استئصال كل فكر دنيوي من أعماق القلب. ولئن كان بلوغ هذه الدرجة صعباً جداً لكنه يسهل بالتمرين كما قيل: والنفس راغبة إذا رغّبتها: وإذا تُرَدّ إلى قليل تقنعُ([207]).

  • القصد منه:

إن القصد من الصوم هو إضعاف قوة الجسد الشهوانية، وترويض الإرادة على ضبط نزواته، وإتاحة الفرصة الثمينة للروح لترتفع عن الأرضيات إلى السماويات فتتنقّى، وتتطهّر، وتعبر عن محبتها للّه تعالى وتفضيلها الحياة الروحية على الجسدية، وبذلك تغلب الروح الجسد، وبهذا الصدد يقول الرسول بولس: «وإنما أقول اسلكوا بالروح فلا تكملوا شهوة الجسد، لأن الجسد يشتهي ضد الروح والروح ضد الجسد، وهذان يقاوم أحدهما الآخر، حتى تفعلون ما لا تريدون» (غل 5: 16و17) وقوله أيضاً: «إن عشتم حسب الجسد فستموتون، ولكن إن كنتم بالروح تميتون أعمال الجسد فستحيون» (رو 8: 13) ويقول صاحب المزامير: «أذللت بالصوم نفسي» (مز 35: 13) وإذلال النفس هو النوح الذي ذكره الرب وهو يصف الصوم لتلاميذ يوحنا بقوله: «هل يستطيع بنو العرس أن ينوحوا ما دام العريس معهم» (مت 9: 15) وهذا الاذلال وذلك النوح هما أمر واحد وهو العلامة الواضحة للتوبة الحقيقية التي تعتبر الغاية المهمة من الصوم المقبول لدى اللّه، وأحد شروطه أيضاً. فلا يصوم الجسد عن الطعام أو الشراب أو بعضه، فحسب، بل تصوم النفس أيضاً مع الجسد عن الخطية وتجنبان معاً أسبابها. وهذا ما يُفهم من أمر الرب على لسان النبي يوئيل القائل: «ارجعوا إليّ بكل قلوبكم بالصوم والبكاء والنوح، مزّقوا قلوبكم لا ثيابكم وارجعوا إلى الرب إلهكم لأنه رؤوف ورحيم» (يؤ 2: 12).

  • الإعفاء من الصوم:

يفرض الصوم على المؤمنين البالغين والأصحاء، ويعفى منه الشيوخ، والأطفال، والرضع، والمرضى، والمرضعات، والمرأة النافس، والحامل، وإعفاء هؤلاء المؤمنين من الصوم ليس عن ترف بل عن ضرورة.

  • الصوم في أسفار العهد القديم من الكتاب المقدس

فرض اللّه تعالى على الإنسان الأول صوماً عندما أوصاه في جنة عدن قائلاً: «من جميع شجر الجنة تأكل أكلاً، وأما من شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها، لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت» (تك 2: 16و17). وحيث أنّ الإنسان لم يحفظ وصية اللّه، وكسر فريضة الصيام، عاقبه اللّه، وطرده من جنته إلى أرض الشقاء. علماً بأن طعام الإنسان الأول كان في جنة عدن طعاماً صيامياً يقتصر على البقول والحبوب وثمار الأشجار ودليل ذلك قول اللّه لآدم وحواء: «قد أعطيتكم كل بقل يبذر بذراً لكم يكون طعاماً» (تك 1: 29) وبعد الطوفان فقط سمح اللّه للإنسان بشخص نوح بأكل لحوم الحيوانات (تك 9: 3).

ومارس آباء العهد القديم، الأنبياء، والأبرار، والأتقياء، فريضة الصوم، تقرّباً إلى اللّه بالإيمان والأعمال الصالحة. فقد جاء في الكتاب المقدس عن النبي موسى أنه قبل أن يتسلّم لوحَيْ الوصايا من يد اللّه، صام أربعين يوماً وأربعين ليلة، لم يأكل خبزاً ولم يشرب ماءً (خر 34: 28) وجاء عن النبي إيليا إنه إطاعة لأمر الرب «أكل وشرب وسار بقوة تلك الأكلة أربعين نهاراً وأربعين ليلة إلى جبل اللّه حوريب» (1مل 19: 8). وتجنّب النبي دانيال أكل اللحوم وشرب الخمر وهو يقول عن نفسه: «لم آكل لحماً ولم أشرب خمراً ولم يدخل في فمي طعام شهي» (دا 10: 2و3). ومن قصة دانيال ورفاقه نعلم أيضاً أنهم اقتصروا على أكل القطاني، ورفضوا أطايب الملك (دا 1: 8 ـ 17) فكانوا مثالاً للصائمين الذين يقتصر طعامهم الصيامي على البذور والبقول والفواكه. أما النبي حزقيال فقد أمره الرب قائلاً: «وخذ لنفسك قمحاً وشعيراً وفولاً وعدساً ودُخناً وكرسَنَّة (كمون) وضعها في وعاء واحد واصنعها لنفسك خبزاً كعدد الأيام التي تتكئ فيها على جنبك ثلاث مئة يوم وتسعين يوماً تأكله. وطعامُك الذي تأكله يكون بالوزن… وتشرب الماء بالكيل…» (خر 4: 9).

  • الصوم للتوبة:

ولما أنذر النبي يونان أهل نينوى بحسب أمر الرب قائلاً: «بعد أربعين يوماً تنقلب نينوى، آمن أهل نينوى باللّه ونادوا بصوم ولبسوا مسوحاً من كبيرهم إلى صغيرهم، وبلغ الأمر ملك نينوى فقام عن كرسيه وخلع رداءه عنه، وتغطى بمسح، وجلس على الرماد ونودي وقيل في نينوى عن أمر الملك وعُظمائه قائلاً: لا تَذُقِ الناس ولا البهائم ولا البقر ولا الغنم شيئاً، لا ترع ولا تشرب ماء.ولتغط بمسوح الناس والبهائم ويصرخوا إلى اللّه بشدة ويرجعوا كل واحد عن طريقه الرديئة وعن الظلم الذي في أيديهم. لعل اللّه يعود ويندم ويرجع عن حُمُوّ غضبه فلا نهلكُ. فلما رأى اللّه أعمالهم أنهم رجعوا عن طريقهم الرديئة ندم اللّه على الشرّ الذي تكلّم أن يصنعه بهم فلم يصنعه» (يو 3: 1 ـ 10).

  • الأصوام القانونية:

وقد مارس بنو اسرائيل فريضة الصوم في كل أجيالهم، وخاصة بقصد التوبة والعودة إلى اللّه. كما فرض اللّه عليهم، بوساطة أنبيائه وأوليائه، أصواماً في مناسبات شتى من ذلك ما جاء في سفر اللاويين، ما قال الرب: «ويكون لكم فريضة دهرية أنكم في الشهر السابع في عاشر الشهر تُذلِّلون نفوسكم، وكل عمل لا تعملون، الوطنيُّ والغريب النازل في وسطكم لأنه في هذا اليوم يكفر عنكم لتطهيركم من جميع خطاياكم أمام الرب تَطهُرونَ» (لا 16: 29و30). كما ورد في سفر النبي زكريا قول الرب: «إن صوم الشهر الرابع وصوم الخامس وصوم السابع وصوم العاشر يكون لبيت يهوذا ابتهاجاً وفرحاً وأعياداً طيبة فأحبوا الحق والسلام»(زك 8: 19).

  • الصوم المقبول يقترن بالرحمة:

أما مفهوم الصوم المقبول لدى اللّه في العهد القديم، فيتضح من قول الرب على لسان النبي اشعيا القائل: «أليس هذا صوماً أختاره حلّ قيود الشر، فكّ عقد النير، واطلاق المسحوقين أحراراً، وقطع كل نير، أليس أن تكسر للجائع خبزك، وأن تُدْخل المساكين التائهين إلى بيتك، إذا رأيت عرياناً تكسوه وأن لا تتغاضى عن لحمك» (أش 58: 6و7).

  • صوم يومين في الأسبوع:

وكان اليهودي النقي يصوم يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع كما يتّضح من مَثل الفريسي والعشار الذي ضربه الرب يسوع. (لو 18: 10 ـ 14).

  • الرؤساء يفرضون أصواماً:

كما أن رؤساء شعب العهد القديم كانوا بين حين وآخر في وقت الشدة، يفرضون على شعبهم أصواماً، كما فعل عزرا الذي قال: «وناديت بصوم على نهر أهْوَالكي نتذلل أمام إلهنا لنطلب منه طريقاً مستقيمة لنا ولأطفالنا ولكل ما لنا… فصُمنا وطلبنا ذلك من إلهنا فاستجاب لنا» (عزرا 8: 21و23) ويذكر الكتاب المقدس أنه قد فُرض صوم سبعة أيام على بني اسرائيل حِداداً على الملك شاول وبنيه (1صم 31: 13).

  • الأصوام الخاصة:

وصام داود النبي وتذلل أمام الرب، علّه يحظى بشفاء ابنه (2صم 2: 21) وهكذا مثل داود كان يفعل الأفراد والجماعات بممارسة أصوام خاصة يفرضونها على أنفسهم باختيارهم بين الفينة والفينة ليرحمهم الرب ويخلّصهم من التجارب التي تطرأ عليهم.

  • الصوم في المسيحية:

أما في العهد الجديد فقد سنّ الرب يسوع شريعة الصوم بصومه أربعين نهاراً وأربعين ليلة (مت 4: 2) «لم يأكل شيئاً في تلك الأيام، ولما تمّت جاع أخيراً» (لو 4: 1و2). ولم يكن الرب يسوع بحاجة إلى صوم وإنما صام ليعلّمنا الصوم، وأعطانا هذه الفريضة مبيّناً لنا قوتها الروحية خاصة إذا قرنّاها بالصلاة، فيغدو الصوم مع الصلاة سلاحاً روحياً ماضياً، يفتك بعدونا الروحي إبليس وجنده، وقد كشف لنا الرب ذلك بقوله: «وأما هذا الجنس فلا يخرج إلا بالصلاة والصوم» (مت 17: 21).

وفي معرض ردّه على سؤال تلاميذ يوحنا، الذين اعترضوا على عدم صوم تلاميذه، قال الرب: «هل يستطيع بنو العرس أن يصوموا والعريس معهم، ما دام العريس معهم لا يستطيعون أن يصوموا، ولكن ستأتي أيام حين يرفع العريس عنهم فحينئذ يصومون في تلك الأيام» (مت 9: 14و15 ولو 5: 35) واعتبر كلام الرب هذا تفويضاً منه إلى تلاميذه لتحديد مواعيد الصيام. وبناء على هذا التفويض ابتدأ الرسل الأطهار، والتلاميذ الأبرار بالصوم بعد صعود الرب إلى السماء، فصاموا في مناسبات شتّى وبأساليب متنوعة ونقرأ عنهم في سفر أعمال الرسل ما يأتي: «وبينما يخدمون الرب ويصومون قال الروح القدس افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه فصاموا وصلّوا ووضعوا عليهما الأيادي ثم أطلقوهما» (أع 13: 2و3) والرسول بولس يفتخر بحرصه على ممارسة فريضة الصوم بقوله: «في كل شيء نظير أنفسنا كخدام اللّه في أتعاب في أسهار في أصوام» (2كو 6: 5).

وإن الرب يسوع الذي فوّض إلى رسله القديسين ممارسة الصيام حين رُفع عنهم العريس السماوي، أي بعد صعوده له المجد إلى السماء، فوّض إليهم أيضاً بإلهام روحه القدوس، تقديس يوم الأحد بدلاً من السبت اليهودي، وانتخاب الأساقفة والقسوس والشمامسة وطريقة رسامتهم أي تكريسهم بوضع الأيدي عليهم، أي القيام بطقس رسامتهم الكهنوتية، كما أن روحه القدوس الذي حلّ عليهم يوم الخمسين ألهمهم بتنظيم الطقوس وخدمة أسراره المقدسة الضرورية لتدبير كنيسته.

وكان الرب قد بيّن كيفية الصوم المقبول عند اللّه، وهو يحذّر تلاميذه من الرياء والنفاق قائلاً: «ومتى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين، فإنهم يُغيِّرون وجوههم لكي يظهروا للناس صائمين. الحق أقول لكم أنهم قد استوفوا أجرهم. وأما أنت فمتى صمت فادهن رأسك واغسل وجهك لكي لا تظهر للناس صائماً بل لأبيك الذي في الخفاء فأبوك الذي في الخفاء يجازيك علانية» (مت 6: 16 ـ 18) ولا يعني الرب بقوله «متى صمتم» أي لكم ملء الحرية في أن تتمسّكوا بفريضة الصوم أو ترفضوها، وإلا لكان قوله أيضاً «متى صليت» (مت 6: 5) تعني أن لك الحرية أيضاً في أن تتمسّك بصلاة أو ترفضها، وأنه لا يجب أن تكون هناك أماكن للعبادة، ولا صلاة جمهورية، ولا دعوة لهذه الصلاة ولا مواعيد لها. فالمسيح وضع مبدأ الصوم والصلاة وفوّض إلى كنيسته تنظيم أوقاتهما وتعيين المواعيد المناسبة لما فيه صالح المؤمنين. أما الأصوام الخاصة فيفرضها الإنسان على نفسه زيادة في التقوى تماماً كما يصلّي صلاته الفردية الخاصة.

أما كتبه الرسول بولس في رسالته إلى أهل الإيمان في كولوسي قائلاً: «لا يحكم عليكم أحد في أكل أو شرب أو من جهة عيد أو هلال أو سبت التي هي ظل الأمور العتيدة وأما الجسد فللمسيح. لا يخسركم أحد الجعالة راغباً في التواضع وعبادة الملائكة متداخلاً في ما لم ينظره مُنتفخاً باطلاً من قبل ذهنه الجسدي…»(كو 2: 16 ـ 18) فالرسول بقوله هذا يحذّر المؤمنين من ظلال اليهود وفئة من المتنصرين منهم، الذين كانوا لا يزالون متمسّكين بالآراء اليهودية، فلم يعترفوا بقرارات مجمع أورشليم الأول المنعقد سنة 51 والذي قرر عدم الالتزام بالختان وغيره من المبادئ اليهودية، واكتفى بالنهي عن أكل ما ذبح للأصنام، والمخنوق والدم، والامتناع عن الزنا (أع 15: 20).

وإن الرسول بولس في معرض توصيته الزوجين على وجوب المحافظة على الحقوق الزوجية، بيّن لنا أن على الزوجين الامتناع عن المعاشرة الزوجية خلال أيام الصيام بقوله: «لا يسلب أحدكم الآخر إلا أن يكون على موافقة إلى حين لكي تتفرغوا للصوم والصلاة، ثم تجتمعوا أيضاً معاً لكي لا يجرّبكم الشيطان لسبب عدم نزاهتكم» (1كو 7: 5).

ويعترض بعضهم على ممارسة الصوم بقوله إنه ضد أمر الرب القائل: «ما يدخل الفم لا ينجّس الإنسان بل ما يخرج من الفم هذا ينجس الإنسان» (مت 15: 11) فمن الواضح أن الرب لا يعني بقوله هذا ألاّ نصوم، وهو الذي بيّن لنا كيفية الصوم المقبول لدى اللّه. إنما أراد بقوله تفنيد اعتراض الفريسيين على تلاميذه عندما وجدوهم يأكلون دون أن  يغسلوا أيديهم حسب الغسلات الطقسية الفريسية التي كانوا يعتبرونها ضرورية لتنقية الإنسان قبل تناول الطعام، فمهما كانت يداه نظيفتين، عليه أن يمارس تلك الطقوس الشكلية ليعتبر نظيفاً. كما كانت لهم طريقتهم الخاصة بغسل الطعام، فما لم تطبق كانوا يعتبرون الطعام غير طاهر. فدحض الرب يسوع آراءهم الباطلة، وبيّن لهم أهمية نقاوة القلب قائلاً: «ما يدخل الفم لا ينجس الإنسان بل ما يخرج من الفم هذا ينجّس الإنسان» (مت 15: 11) وهذا يعني أن ما يخرج من قلب الإنسان الخاطئ من أفكار أثيمة، وأقوال بذيئة وأعمال مشينة هي التي تنجّس الإنسان.

فالصوم إذن وضع إلهي، وترتيب سماوي، مارسه الرب يسوع بنفسه وعلّمنا أن نتمسّك به وفوّض إلى رسله الأطهار ليحددوا مواعيده وكيفية ممارسته ليكون خير وسيلة يعبّر بها المؤمنون عن إيمانهم بالرب وتمسّكهم بفرائضه وتفضيلهم الروح على الجسد والحياة الملائكية على العيشة المادية الدنيوية.

  • ترتيب الأصوام في العهد الجديد

سنّ الرب يسوع شريعة الصوم، وتسلّمه الرسل منه مبدأً روحياً. أما مناسباته، ومدته، وكيفيته فهي ضمن مسؤولية الكنيسة التي منحها الرب سلطاناً روحياً عندما قال لرسله الأطهار: «من يسمع منكم يسمع مني، والذي يرذلكم يرذلني، والذي يرذلني يرذل الذي أرسلني» (لو 10: 16). وقوله أيضاً: «وإن أخطأ إليك أخوك فاذهب وعاتبه بينك وبينه وحدكما. إن سمع منك فقد ربحت أخاك وإن لم يسمع فخذ معك أيضاً واحداً أو اثنين لكي تقوم كل كلمة على فم شاهدين أو ثلاثة. وإن لم يسمع منهم فقل للكنيسة. وإن لم يسمع من الكنيسة فليكن عندك كالوثني والعشار. الحق أقول لكم كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطاً في السماء وكل ما تحلّونه على الأرض يكون محلولاً في السماء» (مت 18: 15 ـ 18). وقوله له المجد لمار بطرس هامة الرسل: «وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات. فكلّ ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السموات. وكل ما تحلّه على الأرض يكون محلولاً في السموات» (مت 16: 19)

بهذا السلطان الروحي الذي نالته الكنيسة من الرب، رتّبت الأصوام القانونية العامة، وألزمت الاكليروس والشعب التمسّك بها فصاروا تحت طائلة الخطية إذا لم يطيعوا أوامرها، لأن السماع منها هو السماع من الرب، والتمرّد على أوامرها يُعدّ تمرداً على الرب. فمارس الإكليروس والشعب، منذ فجر المسيحية، الصوم الذي هو الانقطاع عن الطعام والشراب في مدة حددتها الكنيسة، وامتنعوا عن اللحوم ومنتجاتها عند الإفطار في أيام الصيام، واتّفقت كل الكنائس الرسولية في كل مكان في العالم على تقديس مبدأ الصوم واعتبرته دائماً، وضعاً إلهياً وفريضة مقدّسة.

  • صوم الفصح:

إن أول صوم وضعته الكنيسة هو صوم الفصح الذي يسمّى أيضاً صوم الآلام ، فيه ينقطع المؤمنون عن الطعام والشراب من عصر يوم الجمعة العظيمة ذكرى آلام الرب وصلبه وموته وإلى ما بعد نصف ليلة أحد القيامة، وذلك للمشاركة بالآلام المحيية، التي تحمّلها ربنا يسوع المسيح من أجل خلاص البشرية، ولنشاركه آلامه من أجلنا إتماماً لقول الرسول بولس: «أم تجهلون أننا كل من اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته، فدفنا معه بالمعمودية للموت حتى كما قام المسيح من بين الأموات بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضاً في جدّة الحياة. لأنه إن كنا قد صرنا متّحدين معه بشبه موته نصير أيضاً بقيامته» (رو 6: 3و4). وكانت الكنيسة تمارس هذا الصوم وتحتفل بذكرى آلام الرب يسوع وموته وقيامته كل ثلاث وثلاثين سنة، ولما رأت أن الكثيرين يولدون ويموتون دون أن يحظوا بمشاهدة هذه الذكرى، احتفلت به سنوياً. ومع تمادي الزمن أضيفت إلى هذا الصوم الأيام الأربعة السابقة له، فصار أسبوعاً كاملاً دعي أسبوع الآلام وكان يصام حتى العصر انقطاعاً عن الطعام والشراب ويفطر فيه على الخبز والماء المملح، ويصام في أيامنا أيضاً انقطاعاً عن الطعام إلى الظهر أو إلى العصر ثم يتناول الصائمون طعاماً صيامياً يقتصر على الحبوب والبقول والفواكه، وخالياً من اللحوم ومنتجات الحيوانات وحتى الحلويات مشاركة بآلام الفادي الذي عند عطشه أعطوه خلاً ممزوجاً بمرارة.

  • الصوم الأربعيني (الكبير):

بوشر بالصوم الأربعيني في القرن الثالث للميلاد وألحق به في الربع الثاني من القرن الرابع صوم أسبوع الآلام الذي كان يصام قبل ذلك التاريخ بمدة طويلة. فصار الصوم الأربعيني سبعة أسابيع مع أسبوع الآلام([208]).

وفرض الصوم الأربعيني تذكيراً للمؤمنين بجهاد الرب يسوع، وصومه في البرية، والرب الذي لا يحتاج إلى صوم استهل تدبيره الإلهي العلني بالجسد بالصوم فصام أربعين يوماً وأربعين ليلة وجاع أخيراً (مت 4: 2) ليعلّمنا الصوم والجهاد الروحي ضد إبليس. وقد ظفر بإبليس المجرّب، وأعطانا أيضاً أن نغلبه باسم الرب، بل كشف لنا مرة سر النصر الروحي بقوله: «وأما هذا الجنس فلا يخرج إلا بالصلاة والصوم» (مت 17: 21).

وكان المؤمنون يصومون الصوم الأربعيني انقطاعاً عن الطعام والشراب حتى العصر، ثم يفطرون متناولين الطعام الصيامي المقتصر على الخبز والماء المملح والبقول والحبوب والفواكه والزيوت النباتية فقط. وكانوا خلاله خاصة يوزّعون الصدقات على الفقراء. بهذا الصدد يقول مار أفرام السرياني (373+) في القرن الرابع:

ܨܘܡ ܨܘܡܐ ܕܐܪܒܥܝܢ ܝܘܡܝܢ      ܘܗܒ ܠܚܡܟ ܠܐܝܢܐ ܕܟܦܝܢ

ܘܨܠܐ ܒܝܘܡܐ ܫܒܥ ܙܒܢܝܢ       ܐܝܟ ܕܝܠܦܬ ܡܢ ܒܪ ܐܝܫܝ ܀

وتعريب ذلك: «صُمْ (أيها المؤمن) الصوم الأربعيني وتصدّق بخبزك على الجائع، وصلِّ سبع مرات يومياً كما تعلمت من (النبي داود) ابن يسّى».

ونصّت القوانين الكنسية على وجوب ممارسة المؤمنين كافة الصوم الأربعيني المقدس وحكمت على المخالفين من ذوي الرتب والدرجات الكهنوتية والعلمانيين بالعقوبات الكنسية الصارمة.

ويستثنى من الصوم الانقطاعي يوما السبت والأحد، ففيهما يُحتفل بالقداس الإلهي وبعد القداس يتناول الصائم طعاماً صيامياً. وفي هذا الصدد جاء في قوانين الرسل:«كل من يصوم يوم الأحد أو السبت ما خلا سبت البشارة (النور)، إن كان إكليريكياً يُجرّد من رتبته، وإن كان علمانياً يُفْرز» وقال العلامة ابن العبري (1286+) في كتاب الحمامة (ب2ف6) الذي ألّفه لفائدة الرهبان والنسّاك الذين لا مرشد لهم: «يجب أن يحلّ الصوم في أيام السبوت والآحاد وذلك حفظاً للقوانين».

وتقديساً ليوم الأحد لا تبدأ كنيستنا السريانية المقدسة أي صوم من الأصوام فيه، فإذا صادف ذلك فإكراماً ليوم الرب، نبدأ الصوم صباح يوم الإثنين، وينقص بذلك عدد أيام ذلك الصوم في تلك السنة يوماً واحداً.

ومنعت إقامة ولائم الأعراس في الصوم الأربعيني، بموجب قرار مجمع اللاذقية عام 364 كذلك منع ذلك المجمع الاحتفال فيه بالقداس الإلهي وبتذكار الشهداء إلاّ في يومي السبت والأحد ـ واستعيض عن القداس في أيام الصوم بطقس رشُم كُسُا رسم الكأس أو ما يسمّى بالقداس السابق تقديسه ـ الذي أدخله إلى كنيستنا في أوائل القرن السادس البطريرك مار سويريوس الكبير (538+). فلا يحتفل بالقداس الإلهي في الصوم الأربعيني إلاّ أيام السبت والأحد ما خلا أربعاء نصف الصوم وجمعة الأربعين وخميس الفصح وسبت البشارة (النور) وإذا وقع عيد البشارة في الصوم فيحتفل فيه بالقداس الإلهي حتى لو صادف وقوعه في جمعة الآلام العظيمة ويتناول المؤمن بعد القداس الطعام الصيامي.

وبهذا الصدد نصّ القانون الخامس من الباب الأول الفصل الخامس من كتاب الهدايات لابن العبري ما يلي: «إن الكنيسة تعيّد عيد البشارة في اليوم الذي يصادف وقوعه» وذلك كونه أساس الأعياد السيدية. وعليه فإننا لا نحوّل هذه الأعياد من يوم إلى يوم على الإطلاق. وإننا لا نتناول طعاماً صيامياً إكراماً للصوم في جمعة الصلبوت أو سبت البشارة (النور) ونصلي الصلاة المفروضة([209]) وإذا وقع عيد دخول السيد المسيح إلى الهيكل في اثنين الصوم الكبير فيحتفل بالقداس الإلهي ولئن كان ذلك نادراً كما وقع عام 1915 وكما سيكون عام 2010 فإذا كان ذلك يجب أن يحتفل فيه بصلاة العيد وتقدّم فيه الذبيحة الإلهية صباحاً حسب العادة. وأما صلاة الصوم فتصلّى عند الظهر ثم يفطر المؤمن أي يحلّ صوم الإمساك عن الطعام. أما صلاة الغفران (شوبقونو) فتؤجل إلى صباح اليوم التالي.

وقد حرمت الكنيسة شرب الخمر وسائر المشروبات الروحية خلال أيام الأصوام.

إن الكنيسة المقدسة لا تبغي بتخصيص أيام للصوم، تمنع فيها تناول هذا الطعام أو ذاك، كون هذا الطعام محرّماً وذاك محللاً، في هذا اليوم أو ذاك. بل هي تهدف إلى إخضاع إرادة المؤمن للّه تعالى بالعفة وممارسة الفضائل السامية، وخاصة فضيلة الطاعة لأوامر اللّه التي تصدر على لسان عبيده أحبار الكنيسة الذين منحهم سلطان الحلّ والربط ليشرّعوا القوانين، ويضعوا الأحكام والنظم لما فيه خير المؤمنين ولتمجيد اسم اللّه القدوس.

وحيث أن الكنيسة هي أم رؤوم، ومعلمة صالحة، لا تحمّل المؤمنين أعباء ثقيلة لا يستطيعون إلى حملها سبيلاً، متذكرة قول الرب: القائل: «وويل لكم أنتم أيها الناموسيون لأنكم تُحمِّلون الناس أحمالاً عَسِرَة الحمل وأنتم لا تَمَسُّون الأحمال بإحدى أصابعكم» (لو 11: 46) فمن هذا المنطلق فسّح الطيب الذكر البطريرك الياس الثالث (1932+) في أكل السمك في أيام الصوم الأربعيني، وسمح لأبناء الكنيسة في أميركا أن يصوموا الأسبوعين الأول والأخير فقط من الصوم الأربعيني بالإضافة إلى أيام الأربعاء والجمعة. وفسّح لهم في الإفطار بقية أيامه.

وفسّح الطيب الذكر البطريرك أفرام الأول برصوم (1957+) في مثل هذا إجابة إلى ملتمس الكنيسة في الهند فضلاً عن تخفيفه الأصوام الأخرى للجميع وذلك عام 1946م وسمح الطيب الذكر البطريرك يعقوب الثالث (1980+) بصوم الأسبوعين الأول والأخير من الصوم الأربعيني فقط بالإضافة إلى أيام الأربعاء والجمعة للإكليروس والشعب، وفسّح لهم في استعمال جميع الأطعمة في بقية أيامه وذلك عام 1966 كما فسّح في إقامة الولائم والأعراس والعماد والقداس والتذكارات في جميع الأيام التي تتوسّط الأسبوعين المذكورين([210]).

يأتي تفسيح أسلافنا البطاركة الميامين، للمؤمنين بتقليل أيام الصوم الأربعيني، من باب الرحمة بهم لئلا يكسروا الوصية ويكونوا موضع غضب اللّه تعالى ـ لا سمح اللّه ـ فمن استغلّ هذا التفسيح لا يخطئ ويعتبر في عداد مَن لم يكسر الوصية. أمّا من صام أيام الصوم الأربعيني وأسبوع الآلام كلها فيضاعف اللّه له الأجر.

وعلى ذوي الرتب والدرجات الكهنوتية الكبرى والصغرى، ما عدا الشيوخ فيهم والمرضى، أن يقيموا من أنفسهم قدوة صالحة للمؤمنين ليتمثّلوا بهم بحفظ أحكام الرب وشرائعه المقدسة، بالتزام فريضة الصوم الأربعيني المقدس وأسبوع الآلام المحيية، كما مارسها آباؤنا الأولون القديسون منقطعين عن الطعام والشراب من منتصف الليل حتى بُعيد منتصف النهار وأن يتناولوا بعدئذ طعاماً صيامياً خالياً من الدسم «والزفر» وحبذا لو مارس المؤمنون كافة فريضة الصيام بهذه الطريقة المثلى([211]).

  • صوم يومي الأربعاء والجمعة من كل أسبوع:

اتّخذت الكنيسة المقدسة منذ أواخر القرن الأول للميلاد صوم يومي الأربعاء والجمعة من كل أسبوع، بدلاً من صوم يومي الاثنين والخميس الذي مارسه الأتقياء من اليهود، كما يتبيّن ذلك من مثل الفريسي والعشار (لو 18: 12). ويصوم المسيحيون يوم الأربعاء لأن فيه دبّر اليهود المؤامرة لإلقاء القبض على الرب يسوع وقتله. أما يوم الجمعة فيصومونه لأنه فيه صلب اليهود الرب يسوع فمات على الصليب لأجل خلاصنا. وقد ورد ذكر هذا الصوم في الكتاب المسمى (تعليم الرسل) الذي يُعزى تأليفه إلى أواخر القرن الأول أو بدء الثاني للميلاد وفي تآليف بعض آباء القرون الأولى للميلاد كما توجب قوانين الرسل على جميع الإكليروس والشعب التمسك به تحت طائلة الحرمان والفرز.

 

وجرت العادة منذ أجيال سحيقة ألاّ تصوم الكنيسة أيام الأربعاء والجمعة الواقعة بين عيدي القيامة والعنصرة. وألاّ تصومهما أيضاً إذا وقع فيهما عيد سيدي أو مريمي أو عيد القديس شفيع الكنيسة المحلية أو تلك المنطقة. وجرت العادة في الأجيال المتأخرة السماح بعدم التمسّك بصوم أيام الأربعاء والجمعة الواقعة بين عيدي الميلاد والغطاس (الدنح). كما أن المؤمنين في أبرشيات العراق لا يصومون أيام الجمعة الواقعة بين صوم نينوى والصوم الأربعيني المقدسة وهي: جمعة الكهنة وجمعة الموتى المؤمنين الغرباء، وجمعة الموتى المؤمنين كافة.

ونصوم الآن يومي الأربعاء والجمعة انقطاعاً عن الطعام حتى الظهر ثم نتناول الطعام الصيامي. أو نتناول الطعام الصيامي صباحاً وظهراً: ويستحسن أن نقتصر على الطعام الصيامي يوماً كاملاً من المساء إلى المساء يومي الأربعاء والجمعة كما كان يفعل آباؤنا منذ فجر المسيحية.

  • صوم الميلاد:

يرتقي تاريخ وضع هذا الصوم إلى ما قبل القرن الرابع للميلاد، ونفهم ذلك من قراءاتنا ميامر مار أفرام السرياني (373+) وأناشيده التي نظمها في القرن الرابع. ويمارس هذا الصوم استعداداً لاستقبال ذكرى ميلاد الرب يسوع بالجسد. وتذكاراً لما كنا عليه قبل الميلاد من العيش في حزن الخطية، وظلام الجهل، وعبودية إبليس، وتذلل الخليقة بانتظار الخلاص، فولد المخلص وفدانا بتجسّده. فنصوم هذا الصوم لنتنقى نفساً وجسداً، فنستحق استقبال ذكرى ميلاد الفادي، كلمة اللّه المتجسّد، كما صام موسى قبل أن تسلّم كلمة اللّه المكتوبة أي شريعة العهد القديم.

وكان عدد أيام هذا الصوم قديماً أربعين يوماً فخففته الكنيسة إلى خمسة وعشرين يوماً ثم في عام 1946 وبموجب قرار مجمع حمص خفّفه الطيب الذكر البطريرك أفرام الأول برصوم إلى عشرة أيام بدؤها اليوم الخامس عشر من شهر كانون الأول ونهايتها يوم عيد الميلاد المجيد الواقع في 25 كانون الأول.

  • صوم الرسل:

سمي كذلك من باب تسمية الشيء باسم واضعه. فالصوم يصام للّه وحده، ويصام هذا الصوم اقتداء بالرسل (عب 13: 7) الذين صاموه إتماماً لقول الرب يسوع: «ستأتي أيام حين يرفع العريس من بينهم فحينئذ يصومون» (مت 9: 15) فبعد صعود الرب يسوع إلى السماء، وحلول الروح القدس على التلاميذ، ابتدأوا بالصوم وبهذا الصدد جاء في سفر أعمال الرسل ما يأتي: «وبينما هم يخدمون الرب ويصومون» (أع 13: 2) وكانت مدة هذا الصوم تطول وتقصر بالنسبة إلى الحساب الشرقي لعيد الفصح، فكان يبدأ في اليوم التالي لعيد العنصرة وينتهي في يوم عيد هامتي الرسل مار بطرس ومار بولس. وقد خففته الكنيسة عبر الأجيال وصارت مدته الآن ثلاثة أيام تبدأ في السادس والعشرين من شهر حزيران وتنتهي بعيد هامتي الرسل مار بطرس ومار بولس في 29 منه وذلك بموجب قرار مجمع حمص عام 1946م.

  • صوم العذراء:

نستقبل بهذا الصوم عيد انتقال السيدة العذراء إلى السماء. ويصام اقتداء بها، أو تمثّلاً بالرسل الأطهار الذين صاموه عند نياحتها. وكانت مدة هذا الصوم خمسة عشر يوماً وبموجب قرار مجمع حمص سنة 1946 أصبح خمسة أيام تبدأ في العاشر من شهر آب وتنتهي في عيد انتقال العذراء في الخامس عشر منه.

وقد أصدر الخالد الأثر البطريرك أفرام الأول برصوم منشوره البطريركي في 7 كانون الأول من عام 1946 ألغى بموجبه عدد أيام الصيامات القديمة للميلاد، والعذراء والرسل المذكورة في كتاب الهدايات لابن العبري ووضع الحدود الجديدة التي رسمها فصار قانوناً يعمل به.

  • صوم نينوى:

سمي كذلك لأن أهل نينوى كانوا أول من صامه طلباً لرحمة اللّه ومغفرته واقتداء بأهل مدينة نينوى في الأجيال الساحقة الذين سمعوا بإنذار اللّه الذي جاءهم على لسان النبي يونان، فصاموا جميعاً الإنسان والحيوان، الكبير والصغير استعطافاً للّه، فرجع الرب عن حمو غضبه وندم  على الشر الذي كان مزمعاً أن يصنعه بهم (يون 3).

ويرتقي تاريخ هذا الصوم في كنيستنا إلى ما قبل القرن الرابع للميلاد، ونستدل على ذلك من ميامر مار أفرام السرياني (373+) وأناشيده. وكان عدد أيام هذا الصوم قديماً ستة، أما الآن فهو ثلاثة أيام فقط تبدأ صباح الاثنين الثالث قبل الصوم الكبير وكان قد أهمل عبر الأجيال، ويذكر مار ديونيسيوس ابن الصليبي (1171+) أن مار ماروثا التكريتي (649+) هو الذي فرضه على كنيسة المشرق في منطقة نينوى أولاً، ويقول ابن العبري نقلاً عن الآخرين أن تثبيت هذا الصوم جرى بسبب شدة طرأت على الكنيسة في الحيرة فصام أهلها ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ مواصلين الصلاة إتماماً لوصية أسقفهم فنجاهم اللّه من تلك التجربة([212]).

وعن السريان أخذ الأرمن هذا الصوم ويدعونه «سورب سركيس». كما أخذه الأقباط على عهد الأنبا أبرام السرياني بطريرك الاسكندرية الثاني والستين. وهذا الصوم محبوب جداً لدى السريان ويطوي بعض المؤمنين أيامه الثلاثة دون طعام أو شراب ثم يتناولون القربان المقدس في اليوم الثالث ويفطرون على الطعام الصيامي حتى صباح الخميس. أما بقية المؤمنين فينقطعون عن الطعام حتى الظهر أو العصر ويتناولون طعام الصيام. ويقترن الصوم بالصلاة التي تتلى بلحن الصيام الأربعيني. وإذا صادف فيه وقوع عيد دخول السيد المسيح إلى الهيكل الذي نحتفل به في 2 شباط عادة، فيحب أن نحتفل به بصلاة العيد ثم نقدم الذبيحة الإلهية صباحاً حسب العادة أما صلاة الصوم فتتلى عند الظهر ويحلّ صوم الإمساك عن الطعام بعد القداس ثم تناول الطعام الصيامي.

 

 

 

 

 

 

 

 

الأعـيــاد)*(

في كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوكسية

 

العيد في المفهوم المسيحي هو فرصة روحية، ووقت تعيّن الكنيسة المقدسة موعده ومناسبته، وتفرض على المؤمنين إحياءه والاحتفال به بعدم مزاولة الأعمال الدنيوية العادية، والانصراف إلى الصلاة، وإقامة الشعائر الدينية إكراماً للّه تعالى، وتذكاراً لمنحه الإلهية التي سكبها على المؤمنين، والتأمل بالمناسبة التي خُصّص يوم العيد لأجلها.

وقد أخذت الكنيسة المسيحية سنّة الاحتفال بالأعياد من الكنيسة الموسوية، حيث ذكرت أسفار العهد القديم، أن اللّه نفسه قد فرض على شعب موسى أعياداً ليهيئ لذلك الشعب أوقاتاً يرتاح بها من أعماله العادية، ويتفرّغ خلالها للأمور الروحية، ويتأمل بأعماله تعالى ونعمه الغزيرة وعجائبه الباهرة، في سبيل خلاص ذلك الشعب (خر 12: 24) وليذكر في أجياله اللاحقة مراحم اللّه وإحساناته على الأجيال السابقة وعنايته بهم (خر 12: 2) وبذلك يُواصل الصالحون من البشر حفظ شريعة اللّه (خر 13: 8 ـ 16) ولا ينسون فرائضه إذ يذكرون رعايته الدائمة للبشر ومحبته ويتّخذونه مثالاً لهم بالمحبة، ويعبّرون عن مشاعر الود الصافي بعضهم لبعض بمساعدة الفقير واليتيم والمحتاج.

فالأعياد إذن وضع إلهي، وترتيب سماوي، فرضها اللّه على بني اسرائيل، وأمر بحفظها والاحتفال بها، وحذّر من إهمالها، كما أنه تعالى عاقب من لم يراعِ حرمتها (عدد 15: 23و26). فقد جاء في سفر اللاويين ما يأتي: «وكلّم الرب موسى قائلاً، كلّم بني اسرائيل وقل لهم مواسم الرب التي فيها تنادون محافل مقدسة هذه هي مواسمي، ستة أيام يُعمل عمل، وأما اليوم السابع ففيه سبت عطلة محفل مقدس، عملاً ما لا تعملوا، إنه سبت للرب في جميع مساكنكم»(لا 23: 1 ـ 3) وقد خصّص اللّه تعالى هذه الأعياد له بقوله: «هذه مواسمي وأعيادي» (لا 23: 1 ، 37) وقال تعالى عن أحد هذه الأعياد ما ينطبق على سائر الأعياد بقوله: «وكل نفس تعمل عملاً ما ففي هذا اليوم عينه أبيد تلك النفس من شعبها»(لا 23: 30).

وأول أعياد العهد القديم هو العيد الأسبوعي السبت الذي ذكر في سفر التكوين أن اللّه استراح فيه وباركه (تك 2: 3) وجاء في سفر الخروج أن اللّه أمر شعب موسى بحفظه (خر 20: 8).

وثاني هذه الأعياد هو عيد الفصح، الذي هو أكبر الأعياد وأهمها عند اليهود (خر 12: 42 ولا 23: 4) فيه يذكرون إخراج الرب آباءهم من أرض مصر فيحفظونه سنوياً ليلاً، وهذه الليلة ذكرت في سفر التثنية (16: 1) حيث قيل: «احفظ  شهر أبيب (نيسان) واعمل فصحاً للرب إلهك لأنه في شهر أبيب أخرجك الرب إلهك من مصر ليلاً» فهذا العيد يُعدّ تذكيراً لهم بمراحم اللّه عليهم وتخليصه إياهم من العبودية وكذلك تخليص أبكارهم من الموت لعبور الملاك المهلك عن بيوتهم الملطّخة بدم خروف الفصح، وضربه كل أبكار المصريين (خر 12: 1) وكان خروف الفصح هذا رمزاً لحمل اللّه الرافع خطايا العالم، المسيح يسوع المذبوح لأجلنا ولأجل خلاصنا على حد تعبير الرسول بولس القائل: «لأن فصحنا أيضاً المسيح، قد ذُبح لأجلنا»(1كو 5: 7).

وثالث هذه الأعياد هو عيد الأسابيع أو عيد الحصاد (خر 34: 22 ولا 23: 15 وتث 16: 6 وحز 23: 16) ويسمى أيضاً يوم الباكورة (عد 28: 26) وعيد الخمسين (أع 2: 1) ويقع عند نهاية حصاد القمح، وكان مناسبة لتقديم الشكر للّه على الحصاد الذي تُقدّم باكورته للّه تعالى ويقع هذا العيد في اليوم الخمسين من عيد الفصح، وهو رمز إلى عيد العنصرة المسيحي الذي حلّ فيه الروح القدس على تلاميذ الرب، وعلى أثر خطاب مار بطرس، آمن بالرب ثلاثة آلاف نفس كانوا باكورة المؤمنين يوم ميلاد الكنيسة.

ورابع هذه الأعياد هو عيد المظال ويسمى أيضاً عيد الجمع لوقوعه في نهاية موسم الحصاد، وعند اجتناء الأثمار في آخر السنة (عدد 19: 12 وخر 23: 16) وهو أحد أعياد اليهود الكبرى (لا 23: 24 ـ 43) ويذكرهم بارتحال آبائهم في البرية وسكناهم في المظال، وفيه يخرج الشعب من أماكن سكناهم ليقيموا في مظال مصنوعة من أغصان الشجر ومنصوبة على أسطح الدور، وفي الدار الخارجية للهيكل وفي الأزقة وعلى الجبال المجاورة لأورشليم. وهذا العيد هو سبعة أيام للرب، وفي اليوم الثامن منها اعتكاف وراحة وعبادة في محفل مقدس عظيم (لا 23: 39 و 19: 37).

وخامس هذه الأعياد هو عيد تذكار هتاف البوق (لا 23: 24).

وسادس هذه الأعياد هو عيد الكفارة (عد 19) وهو من أعيادهم المهمة أيضاً نهى اللّه فيه الشعب عن كل عمل وأمر بإذلال النفس قائلاً: «أما العاشر من هذا الشهر السابع فهو يوم الكفارة محفلاً مقدّساً يكون لكم تذللون نفوسكم وتقرّبون وقوداً للرب، عملاً ما لا تعملون في هذا اليوم عينه لأنه يوم كفارة للتكفير عنكم أمام الرب إلهكم (لا 23: 24 ـ 29) وفيه كان الحبر الأعظم يدخل إلى قدس الأقداس ويكفّر عن خطاياه وخطايا الشعب كافة.

وسابع هذه الأعياد هو عيد رأس الشهر (عدد 28: 11).

وثامن هذه الأعياد هو عيد الفوريم: الذي وضع تذكاراً لنجاة الشعب اليهودي من دسيسة هامان بواسطة مردخاي واستير (اس 9: 20 ـ 32) ودعي بالفوريم لأن هامان سحب (فوراً) أي قرعة ليناسب يوما لإجراء مقصده الرديء (اس 3: 7).

وتاسع هذه الأعياد هو عيد التجديد، وقد وضع هذا العيد تذكارا لتطهير الهيكل وبناء المذبح وطرد الأعداء على يد يهوذا المكابي (1مك 4: 52 ـ 59) وكان ذلك سنة 164 ق.م وقد ذكر هذا العيد مرة واحدة في الإنجيل المقدس (يو 10: 22).

هذه أهم الأعياد التي فرضت من اللّه على اليهود بترتيب طقوسها وكيفية ممارستها، ذكرناها ههنا لنثبت أن الأعياد وضعها اللّه قديماً ، وأنه تعالى قد أمر بحفظها بقوله لشعب النظام القديم: «فتحفظون كل فرائضي وكل أحكامي وتعملونها. أنا الرب»(لا 19: 37). وحذّر الرب الشعب من إهمالها، وهدّد بالعقاب الصارم لكل من لا يصون حرمتها بقوله: «وكل نفس تعمل عملاً ما في هذا اليوم عينه أبيد تلك النفس من شعبها» (لا 23: 30) وقد حفظ شعب النظام القديم هذه الأعياد حتى ظهور الرب يسوع وهو نفسه أظهر قبوله لها بحضوره بعضها، وبممارسته الفروض التي كانت تقام فيها (مت 26: 17 ومر 14: 13 ولو 2: 41 ويو 2: 13).

فالرب مثلاً قد كمّل عيد الفصح مع تلاميذه بموجب السنّة الموسوية (مت 26: 19). وقد حضر في الهيكل في عيد التجديد (يو 10: 22) وحضر في عيد المظال (يو 7: 37و38) ولم تفرض أعياد اليهود هذه على المسيحيين، ولذلك ساغ للرسول بولس أن يقول لهم: «فلا يحكم عليكم أحد في أكل أو شرب أو من جهة عيد أو هلال أو سبت التي هي ظل الأمور العتيدة» (كو 2: 16) وقد تمت بذلك نبوة النبي هوشع عن الأمة اليهودية على لسان الرب القائل: «وأبطل كل أفراحها وأعيادها ورؤوس شهورها وسبوتها وجميع مواسمها»(هو 2: 11).

وبعد صعود الرب إلى السماء ابتدأ الرسل الأطهار يعيِّدون أعياد التدابير الإلهية من تجسد الفادي وفدائه البشرية. وأهم هذه الأعياد وأولها هو عيد قيامة الرب يسوع من بين الأموات في فجر الأحد والرسول بولس يقول بهذا الصدد: «لأن فصحنا أيضاً المسيح قد ذُبح لأجلنا إذاً لنعيد ليس بخميرة عتيقة
ولا بخميرة الشر والخبث بل بفطير الإخلاص والحق» (1كو 5: 7و8). ولما كان الرسول بولس في أفسس أسرع إلى أورشليم ليحتفل بعيد العنصرة بقوله: «ينبغي على كل حال أن أعمل العيد القادم في أورشليم»(أع 18: 21) وكذلك لما كان في آسيا وعد مؤمني كورنثوس بالذهاب إليهم بعد أن يعيّد عيد العنصرة (1كو 16: 8) فمن هذا يستدل على أن الأعياد مأمور بها في العهد الجديد، ومصرّح بممارستها وأن الاحتفال بها كان في أوقات معيّنة. ومما هو جدير بالملاحظة أن جميع الكنائس الرسولية في العالم تعتقد بالأعياد وتحتفل بها، وإذا كان الرب يسوع قد مارس بنفسه إبان تجسّده أعياد العهد القديم، أفلا يجب علينا من باب أولى أن نحافظ كل المحافظة على أعياد العهد الجديد التي هي أتمّ وأفضل حتى لا ننسى محبة اللّه لنا وإحسانه إلينا لأن الأعياد تذكّرنا بمِنَحٍ ملأت الأرض، وبركات من رحمة اللّه المتجسّدة في شخص الفادي العجيب، وتقدم للمؤمنين جيلاً بعد جيل دروساً بكيفية مؤثرة تضرم في قلوبهم نار الغيرة الدينية وتبثّ فيهم روح التقوى والتعبّد لله.

وقد شهد موسهيم المؤرخ البروتستانتي بأن الأعياد كانت وما تزال تمارس في الكنيسة منذ العصر الرسولي بقوله: «إن مسيحيي القرن الأول اجتمعوا للعبادة في اليوم الأول من الأسبوع، اليوم الذي استرجع فيه المسيح حياته ويظهر على أنهم كانوا يحفظون يوماً دينياً آخر لتذكار حلول الروح القدس على الرسل»(وجه 42).

وقد زادت حقيقة تمسك الرسل بالأعياد وضوحاً في أوامر الرسل وقوانينهم، وإن جميع المسيحيين يحتفلون بالأعياد منذ فجر المسيحية وإن اختلافهم في تعيين موعد يوم عيد الفصح الذي توصّلوا إلى حل له في مجمع نيقية عام 325 خير برهان على تمسّكهم بالأعياد منذ بدء المسيحية.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

يــــوم الأحـــــد

 

فرضت الكنيسة المقدّسة منذ فجر وجودها يوم الأحد كيوم للرب، لأنه ذكرى قيامة الرب يسوع من بين الأموات. وحرّمت فيه الأشغال، وأمرت أن يكرّسه المؤمنون للتأمل بوصايا الرب، وتعاليمه، وعجائبه، وسائر أحداث سيرته في الجسد. وفي كل يوم أحدٍ تحتفل كنيستنا المقدسة في طقوسها الكنسية بقيامة الرب.

وعبر الدهور أضافت الكنيسة المقدّسة إلى يوم الرب، الاحتفال بأعياد مارانية أي سيدية، وهي أعياد الرب أيضاً، من ذلك عيدا الميلاد والعماد اللذان كانت الكنيسة تحتفل بهما في يوم واحد، هو السادس من كانون الثاني وفي الربع الأخير من المائة الرابعة اتفق آباء الكنيسة على الاحتفال بعيد الميلاد في الخامس والعشرين من شهر كانون الأول وخصّصوا اليوم السادس من كانون الثاني للاحتفال بعيد العماد (الغطاس) على ما ذكر القديس سويريوس موسى ابن كيفا مطران بيت كيونا وبارمان في خطبته في عيد الميلاد. وعيد ختانة الرب، وعيد صعود الرب إلى السماء. وبهذا الصدد يكتب العلاّمة مار غريغوريوس ابن العبري (1286+) في كتابه الهدايات الذي يحتوي على قوانين الكنيسة ما ترجمته: «لا يحلّ للمؤمنين البيع والشراء في يوم الأحد المقدس، والأعياد المارانية (السيدية)» ويقول أيضاً «لا يجوز لأحدٍ أن يؤوي إلى بيته غريباً لا يحترم يوم الأحد والأعياد([213])» ونص القانون الثالث والعشرون من القوانين الكنسية للقديس مار يعقوب الرهاوي (708+) ما يأتي: «لا يحلّ للمؤمنين أن يبيعوا ويشتروا شيئاً في يوم الأحد المقدس وفي الأعياد السيدية، ولا يجوز أن يسافر أحد في طريق إلاّ إذا كان في مكان خال أو في صحبة كثيرين أو في أعمال ضرورية أو بغصب الحكام أو لعوارض أخرى اضطرارية([214])».

وفي عصور لاحقة وُضِعت تذكارات القدّيسين لغايات حميدة ونافعة. والكنيسة في كتب طقوسها، تميّز بين الأعياد المارانية السيدية فتسمّي الأولى عادًا أعياداً، وتفرض على المؤمنين البطالة فيها، وتكرّسها للعبادة وعمل الخير. أمّا تذكارات السيدة العذراء، والشهداء، والقدّيسين التي تسمّيها الكنيسة دوكإنا أي التذكارات، فلم تفرض فيها الانقطاع عن العمل سابقاً. ولكن هذه التذكارات تأخذ أهمية كبرى في الكنائس المحلية التي شيّدت على اسم صاحب الذكرى. وفرضت في بعضها البطالة مع مرور الزمن.

  • يوم السبت خاص بالشعب اليهودي:

كان اليهود وحدهم دون سائر الأمم مكلّفين بحفظ يوم السبت، وحفظ المواسم والأعياد اليهودية، وسائر فرائض الكهنوت الموسوي وأحكامه، ووصفت هذه الفرائض بأنها أبدية كقول الكتاب لليهود: «فريضة دهرية في أجيالكم» (لا 3:17 ولا 6: 18و20 ولا 7: 34و 16: 29و34 وعد 25: 10 و18: 23) والمفهوم بالفريضة الدهرية الأبدية هو أن هذه الفريضة تدوم بديمومة الشريعة التي فرضت ضمنها. وقد فرض اللّه على شعب موسى: 1ـ تقديس أيام معيّنة أي السبت، والأعياد، والهلال. 2ـ الذبائح. 3ـ شريعة الحلال والحرام في أكل اللحوم. 4ـ الختان.

أما السبت فقد فرضه اللّه على شعب موسى يلتزمون بحفظه كيوم عطلة، وذكر كفريضة لأول مرة في حادثة إعطاء اللّه لهم المنً في البرية حيث كلّم اللّه موسى قائلاً: «ها أنا أمطر لكم خبزاً من السماء… ويكون في اليوم السادس يهيئون ما يجيئون به فيكون ضعف ما يلتقطونه يوماً فيوماً… ثم كان في اليوم السادس أنهم التقطوا خبزاً مضاعفاً… فقال موسى هذا ما قاله الرب: وغداً عطلة سبت مقدّس للرب… ستة أيام تلتقطونه وأما اليوم السابع ففيه سبت لا يوجد فيه، انظروا ان الرب أعطاكم السبت… فاستراح الشعب في اليوم»(خر 16: 4 ـ 8 و22: 30).

وضمن الوصايا العشر التي أعطاها اللّه لشعب موسى قال له: «أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية، لا يكن لك آلهة أخرى أمامي… اذكر يوم السبت لتقدّسه، ستة أيام تعمل وتصنع جميع أعمالك، وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك، لا تصنع عملاً ما أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك…» (خر 20: 1 ـ 3 و8: 10). وقال موسى لشعبه: «الرب إلهنا قطع معنا عهداً في حوريب… نحن الذين هنا اليوم جميعنا أحياء فقال: أنا هو الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية… احفظ يوم السبت لتقدّسه، كما أوصاك الرب إلهك. ستة أيام تشتغل وتعمل جميع أعمالك، وأما اليوم السابع فسبت للرب إلهك، لا تعمل فيه عملاً ما… واذكر أنك كنت عبداً في أرض مصر فأخرجك الرب إلهك من هناك بيد شديدة وذراع ممدودة لأجل ذلك أوصاك الرب إلهك أن تحفظ يوم السبت» (تث 5: 2و6و12 ـ 15).

من هذه الآيات المقدّسة وغيرها، نعلم أن اليهود وحدهم كلّفوا بحفظ يوم السبت اليهودي، تذكيراً لهم بمراحم اللّه عليهم، وتخليصه إياهم من العبودية، فأراد اللّه أن يجعل هذا الخلاص ذكراً في أجيالهم، ليذكروا دائماً نعمته العظمى عليهم، ويجعله عهداً أبدياً بينه وبينهم، طالما بقي ناموس موسى وكهنوته الطقسي بتسلسله الشرعي، وطالما بقيت ذبائح هذا الناموس سارية المفعول، وطالما بقيت جداول أنساب ذلك الشعب محفوظة سليمة وصحيحة، وقد تبلبلت تلك الجداول وفقدت، وضاعت الأنساب بعد مجيء السيد المسيح، إذ كانت قد وجدت لتكون شاهدة على حقيقة مجيء المسيح، فشهدت بأن يسوع الناصري هو المسيح المنتظر، وأنّه من نسل داود، وفيه تمّت النبوات، وقد ذكر الإنجيل المقدس نسبه في الجسد. وبعد خراب أورشليم على يد طيطس عام 70م تبلبلت الأنساب وفقدت جداولها، وزالت الذبائح ومعها زال الكهنوت الموسوي أيضاً، وانتهت الفروض الموسوية، فانتهى معها العهد الأبدي.

ومن دراسة حالة اليهود في عهد السيد المسيح، نعلم أنهم في أجيالهم كلّها أخطأوا في كيفية حفظ يوم السبت، ونسوا الغاية من فرضه، فالله يريدنا أن نخصّص سبعَ وقتنا للاستراحة، لأن جسد الإنسان يحتاج إلى راحة، لذلك خصّص اللّه للإنسان يوماً في الأسبوع يرتاح فيه وهو سُبعُ وقته، كما خصّص اللّه للإنسان الليل لراحة جسده من أتعاب النهار. ويريدنا الرب خلال راحتنا الجسدية الأسبوعية أن نعبده تعالى بالروح والحق، ونمجّده ونشكره على أنعامه الكثيرة علينا.

وقد حفظ الرب يسوع (يوم السبت) إذ جاء ليكمّل الناموس لا لينقضه(مت 5: 17) ولكنه علّمنا كيف يجب أن نحفظ يوم الراحة بقوله: «إن السبت جُعل لأجل الإنسان لا الإنسان لأجل السبت»(مر 2: 27).

لذلك جاز لنا أن نعمل في يوم الراحة أعمال الرحمة، فقد أبرأ الرب يسوع في يوم السبت إنساناً كانت يده يابسة (مت 12: 10) وشفى المرأة المنحنية (لو 13: 10 ـ 14) وفتح عيني الأعمى (يو 19: 1 ـ 7) وشفى المستسقى (لو 14: 2) وفي يوم السبت قطف تلاميذه السنابل وأكلوا (مت 12: 1) وهذا ما كان يناقض تعاليم آبائهم وقوانين الفريسيين، فأراد اليهود قتل السيد المسيح لأنه نقض السبت (يو 5: 16) حسب ظنهم.

وكان السبت لدى اليهود فريضة طقسية أكثر منه وصية أدبية. فأُلغي كيوم راحة بإلغاء الناموس الطقسي لديهم.

وألغى المسيحيون يوم السبت وسائر الأعياد اليهودية ونتيجة لذلك يوصي الرسول بولس أهل كولسي بقوله: «فلا يحكم عليكم أحد في أكل أو شرب أو من جهة عيد أو هلال أو سبت التي هي ظل الأمور العتيدة»(كو 2: 16 ـ 17). فالرسول بولس يعلن هنا حقيقة بطلان الفروض الناموسية الموسوية في المسيحية.

  • يوم الأحد هو يوم الرب:

واتّخذت الكنيسة منذ العصر الرسولي اليوم الأول من الأسبوع أي «يوم الأحد» يوماً مقدّساً ودعته يوم الرب، وأعلنته يوم راحة للإنسان، وكرّسته لعبادة اللّه وتمجيده وعمل الخير فيه. ذلك أن الرب يسوع قام فيه من بين الأموات (مت 28: 1) وظهر لتلاميذه الأبرار في اليوم ذاته ست مرات محققاً لهم قيامته (يو 20: 19 ـ 26) ولم يكن عبثاً تكرار ظهوراته لهم أيضاً وهم مجتمعون في العلّية في يوم الأحد الذي تلا أحد القيامة، كما كان قد دخل أورشليم يوم الشعانين يوم الأحد، وحلّ الروح القدس على التلاميذ وملأهم قوة وحكمة يوم الأحد، وآمن بالمسيح في ذلك اليوم ثلاثة آلاف نفس دفعة واحدة (أع 2: 41) وإذا صحّ التقليد القائل أن السيد المسيح قد ولد يوم الأحد يكون قد اختتن يوم الأحد، كما أنه اعتمد يوم الأحد. وهكذا اتفق التلاميذ على حفظ يوم الأحد وتعيينه للعبادة منذ قيامة الرب يسوع من بين الأموات في هذا اليوم المبارك (يو 20: 19 ـ 26) وبهذا الصدد قال أحد آباء الكنيسة بالسريانية قولاً دخل الطقس الكنسي ويرتل بعد ظهر كل يوم أحد وهو: رب ؤْو يومؤ دحدبشبا: طوبوؤي لاينا دنُطر لؤ بؤيمنوةا: دبؤ قم مرن من قبرا وآوديو عممًا بابا وببرا وروحقودشا ؤ حد ءلؤا ÷

وترجمته: عظيم هو يوم الأحد، فطوبى لمَن يحفظه بإيمان، فإن فيه قام الرب من القبر وآمنت الشعوب بالآب والابن والروح القدس هللويا الإله الواحد.

ودعي يوم الأحد يوم الرب، وجاء ذلك أولاً في سفر الرؤيا بالنص اليوناني حيث قال يوحنا «كنت في الروح في يوم الرب»(رؤ 1: 10) وبما أن مفهوم المسيحية منذ بدئها بأن يوم الرب هو يوم الأحد لذلك فالترجمات اللاتينية والسريانية والقبطية ترجمت عبارة (يوم الرب) بـ «يوم الأحد».

وكان الرسل الأطهار وسائر تلاميذ الرب الأبرار يجتمعون في هذا اليوم لكسر الخبز والاشتراك في الأسرار المقدسة، وسماع كلام اللّه والوعظ والإرشاد (أع 20: 7). ولذلك أمر الرسول بولس المؤمنين أن يجتمعوا في هذا اليوم المبارك، ويجمعوا الصدقات لسد احتياجات الإخوة القديسين قائلاً: «في كل أول أسبوع ليضع كل واحد منكم عنده خازناً ما تيسّر حتى إذا جئت لا يكون جمع حينئذٍ»(1كو 16: 2) «إذاً يحلّ فعل الخير في يوم الراحة» (مت 12: 12). ولذلك يكون تقديس يوم الأحد: أولاً ـ بالبطالة أي بالامتناع عن ممارسة كل عمل غير ضروري، وترك مباشرة الحِرف والصنائع والبيع والشراء والنزهات الدنيوية وسائر الأعمال غير الضرورية. ثانياً ـ بحضور القداس الإلهي وسماع كلمة الله، أي بالقيام بأعمال العبادة وممارسة الأعمال التقوية. ثالثاً ـ بعمل الخير محبّة بالله والقريب.

وفي كتابات الآباء المسيحيين في القرون الأولى نقرأ في الديداكي أي تعليم الإثني عشر رسولاً([215]) وصية ذكرت في الفصل الرابع عشر منه تقول: «أما يوم الأحد فهو يوم الرب، تجتمعون فيه لكسر الخبز والشكر، بعدما تعترفون بخطاياكم، ليكون قربانكم نقياً وليكفّ عن الاجتماع بكم من يخاصم أخاه حتى يصالحه لكي لا تتدنّس تقدمتكم».

وفي طقوس كنيستنا السريانية منذ القرن الرابع خُصّصت فصول من الكتاب المقدس لكل يوم أحد، موزّعة على آحاد السنة، تتلى في بدء الاحتفال بالقدّاس الإلهي. كما نظمت الكنيسة كلندارها على أساس الآحاد، كآحاد قبل الميلاد، وآحاد الصوم الكبير، وآحاد بعد القيامة والخ… وبناءً على ما كانت تمارسه الكنيسة من تقديس يوم الأحد، اصدر الإمبراطور قسطنطين الكبير في 7 آذار سنة 321 أمراً بإبطال الأعمال في يوم الأحد حتى تعليم الجنود. كما منع الإمبراطور ثيودوسيوس الصغير حضور المسارح وملاعب الخيل وكل وسائل الطرب يوم الأحد، وذلك سنة 425. إن قرارات الملوك هذه تدل على ما كان للكنيسة من تأثير على المملكة فنفّذت المملكة قرارات الكنيسة، وإن آباء الكنيسة الرسوليين سجّلوا في كتاباتهم إلغاء يوم السبت، واتّخاذ الكنيسة يوم الأحد كيوم الرب، ومن ذلك ما قاله القديس مار إغناطيوس النوراني الشهيد (107+) في رسالته إلى أهل مغنيزيا: «إن الذين يعيشون تحت نظام الأشياء القديمة، اعتنقوا الرجاء الجديد، فلا يحفظون السبت أبداً، بل يوم الأحد، اليوم الذي فيه طلع نجم حياتنا بفضل الرب وموته، (وقيامته) هذا السرّ الذي ينكره كثيرون وهو ينبوع إيماننا»([216]). وقال يوستينوس الشهيد (167+) في احتجاجه عن المسيحيين الذي بعث به سنة 140 إلى الإمبراطور أنطونيوس بيوس أنه «في يوم معين يدعى الأحد، كان من عادة المسيحيين القدماء، سواء كانوا ساكنين في مدن أو قرى، أن يجتمعوا في مكان واحد. وكانت تقرأ بقدر ما يسمح الوقت تقارير الرسل أو كتابات الأنبياء. وبعد أن ينتهي القارئ كان المترئس يقدم خطاباً حاثاً هؤلاء المجتمعين على متابعة الأشياء الحميدة التي قرئت، وكان الجميع إذ ذاك يقفون ويقدّمون صلوات. وبعد نهاية الصلاة كان يُؤتى بخبز وخمر ممزوج بماء، ويوضعان قدام المترئس الذي يقدّم صلوات وشكرانات عند نهايتها يقول الشعب آمين. وكانت تلك العناصر المقدّسة توزّع حينئذ وتُناول إلى كل واحد، وقسم منها كان يرسل إلى الغائبين»([217]).

هكذا أبطل الرسل عطلة يوم السبت واتّخذوا يوم الأحد يوما مقدساًً للرب، وذلك بسلطان إلهي نالوه من الرب، وبترتيب إلهي، وإلهام رباني، وبهذا السلطان أيضاً كانوا قد أقدموا على إلغاء الختان وإحلال المعمودية محله، حتى ساغ للرسول بولس أن يقول: «لأنه في المسيح يسوع لا الختان ينفع شيئاً ولا الغرلة، بل الإيمان العامل بالمحبة»(غلا 5: 6) مع أن ما قيل عن الختان في العهد القديم، مطابق لما قيل عن السبت إذ قال الله: «ويكون عهدي في لحمكم عهداً أبدياً، وأما الذكر الأغلف الذي لا يختتن في لحم غرلته فتقطع تلك النفس من شعبها إنه قد نكث عهدي » (تك 17: 14). أما عن السبت فقيل: «سبوتي تحفظونها لأنها علامة بيني وبينكم في أجيالكم فتحفظون السبت لأنه مقدّس، من دنّسه قتلاً يقتل، فيحفظ بنو اسرائيل السبت ليصنعوا السبت في أجيالهم عهداً أبدياً»(خر 31: 14 ـ 17). فبالسلطان الرسولي الذي به أبطل الرسل عهد الختان الأبدي، أبطلوا أيضاً عهد السبت الأبدي. (أع 15: 18).

ولا غرو في ذلك، فليس ثمة ذكر للسبت في موعظة الرب يسوع على الجبل (مت 5و6و7) ولا ذكر للسبت في جواب الرب يسوع للشاب الذي سأله قائلاً ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟ فعدّد له الوصايا دون أن يذكر له وصية حفظ السبت (مت 19: 16) مما يدل على عدم ضرورة حفظها لنيل الحياة الأبدية. وفضلاً عن ذلك، فإن قرار المجمع الرسولي الأول الذي عقد في أورشليم عام 51م كان خالياً من ذكر السبت (أع 15: 18).

هكذا أبطلت وصية السبت واتّخذ المؤمنون في المسيح يوم الأحد يوماً للرب مقدساً يحتفلون فيه بذكرى قيامة الرب من بين الأموات.

  • الأعياد المسيحية الأخرى

إلى جانب وجوب احتفالنا بيوم الرب أي يوم الأحد، نحن ملتزمون بالاحتفال ببقية الأعياد المسيحية التي تقسم من حيث رتبتها وأهميتها إلى:

1ـ أعياد مارانية أي سيدية وتدعى بالسريانية عادًا مُإنُيِا وهي أعياد الرب يسوع فيها نذكر أعماله الخلاصية، وفي ممارستها نتأمل صورة تدابيره الإلهية، وكأننا نرسمها أمامنا بصورة ناطقة. مكرّسين يوم العيد لعبادته له المجد ولذلك فهي أعياد إلزامية تلزم فيها البطالة على المؤمنين كما يجب فيها حضور القداس الإلهي.

2ـ تذكارات وتسمى بالسريانية دوكإنا وهي أعياد وتذكارات السيدة العذراء مريم وبعض الشهداء الأبرار والقديسين، والعديد من هذه التذكارات يعتبر أعياداً في الكنائس المحلية المشيَّدة على أسمائهم أو في مناطق استشهادهم أو جهادهم الروحي.

وتقسم الأعياد المارانية (السيدية) إلى قسمين أ: كبيرة، ب: صغيرة. فالكبيرة هي من وضع الرسل الأطهار وتلاميذهم الأولين([218]) وهي: 1ـ عيد البشارة، 2ـ عيد ميلاد الرب يسوع بالجسد، 3ـ عيد الغطاس أي عماد الرب يسوع في نهر الأردن على يد عبده يوحنا، 4ـ عيد الشعانين، 5ـ عيد القيامة، 6ـ عيد الصعود، 7ـ عيد العنصرة أي حلول الروح القدس على التلاميذ. أما الأعياد المارانية (السيدية) الصغيرة فهي: 1ـ عيد ختانة الرب يسوع، 2ـ عيد تقدمة الطفل يسوع إلى الهيكل، 3ـ خميس العهد وهو خميس الفصح، 4ـ ويضاف إليها أيضاً عيدا الصليب والأحد الجديد، وهذه الأعياد كلها إلزامية. وفيما يلي نتكلّم عن كل منها باختصار.

  • أولاً: الأعياد المارانية (السيدية) الكبيرة وهي سبعة:

1ـ عيد البشارة: وهو ذكرى بشارة الملاك جبرائيل للقديسة مريم العذراء بحبلها بمخلص العالم الرب يسوع المسيح (لو 1: 26 ـ 38). وتُعد هذه البشارة أول تدابير عمل الفداء، ومقدمة عهد الحرية والتخلّص من نير العبودية لإبليس ومن ربقة الخطية والموت الأدبي. وقد تسلّمت الكنيسة الاحتفال بهذا العيد من الرسل أنفسهم واحتفلت به منذ القرن الأول للميلاد.([219])

ويقع هذا العيد في 25 آذار، وهو من الأعياد الثابت حسابها في التقويم الكنسي، وقد يقع خلال أيام الصوم الأربعيني أو في أسبوع الآلام وحتى في جمعة الآلام المحيية العظيمة، فيجب الاحتفال فيه بالقداس الإلهي لأنه أصل الأعياد السيدية وأولها ـ ونحن السريان عادة لا نحتفل بالقداس الإلهي أيام الصيام إلا في يومي السبت والأحد وأربعاء نصف الصوم وارتفاع الصليب وسبت البشارة أي النور. ولكن لأهمية عيد البشارة يجب أن نحتفل بالقداس الإلهي فيه حتى ولو وقع في يوم جمعة الآلام المحيية، ونعيّد للبشارة متناولين الطعام الصيامي، ثم نبدأ بالاحتفال بطقس الصوم أو أسبوع الآلام أو الجمعة العظيمة موشّحين الكنيسة بالسواد علامة الحداد كالمعتاد.

وقد فصَّل البشير لوقا حوادث البشارة العظيمة في الاصحاح الأول من الإنجيل المقدس الذي كتبه.

2ـ عيد الميلاد: وهو ذكرى ولادة الرب يسوع المسيح بالجسد، في مغارة بيت لحم(لو 2: 1 ـ 13).

وقد احتفلت به الكنيسة منذ فجر المسيحية، وأثبت مار سويريوس الكبير (538+) قِدَمه على ما ذكر ابن كيفا (903+) وكانت أكثر كنائس الشرق تحتفل به في السادس من كانون الثاني مع عيد الغطاس وفي القرن الرابع عمّ تعييده في 25 كانون الأول وبقي عيد الغطاس في 6 كانون الثاني.([220])

3ـ عيد الغطاس: (الدنح) وهو ذكرى عماد الرب يسوع على يد عبده يوحنا المعمدان في نهر الاردن. ودعي بالسريانية دنحا ـ أي عيد الدنح أو الظهور الإلهي، لظهور الثالوث الأقدس الأقانيم الثلاثة الإله الواحد على أثر عماد الرب يسوع (مت 3: 13 ـ 17 ومر 1: 9 ـ 11 ولو 3: 21 ـ 23).

ويقع هذا العيد في السادس من شهر كانون الثاني وهو قديم العهد.

4ـ عيد الشعانين: وهو ذكرى دخول السيد المسيح إلى أورشليم راكباً على أتان وجحش ابن أتان (مت 21: 1 ـ 11 ومر 11: 1 ـ 11 ولو 19: 29 ـ 40 ويو 12: 22 ـ 25). ويقع هذا العيد في الأحد السابع من الصوم الكبير وهو الأحد السابق لعيد القيامة المجيد.

5 ـ عيد قيامة الرب يسوع من بين الأموات (مت 28: 1 ـ 4 ومر 16: 1). ويقع في الأحد الثامن من الصوم الكبير ولأهميته يسبقه أسبوع الآلام والصوم الأربعيني، وقد اختلف المسيحيون منذ فجر النصرانية في تعيين موعده، وعقدت مجامع محلية في أماكن عديدة لبحث هذا الخلاف، منها مجمع في ولاية الرها وفي فلسطين وبلاد البنطس، قررت أن يكون العيد يوم الأحد([221]). وقد وضع مجمع نيقية المسكوني الأول عام (325) حداً لهذا النزاع، وقرر أن يُحتفل بعيد القيامة في الأحد الذي يلي السبت لتمام بدر نيسان، ووضع المجمع قاعدة مضمونة لحساب العيد، وأعطي أسقف الاسكندرية الصلاحية ليعلن إلى عامة المسيحيين موعده لكل سنة([222]) معتمداً في تعيين موعده التقويم اليوليوسي الذي كانت الدولة تتبعه منذ فرضه يوليوس قيصر في السنة 46 قبل الميلاد. ولأهمية هذا العيد الدينية، واحتراماً لمقام قيامة الرب يسوع من بين الأموات، كان الملوك الرومان يعفون عن المجرمين فيه([223]).

وقد نشب الخلاف ثانية في صفوف الكنائس المسيحية في تعيين موعد عيد القيامة عندما اعتمد فريق منها الحساب الغريغوري الذي أجراه البابا غريغوريوس الثالث عشر في السنة 1582. وما يزال الخلاف قائماً، وأبدى بعض رؤساء الكنائس والمؤسسات الكنسية في أيامنا هذه نية طيبة في محاولة توحيد مواعيد الاحتفال بالأعياد الدينية، فكان مجمعنا الأنطاكي السرياني الأرثوذكسي المقدس المنعقد في حمص غضون شهر تشرين الثاني من عام 1954 قد قرر بأكثرية الآراء قبول الحساب الغربي لعيد الميلاد والأعياد التي تتبعه بالتقويم السنوي. واعتبر اليوم الثاني من شهر كانون الأول شرقي، اليوم الخامس عشر منه. وأصدر الخالد الذكر البطريرك افرام الأول برصوم منشوراً في اليوم نفسه لكي تسلك الكنيسة فيما بعد بموجبه في جميع الأعياد، واستثنيت أبرشية القدس وكنيسة مصر، وأما حساب الصوم الكبير وعيد الفصح فهما باقيان على حاليهما. ونشكر اللّه الذي ألهم رؤساء الكنائس في أيامنا هذه فاخذوا يسعون إلى توحيد موعد عيد القيامة أيضاً وبهذا الصدد قرر مجمعنا المقدس المنعقد في دمشق في جلسته العشرين بتاريخ 11/11/1981 ما يأتي: «يرى المجمع أن يبقى موعد الاحتفال بعيد القيامة على وضعه الحاضر، ولا يجد مانعاً من بحث توحيد موعد الاحتفال به مع سائر الكنائس في الشرق الأوسط على أساس الاحتفال به سنوياً يوم أحد في غضون شهر نيسان الغربي أو يوم أحد في أي موعد يُتّفق عليه مسكونياً»([224])

6ـ عيد صعود السيد المسيح إلى السماء وجلوسه عن يمين اللّه الآب (مر 16: 19و20 ولو 24: 50 ـ 53 وأع 1: 9 ـ 12). ويقع بعد أربعين يوماً من عيد القيامة وقبل عشرة أيام من عيد العنصرة. وهذا العيد قديم العهد أيضاً وقد عيّدته أكثر الكنائس قبل القرن الرابع وذكره مار أفرام السرياني (375+)([225])

 

7ـ عيد العنصرة: هو ذكرى حلول الروح القدس على تلاميذ الرب في العلية بعد صعود الرب يسوع إلى السماء بعشرة أيام وبعد قيامته من الأموات بخمسين يوماً. ولذلك يدعى أيضاً بالفنطيقسطي أي عيد الخمسين (أع 2: 1 ـ 4).

  • ثانياً: الأعياد السيدية الصغيرة. وهي أربعة:

1ـ عيد الختان: وهو ذكرى ختان الطفل يسوع (لو 2: 21 ـ 24) بعد ميلاده بثمانية أيام على حسب ناموس موسى، ويقع هذا العيد في الفاتح من شهر كانون الثاني وهو رأس السنة المسيحية الجديدة. وتبدأ السنة المسيحية بعيد الختان وليس بعيد الميلاد، لأن بدء حياة الإنسان في نظام العهد القديم هو يوم ختانه الذي فيه يقطع عهداً مع اللّه أن يكون في عداد المؤمنين به والمتمسكين بوصاياه، أما الأيام التي تقع بين يوم ميلاده ويوم ختانه، فلا تحسب من أيام حياته. فالرب يسوع الذي ولد من امرأة وولد تحت الناموس، أكمل الناموس، وطقسياً بدأت حياته بالجسد في يوم ختانه(غلا 4: 4).

2ـ عيد تقدمة الطفل يسوع إلى الهيكل في المدينة المقدسة، حيث حمله شمعون الشيخ على ذراعيه (لو 2: 22 ـ 32) ويقع في الثاني من شهر شباط، وهو قديم العهد بدأت بتعييده الكنيسة في القدس ثم أخذت عنها ذلك بقية الكنائس المسيحية([226]).

3ـ خميس الفصح أو خميس العهد: وهو ذكرى تسليم الرب يسوع سر جسده ودمه الأقدسين إلى تلاميذه ليلة آلامه (مت 26: 26 ـ 29 ومر 14: 22 ـ 25 ولو 22: 19 ـ 20). ويقع في اليوم الخامس بعد عيد الشعانين.

4ـ عيد التجلي: وهو ذكرى تجلي الرب يسوع على الجبل أمام ثلاثة من تلاميذه الأطهار هم بطرس ويعقوب ويوحنا، وظهور موسى وإيليا معه (مت 18: 1 ـ 13 ومر 9: 2 ـ 13 ولو 8: 28 ـ 36) ويقع في السادس من شهر آب.

ويضاف إلى الأعياد السيدية الصغيرة الأحد الجديد وهو ذكرى ظهور السيد المسيح لتلاميذه بحضور توما أحد رسله (يو 20: 24 ـ 29) ويقع في اليوم الثامن من عيد القيامة. وعيد الصليب الذي يقع في 14 أيلول. ولمار يعقوب الرهاوي (708+) رسالة في هذا العيد يوضّح فيها أنه يجهل واضع هذا العيد وزمانه وسببه ولم يقف على ذلك في تاريخ أو كتاب. وكل ما يعلم أنه عيد جرت عليه الكنيسة من عهد عهيد بحسب التقليد القديم([227]) والأغلب أنه نشأ في العقد الرابع من المئة الرابعة في القدس أولاً ثم أخذ يعمّ الكنائس. وقد تجدد ترتيبه في القرن السابع وخُصص لتذكار إعادة ذخيرة خشبة الصليب إلى القدس بعد أن سلبها كسرى ملك الفرس عام 625 ومكثت في حوزته مدة أربع عشرة سنة فأعادها هرقل ملك الروم إذ انتصر على ملك الفرس في الحرب.

إن المجمع الأنطاكي السرياني المقدس المنعقد في دير مار متى في الموصل من 11 ـ 25 تشرين الأول عام 1930 قرر «تحويل بعض الأعياد إلى تذكارات بشرط أن تبقى الأعياد السيدية والمكانية كما كانت». كما قرر المجمع المقدس المنعقد في حمص عام 1932 وجوب حفظ يوم الرب الذي هو الأحد بكل دقة حسب الأمر الإلهي كذلك الأعياد المارانية (السيدية) الكبيرة والصغيرة.

وفيما عدا الاحتفال بالأعياد السيدية فقد خصصت الكنيسة منذ أواسط القرن الثاني للميلاد أياما للاحتفال بتذكارات السيدة العذراء مريم والشهداء ثم سائر القديسين الذين انهوا حياتهم على الأرض متمسكين بالإيمان، وقدّموا شهادتهم بالمسيح بالأعمال الصالحة وختموها بسفك دمهم الطاهر على مذبح محبة اللّه. فاعتبرتهم الكنيسة قدّيسين انتقلوا إلى كنيسة الأبكار في السماء وتشفّعت بهم. وفي غضون القرن الرابع شرعت تشيّد على أسمائهم الكنائس الفاخرة، وتزيّنها بصورهم على ما أثبت مار غريغريوس النوسي([228]).

واستندت الكنيسة في عقيدة إكرام العذراء والشهداء وسائر القديسين إلى تعاليم الكتاب المقدس فقد قال الرب يسوع لتلاميذه: «الذي يسمع منكم يسمع مني والذي يرذلكم يرذلني والذي يرذلني يرذل الذي أرسلني»(لو 10: 16) وقال أيضاً: «إن كان أحد يخدمني فليتبعني وحيث أكون أنا هناك يكون خادمي. وإن كان أحد يخدمني يكرمه الآب» (يو 12: 26). وجاء في سفر الأمثال: «ذكر الصديق للبركة» (أم 10: 7) وجاء في سفر المزامير: «ذكر الصديق باق إلى الأبد»(مز 112: 6) وقال الرب يسوع عن المرأة التائبة التي دهنت قدميه بالطيب ومسحتهما بشعرها: «حيثما يكرز بالإنجيل في العالم، يخبر بما فعلته هذه تذكاراً لها»(مر 14: 9). أما السيدة العذراء مريم فقد تنبأت عن أن تذكارها سيدوم إلى الأبد بقولها: «منذ الآن جميع الأجيال تطوّبني، لأن القدير صنع بي عظائم واسمه قدوس، ورحمته إلى جيل الأجيال للذين يتقونه»(لو 1: 48 ـ 50).

  • أعياد السيدة العذراء مريم وتذكاراتها، وندعوها بالأعياد المريمية:

رتبت الكنيسة عبر الأجيال تذكارات للعذراء مريم على مدار السنة. ففي الثامن من شهر أيلول تحتفل بتذكار ميلادها، والكنيسة عادة تعيد للشهداء والقديسين بعد انتقالهم إلى كنيسة الأبكار في السماء، وانتهاء جهادهم الروحي على الأرض. ولكنها استثنت من هذه القاعدة، من البشر، القديسة مريم العذراء والقديس مار يوحنا المعمدان فاحتفلت بتذكاري ميلادهما.

وتحتفل الكنيسة للعذراء في الخامس عشر من كانون الثاني بعيدها لبركة الزروع وفي الخامس عشر من أيار بتذكارها لبركة السنابل وفي الخامس عشر من آب بعيدها لبركة الكروم الذي حلّ محله مع الأجيال عيد انتقالها إلى السماء([229])، ولأهميته يسبقه صوم لمدة خمسة أيام.

وهذه الأعياد الثلاثة قديمة العهد في الكنيسة كما ذكر ذلك الشاعر السرياني شمعون الفخاري الذي اشتهر ورفاق له في أوائل القرن السادس ويُدعون بـ (قوقيًا) (قوقويي) القواقين أي الفخارين نسبة إلى مهنتهم كخزافين. فيقول الفخاري: ما تعريبه: «رشت أرض أفسس ونضحت بندى وطلّ عندما جاءها مار يوحنا بكتب العذراء التي دوّن فيها وجوب الاحتفال بأعياد العذراء المباركة ثلاث مرات في السنة. ففي شهر كانون الثاني عيدها (لبركة) الزرع، وفي شهر أيار عيدها (لبركة) السنابل، وفي شهر آب عيدها (لبركة) الكروم التي يصور فيها سر الحياة». كما كانت الكنيسة تعيّد للعذراء مريم في آخر شهر آب عيد (تزنير السيدة العذراء) ولقربه من عيد انتقالها أهمل على تراخي السنين([230]).

وتعيّد الكنيسة أيضاً للعذراء مريم في السادس والعشرين من شهر كانون الأول أي اليوم الثاني لعيد ميلاد الرب يسوع، عيد تهنئة العذراء بالميلاد، وهو عيد شرقي قديم. كما تعيّد في الخامس عشر من شهر حزيران تذكار أول كنيسة بنيت على اسم العذراء في يثرب، ومن أشهر وأهمّ الأعياد في المسيحية عيد بشارة العذراء بالحبل الإلهي ويقع في الخامس والعشرين من شهر آذار، وقد مرّ شرحه. كما خصّصت الكنيسة السريانية في بدء السنة الطقسية ما يسمى بالآحاد السابقة للميلاد من ضمنها أحد بشارة العذراء وأحد زيارة العذراء لنسيبتها اليصابات، واحد وحي يوسف وهو تطمين الملاك جبرائيل ليوسف خطيب العذراء ببراءتها وكشف السر الإلهي له، أن الذي حبل به في العذراء مريم هو من الروح القدس([231]).

وفي صدد تنظيم جدول الأعياد قرر السينودس المقدس المنعقد في حمص من 4ـ7 كانون الأول عام 1932 عن أعياد العذراء ما يأتي: «أعياد السيدة العذراء أربعة وهي: تهنئتها 26 كانون الأول، ولبركة الزرع 15 كانون الثاني، وميلادها 8 أيلول، وانتقالها 15 آب، وما بقي فهو تذكار فقط».

بناء على قرار هذا المجمع المقدس وقرارات ما تلاه من مجامعنا المقدسة وتمشيّاً مع ما يقتضيه تطور الزمان من عدم إمكان المؤمنين الالتزام بالبطالة لكثرة أعياد العذراء والقديسين، نرى أن يثبت عيد تهنئة السيدة العذراء بميلاد ابنها الذي يقع في 26 كانون الأول، وكذلك ليثبت عيد انتقالها إلى السماء على ما هو عليه طالما سبقه صوم خمسة أيام وقد قرر مجمعنا الأنطاكي السرياني المقدس المنعقد في حمص في شهر تشرين الثاني عام 1954 أن يضاف إلى عيد انتقال سيدتنا العذراء مريم تذكار اكتشاف زنارها الذي وجد في كنيسة حمص في سنة 1953 أما بقية أعيادها فهي تذكارات وتنتقل إلى أقرب أحد منها. ويحذف عيد تشييد أول كنيسة على اسمها في يثرب. وفي ما سواه من أعيادها وتذكاراتها غُني عنه.

كما قرر مجمع حمص عام 1954 ما يأتي: قررنا نقل بعض أعياد وتذكارات قديسين من الأيام المعينة لها إلى يوم الأحد الأقرب منها وذلك تسهيلاً لأصحاب المهن والصناعات لحضور القداس وصلوات العيد المفروضة. ويستثنى من هذا النقل أعياد وتذكارات مكانية لها منزلتها الخاصة في بعض الكنائس.

  • بقية أعياد القديسين([232]) وتنقسم إلى قسمين:

1 ـ الثابتة وهي:

تذكار قتل الأطفال في بيت لحم. ويقع في 27 كانون الأول، ويمكن أن يحول إلى الأحد التالي.

عيد استشهاد مار يوحنا المعمدان، ويقع دائماً في السابع من شهر كانون الثاني.

تذكار مار اسطيفانوس رئيس الشمامسة وبكر الشهداء وعيدته الكنيسة أولاً في القدس في صدر النصرانية ثم عمّ، ويقع في 8 كانون الثاني، يحول إلى الأحد الذي يتلوه.

تذكار مار برصوم رئيس النسّاك ويقع في 3 شباط يحول إلى الأحد التالي.

تذكار الأربعين شهيداً في سيبسطية ويقع في 9 آذار يحول إلى الأحد الذي يتلوه.

عيد مار جرجس الشهيد ويقع في 23 نيسان، وفي كنائس العراق في 24 منه يحول إلى الأحد الذي يتلوه. أو في التاريخ الذي اعتادت الكنائس التي شيّدت على اسمه أن تحتفل به.

عيد هامتي الرسل مار بطرس ومار بولس وهو قديم العهد بدأ في القدس ثم عمّ، ويقع في 29 حزيران يعيد في موعده إذ يسبقه صوم ثلاثة أيام وهو عيد مؤسسي الكرسي الرسولي الأنطاكي.

عيد مار توما الرسول يقع في 3 تموز وهو تذكار انتقال رفاته من الهند إلى الرها يحوّل إلى الأحد التالي.

تذكار مار قرياقس وأمه يوليطي الشهيدين يحوّل إلى الأحد التالي.

تذكار الشهداء مار بهنام وأخته سارة ورفاقه الأربعين، ويقع في 10 كانون الأول يحول إلى الأحد التالي.

2 ـ الأعياد المتنقلة أو المتحولة وهي:

تذكار مار سويريوس البطريرك معلّم المسكونة المعترف وفي العراق هو تذكار مار إغناطيوس النوراني البطريرك «وهو حديث الوضع» ويقع يوم الخميس بعد صوم نينوى، وعيد مار أفرام الملفان معلّم المسكونة ومار ثاودورس الشهيد ويقع في السبت الأول من الصوم الكبير وقد حوّل بقرار مجمعي إلى الأحد الذي يليه.

تذكار ارتفاع الصليب وأبجر الملك ويقع في يوم الأربعاء نصف الصوم، وتذكار جميع المعترفين ويقع يوم الجمعة الذي يتلو عيد القيامة، وعيد مار برصوم رئيس النساك ويقع يوم الخميس الذي يعقب يوم خميس صعود الرب إلى السماء وهو الخميس السابق لعيد العنصرة وهذا العيد موضوع في الكلندار للقديس برصوم أسقف كفرتوث الشهيد، أما الآن فيراد به مار برصوم رئيس النسّاك([233])، وتعدّ هذه الأعياد والتذكارات المذكورة عامة لكنيستنا المقدسة جمعاء. وهناك تذكارات خاصة ومكانية قد فصِّلَت في التحفة الروحية فليرجع إليها. وإكمالاً للبحث ندرج فيما يأتي أسماء الآحاد على مدار السنة([234]) فنقول:

إن السنة الكنسية عندنا تبتدئ في الأحد الثامن السابق لعيد ميلاد الرب يسوع في الجسد وهو يكون الأحد الأول من شهر تشرين الثاني إذا وقع أول هذا الشهر يوم الأربعاء أو الخميس أو الجمعة أو السبت أو الأحد لكنه إذا وقع في يوم الاثنين أو الثلاثاء كان الأحد الأخير من شهر تشرين الأول رأس السنة الكنسية. والأحد الأول يسمى تقديس البيعة، والثاني تجديد البيعة، الثالث بشارة زكريا، الرابع بشارة العذراء، الخامس زيارة العذراء، السادس ميلاد يوحنا، السابع وحي يوسف، الثامن الأحد السابق للميلاد. ثم الأحد الثاني للميلاد، والأحد الأول بعد الدنح، ثم الثاني فالثالث فالرابع فالخامس، ثم أحد الكهنة فأحد الموتى. وفي العراق جمعة الكهنة وجمعة الموتى الغرباء وجمعة الموتى كافة. وآحاد الصوم الكبير الستة وهي: الأحد الأول: أحد أعجوبة تحويل الماء خمراً في قانا الجليل والأحد الثاني: هو أحد أعجوبة تطهير الأبرص وعيد مار أفرام السرياني الملفان معلّم المسكونة ومار ثاودورس الشهيد، الأحد الثالث: وهو أحد أعجوبة شفاء المخلع، والأحد الرابع: وهو أحد أعجوبة شفاء ابنة الكنعانية، والأحد الخامس: وهو أحد مثل السامري الصالح، والأحد السادس: وهو أحد أعجوبة شفاء الأعمى ابن طيما، والأحد السابع: وهو عيد الشعانين ومساء النهيرة. ثم أحد القيامة أي عيد قيامة الرب يسوع من بين الأموات، ثم الأحد الجديد وهو الأحد الأول بعد القيامة ويليه الثاني والثالث والرابع والخامس وأحد العنصرة وبقية الآحاد حتى عيد الصليب وكلها تخصّ القيامة، والآحاد التي تلي عيد الصليب وتعرف بالعامة.

ولكل من هذه الآحاد والأعياد والتذكارات طقوس خاصة بها نظمها آباء الكنيسة وملافنتها وضمتها مجلدات ضخمة سميت بالفناقيث أي المجلدات وهي تضم الصلوات التي وضعوها نظماً ونثراً لهذه المناسبات الروحية المقدسة تنشدها الكنيسة في الأيام المعينة لها.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تجلي الربّ يسوع )*(

 

  • تمهيد:

في السادس من شهر آب، من كل عام، نحتفل بعيد التجلّي([235]) وهو ذكرى تجلّي الرب يسوع على جبل تابور حيث كشف عن قبس من مجده الإلهي أمام ثلاثة من تلاميذه الاثني عشر، فأضاء وجهه كالشمس، وصارت ثيابه بيضاء كالثلج، وتلمع متألقة كالنور، وظهر معه موسى وإيليا بمجد.

  • الغاية من التجلّي:

وكانت غايته من ذلك إظهار حقيقته لتلاميذه، حيث أثبت لهم بأنه الإله المحجوب بالجسد، وأنه حقاً المسيح ابن اللّه الحي، النور من النور، فقبل حوالي أسبوع ([236]) اعترف به بطرس أحد هؤلاء التلاميذ الثلاثة بأنه المسيح ابن اللّه الحي، كان ذلك في ضواحي قيصرية فيلبس. «من ذلك الوقت ابتدأ يسوع يظهر لتلاميذه أنه ينبغي أن يذهب إلى أورشليم، ويتألّم كثيراً من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويقتل وفي اليوم الثالث يقوم. فأخذه بطرس إليه وابتدأ ينتهره قائلاً حاشا لك يا رب. لا يكون لك هذا، فالتفت وقال لبطرس اذهب عني يا شيطان، أنت معثرة لي لأنك لا تهتمّ بما للّه لكن بما للناس» (مت 16: 21 ـ 23 ومر 8: 31 ـ 33).

وكذلك ليجبر قلوب تلاميذه المنكسرة، ويثبتهم على الإيمان به ويعيد إليهم السلام الروحي فيتمكّنوا من تحمّل المشقّات في المستقبل في سبيل نشر بشارته الإنجيلية. وقد انتخب ثلاثة منهم ليشاهدوا إحدى الوقائع المهمة من حياته على الأرض، وليشهدوا بعدئذ بذلك، لأنه على فم شاهدين أو ثلاثة تثبت كل شهادة وتقوم كل كلمة (تث 17: 6 ومت 18: 16).

 

  • التلاميذ الثلاثة المختارون:

فاختار سمعان بطرس هامة الرسل ومقدامهم الذي اعترف قبل أسبوع قائلاً: «أنت المسيح ابن اللّه الحي»(مت 16: 16 ومر 8: 29 ولو 9:20)، ويعقوب ويوحنا ابني زبدي الغيورين اللذين سمّاهما بُوانرجَس أي ابني الرَّعد (مر 3: 17) وإن يعقوب هذا سيكون أول من سينال إكليل الشهادة من الرسل الإثني عشر، ويوحنا رسول المحبة الذي دعي التلميذ المحبوب واستحق أن يرى ما لم تره عين، ويسمع ما لم تسمع به أذن، وكتب بعدئذ رؤياه، وهو آخر من بقي على قيد الحياة من الرسل، وتحمّل المشقّات.

هؤلاء التلاميذ الثلاثة: بطرس، ويعقوب، ويوحنا. كان قد اختصهم الرب وميّزهم عن سائر الرسل في حادثة إحياء ابنة يايريس (مر 5: 37 ـ 40) وسوف نراهم معه أيضاً في بستان الجثسيماني قبل آلامه وصلبه، ونسمعه يقول لهم: إن نفسي حزينة حتى الموت. فامكثوا أنتم هنا واسهروا معي ثم يبتعد قليلاً ويخرّ على وجهه على الأرض ويصلي (مت 26: 37 ـ 39 ومر 14: 33 ـ 35).

 

  • جبل التجلي:

صعد الرب يسوع بتلاميذه هؤلاء الثلاثة، إلى جبل عالٍ ([237]) منفردين، أما التسعة الباقون فتركهم مع الجمهور في أسفل الجبل، وكان ذلك الجبل جبل تابور حسب رأي آبائنا السريان وأغلب علماء النصرانية. أو جبل الشيخ (حرمون) على رأي الآخرين. ويسمي بطرس جبل التجلّي بعدئذ «الجبل المقدس» (2بط 1: 17و18).

  • تغيير هيئة الرب يسوع:

لما بلغ الأربعة قمة الجبل في آخر النهار، انفرد الرب يسوع عن تلاميذه الثلاثة وبدأ يصلي، وفيما كان يصلي تغيّرت هيئته، وأضاء وجهه كالشمس وصارت ثيابه تلمع كالنور وبيضاء جداً كالثلج، لا يقدر قصّار على الأرض أن يبيِّض مثل ذلك. لقد كشف الرب عن جزء ضئيل من أشعة مجده السماوي أمام تلاميذه هؤلاء الثلاثة بقدر ما تتحمل طبيعتهم كبشر رؤية مجده تعالى.

يقول مار سويريوس الكبير (ت 583): «لم يتغيّر شكل جسد الرب يسوع، بل تغيّر لونه فصار نيراً بالمجد الباهر حتى أن التلاميذ انبهروا فلم يستطيعوا النظر إليه، فقد شاء تعالى أن يظهر بهاء مجده فسطعت أنواره، وأشرقت، فبهر بريقها أعين الرسل فسقطوا على وجوههم. وقد وقع التغيير على الهيئة المنظورة لا على رسم جوهره. ويختلف هذا التغيير عن تغيير وجه موسى لما نزل من الجبل في العهد القديم (خر 34: 29 ـ 35) فإن التغيير قد لحق وجه موسى فاستنار ([238]) والنور الذي أنار وجهه كان خارجاً عنه. أما السيد المسيح فقد كان النور نابعاً منه ([239]) «لأنه هو النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان آتٍ إلى العالم»(يو 1: 8 و 9).

  • ظهور موسى وإيليا:

وظهر مع الرب يسوع موسى وإيليا بمجد، موسى الذي أتى بالناموس إلى الشعب، وإيليا الذي أتى بالشعب إلى الناموس، موسى كليم اللّه والنبي العظيم الذي اتّصف بالحلم والوداعة، ومات قبل هذا الحادث بألف وخمسمائة سنة، ودفنه اللّه في رأس جبل نبو ولا يعرف قبره، وإيليا النبي الغيور الذي سمي بالنبي الناري الذي حارب الشر بضراوة، وناهض عبادة الأوثان، والذي لم يمت بل هو حي، وقد صعد إلى السماء بمركبة نارية قبل حادثة التجلي بألف سنة.

يقول القديسون مار سويريوس الكبير (ت 538) ومار يعقوب السروجي الملفان (ت 521) ومار يعقوب الرهاوي (ت 708) إن إيليا نزل بالجسد إلى الجبل، لأنه لم يمت موتاً طبيعياً بعد. وهو لا يزال حياً. أما موسى فيقول عنه مار سويريوس «لعل نفسه قد تمثّلت بهيئة شخص كما كان الملائكة يتراءون للأنبياء في شكل رجال». وقال عنه مار يعقوب الرهاوي «إن نفس موسى تراءت بهيئة جسده». أما مار يعقوب السروجي الملفان فيقول: «إن موسى قد قام حقاً (بالجسد الممجد) وجاء إلى الجبل بأمر ربنا، بعد أن بلي جسده الطبيعي وصار رميماً([240])».

من هنا نعلم أن ظهور موسى بشكل منظور يدل على إمكانية الأرواح في أن تتجسّد، حيث تتّخذ لها جسداً أثيرياً تظهر فيه وهو كالجسد الذي تتّخذه الملائكة عندما تظهر للبشر، كما حدث مثلاً حيث أن ابراهيم أضاف ملائكة وغسل أرجلهم، وأعدّ لهم مائدة (تك 18: 19) وكما حدث ليعقوب عندما ظهر له ملاك في شكل إنسان وصارعه (تك 32: 24)، وكما ظهر الملاك جبرائيل لزكريا الكاهن في هيكل البخور وبشّره بحبل امرأته بيوحنا المعمدان (لو 1: 11 ـ 20) وكما ظهر أيضاً الملاك جبرائيل ذاته للعذراء مريم وبشّرها بالحبل بالرب يسوع (لو 1: 26 ـ 38).

وليس الجسد الأثيري من طبيعة أجسادنا، ولكن يُكوَّن من الأثير تكويناً مؤقتاً فتظهر الروح بوساطته سواء كانت هذه الروح ملاكاً أم روح إنسان فتتحقّق بوساطته الغاية من ظهورها، ثم يصرف هذا الجسد الأثيري ويختفي من نظر البشر، هذا ما عناه الرسول بولس بقوله: «يوجد جسم حيواني ويوجد جسمٌ روحاني وأجسامٌ سماوية وأجسامٌ أرضية» (1كو 15: 44و40).

قال مار أفرام السرياني (ت 373): «لقد جاء الرب بموسى وإيليا لأنهما زعيما العهد القديم». ولا غرو فقد اعتبرا ركني العهد القديم وكانت لهما مكانة مرموقة في قلوب المؤمنين. وقد جاء بهما الرب ليبين لتلاميذه أنه رب الأحياء والأموات، فموسى من الأموات وإيليا من الأحياء.

 

  • الحديث الذي دار بين الرب يسوع وموسى وإيليا:

وكان موسى وإيليا يخاطبانه عن انطلاقه الذي كان مزمعاً أن يتمّمه في أورشليم، أي عن موته العتيد في سبيل فداء البشرية، وقد استعمل بعض كتبة العهد الجديد كلمة انطلاق أو خروج كناية عن الموت (2 بط1: 15) فيقول الرسول بولس: «لي اشتياق أن أنطلق وأكون مع المسيح ذلك أفضل» (في 1: 21 ـ 25) واستعملت كلمة خروج في العهد القديم كناية عن تحرّر الشعب من عبودية فرعون. وكما كان ذلك الشعب قد خرج باختياره كذلك فإن المسيح مات باختياره على الصليب ليحرّر البشرية من عبودية إبليس والموت والخطية.

وفي ظهور موسى وإيليا وكلاهما مع السيد المسيح عن انطلاقه دلالة على أن رسالتيهما قد انتهتا إذ قد جاء المسيح المنتظر الذي وعد موسى الشعب أن الرب يقيمه لهم. وذكرت النبوات أيضاً أن إيليا يسبق مجيء المسيح، وقد جاء إيليا كما قال الرب «لأن جميع الأنبياء والناموس إلى يوحنا تنبّأوا، وإن أردتم أن تقبلوا فهذا إيليا المزمع أن يأتي»(مت 11: 13و14) وعنى الرب بذلك يوحنا المعمدان الذي جاء «بروح إيليا وقوته» (لو 1: 17) كما ذكر الملاك جبرائيل لأبيه زكريا.

وكان للرب يسوع ولموسى وإيليا أمور عديدة مشتركة، فكل منهم له علاقة بجبل وبرية، وكل منهم صام أربعين يوماً، وهم يمثّلون الكنيسة بعهديها القديم والجديد. ولكن يسوع يختلف عن موسى وإيليا بكونه رأس الكنيسة. وفي هذا الظهور إذ أعلن هؤلاء الثلاثة عن انطلاق أحدهم الذي كان مزمعاً أن يتمّمه في أورشليم، وعن عمل الفداء والكفارة التي كان عتيداً أن يقوم بها عن البشرية، بهذا الإعلان تمّم الناموس والأنبياء، فختم الناموس وأتمّ نبوات الأنبياء، وانتهت بذلك مهمة موسى وإيليا، وبدأ العهد الجديد، عهد النعمة والكمال بالمسيح يسوع مخلص العالم. أما بطرس واللذان معه فقد كانوا مثقلين بالنوم،
لا يقوى أحدهم على فتح عينيه من شدّة النور، فلما استيقظوا تعجّبوا إذ رأوا مجد يسوع الأسنى، والرجلين الواقفين معه (مت 17: 3 ومر 9: 4 ولو 9: 30و31). وكم كانت بهجتهما عظيمة برؤية موسى وإيليا النبيين العظيمين اللذين كان شعب العهد القديم يكرّمهما إلى درجة تقرب من العبادة. وكان هذان النبيان مسربلين بمجد سماوي، وكأن أشعة يسوع شمس البر قد جللتهما فاستنارا كما يستنير القمر بنور الشمس، وقد عرفهما التلاميذ الثلاثة بإلهام الروح القدس ومن مجرى الحديث الذي دار بينهما وبين الرب يسوع.

 

  • نصب المظال في الجبل:

وتأسف التلاميذ على الوقت الذي قضوه في النوم فقد خسروا التمتّع برؤية المجد الإلهي مدة أطول. وإذ لاحظوا أن موسى وإيليا يهمَّان بالانصراف، حاول بطرس إيقافهما فقال ليسوع «يارب جيد أن نكون ههنا. فإن شئت نصنع هنا ثلاث مظال. لك واحدة ولموسى واحدة ولإيليا واحدة»(مت 17: 4) «لأنه لم يكن يعلم ما يتكلّم به إذ كانوا مرتعبين»(مر 9: 6).

«يارب جيد أن نكون ههنا» درج هذا القول على ألسنة المؤمنين في كل آن ومكان، حيثما حضروا في أماكن الصلاة ودور العبادة، ولا غرو فقد قال صاحب المزامير «ما أحلى مساكنك يا رب الجنود. تشتاق بل تتوق نفسي إلى ديار الرب. قلبي ولحمي يهتفان بالإله الحي. العصفور أيضاً وجد بيتاً والسنونةُ عُشاً لنفسها حيث تضع أفراخها. مذابحك يا رب الجنود ملكي وإلهي. طوبى للساكنين في بيتك أبداً يسبحونك» (مز 84: 1 ـ 4). هذا ما تمنّاهه بطرس، جيد أن نكون مع المسيح في مجده الأسنى!

  • السحابة:

واستجابت السماء طلبة بطرس، يقول متى: «وفيما هو يتكلّم إذا سحابة نيّرة ظلّلتهم وصوت من السحابة قائلاً هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت له اسمعوا. ولما سمع التلاميذ سقطوا على وجوههم وخافوا جداً»(مت 17: 5و6).

كثيراً ما رافق الظهور الإلهي ظهور سحابة، وكثيراً ما سمعنا الرب الإله يتكلّم من سحابة، فعندما تجلّى الرب على جبل سينا وأعطى شريعته لموسى كليمه «نزل الرب في السحاب» (خر 34: 5 وعد 12: 5) وجاء في سفر الخروج (16: 10) لما كلم الرب موسى أمام الجماعة «وإذا مجد الرب قد ظهر في السحاب» ويقول النبي داود في مزاميره: «يا رب إلهي قد عظمت جداً مجداً وجلالاً.. اللابس النور كثوب.. الجاعل السحاب مركبته الماشي على أجنحة الريح» (مز 104: 1 ـ 3) وقال أشعيا: «هوذا الرب راكب على سحابة سريعة»(اش 19: 1).

فالسحابة النيرة التي ظهرت في التجلّي وظللت الرب يسوع وموسى وإيليا وبطرس ويعقوب ويوحنا (مت 17: 5 ومر 9: 7 ولو 9: 34) لم تكن ظاهرة طبيعية ولم تكن كسائر السحب التي تظهر في السماء، ولكنها كانت مركبة من نور للرب الإله، ومظهر لتجلّي الآب السماوي. وسنرى السحابة عندما يصعد الرب يسوع إلى السماء حيث يقول لوقا عنه: «ولما قال هذا ارتفع وهم ينظرون. وأخذته سحابة عن أعينهم»(أع 1: 9). ولما سيأتي ثانية بمجده العظيم والملائكة معه سيأتي على سحاب السماء (مت 24: 39) ويقول صاحب الرؤيا: «هوذا يأتي مع السحاب وستنظره كل عين»(رؤ 1: 7).

والذي يلاحظ في حادثة التجلّي أن السحابة وصفت بأنها نيِّرة بعكس السحاب الذي ظهر في سينا في العهد القديم، ذلك أن العهد الجديد هو عهد نور وسلام لا عهد خوف ورعدة.

أما خوف التلاميذ وسقوطهم على وجوههم فهو من شدة أشعة النور الباهر، وممّا لا يزال راسباً في عقولهم وقلوبهم من خوف من الظهور الإلهي لأنه قيل «ليس أحد يرى الرب ويحيا» (أنظر قض 13: 22 مع خر 16: 21 واش 6: 5) وظهور السحابة في حالة كهذه دلالة على ظهور الرب الإله.

  • الصوت:

وسمع من السحابة صوت قائلاً: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت له اسمعوا»(مت 17: 5و6)، جاء الصوت من الآب السماوي ليعلن للتلاميذ ما أعلنه سابقاً على نهر الأردن يوم عماد الرب يسوع حيث سمع صوت الآب قائلاً هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت»(مت 3: 16و17 ومر 1: 10و11 ولو 3: 21و22).

في الأسبوع الماضي اعترف به سمعان بطرس بأنّه المسيح ابن اللّه الحي، فأعطى الرب الطوبى لسمعان بطرس لأن لحماً ودماً لم يعلنا له ذلك بل الآب الذي في السموات، والآن صوت الآب من السماء يثبت صحة شهادة بطرس وصدقها، لتثبيت التلاميذ على التمسّك بهذه العقيدة السمحة ألا وهي «أنه يسوع هو المسيح ابن اللّه الحي».

وكان الصوت من السماء صوت شهادة وأمر وطاعة، فما دام يسوع هو المسيح ابن اللّه، وجب علينا لا أن نؤمن به فقط بل أيضاً أن نطيعه. لذلك فالصوت يأمرنا قائلاً: «فله اسمعوا». لأنه المشرع بل هو الشريعة وقد قال عن نفسه أنّه الطريق والحق والحياة. فإذا سمعتم صوتاً مخالفاً لصوته وأمراً لا ينسجم وأوامره الإلهية فلا تعيروا لذلك أذناً صاغية بل صموا آذانكم عن الضالين والمضلّين، وتذكّروا أمر اللّه لأبوينا الأولين، وعدم تصديقهما لوصيته تعالى، وعدم تأدية الطاعة له إذ خدعهما إبليس فسقطا. فلنحذر لئلا نسقط في خطية التمرّد، وعدم الطاعة، وعلينا ألاّ نصغي إلى تعليم بشر ما لم يكن ذلك التعليم موافقاً لتعاليم معلمنا الإلهي يسوع المسيح ابن اللّه الحي.

جاء الصوت قائلاً «له اسمعوا» مع أن التلاميذ رأوا أولاً الرب يسوع ومعه موسى وإيليا، ولكن السماء لم تقل اسمعوا لهم بصيغة الجمع بل «له اسمعوا» بصيغة المفرد فهو الإله الأحد الذي لا يشاركه بسلطته الإلهية أحد، وبمجيئه إلى العالم وتجسّده قد فدانا، واشترانا، وصرنا له وهو لنا، وانتهى عهد موسى وإيليا اللذين مثّلا الناموس والأنبياء، بل ختم على العهد القديم الذي يدعى بالناموس والأنبياء، وجاء العهد الجديد عهد الكمال، عهد المسيح يسوع ابن اللّه الذي به وحده الخلاص. لذلك أعلنت السماء وجوب الطاعة له قائلة «له اسمعوا».

  • يسوع وحده:

وبينما كان الرسل الثلاثة ساقطين على وجوههم خوفاً ارتفعت السحابة واختفى معها النبيّان موسى وإيليا، وانتهت بذلك رسالتهما. وعاد وأخفى الرب يسوع بهاء مجده الإلهي الذي كشف لتلاميذه قبساً منه، وجاء إلى تلاميذه ولمسهم قائلاً: «قوموا لا تخافوا، فرفعوا أعينهم ونظروا حولهم ولم يروا أحداً إلاّ «يسوع وحده» فتأكّدوا أن السماء عنته وحده لما قالت «له اسمعوا» فهو الكل في الكل. وحيد الآب الذي لا شريك له، ولا حاجة إلى غيره. يسوع وحده مصدر النبوة ورب الأنبياء والرسل.

وبينما هم نازلون من الجبل أوصاهم المخلص قائلاً لا تعلموا أحداً بما رأيتم حتى يقوم ابن الإنسان من الأموات (مت 17: 9) إذ لم يكن الوقت قد حان لإعلان هذه الحقيقة الإلهية لسائر الناس لأنهم لم يكونوا مستعدّين لقبولها وغيرها من الحقائق الإلهية التي تفوق إدراك العقل البشري، ولأن غاية الرب من كشف شيء من مجده الإلهي أمام تلاميذه هي تثبيت هؤلاء التلاميذ على الإيمان به.

  • تأثير حادثة التجلي في حياة الرسل الثلاثة:

لم تكن حادثة التجلّي من الحوادث البسيطة التي تمرّ أمام الإنسان مرور الكرام دون أن تترك تأثيراً في أذهانهم، ولكنها كانت من الحوادث التي تنطبع وقائعها بدقة في ذهن الإنسان وتثبت فيه ولا تغادره البتة، بل يظهر أثرها في دقائق وقائع حياته.

فالرسل الثلاثة بمشاهدتهم الرب يسوع يتجلّى على الجبل، ورؤيتهم باكورة المجد الإلهي الذي سيتنعّم به الأبرار في السماء، رسخت الذكرى في أذهانهم وظهرت في حياتهم الروحية وكتاباتهم، فهذا يوحنا يقول في إنجيله «ورأينا مجده مجداً كوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً»(يو 1: 14) «الذي كان منذ البدء الذي سمعناه الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه ولمسته أيدينا… فإن الحياة أظهرت، وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأظهرت لنا الذي رأيناه، وسمعناه نخبركم به»(1يو 1: 1و2).

وهذا الرسول بطرس يكتب في رسالته الثانية قائلاً: «لأننا لم نتبع خرافات مصنَّعة إذ عرفناكم بقوة ربنا يسوع المسيح ومجيئه بل قد كنا معاينين عظمته لأنه أخذ من اللّه الآب كرامة ومجداً إذ أقبل عليه صوت كهذا من المجد الأسنى قائلاً هذا هو ابني الحبيب الذي أنا سررت به ونحن سمعنا هذا الصوت مقبلاً من السماء إذ كنا معه في الجبل المقدس»(2بط 1: 16 ـ 18).

أما الرسول يعقوب فإن ذكرى التجلّي لم تبرح ذهنه لذلك وقد تمعّن في المجد السماوي استخفّ بالأرض والأرضيات واعتبر العذاب بل حتى الموت ربحاً في سبيل الإيمان بالمسيح وربح المسيح فكان أول شهيد بين الرسل. ولا غرو فمن يفتكر في السماء ويطمح إلى السكنى مع المسيح يهون عليه بذل حياته في سبيل المسيح. وبهذا الصدد يقول كاتب الرسالة إلى العبرانيين: «إن المسيح ذاته وضع نصب عينيه سرور السماء فتحمّل الصليب»(عب 12: 3) وما سرور السماء هذا إلاّ «ما أعده اللّه للذين يحبّونه، ما لم تره عين ولا سمعت به أذن ولا خطر على قلب بشر…»(1كو 2: 9) وقد رأت أعين التلاميذ الثلاثة جزءاً منه، وسمعت آذانهم صوت الآب فشهدوا بذلك وكانت شهاداتهم حقاً. ولم يغب عن أذهانهم ذلك المشهد العجيب فكانوا يتوقون لبلوغ الكمال المسيحي لينالوا المجد الذي كان التجلي مثالاً له.

دروس تعلمناها من حادثة التجلّي:

  • حقيقة الخلود والحياة الأبدية:

كانت الخرافات الوثنية قد تسرّبت إلى صلب الديانة اليهودية فشوّهت بعض العقائد حتى أن بعض الفرق اليهودية أنكر عقيدة الخلود، والحياة الأبدية، وأخذ برأي القائلين: لنأكل ونشرب فغداً نموت، ومن جملة هؤلاء الصدوقيون الذين أنكروا خلود الروح، والقيامة العامة، فكانت حادثة التجلّي خير درس للرسل الثلاثة الذين سيكونون فيما بعد قادة روحيين ومعلّمين بارزين في الكنيسة المسيحية، فقد شاهدوا موسى حياً وتبيّنوا أن هناك حياة بعد الموت وأن روح موسى خالدة لم تمت. ولا عجب فقد أفحم الرب يسوع الصدوقيين بقوله: «وأما من جهة قيامة الأموات أفما قرأتم ما قيل لكم من قبل اللّه القائل. أنا إله ابراهيم وإله اسحق وإله يعقوب ليس اللّه إله أموات بل إله أحياء» (مت 22: 31و32). والرسل لا ينسون هذا أبداً، وقد جاءت حادثة التجلّي برهاناً عملياً لإثبات حقيقة خلود الروح، إذ رأوا بأم أعينهم موسى وسمعوه يكلّم الرب يسوع، وهم يعلمون أن موسى قد مات قبل ألف وخمسمائة سنة ودفن في جبل نبو، وأخفي قبره عن شعبه.

كما اتّضح للرسل الثلاثة أن الأبرار المنتقلين إلى العالم الآخر يعرفون بعضهم بعضاً معرفة تامة، ويعلمون بما يجري على الأرض، فقد كان موسى وإيليا يخاطبان الرب يسوع عن انطلاقه الذي كان عتيداً أن يتمّمه في أورشليم، أي عن صلبه وموته الكفاري وقيامته وكأن كل شيء كان واضحاً لديهما.

وإن الرسل الثلاثة برؤيتهم موسى بهيئة جسد ممجّد علموا أن بإمكان الروح أن تعود لتتّحد بالجسد، وهذه الروح المرتبطة بجسد أرضي في هذه الحياة ستتّحد بهذا الجسد في الحياة الثانية بعد أن يتحوّل هذا الجسد إلى جسد روحاني ممجّد. تماماً كما رأينا الرب يسوع بعد قيامته من بين الأموات، كيف كان يظهر لتلاميذه في العلية والأبواب مغلقة بل كيف قام من القبر والحجر الكبير موضوع على باب القبر. وبهذا الخصوص يطرح الرسول بولس سؤالاً قائلاً: «كيف يُقام الأموات وبأي جسم يأتون؟» (1كو 15: 35 ـ 44). وجواب ذلك أننا سنكون على شبه هيئة المسيح التي ظهر بها على جبل التجلّي، أي على شبه جسده الممجّد.

ولكن لا بدّ من أن نذكر أن ربنا يسوع المسيح في مجيئه الثاني سيظهر بصورة أروع جداً ممّا ظهر بها في التجلّي، فهنا تجلّى بصورة بسيطة ليتمكّن تلاميذه من رؤيته. أما في النهاية فسيأتي بمجد أبيه مع ملائكته القديسين. وبما أن أجسادنا ستكون على شبه جسده الممجّد فإننا سنتمكّن من رؤيته وجهاً لوجه. بعد أن يسمع جميع من في القبور صوته فيقوم الذين عملوا الصالحات إلى قيامة الحياة، والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة، وسيجلس على كرسي مجده ليدين الأحياء والأموات.

والدرس الخالد الذي تعلّمه التلاميذ الثلاثة وعلينا أن نتعلّمه نحن أيضاً من التجلّي هو أن لا إكليل مجد دون إكليل شوك، ولا قيامة دون موت، ولا نعيم مع المسيح دون تحمّل الآلام في سبيله. فنحن كثيراً ما نتوق إلى حياة السعادة الأبدية ونرغب في أن ننالها دون أي جهد أو تعب، كما رغب في ذلك بطرس وهو على الجبل فقال للرب: «يا رب جيد أن نكون ههنا. فإن شئت نصنع هنا ثلاث مظال لك واحدة ولموسى واحدة ولإيليا واحدة»(مت 17: 4). ويقول مرقس وهو يذكر قول بطرس «لأنه لم يكن يعلم ما يتكلّم به»(مر 9: 6). لأنه لو علم لميَّز أنه ليس بالإمكان أبداً نيل المجد دون احتمال الآلام. وليس بالإمكان أن نرث ملكوت اللّه دون أن نسعى للحصول عليه بالإيمان والأعمال الصالحة. ولا يمكن أن نعزل تابور عن الجلجلة، والتجلي عن الصلب والموت، فإذا أردنا أن نملك مع المسيح علينا أن ندخل من الباب الضيق، ونسير في الطريق الصعبة «لأننا بضيقات كثيرة ينبغي لنا أن ندخل ملكوت الله» (أع 14: 21) «ومن أصدق ما يقال أنّا إنْ متنا مع المسيح فسنحيا معه، وإن صبرنا فسنملك معه، وإن أنكرناه فسينكرنا هو أيضاً» (2تي 2: 11).

فلنتصور دائماً تجلي الرب على الجبل، ونسمع صوت الآب يأمرنا بطاعة ابنه الحبيب فنسعى لبلوغ الكمال الإنجيلي وقمة الفضائل المسيحية ونسلك بموجب أوامره الإلهية لنتمجّد معه في الحياة الأبدية.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المسيح آتٍ)*(

  • المقدمة:

تعتبر حقيقة مجيء الرب يسوع المسيح ثانية، عقيدة مسيحية سمحة، تسلّمتها الكنيسة المقدسة من الرب يسوع ذاته، فقد أوضحها له المجد لرسله الأطهار في مناسبات عديدة. وغدت هذه العقيدة سبب عزاء للمؤمنين، في تحمّلهم الاضطهادات العنيفة في القرون الأولى للميلاد، ذلك أن هؤلاء المؤمنين وضعوا رجاءهم في المسيح يسوع الذي أحبّهم وفداهم بدمه الكريم، وأرسلهم إلى العالم لينشروا بشارته الإنجيلية ووعدهم بأن يكون معهم حتى انقضاء الدهر، وأنه ولئن غادرهم بالجسد إذ صعد إلى السماء فسيأتي ثانية ليأخذهم إليه ويكافئهم عن أتعابهم في خدمته. وحيَّوا بعضهم بعضاً بالعبارة السريانية الآرامية التي يذكرها الرسول بولس في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس (16: 22) وهي «ماران أثا» أي الرب آت. وبهذه العبارة شجّع المؤمنون بعضهم بعضاً على تحمّل المشقات والاصطبار على الضيقات والاستمرار بالجهاد، فإن الرب آتٍ لا محالة ليجازي كل واحد حسب عمله (مت 16: 27).

واعتادت الكنيسة تذكير المؤمنين بهذه العقيدة الإيمانية أثناء تقديم الذبيحة الإلهية، حيث تناجي الرب قائلة: «يا رب إننا نذكر موتك، معترفين بقيامتك ومنتظرين مجيئك الثاني فارحمنا جميعاً» والكنيسة بهذا تكمل أيضاً وصية الرسول بولس القائل: «فإنكم كلّما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تُخبِرون بموت الرب إلى أن يجيء»(1كو 11: 26).

والكنيسة المقدسة منذ بدئها وحتى اليوم، تقف على أصابع أقدام الانتظار شاخصة إلى السماء منتظرة عودة الرب يسوع المسيح ليأخذها إليه، فهي عروسه الطاهرة النقية التي اقتناها بدمه الكريم وستُزفّ إليه في مجيئه الثاني لتملك معه في السماء إلى الأبد.

  • المجيء الأول:

قال كاتب الرسالة إلى العبرانيين: «اللّه بعدما كلّم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة. كلّمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثاً لكل شيء الذي به أيضاً عمل العالمين»(عب 1: 1).

كان موضوع كلام اللّه مع أولئك الآباء والأنبياء، وعداً صادقاً بمجيء ابنه الحبيب ـ نسل المرأة ـ ليسحق رأس الحية الدهرية إبليس وينقذ البشرية من ربقة الخطية ويخلصها من الموت الأبدي. وقد قطع اللّه هذا العهد مع أبوينا الأولين آدم وحواء أولاً ثم مع بقية الآباء الصالحين، والأنبياء الصادقين مروراً بابراهيم واسحق ويعقوب، وعبوراً بأشعيا ودانيال وملاخي وسمعان الشيخ. ولم يتمكّن أحد من أولئك الآباء والأنبياء أن يوصل الفترة الزمنية ما بين إعطاء الوعد وإتمامه. فماتوا جميعاً، ويقول فيهم الكتاب المقدس: «في الإيمان مات هؤلاء أجمعون ولم ينالوا المواعيد بل من بعيد نظروها وصدّقوها وحيَّوها وأقرّوا بأنّهم غرباء ونزلاء على الأرض» (عب 11: 13) وفي ملء الزمن أرسل اللّه ابنه فتجسّد. وبتجسّده أكمل النبوات التي قيلت عنه قبل تجسّده بقرون عديدة وفدى البشرية بموته على الصليب ودفنه وقيامته في اليوم الثالث ممجداً.

وبعد قيامته بأربعين يوماً، أخذ تلاميذه إلى جبل الزيتون القريب من بيت عنيا «وفيما هو يباركهم انفرد عنهم وأصعد إلى السماء»(لو 24: 51).

كان قد أشار إلى صعوده بقوله لتلاميذه: «ليس أحد صعد إلى السماء إلاّ الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي في السماء»(يو 3: 13) وقال في كفرناحوم «أهذا يعثركم فكيف إذا رأيتم ابن البشر صاعداً إلى حيث كان أولاً»(يو 6: 62) كما صرّح أيضاً لتلاميذه عن صعوده إلى السماء ليعد لهم مكاناً (يو 14: 1 ـ 3).

وقد قام من القبر بجسده الذي أخذه من العذراء مريم والذي فيه صلب ومات ودفن في القبر الجديد وقد تمجّد هذا الجسد بقوته الإلهية فقام من القبر ممجداً، وهذا الجسد الممجَّد المتّحد بالنفس البشرية هو ذاته صعد إلى السماء وجلس عن يمين الإله الآب، ولا غرو فقد وصفه الرسول بولس بقوله «وبالإجماع عظيم هو سر التقوى، اللّه ظهر في الجسد، تبرّر في الروح تراءى لملائكة كُرز به بين الأمم، أُومِن به في العالم رُفع في المجد»(1تي 3: 16) فقد صعد «فوق جميع السموات» (أف 4: 10) وهو الآن في يمين اللّه إذ قد مضى إلى السماء وملائكة وسلاطين وقوات مخضعة له (1بط 3: 22). أي أعطاه الآب السلطة المطلقة على الكائنات، وأخضع أعداءه لسلطانه.

  • المجيء الثاني:

يصف البشير لوقا حادث صعود الرب إلى السماء بقوله: «وأخرجهم (أي رسله الأحد عشر) خارجاً إلى بيت عنيا. ورفع يديه وباركهم. وفيما هو يباركهم انفرد عنهم وأُصعد إلى السماء»(لو 24: 50و51). «وهم ينظرون. وأخذته سحابة عن أعينهم. وفيما كانوا يشخصون إلى السماء وهو منطلق إذا رجلان قد وقفا بهم بلباس أبيض، وقالا أيها الرجال الجليليّون ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء. إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقاً إلى السماء» (أع 1: 9 ـ 11) «فسجدوا له ورجعوا إلى أورشليم بفرح عظيم» (لو 24: 52).

كانت الدواعي الموجبة لفرح الرسل حينئذ بشارة الملاكين بعودة الرب يسوع ثانية إلى العالم.

  • علامات المجيء الثاني:

قبل صلب الرب يسوع وموته بثلاثة أيام، كان له المجد، خارجاً من الهيكل وتلاميذه حوله، وكانت أعمال ترميم الهيكل وتزيينه قائمة على قدم وساق، وسحرت عقول التلاميذ بهذه الزينة البديعة والحجارة الحسنة والتحف الثمينة، فلفتوا انتباه الرب إلى ذلك، فقال لهم: «هذه التي ترونها ستأتي أيام لا يترك فيها حجر على حجر لا ينقض»(لو 21: 5و6 ومت 24: 2) فاضطربت قلوبهم، وكادوا يهلكون هلعاً وجزعاً ذلك أنهم كانوا قد توارثوا عن آبائهم خرافة مآلها أن مصير العالم متعلّق بمصير الهيكل.

وصعد بهم الرب بعدئذ إلى جبل الزيتون، وفيما هو جالس، وكان الهيكل يُرى من بعيد بجماله الفتّان الذي خلب الألباب، فتقدّم إليه أربعة من الرسل هم بطرس ويوحنا ويعقوب وأندراوس، وسألوه قائلين: «قل لنا متى يكون هذا وما هي علامة مجيئك وانقضاء الدهر؟ فأجابهم يسوع وقال لهم انظروا لا يضلّكم أحد. فإن كثيرين سيأتون باسمي قائلين أنا هو المسيح ويُضلّون كثيرين. وسوف تسمعون بحروب وأخبار حروب. انظروا لا ترتاعوا. لأنه لا بدّ أن تكون هذه كلها ولكن ليس المنتهى بعد. لأنه تقوم أمة على أمة ومملكة على مملكة، وتكون مجاعات وأوبئة وزلازل في أماكن ولكن هذه كلّها مبتدأ الأوجاع. حينئذ يسلمونكم إلى ضيق ويقتلونكم وتكونون مبغضين من جميع الأمم لأجل اسمي وحينئذ يعثر كثيرون ويسلمون بعضهم بعضاً ويبغضون بعضهم بعضاً. ويقوم أنبياء كذبة كثيرون ويضلّون كثيرين ولكثرة الإثم تبرد محبة الكثيرين. ولكن الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص. ويكرز ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادة لجميع الأمم. ثم يأتي المنتهى.

فمتى نظرتم رجسة الخراب التي قال عنها دانيال النبي قائمة في المكان المقدس. ليفهم القارئ. فحينئذ ليهرب الذين في اليهودية إلى الجبال. والذي على السطح فلا ينزل ليأخذ من بيته شيئاً. والذي في الحقل فلا يرجع إلى ورائه ليأخذ ثيابه. وويل للحبالى والمرضعات في تلك الأيام. وصلوا لكي لا يكون هربكم في شتاء ولا في سبت. لأنه يكون حينئذ ضيق عظيم لم يكن مثله منذ ابتداء العالم ولن يكون. ولو لم تقصَّر تلك الأيام لم يخلص جسد. ولكن لأجل المختارين تقصر تلك الأيام. حينئذ إن قال أحد هوذا المسيح هنا أو هناك فلا تصدّقوا. لأنه سيقوم مسحاء كذبة وأنبياء كذبة ويعطون آيات عظيمة وعجائب حتى يُضلّوا لو أمكن المختارين أيضاً. ها أنا قد سبقت وأخبرتكم، فإن قالوا لكم ها هو في البرية فلا تخرجوا. ها هو في المخادع فلا تصدّقوا. لأنه كما أن البرق يخرج من المشارق ويظهر إلى المغارب هكذا يكون أيضاً مجيء ابن الإنسان. لأنه حيثما تكن الجثة فهناك تجتمع النسور.

وللوقت بعد ضيق تلك الأيام تظلم الشمس والقمر لا يعطي ضوءه والنجوم تسقط من السماء وقوات السموات تتزعزع. وحينئذ تظهر علامة ابن الإنسان في السماء. وحينئذ تنوح جميع قبائل الأرض ويبصرون ابن الإنسان آتياً على سحاب السماء بقوة ومجد كثير. فيرسل ملائكته ببوق عظيم الصوت فيجمعون مختاريه من الأربع الرياح من أقصاء السموات إلى أقصائها…»(مت 24: 3 ـ 31).

يدلي الرب بهذه الكلمات ببيانات مهمة ويعلن نبوات صادقة متناولاً بالدرس حادثتين: الأولى هي حادثة خراب الهيكل، والثانية حادثة مجيء الرب ثانية ونهاية العالم.

  • خراب الهيكل والمدينة المقدسة:

وقد تمّت نبوات الرب عن الهيكل بحذافيرها بعد أن أدلى بها بأربعين عاماً. ذلك أن اليهود كانوا يظنون أن المسيح الذي سيظهر لهم يكون زمنياً دنيوياً يخلصهم من استعمار الرومان، فلم يؤمنوا بالرب يسوع ـ الذي مملكته ليست من هذا العالم ـ وقام لهم بحسب نبوة الرب يسوع مسحاء كذبة وأنبياء أدعياء دجّالون. وتوالت الثورات وكثرت الاضطرابات التي أفرغت صبر الامبراطور الروماني، فأرسل إلى المدينة المقدسة حملة قوية مؤلفة من ثلاثين ألف محارب يقودها تيطس. فلما طلب تيطس من رؤساء اليهود التسليم رفضوا فبدأ بالهجوم، وحاصر المدينة المقدسة وأحاطها بسور جديد فأهلك بذلك سكّانها جوعاً، وكانت المجاعة كبرى وفاضحة بحيث جعلت الأمهات يبعن أولادهن للذبح وأكلت بعضهن أولادهن في جنون الجوع. وبعد حرب دامية دامت سبعة أشهر دخل تيطس إلى المدينة وكان حريصاً على بقاء الهيكل كأثر ثمين بفخامة بنائه وشهرته التاريخية. لكن أحد أفراد جيشه واسمه (ترنتيوس روفس) عصى أمر مولاه وأضرم النار في الهيكل فلما رآه تيطس خراباً أمر بإكمال تخريبه بنقض حجارته بعضها عن بعض وفلاحة ساحته لمحو أثره، كما خربت المدينة أيضاً بسكانها. وتمّت بذلك نبوة إرميا القائل «إن صهيون تُفلح كحقل وتصير أورشليم خِرَباً وجبل البيت شوامخ وعر»(أر 26: 18) وقول الرب عن المدينة: «يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها.. هوذا بيتكم يترك لكم خراباً.. لأني أقول لكم إنكم لا ترونني من الآن حتى تقولوا مبارك الآتي باسم الرب»(مت 23: 37 ـ 39). وقوله له المجد عن الهيكل وحجارته «هذه التي ترونها ستأتي أيام لا يترك فيها حجر على حجر لا ينقض»(لو 21: 6 ومت 24: 2).

وقد فصل أخبار حادثة خراب الهيكل، وخراب المدينة، المؤرخ اليهودي يوسيفوس الذي شاهد ذلك بأم عينه وهو لئن كان عدواً للمسيحية، ولكنه خدم المسيحية من حيث لا يدري لأنه أثبت صحة نبوة السيد المسيح.

أما المسيحيون فبناء على نبوة الرب وشرحه العلامات التي تحدث قبل خراب المدينة والهيكل خاصة وجود رجسة الخراب أي النسر الروماني وتمثاله في المحل المقدس، أي في الهيكل، وبناء على أمر الرب بقوله: «ولما تحدث هذه الأمور فالذي في اليهودية فليهرب إلى الجبال والذي على السطح لا ينزل إلى البيت ولا يدخل ليأخذ من البيت شيئاً والذي في الحقل لا يرجع إلى الوراء ليأخذ ثوبه.. ويل للحبالى والمرضعات في تلك الأيام، وصلّوا لكي لا يكون هربكم في شتاء ولا في سبت..» (مت 24: 16 ـ 20) فأتباع الرب، قبل حصار المدينة هربوا إلى بلدة وثنية يقال لها فلَّة (بلاّ) بقرب ضفة الأردن اليسرى وتخلّصوا من الهلاك.

أما وصية الرب: «أن يصلوا لئلا يكون هروبهم في شتاء أو في سبت» فذلك أن السفر في الشتاء صعب في تلك الأيام. أما السبت فلأن شريعة الفريسيين كانت تحرّم على اليهود أن يمشوا يوم السبت أكثر من ألفي خطوة فهربهم في ذلك اليوم كان من شأنه أن يزيد على هول الموقف خوفهم من التورّط بالخطية وهم على قاب أو أدنى من الموت.

 

أما عن المجيء الثاني ونهاية العالم القائم الآن، فسيسبق ذلك أيضاً ما سبق خراب الهيكل والمدينة المقدسة من ضيقات ومجاعات وزلازل واضطرابات في أماكن عديدة من العالم. وتقوم أمة على أمة ومملكة على مملكة «ولكن ليس المنتهى بعد».

وسيسلم الأخ أخاه للموت والأب ابنه… وسيكون أتباع الرب مبغضين من الناس من أجل اسمه…

  • المسيح الدجَّال:

كما سيظهر الأنبياء الكذبة كقول الرب بنبوته: «سيأتي مسحاء كذبة وأنبياء كذبة ويأتون الآيات والعجائب فلا تصدّقوهم»(مت 24: 24) وآخر هؤلاء الأنبياء الكذبة سيظهر المسيح الدجال الذي سيخدع الكثيرين بمعجزاته الشيطانية، ويقول فيه الرسول بولس «الذي مجيئه بعمل الشيطان بكل قواه وبآيات وعجائب كاذبة، وبكل خديعة الإثم في الهالكين لأنهم لم يقبلوا محبة الحق حتى يخلصوا. لأجل هذا سيرسل اللّه إليهم عمل الضلال حتى يصدٌقوا الكذب لكي يدان جميع الذين لم يصدقوا الحق بل سرّوا بالإثم»(2تس 2: 9 ـ 12). والمسيح الدجال هذا هو المقاوم الذي يتعجرف متكبّراً على الإله «حتى أنه يجلس في هيكل اللّه كإله، مظهراً نفسه أنه إله» (2تس 2: 4). «ويعطي روحاً لصورة الوحش حتى تتكلّم صورة الوحش ويجعل الذي لا يسجدون لصورة الوحش يقتلون» (رؤ 13: 15).

 

وسيكون على أتباع الرب الذين لم يسجدوا لصورة الوحش «ضيق عظيم لم يكن مثله منذ ابتداء العالم إلى الآن ولن يكون ولو لم تقصر تلك الأيام لم يخلص جسد. ولكن لأجل المختارين تقصر تلك الأيام»(مت 24: 31و32).

ومن جملة المختارين، الشاهدان اللذان نقرأ عنهما في سفر الرؤيا وهما من رتبة الأنبياء وسيظهران ويقاومان المسيح الدجّال «وإن كان أحد يريد أن يؤذيهما تخرج نار من فمهما وتأكل أعداءهما، وإن كان أحد يريد أن يؤذيهما لا بدّ أن يقتل» (رؤ 11: 5). والسلطان الذي يعطى لهما في صنع آيات ومعجزات «ومتى تمما شهادتهما بالوحش الصاعد من الهاوية سيصنع معهما حرباً ويغلبهما ويقتلهما وتكون جثتاهما على شارع المدينة العظيمة.. وينظر الناس من الشعوب والقبائل والألسنة جثتيهما ثلاثة أيام ونصف ولا يدعون جثتيهما توضعان في القبور ويشمت بهما الساكنون على الأرض ويهللون ويرسلون هدايا بعضهم لبعض لأن هذين النبيين كانا قد عذّبا الساكنين على الأرض… وبعد الثلاثة الأيام والنصف يدخل فيهما روح حياة من اللّه فيقفان على أرجلهما ويقع خوف عظيم على الذين كانوا ينظرونهما ويسمعون صوتاً عظيماً من السماء قائلاً لهما، اصعدا إلى ههنا فيصعدان إلى السماء في السحابة وينظرهما أعداؤهما»(رؤ 11: 11و12). ويقول بعضهم أن هذين النبيين الشاهدين هما إيليا وأخنوخ اللذان لم يذوقا الموت بعد. إذ لم يوجد أخنوخ لأن اللّه أخذه إلى عنده. كما أن إيليا صعد إلى السماء بمركبة نارية’

  • مجي الرب فُجاءة:

ويوصينا الرب ألاّ نفتش عنه في البراري والقفار «لأنه كما أن البرق يخرج من المشارق ويظهر إلى المغارب هكذا يكون أيضاً مجيء ابن الإنسان. لأنه حيثما تكون الجثة فهناك تجتمع النسور. وللوقت بعد ضيق تلك الأيام تظلم الشمس، والقمر لا يعطي ضوءه والنجوم تسقط من السماء وقوات السموات تتزعزع، وحينئذ تظهر علامة ابن الإنسان في السماء وحينئذ تنوح جميع قبائل الأرض. ويبصرون ابن الإنسان آتياً على سحاب السماء بقوة ومجد كثير»(مت 24: 28 ـ 30).

فتزعزع قوات السماء يفقدها توازنها، وإذا فقد التوازن بين الأجرام السماوية تزول قوة الجاذبية فيها فتتساقط، وكما يقول الرسول بطرس: «ولكن سيأتي كلص في الليل يوم الرب الذي فيه تزول السموات بضجيج وتنحل العناصر محترقة وتحترق الأرض والمصنوعات التي فيها. فبما أن هذه كلّها تنحلّ أي أناس يجب أن تكونوا أنتم في سيرة مقدسة وتقوى. منتظرين وطالبين سرعة مجيء يوم الرب الذي به تنحلّ السموات ملتهبة والعناصر محترقة تذوب. ولكننا بحسب وعده ننتظر سموات جديدة وأرضاً جديدة يسكن فيها البر»(2بط 3: 10 ـ 13).

وسيأتي الرب يسوع على متن السحب كما رآه التلاميذ صاعداً إلى السماء حيث أخفته سحابة منيرة عن عيونهم. والسحابة علامة للظهور الإلهي فمن السحابة كلم اللّه موسى وسحابة ملأت هيكل سليمان وسحابة ظلّلت يسوع على جبل التجلّي.

حينئذ يسمع الأموات صوت ابن اللّه فيخرج الذين عملوا الصالحات إلى قيامة الحياة والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة (يو 5: 29) «حينئذ تصير الكلمة المكتوبة ابتلع الموت إلى غلبة. أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا هاوية؟» (1كو 15: 54و55) وفي هذه اللحظة يختطف الأبرار المُقامون من الأموات وكذلك الأحياء المتغيرون يُخطفون جميعاً مع الرب أيضاً في السحب وسيصعد هذا الموكب العظيم إلى السماء بقيادة الرب يسوع الذي كتب عنه أنه «آت بأبناء كثيرين إلى المجد»(عب 2: 10) وسيقول «ها أنا والأولاد الذين أعطانيهم اللّه»(عب 20: 13) ويقول للآب «الذين أعطيتني حفظتهم ولم يهلك منهم أحد»(يو 17: 12).

  • المنتهى:

ويتبع المجيء الثاني المنتهى. هذا ما نفهمه من نص سؤال الرسل للرب يسوع «قل لنا متى يكون هذا وما هي علامة مجيئك وانقضاء الدهر»(مت 24: 3) فيتبع مجيء السيد المسيح ثانية منتهى الدهر، أي نهاية العالم القائم (1كو 15: 24) وهذه النهاية هي انقضاء ملك المسيح كفادٍ للعالم، ونهاية كل شيء بحسب تعبير الرسول بطرس (1بط 4: 7).

  • القيامة العامة الواحدة:

يخبرنا الكتاب المقدس بأن الأموات سيقومون جميعاً في منتهى الدهر أي أن نفوسهم ستتّحد بأجسامهم وهذه القيامة هي القيامة العامة الواحدة الوحيدة التي لا ثانية لها. وهي قيامة الأموات كافة: الأبرار فيهم والأشرار. على حد قول الرسول بولس «ولي رجاء باللّه في ما هم أيضاً ينتظرون أنه سوف تكون قيامة للأموات الأبرار والأثمة»(أع 24: 15) ويقول صاحب الرؤيا عن الرب يسوع: «هوذا يأتي مع السحاب وستنظره كل عين والذين طعنوه، وينوح عليه جميع قبائل الأرض»(رؤ 1: 7). فإذ ستنظره كل عين حتى عيون الذين طعنوه لا بدّ من أن تكون القيامة شاملة جميع الناس بجميع طبقاتهم واتجاهاتهم الصالحين والطالحين وهذا واضح أيضاً من قول الرب يسوع القائل: «لا تتعجّبوا من هذا فإنه تأتي ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته فيخرج الذين عملوا الصالحات إلى قيامة الحياة والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة»(يو 5: 29) ولا يسبق الأحياء الأموات في القيامة العامة، على حد قول الرسول بولس: «فإننا نقول لكم هذا بكلمة الرب إننا نحن الأحياء الباقين إلى مجيء الرب لا نسبق الراقدين. لأن الرب نفسه بهتاف، بصوت رئيس الملائكة وبوق اللّه ينزل من السماء والأموات في المسيح سيقومون أولاً. ثم نحن الأحياء الباقين سنخطف جميعاً معهم في السحب لملاقاة الرب في الهواء، وهكذا نكون كل حين مع الرب» (1تس 4: 15 ـ 17). فبقول الرسول «الأموات في المسيح سيقومون أولاً»(1تس 4: 16) لا يعني أنه توجد قيامتان الأولى للأموات والثانية للأحياء.

فلا يوجد إلا قيامة واحدة عامة، لا يسبق فيها الأحياء الأموات، بل الأموات في المسيح يقومون أولاً ثم يخطفون مع الأحياء لملاقاة الرب في الجو.

أما قول الرسول بولس «لأعرفه وقوة قيامته وشركة آلامه متشبّهاً بموته. لعلي أبلغ إلى قيامة الأموات. وليس أني قد نلت أو صرت كاملاً ولكني أسعى لعلي أدرك الذي لأجله أدركني أيضاً المسيح يسوع»(في 3: 11و12). فالرسول يعني «بقيامة الأموات» قيامة من الموت الأدبي، فالتعبير مجازي ولا غرو فقد استعمل الرب يسوع هذا التعبير ذاته عن قيامة الإنسان مع الموت الأدبي بقوله: «الحق الحق أقول لكم أنه تأتي ساعة وهي الآن حين يسمع الأموات صوت ابن اللّه والسامعون يحيون»(يو 5: 25).

  • معنى المُلك ألف سنة:

يعتقد بعضهم أنه عند مجيء ربنا يسوع المسيح ثانية ستكون قيامة بالجسد خاصة للأبرار والذين استشهدوا من أجل اسمه له المجد وسيملكون معه ملكاً أرضياً سعيداً لمدة ألف سنة في المدينة المقدسة. مستندين بذلك إلى آية صاحب الرؤيا عن الأبرار «فعاشوا وملكوا مع المسيح ألف سنة»(رؤ 20: 4). وإن بداية الألف سنة هي موت المسيح الدجال وإزالة دولته، وحينئذ يقوم الأبرار من الموت بأجساد روحية باقية غير فانية ولا متألمة وتتّحد بها نفوسهم ويملكون مع المسيح ألف سنة ملكاً أرضياً سعيداً، وإن الشيطان يكون معتقلاً في هذه المدة. وإن هذا الملك تصحبه التصرّفات العادية كالحرث والنسل، وإن في هذا الوقت يتمّ قول أشعيا «يسكن الذئب مع الخروف ويربض النمر مع الجدي..»(اش 11: 6 ـ 9) كما كان في جنة عدن وسفينة نوح.

 

وقد اعتقد بذلك بابياس الراعي أسقف هيروبوليس بأسيا الصغرى سنة (110 ـ 216م) وإيريناوس أسقف ليون الذي نبغ سنة (170م) واعتبرت الكنيسة رأييهما مخالفين لما تسلّمته من الرسل عن الرب يسوع الذي قال لبيلاطس: «مملكتي ليست من هذا العالم، لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا أسلَّم إلى اليهود…»(يو 18: 36) وإن الطابع العام لمملكة السيد المسيح هو الطابع الروحي الذي فيه يملك على القلوب، ولذلك فقول صاحب الرؤيا لا يُفَسَّر حرفياً بل مجازياً ويعني نشر الإنجيل المقدس في أقطار العالم وسيطرته على قلوب الشعوب وتأثيره فيهم. وقد رفض آباؤنا السريان التفسير الحرفي لما ورد في سفر الرؤيا عن الملك الألفي وهكذا فعل كبار آباء الكنيسة في القرون الأولى، منهم القديس غريغوريوس الكبير في القرن الرابع الذي تكلّم عن ذلك بإسهاب.

وأخذ آباء الكنائس الرسولية وعلماؤها كافة برأي المُلك الروحي ما عدا بعض علماء من الكنيسة القبطية الأرثوذكسية الشقيقة وفي مقدّمتهم العلاّمة ابن كاتب قيصر الذي عاصر أولاد العسال في القرن الثالث عشر للميلاد وقَبِل وإيّاهم برأي المُلك الألفي الحرفي بل تطرف كثيراً حتى أنه أخذ بنظرية تعيين سنة مجيء الرب ثانية. وهذه النظرية تحدد سنة (1996) لبدء الدولة الدجالية (ومدتها ثلاث سنين ونصف) حسب سفر الرؤيا (13: 5و6) بالتفسير الحرفي. وفي نحو سنة 2000م سيأتي المسيح ثانية وهذه السنة هي بداية ملكه الألفي (كذا).

إن تحديد موعد المجيء الثاني للسيد المسيح يضاد فكرة اللّه التي جعلت القصد الرئيسي من الكلام عن المجيء الثاني تنبيه المؤمنين وأعدادهم لاستقبال الرب بمجيئه الثاني (انظر 2تس 2: 1 ـ 2).

لقد حاول العديدون مثل العالم القبطي الكبير ابن كاتب قيصر، تعيين سنة مجيء الرب ثانية وفشلوا فشلاً ذريعاً. فالرب يسوع لم يضع بسلطاننا معرفة موعد مجيئه.. وهو لئن أعطانا بعض علامات مجيئه، إنّما يريد أن نكون دائماً مستعدّين للقائه، بقوله: «اسهروا إذاً لأنكم لا تعلمون في أية ساعة يأتي ربكم. واعلموا هذا أنه لو عرف رب البيت في أي هزيع يأتي السارق لسهر ولم يدع بيته ينقب. لذلك كونوا أنتم أيضاً مستعدين لأنه في ساعة لا تظنّون يأتي ابن الإنسان» (مت 24: 42 ـ 44) «اسهروا وصلّوا لأنكم لا تعلمون متى يكون الوقت»(مر 13: 33). وبناء على هذه الوصية كان الرسل مستعدين دائماً للقاء الرب، حتى إن الرسول بولس ظنّ أن الرب يأتي والرسول بولس ما يزال على قيد الحياة، لذلك قال: «ثم نحن الأحياء الباقين سنخطف جميعاً معهم في السحب لملاقاة الرب»(1تس 4: 17).

وإذا فسّرنا «الملك الألفي» حرفياً سنصطدم بحقيقة ما سيحدث في مجيء الرب، فإن السماء والأرض ستنحلان عند ظهوره له المجد، فلا يوجد له مكان على الأرض ليملك إن أتى ليملك ملكاً دنيوياً، وهذا يؤيده الرسول بطرس بقوله: «ولكن سيأتي كلص في الليل يوم الرب الذي فيه تزول السموات بضجيج وتنحلّ العناصر محترقة وتحترق الأرض والمصنوعات التي فيها. فبما أن هذه كلها تنحلّ أي أناس يجب أن تكونوا أنتم في سيرة مقدسة وتقوى منتظرين وطالبين سرعة مجيء يوم الرب الذي به تنحلّ السموات ملتهبة والعناصر محترقة تذوب» (2بط 3: 10 ـ 12). وكما سبق وقلنا فإن القيامة العامة هي واحدة. ونكرر هنا قول الرب القائل: «لا تتعجّبوا من هذا فإنه ستأتي ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته فيخرج الذين عملوا الصالحات إلى قيامة الحياة والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة»(يو 5: 27و28).

  • الدينونة العامة الواحدة:

لا تنال نفوس الأبرار الثواب وتدخل السماء، كما لا تنال نفوس الأشرار العقاب وتهبط إلى الجحيم حالاً بعد الموت. بل تنتظر النفوس كافة يوم القيامة لتتّحد بأجسادها فتنال ما تستحقه بعدالة: إمّا الثواب وإمّا العقاب. ذلك أن عدل اللّه لا يسمح أن تنال النفس وحدها السعادة أو العذاب طالما جسدها قد شاركها عمل الخير أو الشر في الحياة الدنيا. النفوس خالدة لا تموت، وتبقى نفوس الصالحين بعد انفصالها عن أجسادها سعيدة بعربون المجد إلى يوم القيامة في الفردوس مع نفس اللص التائب الذي وعده الرب على الصليب بأن يكون معه في ذلك اليوم في الفردوس، والفردوس هو غير الملكوت الذي سيرثه الأبرار في السماء بعد الدينونة. وكذلك تبقى نفوس الأشرار محفوظة في الهاوية وتشعر بخوف ورعدة مما ستناله من العذاب بعد الدينونة في جهنم ويؤنّبها الضمير على ما اقترفته من آثام..

ولا يقضى بالسعادة الأبدية، ولا بالعذاب الأبدي، إذن إلا في يوم الدينونة العظيم حيث تكون النفوس قد اتّحدت بأجسادها.

ولو كانت النفوس تنال السعادة الكاملة أو العذاب الكامل قبل الدينونة العامة لما كانت الحاجة إلى القيامة العامة. ولكن عدالة اللّه اقتضت أن تتّحد النفوس بأجسادها ثم يقف الإنسان بنفسه وجسده أمام منبر المسيح ليدان على أعماله وأقواله وأفكاره ويصدر عليه الحكم الأخير بالنعيم أو العذاب. وهذا واضح من أقوال الكتاب المقدس، فقد قال صاحب الرؤيا على لسان الرب يسوع: «ها أنا آتي سريعاً وأجرتي معي لأجازي كل واحد كما يكون عمله»(رؤ 22: 12). وقال الرب «فإن ابن الإنسان سوف يأتي في مجد أبيه مع ملائكته وحينئذ يجازي كل واحد حسب عمله»(مت 16: 27) «ومتى جاء ابن الإنسان في مجده وجميع الملائكة القديسين معه فحينئذ يجلس على كرسي مجده ويجتمع أمامه جميع الشعوب فيميّز بعضهم عن بعض كما يميِّز الراعي الخراف من الجداء فيقيم الخراف عن يمينه والجداء عن اليسار. ثم يقول الملك للذين عن يمينه تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعدّ لكم منذ تأسيس العالم. ثم يقول أيضاً للذين عن اليسار اذهبوا عنّي يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته… فيمضي الأشرار إلى عذاب أبدي، والأبرار إلى حياة أبدية»(مت 25: 31 ـ 46).

فلا ينال الأبرار الثواب ولا الأشرار العقاب إلا بعد القيامة العامة والدينونة العامة، وإصدار الحكم على كل إنسان. وبهذا الصدد يقول القديس يوحنا الذهبي الفم في تفسير آية الرسول بولس (2كو 4: 13و14) «فإن لنا روح الإيمان نفسه» ما يأتي: «إن بولس يقول إنه لم ينل الإكليل بعد هو ولا أحد آخر غيره من الذين أرضوا اللّه منذ الابتداء ولا ينالونه أيضاً حتى يوافي كل العتيدين أن يكملوا حتى الانقضاء ثم يثبت القديس أنه من الواجب أن يصير الأمر على هذه الصفة ليزيد الصديقين طرباً وتهليلاً من حيث أنّهم كلهم أخوة وجميعهم واحد. وفرح الواحد منهم يصيب الآخر حتى أن الآب السماوي يفرح عند ذلك فرحاً زائداً بسروره بأولاده كلهم مجتمعين إلى واحد…. فاعتبروا أنتم الأهمية الكائنة بأن ابراهيم الخليل وبولس الرسول مقيمان بانتظاركم حتى تكملوا أنتم أيضاً ليمكنهم أن ينالوا عند ذلك الثواب لأن الآب سبق فقال لهم أنه إن لم توافوا أنتم أيضاً لا يعطيهم ذلك»([241]).

  • السماء الجديدة أو الحياة الأبدية:

يقول يوحنا في رؤياه: «ثم رأيت عرشاً عظيماً أبيض والجالس عليه الذي من وجهه هربت الأرض والسماء ولم يوجد لهما موضع. ورأيت الأموات صغاراً وكباراً واقفين أمام اللّه، وانفتحت أسفار وانفتح سفر آخر هو سفر الحياة ودين الأموات ممّا هو مكتوب في الأسفار بحسب أعمالهم. ثم رأيت سماء جديدة وأرضاً جديدة لأن السماء الأولى والأرض الأولى مضتا» (رؤ 20: 11و12). وقال الرسول بطرس «ولكننا بحسب وعده ننتظر سموات جديدة وأرضاً جديدة يسكن فيها البر» (2بط 3: 13).

لا يمكننا أن ندرك بعقولنا البشرية ماهية هذه السموات، وأن نحدّد موقعها ونعرف ما تحويه من كائنات روحية. وكل ما نعرفه عنها هو ما سمح اللّه بإعلانه بالوحي الإلهي ومنه نعلم أن السماء هي حالة السعادة الدائمة مع اللّه وملائكته وهي أيضاً حالة المجد السامق والقداسة التامة والسلطة المطلقة. فمن يرث السماء يرث الحياة الأبدية التي وصفها الرسول بولس بقوله: «ما لم ترَ عين وما لم تسمع أذن ولم يخطر على بال إنسان ما أعدّه اللّه للذين يحبّونه»(1كو 2: 9).

 

فالسماء بالنسبة إلى المؤمنين الصالحين هي المكان الذي يعده ابن اللّه لهم إتماماً لوعده لتلاميذه بقوله: «أنا أمضي لأعد لكم مكاناً وإن مضيت وأعددت لكم مكاناً آتي أيضاً وآخذكم إليّ حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً»(يو 14: 3) وحيث المسيح في السماء فالحالة حالة مجد لا يفنى، وصاحب الرؤيا رأى أولئك المنتصرين مع الرب ويصفهم بقوله: «قد غسلوا ثيابهم وبيّضوها في دم الخروف من أجل ذلك هم أمام عرش اللّه ويخدمونه نهاراً وليلاً في هيكله والجالس على العرش يحلّ فوقهم. لن يجوعوا بعد ولن يعطشوا بعد ولا تقع عليهم الشمس ولا شيء من الحر لأن الخروف الذي في وسط العرش يرعاهم ويقتادهم إلى ينابيع ماء حية ويمسح اللّه كل دمعة من عيونهم» (رؤ 7: 14 ـ 17).

ولما جادل اسطيفانس اليونانيين، وقد حنقوا عليه بقلوبهم وصرّوا بأسنانهم: «وأما هو فشخص إلى السماء وهو ممتلئ من الروح القدس فرأى مجد اللّه ويسوع قائماً عن يمين اللّه، فقال: «ها أنا أنظر السموات مفتوحة وابن الإنسان قائماً عن يمين اللّه»(أع 7: 54 ـ 56).

والكلام عن اليمين واليسار كلام مجازي، إذ أن اللّه تعالى روح محض لا يحدّه مكان، وموجود في كل مكان، فلا يفهم الكلام حرفياً بل يكنى باليمين عن مكان المجد والسلطة وعن اليسار بعكس ذلك. وهذا هو المفهوم من قول صاحب المزامير «وقال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك»(أع 2: 34و35) فيعني قول الآب السماوي لابنه الحبيب: لك أعطي السلطان والمجد فتخضع لك أعداؤك.

ووعد الرب المؤمنين قائلاً: «من يغلب فسأعطيه أن يجلس معي في عرشي كما غلبت أنا وجلست مع أبي في عرشه» (رؤ 3: 21) هذا هو الميراث الذي لا يفنى ولا يضمحل المحفوظ في السموات لأجلنا (1بط 1: 4).

وسيكون الأبرار في السماء كملائكة اللّه (مت 22: 30) وسيضيئون نوراً ومجداً كقول الكتاب «حينئذ يضيء الصديقون كالشمس في ملكوت أبيهم»(مت 3: 43).

ويقول الرسول بولس «ننتظر مخلصاً هو الرب يسوع المسيح الذي سيغير شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده»(في 3: 20و21) وهو يريد بجسد مجده هيئته في وقت تجلِّيه حيث قيل «إن هيئته تغيّرت وأضاء وجهه كالشمس وصارت ثيابه بيضاء كالنور»(مت 17: 2) ففي السماء سنكون بملء قامة المسيح شبّاناً كاملي السن كاملي الصفات، كاملين في الجمال، كاملين في القوة، كاملين في المعرفة، وهكذا تعاد إلينا صورة اللّه التي كانت لنا يوم خلقنا اللّه على صورته كمثاله.

وفي السماء سيلتقي الأتقياء الرب يسوع، وسيعرف المؤمنون بعضهم بعضاً كما عرف التلاميذ موسى وإيليا على جبل التجلّي. ويلتقي المؤمنون الآباء والأنبياء والقديسين والأتقياء والشهداء والرسل الأطهار والأقارب والأصدقاء والأحباء. فما أسعد الحياة الأبدية في السماء.

  • عقاب الأشرار:

قال الرب يسوع «فيمضي هؤلاء (الأشرار) إلى عذاب أبدي والأبرار إلى حيوة أبدية»(مت 25: 46) وقال الرسول بولس: «بَيِّنَةً على قضاء اللّه العادل أنكم تؤهلون لملكوت اللّه الذي لأجله تتألمون أيضاً إذ هو عادل عند اللّه، إن الذين يضايقونكم يجازيهم ضيقاً. وإيّاكم الذين تتضايقون راحة معنا عند استعلان الرب يسوع من السماء مع ملائكة قوته. في نار لهيب معطياً نقمة للذين لا يعرفون اللّه والذين لا يطيعون إنجيل ربنا يسوع المسيح. الذين سيعاقبون بهلاك أبدي من وجه الرب ومن مجد قوته»(2تس 1: 5 ـ 9).

فقد أنذر اللّه الخاطئ، بوسائل عديدة، وسبل شتّى ليتوب ويعود إليه تعالى. فإذا لم يرعوِ فعقابه الأبدي صارم، بهذا الصدد يقول الرسول بولس للخاطئ: «ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضباً في يوم الغضب واستعلان دينونة اللّه العادلة الذي سيجازي كل واحد حسب أعماله»(رو 2: 5و6) «فهو ذا لطف اللّه وصرامته، أما الصرامة فعلى الذين سقطوا، وأمّا اللطف فلك إن ثبتَّ في اللطف، وإلاّ فأنت أيضاً ستقطع»(رو 11: 22) وقال الرسول بطرس إن اللّه «يحفظ الأثمة إلى يوم الدين معاقبين» (2بط 2: 9).

  • تفاوت العقاب:

«وسيجازي (الرب) كل واحد حسب أعماله»(رو 2: 5و6) فيتوقّف عقاب الإنسان على قدر معرفته وتمييزه بين الخير والشر والحق والضلال. فاليهود الذين لم يؤمنوا بالرب يسوع ينالون عقاباً صارماً، لذلك قال عنهم له المجد «لو لم أكن قد جئت وكلّمتهم لم تكن لهم خطية. أما الآن فليس لهم عذر في خطيتهم»(يو 15: 22). وقد حكم الرب بأن خطية اليهود عظيمة حيث قال لبيلاطس «الذي أسلمني إليك له خطية أعظم» (يو 19: 11). وقال للكتبة والفريسيين: «ويل لكم أيّها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تأكلون بيوت الأرامل ولعلة تطيلون صلاتكم لذلك تأخذون دينونة أعظم»(مت 23: 14). كما أعطى الويل لكورزين وبيت صيدا وقال «إن صور وصيدا تكون حالتهما أكثر احتمالاً يوم الدين مما لكما» (مت 11: 20 ـ 24) فخطية العارف إذن كبيرة وإن صغرت.

 

  • جهنم:

قال الرب يسوع «هكذا يكون في انقضاء العالم يخرج الملائكة ويفرزون الأشرار من بين الأبرار ويطرحونهم في أتون النار. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان» (مت 13: 49و50).

إن أتون النار هذا يدعوه الرب يسوع في موضع آخر (جهنم) ويعتبر هذا المكان محلاً للعقاب الأبدي بقوله لتلاميذه: «لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد.. بل بالحري خافوا من الذي بعدما يقتل له سلطان أن يلقي في جهنم، نعم أقول لكم من هذا خافوا»(لو 12: 4 ـ 6). وقال الرب أيضاً: «من قال لأخيه يا أحمق يكون مستوجب نار جهنم»(مت 5: 22).

وقد أعدت جهنم لإبليس وملائكته الذين لم يحفظوا رئاستهم بل سقطوا من نعمة اللّه فحفظهم مقيّدين «بقيود أبدية تحت الظلام» (يهوذا 6) ويقول عنهم الرسول بطرس «في سلاسل الظلام طرحهم في جهنّم محروسين للقضاء»(2بط 2: 24). ويقول الرب يوم الدين للأشرار «اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدّة لإبليس وملائكته»(مت 25: 41).

كما أضحت جهنّم المكان الأبدي لكل من يختار لنفسه إبليس إلهاً له فيخضع لأوامره ويعصي بذلك أوامر اللّه. وإن الأبالسة يعرفون مصيرهم لذلك قالوا للرب مرة: «ما لنا ولك يا يسوع ابن اللّه، أجئت إلى هنا قبل الوقت لتعذّبنا»(مت 8: 29).

وقد دعا الرب العذاب الأبدي ظلاماً بقوله عن الأشرار: «يطرحون إلى الظلمة الخارجية. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان»(مت 8: 12) كما دعاه دينونة بقوله: «كيف تهربون من دينونة جهنم»(مت 23: 33) و«يخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة» (يو 5: 29). كما يسميه هلاكاً بقوله: «الذين نهايتهم الهلاك»(في 3: 19) «والذين سيعاقبون بهلاك أبدي من وجه الرب ومن مجد قوته»(2تس 1: 9) كما يدعوه ناراً بقوله للأشرار «اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدّة لإبليس وملائكته»(مت 25: 41) «ويطرحونهم في أتون النار» (مت 13: 42) وجاء في سفر الرؤيا عن هؤلاء الطالحين أن «نصيبهم في البحيرة المتّقدة بنار وكبريت»(رؤ 21: 8) «وكل من لم يوجد مكتوباً في سفر الحياة طرح في بحيرة النار» (رؤ 20: 15).

وهذه الألفاظ هي صفات وتسميات حقيقية للمكان الذي أعده اللّه لعذاب الأشرار عذاباً أبدياً. ولو اعتبرت تلك الألفاظ مستعارة لدلّت على أن العذاب أشد وأقوى وأقسى ممّا نتصوّر.

 

وقد وصفت السعادة بكونها أبدية في السماء، وبهذا الصدد يقول الكتاب «يملك الرب إلى الدهر والأبد»(خر 15: 18) «أما قديسو العلي فيأخذون المملكة ويمتلكون المملكة إلى الأبد وإلى أبد الآبدين»(دا 7: 18) «والفاهمون يضيئون كالكواكب إلى الأبد»(دا 12: 3).

 

كما وصف العذاب أيضاً بكونه أبدياً فجاء في سفر الرؤيا: «يصعد دخان عذابهم إلى أبد الآبدين»(رؤ 14: 11) «وسيعذبون نهاراً وليلاً إلى أبد الآبدين»(رؤ 20: 10) وقال الرسول يهوذا: «حفظهم إلى دينونة اليوم العظيم بقيود أبدية تحت الظلام» (يهوذا 6) وقال الرب «يمضي هؤلاء (الأشرار) إلى عذاب أبدي»(مت 25: 46) و«نار أبدية»(مت 18: 8) ومن هذه الآيات نفهم أيضاً أنه لا يوجد للثواب والعقاب سوى مكانين، لا ثالث لهما وهما النعيم الدائم في السماء المكان الذي يثاب فيه الأبرار متنعّمين إلى الأبد، والجحيم الذي يتعذّب فيه الأشرار كعقاب لهم أبدي.

  • موقفنا من مجيء الرب يسوع ثانية:

يقف الناس من حقيقة المجيء الثاني مواقف عديدة فقسم لا يؤمنون بالحقائق الإلهية كافة، أولئك وصفهم صاحب المزامير بالجهل بقوله: «وقال الجاهل في قلبه ليس إله»(مز 14: 1). ودينونتهم صارمة، ومثلهم الغافلون غير المبالين أولئك الذين قال فيهم الرب: «كما كان في أيام نوح كذلك يكون أيضاً في أيام ابن الإنسان، كانوا يأكلون ويشربون ويزوّجون ويتزوجون إلى اليوم الذي فيه دخل نوح الفلك وجاء الطوفان وأهلك الجميع»(لو 17: 26و27). كان نوح طيلة مدة صنعه الفلك يعظ قومه ليتوبوا، وينذرهم بأن اللّه سيغرقهم بطوفان عام ولكنهم لم يبالوا بكلامه، وعدم مبالاتهم لم تمنع الطوفان، فحالما دخل نوح الفلك جاء الطوفان وأخذ الجميع، كذلك في مجيء الرب ثانية لا يمنع عدم مبالاة الناس بهذه الحقيقة الإلهية من مجيء الرب، وستنظره كل عين، وينوح الذين طعنوه… ولات ساعة الندم.

وقوم يستهزئون لدى سماعهم هذه الحقائق السامية فهم منهمكون بجمع المال، والتمرّغ بالشهوات، وقد سبق الرسول بطرس وتنبّأ عنهم بقوله: «عالمين هذا أولاً سيأتي في آخر الأيام قوم مستهزئون سالكين بحسب شهوات أنفسهم وقائلين أين هو موعد مجيئه. لأنه من حين رقد الآباء كل شيء باق هكذا من بدء الخليقة»(2بط 3: 3و4) وتشبه حال هؤلاء ما جرى لجيل لوط الذي قال فيهم الرب يسوع: «كذلك أيضاً كما كان في أيام لوط يأكلون ويشربون ويشترون ويبيعون ويغرسون ويبنون. ولكن اليوم الذي فيه خرج لوط من سدوم أمطر ناراً وكبريتاً من السماء فأهلك الجميع»(لو 17: 28). فلوط كان يسكن في سدوم يوم بلغت شرور أهلها إلى السماء، فغضب الرب عليهم فأرسل ملاكين لينذرا لوطاً ليخرج من المدينة لأن الرب مهلك المدينة وأهلها. فصدق لوط الرسالة وقبلها، وأخبر أختانه، وطلب إليهم ليرافقوه ولكنه صار كمازح في أعينهم، فتركهم وغادر المدينة، وإذا بالنار والكبريت يُحوِّلان المدينة وأهلها إلى رماد أسود.. فحالة الناس أيام نوح ولوط تشبه حالتهم أيّام مجيء الرب يسوع ثانية، بل تشبه حالة أغلب الناس في أيامنا هذه التي اتّصفت بالاستهتار بالحقائق الإلهية.

أما القسم الأخير من الناس، وهم قلة، فهم المنتظرون مجيء الرب بشوق عظيم، ويمثلهم بذلك صاحب الرؤيا الرسول يوحنا الذي يستهلّ رؤياه بقوله: «هوذا يأتي (المسيح) مع السحاب وستنظره كل عين»(رؤ 1: 7) ويختم رؤياه بقوله على لسان الرب: «أنا آتي سريعاً» ويوحنا يجيب الرب بشوق وإيمان: «آمين تعال أيّها الرب يسوع»(رؤ 22: 20).

هؤلاء أناس يمثّلون السماء على الأرض، فقلوبهم في السماء، وكنوزهم في السماء (مت 6: 21) وسيرتهم في السموات التي منها أيضاً ينتظرون مخلصاً هو الرب يسوع المسيح (في 3: 20) على حد قول الرسول بولس. لذلك سرجهم، كالعذارى الحكيمات، موقدة، وزيتهم في آنيتهم مترع. وكالأمناء المجتهدين يتاجرون بالوزنات وهم من الرابحين، وعندما يأتي سيدهم سيخطفون معه في الجو، ليرثوا معه ملكوته السماوي.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الصــلاة الـربــانـيـــة)*(

 

  • السيد المسيح يعلمنا الصلاة الربانية:

كثيراً ما كان الرب يسوع له المجد ينفرد بالآب السماوي بصلوات حارة، ومناجاة طويلة، في مواضع شتى، ذكر منها جبل الزيتون. «وإذ كان يصلّي في موضع([242]) لما فرغ قال واحد من تلاميذه: يا رب علّمنا أن نصلّي كما علّم يوحنا أيضاً تلاميذه. فقال لهم متى صلّيتم فقولوا:

 

«أبانا الذي في السموات، ليتقدّس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك، كما في السماء كذلك على الأرض. أعطنا خبزنا كفافنا اليوم، واغفر لنا ذنوبنا، كما نحن أيضاً نغفر لمن
أخطأ إلينا، ولا تدخلنا في التجربة، لكن نجّنا من الشرير.
لأن لك الملك والقوة والمجد، إلى الأبد. آمين
» (مت 6: 9 ـ 13 ولو 11: 1 ـ 4).

  • التأثير الروحي للصلاة الربانية:

ومنذ أن علّم السيد المسيح تلاميذه هذه الصلاة، والمسيحيون يرفعونها إلى الآب السماوي، باسم الابن القدوس، في كل آن وأين، وكل ظرف وحين، في السراء والضرّاء في دور العبادة، وخاصة أثناء الاحتفال بالقداس الإلهي أو تلاوة الصلوات الفرضية، كما يصلّيها المؤمنون في دورهم وأماكن عملهم، وهم يشعرون بتأثيرها الروحي البالغ في حياتهم، وقد اختبروا قوتها السامية ومفعولها الإيجابي، ففيها تلبّى حاجات النفس والجسد، وبتلاوتها بخشوع يعبد المؤمنون الإله الحق بالروح والحق، ويمجدونه تمجيداً، وينالون منه تعالى طمأنينة النفس وراحة البال، وسلاماً روحياً، ونجاة من التجارب الصعبة، وخلاصاً من إبليس اللعين وجنده الأشرار، وظفراً بهم جميعاً. وأخيراً يتمتّعون بسعادة روحية في الحياة الدنيا، ويحوزون على رجاء لا يخيب للحياة الأبدية.

إن المؤمن الذي يسكب نفسه أمام الإله الآب بقلب نقي، وضمير طاهر، وهو يتلو الصلاة الربانية بخشوع متأمّلاً معانيها السامية، تصعد صلاته كبخور قدام الرب (مز 141: 2) لأن «طلبة البار تقتدر كثيراً في فعلها»(يع 5: 16) والصلاة الربانية هي كلمة السر لفتح باب السماء على مصراعيه، واستجابة الطلبات المقدمة للآب بإيمان إتماماً لوعد الرب يسوع القائل «اسألوا تعطوا، اطلبوا تجدوا، اقرعوا يفتح لكم» (مت 7: 7 ولو 11: 9 ويو 16: 24).

وقد أحبّ المسيحيون هذه الصلاة، فنقشوها على ظهر قلوبهم، ونظموها شعراً، ولحّنوها نظماً ونثراً بلغاتها العديدة، ولهجاتهم التي لا تحصى، ووقعوها على الآلات الموسيقية، وهم ينشدونها مترنّمين فهي مزمورهم المفضّل. وهي الصورة المختصرة جداً التي رسمها الرب لصلواتهم، والنموذج الذي يقيسون به طلباتهم دائماً.

  • الصلاة الربانية علّمنا إيّاها الرب باللغة السريانية:

وقد أنعم الرب علينا نحن السريان، بأن نرفع صلواتنا إليه تعالى، باللغة السريانية التي قدّسها بلسانه الطاهر، إذ تكلّم بها. فنحن نتلو الصلاة الربانية بذات الألفاظ التي فاه بها الرب يسوع. وقد لحّنها آباؤنا منذ القرون الأولى للميلاد، وننشدها طبقاً للألحان القديمة الشجيّة التي تبعث في النفس خشوعاً ورهبة.

ولكي يتأمل المؤمنون معاني هذه الصلاة، فيرفعوها إلى اللّه بقلوب نقية، ونفوس زكية، رأينا أن نشرحها، مستهلّين الروح القدس ومستندين إلى تفاسير آبائنا الميامين.

  • مقدمة الصلاة الربانية:

تقسم الصلاة الربانية إلى مقدمة وسبع طلبات جوهرية وخاتمة. ففي المقدمة نوجّه الصلاة إلى الآب السماوي قائلين:

«أبانا الذي في السموات»(مت 6: 9):

1 ـ أبانا:

بهذه الكلمة نتقدّم إلى اللّه بروح البنوة ونخاطبه بدالة البنين وندعوه «أبانا» وحين نستخدم كلمة «أب» لنصف بها اللّه تعالى، نقدّم مختصراً للإيمان المسيحي لأننا عندما ندعو اللّه «أبانا» نوضح علاقتنا باللّه، وبأنفسنا وبالقريب. لقد أنعم الرب يسوع علينا لنكون أخوة له وأبناء لأبيه السماوي. لذلك منحنا الحق لندعو أباه «أبانا» واختار هذه الصفة العزيزة مفضلاً إيّاها على سائر الصفات والأسماء الحسنى التي تطلق على الإله العظيم. ذلك أن لفظة «أب» هي أقدس لفظة يفوه بها الإنسان فهل يوجد في الدنيا أعزّ من الأب على قلوب أولاده؟ فكم بالحري إذا كان هذا الأب هو الآب الذي في السماء إلهنا وخالقنا ورازقنا والمعتني بنا؟ فما أسمى النعمة التي منحنا إيّاها الرب بأن يكون إلهنا أبانا.

قال الرب يسوع لتلاميذه مرة: «لا أعود أسمّيكم عبيداً لأن العبد لا يعلم ما يعمل سيّده، لكني قد سمّيتكم أحبّاء لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي»(يو 15: 15). ودعا الفقراء أخوته الأصاغر (مت 25: 40) كما دعا الرسل أخوته بقوله للمجدلية، بعد قيامته: «لا تلمسيني لأني لم أصعد بعد إلى أبي ولكن اذهبي إلى أخوتي وقولي لهم إني لم أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم»(يو 20: 17 ومت 28: 10). وقال الرسول بولس: «إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضاً للخوف بل أخذتم روح التبنّي الذي به نصرخ يا أبا الآب»(رو 8: 15). ويقول الإنجيلي يوحنا: «أما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاداً أي المؤمنون باسمه. الذين ولدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من اللّه» (يو 1: 12و13) فبهذا السلطان الذي أعطانا إيّاه اللّه يحقّ لنا أن ندعوه تعالى (أبانا)، كقول الرسول بولس: «ثم بما أنّكم أبناء أرسل اللّه روح ابنه إلى قلوبكم صارخاً يا أبا الآب، إذاً لست بعد عبداً بل ابناً وإن كنت ابناً فوارث للّه بالمسيح» (غل 4: 7 و رو 8: 17). فلسنا أبناء وحسب بل ورثة على حد تعبير الرسول بولس أيضاً القائل: «فإن كنتم للمسيح فأنتم إذاً نسل ابراهيم، وحسب الموعد ورثة»(غل 3: 26 ـ 29)، فنحن ورثة لأبينا السماوي الحي بمشاركتنا الميراث مع ربنا يسوع المسيح ابن اللّه الحي.

لقد ولدنا من اللّه يوم اعتمدنا باسم الثالوث الأقدس، وحلّ علينا الروح القدس كما حلّ على الرب يسوع يوم عماده في نهر الأردن من يوحنا المعمدان. وجاءتنا الشهادة من السماء بأننا أبناء اللّه، كما جاءت للرب يسوع بعدما صعد من الماء، حيث سمع الصوت من السماء قائلاً: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت»(مت 3: 17). هكذا نولد من الماء والروح ولادة ثانية كقول الرب لنيقوديموس: «الحق الحق أقول لك إن كان أحدٌ لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت اللّه… إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت اللّه. المولود من الجسد جسد هو والمولود من الروح هو روح…» (يو 3: 3 ـ 7).

وصفة البنوة التي ننالها مجاناً من اللّه بولادتنا الروحية توجب علينا محبة أبينا السماوي وطاعة أوامره، وعبادته، والاتّكال عليه ووضع كل رجائنا فيه، وبذلك نكون أولاداً صالحين.

وهذه الصفة ذاتها تسربلنا بقوة فائقة، حتى الأبالسة ترتاع وترتعب منا لما تسمعنا ندعو اللّه «أبانا» وتهرب منا لأنها تعرف بأننا بحماية اللّه أبينا ورعايته وقد وعدنا الرب يسوع قائلاً: «ولكن شعرة من رؤوسكم لا تهلك»(لو 21: 18).

ما أسعدنا أن ننال صفة القرابة مع اللّه، يقول الإنجيلي يوحنا: «أنظروا أية محبة أعطانا الآب حتى نُدعى أولاد اللّه» (1يو 3: 1).

فعلينا كأبناء اللّه أن نكون في شركة مع أبناء اللّه في بيت اللّه، الكنيسة المقدسة. وإن ابتعدنا عن بيت الآب، كالابن الضال، جعنا وشاركنا الخنازير أكل الخرنوب. فعلينا أن نتوب ونعود إليه تعالى، والآب ينتظرنا ليعيد إلينا خاتم العهد عهد البنوة، الصفة الثابتة التي لا تسقط ولكنها تتجدّد، فإذا ظننا بأننا سقطنا من هذه الرتبة وفكّرنا بأنفسنا بأن نقول للآب مع الابن الضال: «لست مستحقاً أن أكون لك ابناً، فاجعلني كأحد عبيدك»، سيضمنا الآب إلى صدره الحنون ولا يدعنا نفوه بهذه العبارة القاسية، بل سيأمر بذبح الكبش المسمّن، ويعيد إلينا خاتم العهد، ويؤكّد لنا بنوتنا له، وأبوته لنا، بقوله: «افرحوا معي لأن ابني هذا كان ميتاً فعاش وكان ضالاً فوجد». إذن نحن أولاده في كل حال. وصفة البنوة تلازمنا حتى في حال البعد عن بيته الإلهي، على أمل العودة إليه تعالى بالتوبة الصادقة.

ونقول (أبانا) بصيغة الجمع، فإن اللّه أبونا جميعاً وهو أبو البشر كافة، وخاصة المولودين منه بالنعمة، كما أوصى السيد المسيح قائلاً: «وأنتم جميعاً أخوة ولا تدعوا لكم أباً على الأرض لأن أباكم واحد الذي في السموات»(مت 23: 8و9). وكأولاد أب واحد محذور علينا التمييز العنصري أو القبلي أو القومي أو الطبقي، وعلينا أن نتّحد بالمحبة، واللّه محبة، ولا يدعوه أحدنا «أبي» بل «أبانا» بصفة الجمع لأننا عائلة واحدة وهو أب واحد لجميعنا، وروح الأبوة يعظم العلاقة المتبادلة بين أولاده فتسمو روح الأخوة.

وإن كلمة «أب» عندما تطلق كصفة للّه تعالى لا تنقص من مقامه جلَّ جلاله. ولكنها تجعل قدرته تعالى وجلاله قريبين منا بحيث نقدر على الاقتراب منه بدالة البنين، وتعظم المحبة المتبادلة بين هذا الآب السماوي وأولاده وتسمو أيضاً إطاعة هؤلاء له واتّكالهم عليه.

2 ـ «الذي في السموات»:

لكي يتميّز الإله الآب عن سائر الآباء، ندعوه «أبانا في السموات» أما آباؤنا البشر فهم في الأرض.

إن اللّه تعالى روح لا يحصره حدّ، موجود في كل مكان كقوله تعالى: «أما أملأ أنا السموات والأرض يقول الرب» (إر 23: 24) ولكن مقره تعالى في السماء كقول الكتاب عنه: «الساكن في السموات»(مز 2: 4) و«الربّ عالٍ فوق كل الأمم. فوق السموات مجده. من مثل الرب إلهنا الساكن في الأعالي. الناظر الأسافل في السموات وفي الأرض»(مز 113: 4 ـ 6) و«إليك رفعت عينيّ يا ساكناً في السموات»(مز 123: 1).

ونصفه بأنه أبونا الذي في السموات، لتتوّجه أفكارنا وأذهاننا وقلوبنا نحو السماء مبتعدين عن الأرضيات، ولكي نتوق السكنى معه في العلاء كوصية الرسول بولس: «أطلبوا مافوق حيث المسيح جالس عن يمين العظمة»(كو 3: 1).

  • الطلبات السبع

الطلبة الأولى: «ليتقدس اسمك»(مت 6: 9):

إن معنى التقديس هو التخصيص والتمييز، فنحن نميّز اسم الرب عن كل اسم في الكون، فإذا قلنا هذا المكان مقدس، أي أنه يختلف عن سائر الأماكن، واسم الرب مقدس لأنه فريد عن سائر الأسماء. ولفظة اسم تشير إلى طبيعة الفرد وشخصيته وقوته. فاسم الرب هو الرب ذاته، وهذا ما عناه صاحب المزامير بقوله: «ويتّكل عليك العارفون اسمك لأنك لم تترك طالبيك يا رب»(مز 9: 10) و«هؤلاء بالمركبات وهؤلاء بالخيل. أما نحن فاسم الرب إلهنا نذكر» (مز 20: 7) ويقول الرب يسوع وهو يناجي الآب: «أنا أظهرت اسمك للناس» (يو 17: 6) كما أمر تلاميذه أن يعمدوا المؤمنين «باسم الآب والابن والروح القدس»(مت 38: 19) فاسم الأقانيم الثلاثة أي قوتهم وسلطانهم هو اسم واحد لأن الثلاثة متساوون بالجوهر. فيقول الرسول بولس عن الرب يسوع: «لذلك رفعه اللّه أيضاً وأعطاه اسماً فوق كل اسم. لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض» (في 2: 10) والرب يسوع يقول لتلاميذه: «لأنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم»(مت 18: 20) وقال الرسول بطرس وقد امتلأ من الروح القدس وهو يجاوب رؤساء اليهود وشيوخهم وكتبتهم على سؤالهم له وليوحنا «بأية قوة وبأي اسم صنعتما أنتما هذا» قال بطرس: «فليكن معلوماً عند جميعكم… أنه باسم يسوع المسيح الناصري الذي صلبتموه أنتم الذي أقامه اللّه من الأموات. بذاك وقف هذا أمامكم صحيحاً… وليس بأحد غيره الخلاص. لأن ليس اسم آخر تحت السماء قد أعطي بين الناس به ينبغي أن نخلص» (أع 4: 5 ـ 12).

إن اسم الرب يتقدس في السماء، فالملائكة برتبهم يمجّدونه دائماً وقد سمعهم النبي أشعيا (6: 3) «هذا نادى ذاك وقال قدوس قدوس قدوس رب الجنود مجده ملء كل الأرض» وكقول صاحب المزامير: «قدوس ومهوبٌ اسمه»(مز 111: 9).

وبقولنا «ليتقدس اسمك» نسأل الرب أن ينشر اسمه القدوس في العالم أجمع لتمجّده الأمم كافة ولئن كلّفنا ذلك احتمال المشقات كما قال الرب: «وستكونون مبغضين من الجميع من أجل اسمي»(مت 10: 12).

وتقديسنا اسمه القدوس يجري بعبادتنا إيّاه تعالى بالروح والحق وتمجيده بألسنتنا وأفكارنا وقلوبنا، وبطاعتنا أوامره الإلهية فنتقدس به، ويتقدّس اسمه بأعمالنا، على حد قوله تعالى: «لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجّدوا أباكم الذي في السموات» (مت 5: 16).

أما إذا حدنا عن سبله المستقيمة وعصينا أوامره الإلهية، فإننا نصير سبباً للتجديف على اسم إلهنا كقول الرسول بولس لأهل رومية: «إن اسم اللّه يجدّف عليه بسببكم بين الأمم…» (رو 2: 24) ولذلك يوصينا الرسول بطرس قائلاً: «وأن تكون سيرتكم بين الأمم حسنة لكي يكونوا في ما يفترون عليكم كفاعلي شر يمجّدون اللّه في يوم الافتقاد من أجل أعمالكم الحسنة التي يلاحظونها»(1بط 2: 12) وقال أيضاً: «بل نظير القدوس الذي دعاكم كونوا أنتم أيضاً قديسين في كل سيرة لأنه مكتوب كونوا قديسين لأني أنا قدوس. وإن كنتم تدعون أباً الذي يحكم بغير محاباة حسب عمل كل واحد فسيروا زمان غربتكم بخوف»(1بط 1: 15 ـ 17).

 

  • الطلبتان الثانية والثالثة

«ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض»(مت 26: 10و11).

1 ـ ليأتِ ملكوتك:

يعد تأسيس ملكوت اللّه على الأرض الغاية القصوى من تجسّد الإله، ولذلك شغل مركز الدائرة في تعاليم الرب يسوع.

فقد جاء يوحنا المعمدان ليهيئ الطريق أمام الفادي فنادى «توبوا فقد اقترب منكم ملكوت اللّه»(مت 3: 2).

وجاء الفادي ينادي: «توبوا لأنه قد اقترب منكم ملكوت اللّه» (مت 5: 17) و«أنه ينبغي لي أن أبشر في المدن الأخر أيضاً بملكوت اللّه لأنني لهذا قد أرسلت»(لو 4: 43).

إن ملكوت اللّه مرحلتان، يقطع المؤمن المرحلة الأولى منهما على الأرض ليتهيّأ لبدء المرحلة الثانية الأبدية في السماء. وقد أسّس الرب ملكوته على الأرض، أي كنيسته المقدسة الحاوية نعمه الإلهية، ووسائل الخلاص للإنسان، وجعل منها مجتمعاً مقدساً تتمّ فيه مشيئة الآب السماوي. فالطلبة القائلة: لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض تعني أن تكون الكنيسة المقدسة أي ملكوت اللّه على الأرض مكملة إرادة اللّه كما يكملها الملائكة في السماء. وقد دعانا اللّه إلى ملكوته كقول الرسول بولس «الذي دعاكم إلى ملكوته» (1تس 2: 11). وقال الرب «ها ملكوت اللّه في داخلكم» (لو 17: 21). فقد صرنا أعضاء في هذا الملكوت الذي هو جسده السري، وهو رأس الجسد، إذ غسلنا وطهرنا بدمه الأقدس ونقّانا وأقامنا له كنيسة مجيدة لا عيب فيها.

وقد شبّه الرب ملكوته الإلهي على الأرض، بحبة الخردل التي هي أصغر جميع البذور، أخذها إنسان وزرعها في بستانه فنمت وصارت شجرة كبيرة وتآوت طيور السماء في أغصانها. (مت 13: 31 ولو 13: 19).

كما شبّه الرب ملكوت السموات بخميرة أخذتها امرأة وخبأتها في ثلاثة أكيال دقيق حتى اختمر الجميع (مت 13: 33 ولو13: 21) وبالشبكة المطروحة في البحر والجامعة أنواعاً من السمك عديدة فلما امتلأت أصعدوها إلى الشاطئ وجلسوا وجمعوا الجياد إلى أوعية. وأما الأردياء فطرحوها خارجاً (مت 13: 47و48).

هكذا أسس الرب ملكوته على الأرض، وشرح أهدافه الإلهية لتلاميذه بأمثال، حتى أنه بعد قيامته وقبل صعوده إلى السماء كان يظهر لهم أربعين يوماً «ويتكلّم عن الأمور المختصة بملكوت اللّه»(أع 1: 3).

ولما نصلي قائلين: «ليأت ملكوتك» إنما نطلب من الرب ليملك على قلوبنا وعقولنا ونتمنّى أن نكون في حال القداسة بعيدين عن الخطية التي تبعدنا عن الرب. فنحن هياكل اللّه، (2كو 6: 16) وهياكل الروح القدس (1كو 6: 19) على حد تعبير الرسول بولس، وفي حال الخطية يهرب الروح منا، لذلك طلب داود من الرب في مزمور التوبة قائلاً: وروحك القدوس لا تنزعه مني (مز 51: 11) فإذا كان اليهود قد رفضوا أن يملك المسيح عليهم وقالوا لبيلاطس «ليس لنا ملك إلاّ قيصر» (يو 19: 15) فنحن نطلب أن يكون المسيح مالكاً نفوسنا وأفكارنا، مهيمناً على قلوبنا، وأن نكون غنم رعيته.

ولما نطلب أيضاً إلى الرب قائلين «ليأتِ ملكوتك» نقصد المرحلة الثانية من هذا الملكوت التي تبدأ بمجيء الرب يسوع ثانية لدينونة العالمين، وبصلاتنا نتوق إلى مجيء هذا اليوم العظيم، حيث سيأتي الرب يسوع بمجد أبيه مع ملائكته القديسين، ويملك معه الصالحون في ملكوته السماوي الأبدي. هذا ما عناه الرب بقوله لبيلاطس: «مملكتي ليست من هذا العالم»(يو 18: 36).

عندما صعد الرب يسوع إلى السماء، وقف ملاكان بالتلاميذ قائلين: «أيها الرجال الجليليون ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء. إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقاً إلى السماء»(أع 1: 11).

هذا عزاء تلاميذ الرب، إن الرب سيأتي ثانية «سيأتي الآتي ولا يبطئ»(عب 10: 37)، لذلك حيا المؤمنون أحدهم الآخر في فجر المسيحية بالعبارة السريانية «ماران أثا» أي الرب آت (1كو 16: 22) ولا تزال الكنيسة حتى اليوم واقفة على أصابع أقدام الانتظار متطلّعة إلى السماء منتظرة المسيح يسوع آتياً على السحاب (مت 24: 30 ومر 13: 26 ولو 21: 27) ليقيم الأموات «ونحن الأحياء الباقين سنخطف معه في الجو» على حد قول الرسول بولس (1تس 4: 17).

هذا ما حدا بيوحنا الحبيب أن يكتب في الفصل الأول من سفر الرؤيا قائلاً: «هوذا يأتي مع السحاب وتنظره كل عين» (رؤ 1: 7) وينهي سفره بشوقه إلى مجيء الرب بقوله: «تعال أيها الرب يسوع»(رؤ 22: 20) وكأني به يقول «ليأت ملكوتك» لينال الأبرار مكافأتهم، ليدعوهم الرب إلى ملكوته بقوله: «تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم»(مت 25: 34) فقد غلبوا وسينالون الجعالة، وإكليل المجد الذي أعدّه اللّه للغالبين، الذين حافظوا على امتيازات ملكوته على الأرض، فاستحقوا أن يدخلوا ملكوته في السماء.

فهل حافظنا على هذه الامتيازات وتمسّكنا بقانون ملكوت اللّه، بالإيمان والأعمال الصالحة وإعطاء الثمار التي تليق بالتوبة!؟ لقد حاد اليهود عن جادة الحق لذلك قال لهم الرب: «إن ملكوت اللّه ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره» (مت 21: 43). فلنحذر لئلا ينزع الملكوت منا أيضاً.

وقد أوصانا الرب أن نسهر منتظرين مجيئه، فنحن لا نعلم متى يأتي ولكنه آت. وعاموص النبي يقول: «استعد للقاء إلهك»(عا 4: 12). فهل نحن مستعدّون؟!

ما أجمل أن نقرن طلبتنا «ليأت ملكوتك» بطلبة اللص التائب إلى الرب يسوع قائلاً «اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك» (لو 23: 42).

لنفحص قلوبنا ونفوسنا لنرى هل نحن مستعدون للقاء إلهنا؟ لقد قال الرب «ليس كل من يقول يا رب يا رب يدخل ملكوت السموات. بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السموات» (مت 7: 21). لذلك نردف طلبة «ليأت ملكوتك» بطلبة:

2 ـ «لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض»:

قال أحدهم «ليست الصلاة محاولة لإخضاع إرادة اللّه لرغباتنا بل هي دائماً محاولة لإخضاع إرادتنا لمشيئة اللّه».

إن اللّه تعالى عليم بخفايا القلوب فهو: «فاحص القلب ومختبر الكلى»(إر 17: 10). إنه خبير بحياتنا، وعلمه ومعرفته لا حدود لهما، وهو أدرى بمصالحنا منا، وهو حكيم، ومحب، ويعلم ما يسعدنا. لذلك نطلب إليه أن تكون مشيئته لا مشيئتنا في كل أمورنا. مع أنه منحنا الحرية المطلقة التامة في كل تصرّفاتنا في الحياة. ونطلب إليه لتكون هذه الحرية مقيّدة في حفظ وصاياه الإلهية فتتمّ مشيئته في كل تصرفاتنا.

إن طلبتنا «أن تكون مشيئته» نابعة من ثقتنا بمحبته تعالى لنا «لأنه هكذا أحبّ اللّه العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية»(يو 3: 16) «ولكن اللّه بيَّن محبته لنا لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا» (رو 5: 8).

إن مشيئته تعالى إذا عمَّت على الأرض عمَّ السلام، وملك البر، وبادت الخطية.

إننا لا نتمكن من إتمام مشيئة اللّه ما لم نعرف هذه المشيئة، والسبيل الوحيد إلى معرفتها هو المواظبة على دراسة الكتاب المقدس، فصاحب المزامير يطلب إلى الرب قائلاً: فهِّمني فأتعلم وصاياك (مز 18: 73) و«علِّمني أحكامك»(مز 118: 108) و«أنا عبدك فهمني فأعرف شهاداتك»(مز 118: 135). والرسول بولس يوصينا قائلاً: «لا تكونوا ناقصي الرأي بل افهموا ما مشيئة اللّه الصالحة الكاملة»(إف 5: 17).

كثيراً ما تستولي علينا أهواء الجسد كقول الرسول بولس «فإني أعلم أن الخير لا يسكن فيَّ أي في جسدي» (رو 7: 18) فإننا نتوق إلى عمل الخير، ولكننا نعمل الشر الذي نبغضه ولا نرغب فيه، ففي طلبتنا إلى اللّه قائلين «لتكن مشيئتك» نودّ أن نتمّم مشيئة اللّه لا مشيئة الجسد وأن نعمل الخير بقوة اللّه التي تظهر في ضعفنا.

إن خير مثال لنا بذلك الرب يسوع الذي وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب (في 5: 8) بعد أن سلَّم مشيئته بيد أبيه السماوي حيث قال له في بستان الجثسيماني «لتكن لا مشيئتي بل مشيئتك»(لو 22: 42) فإذا كنا قد ولدنا «لا من مشيئة رجل بل من اللّه»(يو 1: 13) لتحيا بحسب مشيئته تعالى مسلِّمين مشيئتنا بيده بنكران الذات، والتضحية بكل عال ونفيس، خاصة بالإرادة الحرة، حاملين صليبه، سائرين وراءه إتماماً لأمره القائل: «من أراد أن يكون لي تلميذاً فليكفر بنفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعني»(مت 16: 20) فأول شرط للتلمذة هو طاعة إرادة اللّه، وأخيراً تحمّل الآلام في سبيله، دون تذمّر، ولسان حالنا يقول مع أيوب الصدّيق: «كما حَسُنَ عند الرب هكذا صار فليكن اسمه مباركاً»(أي 1: 21).

وبإتمامنا إرادة اللّه وتسليمنا ذواتنا بيديه وطلبنا أن تكون مشيئته تعالى، تتقوّى أواصر القرابة بيننا وبينه تعالى طبقاً لوعد الرب يسوع القائل: «كل من يفعل إرادة أبي الذي في السموات هو أخي وأختي وأمي»(مت 12: 50).

فلنقبل إرادة اللّه بفرح ومحبة وعن اختيار تام، واثقين بمحبة اللّه لنا، وعنايته بنا، وعدالته، وقداسته، ورحمته في معاملتنا «ولتكن مشيئته كما في السماء كذلك على الأرض».

 

  • الطلبة الرابعة

«خبزنا كفافنا أعطنا اليوم»(مت 6: 11):

إن المعنى المباشر لهذه الطلبة هو الغذاء الجسدي اليومي، فاللّه تعالى رازقنا ومقيتنا، لذلك نطلب منه خيرات هذه الحياة ونفهم بالخبز ما كان يختص بالأكل والشرب أو غير ذلك من حاجات الجسد. جاء في إنجيل لوقا «إن المسيح دخل إلى بيت أحد رؤساء الفريسيين ليأكل خبزاً»(لو 14: 1) فلفظة خبز هنا تعني كل ما يختص بالقوت. قال صاحب المزامير مناجياً الرب: «إياك تنتظر عيون الجميع فإنك أنت الذي ترزقهم طعامهم في حينه»(مز 114: 15) و«الجميع يرجونك لترزقهم أكلهم في أوانه ترزقهم فيلتقطون تبسط يدك فيشبعون خيراً» (مز 103: 27).

«خبزنا كفافنا أعطنا اليوم».

ويرفع هذه الصلاة إلى اللّه الأغنياء والفقراء. فالفقراء يسألون أن يسدّ الرب حاجتهم. أما الأغنياء ففي طلبهم من اللّه خبزهم اليومي، وهم راتعون في بحبوحة من العيش إنما يشكرون اللّه على نعمته، ويتواضعون طبقاً لوصية الرسول بولس لهم: «ألاّ يستكبروا ولا يتكلّموا على الغنى غير الثابت بل على اللّه الحي الذي يؤتينا كل شيء لنتمتع به» (1تي 6: 17). والغني بهذه الطلبة يأخذ درساً لإتمام إرادة اللّه ومساعدة أخيه الفقير خاصة وهو يقول «أعطنا» لا «أعطني» دلالة على الاهتمام بالجميع لا بالذات فقط، والسعي لخير القريب فيشرك معه الفقراء بالخيرات التي أعطاه اللّه إيّاها.

قال يوحنا الذهبي الفم: «إننا نطلب ليس فقط أن نعطى القوت بل أيضاً أن يجعل اللّه في الخبز اليومي قوةً تجدينا سلامة وخلاصاً كي يستفيد الجسد من القوت، والجسد يخدم النفس»، فكلمة خبز إذن تشمل هنا كل ما يحتاجه الإنسان في حياته على الأرض حتى الصحة التامة لتناول الطعام الضروري للجسد، فقد يكون الطعام متوفراً لكننا لا نستطيع أن نتناوله لانحراف صحتنا.

ونحن لا نطلب الأمور الجسدية كأنها غايتنا القصوى، بل لسد عوزنا، لنحيا، ونمجّد اللّه، طبقاً لوصية الرسول بولس القائل: «فإذا كنتم تأكلون أو تشربون أو تفعلون شيئاً فافعلوا كل شيء لمجد اللّه» (1كو 10: 31).

كان الإنسان قبل سقوطه بالخطية يحرث الفردوس يأكل من ثمره، ولما سقط لُعنت الارض بسببه، وحكم عليه أن يأكل خبزه بعرق جبينه (تك 3: 18). وكم حرث وزرع وانتظر، ولم يحصد بسبب الآفات أو الكوارث الطبيعية؟ فعلى الإنسان أن يعمل بجد ويتكل على اللّه، ويصلي إليه تعالى ليعطيه خبزه الكافي، «فليس الغارس إذن بشيء ولا الساقي، بل اللّه الذي ينمي» (1كو 3: 8).

إن الرب يعتني بأجسادنا كاعتنائه بأرواحنا. وهو يعرف ما نحتاج إليه قبل أن نسأله. ألم يكثر الخبزات في البرية حيث أشبع آلاف الناس مرتين. وفي الوقت ذاته أوصاهم قائلاً: «اعملوا لا للطعام البائد بل للطعام الباقي للحياة الأبدية الذي يعطيكم ابن الإنسان لأن هذا اللّه الآب قد ختمه» (يو 6: 27) وقال أيضاً: «لا تهتموا بحياتكم بما تأكلون وبما تشربون ولا لأجسادكم بما تلبسون، أليست الحياة أفضل من الطعام والجسد افضل من اللباس. انظروا إلى طيور السماء إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن، وأبوكم السماوي يقوتها ألستم أنتم بالحري أفضل منها» (مت 6: 25و26).

إن الاهتمام بحاجات الجسد ليس فقط جائزاً بل واجباً أيضاً على الإنسان، وإن الاجتهاد فضيلة، والكسل رذيلة، والعبد الشرير والكسلان يطرح إلى الظلمة الخارجية (مت 25: 26) ولكن الاهتمام بهذه الأمور الدنيوية إذا بلغ درجة الجشع والشك بعناية اللّه والاضطراب وعدم الثقة به تعالى ينقلب هذا الاهتمام إلى قلق مصدره قلة إيمان. إن الاهتمام الممدوح يعبّر عنه سليمان في سفر الأمثال وهو يسأل اللّه تعالى قائلاً: «لا تجعل حظي الفاقة ولا الغنى بل ارزقني من الطعام ما يكفيني» وذكر الرسول بولس: التقوى مع القناعة تجارة عظيمة… (أم 30: 8) وهذا التعبير يلخّص بعبارة «خبزنا كفافنا أعطنا اليوم» وخبزنا هو الخبز الذي نستحقه، وقد حصلنا عليه بعرق جبيننا فهو خبز الحلال الذي لم نسلبه من أحد، ولم نحصل عليه بطريقة غير مشروعة. وهو (كفافنا) أي ما يكفينا منه وتظهر هنا فضيلة القناعة. «لأننا لم ندخل العالم بشيء وواضح أننا لا نقدر أن نخرج منه بشيء. فإن كان لنا قوت وكسوة فلنكتف بهما» (1تي 6: 7و8). وإن اللّه يعتني بالجميع «فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين» (مت 5: 45).

وعندما نسأله أن يعطينا خبزنا كفافنا اليوم، نؤكّد وصيته لنا بقوله «فلا تهتمّوا بالغد لأن الغد يهتمّ بما لنفسه يكفي اليوم شرّه» (مت 6: 34) أي لا تقلقوا كثيراً على المستقبل فاللّه يعتني بكم. ألم يعتنِ بشعب العهد القديم فكان يعطيهم «المنّ» في البرية يوماً فيوماً ولكن إذا احتفظ أحدهم بالمن لليوم التالي كان يجده قد فسد.

الخبز الروحي:

يفهم بعض الآباء من لفظة (الخبز) المذكورة في الصلاة الربانية، ليس فقط كل ما نحتاجه من قوت لحفظ الجسد حياً، ونامياً، وقوياً، بل أيضاً كل ما يمنحنا إياه اللّه من مواهب لأجل استمرار الحياة الروحية للروح لخلاصها ونيلها الحياة ونمو العطايا الصالحة لها.

ففي طلبنا (خبزنا) نطلب خبزنا الروحي الذي هو المسيح يسوع ربنا الذي نتغذى به روحياً، ونتوق إلى هذا الغذاء الروحي كل يوم، فقد قال الرب عن نفسه: «أنا هو الخبز الذي نزل من السماء»(يو 6: 41 وقال أيضاً: «من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيّ وأنا فيه»(يو 6: 56) وقال لتلاميذه: «خذوا كلوا هذا هو جسدي» (مت 26: 26) فمثلما يتغذّى الجسد من الخبز البسيط، كذلك تتغذى الروح من الخبز الحي الذي هو القربان المقدس. وقد قال الرب على لسان صاحب الرؤيا: «من يغلب أعطيه المنّ» (رؤ 2: 17).

وكذلك يفسّر بعضهم «الخبز» بكلمة اللّه المعطاة منه تعالى في كتابه المقدس، فعلى المؤمن أن يواصل دراسة الكتاب، لتكون كلمة اللّه غذاء روحياً له.

 

  • الطلبة الخامسة

«واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضاً لمن أخطأ إلينا» (مت 6: 12):

إن الخطية حال فساد الإرادة لدى الإنسان، وقد وصفت بأنها التعدي على وصايا اللّه، كقول الرسول يوحنا «من يفعل الخطية يفعل التعدي» (1يو 3: 4) فإذا قلنا تعدى السهم الهدف، نعني بذلك أنه لم يصبه، أي خرج عنه، وكذلك من يخطئ يكون قد تعدى وصايا اللّه وخرج عنها. فإن جوهر الخطية هو مقاومة اللّه بعدم إطاعة أوامره وتجنّب نواهيه وإهمال وصاياه تعالى. وإحدى الألفاظ السريانية لكلمة خطية هي: (حَوبو) وتعني (الدَّين) والدين هو عدم الوفاء بالواجب. فنحن نخطئ عندما لا نفي بواجبنا للّه، أي لا نقوم بواجبنا نحوه تعالى. فليست الخطية إذن عمل الشر فحسب بل هي أيضاً عدم عمل الخير. ليست هي تجنّب الرذيلة فقط بل أيضاً عدم ممارسة الفضيلة. وإذا كانت شريعة العهد القديم شريعة نهي، فشريعة العهد الجديد هي شريعة أمر.

وفي هذه الطلبة يريدنا الرب أن نفحص قلوبنا، ونعترف أمامه بأننا خطاة. فإننا وإن كنا قد تبررنا بدم المسيح يسوع مخلّصنا، فإننا معرّضون للسقوط في الخطية طالما نحن لابسون الجسد، كقول الكتاب «لأنه ليس إنسان لا يخطئ» (1مل 8: 46). ولكي نعطي مجداً للّه، علينا أن نعترف بخطايانا، كما فعل العشّار حين وقف بخشوع أمام اللّه، وهو يقرع صدره ويقول: «ارحمني اللهم أنا الخاطئ» (مت 18: 13) ونزل إلى بيته مبرراً.

إن الرب لا يشاء موت الخاطئ بل أن يتوب فيحيا، لذلك فسح لنا مجال التوبة ووعد بأن يقبل كل من يقبل إليه تائباً، ولا بد من أن يسبق المغفرة ندامة تامة، وتبكيت صارم، وجزم بعدم العودة إلى الخطية، وتغيير لسيرة الإنسان كبرهان على صدق توبته، وعلامة على قبول اللّه له ونيله المغفرة. وفي الصلاة الربانية ونحن نطلب المغفرة من أبينا السماوي، نؤكّد له بأننا قد نفّذنا أوامره، وغفرنا لكل من أخطأ إلينا بأي نوع كان. لأن هذه الطلبة مشروطة، لذلك يؤكّد الرب على وجوب إتمام الشرط فيها، فبعد أن انتهى الرب من سرد الصلاة الربانية قال: «فإنكم إن غفرتم للناس زلاتهم يغفر لكم أبوكم السماوي زلاتكم، وإن لم تغفروا للناس فأبوكم أيضاً لا يغفر لكم زلاتكم» (مت 6: 14و15). فإذا كان اللّه القدير يغفر لنا ذنوبنا فما أجدر أن يغفر بعضنا لبعض الخطايا والذنوب. وقد أمرنا اللّه أن نحبّ بعضنا بعضاً وحتى أن نحبّ أعداءنا (مت 5: 44) والمحبة تقودنا إلى المغفرة. وقد أوصانا الرب أيضاً قائلاً: «إذا قمتم للصلاة اتركوا لمن لكم عليه شيء كي يغفر لكم أبوكم السماوي خطاياكم» (مر 11: 25). وكان هو مثالاً لنا فعلى الصليب طلب من أبيه أن يغفر لصالبيه لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون» (لو 23: 34) وقد اقتدى به اسطيفانس بكر الشهداء فطلب المغفرة لراجميه بقوله: «يا رب لا تقم لهم هذه الخطية» (أع 7: 6).

ولما سأل بطرس الرب مرة قائلاً: «كم مرة يُخطئ إليّ أخي وأنا أغفر له. هل إلى سبع مرات. قال له يسوع لا أقول لك إلى سبع مرات بل إلى سبعين مرة سبع مرات» (مت 17: 21و22) ثم ضرب مثل الإنسان الذي حاسب عبيده وسامح العبد الذي كان مديناً بعشرة آلاف وزنة. ولما خرج هذا العبد من عند سيده وجد واحداً من العبيد رفقائه كان مديناً له بمئة دينار فأمسكه، وأخذ بعنقه قائلاً: أوفني ما لي عليك فخرّ العبد رفيقه على قدميه وطلب إليه قائلاً: تمهّل عليّ فأوفيك الجميع. فلم يُرد بل مضى وألقاه في سجن حتى يوفيَ الدين، فلما رأى العبيد رفقاؤه مما كان حزنوا جداً وأتوا وقصّوا على سيدهم كل ما جرى. فدعاه حينئذ سيده وقال له: أيها العبد الشرير كل ذلك الدين تركته لك لأنك طلبت إليّ أفما كان ينبغي أنك أنت أيضاً ترحم العبد رفيقك كما رحمتك أنا. وغضب سيده وسلّمه إلى المعذّبين حتى يوفيَ كل ما كان له عليه. فهكذا أبي السماوي يفعل بكم أن لم تتركوا من قلوبكم كل واحد لأخيه زلاته» (مت 18: 23 ـ 35).

ففي طلبتنا من اللّه أن يغفر لنا ذنوبنا وفي مغفرتنا لمن أخطأ إلينا، نستأصل الغضب والحقد من نفوسنا، فإن خطية واحدة مهما صغرت تعكّر صفو حياتنا الروحية بل تضعنا في صف الخطاة المذنبين حيث تطفأ نار القداسة من قلوبنا «لأن من حفظ كل الناموس وإنما عثر في واحدة صار مجرماً في الكل» (يع 2: 10) على حد قول الرسول يعقوب، ولذلك فالرسول بولس يوصينا قائلاً: «اغضبوا ولا تخطئوا. لا تغرب الشمس على غيظكم. ولا تعطوا إبليس مكاناً وكونوا لطفاء بعضكم نحو بعض شفوقين متسامحين كما سامحكم اللّه أيضاً في المسيح» (أف 4: 26و27و32).

 

  • الطلبتان السادسة والسابعة

«لا تدخلنا في التجربة، لكن نجّنا من الشرير» (مت 6: 13)

1 ـ لا تدخلنا في التجربة:

بعد أن طلبنا من اللّه مغفرة الخطايا، وتغمّد الذنوب، التي سبق أن اقترفناها، نطلب منه هنا أن يبعدنا عن أسباب الخطية. فالتجربة هي الامتحان، والرسوب في هذا الامتحان هو السقوط في الخطية، والمجرّب هو إبليس عدونا كقول الرسول بطرس «اصحوا واسهروا فإن إبليس خصمكم كالأسد يزأر ويجول ملتمساً من يبتلعه» (1بط 5: 8) وقول الرسول بولس: «إن مصارعتنا ليست مع دم ولحم بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشر الروحية في السماويات» (أف 6: 12) وهذه القوات الشريرة قوات إبليس التي تحاربنا هي عدوة اللّه وهي القوة المخربة التي صارت رمز كل أمر ضد اللّه وضد الإنسان المحب للّه. فعلينا أن نحاربها لنكون إلى جانب اللّه ومحاربتها تكون بسلاح الصلاة والصوم كوصية الرب: «وأما هذا الجنس فلا يخرج إلا بالصلاة والصوم» (مت 17: 21).

وإننا جميعاً معرّضون للتجارب، خاصة بعد نوال مغفرة خطايانا حيث يتفاقم الخطر علينا بالسقوط ثانية في الخطية، لذلك يقول الرسول بولس: «إذاً من يظن أنه قائم فلينظر أن لا يسقط» (1كو 10: 12) ويكشف لنا الرب يسوع حيل إبليس وأساليبه في القتال بقوله تعالى: «إذا خرج الروح النجس من الإنسان فإنه يجتاز في أماكن ليس فيها ماء يطلب راحة ولا يجد. ثم يقول ارجع إلى بيتي الذي خرجت منه. فيأتي ويجده فارغاً، مكنوساً مزيّناً. ثم يذهب ويأخذ معه سبعة أرواح أخر أشرّ منه فتدخل وتسكن هناك فتصير أواخر ذلك الإنسان أشرّ من أوائله» (مت 12: 43 ـ 45).

كثيراً ما كانت التجربة مفيدة فقد أظهرت صمود الآباء الأبرار وفضيلتهم، ولذلك يقول الرسول بولس: «فمن لا يُجاهد لا ينال الإكليل» (2تي 2: 5) وقال الرسول يعقوب: «طوبى للرجل الذي يصبر على التجربة لأنه إذا زُكي ينال إكليل الحياة الذي وعد به اللّه الذين يحبونه» (يع 1: 12). وقال أيضاً: «إن وقعتم في تجربة احسبوها لكم كل سرور» (يع 1: 2). وقد صرّح الرب يسوع بأن طريقنا إلى الملكوت مليء بالآلام «ولكن الذي يصبر إلى المنتهى يخلص» (مت 10: 22).

إن حياتنا على الأرض هي صراع دائم، وحرب طاحنة مستمرة (أي 7: 1) وقد أوصانا الرب أن نطلب من أبيه ألاّ يدخلنا في التجربة، ذلك أنه تعالى يعرف ضعف طبيعتنا كقوله: «أما الروح فنشيط وأما الجسد فضعيف» (مت 26: 41) كما يعرف الرب جيداً ميلنا إلى الخطية وسرعة سقوطنا لذلك حذّر سمعان بقوله له: «سمعان سمعان هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة. ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك، وأنت متى رجعت ثبّت إخوتك» (لو 22: 32). وسمعان هذا إذ وثق بنفسه أكثر مما يجب وقال للرب «لو الجئت إلى أن أموت معك لا أنكرك» (مت 26: 56) جرّب وسقط في الخطية، إذ أنكر الرب ثلاث مرات، أمام جارية حقيرة. ولولا بكاؤه، وندامته النصوح، لكان مصيره مصير يهوذا التلميذ الخائن.

ما أجمل ما كتبه الرسول بولس وهو يشجع المؤمنين على مقاومة إبليس قائلاً: «وإله السلام يسحق الشيطان عند أرجلكم سريعاً» (رو 16: 20) والرسول بولس يعرف حيل إبليس وقد كتب إلى أهل تسالونيقي يقول: «وأردنا أن نأتي إليكم أنا وأبولوس مرة ومرتين وإنما عاقني الشيطان» (تس 2: 18).

وإن إبليس عدونا يتخفّى ولا يظهر أمامنا كما فعل يوم جرّب أبوينا الأولين وقد يأتينا بشكل صديق، وناصح، ومحب. لذلك علينا أن نحذره، متجنبين أسباب الخطية ومصادرها، وأصولها ومواقعها ومريديها كما أوصانا الرب بقوله: فإن كانت عينك اليمنى تعثرك فاقلعها وألقها عنك لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يلقى جسدك كله في جهنم» (مت 5: 29و30 ومر 9: 47). كما يحذّرنا صاحب المزامير من معاشرة رجال السوء حيث يقول: «طوبى للرجل الذي لم يسلك في مشورة الأشرار وفي طريق الخطاة لم يقف وفي مجلس المستهزئين لم يجلس. لكن في ناموس الرب مسرّته، وفي ناموسه يلهج نهاراً وليلاً، فيكون كشجرة مغروسة على مجاري المياه، التي تعطي ثمرها في أوانه وورقها لا يذبل وكل ما يصنعه ينجح» (مز 1: 1 ـ 3).

وإن السيد المسيح مثالنا بالتغلب على إبليس. فقد أخذه الروح باختياره وسماحه إلى البرية، فجُرّب من إبليس بعدما صام أربعين نهاراً وأربعين ليلة، وجاع. وانتصر على الشيطان اللعين لينصرنا معه عليه وكلّم الرب إبليس في آخر تجربة كشخص أمامه قائلاً له: «اذهب يا شيطان» (مت 4: 10) ويقول البشير لوقا: «لما أكمل إبليس كل تجربة فارقه إلى حين» (لو 4: 13) فالشيطان شخص روحي، مقتدر جداً، يقصد إهلاك الإنسان قال عنه الرب يسوع: «ذاك كان قتالاً للناس من البدء ولم يثبت في الحق لأنه ليس فيه حق، متى تكلّم بالكذب فإنما يتكلّم مما له لأنه كذّاب وأبو الكذاب» (يو 8: 44) ولكن الرب يسوع انتصر عليه وأعطانا النصر عليه وحق للرب أن يقول: «ثقوا أنا غلبت العالم» (لو 16: 23) ويقول الرسول يوحنا عنه: «لأجل هذا أظهر ابن اللّه كي ينقض أعمال إبليس» (1يو 3: 8). وعلى الصليب تمّ نصر الرب على عدو البشرية، إذ سحق رأس إبليس تحت الصليب وحطّم به قواه، وقصم ظهره، وهشّم أضراسه وقلّم أظفاره. وأعطانا الصليب سلاحاً لا يقهر لنحارب عدونا الروحي ونظفر به بالمسيح يسوع ربنا الذي مات من أجلنا، وقام من بين الأموات وأقامنا معه. وبذلك نجّانا من الشرير. ولكن إبليس الذي فارق المسيح إلى حين، وعاود ونزل معه في المعركة المصيرية معركة الصليب، لا يزال يحاول دائماً قهر أتباع المسيح يسوع، فعلينا ان نكون دائماً مع المسيح لنضمن الغلبة على عدوه وعدونا إبليس، وأن نكون ساهرين يقظين مصلّين إتماماً لوصية الرب «اسهروا وصلّوا لئلا تدخلوا في تجربة» (مت 26: 41). ففي السهر والصلاة تستمر علاقتنا بالرب يسوع وغلبتنا على عدونا الروحي «ومن يغلب (قال إلهنا) هكذا يلبس ثياباً بيضاً ولا أمحو اسمه من سفر الحياة، وأنا أعترف باسمه قدام أبي وملائكته» (رؤ 3: 4) «من يغلب أجعله عموداً في هيكل إلهي» (رؤ 3: 21).

2 ـ «لكن نجّنا من الشرير»:

 

تعتبر هذه الطلبة تتمة للطلبة السابقة. فنجاتنا من الشرير كنجاتنا من التجربة والعكس بالعكس. والرب قد سأل أباه السماوي لأجلنا قائلاً: «لست أسأل أن ترفعهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرير» (يو 17: 15) وهذا الشرير هو الشيطان الذي تظهر خطورته بحيله فهو يخفي نفسه كما فعل في الفردوس عندما جرّب أبوينا الأولين، أو يظهر بأشكال شتّى، حتى أن الرسول بولس يقول عنه: «لأن الشيطان نفسه يغيّر شكله إلى شبه ملاك نور» (2كو 11: 14) وما أخطر العدو المتخفي. ويوصينا الرسول بولس قائلاً: «البسوا سلاح اللّه الكامل كي تقدروا أن تثبتوا ضد مكائد إبليس» (اف 6: 11) فطالما نحن لابسون سلاح اللّه الكامل لا نخاف إبليس، لأن الرب يحيطنا بعنايته، ويرمقنا بعين رعايته وقد وعدنا قائلاً: «أليس عصفوران يباعان بفلس. وواحد منهما لا يسقط على الأرض بدون أبيكم. وأما أنتم فحتى شعور رؤوسكم جميعها محصاة. فلا تخافوا. أنتم أفضل من عصافير كثيرة» (مت 10: 29 ـ 31 ولو 12: 7). ما أسعد المؤمن الذي يشعر بأن اللّه يرعاه. كما شعر داود يوم رتل مزموره الثالث والعشرين قائلاً: «الرب راعيّ فلا يعوزني شيء. ايضاً إذا سرت في وادي ظل الموت لا أخاف شراص لأنك معي» (مز 23: 1و4) فاللّه راعينا. وهو معنا و«إن كان اللّه معنا فمن علينا» (رو 8: 31) وقد دعي اسمه علينا وهو عمانوئيل الذي تفسيره اللّه معنا، فعلينا أن نكون معه، فيهرب الشرير عنا.

  • الخاتمة

«لأن لك الملك والقوة والمجد إلى الأبد. آمين»:

 

تلخّص لنا هذه الخاتمة الصلاة الربانية. ففي بدئها أن يأتي ملكوت اللّه، والآن نعلن أن الملك له تعالى، ولا غرو فسلطانه في الأرض والسماء ويشمل سائر المخلوقات الروحية والبشرية وغيرها. كما أننا نعترف في هذه الخاتمة أن اللّه تعالى هو القوي الذي أمره ينفذ لا محالة فهو الآمر، والناهي، ولذلك طلبنا إليه في صلاتنا أن تكون مشيئته لا مشيئة أي مخلوق مهما سما.

وبما أن للّه الملك والقوة فله المجد أيضاً. وعلى سائر المخلوقات أن تمجّده، وتسبحه، وتعظّمه وتقدس اسمه الإلهي كما سبق وطلبنا إليه.

فالملك للّه خالقنا ومبدعنا، ونحن عمل يديه وعبيده وأبناؤه بالنعمة، وغنم رعيته.

والقوة لإلهنا فهو الذي يهيمن على العالمين. وقد أعطانا القوة والسلطان على الأبالسة أعدائه وأعدائنا، ولذلك عندما قال له التلاميذ السبعون: «يا رب حتى الشياطين تخضع لنا باسمك» قال لهم: «رأيت الشيطان ساقطاً مثل البرق من السماء. ها أنا أعطيكم سلطاناً لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو. ولا يضرّكم شيء. ولكن لا تفرحوا بهذا أن الأرواح تخضع لكم بل افرحوا بالحري أن أسماءكم كتبت في السموات» (لو 10: 17 ـ 20).

وإن مملكة إلهنا ثابتة إلى الأبد. «وأبواب الجحيم لن تقوى عليها» (مت 16: 18) ليتمجّد اسمه القدوس فيها كما في السماء كذلك على الأرض «ولا يكون لملكه انقضاء» (لو 1: 33) لأن مملكته هذه لا بداءة لها ولا نهاية.

آمين. وتعني هذه اللفظة فليكن. كما تعني أيضاً: حقاً (2كو 1: 20) وإذ نختم بها الصلاة الربانية وكل صلاة كأننا نريد أن نقول اللهم اقبل صلاتنا. آمين.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

لمحات من تاريخ)*(

النبي يونان وصوم نينوى

 

 

  • شخصية يونان التاريخية:

تعني كلمة يونان في اللغتين السريانية والعبرية، معنى (حمامة). وقد جاء في التلمود أن يونان ابن أرملة صرفة صيدا الذي أقامه إيليا النبي من الموت ([243]) وهو بحسب الكتاب المقدس ابن أمتّاي من سبط زبولون ([244]) من بلدة جت حافر ([245]) الواقعة على بعد ثلاثة أميال من الناصرة ([246])، وقد تنبّأ في أيام الملك يربعام الثاني ابن يؤاش([247]). وحوالي عام 862ق.م دعي من اللّه للذهاب إلى نينوى والمناداة عليها بالتوبة.

  • سفر يونان:

هو سفر تاريخي كتبه يونان نفسه على الأرجح، وقد وضع في عداد الأسفار النبوية لأن ما ورد فيه يرمز إلى أمور مستقبلية وخاصة قيامة السيد المسيح([248]). ويتضمّن هذا السفر: دعوة اللّه ليونان بقوله: «قم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة وناد عليها لأنه قد صعد شرّهم أمامي»([249]).

وتقع نينوى على الضفة الشرقية من نهر دجلة في شمال العراق وهي اليوم ضمن مدينة الموصل. وكانت قديماً عاصمة الامبراطورية الآشورية، ويصفها سفر يونان بأنها مدينة عظيمة. محيطها نحو ستين ميلاً. وقد أثبتت الاكتشافات الحديثة اتّساعها، واشتهرت بالعلم والفن وحياة البذخ وتمرّغ أهلها بالآثام وكانوا يعدون بالآلاف.

 

  • عصيان النبي يونان:

اتّصف يونان بالعنصرية البغيضة كأغلب قومه، ولذلك عصى أمر اللّه تعالى ولم يشأ أن يذهب إلى نينوى وينادي عليها بالتوبة، لئلا تتوب إلى اللّه فيعفو اللّه عنها، ويونان يتمنّى إبادتها لأن سكّانها كانوا أعداء شعبه. لذلك هرب من أمام وجه اللّه، ونزل إلى يافا، وأخذ سفينة كانت متّجهة إلى ترشيش([250]). ولكن اللّه كان له بالمرصاد فهيّج البحر، وكادت السفينة التي تقلّه أن تغرق، أما هو فنزل إلى قاعها واضطجع ونام نوماً ثقيلاً، ممثلاً الخاطئ الذي يصرّ على الخطيئة فيموت ضميره ولا يشعر بتأنيب، فأيقظه ملاحو السفينة وركّابها ليصلي إلى إلهه كما صلّوا هم إلى آلهتهم، لعلّهم يُرحمون ويهدأ البحر فيخلصون. ثم اقترعوا ليعلموا بسبب مَنْ حلّت بهم تلك البلية، فوقعت القرعة على يونان، فاعترف يونان بذنبه وقال لهم: «خذوني وألقوني في البحر فيسكن البحر عنكم فإني عالم أن هذه الزوبعة إنّما حلّت بكم بسببي» ولسان حاله يقول لربه: «إلى أين أهرب من وجهك، وإلى أين أذهب من روحك، إن صعدت إلى السماء فأنت هناك وإن اتّخذت لي أجنحة وأقمتها لأسكن في أواخر البحر فإن يدك تهديني ويمينك تمسكني»([251]). وكان ربان السفينة وركّابها من الوثنيين الذي لم يعرفوا الإله الحقيقي ومع هذا عرفوا قيمة الإنسان، ولم يشاؤوا أن يهلكوا يونان، بعكس يونان الذي عرف الإله الحقيقي ولكنه هرب من أمام وجهه ولم يشأ أن يذهب إلى نينوى وينادي عليها بالتوبة لئلا تنجح خدمته فيخلص أهل نينوى من الهلاك وهو يريد لهم الهلاك. فتأمّل!… وألقى الملاحون الأمتعة إلى البحر لعلّهم يخلصون السفينة من الغرق ولكن بدون جدوى لأن البحر كان هائجاً جداً والعاصفة هوجاء، وكادت السفينة تتحطّم. فاضطروا أخيراً إلى أن يلقوا يونان في البحر حسب طلبه فهدأ هيجان العاصفة حالاً.

  • يونان في جوف الحوت:

وهيّأ الرب حوتاً كبيراً([252]) ابتلع يونان حياً. لقد أمر الرب الحوت بابتلاع يونان ولكنه منعه عن أكله فصار الحوت بمثابة (غواصة) نقلته من مكان إلى آخر، بل حفظته من التهلكة في قعر البحر. فظلّ في جوف الحوت ثلاثة أيامٍ وثلاث ليالٍ، وبقاؤه حياً طوال هذه المدّة في جوف الحوت يعتبر معجزة كسائر المعجزات التي لا تفسر بقواعد طبيعية([253]) وصلّى يونان في جوف الحوت إلى الرب الإله، فأمر الرب الحوت فألقى يونان إلى البر، إلى الأرض اليابسة.

  • يونان في نينوى:

وأصدر الرب أمره ليونان قائلاً: «قم انطلق إلى نينوى وناد بالتوبة، فلبّى يونان الدعوة وانطلق إلى نينوى وأنبأ سكّانها بأنّها ستخرب في مدة أربعين يوماً، ما لم يتوبوا، فأصغوا إليه وآمنوا بكرازته وفرضوا صوماً عاماً للكبار والصغار حتى البهائم، ولبسوا المسوح وجلسوا على الرماد تائبين نائحين مصلّين فصفح اللّه عنهم([254]).

 

 

  • استياء يونان:

اغتاظ يونان بسبب نجاة نينوى من الهلاك وحسب أن اللّه قد كذّبه في عيون أهلها، وصلّى إلى الرب قائلاً: «آه يا رب أليس كلامي إذ كنت بعد في أرضي، لذلك بادرت إلى الهرب إلى ترشيش، لأني علمت أنك إله رؤوف ورحيم بطيء الغضب وكثير الرحمة ونادم على الشر»([255]) وهذه الكلمات تعتبر مفتاح سفر يونان، وتبين لنا خوف يونان على كرامته الذاتية وكرامة قومه وكبريائه وعنصريته البغيضة وهي الأمور التي ساقته إلى التمرّد على الرب إلهه. واغتمّ غماً شديداً واغتاظ كل الغيظ لأن نينوى نجت من الهلاك. لعله خاف أن ينتقل اللّه إلى قوم غير قومه وكأن نعمة اللّه خاصة بأمة ولا تكفي لأمم الأرض كلها؟!

  • توبيخ الرب ليونان:

وخرج يونان إلى شرقي المدينة وصنع له مظلة، وجلس تحتها في الظل، وأنبت الرب يقطينة سرعان ما نمت وارتفعت وظللت يونان من حر الشمس، ففرح بها، ثم أعد الرب دودة فضربتها عند طلوع الفجر فيبست، فحزن يونان لما ضربته أشعة الشمس، واشتهى الموت لنفسه، وكأني به يقول في سره: «إن كان لا بدّ أن تحيا نينوى فدعني أموت!. فوبّخه الرب بقوله: هل اغتظت بصواب من أجل اليقطينة فقال اغتظت بصواب حتى الموت. فقال الرب أنت أشفقت على اليقطينة التي لم تتعب فيها… أفلا أشفق أنا على نينوى المدينة العظيمة التي يوجد فيها أكثر من اثنتي عشرة ربوة من الناس الذين لا يعرفون يمينهم من شمالهم وبهائم كثيرة؟»([256]).

 

  • حقيقة قصة يونان:

يشهد السيد المسيح بصحة قصة يونان العجيبة ويعلن أن يونان كان آية لأهل نينوى وما جرى له هو رمز لموت السيد المسيح وقيامته فيقول الرب: «جيل شرير وفاسق يطلب آية ولا تعطى له آية إلاّ آية يونان النبي، لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ. رجال نينوى سيقومون في الدين مع هذا الجيل ويدينونه لأنهم تابوا بمناداة يونان. وهوذا أعظم من يونان ههنا»([257]) «لأنه كما كان يونان آية لأهل نينوى كذلك يكون ابن الإنسان أيضاً لهذا الجيل»([258]).

  • صوم نينوى:

اقتداء بأهل نينوى في توبتهم النصوح، وصومهم الحقيقي المقبول، وصلاتهم الطاهرة، الأمور التي استنزلت عليهم مراحم الرب فعفا عنهم، وتغمد ذنوبهم فقد فرضت الكنيسة على المؤمنين صوماً يعتبر من الأصوام المحببة إلى نفوسهم ويدعى صوم نينوى أو (الباعوثة) وهذه كلمة سريانية تعني الطلبة والتضرّع. ويبدأ صوم نينوى عندنا يوم الاثنين من الأسبوع الثالث السابق للصوم الأربعيني، وهو اليوم ثلاثة أيام، نصومها إما انقطاعاً عن الطعام والشراب من فجر الاثنين وحتى مساء الأربعاء أو نتناول طعاماً صيامياً وجبة واحدة في اليوم مساءً أو وجبتين ظهراً ومساءً.

وهذا الصوم قديم جداً في الكنيسة السريانية يستدل على ذلك من ميامر مار أفرام السرياني (ت 373) في وصفه. وكان في بادئ الأمر ستة أيام وكان يفرض على المؤمنين في وقت الشدة فقط ثم أصبح ثلاثة أيام([259]) تصام سنوياً. ذلك أنه في القرن السادس أصاب الناس في بلاد فارس والعراق وخاصة منطقة نينوى مرض وبيل يسمى (الشرعوط) وهذه لفظة سريانية معناها الطاعون أو الوباء، وعلامته ظهور ثلاث نقط سوداء في كف الإنسان حالما ينظر إليها يموت. فخلت مدن وقرى كثيرة من الناس، واكترى كسرى أنوشروان رجالاً لدفن الموتى. ففرض رعاة الكنائس في المشرق على المؤمنين صوماً لمدة ثلاثة أيام ونادوا باعتكاف، وتوبة نصوح نسجاً على منوال أهل نينوى وسمي صوم نينوى لأن المؤمنين الذين صاموه أولاً كانوا يقطنون في أطراف نينوى([260]).

ويذكر علامتنا مار ديونيسيوس ابن الصليبي (ت 1171) في كتابه أوروعوثو (المجادلات) أن واضع صوم نينوى هو القديس مار ماروثا مفريان تكريت (ت 649) وانتشر في الكنيسة السريانية شرقاً وغرباً. وقد أخذته الكنيسة القبطية عنها على عهد الأنبا أبرام بن زرعة السرياني الثاني والستين من عدد باباوات الاسكندرية الذي جلس على كرسي الاسكندرية سنة 968م([261]) كما اقتبسته الكنيسة الأرمنية وغيرها.

  • دروس وعبر:

يتضمن سفر يونان درساً قيّماً للإنسان في كل العصور، فمنه نعلم أن اللّه تعالى هو إله البشر كافة وأنه لم يدع نفسه بدون شاهد حتى لدى الأمم التي كانت بعيدة عن ينابيع الشريعة الإلهية المكتوبة، فهذه الأمم لم تخرج عن دائرة العناية الربانية والرعاية الإلهية وقد أعطاها ناموس الضمير، وصار لها بعدئذ نصيب في الميراث بابنه الحبيب ربنا يسوع المسيح. لأن اللّه، «يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون». لأنه إله رحيم. ورسالة الخلاص هذه حملها تلاميذ الرب إلى العالم أجمع وبها استطاعوا أن يدحروا العنصرية اليهودية البغيضة، وينفتحوا على العالم بنور المسيح، ويفتحوا أبواب الملكوت، فجاءت الأمم من المشارق والمغارب واتّكأوا في أحضان ابراهيم، أما بنو الملكوت فطرحوا إلى الظلمة الخارجية…

وإن أهل نينوى بصومهم وتوبتهم أعطوا الكنيسة مثالاً ففرضت الصوم على المؤمنين في وقت الشدة. ليعودوا إلى الرب نادمين تائبين ويتركوا الشرور، ويمزقوا قلوبهم لا ثيابهم، وليأخذوا لحياتهم من حياة النبي يونان دروساً خالدة، وعبراً قيمة، فلا يهربون من حمل رسالة يريدهم اللّه أن يحملوها مهما كانت ثقيلة كما فعل يونان، ولا يحزنون إذا ما رأوا الخطاة عائدين إلى اللّه بالتوبة كما اغتمّ يونان، بل أن يسعوا لخلاص نفوسهم وخلاص الناس كل الناس، مهما كان لونهم ولغتهم، وقوميتهم، وعقيدتهم الدينية، وليبتهجوا مع ملائكة السماء بخاطئ واحد يتوب([262]). وإلاّ فإن رجال نينوى سيقومون في الدين معهم ويدينونهم لأنهم تابوا بمناداة يونان وها هو المسيح يسوع أعظم من يونان بل هو رب يونان، وهو الطبيب السماوي الذي «لم يأتِ ليدعو أبراراً بل خطاة إلى التوبة» فلنسمع صوته الإلهي ولنطِعْه فهو لا يزال ينادي ويقول: «قد كمل الزمان واقترب ملكوت اللّه. فتوبوا وآمنوا بالإنجيل»([263]).

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الإنسان الذي جاء إلى يسوع ليلاً )*(

(يو 3: 1 ـ 21)

 

  • من هو هذا الإنسان!؟

إنه نيقوديموس، وهذا اسم سرياني آرامي معناه نقيّ الأصل والجنس، ذو حسب ونسب. وقد جاء الاسم موافقاً للمسمّى الذي كان شريف الأرومة، عريق المنبت، كريم المحتد، وصار وجيهاً في قومه.

 

ويخبرنا الإنجيل المقدس، أنه كان فريسياً ورئيساً لليهود (يو 3: 1) أي زعيماً علمانياً لا دينياً. كما كان مشيراً أي عضواً في مجلس السنهدريم (يو 7: 50) الذي كان يضمّ سبعين عالماً من علماء اليهود، بيدهم السلطتان التشريعية والتنفيذية، ولهم أن يحكموا على اليهود بالموت وأن ينفّذوا الحكم بعد موافقة السلطة الرومانية الحاكمة التي لم تكن لترد لهم طلباً كهذا.

وكان نيقوديموس غنياً كما نفهم من قراءتنا عنه في إنجيل يوحنا (يو 19: 39). وجاء في التلمود ([264]): «إن شخصاً بهذا الاسم كان رابع أربعة امتازوا بغناهم الفاحش في المدينة المقدسة، وأنه من أتباع المسيح» ([265]).

  • هذا جاء إلى يسوع ليلاً:

لم تكن تلك المرة الأولى التي جاء بها نيقوديموس إلى يسوع، فقد التقاه كثيراً على ما يظهر، وجالسه مراراً عديدة، وسمعه يعلِّم، وفحص بعض المعجزات التي صنعها. ولم يكن في زياراته السابقة وحده بل برفقة زملاء له من الكتبة والفريسيين، الذين كانوا مطبوعين بطابع التعصّب الفكري، وقد جرحت تعاليم الرب كبرياءهم فكانوا يتربّصونه ليأخذوه بكلمة، ولم تجد تعاليمه السامية في قلوبهم تربة جيدة لتنمو فيها، فقد كانت عقولهم مغلقة بألواح فولاذية من التعصّب الأعمى. أما نيقوديموس فقد اختلف عنهم بذلك، ويبدو أنه قد تأثّر بتعاليم الرب يسوع، وأعجب به، وأحبّه. ونحا بعدئذ منحىً مغايراً عما كان عليه منذ بدء نشأته كفريسي، وظهرت مفاعيل النعمة الإلهية في نفسه فحطمت صنم الكبرياء في قلبه وفكره، وانسحق قلبه بتواضع عميق وبُكِّت ضميره، وبدأ يسلك طريق التوبة فضحى برتبته الدنيوية السامقة، وعلمه الغزير وغناه الكثير، ووقار شيخوخته الجليلة. وتأكّد بأن هذه الأمور الكثيرة التي تظهر وكأنها عظيمة، إنّما هي مجد باطل زائل وتعتبر نفاية بالنسبة إلى المجد السماوي…

بدأ كل ذلك لما جاء إلى يسوع ليلاً بمفرده… فبعد يوم حافل بالخدمة، جاء الرب يسوع إلى «البيت» لعله كان بيت مريم أم مرقس، البيت الذي صار بعدئذ العلية المقدسة التي احتفل فيها الرب بالفصح وبغسل أقدام التلاميذ، ومنح تلاميذه أسراره الإلهية. أو لعل ذلك البيت كان في ضواحي المدينة المقدسة في بيت عنيا مثلاً أو غيرها.

لم يتوقّع تلاميذ الرب أن يقرع باب البيت يوماً وجيه كنيقوديموس، في ساعة متأخرة من الليل، وينتظر من يفتح له. ولا بدّ من أنهم فوجئوا بدخوله إليهم ومبادرته بالسلام على معلمهم. وفرحوا جداً إذ اعتبروا كل ذلك نجاحاً لرسالة معلمهم يسوع. ولكن يسوع لم يُفاجأ، لأنه يعرف الخفايا. كما أنه يعرف أنه أعظم بكثير من أن يزوره شخص كنيقوديموس مهما سمت مكانته الاجتماعية الدنيوية.

ونيقوديموس ولئن كان فريسياً، ولكن الإنجيل يصفه بأنه «إنسان» فقد كان إنسانياً، بخلاف أغلب زملائه من الكتبة والفريسيين، وأعضاء مجلس السنهدريم، والأغنياء والموسورين.

وقد جاء نيقوديموس إلى يسوع ليلاً تجنّباً للعيون، ولئلا يعرّض نفسه لانتقاد زملائه الذين على ما يظهر كانوا يأتون إلى يسوع بعد أن يتّخذوا في مجالسهم قراراً يتّفقون عليه وكانت غايتهم في زياراتهم كلّها اصطياد يسوع بكلمة. ولكن نيقوديموس جاء الآن وحده ليلتقي الرب ويختلي به ويبثّه أشجانه، ويظهر له مشاعره القلبية، ويتعلّم منه، وجاء ليلاً طبقاً لوصية آبائه القائلة إن أنسب وقت لقراءة الناموس ودراسة الشريعة هو هدوء الليل، ولذلك، فأفضل وقت اختاره نيقوديموس ليختلي بالرب يسوع هو الليل، وبخاصة أنه لا يتمكّن في النهار من الوصول إليه بسهولة لازدحام الجماهير التي كانت تأتي من كل فج عميق لسماع تعاليم الرب وطلب الشفاء.

كانت تلك الليلة تاريخية حولت الظلام الدامس في قلب نيقوديموس إلى نور عجيب، كما انعكست أنوارها علينا.

ففي الحديث الشيِّق الذي جرى بين الرب يسوع ونيقوديموس اكتشفنا ينابيع الخلاص حيث سمعنا الفادي يفوه بكلمات مقدسة، هي زبدة عقيدة الفداء المؤدي إلى السماء.

  • الحديث المتبادل بين الرب ونيقوديموس:

بدأ نيقوديموس حديثه مع الرب بعبارات رقيقة قائلاً: «يا معلم نعلم أنك قد أتيت من اللّه معلماً لأنه ليس أحد يقدر أن يعمل هذه الآيات التي أنت تعمل إن لم يكن اللّه معه»(يو 3: 2).

وبهذا قدّم نيقوديموس الاحترام اللائق للرب يسوع إذ أطلق عليه لقب «المعلم» الذي كان يطلق على كبار علماء الدين عصرئذ. ولفظة «معلم» وبالسريانية الآرامية، اللغة التي كان الرب يسوع ومعاصروه يتكلّمونها (راب وراباي ورابون) كانت تعتبر لقباً دينياً علمياً سامياً لا يطلق إلاّ على من تخرّج في إحدى المدارس اللاهوتية اليهودية العالمية. ويخول هذا اللقب صاحبه التعليم في المجامع اليهودية ويعتبر حجة في الأمور الدينية. ومع أن نيقوديموس كان يعلم جيداً أن يسوع لم يتخرّج في إحدى المدارس العليا، ولم يدرس على غمالائيل معلم التوراة الشهير أو غيره من العلماء الكبار، نسمعه يحيّي الرب قائلاً: «يا معلم» ويعلل نيقوديموس سبب إطلاقه هذا اللقب على يسوع بقوله: «إنك قد أتيت من اللّه معلماً» وبرهان ذلك: «لأن ليس أحد يقدر أن يعمل هذه الآيات التي أنت تعمل إن لم يكن اللّه معه».

وبهذه العبارات يعترف نيقوديموس بأن تعليم الرب يسوع هو من اللّه. وإن الآيات التي يصنعها الرب يسوع تقيم الحجة على صحة ذلك. وبهذا يُعتبر نيقوديموس أحد المؤمنين المعنيين بآية الإنجيل القائلة «آمن كثيرون باسمه إذ رأوا الآيات التي صنع»(يو 2: 23).

  • الولادة من السماء:

لم يُعِر الرب أهمية لعبارات المجاملة، وكل همّه خلاص الإنسان، لذلك يقود نيقوديموس إلى معرفة الحق، ويكشف له عن حقيقة رسالته الإلهية، رسالة الفداء، ويعلن له نفسه مخلصاً للعالم، فيحوّل مجرى الحديث إلى السبيل الموصلة إلى الخلاص فيقول لنيقوديموس «الحق الحق أقول لك إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت اللّه».. قال له نيقوديموس كيف يمكن الإنسان أن يولد وهو شيخ؟ ألعله يقدر أن يدخل بطن أمه ثانية ويولد؟ أجاب يسوع: «الحق الحق أقول لك إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت اللّه، المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح هو روح».

ففي هذا التعليم السامي يبسط يسوع المفهوم الديني الجديد للانتساب إلى السماء، ألا وهو الولادة من فوق، من السماء التي تدعى الولادة الثانية.

فالدين بحسب تعليم الرب يسوع هو نور وحق وحياة، وهو يغمر الإنسان كل الإنسان، فيهيمن على عقله وقلبه وروحه، فيكرس الإنسان ذاته كلّها للّه متجاوباً مع النور والحق والحياة. وهذا الدين داخلي عميق، لا خارجي ضحل، وهو بعيد عن المراءاة، لأنه توبة حقيقية، وانسحاق القلب، بل هو تمخض أليم لولادة جديدة، لمولود صحيح الجسم قوي البنية.

كان الدين لدى اليهود: ختاناً، وذبائح، وتمسّكاً بوصايا الآباء وتقاليدهم البالية، وافتخاراً بكون اليهودي ابن ابراهيم. ولكن يسوع غيّر هذا المفهوم، وارتقى بالإنسان إلى السماء ليكون هذا الإنسان لا ابن ابراهيم بل ابن رب السماء، وليولد لا من جسد بل من روح، وليعبد اللّه بالروح والحق، لأن اللّه روح. وبذلك يصير «خليقة جديدة فالأشياء العتيقة قد مضت، هوذا الكل قد صار جديداً».

لم تكن فكرة الميلاد الثاني غريبة بالمرة على نيقوديموس، ذلك أن مراسيم قبول الوثني في الدين اليهودي كانت تتم بالصلاة وتقديم الكفارة عنه وإلى جانب إتمام شريعة الختان كان هناك ما يشبه العماد من طقوس الغسولات إشارة إلى التنقية وكان ـ المتهوّد ـ يعتبر قد ولد من جديد. ويقول علماؤهم: «إن الدخيل الذي يعتنق اليهودية هو كالطفل حديث الولادة».

كل هذا كان يعرفه نيقوديموس جيداً، ولكنه لم يكن يتوقّع أبداً أن يُذلّ اليهودي ابن ابراهيم ويحط إلى هذا الدرك بحيث يعمَّد كالأممي الدخيل عماد الميلاد الجديد. كان قسم كبير من الشعب قد اعتمد من يوحنا المعمدان ولكنها معمودية التوبة وليست ولادة جديدة. أما يسوع فيضع شرطاً لدخول ملكوت اللّه بالولادة الجديدة بقوله: «إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت اللّه»(يو 3: 5)، وبذلك يوضح مفعول سر المعمودية الذي هو نعمة التبنّي، أي الميلاد الثاني من السماء. الأمر الذي لا بد من أن نيقوديموس بعدئذ قد فهمه.

فالماء الذي هو المادة في سر العماد يدل على الغسل الخارجي، وفي الوقت ذاته يشير إلى النعمة الخفية التي هي حلول الروح القدس على المعتمد. وكما جبل اللّه الإنسان الأول في الماء الذي له أيضاً مفعول الغسل، فيغسل النفس من الخطية ثم يأتي الروح القدس فيقدّس الماء الطبيعي لتستقر فيه القوة الإلهية، كما كان روح اللّه يرفّ على وجه المياه في البدء. ثم بعد أن جبل الإنسان من تراب الأرض نفخ اللّه في أنفه نسمة الحياة فصار آدم نفساً حية. كذلك في الخلقة الجديدة يحلّ الروح القدس على المعتمد ليقدّسه ويعطيه الحياة الجديدة بالمسيح يسوع ربّنا.

هذا ما يوضح كلام يوحنا عن المسيح ومعموديته إذ قال: «هو (المسيح) سيعمّدكم بالروح القدس ونار»(مت 3: 11) وهنا يشير إلى مفعول الروح القدس الداخلي كما حدث يوم الخمسين إذ حلّ الروح القدس على التلاميذ بشكل ألسنة من نار استقرّت على كل واحد منهم (أع 2: 3) ونجد في النار تعبيراً أقوى، عن شيء ما في طبيعة اللّه حتى قيل مرة، أن: «إلهنا نار آكلة» (عب 2: 29) وتعتبر نار العليقة المشتعلة التي رآها موسى في القديم تعبيراً واقعياً عن حضور اللّه، وطبيعة اللاهوت، فلا نستغرب إذن قول يوحنا عن الرب أنه يعمد بالروح القدس ونار. وبخاصة أن الرب أيضاً أشار إلى ذلك بقوله لتلاميذه «لأن يوحنا عمد بالماء وأما أنتم فستتعمّدون بالروح القدس، ليس بعد هذه الأيام بكثير»(أع 1: 5).

فبعد أن مهّد الرب لتأسيس سر المعمودية بعماده من يوحنا المعمدان ـ وبكلامه عن مفاعيل المعمودية من الماء والروح ـ والروح القدس والنار، وبأمره تلاميذه أن يعمّدوا الناس، أثناء وجوده بالجسد على الأرض، فبعد تحمّله الآلام وموته على الصليب، ودفنه وقيامته في اليوم الثالث من بين الأموات أعطى المعمودية قوة إلهية لتكون بطناً سرياً يلد الإنسان الجديد من السماء. ثم إذ كمّل سر المعمودية، أمر الرسل، قبل صعوده إلى السماء، قائلاً: «فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس»(مت 28: 19).

من هنا نعلم أن الولادة الثانية هي عملية موت، وقيامة، وحياة، «لأن المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح هو روح»(يو 3: 6) و«الذين هم في الجسد لا يستطيعون أن يرضوا اللّه، وأما أنتم فلستم في الجسد بل في الروح، إن كان روح اللّه ساكناً فيكم. ولكن إن كان أحد ليس له روح المسيح فذلك ليس له»(رو 8: 8و9).

ويشرح لنا الرسول بولس بكلمات فلسفية سامية عملية الولادة العجيبة إذ يقول: «دُفنَّا معه (المسيح) بالمعمودية للموت حتى كما أقيم المسيح من بين الأموات بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضاً في جدة الحياة. لأنه إن كنّا قد صِرنا متّحدين معه بشبه موته نصير أيضاً بقيامته. عالمين هذا أن إنساننا العتيق قد صلب معه ليبطل جسد الخطية كي لا نعود نستعبد أيضاً للخطية لان الذي مات قد تبرّأ من الخطية. فإن كنّا قد متنا مع المسيح نؤمن أننا سنحيا أيضاً معه»(رو 6: 4 ـ 8).

فالولادة الثانية إذن هي موت، وحياة. موت للطبيعة الخاطئة، وحياة جديدة للإنسان الجديد في المسيح ومع المسيح.

  • كيف تتم عملية الميلاد الثاني:

يسأل نيقوديموس: كيف يمكن الإنسان أن يولد وهو شيخ…؟ يجيبه الرب: «الريح تهبّ حيث تشاء وتسمع صوتها لكنّك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب ـ هكذا كل من ولد من الروح»(يو 3: 4 ـ 8) ويسأل نيقوديموس ثانية: «كيف يمكن أن يكون هذا؟»(يو 3: 9) أجاب يسوع وقال له: «أنت معلم اسرائيل ولست تعلم هذا… إن كنت قلت لكم الأرضيات ولستم تؤمنون فكيف إن قلت لكم السمويات وليس أحد صعد إلى السماء إلاّ الذي نزل من السماء ابن الإنسان، الذي هو في السماء» (يو 3: 10 ـ 13).

فالولادة الثانية هي النتيجة الحتمية لتفاعل الروح القدس في قلب الإنسان وتجاوب الإنسان مع هذه النعمة الإلهية، فيتغير الإنسان جذرياً، إذ يشلح الإنسان العتيق ويلبس الإنسان الجديد ويصير مسيحياً ويقبل المسيح مخلِّصاً، وإلهاً، فيصير ابناً للّه بالنعمة، كقول الإنجيل المقدس «وأما الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد اللّه، أي المؤمنون باسمه الذين ولدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من اللّه»(يو 1: 12 ـ 13).

لأننا لا يمكن أن ندرك بعقولنا البشرية كيفية هذا التحوّل المفاجئ في قلب الإنسان وفكره بعد قبوله الروح القدس، ولكننا نلمس ذلك بوضوح من تصرّفات الإنسان الذي ولد من فوق.

وقد يسبق عملية المعمودية، حلول الروح القدس على الإنسان كما جرى لكرنيليوس قائد المئة الذي جاءه الرسول بطرس على أثر رؤيا رآها كرنيليوس، وأخرى رآها بطرس. فبعث كرنيليوس واستدعى الرسول بطرس… فبينما كان بطرس يبشّر كرنيليوس بالرب يسوع: «حل الروح القدس على جميع الذين كانوا يسمعون الكلمة، فاندهش المؤمنون الذين من أهل الختان كل من جاء مع بطرس، لأن موهبة الروح القدس قد انسكبت على الأمم أيضاً، لأنهم كانوا يسمعونهم يتكلّمون بألسنة ويعظّمون اللّه. حينئذ أجاب بطرس، أترى يستطيع أحد أن يمنع الماء حتى لا يعتمد هؤلاء الذين قبلوا الروح القدس كما نحن أيضاً. وأمر أن يعتمدوا باسم الرب حينئذ سألوه أن يمكث أياماً»(أع 10: 44 ـ 48).

وخير مثال للميلاد الثاني ما جرى للرسول بولس الذي كان يدعى سابقاً شاول الطرسوسي، وكان ذا ذهن عتيق وقلب قاس. «وكان لم يزل ينفث تهدّداً وقتلاً على تلاميذ الرب. فتقدّم إلى رئيس الكهنة وطلب منه رسائل إلى دمشق إلى الجماعات حتى إذا وجد أناساً من الطريق ـ طريق الرب يسوع ـ رجالاً ونساءً يسوقهم موثقين إلى أورشليم. وفي ذهابه حدث أنه اقترب إلى دمشق فبغتة أبرق حوله نور من السماء. فسقط على الأرض وسمع صوتاً قائلاً له: شاول شاول لماذا تضطهدني. فقال له من أنت يا سيد. فقال الرب أنا يسوع الذي أنت تضطهده. صعب عليك أن ترفس مناخس. فقال وهو مرتعد ومتحيِّر: يا رب ماذا تريد أن أفعل؟ فقال له الرب قم وادخل المدينة فيقال لك ماذا ينبغي أن تفعل… فنهض شاول عن الأرض وكان وهو مفتوح العينين لا يبصر أحداً. فاقتادوه بيده وأدخلوه إلى دمشق…» (أع 9: 1 ـ 8).

ولم يضطهد شاول يسوع الناصري إنّما اضطهد أتباع يسوع، ويسوع يقول له «لماذا تضطهدني؟» من هنا نفهم معنى وعد الرب لتلاميذه القائل: «الذي يسمع منكم يسمع مني والذي يرذلكم يرذلني والذي يرذلني يرذل الذي أرسلني»(لو 10: 16). فالذي يضطهد المؤمنين بيسوع يضطهد يسوع نفسه.

«وكان شاول مفتوح العينين ولكنه لا يبصر أحداً» هذه الحالة لازمت حياة شاول الفريسي «له عينان ولا يبصر، له أذنان ولا يسمع» وهذه حالة الإنسان المتزمّت، المتعصب، الحاقد، والأناني الذي لا يمكن أن يحب أخاه.

«وكان في دمشق تلميذ اسمه حنانيا، فقال له الرب في رؤيا يا حنانيا. فقال ها أنذا يا رب. فقال له الرب قم واذهب إلى الزقاق الذي يقال له المستقيم واطلب في بيت يهوذا رجلاً طرسوسياً اسمه شاول. لأنه هوذا يصلي. وقد رأى في رؤيا رجلاً اسمه حنانيا داخلاً وواضعاً يده عليه لكي يبصر. فأجابه حنانيا يا رب قد سمعت من كثيرين عن هذا الرجل كم من الشرور فعل بقديسيك في أورشليم. وههنا له سلطان من قبل رؤساء الكهنة أن يوثق جميع الذين يدعون باسمك. فقال له الرب اذهب. لأن هذا لي إناءٌ مختارٌ ليحمل اسمي أمام أمم وملوك وبني اسرائيل لأني سأريه كم ينبغي أن يتألم من أجل اسمي. فمضى حنانيا ودخل البيت ووضع عليه يديه وقال أيها الأخ شاول قد أرسلني الرب يسوع الذي ظهر لك في الطريق الذي جئت فيه لكي تبصر وتمتلئ من الروح القدس. فللوقت وقع من عينيه شيء كأنه قشور فأبصر في الحال وقام واعتمد. وتناول طعاماً فتقوّى وكان شاول مع التلاميذ الذين في دمشق أياماً، وللوقت جعل يكرز في المجامع بالمسيح بأن هذا هو ابن اللّه…»(أع 9: 10 ـ 20).

تساقطت من عيني شاول قشور الكبرياء الفريسية والعنصرية البغيضة والمصلحة الشخصية، وأبصر نور المسيح وخلاصه، وحقه وحياته. ولم يفرّق بين العبد والحر. فالمسيح قد مات عنهم جميعاً وفداهم بدمه الكريم.

واعتمد شاول، فولد ميلاداً ثانياً، ولد من فوق من السماء وصار ابن السماء، والإناء المختار، الرسول المصطفى صار ابن السماء، المحب للجميع، المنكر ذاته المضحي من أجل الخطاة لينالوا الخلاص بالمسيح واضطهد لأجل المسيح. لقد شارك في آلام المسيح وصلب معه، ومات إنسانه العتيق على الصليب ودفن مع المسيح، وقام معه بعد أيام ثلاثة حيَّاً، وسعى بحياته الجديدة لا لعمل مشيئته بل مشيئة اللّه مصلياً قائلاً «لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض»(مت 6: 10) وتسليم الإرادة بيد اللّه يتوقف على الطاعة الكاملة له تعالى وتسليمه القلب ورغباته، إنجازاً لأمره الإلهي القائل: «يا بني أعطني قلبك»(أم 23: 26) وإذا سلم المؤمن قلبه للّه فمهما كان هذا القلب متقلباً، متزعزعاً غير ثابت، فهو قد وعدنا قائلاً: «أعطيكم قلباً جديداً وأجعل روحاً جديدة في داخلكم وأنزع قلب الحجر من لحمكم وأعطيكم قلب لحم»(حز 36: 26). هذا ما جرى للرسول بولس بقلبه الجديد، وفكره الجديد؛ أضحى يبغض الشر، ويبتعد عن الخطية. «لأن من ولد من فوق لا يخطئ» (1يو 5: 18) ويحب الصلاح، ويتوق إلى معاشرة اللّه، ومجالسته تعالى طويلاً بالمواظبة على الصلاة، والصلاة بلا فتور. والتحدّث عن الرب للناس، فهو يوصي تلميذه تيموثاوس قائلاً: «أكرز بالكلمة، أعكف على ذلك في وقت مناسب وغير مناسب»(1تي 4: 2).

إن خطط الرب لا تناقش، لقد حتم الإله منذ البدء أن يكون الخلاص بابنه الحبيب، فأكمل الابن عمل الفداء إذ سلّم نفسه بإرادته ليد أعدائه وصلب خارج المدينة المقدسة ومات على الصليب ودفن. وقام في اليوم الثالث وبموته وقيامته أعطانا الحياة، فهو المخلص الوحيد الذي بإمكانه أن يهبنا التبرير والتقديس بل التبنّي ووراثة الحياة الأبدية.

ولكي يقرب الرب هذه الحقيقة الإلهية إلى ذهن نيقوديموس قبل أن يقدم الرب نفسه فدية عن البشرية، شبّه عمله الإلهي الذي كان مزمعاً أن يقوم به على الجلجلة بحادثة معروفة في العهد القديم هي حادثة رفع موسى الحية في البرية (عد 21: 29) قائلاً: «وكما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يرفع ابن الإنسان لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية لأنه هكذا أحب اللّه العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية، لأنه لم يرسل اللّه ابنه إلى العالم ليدين العالم بل ليخلص به العالم. الذي يؤمن به لا يدان والذي لا يؤمن قد دين لأنه لم يؤمن باسم ابن اللّه الوحيد»(يو 3: 14 ـ 19).

 

كان شعب موسى قد تذمّر على اللّه إذ ضاقت نفس الشعب في الطريق، وتذمّروا على خبز اللّه وقالوا باحتقار «كرهت أنفسنا هذا الطعام السخيف» وكانت الطريق طريق اللّه، ولكنهم رفضوها وأرادوا طريقهم الخاصة. وكان الخبز خبز اللّه، ولكنهم دعوه طعاماً سخيفاً فغضب اللّه عليهم وأرسل لهم أفاعي سامة وصفت بأنها محرقة، لسعت الكثيرين منهم فماتوا شرَّ ميتة. وأما الباقون فاعترفوا بذنبهم وسألوا موسى ليشفع فيهم لدى إلههم الذي أغاظوه. ففعل موسى وطلب المغفرة من الرب نيابة عن الشعب. فهدأ غضب الرب، وأمر موسى أن يرفع حية نحاس على عمود في وسط المحلة، وكل من لدغ من الحيات المحرقة ونظر إلى حية النحاس يحيا.

ما أعجب هذا الدواء الناجع الذي أعده اللّه، فمجرّد نظرة إلى حية نحاس مرتفعة على راية تخلص الإنسان من موت زؤام.

والرب يسوع يقول عن نفسه لنيقوديموس «كما رفع موسى الحية في البرية كذلك ينبغي أن يرفع ابن الإنسان لكي لا يهلك كل من يؤمن به».

لقد اختار اللّه الدواء الشافي لداء الخطية، وجعل ابنه الوحيد «لعنة لأجلنا» لأنه مكتوب «ملعون من عُلِّق على الخشبة» وهكذا علق يسوع على العود في وسط العالم، كما علقت حية النحاس وسط المحلة، «لكي لا يهلك كل من يؤمن به» إن التطلّع إلى حية النحاس دلالة على إيمان الناظر بالقوة الكامنة في تلك الحية. كذلك الإيمان بالمسيح وعمله الفدائي يخلص المؤمنين به من الموت.

ولم يكن في حية النحاس سُمّ بل كانت على شبه الحيات السامة، وكذلك ابن اللّه كان على شبه جسد الخطية، فأخذ كل ما لنا ما عدا الخطية، ولم يكن فيه خطية بل كان معصوماً من كل ذنب. وكما كانت الحية النحاس العلاج الوحيد للبشرية من لسعات الحيات، كذلك المسيح هو المخلص الوحيد للبشرية من أعدائها: الخطية، وإبليس والموت ولهذا يقول الرسول بولس «لأني لم أعزم أن أعرف شيئاً بينكم إلاّ المسيح وإيّاه مصلوباً» (1كو 2: 2) يسوع المصلوب، هذا ما نعرفه ونؤمن به، «فلنخرج إليه إلى خارج المحلة حاملين عاره»(عب 13: 13) «ولنكرز بالمسيح مصلوباً شكاً لليهود وجهالة للأمم، أما للمدعوين من اليهود واليونانيين فالمسيح قوة اللّه وحكمة اللّه» (1كو 1: 23و24).

إن المناداة بيسوع المسيح مصلوباً عثرة لليهود، ولكن صلب المسيح هو الواسطة الوحيدة التي أعدها اللّه للخلاص. والمسيح قال «وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إليَّ الجميع. قال هذا مشيراً إلى أية ميتة كان مزمعاً أن يموت»(يو 12: 20 ـ 23).

والمولود من السماء يكون قد صلب ذاته مع المسيح «ولكن الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات» (غل 5: 24) كبولس القائل «مع المسيح صُلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ فما أحياه الآن في الجسد فإنما أحياه في الإيمان، إيمان ابن اللّه الذي أحبّني وأسلم نفسه لأجلي» (غلا 2: 20).

فالوازع الأول للخلاص هو المحبة، لذلك يواصل الرب حديثه مع نيقوديموس بقوله: «لأنه هكذا أحب اللّه العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية»(يو 3: 16) فقد أحبّنا ابن اللّه إلى هذه الدرجة العظمى بحيث قدّم نفسه فدية عنا فأطاع حتى الموت موت الصليب. ومحبته دفعته إلى مسامحتنا، والمسامحة قمة المحبة، كما أنه وهو على الصليب طلب المغفرة لصالبيه (لو 23: 34) واقتدى به اسطيفانس الذي غفر لراجميه (أع 7: 60) والرسول بولس على أثر ولادته من السماء يقول: «نشتم فنبارك، نضطهد فنحتمل، يفترى علينا فنعظ»(1كو 4: 12 ـ 13).

  • التوبة:

والمحبة للّه تدفعنا إلى التخلّي عن محبة ذواتنا أي أن ننكر ذواتنا ونتحوّل إلى محبة المسيح حتى بعد أن نكون قد ولدنا من اللّه بوساطة المعمودية وأخطأنا، نسلك طريق التوبة لأنها السبيل الوحيد للعودة إلى اللّه. فنتخلّى عن عاداتنا السيئة، ونتحوّل إلى حياة جديدة، مجدّدين العهد مع اللّه فالمسيح «مات لأجل الجميع كي يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم بل للذي مات لأجلهم»(2كو 5: 15).

إن المعمودية واحدة، فلا يمكن أن تعاد ثانية لأنها بجد ذاتها ولادة روحية جديدة، فكما أن الإنسان لا يولد سوى مرة واحدة ولادة جسدية، هكذا أيضاً لا يولد ولادة روحية سوى مرة واحدة (يو 3: 5). والمعمودية ترسم في قابلها ختماً لا يمحى ولا يستأصل بل يستمر فيه كل أيام حياته. والرسول بولس يحذر الرومانيين من أن يفقدوا الحياة التي قبلوها من اللّه بعد أن ماتوا مع المسيح بوساطة المعمودية قائلاً: «فإن كنا قد متنا مع المسيح نؤمن أننا سنحيا أيضاً معه عالمين أن المسيح بعدما أقيم من الأموات لا يموت أيضاً. لا يسود عليه الموت بعد لأن الموت الذي ماته قد ماته للخطية مرة واحدة والحياة التي يحياها فيحياها للّه، كذلك أنتم أيضاً احسبوا أنفسكم أمواتاً عن الخطية ولكن أحياء للّه بالمسيح يسوع ربنا»(رو 6: 8 ـ 11).

وحددت الكنيسة عدم إعادة المعمودية في قانون الإيمان النيقاوي بعبارة «ونؤمن بمعمودية واحدة لغفران الخطايا».

وقال القديس مار يعقوب الرهاوي (+ 708) «إن المسيحي الذي يموت ثم يعود إلى المسيحية لا يعمد ثانية بل يصلّي عليه رئيس الكهنة صلاة التائبين، محدداً له زماناً للتوبة واصفاً له بعض الشروط التي إذا أكملها يشركه في الأسرار المقدسة» (الهدايات لابن العبري ب 3 ف 1).

ووهم بعضهم بأن المقصود بالميلاد الثاني الذي جاء في حديث الرب مع نيقوديموس هو التوبة، ولكن التوبة ليست ميلاداً ثانياً، ولئن كانت تجديداً للعهد مع اللّه، وتنقية الإنسان نفسه والطلب منه تعالى خلق قلب جديد نقي، وتجديد الروح المستقيمة في داخل الإنسان وعدم نزع روح اللّه من الإنسان كما فعل داود بصلاته إلى اللّه في المزمور الحادي والخمسين، ولكن هذه توبة لا ولادة. والتوبة هي العودة إلى اللّه كما عاد الابن الضال إلى أبيه، والابن الضال ولئن أخطأ وبدّد الإرث في بلاد غريبة، لم يفقد صفة البنوة، فلما عاد إلى أبيه قبله كابن، وفي حال الخطية كان ابناً أيضاً ولكنه كان ابناً ضالاً. وبالتوبة وجد هذا الابن وجدّد العهد مع أبيه فلبس حلة جديدة. وهكذا الخاطئ التائب ينال بسر التوبة والاعتراف نعمة الغفران بقوة الروح القدس فيتجدد ويتقدس ويعود إلى ما كان عليه في اللحظة التي خرج فيها من المعمودية يوم نال نعمة البنوة، وولد من فوق.

  • هل ولد نيقوديموس من السماء؟

والسؤال الكبير الذي يطرح نفسه في هذا الميدان هو: ما كان تأثير حديث الرب يسوع في نيقوديموس؟! وهل ولد نيقوديموس من فوق؟

بعد الحديث الشيّق الذي دار بين السيد المسيح ونيقوديموس في تلك الليلة التاريخية، عاد نيقوديموس إلى داره بروح تختلف عن الروح التي كانت عليها سابقاً… وإننا لمتأكّدون بأنه قلق تلك الليلة، وصار كريشة في مهب الريح، تراوده الأفكار وتتزاحم في رأسه التصوّرات. إن الموضوع مهم جداً فهو يقرّر المصير الأبدي للإنسان. ولكنه يتطلّب تضحيات جمّة، من ذلك التجرّد عن الذات، والتخلي عن المركز المرموق، والجاه، والمال، والأصدقاء القدامى والعادات والتقاليد المتّبعة.. إنه موت بحدّ ذاته ولكنّه موت في معرض الحياة وفي سبيل الوصول إلى ملكوت السموات.

وفي صباح اليوم التالي عاد نيقوديموس إلى عمله في مجلس السنهدريم، أو في محل تجارته، ولكنه عاد بأفكار جديدة، وتصرّفات جديدة. ومرّت الأيام، ونحن نلمس تأثير حديث يسوع في نيقوديموس.

فلما أرسل رؤساء الكهنة والفريسيون خداماً لكي يقبضوا على يسوع وعاد هؤلاء قائلين: «لم يتكلّم قط إنسان مثل هذا الإنسان» غضب الفريسيون… وقالوا لهم: «ألعل أحداً من الرؤساء أو من الفريسيين آمن به؟»، أعلن نيقوديموس دفاعه عن يسوع قائلاً: «ألعل ناموسنا يدين إنساناً لم يسمع منه أولاً ويعرف ماذا فعل؟»(يو 7: 50و51). من هنا نعلم كم كانت رغبة نيقوديموس عظيمة بأن يسمع زملاؤه تعاليم الرب بتجرّد ليتأثروا بها كما تأثر هو… ولكن زملاءه يتّهمونه بالتحيّز ليسوع، لكونه جليلياً مثله. فاحتمل نيقوديموس ولأول مرة الإهانة من أجل يسوع، واستحقّ الطوبى التي أعطاها الرب لتلاميذه بقوله: «طوبى لكم إذا عيّروكم وطردوكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلي كاذبين، افرحوا وتهلّلوا لأن أجركم عظيم في السموات»(مت 5: 11و12).

وبعد أن صلب الرب ومات، صلب نيقوديموس معه على العود ذاته وأنانيته، وكبرياءه الفريسي، وتمّ فيه ما قاله صاحب الرسالة إلى العبرانيين عن موسى: «بالإيمان موسى لما كبر أبى أن يدعى ابن ابنة فرعون، مفضّلاً بالأحرى أن يذل مع شعب اللّه على أن يكون له تمتّع وقتي بالخطية. حاسباً عار المسيح أعظم من خزائن مصر لأنه كان ينظر إلى المجازاة» (عب 11: 24 ـ 26) هكذا نيقوديموس فضّل عار المسيح على أمجاد العالم، فاشترى خمسة عشر رطلاً من الأطياب الثمينة وجاء بنفسه بهذا المزيج من المر والعود وساعد يوسف الرامي الذي هو الآخر كان وجيهاً في قومه وكان تلميذاً للمسيح بالخفية، وقاما كلاهما بدفن جسد الرب في القبر بإكرام لائق… لقد صار نيقوديموس مسيحياً، ولد حقاً من فوق… صار ابن السماء بالميلاد الثاني… ويقول التقليد أنّه أشهر إيمانه بعد قيامة الرب، ولعله كان في عداد المئة والعشرين نفس الذين كانوا في العلية يوم حلّ الروح القدس على التلاميذ بشبه ألسنة نار. ويخبرنا التاريخ أنه نال نعمة العماد المقدس على يد الرسولين بطرس ويوحنا، وحرم من اليهود، وطرد من مجلس السنهدريم… واعتبر ذلك بركة من الرب إذ استحق أن يضطهد من أجل المسيح. وقد جلد في المسيح وتجلد واصطبر، ونال موهبة الأسقفية السامية.

 

  • هل أتيت إلى المسيح ليلاً؟!

لقد ولدنا من السماء يوم اعتمدنا باسم الثالوث الأقدس. فهل نحن سالكون في جدة الحياة، والحياة الجديدة، كأبناء السماء… كغرباء على الأرض؟.

هلمَّ معي أيّها القارئ العزيز لنزور المسيح، في هدوء الليل وسكينته ونحن نقرأ الإنجيل المقدس لنستمع إلى وصاياه الإلهية… ونصلّي لنُسمعه تنهّداتنا وصوت آلامنا وأوجاعنا من وطأة الخطية..

هلمَّ فهو يدعونا بقوله «… تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم. احملوا نيري عليكم وتعلّموا منّي لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم لأن نيري هيِّن وحملي خفيف».

هلمَّ نتطلّع إليه، فصليبه حية نحاس تشفينا النظرة إليه من لسعات حيات العالم، من إبليس الحية الدهرية.. لنؤمن بأن لا خلاص لنا إلا به، فهو رئيس إيماننا وموضع رجائنا، وهو حياتنا وحقنا وطريقنا الوحيد الموصل إلى ملكوت اللّه.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مار توما الرسول )*(

المقدمة:

  • رسالة الفداء والرسل الاثنا عشر:

إن رسالة الفداء التي جاء بها الرب يسوع من السماء هي رسالة محبة، محبة اللّه تعالى لبني البشر كافة. هذه المحبة تجلّت بموت الرب يسوع على الصليب لخلاص البشرية «لأنه هكذا أحب اللّه العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية»(يو 3: 16) ولكي تصل هذه الرسالة إلى أقطار المسكونة قاطبة، اختار الرب اثني عشر رسولاً خرّجهم في مدرسته الإلهية مدة ثلاث سنوات وثلاثة أشهر، علّمهم خلالها بكلامه، وبحياته، الدروس السامية بالمحبة، ونكران الذات والتضحية، فحملوا صليبه، وصلبوا ذواتهم معه على الخشبة، ودفنوا أنانيتهم في القبر الجديد، وقاموا معه في اليوم الثالث في جدة الحياة أناساً جدداً، ليحيوا لا هم، بل المسيح يحيا فيهم، فتلاشت مصالحهم الشخصية، فكانوا يطلبون ليس ما هو لأنفسهم، بل ما هو للّه، ولخلاص الإنسان وإذ حاد واحد منهم عن جادة الحق، حُذف اسمه من سفر الحياة. إنه يهوذا الإسخريوطي ابن الهلاك. أما الأحد عشر فقد استحقوا أن يروا المسيح قائماً من بين الأموات، بل أن يروه أيضاً صاعداً إلى السماء، وقبل صعوده رفع يديه وباركهم، ووضع على عاتقهم مسؤولية نشر البشارة الإنجيلية في أقطار المسكونة قائلاً لهم: «اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها» (مر 16: 15) ويوم الخميس حل عليهم الروح القدس حسب وعد الرب لهم، فثبّتهم، وشجّعهم، وعلّمهم، وذكّرهم بكل ما قاله الرب يسوع لهم…

هؤلاء هم سفراء المسيح الأبطال الذي تحمّلوا في سبيل تأدية الشهادة السامية صنوف الاضطهادات، والضيقات، والآلام، والعذابات وحتى الاستشهاد. واعتبروا نشر بشارة الإنجيل رسالة إلهية أنيط بهم القيام بأعبائها، لذلك يقول الرسول بولس: «لأنه إن كنت أبشّر فليس لي فخر إذ الضرورة موضوعة عليَّ. فويلٌ لي إن كنتُ لا أبشّر»(1كو 9: 16) والرسولان بطرس ويوحنا يقولان: «لأننا نحن لا يمكننا إلاّ أن نتكلّم بما رأينا وسمعنا»(أع 4: 20) وهكذا تمّ قول صاحب المزامير القائل: «في كل الأرض خرج منطِقهم وإلى أقصى المسكونة كلماتهم»(مز 19: 4).

  • توما الرسول:

كان توما أحد هؤلاء الرسل، ويعد السابع بين الاثني عشر (مت 10: 3) وبما أنه بشّر في الهند، فإنه يدعى رسول الهند، ولكن معرفتنا بتفاصيل أعماله التبشيرية يسيرة جداً بالمقارنة مع معرفتنا بأعمال مار بطرس ومار بولس وغيرهما من الرسل والمبشرين، ولكننا مع ذلك لا نجهل عنه كل شيء. وبتناولنا ترجمة حياته بالدرس، وحديثنا عنه، نستند إلى الإنجيل المقدس، والتقليد الكنسي السرياني الموثوق به.

  • اسمه:

كان توما من بلاد الجليل، ولد وشقيقه أدى ـ أحد السبعين ــ توأمين ـ فدعي بالسريانية توما، أي التوأم (يو 11: 16و21: 2) ويدعى أيضاً يهوذا، وهو غير يهوذا الإسخريوطي الذي أسلم الرب.

  • محبته للرب يسوع:

كانت محبة توما للسيد المسيح عميقة جداً، وخالصة، وصافية، حتى أنه كان مستعداً لأن يموت مع الرب، فقد ذكر الإنجيل المقدس أن الرب يسوع لما عزم على التوجّه إلى بيت عنيا لإقامة لعازر من بين الأموات حذّره تلاميذه مذكّرين إيّاه بمحاولة اليهود قتله، فقال توما لإخوانه التلاميذ: «لنذهب نحن أيضاً لكي نموت معه»(يو 11: 16).

وفي العشاء الأخير، لما سمع توما الرب يسوع يتكلّم عن انفصاله عن تلاميذه، بالجسد، وأنّهم سيتبعونه، قال له: «ياسيد لسنا نعلم أين تذهب فكيف نقدر أن نعرف الطريق؟» قال له يسوع: «أنا هو الطريق، والحق، والحياة»(يو 1: 5و6) فنحن مدينون لتوما بسؤاله هذا، حيث أن جواب الرب يظهر للعالم حقيقة الدين المسيحي المؤسس على المسيح يسوع الذي هو الطريق، والحق والحياة.

  • تشككه بقيامة الرب يسوع:

وقد اشتهر توما بتشككه بحقيقة قيامة الرب من بين الأموات، وإيمانه بالقيامة بعد رؤيته الرب حياً. كان الرب له المجد، قد أخبر تلاميذه قبل صلبه، أنه سيصلب ويموت، وفي اليوم الثالث يقوم، وذكَّرهم بحادثة النبي يونان، كما كان قد أشار إلى رفع موسى الحية في البرية، واعتبر ذلك رمزاً لصلبه على العود، وقال لهم أن يهدموا الهيكل وهو يقيمه في ثلاثة أيام، هذه الأقوال والتشابيه والرموز وغيرها، فاه بها الرب أمام تلاميذه، ولكنهم لم يدركوها ولم يسبروا غورها، فبعد أن صلب ومات ودفن في القبر الجديد، قام من بين الأموات في فجر الأحد، وظهر يوم قيامته خمس مرات لبعض النسوة والتلاميذ، ولما كانت عشية ذلك اليوم وهو أول الأسبوع، وكانت الأبواب مغلقة، حيث كان التلاميذ مجتمعين بسبب الخوف من اليهود، جاء يسوع ووقف في الوسط وقال لهم سلام لكم، ولما قال هذا أراهم يديه وجنبه ففرح التلاميذ إذ رأوا الرب… أما توما أحد الاثني عشر الذي يقال التوأم فلم يكن معهم حين جاء يسوع، فقال له التلاميذ الآخرون قد رأينا الرب، فقال لهم: «إن لم أبصر في يديه أثر المسامير وأضع إصبعي في أثر المسامير، وأضع يديّ في جنبه لا أؤمن» (يو 20: 19 ـ 25). وهكذا كان توما يصرّ على طلب البرهان الحسي. ومرّ أسبوع كان عند توما أطول من عام، إنها فترة التجربة، لم يظهر الرب خلالها لأحد «وبعد ثمانية أيام كان التلاميذ داخلاً وتوما معهم، فجاء يسوع والأبواب مغلقة ووقف في الوسط وقال سلام لكم، ثم قال لتوما: هات إصبعك إلى هنا وأبصر يديَّ، وهات يدك وضعها في جنبي، ولا تكن غير مؤمن بل مؤمناً. أجاب توما قائلاً: ربي وإلهي، فقال له يسوع لأنك رأيتني يا توما آمنت طوبى للذين آمنوا ولم يروا»(يو 20: 26 ـ 29).

يقال أنّ إصبعي توما السبّابة والوسطى ملتصقتين منذ ولادته فانفكتا لما وضعهما توما مكان المسامير في كفي الرب. ويقال أيضاً أنّ توما لم يجرؤ على أن يضع إصبعه موضع المسامير في كفّي السيد المسيح، ويده في جنبه.

وإذا كان توما قد أساء بشكوكه إلى رفاقه التلاميذ بعدم تصديقه كلامهم، وأساء أيضاً إلى الرب بعدم إيمانه بقيامته التي كان الرب قد أعلن عنها قبل آلامه. فإنه يُعذر بطلبه البرهان الحسي لشدة شوقه لرؤية الرب قائماً من بين الأموات كما رآه رفقاؤه، وقد استوحى البرهان الحسي من كيفية ظهور الرب للتلاميذ أول مرة، حيث أراهم يديه وجنبه، ولم يكن توما أقل محبة لمعلمه من رفقائه حتى لا يظهر له الرب وقد ظهر لهم. وهو مثلهم سيحمل مشعل الإنجيل المنير إلى العالم، لذلك يود أن يرى المسيح قائماً من بين الأموات ليبشّر بالمسيح الحي. وبعد ظهور الرب للتلاميذ وتوما معهم انقلب الشك لديه إلى إيمان ثابت، بل أن شكوك توما غدت حقاً سبيلاً يؤدّي بالباحث إلى الإيمان وقد أتى بالملايين من الناس إلى الإيمان بالمسيح القائم من بين الأموات، كما صارت سبباً لإعطاء الطوبى للذين آمنوا ولم يروا.

وفي إيمانه، طرح توما نفسه عند قدمي يسوع، ونادى «ربي وإلهي» وبذلك أيّد وحدة المسيح الطبيعية والأقنومية، فهو يرى إنساناً، ويرى جروحاً، وقد يكون لمس هذه الجروح الكريمة، أو لم يلمسها، المهم في الأمر أنه شاهد المسيح الإله المتجسّد الذي صلب، ومات، ودفن، وقام من بين الأموات حياً، ودعاه رباً وإلهاً، وبذلك اعترف بطبيعة واحدة، وأقنوم واحد للسيد المسيح، لأنه لا يصح لنا أن نطلق عليه الصفات الإلهية والبشرية في آن واحد، لولا وحدة الطبيعة، ووحدة الأقنوم فيه.

ورأينا توما بعدئذ مع بعض التلاميذ يتصيّد في بحيرة طبرية بعد قيامة الرب، حيث أظهر لهم الرب نفسه (يو 21: 1و2).

 

  • مار توما في التقليد الكنسي السرياني:

يذكر التاريخ الكنسي أن توما الرسول أرسل إلى الرها أخاه أدى وهو أحد المبشرين السبعين. وأما هو فقد توجه إلى المشرق حيث دعا إلى الإيمان شعوباً مختلفة، وبشّر الحامية الفارسية المجوسية التي كانت في تكريت، وختم أعماله التبشيرية في الهند على عهد كوندفر البرثي أحد ملوكها ([266]).

 

  • قصة ذهاب مار توما إلى الهند:

في التقليد الكنسي السرياني قصة شيقة، يعتبر الرسول توما بطلها، وتبدأ حوادثها بمحاولة الرسل اقتسام مناطق العالم المعروفة عصرئذ بينهم، ليذهب كل منهم إلى منطقة ينشر بشارة الإنجيل فيها. فأصابت القرعة الرسول توما للذهاب إلى الهند، فخاف توما كثيراً وارتعب وتردّد بقبول ذلك، بل كان أقرب للرفض منه إلى القبول، فيظهر له السيد المسيح ويقول له إذا لم تذهب أنت إلى الهند فسأذهب أنا بنفسي إليها وأموت ثانية، فأذعن توما للأمر، بعدما نال وعداً من الرب بألاّ يتخلّى عنه تعالى، بل يكون معه حيثما يذهب. وتقول القصة أن تاجراً هندياً اسمه حابان أرسل إلى سورية في تلك الأيام من قبل أحد ملوك الهند لإيجاد بنّاء ماهر يشيد للملك قصراً منيفاً، فباع الرب يسوع تلميذه توما عبداً للتاجر حابان إلى بلاد المشرق بطريقه إلى الهند. واجتاز بلاد العراق فبشّ أهلها ([267]).

ويذكر التاريخ أن مار توما وجد في بلاد ما بين النهرين المجوس الذين كانوا قد سجدوا للرب يسوع وهو طفل في بيت لحم، فبشّرهم، معلناً لهم أن الفداء قد تمّ بموت السيد المسيح صلباً ودفنه وقيامته في اليوم الثالث، فآمنوا واعتمدوا، ورسم منهم كهنة وأساقفة، وواصل سفره إلى بلاد الهند فوصل إليها سنة اثنتين وخمسين للميلاد. ويقال أنّه بدأ تبشيره بالجنوب ثم واصل العمل إلى الشمال والتقى الملك سيد التاجر حابان، وأخذ منه أموالاً طائلة لتنفق في تشييد القصر المذكور، ولكنه وزّعها على الفقراء والمعوزين. ولما سمع الملك استدعاه إليه وسأله جليّة الأمر، فقال له توما أنّه قد بنى له قصراً فخماً في السماء، فغضب الملك كثيراً، وألقاه في سجن عميق وجعله تحت حراسة مشدّدة، وتعذيب مرير، ريثما يردّ إليه المال… وهكذا تحمّل توما الآلام والعذابات وحده… لما كان بطرس في السجن كانت الكنيسة تواصل الصلاة لأجله، فأخرجه ملاك الرب، ولما كان بولس في السجن كان تلاميذه يخدمونه، فكان ذلك عزاء له، أما توما فقد كان وحده في سجنه في بلاد بعيدة اعتبرت في تلك الأيام بلاد الغرائب والعجائب، ولكننا على يقين بأن الرب يسوع كان معه يشجّعه على تحمّل المشقات كجندي صالح. وقد دبّر وسيلة لإنقاذه. ونجاح مهمّته التبشيرية، ذلك أن (جاد) أخا الملك ابتلي بمرض عضال، ومات ونقلت الملائكة روحه إلى السماء حيث شاهد قصراً منيفاً، قيل له أنّه القصر الذي شيّده توما لأخيه الملك، ثم أعاد اللّه (جاد) إلى الحياة، فلما رآه أهله حياً انذهلوا، فقصّ عليهم جاد ما رآه في السماء، وطلب إلى أخيه الملك ليبيعه القصر الذي شيّده له توما في السماء… فصدّق الملك الرؤيا… وأطلق سراح الرسول توما، وآمن بالرب يسوع هو وأهل بيته، وعظماء مملكته، واعتمدوا جميعاً، بل ساعدوا توما في نشر البشارة الإنجيلية فرسم منهم كهنة وأساقفة، وغادرهم ليواصل تبشيره بالإنجيل في مناطق أخرى من بلاد الهند.

  • خطف توما بالروح ورؤيته العذراء مريم:

ويحكى عن توما قصص أخرى شبيهة بقصة تشييد القصر في السماء، لا مجال لذكرها هنا، ولكن لا بدّ من التنويه في هذه العجالة بحادثة خطف توما بالروح وذهابه من الهند إلى المدينة المقدسة، للاشتراك بتجنيز السيدة العذراء والدة اللّه مريم، وتأخير وصوله إلى هناك، ورؤيته وهو في الطريق العذراء تصعد إلى السماء بموكب ملائكي عجيب، وطلبه منها علامة يبرهن بها لإخوته التلاميذ عن صدق حديثه عندما يخبرهم عما شاهده، فأعطته زنارها، وبعدما اجتمع توما بالتلاميذ، وطلب إليهم فتح ضريح السيدة العذراء، ففعلوا ولم يجدوا الجثمان الطاهر، أخبرهم بما رأى، وعاد إلى الهند آخذاً معه الزنار المقدس ([268]).

  • استشهاده:

تحمل مار توما الرسول العذاب الأليم من الوثنيين في الهند حتى أنهم سلخوا جلده كما يسلخ جلد الحمل الوديع، فوضع جلده على كتفه بصبر عجيب، وجال بين الناس يبشّر باسم السيد المسيح حتى هجم عليه كهان الوثنيين وهو يصلّي وطعنوه بالرماح في جنبه الأيمن، ففاضت روحه الطاهرة في عام 75م في مدينة ميلابور القريبة من مدراس حيث دفن جثمانه الطاهر، واقترن اسمه ببلاد الهند، فهو رسول الهند. قال كيرلس اليسوعي نقلاً عن حوادث البرتغاليين أنّهم وجدوا عند مرورهم بمسيحيي ميلبار (جنوب الهند) أن هؤلاء يقولون في كتب صلواتهم باللغة السريانية ما ترجمته «إن القديس توما اجتذب إلى الإيمان المسيحي الحبشة والصير والعجم» ([269]) ويعني بالحبشة بلاد الهند، فقد جرت العادة أن يطلق على جميع الشعوب السود لوناً، اسم الأحباش أو الكوشيين ([270]).

  • نقل رفاته إلى الرها:

في 3 تموز من عام 394م نقلت الجالية السريانية الرهاوية ([271]) رفات مار توما الرسول من الهند إلى الرها فوصل إليها في 22 آب من السنة ذاتها، وأودع في الكاتدرائية الفخمة التي كان قورا أسقفها، قد وضع حجر أساسها وبدأ بتشييدها سنة 313م، وأنجز بناءها بعده الأسقف سعاد. وهي على اسم مار توما الرسول.

 

  • أديرة وكنائس على اسم الرسول توما:

شيدت على اسم الرسول توما أديرة وكنائس عديدة في أماكن شتى من العالم، فمن الأديرة المشهورة دير قنسرين الذي أنشئ على شاطئ الفرات مقابل بلدة جرابلس، وذلك نحو عام 530، وتخرّج في مدرسته رهبان عديدون، وخمسة عشر أسقفاً، وسبعة بطاركة، وكان عامراً حتى القرن الثالث عشر. أما الكنائس فعديدة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر كاتدرائية مار توما الرسول الفاخرة في الرها، التي مرّ بنا ذكرها. وكنيسة مار توما الرسول في باب المُحوِّل في الكرخ في بغداد، وتسمى أيضاً كنيسة قطيعة الدقيق التي أنجز بناؤها في غضون القرن التاسع للميلاد، وأحرقت عام 1002م وجدّدها المفريان إغناطيوس الأول عام 1004م ثم هدمت في القرون المتأخرة. وفي عام 1978 شيّد المؤمنون في بغداد كنيسة جديدة على اسم مار توما الرسول بالكرخ في بغداد ([272]) لإحياء ذكرى كاتدرائية مار توما في باب المُحوَّل في الكرخ.

ومن الكنائس القديمة العهد التي شيِّدت على اسم مار توما الرسول كنيسته في الموصل ([273]) بالعراق التي ذكرت في التاريخ مركزاً للأبرشية منذ بدء القرن السابع للميلاد، ويعتقد أنها كانت داراً لأحد المجوس الذين سجدوا ليسوع وهو طفل في بيت لحم، وبشّرهم الرسول توما، فآمنوا بالرب، وحوَّل هذا المجوسي داره إلى كنيسة وهي لا تزال عامرة ([274]).

  • اكتشاف ذخيرة الرسول توما:

عام 1964 بينما كانت أعمال الترميم تجري في كاتدرائية مار توما الرسول في الموصل على عهد مطرانيتنا لتلك الأبرشية، اكتشف في ثغرة في أعلى العمود الأول الواقع عن يسار الشخص المواجه مذبح الكنيسة القديمة ([275]) جرن حجري من الرخام الصلب، لونه أبيض مائل إلى الحمرة ملفوف بقماش أبيض، بُلي لقدمه، والجرن ذو ستة وجوه مستطيلة الشكل، طول سطحه 5 ,13 سم، وعرضه 5 ,8 سم، وارتفاع كل من جوانبه 8 سم، وعمقه الداخلي 5 ,14 سم، وعرضه الداخلي 5 ,5 سم، وطوله الداخلي 9 سم. غطاؤه مستدق الأطراف منحوت من الحجر ذاته. كتب على أحد جوانب الجرن الطويلة بالقلم السرياني الاسطرنجيلي (مار توما)، وبالقلم السرياني النسخي الذي بشّر بلاد الهند. وفي الجانب المقابل للكتابة دُقَّ مسمار حديدي لتثبيت الجرن بالبناء. وفي الأول من أيلول 1964 فتحنا الجرن فوجدنا داخله قطعاً صغيرة من العظام والبخور، ملفوفة بقماش أصفر اللون بُلي لتقادم عهده، وتناثرت أجزاؤه عند لمسه. وبعد أن درسنا بإمعان وتمحيص مع من لهم إلمام واسع ودراسات قيّمة في علم الآثار والتاريخ، تأكّد لدينا بأننا عثرنا على كنز ثمين هو جزء من رفات القديس مار توما الرسول، فأقمنا الصلاة المناسبة، وتبركنا والمؤمنين من هذه الذخيرة المقدسة. وأعدنا القماش البالي إلى موضعه في الجرن، ثم ختمنا الجرن، وشيّدنا مقاماً لائقاً في الكاتدرائية ذاتها، ووضعنا الذخيرة.

والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المجال هو كيف وصلت هذه الذخيرة إلى الموصل؟! والجواب على ذلك هو أن رفات مار توما كانت قد نقلت إلى الرها في القرن الرابع كما مرّ بنا، وأن الرها والموصل تخضعان للكرسي الرسولي الأنطاكي، وقد اعتاد السريان لدى تشييدهم الكنائس على اسم أحد القديسين أن يحتفظوا بجزء من رفات هذا القديس للبركة. فلا يستبعد طلب الكنيسة في الموصل جزءاً من رفات القديس توما من الكنيسة في الرها عن طريق الكرسي الرسولي الأنطاكي، خاصة وأن كنيسة الموصل تعتبر من الكنائس القديمة جداً، ويظن أنها كانت بيت مجوسي كما مرّ بنا، وأن القديس توما عندما اجتاز العراق في طريقه إلى الهند قد حلّ في ذلك البيت.

  • الخاتمة:

قال أوسابيوس القيصري المؤرخ (ت339): «أن المسيحيين منذ فجر النصرانية كانوا ولا يزالون يجتمعون عند مدافن الشهداء ويقدمون الصلوات والنذور مكرمين رفاتهم». ولا غرو فإن للقديسين كرامة لدى اللّه تعالى، فقد جاء في سفر التكوين قول الرب الإله لإسحق «لا تخف لأني معك وأباركك وأكثر من نسلك من أجل ابراهيم عبدي»(تك 26: 24) ([276]). وجاء في ليترجية مار يعقوب أخي الرب دعاء يرفع إلى الرب عن القديسين وهو: «أننا نذكرهم لكي يذكرونا أمامك». وإن لذخائر القديسين كرامة كبرى، وقوة سماوية سامية، فإن موسى حمل عظام يوسف عندما غادر شعب العهد القديم مصر (خر 13: 19) ويقول الآباء إن عظام يوسف غدت سوراً للشعب في البرية، ونقرأ في الكتاب المقدس عن عظام إليشاع النبي التي ما إن لامستها جثة الشاب الميت حتى عادت الحياة إلى ذلك الشاب ([277]).

قال مار يعقوب السروجي الملفان السرياني الكبير (521 +) وهو يخاطب الرسول توما على لسان الرب يسوع ما تعريبه: «في ذلك المكان الذي يجثم فيه رفاتك الطاهر إلى يوم النشور هناك تستقر قوة يستشفي بها جميع المنكوبين».

«فلقاء أنك ستطعن بالحربة مثلي لأنك أحببتني كثيراً، ستنساب منك أنهار مياه حية».

«لقاء إرسالي إيّاك بصفة عبد إلى الديار الهندية، سيرسل الملوك في أثر رفاتك احتراماً».

«يكون ضريحك حصن معونات للعظماء والبسطاء، وبه يحتمي جميع الذين عضتهم أنياب الضيق والاضطهاد».

«فجسدك يكون ميناء السلام يقلّ البشر، ويقصدك الناس زرافات ووحداناً من جميع أنحاء المعمورة إجلالاً لعظامك» ([278]).

لتكن صلاة الرسول توما معنا جميعاً لننال الطوبى التي أعطاها الرب للذين، وإن لم يروه، آمنوا به مخلصاً ورباً وإلهاً عظيماً، صلب، ومات بالجسد، وقام في اليوم الثالث من القبر حياً ممجَّداً.

«طوبى لمن قد آمنوا

 

ولم يروا الربَّا

 

وامتلأت قلوبهم

 

لربهم حبّا

 

طوباهم فإنهم

 

يشدون حامدينْ

 

يحيون مع إلههم

 

للدهر خالدين»

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الـرهــبـــانـــيــــة )*(

في كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية

 

  • تعريفها:

تدعى الرهبانية فلسفة الشريعة المسيحية، وهي الزهد في الدنيا وترك حلالها وحرامها، والانصراف إلى طلب الآخرة  بكبح جماح أهواء الجسد، وضبط نزواته وتجنب كل ما لا ينسجم والحياة المسيحية الطاهرة النقية.

  • النسك الفردي:

بدأت الرهبانية بحياة العزلة عن الناس في خلوة فردية  تامة بقصد العبادة،  فكانت نسكية  فردية فدعيت الرهبانية التوحدية لتوحّد النسّاك أي بإقامة كل واحد منهم لوحده انطلاقاً من شعوره بوجوب التجرّد من كل شيء في هذه الدنيا، والابتعاد عن كل إنسان، وعلى قدر الإمكان، للاختلاء بربه صلاةً وصياماً في سبيل الفوز بالحياة الأبدية.

  • الرهبانية الديرية:

وتطورت الرهبانية من نسكية فردية إلى حياة شركة روحية واجتماعية حيث تجمّع بعض النسّاك تحت قيادة أب واحد روحي، وعالم خبير، يرشدهم إلى طريق الكمال، ثم أسست الأديرة لهذه الغاية وكانت تدار أيضاً من أب واحد له خبرته العميقة في الحياة الرهبانية والنسكية فدعيت (بالرهبانية الديرية) ووضعت النظم الداخلية للأديرة التي حددت فيها العلاقات الروحية والاجتماعية بين الرهبان وعلاقتهم مع أبي الدير ورئيسه ومع معاونيه من الشيوخ العلماء الأفاضل الذين يرشدون المبتدئين إلى أصول الحياة الرهبانية ويدربونهم ويهتمون برعايتهم. ورغم وجود الأديرة ظلّت الحياة النسكية قائمة وانتشر النسّاك والزهاد في الكهوف والمغاور كما أن العديد منهم كانوا يقضون أيام الأسبوع في كهوفهم وقلاليهم ومحابسهم منفردين داخل أسوار الأديرة أو خارجها، ويجتمعون في فجر أيام الأحد، ليشتركوا مع إخوانهم ورئيس ديرهم بالقداس الإلهي ويتناولوا معهم طعام المحبة (الأغابي) ثم يعودون إلى مناسكهم.

  • الرهبانية في الأديان القديمة:

لم تخلُ الأديان القديمة من ممارسات شبيهة بالنسك والرهبانية في المسيحية، من ترويض للجسد لضبط نزواته، عن طريق الصوم والصلاة، وإجهاده بالعمل الشاق لتستنير الروح. ولكن هذه الممارسات في الأديان القديمة بعيدة كل البعد عن روح التوبة النصوح التي عن طريقها يطمح الراهب المسيحي إلى بلوغ الكمال الإنجيلي، وذلك بأدائه فرائض الرهبانية التي لا يقصد بها تعذيب الجسد لأجل التعذيب، بل ترويضه لفسح المجال الواسع للروح لتتنشّط بممارسة الفضائل، والتحلّي بالمزايا الحسنة. إذن قد أخطأ من ظنّ أن أصل الرهبانية المسيحية موجود في الديانات السابقة من فرعونية مصرية أو بوذية هندية أو حتى يهودية.

  • النسك في العهد القديم:

ولكن لا ينكر أن إيليا النبي مثلاً الذي ذكر في أسفار العهد القديم من الكتاب المقدس كان مثالاً للنساك المتوحّدين الزاهدين العازفين عن الدنيا وما فيها من مغريات. وقد ذكر عنه أن اللّه سبحانه وتعالى أمره قائلاً: «انطلق من هنا واتجه نحو المشرق واختبئ عند نهر كريث الذي هو مقابل الأردن فتشرب من النهر وقد أمرت الغربان أن تعولك هناك. فانطلق وعمل حسب كلام الرب وذهب وأقام عند نهر كريث الذي هو مقابل الأردن. وكانت الغربان تأتي إليه بخبز ولحم صباحاً وبخبز ولحم مساءً وكان يشرب من النهر»(1مل 17: 2 ـ 6).

كما كان يوحنا المعمدان يحيا حياة ناسك، فقد تربّى في البرية منذ طفولته «وكان يوحنا يلبس وبر الإبل ومنطقة من جلد على حقويه ويأكل جراداً وعسلاً برياً»(مر 1: 6).

  • أ صل الرهبانية المسيحية:

استمدّت الرهبانية المسيحية مبادئها من الاقتداء بحياة الرب يسوع على الأرض والعمل بحسب تعاليمه السامية. فقد عاش الرب يسوع حياة وحدة في البرية وقد صام مدة أربعين يوما وأربعين ليلة. وكتب عنه أنه «جال يصنع خيراً ويشفي جميع المتسلط عليم إبليس لأن اللّه كان معه»(أع 10: 38) وعاش فقيراً باختياره وبهذا الصدد يقول الرسول بولس: «فإنكم تعرفون نعمة ربنا يسوع المسيح أنه من أجلكم افتقر وهو غني لكي تستغنوا بفقره»(2كو 8: 9) فلم يكن له مكان معيّن يأوي إليه.

جاء في الإنجيل المقدس أن كاتباً تقدم إليه مرة و «قال له يا معلم أتبعك أينما تمضي؟ فقال له يسوع: للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه»(مت 8: 20) وكان تلاميذه يجمعون الصدقات لسد حاجاته وحاجاتهم الجسدية. ولما أرسلهم للكرازة بالإنجيل؛ أوصاهم قائلاً: «وفيما أنتم ذاهبون اكرزوا قائلين أنه قد اقترب ملكوت السموات، اشفوا مرضى، طهّروا برصاً، أقيموا موتى، اخرجوا شياطين، مجاناً أخذتم مجاناً اعطوا. لا تقتنوا ذهباً ولا فضةً ولا نحاساً في مناطقكم… ولا أحذية ولا عصا، لأن الفاعل مستحق طعامه»(مت 10: 7 ـ 10).

فهذا الأمر الإلهي هو الأساس الذي عليه قام نذر الفقر الاختياري الذي ينشئه الراهب. أما البتولية فمصدرها تعليم الرب يسوع أيضاً الذي قال: «ويوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السموات من استطاع أن يقبل فليقبل» (مت 19: 12). هكذا تسلّم الرسل من الرب مفهوم البتولية وفضلها على الزواج. وبهذا الصدد كتب الرسول بولس إلى أهل كورنثوس قائلاً: «ولكن أقول لغير المتزوجين وللأرامل أنه حسن لهم إذا لبثوا كما أنا… فأريد أن تكونوا بلا هم. غير المتزوج يهتمّ في ما للرب كيف يرضي الرب. وأما المتزوج فيهتمّ في ما للعالم كيف يرضي امرأته. إن بين الزوجة والعذراء فرقاً. غير المتزوجة تهتم في ما للرب لتكون مقدسة جسداً وروحاً أما المتزوجة فتهتمّ في ما للعالم كيف ترضي رجلها»(1كو 7: 8 و32: 34).

هكذا نشأت الرهبانية في المسيحية نتيجة حتمية لتطبيق تعاليم الرب يسوع في السعي إلى بلوغ الكمال المسيحي، بالتجرّد والتضحية ونكران الذات، زيادة في التقرب إلى اللّه بالاقتداء بالمسيح، واقتفاء أثره، والتجنّد له، بحمل الصليب المقدس، وإنجازاً لأمره الإلهي للشاب الذي سأله عما يجب أن يعمله كي يرث الحياة الأبدية فقال له يسوع: «إن أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبع أملاكك، وأعطِ الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني»(مت 19: 16 ـ 22) وقوله له المجد لتلاميذه الأطهار: «إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني، فإن من أراد أن يخلّص نفسه يهلكها ومن يهلك نفسه من أجلي يجدها. لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه. أو ماذا يعطي الإنسان فداء عن فسه، فإن ابن الإنسان سوف يأتي في مجد أبيه مع ملائكته، وحينئذ يجازي كل واحد حسب عمله»(مت 16: 24 ـ 27) «الحق أقول لكم ليس أحد ترك بيتاً أو إخوة أو أخوات أو أباً أو أماً أو امرأة أو أولاداً أو حقولاً لأجلي ولأجل الإنجيل، إلا ويأخذ مئة ضعف الآن في هذا الزمان بيوتاً وإخوة وأخوات وأمهات وأولاداً وحقولاً مع اضطهادات وفي الدهر الآتي الحياة الأبدية»(مر 10: 29و30).

  • الدوافع الحقيقية والصادقة لطالب الرهبانية:

عقد العلامة ابن العبري مفريان المشرق (1286+) فصلاً في كتابه الموسوم بـ (الحمامة) تناول فيه الأسباب الموجبة لابتعاد الإنسان عن العالم واختياره طريق الرهبانية قال:

«يبتعد الإنسان عن العالم وشهواته لسببين اثنين: ـ فالسبب الأول حقيقي رئيسي، وهو نتيجة إلهام إلهي ينشأ في فكر الإنسان فيوقظه من سباته ليتصور ليل نهار أمامه العذاب المعدّ للخطاة في العالم الآتي، والنعيم الموعود به للأبرار في ملكوت اللّه، وهذا الأمر لا يحدث إلا نادراً ولأفراد قليلين، وفي أزمنة متفاوتة وفي بعض الأمكنة فقط.

وأما السبب الثاني فهو مجازي ومستعار، إنه محبة المجد الباطل التي تغري الإنسان بالشهرة حتى تسوقه إلى اقتناء المجد بأتعاب النسك المضنية، ومثله مثل بعض الأغنياء الذين في سبيل الحصول على المجد يضحّون بخسارة كبيرة.

وهذا السبب يحصل لكثيرين وفي كل زمان ومكان، وهو ولئن كان هيناً حقيراً، يقتضي عدم رفضه رفضاً باتاً، إذ كثيراً ما تسقط البذور على الأرض عفواً وتأتي بثمار كثيرة، وكم من بذور فلح حقلها ولكنها لم تثمر» ([279]).

  • النذور الرهبانية:

الرهبانية الحقيقية إذن هي دعوة خفية من اللّه يلبيها طالب الرهبانية مبرهناً على صدق نيته بشوقه إلى بلوغ الكمال المسيحي الذي هو اتحاد إرادة الإنسان مع إرادة اللّه بالتوبة النصوح التي يقدمها الإنسان ليكون في حالة النعمة والبر والقداسة كي يصير في حالة شركة مع اللّه تعالى فيعمل لا مشيئته بل مشيئة اللّه تعالى متجرّداً عن الدنيويات كلها. ويترجم الراهب الصالح كل ذلك بتطبيقه بالفعل النذور الثلاثة التي كان قد أنشأها، بملء إرادته وكامل حريته، علانية. وهذه النذور هي:

أولاً: الطاعة التامة أي الخضوع لإرادة رئيسه الروحي ومرشده وشيخه.

ثانياً: الفقر الاختياري وهو ألاّ يملك من متاع الدنيا شيئاً البتة.

ثالثاً: البتولية وهي ألاّ يتزوّج ويصون نفسه عفيفاً. وهذه النذور هي وعد للّه صادق يلتزم به الراهب طيلة حياته، كما أنها عهد وثيق منه مع اللّه تعالى به يوجب الراهب على نفسه إلزاماً أبدياً أكيداً تحت عقاب الهلاك الأبدي.

وإلى جانب النذور الثلاثة، هناك الفروض المسيحية التي على الراهب أن يؤديها وهي الصلاة والصوم وتوزيع الصدقات من المال اليسير الذي قد يحصل عليه من بيعه ما صنعه بيديه لتحصيل قوته اليومي بعرق جبينه. كما أن على الراهب أن يكثر من السهر، ويلزم الصمت متجنّباً الكلام الباطل مع الناس.

وقد يبتعد الإنسان عن العالم كما ذكر العلماء الروحيون لسبب مجازي مستعار وغاية غير إلهية سامية في سبيل الحصول على المجد الباطل. والعلماء الروحيون ينصحون بألاّ يرفض عمل كهذا رفضاً باتاً فقد يبدأ الإنسان بمحبة المجد الباطل، وينتهي بمحبة الله. يذكر من هذا الصنف الذين هربوا إلى البراري خوفاً من الاستشهاد في سبيل الإيمان أو من ظلم البشر فانعزلوا عن الناس وواظبوا على أعمال الزهد والتقشُّف والصوم والصلاة والسهر، وبلغ بعضهم درجة الكمال المسيحي، وصاروا قدوة صالحة للآخرين.

  • عوامل ساعدت على ازدهار الرهبانية وانتشارها:

ومما ساعد على ازدهار الرهبانية وانتشارها في القرن الرابع الذي يدعوه بعضهم (قرن الرهبانية)، المرسوم الذي أصدره قسطنطين الكبير في ميلان عام 313 الذي فيه أصبحت الديانة المسيحية لأول مرة في تاريخها ديانة مسموحاً بها إلى جانب الديانات الأخرى، كما أعفى الامبراطور قسطنطين بعدئذ الأعزب ومن لا أولاد له من الضرائب التي أثقلت كواهل الناس حتى قيل أنّ الكثيرين كانوا يتركون أفراد عائلاتهم ويهربون إلى البراري والقفار للتخلّص من الضرائب. كما أعفى أيضاً الرهبان من الخدمة العسكرية. فعوامل كهذه ساعدت على تشجيع الآلاف من الشبان للانخراط في سلك الرهبانية وتحمل مشقات الالتزام بنذورها وإتمام فروضها، وبساطة العيشة تحت ظلها. وإن أغلب هؤلاء في حياتهم الرهبانية ووحدتهم وبفضل مرشديهم وشيوخهم وخبراء الحياة الروحانية أعطوا ثمار الروح وسموا عن المادة، وتحرروا من عبودية الجسد، والروح المادية.

ومما ساعد أيضاً على تأييد الفكرة الرهبانية والتعمق بالتأمل، الفلسفة الأفلاطونية الجديدة التي تأثر بها من الناحية النسكية الصوفية بعض آباء الكنيسة.

  • معرفة من هو الراهب الحقيقي:

إن الحياة الرهبانية هي حياة توبة مستمرة وإن تحلّي الراهب بالفضائل وتجنّبه الرذائل أفضل برهان على صدق نيته في التقدم إلى هذا السلك المبارك. وقد تراوده أفكار الارتداد والعودة إلى العالم فإذا صمد متحملاً مشقات أداء الفروض الرهبانية بطاعة المرشد الشيخ يكون قد انتصر على التجربة. وحتى لو لم تكن دعوته بإلهام إلهي تصير دعوة سماوية لثباته ومواظبته على الصلاة والقيام بالفروض الموجبة على الرهبان.

إن جهاد الراهب المستميت ضد إغراءات إبليس لا هوادة فيها، ولكن محبة الراهب للرب أقوى من الحياة والموت، فهو قد صلب مع المسيح أهواء الجسد، إذ حمل صليب المسيح الذي هو علامة الموت عن العالم، وتحمل احتقار الناس من أجل اسم المسيح، ليحيا الراهب مع المسيح متمثلاً بالرسول بولس القائل: «مع المسيح صُلبت لأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ» (غل 2: 20).

لذلك لا يفصل الراهب عن محبة المسيح «لا موت ولا حياة ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة ولا علو ولا عمق ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبة اللّه التي في المسيح يسوع ربنا» (رو 8: 35 ـ 39) على حد قول الرسول بولس.

وينصت الراهب لنصيحة الحكيم سليمان القائل على لسان الرب: «يا بني أعطني قلبك ولتلاحظ عيناك طرقي» (أم 23: 26) وفي هذا المضمار ينصح مار موسى ابن كيفا (930+) الراهب قائلاً: «يا بني إذا وهبت نفسك لمحبة اللّه ومخافته، لا تتقدم بقلبين بل حارب إبليس عدو البشرية بشجاعة فائقة وتشبّه بالرجل الجبار الذي ينزل إلى ساحة الوغى ليهلك الأعداء» ([280]).

  • جهاد الراهب الروحي:

أما مار أفرام السرياني (373+) فيصف لنا فلسفة الرهبانية في قصيدة سريانية نفيسة، وكيف كان يروّض نفسه على شظف العيش ويدرّبها على محاربة أهواء الجسد والتغلب عليها قائلاً ما تعريبه بتصرف:

« ـ كم من مرة جعت وكان جسدي بحاجة إلى الطعام ولكنني امتنعت عن تناوله لكي استحق الطوبى التي سينالها الصائمون.

ـ عطش جسدي الذي جبل من طين الأرض، ورغب في الماء ليرتوي، فأهملته ناضباً، لكي يستحق أن يذهب ويتلذذ بندى فردوس النعيم.

ـ وإذ كان الجسد دائماً يكثر مراودتي في فتوتي وشيخوختي، فإني كنت أروّضه يوماً فيوماً حتى النهاية.

ـ في صباح كل يوم كنت أفكر بأنني سأموت مساءً وكالرجل المائت لا محالة، قمت بأعباء عملي كل أيام حياتي دون ملل ولا كلل.

ـ وفي مساء كل يوم كنت أتصوّر أني لا أكون في الوجود صباحاً، فانتصب بالصلاة والعبادة حتى شروق الشمس وبزوغها.

ـ عندما سألني الجسد غفوة هو بأمس الحاجة إليها استهويته بالطوبى التي منحها الرب للايقاظ.

أقمت من نفسي للمسيح كنيسة وفيها قدمت له أتعاب أعضاء جسمي بخوراً وعطوراً.

قد صار ذهني مذبحاً وإرادتي كاهناً، وكمثل حَمَل لا عيب فيه ضحّيت بذاتي قرباناً.

ـ قد حملت نيرك يا سيدي منذ فتوتي وحتى شيخوختي، وواظبت على عبادتك حتى النهاية جذلان بلا ملال ولا كلال.

ـ تحمّلت عذاب الجوع منتصراً عليه إذ رأيتك بين اللصين تذوق المرارة لأجل (خلاصي).

ـ اعتبرت ضيق العطش وكأنه لم يكن، إذ رأيت سيدي بسبب خطيتي يمتص الخل من الاسفنجة.

ـ لم أعرِ للأطعمة أهمية. ونبذت الخمور، إذ وضعت نصب عينيّ وليمة ملكوتك أيها الختن السماوي» ([281]).

على هذا المنوال كان الرهبان يروّضون أجسادهم ليتحمّلوا شظف العيش ومرارة التقشف، وقساوة طقوس الزهد وهم يكثرون السهر والصلاة والصوم والأعمال اليدوية المضنية جداً ليفوزوا بالحياة الطاهرة النقية. فيشرق عليهم نور الرب من العلاء، بل إن الكاملين فيهم قد بلغوا درجة الاتحاد به له المجد.

وقد لخّص القديس مار أنطونيوس أبو الرهبان (356+) فلسفته بالزهد بقوله: «إن قوة النفس تكون سليمة عند الإقلال من ملذات الجسد». وهذا ما عناه تماماً الرسول بولس بقوله: «حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي»(2كو 12: 10).

ويذكر القديس أثناسيوس الرسولي (373+) أن الأنبا أنطونيوس «كان يسهر طويلاً لدرجة أنه كثيراً ما كان يقضي الليل كله مصلّياً دون أن ينام. وهذا لم يفعله مرة واحدة بل مراراً حتى عجب منه الآخرون. وكان لابساً شعراً ولم يستحم بماء طوال حياته (النسكية). وكان يأكل مرة واحدة في اليوم بعد الغروب. وفي كثير من الأحيان مرة كل يومين، أو مرة كل أربعة أيام. أما طعامه فكان الخبز مع قليل من الملح. وشرابه الماء فقط… وكان يكفيه أن ينام على حصير خشن، ولكنه غالباً كان ينام على الحضيض» ([282]).

  • تأسيس الرهبانية الديرية وتنظيمها:

عرفت الرهبانية في المسيحية منذ المئة الثانية للميلاد كما يذكر العلامة ابن العبري مفريان المشرق (1286+)([283]) وظهر في القرن الثالث للميلاد نسّاك وعبّاد ومتوحّدون في أماكن عديدة من المنطقة التي كانت كنسياً خاضعة للكرسي الرسولي الأنطاكي.

ويُعدّ القديس أنطونيوس (251 ـ 356) مؤسس الرهبانية في مصر ووصف بأنه أبو الرهبان وكوكب البرية. ويعتبر الأنبا بولا (347+) أول المتوحّدين، وقبل وفاته زاره الأنبا أنطونيوس بإلهام رباني وسمع منه قصته، كما أنبأه الأنبا بولا عن دنو أجله وأن اللّه أرسله ليقوم بمراسم دفنه. وقد عمّر الأنبا بولا نحواً من مئة وثلاث عشرة سنة وكان قد اختار الصحراء الشرقية في مصر مقراً له وسكن مغارة هناك مدة تسعين سنة وهو يقتات بنصف رغيف من الخبز يحمله إليه غراب كل يوم شأنه بذلك شأن إيليا النبي العظيم.

 

ولما ازدهرت الرهبانية وانتشرت الأديرة في مصر قام الأنبا باخوميوس بتنظيم الحياة فيها بحيث تتلاءم وحاجات الرهبان الروحية والجسدية والاجتماعية.

  • الأديرة السريانية:

أما في المنطقة التي كانت خاضعة كنسياً للكرسي الرسولي الأنطاكي أي في سورية وما بين النهرين وسواحل فلسطين الجنوبية وبادية الشام والجزيرة وجبل الرها وجبل الأزل المشرف على نصيبين وطورعبدين وقردو وألفاف قرب الموصل، فقد شيدت منذ أوائل القرن الرابع للميلاد الأديرة الكثيرة والشهيرة التي صارت منارات للعلم والمعرفة والفضيلة، وانضوى إليها آلاف الرهبان والراهبات الذين عزفوا عن الدنيا وسعوا وراء الآخرة. وتضوعت جوانب أديرتهم وكهوفهم ومحابسهم وقلاّياتهم بأريج فضيلتهم.

ذكر سوزمين المؤرّخ اليوناني (423م) في تاريخه، ثلاثين ناسكاً في براري سورية الشمالية والوسطى ويؤكّد أنهم فاقوا نسّاك مصر في ممارسة الزهد([284]) وهو إنما يقصد النخبة التي اشتهرت بالتطرف بأعمال الزهد والتقشف، أما آلاف الرهبان والراهبات فقد كانوا قد ملأوا العدد الكبير من الأديرة في تلك المناطق.

  • ليست الرهبانية رتبة كهنوتية:

وبهذا الصدد يقول العلامة ابن العبري مفريان المشرق (1286+): «أما الرهبانية فهي ليست من ضمن الرتب الكهنوتية لأن الرهبان أقل درجة من الشمامسة» ([285]) كما قال أيضاً: «لا يسمح للراهب أن يدخل إلى المذبح ولا أن يلمس الأسرار فإن ديماثيليوس (الراهب) الذي تجرّأ على ذلك لامه ديونوسيوس العظيم لوماً شديداً» ([286]) ولكن على الرغم من أن الرهبانية نشأت خارج نطاق الكنيسة، تعتبر الرهبانية قوة وراء الكنيسة، ذلك أن الرهبان والراهبات لا يعيشون رسالتهم التي هي الاهتمام بخلاص نفوسهم فقط، بل أيضاً قد اهتمّوا بخلاص الآخرين. فهم يرفعون الصلاة ليل نهار لأجل الكنيسة والعالم لتستضيء البشرية بنور الإيمان وقد حملوا مشعل الإنجيل المقدس إلى أنحاء عديدة من العالم، فأناروا دياجير الظلام، وأسدوا إلى المجتمع البشري فضلاً عميماً بنشر العلم والمعرفة.

  • الرهبانية في خدمة الكنيسة:

وكان النسّاك والمتوحّدون يغادرون صوامعهم وأديرتهم وينزلون إلى المدن إبّان الشدة، لتثبيت المؤمنين على التمسك بالإيمان وتحمل الاضطهاد بصبر وإيمان في سبيل ذلك، وعندما كانت البدع تتفشّى كان النسّاك والزهاد يعظون المؤمنين ليتجنّبوا الهرطقة وليثبتوا في العقيدة السمحة التي تسلّمتها الكنيسة من الرسل الأطهار. هكذا فعل القديس الأنبا أنطونيوس أبو الرهبان وكوكب البرية الذي حرص ألاّ يقطع علاقته مع الكنيسة وصار خير مثال للرهبان في التعاون مع أساقفة الكنيسة. فقد غادر صومعته وقصد الاسكندرية عام 311 إبّان شدة مكسيمينوس (305 ـ 318) رغبة منه في الاستشهاد في سبيل المسيح يسوع، وكان يتفقّد المعترفين في سجونهم ويعزّيهم ويشجعهم ليثبتوا حتى الموت على الإيمان. وزار الاسكندرية للمرة الثانية سنة 355م يوم كان الأريوسيون يفتكون برجال الكنيسة والمؤمنين باضطهاد عنيف أثاروه ضد المؤمنين فخرج الأنبا أنطونيوس من عرينه يدافع عن الإيمان القويم، ويعزي المعترفين ويزور المسجونين مشجعاً إياهم على تسفيه الهرطقة الأريوسية الشنيعة فتحمّل في سبيل ذلك عذاباً أليماً([287]).

أما مار أفرام السرياني (373+) فقد اهتمّ بتأليف جوقة مختارة من فتيات الرها السريانيات اللواتي علّمهن ما ابتكره من أنغام، وما نظمه من قصائد لتثبيت العقائد المسيحية السمحة ودحض الهرطقات، وإليه يعود الفضل في بدء تنظيم الحياة الطقسية في الكنيسة السريانية.

ومما هو جدير بالذكر في هذا المضمار أنه لما حدثت مجاعة في الرها في شتاء سنة 372 ـ 373 ومات عدد غير يسير من أهلها جوعاً، كان مار أفرام يطوف دور الأغنياء في الرها ويجمع منهم الصدقات ويوزّعها على الفقراء. وأسّس دوراً جمع فيها ألفاً وثلاثمئة سرير صارت ملجأ للعجزة، وكان يشرف بنفسه على الاعتناء بهم. وعلى أثر الجوع انتشر وباء الطاعون فانبرى مار أفرام في تطبيب المرضى ومواساتهم حتى أصيب بدوره بداء الطاعون، واحتمل صابراً آلامه المبرحة وفاضت روحه الطاهرة نتيجة لذلك في 9 حزيران 373م([288]).

  • مكانة الرهبانية المرموقة في الكنيسة([289]):

فبعد أن نشأت الرهبانية خارج الكنيسة، صارت قوة مع الكنيسة وداخل الكنيسة، فهي ليست صلاة وصوماً وزهداً وتقشفاً وسهراً وليست فقط علماً ومعرفة بل هي عنصر مهم في الكنيسة فقد جمعت بين روح الزهد والصوفية وصار الراهب في نظر الجماعة حامل رسالة سامية، هي رسالة تعاليم الإنجيل يعيشها بصدق، وينفّذها كاملة بأمانة تماماً كما يقدمها للناس. فوثق به الناس. وهكذا اتّخذت الرهبانية مكانتها المرموقة واللائقة بها في الكنيسة فاعترفت بها الكنيسة التي رأت أن تكون قيادتها من الرهبان، فانتخبت أساقفتها منهم. وهكذا كان وما زال التقليد في كنيستنا السريانية أن يؤخذ المطارنة من الرهبان، والبطاركة من المطارنة وكانوا يؤخذون أحياناً من الرهبان أيضاً. وعاش هؤلاء الرؤساء الروحيون حتى بعد ارتقائهم إلى درجة رئاسة الكهنوت حياة زهد وتقشف وكأنهم ما يزالون في صوامعهم، كما ذكر عن مار يعقوب أسقف نصيبين ومعلم مار أفرام السرياني الذي كان يتّشح بجلد المعزى، وكان زاهداً صوّاماً قوّاماً. وهكذا ظهر فضل الرهبانية على الكنيسة وما يزال وارتبط ازدهار الكنيسة وتقدمها روحياً بازدهار الرهبانية وتمّ بالفعل ما قاله القديس أثناسيوس الرسولي (373+): «أنه منذ ضعفت الرهبانية والكهنوت ضعفت الكنيسة كلها»([290]).

ولأهمية الرهبانية شيّدت الأديرة الفخمة التي ملأها ألوف الرهبان والراهبات الذين كانوا يعبدون اللّه ويخدمون الكنيسة بحسب ما وهبهم اللّه من مواهب وبموجب النظم التي كانت أديرتهم تتبعها.

كانت الأديرة منارات للدين والعلم والمعرفة، ورموزاً خالدة للحضارة والمدنية، وكان الرهبان والراهبات مثالاً صالحاً للناس كافة. وصارت حياتهم اليومية برهاناً ساطعاً على صدق وعد المسيح للمتعبين والثقيلي الأحمال، فهو يريحهم إذا ما تبعوه وحملوا نيره عليهم وتعلموا منه الوداعة وتواضع القلب لأن نيره هيّن، وحمله خفيف (مت 11: 30) وشريعته الإلهية التي هي شريعة الكمال المسيحي، طبّقها الرهبان والراهبات عملياً وكانوا سعداء على الأرض، ونالوا ملكوت السموات إذ عبدوا اللّه بالروح والحق، كما شغفوا بتحصيل العلوم الدينية والمدنية، وأفادوا مجتمعهم والبشرية.

وانتشرت الأديرة في الجبال وعلى ضفاف الأنهار، وكانت بمثابة كليات وتتبعها مكتبات، كما أن بعض المدارس كانت تحت إدارة الرهبان، وكانوا يقصدونها من أديرتهم وأماكن مناسكهم كمدرستي نصيبين والرها. فقد اشتهرت مدرسة نصيبين في القرن الرابع، وبقيت زاهرة حتى القرن السابع وفيها نبغ مار يعقوب (338+) الذي سلّم زمام التعليم فيها إلى تلميذه العبقري مار أفرام السرياني (373+) وقد تقاطر عليها طلاب العلم الديني من بلاد ما بين النهرين السفلي التي كانت ترزح عصرئذ تحت نير الحكم الفارسي، ولذلك دعيت أيضاً المدرسة بمدرسة الفرس، وعندما سلّمت نصيبين إلى الفرس سنة 363م غادرها مار أفرام يصحبه بعض أساتذة هذه المدرسة، وانتقلوا إلى الرها حيث رئس مار أفرام مدرستها، وعلى يده ازدهرت واشتهرت، وكانت هذه المدرسة قد أنشأها ملوك الأباجرة منذ القرن الثاني للميلاد. وعندما تسلّم مار أفرام زمام رئاستها، ازدادت أهمية، وكان جبل الرها عصرئذ يضمّ أديرة لا عدد لها وقد غصّت بالرهبان وصوامع النسّاك، فاتّخذ له مار أفرام صومعة هناك، وكان تارة يتنسّك فيها، يفسّر الكتاب المقدس وينظم الميامر البديعة، وتارةً أخرى يتفرّغ للتدريس في مدرستها، كما يعلّم أيضاً في كنيستها الترانيم الروحية للعذارى خاصة، إلى أن انتقل إلى الخدور العلوية عام 373م([291]).

ويذكر البطريرك العلامة أفرام الأول برصوم (1957+) في كتابه النفيس الموسوم باللؤلؤ المنثور في تاريخ العلوم والآداب السريانية، أنه تمكّن من إحصاء ثلاثة وثمانين ديرا كانت مراكز مهمة للتعليم العالي منذ فجر النصرانية، وقد اندثر أغلبها وأصبح أثراً بعد عين، كما أن أطلال بعضها باقية إلى اليوم، وصمد نزر يسير منها على رغم ما قاسى سكانها من شدائد الاضطهادات ومحاولات الإبادة، قد رفدت تلك الأديرة الكنيسة والعالم بعلماء أعلام يشار إليهم بالبنان ودبّجوا الروائع، وخلّفوا البدائع في علوم اللاهوت والفلسفة واللغات وسائر صنوف العلم والمعرفة. وعلى الرغم من ضياع العديد من مؤلفاتهم النفيسة، فلا تزال أشهر مكتبات العالم ومتاحفه تفخر بما تملكه من مخطوطات سريانية. ونذكر على سبيل المثال لا الحصر بعض هذه الأديرة الشهيرة، مقتبسين ذلك عن بعض المصادر أولها وأهمها كتاب اللؤلؤ المنثور للبطريرك العلامة أفرام الأول برصوم. فمن هذه الأديرة المندثرة اخترنا ما يأتي:

1 ـ دير قنسرين: باسم مار توما الرسول، شيّد على شاطئ نهر الفرات بسورية حوالي سنة 530، وكان يضمّ في ذلك الزمان ثلاثمائة راهب تخرّج فيه سبعة بطاركة منهم البطريرك أثناسيوس الجمّال (631+) وخمسة عشر أسقفاً وكان عامراً حتى صدر المئة الثالثة عشرة ثم اندثر. ومن أشهر العلماء الذين درسوا فيه سويرا سابوخت، الفيلسوف الكبير في القرن السابع الذي خلّف لنا مؤلفات فلسفية وفلكية بديعة وعلى يده وصلت الأرقام الهندية إلى العرب([292]).

2 ـ دير قرقفتا: شيّده مار شمعون بين راس العين والحسكة بسورية على ضفة الخابور وذاع صيته في القرن الثامن، وعرف رهبانه بضبط حركات الكتاب المقدس، تخرّج فيه ستة أساقفة، وكان عامراً حتى منتصف القرن العاشر.

3 ـ دير مار برصوم: ذكر في القرن الثامن للميلاد، وقد بني على رأس جبل بقرب ملطية في تركية، وصار كرسياً بطريركياً في القرن الحادي عشر حتى أواخر القرن الثالث عشر، وتخرّج فيه خمسة بطاركة وأربعة وثلاثون مطراناً. وكان عامراً آهلاً حتى القرن السابع عشر. وممن تخرّج فيه مار يعقوب ابن صليبي مطران آمد (1171+) والبطريرك ميخائيل الكبير (1200+) والمفريان مار غريغوريوس يوحنا ابن العبري (1286+)، وكانت له مكتبة عامرة حفلت بعدد وافر من المخطوطات السطرنجيلية.

4 ـ دير مار زكا: بالرقة في سورية، ترهّب فيه يوحنا التلي سنة 508م وتخرّج فيه البطريرك يوحنا الرابع، وعشرون أسقفاً. نزل فيه هارون الرشيد الخليفة العباسي فاستطابه وأكرم أهله.

5 ـ دير البارد: أسّسه البطريرك يوحنا السابع في القرن العاشر في أطراف ملطية، أنجب بطريركاً ومفرياناً وثمانية عشر أسقفاً ومطراناً، وكان موطناً للتعليم حتى السنة 1243.

أما الأديرة التي ما تزال عامرة وآهلة فهي:

1 ـ دير الزعفران: ويقع شرقي ماردين بتركيا، عُمّر على أنقاض قلعة في أوائل القرن السادس للميلاد، وذاع صيته منذ أواخر القرن الثامن وصار سنة 1293 كرسياً لبطريركية أنطاكية للسريان الأرثوذكس، وبقي كذلك نيفاً وستمائة سنة، رفد الكنيسة بواحد وعشرين بطريركاً وتسعة مفارنة ومئة وعشرة أساقفة، ولا يزال عامراً آهلاً وفيه مدرسة دينية ابتدائية يديرها ويعلّم فيها أكثر من راهب.

2 ـ دير مار كبرئيل: شيّده في أواخر القرن الرابع الناسكان مار صموئيل ومار شمعون، وصار كرسياً لمطارنة طورعبدين منذ سنة 615 ـ 1049م، جلس على كرسيه المطران مار كبرئيل في القرن السابع (667+) فدُعي الدير باسمه. تخرّج فيه أربعة بطاركة من جملتهم تيؤدوسيوس (887 ـ 895م) الذي برع في الطب وألّف فيه كتاباً عرف باسمه. كما تخرّج فيه مفريان واحد وثمانون أسقفاً واشتهر رهبانه عبر العصور بصنع الرقوق وتهيئتها للكتابة، وأجادوا بنسخ الكتب وتجديد الكتابة السطرنجيلية على يد المطران يوحنا عام 988م، وهو الآن عامر آهل بالرهبان والراهبات وهو كرسي لمطران طورعبدين وفيه مدرسة مهمة.

3 ـ دير مار مرقس الإنجيلي: ويدعى أيضاً دير السيدة في القدس. ترتقي عمارته إلى المئة الخامسة، يشهد بذلك أثر سرياني اسطرنجيلي ظهر في بيعته عام 1940 وهو العلية التي أكل فيها الرب العشاء الأخير. وقد صار كرسي مطرانيتنا ومسكن رهباننا في القدس منذ سنة 1472، تخرّج فيه تسعة مطارنة.

4 ـ دير مار متى: في الموصل ـ العراق، شيّد في أواخر القرن الرابع وهو كرسي مطراني سكنه في حقبته الأولى عدد كبير من الرهبان، تهدّم ثم جدّد عام 1845. تخرّج فيه ثلاثة بطاركة وستة مفارنة وأربعة وعشرون مطراناً، وهو عامر آهل وفيه كرسي مطراني.

5 ـ دير السريان في مصر: يقع في برية الإسقيط شيّد في القرن الخامس واشتراه تاجر سرياني اسمه ماروثا التكريتي في أواسط المئة السادسة، وأوقفه على الرهبان السريان. وكان يحوي منهم سبعين راهباً عام 1084 وظلّ آهلاً بهم إلى منتصف المئة السابعة عشرة، وهو عامر آهل اليوم بالرهبان الأقباط.

  • الرهبانية في كنيستنا السريانية اليوم:

عانت كنيستنا السريانية صنوف الشدائد خاصة منذ ضحى الألف الثاني للميلاد، وأضعفتها أيضاً الانقسامات الداخلية نتيجة التيارات العشائرية والقبلية، ومحاولة الكنائس الغربية، اقتحام قلاع الكنائس الشرقية ومن جملتها كنيستنا السريانية، واستقطاع شرائح من أتباع الكنائس الشرقية وإخضاعهم لتلك الكنائس الغربية مستغلين في هذا الميدان نفوذ بعض الدول الأجنبية السياسي، وجهل حكام الدولة العثمانية، فضعف تأثير إكليروس الكنيسة السريانية التي لم تطلب حماية أية دولة أجنبية انطلاقاً من إيمانها بأن اللّه وحده حاميها. ولهذه العوامل القاهرة ضعفت الرهبانية، وإذا ضعفت الرهبانية ضعفت الكنيسة كما قال الآباء. وشعرت الكنيسة في عصرنا هذا بحاجة ماسة إلى نهضة روحية ثقافية، وشجّعت أبناءها على تكريس النفس والانخراط في سلك الرهبانية والانتماء إلى أحد البقية الباقية من أديرتنا.

كما أن الكنيسة اهتمت خاصة بمدرسة مار أفرام الكهنوتية التي كان قد أسّسها العلامة البطريرك أفرام الأول برصوم في الثلاثينات في زحلة ـ لبنان، ثم انتقلت إلى الموصل بالعراق ثم إلى لبنان ثانية ثم توقفت، فأعدنا فتحها في دمشق، وتخرّج فيها ويتخرّج رهبان يشعرون بضرورة التضحية ونكران الذات والسعي للنهوض بالكنيسة، ونسعى بإرسال بعض خرّيجيها إلى كليات لاهوتية في الخارج لإكمال دراساتهم العليا، فلنا الآن عدد لا بأس فيه من الرهبان يدرسون في كليات لاهوتية في أثينا وروما، وغيرهم يدرسون بكليات شتى في أوربا وأميركا. كما أسّسنا رهبنة مار يعقوب البرادعي للراهبات وأرسلنا اثنتين منهن إلى تسالونيكي لإكمال دراستهما. وقد شيّدنا بنعمة اللّه بناء جديداً لكلية مار أفرام الكهنوتية في معرة صيدنايا التي تبعد عن دمشق نحو خمسة وعشرين كيلومتراً، وسمّينا البناء بدير مار أفرام الكهنوتي وسيكون أيضاً مركزاً للدراسات السريانية ومركزاً للشباب السرياني العالمي، وكذلك مركزاً مسكونياً. ونحن نشجع أبناءنا الإكليروس السرياني إلى السعي للتعاون مع سائر الكنائس المسيحية لبلوغ الوحدة المسيحية إن شاء الله.

هكذا بنعمة اللّه نسعى إلى إيجاد كادر قيادي روحي في الكنيسة بتشجيع الرهبانية ونحن مقبلون على استقبال الألف الثالثة للميلاد، نطمح إلى إعادة أمجاد آبائنا الميامين الذين على الرغم مما صادفهم من الاضطهادات والمشقّات، حملوا مشعل الإنجيل المقدس إلى أنحاء العالم.

ومن المفيد أن نذكر ههنا أيضاً، أن لنا في دير مار كبرئيل ودير الزعفران في تركية مدرستين، وكذلك مدرسة إكليريكية في الموصل ـ العراق، وكلية لاهوتية في الهند. ولمحبة السريان للرهبانية فقد أسّسوا دير مار أفرام في هولندا بهمة مطرانهم الجليل مار يوليوس عيسى جيجك، واشتروا مؤخّراً ديراً في ألمانيا وآخر في سويسرا. ونأمل أن تزدهر الرهبانية السريانية حيث تواجد السريان في العالم.

هذا وفي الختام أود أن أشكر لكم حسن إصغائكم شاكراً خاصة المسؤولين عن كلية اللاهوت في جامعة هايدلبرغ على دعوتهم إياي لإلقاء هذه المحاضرة، وفّقكم اللّه جميعاً.

 

v  v  v

 

 

 

طقس إلباس الإسكيم الرهباني)*(

في كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية

 

  • تمهيد:

يقول مار موسى ابن كيفا مطران الموصل (903+): «إن التدابير الرهبانية أقدم عهداً من طقس إلباس الإسكيم الرهباني وذلك أنه لم يكن لقدماء الرهبان إسكيم خاص، ولكنهم كانوا يمارسون التدابير الرهبانية، ويحيون حياة عفيفة»([293]) فقد كان طالب الترهب قديماً، يغادر أهله، وبلدته، ويقصد مواطن النسّاك وكهوفهم، وقلالي المتوحّدين وأديرة الرهبان في البراري والقفار والجبال ويلتمس أحد الشيوخ الأفاضل المنقطعين للعبادة في الصوامع ليقبل فيه خادماً له وتلميذاً، فيختبره الشيخ مدة من الزمن، فإذا ما تأكّد من صدق نيته، وصفاء طويته، اتّخذه له تلميذاً، فيمكث هذا مع الشيخ يخدمه ويستمع إلى أحاديثه، متدرباً على يديه على ممارسة التدابير الرهبانية، ومترسماً خطاه، ناسجاً على منواله.

ولما كثر عدد الرهبان، وانتشروا في أماكن عديدة، وانتظمت الحياة الرهبانية الديرية، وضعت لها أنظمة وقوانين، كما ازداد عدد الرهبان الذين أخذوا موهبة الكهنوت المقدس، وأوكلت إلى بعضهم مسؤولية إدارة الشيوخ وتلاميذهم، والعناية بهم مادياً واجتماعياً، وحمايتهم، وتنظيم اجتماعاتهم جماعات جماعات في أديرة مجاورة لمناسكهم للاحتفال بالقداس الإلهي والاشتراك بتناول القربان المقدس. واقتضى أيضاً أن ينظم طقس مختصر لإلباس الثوب الرهباني والإسكيم المقدس للراغبين في الحياة الرهبانية. وكان بادئ ذي بدء عبارة عن رشم الثوب الرهباني بالصليب من قبل رئيس الدير وإعطاء اسم جديد للراهب الجديد أحياناً. ثم تطور ذلك إلى طقس يحتفل به في كنيسة الدير بحضور مَنْ بإمكانه الحضور من رهبان الدير، يترأسه الكاهن رئيس الدير، يبارك خلاله الثوب الرهباني ويلبسه للمتقدم إلى طلب الرهبانية كما يبارك الراهب الجديد الذي يكون قد أعلن رغبته في تقديم نفسه للرب وقبول قوانين الدير وأنظمته. كما أنّ النذور الرهبانية الثلاثة الطاعة والبتولية والفقر الاختياري قد برزت مع الزمن فكان لا بد للراهب الجديد من أن ينشئ هذه النذور أمام اللّه، وأمام رئيس الدير ورهبانه، ضمن القيام بطقس إلباسه الإسكيم الرهباني، حتى تكامل تنظيم هذا الطقس كما هو عليه اليوم. ويترأسه حالياً أحد الأساقفة أو البطريرك نفسه الذي هو لدينا نحن السريان الأب العام للرهبان والراهبات كافة، ولا يتمّ إلباس أحدهم الإسكيم إلاّ بإذن منه، وهو يعيّن رؤساء الأديرة.

  • مراحل طقس إلباس الراهب الإسكيم الرهباني:

يقف الإسقف الراسم في الباب الملوكي من المذبح المقدس متّجهاً نحو الغرب وقد لبس حلّته الحبرية كاملة.

ويقف المتقدم لقبول الإسكيم الرهباني في الخوروس ـ بين الكودين ـ ووجهه نحو الشرق، أي متّجهاً نحو المذبح، وهو حاسر منحنياً، متشبهاً بالعشار الذي وقف أمام الرب في الهيكل من بعيد وهو لا يشاء أن يرفع رأسه نحو السماء، بل كان يقرع على صدره قائلاً: «ارحمني اللهم أنا الخاطئ» (لو 18: 10 ـ 14) ويأتي طالب الرهبانية متّشحاً بثيابه العلمانية، متشبّهاً بالابن الضال الذي عاد إلى بيت أبيه بأسماله البالية، وذنوبه الكثيرة، نادماً عما اقترفته يداه من آثام، وهو يطلب المغفرة. ويضع طالب الرهبانية الثوب الرهباني، والإسكيم المقدس أمامه، على درجة المذبح.

يبدأ الأسقف برسم علامة الصليب على جبهته وهو يقول: المجد للآب والابن والروح القدس، الإله الواحد آمين. ثم يتلو بخضوع صلاة الابتداء سائلاً الثالوث الأقدس، أن يسبغ رحمته على هذا المؤمن الذي وقف أمامه باتضاع، وأن يقبل توبته الصادقة، ويؤهّله ليحيا حياة نقية غير معيبة وقد اعتزل الناس ليستحق بإيمانه وأعماله الصالحة أن يكون مرضياً اللّه تعالى على مثال صموئيل الذي استحق أن يسكن في هيكل الرب بطهر ونقاء. كي يُمجد بسببه اسم اللّه القدوس.

ثم يُتلى المزمور الحادي والخمسون الذي جاءت فيه العبارات الآتية: «ارحمني يا اللّه حَسَبَ رحمتك حسب كثرة رأفتك امحُ معاصيَّ. اغسلني كثيراً من إثمي ومن خطيتي طهّرني لأني عارف بمعاصيّ وخطيتي أمامي دائماً. إليك وحدك أخطأت والشر قدام عينيك صنعت لكي تتبرر في أقوالك وتزكوَ في قضائك هاأنذا بالإثم صُوّرت وبالخطية حبلت بي أمي…

قلباً نقياً اخلق فيَّ يا اللّه وروحاً مستقيماً جدد في داخلي. لا تطرحني من قدام وجهك وروحك القدوس لا تنزعه مني. ردّ لي بهجة خلاصك وبروح منتدبة اعضدني. فأُعلم الأثمة طرقك والخطاة إليك يرجعون…».

ثم تنشد ترانيم في طلب المغفرة، ومحو الذنوب، بعدما يُقدم الأسقف الدعاء الآتي:

ليؤهلك الإله الذي لَزَمْتَ عهده المقدس بإرادة صالحة وبمحبة. لتمجيده بسعي البرارة، وبممارسة الفضائل، وبالإيمان القويم، وبسلوك يرضيه. فترفع إليه التسبيح والشكران الآن وكل أوان وإلى أبد الآبدين آمين.

ثم يُتلى المزمور الثالث والستون، الذي جاءت فيه العبارات الآتية: «يا اللّه إلهي أنتَ. إليك أبكر عَطِشتْ إليك نفسي، يشتاق إليك جسدي في أرض ناشفة ويابسة بلا ماء. لكي أُبصِرَ قوتك ومجدك كما قد رأيتك في قدسك. إن رحمتك أفضل من الحياة. شفتاي تُسبحانِكَ. هكذا أباركك في حياتي. باسمك أرفع يَدَيَّ. كما من شحم ودسم تشبع نفسي وبشفتي الابتهاج يُسبحُك فمي. إذا ذكرتك على فراشي. في السّهد ألهج بك. لأنك كنت عوناً لي وبظل جناحيك أبتهج.

التصقت نفسي بك. يمينك تعضدني…»

وبعد ترتيل بعض الأناشيد الروحية يُتلى المزمور الرابع والثمانون وهذه بعض عباراته: «ما أحلى مساكنك يا رب الجنود، تشتاق بل تتوق نفسي إلى ديار الرب وقلبي ولحمي يهتفان بالإله الحي. العصفور أيضاً وجد بيتاً، والسنونة عُشاً لنفسها حيث تضع أفراخها، مذابحك يا رب الجنود ملكي وإلهي. طوبى للساكنين في بيتك أبداً يسبحونك. سلاه.

طوبى لأناس عزّهم بك. طرق بيتك في قلوبهم. عابرين في وادي البكاء يصيرونه ينبوعاً أيضاً ببركات يُغطّون مُوَرَة. يذهبون من قوة إلى قوة، يُرون قدام اللّه… لأن يوماً واحداً في ديارك خيرٌ من ألف. اخترت الوقوف على العتبة في بيت إلهي على السّكن في خيام الأشرار…».

ويتخلل ترتيل هذا المزمور ترانيم سريانية ينشدها الكهنة والرهبان والشمامسة الحاضرون وهي على لسان المتقدم لقبول الإسكيم، بها يخاطب الدير الذي يرغب في السكن فيه وزمرة الرهبان الذين يرغب في الانضمام إلى صفوفهم، طالباً منهم أن يقبلوه ليكون في عدادهم. ثم ترتل أبيات وكأنها جواب الإخوة له وهم يصلّون لأجله ليقبل الرب توبته، فقد ترك العالم ومقتنياته وشهواته والتجأ إلى الرب، وفي الصلاة يتشفّعون بالعذراء مريم والأنبياء والرسل والشهداء ليصلوا لأجله.

ثم تُقدم صلوات في تطويب العذراء مريم، وفي التوبة أيضاً. وتُقرأ حساية (وهذه لفظة سريانية معناها استغفار وغفران. وهي صلاة منثورة مُسهبة)([294])، يرافق ذلك تقديم البخور.

ثم يقرأ بعض الرهبان أو الشمامسة القراءات الآتية من الكتاب المقدس:

1 ـ قراءة من سفر التكوين (12: 1 ـ 9):

جاء فيها: «وقال الرب لأبرام اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك… وكن مباركاً…».

إنها دعوة اللّه للإنسان المؤمن ليترك أهله وبلدته ومقتنياته ويتبع الرب… وكما أطاع أبرام اللّه تعالى إيماناً منه بعناية اللّه به هكذا بإلهام رباني خفي يهجر الراغب في الرهبانية العالم متّكلاً على الرب الذي يعوله، ويرشده إلى الشيخ الذي عليه أن يتّخذه له أباً روحياً ومعلماً ومرشداً وإلى الدير الذي يختاره موضعاً لمنسكه، وتزهده وتقشفه.

2 ـ قراءة من سفر العدد (6: 1 ـ 8):

«وكلّم الرب موسى وقال له: كلّم بني اسرائيل وقل لهم: إذا انفرز رجلٌ أو امرأة لينذر نذرَ النذير لينتذر للرب، فعن الخمر والمُسكر يفترز… إنه كل أيام انتذاره مقدس للرب…».

هذا تذكير للراهب الذي أنشأ نذور الرهبانية الثلاثة، ووضع إكليل الرهبانية أي القباعة على رأسه ليتجنّب الخمر والمسكر، وكل ما يُعرّضه للبطر والسكر وسائر الخطايا.

3 ـ قراءة من سفر التثنية (30: 15 ـ 20):

«انظر إني قد جعلت اليوم قدامك الحياة والخير، والموت والشر، بما أني أوصيتك اليوم أن تحب الربّ إلهك وتسلك في طرقه وتحفظ وصاياه وفرائضه وأحكامه لكي تحيا وتنمو ويباركك الرب إلهك…

أستشهد عليكم اليوم السماء والأرض، قد جعلت قدامك الحياة والموت البركة واللعنة فاختر الحياة لكي تحيا…».

إنه تحذير وإنذار، وعد ووعيد، وشهادة صادقة يعلنها اللّه للمتقدم لقبول الإسكيم الرهباني فإن هو سلك بموجب شريعة الرب وبموجب النذور الرهبانية التي أنشأها نال الحياة وإلاّ فالدينونة، لأن الرهبانية نار ونور. تضيء الطريق قدام من كان مع الرب، وتحرق من لا يفي نذورها ويسلك بموجب أحكامها.

4 ـ قراءة من سفر أيوب (22: 22 ـ 28):

«إقبل الشريعة من فيه وضع كلامه في قلبك، إن رجعت إلى القدير تُبنى، وإن أبعدت ظلماً من خيمتك، وألقيت التبر على التراب وترفع إلى اللّه وجهك وتصلي له فيستمع لك ونذورك توفيها».

هذه الكلمات الذهبية خير مرشد للراهب ليستمر بحياة الطهر بتوبة صادقة مبعداً عنه الآثام فيوفي نذور الرهبانية التي أنشأها، فيقبل الرب صلاته.

5 ـ قراءة من سفر حكمة يشوع ابن سيراخ (2: 1 ـ 13):

«يا ابني إن دنوت من عبادة اللّه بذلت نفسك لك محنة، الصق بها ولا تهملها لتتفقه في طرقك. اقبل كلما يطرأ عليك وأطل أناتك في المرض وفي الفقر. لأن الذهب يجرّب في النار، والإنسان في كور الفقر. يا أتقياء الرب ترجّوا خيره ولا تتخلّفوا عنه لئلا تسقطوا… يا أتقياء الرب ترجّوا خيره للسرور الأبدي والخلاص… من ذا آمن به وتركه، أو من توكل عليه فرفضه أو من دعاه فلم يستجبه؟!…».

ما أجمل هذه الآيات المقدسة، إنها تجدد الثقة بالرب، وتقوي الإيمان به تعالى، والاتكال عليه، فلا المرض ولا الفقر ولا المصائب بإمكانها أن تزعزع ثقة الأتقياء بالرب فهو لا يتخلّى عن خائفيه ويستجيبهم عندما يدعونه وهو قد هيّأ لهم السرور الأبدي والخلاص وهذا موضع رجاء الراهب الذي ترك العالم وما فيه ليربح السماء.

6 ـ من نبوة أشعيا (18: 1 ـ 7):

7 ـ من مراثي إرميا (3: 25 ـ 35):

«طيب هو الرب للذين يترجونه، للنفس التي تطلبه. جيد للرجل أن يحمل النير في صباه. يجلس وحده ويسكت. لأنه قد وضعه عليه. يجعل في التراب فمه، لعله يوجد رجاء. يعطي خده لضاربه، ويشبع عاراً لأن السيد لا يرفض إلى الأبد».

هذا عزاء الراهب الزاهد في تقشفه، فالرب طيّب، وهو معه في انفراده ووحدته وصمته وهدوئه، لأنه قد حمل نير الرب، أي صليبه المقدس وتبع الرب، فالرب لا ينساه أبداً بل يهبه كل ما ترجاه من مكافأة في الحياة الأبدية.

8 ـ ثم قراءة من رسالة بطرس الأولى (1: 13 ـ 25):

«لذلك منطقوا أحقاء ذهنكم صاحين. فألقوا رجاءكم بالتمام على النعمة التي يؤتى بها إليكم عند استعلان يسوع المسيح. كأولاد الطاعة لا تشاكلوا شهواتكم السابقة في جهالتكم. بل نظير القدوس الذي دعاكم كونوا أنتم أيضاً قديسين في كل سيرة. لأنه مكتوب كونوا قديسين لأني أنا قدوس…. طهّروا نفوسكم في طاعة الحق بالروح للمحبة الأخوية العديمة الرياء فأحبوا بعضكم بعضاً من قلب طاهر بشدة. مولودين ثانية لا من زرع يفنى بل مما لا يفنى بكلمة اللّه الحية الباقية إلى الأبد…»

9 ـ ثم فصل من رسالة القديس مار بولس الرسول (كولوسي 3: 1 ـ 11):

«فإن كنتم قد قمتم مع المسيح فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله. اهتموا بما فوق لا بما على الأرض. لأنكم قد مُتم وحياتكم مستترة مع المسيح في اللّه. متى أُظهر المسيح حياتنا، فحينئذ تُظهرون أنتم أيضاً معه في المجد.

فأميتوا أعضاءكم التي على الأرض الزنا النجاسة الهوى الشهوة الردية الطمع الذي هو عبادة الأوثان. الأمور التي من أجلها يأتي غضب اللّه على أبناء المعصية الذين بينهم أنتم أيضاً سلكتم قبلاً حين كنتم تعيشون فيها وأما الآن فاطرحوا عنكم أنتم الكلَّ الغضب السخط الخبث التجديف الكلام القبيح من أفواهكم. لا تكذبوا بعضكم على بعض إذ خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله ولبستم الجديد الذي يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه. حيث ليس يوناني ويهودي، ختان وغرلة بربري سكيثي عبد حر بل المسيح الكلّ في الكلّ».

 

10 ـ الإنجيل المقدس بحسب لوقا البشير (14: 25 ـ 35 و15: 1 ـ 10):

«إن كان أحد يأتي إليّ ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته حتى نفسه أيضاً فلا يقدر أن يكون لي تلميذاً. ومن لا يحمل صليبه ويأتي ورائي فلا يقدر أن يكون لي تلميذاً. ومن منكم يريد أن يبني برجاً فلا يجلس أولاً ويحسب النفقة هل عنده ما يلزم لكماله، لئلا يضع الأساس ولا يقدر أن يكمل…».

بعد الانتهاء من قراءة الإنجيل المقدس يضع الأسقف يمينه على رأس المتقدم لقبول الإسكيم، وبإبهامه يرشم الأسقف جبهة المتقدم لقبول الإسكيم بعلامة الصليب وهو يقول: «يرشم فلان ليكون حملاً في حظيرة اللّه المقدسة» ويقول الشماس بارخمور، بارك يا سيد.

ويردف الأسقف قائلاً: باسم الآب.

ويقول الشماس: آمين.

الأسقف: والابن.

الشماس: آمين.

الأسقف: والروح الحي القدوس، للحياة الأبدية.

الشماس: آمين.

ثم يأخذ المتقدم لقبول الإسكيم المقص بيده ويسلّمه للأسقف ويبسط ذراعيه على شبه الصليب متشبّهاً بالرب يسوع الذي بسط ذراعيه على الصليب ويقول ثلاث مرات: «إنني (بملء إرادتي) شئت أن أتقرب إلى اللّه لقد راق لي اسمك يا رب لأخبر بجميع عجائبك».

وهنا يقص الأسقف خصلاً من شعر رأس المتقدم لقبول الإسكيم على شكل صليب.

ثم يسدل ستار حول المتقدم لقبول الإسكيم، فيخلع ثيابه القديمة، ليلبسه الأسقف الثوب الرهباني، والإسكيم المقدس، ويشدّ وسطه بمنطقة، ثم يضع جبة على كتفيه…

ثم يجلس على كرسي فيغسل الرهبان قدميه، ثم يجثو أمام المذبح حيث يكون الأسقف واقفاً ثم أمام الرهبان، والكهنة في الجهات الثلاث الأخرى وهو يقول: بارخمور ـ يا آبائي وإخوتي اقبلوني (بزمرتكم) ويجيبونه ليقبلك الرب برحمته. ثم يناول الأسقف الراهب الجديد القربان المقدس حينذاك يضع صليباً على كتفه اليسرى ويعطيه السلام ويوقفه على درجة المذبح في الموضع الذي يقرأ منه الشماس رسائل القديس بولس أثناء القداس الإلهي فيعطيه السلام الآباء والإخوة الرهبان ومن حضر الحفلة الروحية من المؤمنين.

ويختم الطقس بصلاة الشكر ثم بصلاة التقديسات الثلاث وبالصلاة الربية.

 

  • شرح طقس إلباس الإسكيم الرهباني:

يبدأ الطقس بتقديم صلوات وأدعية للثالوث الأقدس الإله الواحد، وكلها تدور حول التوبة، ويقرأ الشمامسة المزامير وقراءات من العهدين آخرها قراءة من الإنجيل المقدس كما سبق ذكره.

 

  • إعلان نكران الذات:

وكأني بالأسقف وهو ينوب عن اللّه تعالى، يعلن قبول توبة هذا المؤمن الذي يتقدم لقبول الإسكيم الرهباني، فيضع يمناه على رأسه ويرشمه([295]) بإبهامه على جبهته بعلامة الصليب قائلاً: ليرشم فلان ليكون حملاً في حظيرة اللّه المقدسة. باسم الآب والابن والروح القدس. للحياة الأبدية.

فكما أن الحملان تختم بعلامات لتتميز عن غيرها، كذلك هذا الحمل الذي قُبل في حظيرة المسيح يختم بعلامة المسيح على يد وكيل المسيح ليتميز عن سائر الناس ويكون في عداد رفاقه حملان المسيح الموسومة بسمة الروح القدس، في الحظيرة المقدسة وكلمة حظيرة بالسريانية هي طيُرا وتعني حظيرة الخراف كما تعني أيضاً دير الرهبان. كما أن من رسم بعلامة الصليب على جبهته يصير مُخفياً للأبالسة الأشرار الذين يهربون مرتعبين من أمام قوة الصليب المقدس ومن كان قد رسم بالصليب وإذ صار المؤمن الآن داخل الحظيرة حق له أن يعلن نكرانه ذاته، لذلك يقدم مقصاً إلى الأسقف الراسم ثم يبسط ذراعيه على شبه صليب متشبّهاً بالرب يسوع الذي بسط ذراعيه على الصليب بإرادته، ويعلن هذا المؤمن أنه بملء إرادته قد تقدم إلى اللّه فيقول ثلاث مرات:

 

آِنا أبية دِآةقَرَب لاَلُؤا. طاِب لي شمُك مريا ةوكلُنيْ. دِآشةَعِا كلؤِين ةِدمإُةُك÷

 

«إنني اشتهيت ورغبت (بملء إرادتي) في أن أتقرب إلى اللّه، فقد راق لي اسمك يا رب يا ملجأي لأخبر بجميع عجائبك» وكأني به وقد بسط ذراعيه قد صار مصلوباً، ليقول مع الرسول بولس «مع المسيح صلبت لأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ».

 

وبقوله قد اشتهيت ورغبت بملء إرادتي في أن أتقرب إلى الله، يعني أيضاً أن أكون قرباناً للرب الإله وأن أقدم نفسي ذبيحة حية ومحرقة مقبولة فأنا قد صلبت ذاتي مع المسيح وبهذا الصدد يقول الرسول بولس: «فأطلب إليكم أيها الإخوة برأفة اللّه أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند اللّه عبادتكم العقلية. ولا تشاكلوا هذا الدهر بل تغيّروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم لتختبروا ما هي إرادة اللّه الصالحة المرضية الكاملة»(رو 12: 1و2).

حينذاك يقص الأسقف أربع خصل من شعر رأس المتقدم لقبول الإسكيم وذلك على شبه صليب، وقص الشعر يرمز إلى أن هذا المؤمن قد طرح عنه كل الأفكار الدنيوية وأعمال الموت أي الخطايا والآثام السابقة ليحصل على أفكار جديدة وأعمال صالحة طاهرة.

أما خلع الثياب العتيقة الدنيوية، وإلباس هذا المؤمن الثوب الرهباني فيشير إلى خلع الإنسان العتيق ولبس الإنسان الجديد وبهذا الصدد يقول الرسول بولس: «لا تكذبوا بعضكم على بعض إذ خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله ولبستم الجديد الذي يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه»(كو 3: 9 و10). وقوله: «أن تخلعوا من جهة التصرف السابق الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور وتتجددوا بروح ذهنكم وتلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب اللّه في البرِ وقداسة الحقّ» (أف 4: 22و23و24).

ولون الثوب الرهباني أسود، وهو لون ثياب الإكليروس منذ فجر النصرانية فقد كانت ثيابهم لا تمتاز عن ثياب العلمانيين ولونها أسود كأردية الرجال الوقورين، وكانوا يتدرعون مثلهم بالجبة، باللون ذاته، وكانوا يرخون اللحيّ ويطولونها دلالة زهدهم في الدنيا، وكان هذا شأن كل طبقات الإكليروس. ويذكر البطريرك مار ميخائيل الكبير (1199+) في تاريخه (الميمر 8: 1) عن سيسينيوس الذي كان أسقف شيعة النوباطيين في القسطنطينية على عهد مار يوحنا الذهبي الفم (347 ـ 407+) أنه كان يلبس الطيلسان باللون الأبيض
فلاموه فكان من جوابه لهم: «وفي أي كتاب ورد أن نلبسالأسود؟»([296]).

وجاء في كتاب (المرشد) ليحيى بن جرير التكريتي (الذي عاش في القرن الحادي عشر) أن المطارنة يلبسون غير اللون الأسود في أيام الأعياد.

أما الرهبان وهم علمانيون وليسوا من الطغمة الكهنوتية، فقد اختاروا اللون الأسود لأنه لون الوقار، ولون الزهد والتقشف ولون الحداد والحزن والكآبة، ويُدعى الراهب لدينا بأسماء كثيرة منها: آَبٍيلا أبيل أي حزين وكئيب: الحالة التي تدل على توبته المستمرة، وندامته على ما اقترفه سابقاً من ذنوب، والسعي لنيل الطوبى التي أعطاها الرب للحزانى لأنهم يتعزّون (مت 5: 4) وقول الرب أيضاً «الحق الحق أقول لكم أنكم ستبكون وتنوحون والعالم يفرح أنتم ستحزنون ولكن حزنكم يتحوّل إلى فرح»(يو 16: 20).

وكان ثوب الراهب يصنع عادة من الصوف وقد كتب مار يعقوب الرهاوي (708+) مقالة في سبب لبس الرهبان الصوف([297]) والصوف خشن ولبسه زيادة في الزهد اقتداء بالراهب الناسك مار يوحنا المعمدان الذي كان لباسه من وبر الإبل (مر 2: 6).

وكان الراهب يلبس الثوب الداخلي وهو عبارة عن قطعة من الص