تمهيد
بعد حمد اللّه تعالى، نقول:
لا يُخفى ما للمطالعة من تأثير بالغ في البناء الفكري للإنسان، إذ تطبع سلوكه اليومي بطابع خاص، فينعكس ذلك على مجتمعه سلباً أم إيجاباً، بمقدار قيمة المادة التي طالع، ونوعيتها ومدى ملامستها أعماق الذات البشرية.
وهنا يبرز واضحاً دور أصحاب الأقلام والموجّهين الروحيين الاجتماعيين في إعداد الإنتاج الصالح وتقديمه للقارئ بأسلوب سهل ممتنع وهادف إلى تقدّم المجتمع الإنساني نحو الخير والعطاء.
وأفضل ما يفعله المسؤول الروحي المسيحي في هذا الميدان هو توجيه المؤمنين إلى التأمل بسير القديسين بعيداً عن الأوهام والمبالغات.
قصص القديسين في الأدب السرياني:
ولا نغالي إذا قُلنا إن الأدب السرياني المسيحي زاخرٌ بالقصص الشائقة سواء وُضعت أصلاً بالسريانية أم نقلت إليها، ليجتني المؤمنون منها فوائد روحية جليلة… تلك القصص التي تناقلتها الألسن وتوارثتها الأجيال ودوِّن جزء كبير منها في عصر أبطالها أو بعدهم بمدة قصيرة، وهي تتناول سير بعض الآباء الأولين ورجالات الكنيسة الميامين والشهداء والمعترفين والقديسين والنساك الفضلاء والنسوة الفاضلات.
ولا يُنكر ما طرأ على بعض هذه القصص من زيادة أو نقصان أتياها عن طريق الكُتَّاب أو النسَّاخ الذين أرخوا لمخيلتهم العنان، فسبحت في أجواء الخيال وأضافت إلى الحوادث أخباراً هي أقرب إلى الأساطير منها إلى الواقع التاريخي، ومع كل ذلك، فبإمكان المؤرخ المدقق الذي يهمّه كثيراً تحري الحقيقة أن يقع عليها مجردة، فيقبلها وحدها ويرفض سواها..
وها نحن في هذا الكتاب نقدّم للقراء الأعزاء نخبة من قصص بديعة، هي سير لبعض القديسين والقديسات، وبعض رجالات الكنيسة الأبرار، ضمتها المخطوطات السريانية القديمة التي اعتمدناها في كتابة هذه القصص والسير، كما اعتمدنا مصادر أخرى بالعربية والإنكليزية، وتحرينا النصوص متجنبين المبالغات والزيادات التي طرأت عليها بفعل النساخ البسطاء..
وكل من هذه القصص والسير، يعتبر رواية حقيقية تاريخية نقية من الشوائب، وهي ولئن كانت مليئة بأخبار العجائب والمعجزات، فليس هذا غريباً عن روح الإنجيل وسير الرسل والآباء والحياة المسيحية..
القديسون هم رائحة المسيح الذكية:
إن أبطال هذه القصص وشخصياتها، انتخبهم اللـه ليصيروا نبراساً في الفضائل بالإيمان القويم وبخاصة بطهارة السريرة وقداسة السيرة، وقد أظهروا في حياتهم على الأرض سيرة الرب يسوع بالجسد. فالاقتداء بهم ينفع المؤمنين للبلوغ إلى ينابيع الخلاص إذ أن هؤلاء القديسين اقتدوا بالرب يسوع، وهذا ما عناه كاتب الرسالة إلى العبرانيين بقوله:
«اذكروا مرشديكم الذين كلموكم بكلمة اللـه، انظروا إلى نهاية سيرتهم فتمثلوا بإيمانهم» (عب13: 7).
ويقول الرسول بولس: «حاملين في الجسد كل حين إماتة الرب يسوع لكي تظهر حياة يسوع أيضاً في جسدنا» (2كو4: 10)، «فكونوا متمثلين بالله كأولاد أحباء واسلكوا في المحبة كما أحبنا المسيح أيضاً وأسلم نفسه لأجلنا ذبيحة لله رائحة طيبة» (أف5: 2).
«ولكن شكراً لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين ويظهر بنا رائحة معرفته في كل مكان، لأننا رائحة المسيح الذكية لله في الذين يخلصون وفي الذين يهلكون» (2كو2: 14 و15).
القديسون مثال لنا في الحياة:
فما أطيب أخبار القديسين في مسامع المؤمنين الصالحين، وما ألذّ قصصهم تسرد في مجالس الأتقياء أو تقرأ بتأمل في مخادع الصديقين، فتكون وازعاً لهم على مواصلة مسيرتهم المقدسة في طريق البر ومخافة الرب.
إن كنيستنا السريانية المقدسة غنية جداً بقديسيها، وقد دوّنت أسماءهم الكريمة بأحرف من نور في أنصع صفحات تاريخها المجيد، ونحن اليوم بأمس الحاجة إلى فتح هذه السجلات عملاً بوصية الرب يسوع القائل: «ليس أحد يوقد سراجاً ويغطيه بإناء أو يضعه على منارة لينظر الداخلون النور» (لو8: 16 و11: 33) فالقديسون هم مختارو الرب الذين يتم فهم قوله: «أنتم نور العالم» (مت5: 14) ففي سردنا أخبارهم وتأملنا سيرهم نزيح الستار عن دقائق حياتهم المقدسة كما فعل كاتب الرسالة إلى العبرانيين بقوله: «وماذا أقول أيضاً لأنه يعوزني الوقت إن أخبرت عن جدعون وباراق وشمشون ويفتاح وداود وصموئيل والأنبياء الذين بالإيمان قهروا ممالك، صنعوا براً نالوا مواعيد، سدوا أفواه أسود، أطفأوا قوة النار، نجوا من حد السيف، تقووا من ضعف، صاروا أشداء في الحرب، هزموا جيوش غرباء.. وهم لم يكن العالم مستحقاً لهم..» (عب11: 32ـ 38).
وفي دراسة أخبار القديسين، والتأمل بما انتهت إليه حياتهم، يشعر المؤمنون بأنهم محاطون بعناية الرب الذي لم يترك أتقياءه دون رعاية ولم يهمل المتكلين عليه بل يصونهم في كل حين لئلا يوقع بهم، وهو حصنهم الحصين، وحارسهم الأمين، وعينه الساهرة ترمقهم، فإذا دمعت عينا أحد الأتقياء في سبيل المسيح، ابتسمت شفتاه وهو يرى الرب عن يمينه يشجعه ويعزيه ويعطيه الطوبى التي أعطاها للمضطهدين من أجل ابن الإنسان بقوله: «طوباكم إذا أبغضكم الناس وإذا أفرزوكم وعيَّروكم وأخرجوا اسمكم كشرير من أجل ابن الإنسان، افرحوا في ذلك اليوم وتهللوا فهوذا أجركم عظيم في السماء لأن آباءهم هكذا كانوا يفعلون بالأنبياء» (لو6: 22 و23)، فلا مهرب للبار من المصائب والمصاعب والتجارب «وجميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يضطهدون» (2تي3: 12) وقد وضع الرب يسوع شرطاً للتلمذة له بقوله: «إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني، فإن من أراد أن يخلص نفسه يهلكها، ومن يهلك نفسه من أجلي يجدها» (مت16: 24 و25).
وقد أمرنا الرب أن ندخل من الباب الضيق، وأن نسلك الطريق الصعبة، والرسول بولس يوصي تلميذه طيمثاوس أن «يتحمل المشقات كجندي صالح للمسيح يسوع» (2تي2: 3).
وفي تأملنا سير هؤلاء الصديقين والصديقات نمجد الله الذي اصطفاهم، وساعدهم في جهادهم فغلبوا إبليس، وانتصروا على العالم، وصار ذكرهم للبركة (أم10: 7) لأنهم زهدوا في الدنيا وعاشوا كما يحق لإنجيل المسيح (في1: 27) وكانوا حجارة حية في جسد المسيح السري الذي هو الكنيسة، بل أظهروا بسيرتهم الطاهرة سيرة المسيح يسوع على الأرض، لذلك فالتأمل في مراحل حياتهم يبعث فينا روح القداسة، فقد كانوا بشراً مثلنا تحت الآلام والتجارب، غلبوا إبليس، فنحن أيضاً، رغم ضعفنا، يمكننا، بقوة الرب أن نقتدي بهم، ولكن لو عقدنا الآن المقارنة بيننا وبينهم لرأينا الفرق الشاسع بين ما كانوا عليه من إيمان ورجاء ومحبة وما نحن عليه اليوم من نكران وأثرة وأنانية. فقد أنكروا ذواتهم، واعتبروا عار المسيح أفضل من أمجاد العالم لأن «العالم يمضي وشهواته وأما الذي يصنع مشيئة الله فيثبت إلى الأبد» (1يو2: 17). لقد كانوا أعضاء في الكنيسة المجاهدة على الأرض، كما نحن الآن، وانتصروا، وانتقلوا إلى السماء، فانضموا إلى كنيسة الأبكار حائزين على إكليل البر الذي يهبه الرب الديان العادل يوم مجيئه الثاني لكل من ينتظر هذا المجيء بسهر.
إن الشركة القائمة بين الكنيستين المجاهدة في الأرض والمنتصرة في السماء تجعل من الكنيستين كنيسة واحدة تشترك بتمجيد الله ليل نهار. فبدراستنا قصص القديسين وسير النسَّاك والعوابد نشعر بشركتنا معهم في العائلة الواحدة، أي الكنيسة التي أسسها الرب في الأرض وتمتد جذورها فيها، أما أغصانها فتسمو شامخة نحو السماء بل تبلغ عرش العظمة في العلاء، لأن هذه الكنيسة هي جسد المسيح السري ورأسها المسيح يسوع الجالس عن يمين العظمة، وحجارتها هم القديسون المكتوبة أسماؤهم في السماء (رؤ17: 8).
إن دراسة تاريخ هؤلاء الأبطال الروحيين هي دراسة تاريخ الحياة المسيحية ومعرفة ذلك جيداً يساعدنا على إعداد أنفسنا لمجابهة كل ما يحيق بنا في حياتنا الروحية من صعوبات.
وعندما ندون سيرهم وننشرها متأملين في دقائق مراحل حياتهم ونقائص بعضهم كبشر، وعودتهم إلى الله بالتوبة النصوح نقتدي بهم لأن سيرهم تتلألأ قداسة، فقد عاشوا السماء وهم على الأرض واستحقوا التطويبات التي أعطاها الرب: للمساكين بالروح، للحزانى، للودعاء، للجياع والعطاش إلى البر، للرحماء، لأنقياء القلب ولصانعي السلام وللمطرودين من أجل البر (مت5: 3ـ 12) وهم الفعلة الأمناء الذين يعملون في كرم مسيحنا، والمعترفون الصابرون المعلنون إيمان إلهنا، والشهداء البسلاء الذين سفكوا دماءهم دفاعاً عن العقيدة المسيحية السمحة.. فسقت دماؤهم الأرض وكانت بذاراً صالحاً للإيمان القويم، كما قال الآباء القديسون، فأتت بثمار شهية.
بقي أن نقول: إننا كنّا قد نشرنا بعضاً من هذه القصص والسير في كتابنا «رائحة المسيح الذكية»، وبعضها الآخر في كتاب «نفحات قداسة» الذي قدّم له ونشره الأب الفاضل الدكتور متري هاجي أثناسيو، وبعضها في كتاب «صفحات مشرقة من تاريخ الكنيسة في القرنين الثاني والثالث للميلاد»، وبعضها نشر على صفحات مجلتنا البطريركية الدمشقية. سائلين الرب الإله أن يجعلها سبب بركة للقارئ الكريم.
دمشق في 11 تموز 2008
البطريرك زكا الأول عيواص
القديس مار بطرس هامة الرسل
في كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية
تمهيد:
هو سمعان بطرس أحد رسل السيد المسيح الاثني عشر، ومن شخصيات الكتاب المقدس البارزين، كان وما يزال موضع جدال علماء الكتاب ومفسّريه، ومؤرخي الكنيسة ولاهوتيّيها، فيغدق عليه بعضهم النعوت السامية، مسلّطين الأضواء على اعترافه الشهير بالسيد المسيح بقوله له: «أنت هو المسيح ابن اللّـه الحي» (مت 16: 16)، فاستحق بذلك إطراء الرب إياه وإعطاءه الطوبى، الأمر الذي يستند إليه هؤلاء فيضعون بطرس في مكانه اللائق في الكنيسة، غير ناسين دوره الفعّال في تأسيسها، وازدهارها، وفتح أبوابها للأمم كافة، فهو البطل الذي خوّله الرب يسوع أن يلعب أهم الأدوار في ملكوت اللّـه على الأرض، وستكون له الوجاهة اللائقة في هذا الملكوت في السماء، لأنه زعيم رسل الرب يسوع ومقدامهم وهامتهم.
ويبخل عليه بعضهم بأبسط التسميات، ويضخّمون أخطاءه، وبخاصة إنكاره سيده أمام جارية حقيرة في دار رئيس الكهنة ليلة محاكمة الرب يسوع، ناسين أو متناسين توبته النصوح التي جعلت منه المثال الحي للتائب الصادق، وفتحت باب التوبة على مصراعيه أمام الخطاة التائبين، منيرة ظلمة قلوبهم بنور الرجاء الذي لا يخيب برحمة اللّـه تعالى الواسعة، قبوله التائبين الصادقين، وإعادتهم إلى رتبة البنين.
القديس مار بطرس هامة الرسل
في بحثنا هذا نبسط أمام القارئ الكريم بأمانة وتجّرد، الحقائق المستقاة من الإنجيل المقدس، وسائر أسفار العهد الجديد، وتعاليم آباء الكنيسة السريانية الميامين، فندرس حياة الرسول بطرس من خلال حياة الرب يسوع على الأرض، وما دوّنه علماء كنيستنا عنه، في الطقس البيعي خاصة.
ما معنى اسمه؟
هو سمعان بن يونا المسمّى كيفا أي بطرس، ولفظة سمعان بالآرامية السريانية (شمعون) تعني السامع والطائع والخاضع، ولفظة (يونا) بالسريانية تعني (الحمامة). وقد سمّاه الرب يسوع (كيفا)، وهذه أيضاً لفظة سريانية تعني الحجر أو العمود أو الصفا، ونقلت إلى اليونانية فصارت بتروس Petros وبالعربية بطرس.
موطنه:
كان سمعان بطرس من قرية بيت صيدا الواقعة على بحيرة طبرية (جناشار) في بلاد الجليل. وسكن كفرناحوم، وجاء في الإنجيل المقدس، أن الرب يسوع دخل كفرناحوم يرافقه تلاميذه، «ولما خرجوا من المجمع جاءوا للوقت إلى بيت سمعان وأندراوس مع يعقوب ويوحنا، وكانت حماة سمعان مضطجعة محمومة فللوقت أخبروه عنها فتقدّم وأقامها ماسكاً بيدها فتركتها الحمى حالاً وصارت تخدمهم» (مر 1: 30، 31) (لو 4: 38). فقد كان سمعان بطرس متزوجاً ورزق ابنة.
مهنته:
كان سمعان صياد سمك وكان مع أخيه أندراوس يملكان سفينة صغيرة في بحر الجليل. ولم يكونا فقيرين مدقعين كما يتبادر إلى ذهن بعض الناس.
ثقافته:
ولم يكن سمعان عالماً من علماء الناموس. ولم تكن له رتبة دينية. فلم يكن كاهناً أو لاوياً. كما لم يكن كاتباً أو فريسياً. وقيل إنه كان أمميّاً. ولكن كأغلب أترابه في ذلك الزمن كان يعرف اللغة الآرامية السريانية التي كان أبناء جلدته يتكلمونها، كما يؤكّد ذلك المؤرخ الكبير أوسابيوس القيصري المتوّفي عام 340م في تاريخه الكنسي. وقد تلّقن سمعان منذ نعومة أظفاره مبادئ علوم الشريعة والناموس في مدرسة مجمع قريته.
عضو من جماعة المنتظرين:
لم يكتفِ سمعان بما تعلمه في صغره من مدرسي الشريعة، بل انضمّ مع أخيه أندراوس إلى جماعة المنتظرين، وهم اليهود الذين تعمّقوا بدراسة النبوات المختصة بمجيء (ماشيحا) المسيح المخلص المنتظر، وتوقعوا إتمام هذه النبوات في عصرهم، ولكنّ فكرتهم في الخلاص كانت مادية صرفة.
تلميذ يوحنا المعمدان:
وفي تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان، يكرز في بريّة اليهودية قائلاً: «توبوا لأنه اقترب ملكوت السموات» (مت 3: 1، 2). وبدأ يوحنا يعمّد من يقصده، فتاب على يديه أناس كثيرون، وتتلمذ له بعضهم، ومن جملتهم سمعان وأخوه أندراوس اللذان لم يتركا مهنتهما فكانا يعملان في صيد السمك، وبين الفينة والفينة يقصدان يوحنا المعمدان لسماع تعاليمه.
تتلمذ للرب يسوع:
لا بدّ من أن سمعان سمع يوحنا المعمدان، يشهد للرب يسوع أنه المسيح، فقد قال يوحنا: «يأتي بعدي من هو أقوى مني، الذي لست أهلاً أن أنحني وأحلّ سيور حذائه، أنا عمّدتكم بالماء، وأما هو فسيعمّدكم بالروح القدس» (مر 1: 7، 8). ولا نعلم فيما إذا كان سمعان قد رأى المسيح يسوع وهو يعتمد من عبده يوحنا، ولكنّنا نعلم أنه «بعدما أُسلم يوحنا جاء يسوع إلى الجليل يكرز ببشارة ملكوت اللـه، ويقول: «قد كمل الزمان واقترب ملكوت اللّـه فتوبوا وآمنوا بالإنجيل» (مر 1: 14، 15) وأن أندراوس التقى الرب يسوع، وآمن به، وأتى إلى أخيه سمعان مبشّراً وقائلاً: لقد وجدنا ماشيحا، أي المسيح المنتظر. وجاء أندراوس بأخيه سمعان إلى الرب يسوع، ولعل سمعان جثا أمام الرب فرحاً، فقال له الرب: أنت سمعان بن يونا، أنت تدعى «كيفا» أي بطرس. وأحبّ سمعان السيد المسيح كثيراً، واعتبره معلمه الجديد، وبدأ مع أخيه أندراوس يترددان إليه ويسمعان تعاليمه ويشاهدان معجزاته. وفي الوقت نفسه كانا يمارسان مهنتهما صيد الأسماك. كانت دعوة الرب لبطرس ليكون رسولاً له، كدعوته لكل رسله. فقد كان الرب يتعرف أولاً على التلميذ، ثم يدعوه، فيلبّي التلميذ الدعوة، ويرافق الرب فترة من الزمن دون أن يترك مهنته. وبعد أن يتردد إلى الرب ويسمع تعاليمه، وتنمو بذرة الإنجيل في قلبه ويكون قد استعدّ لفرز نفسه للبشارة، يدعوه الرب ثانيةً، فيترك كل شيء ويتبعه. وفيما يأتي نرى كيف دعاه الرب ثانيةً، فيترك كل شيء سمعان ليكون تلميذاً له. قد حدث مرة أن «كان الجمع يزدحم على يسوع ليسمع كلمة الله. كان (يسوع) واقفاً عند بحيرة جنيشارت فرأى سفينتين واقفتين عند البحيرة، والصيّادون قد خرجوا منهما وغسلوا الشباك، فدخل إحدى السفينتين التي كانت لسمعان وسأله أن يبعد قليلاً عن البرّ. ثم جلس وصار يعلّم الجموع من السفينة. ولما فرغ قال لسمعان: أبعد إلى العمق وألقوا شباككم للصيد. فأجاب سمعان وقال له: يا معلم قد تعبنا الليل كله ولم نأخذ شيئاً ولكن على كلمتك ألقي الشبكة. ولما فعلوا ذلك أمسكوا سمكاً كثيراً جداً فصارت شبكتهم تتخرق. فأشاروا إلى شركائهم الذين في السفينة الأخرى، أن يأتوا ويساعدوهم. فأتوا وملأوا السفينتين حتى أخذنا في الغرق. قلما رأى سمعان بطرس ذلك خرّ عند ركبتي يسوع قائلاً: أخرج من سفينتي يا رب لأني رجل خاطئ. إذ اعترته وجميع الذين معه دهشة على صيد السمك الذي أخذوه. وكذلك أيضاً سمعان ويوحنا ابنا زبدي اللذان كانا شريكي سمعان. فقال يسوع لسمعان لا تخف. من الآن تكون تصطاد الناس. ولما جاءوا بالسفينتين إلى البر تركوا كل شيء وتبعوه » (لو 5: 1ـ 11). ويذكر متى ومرقس في بشارتيهما، أن الرب قال لسمعان ولأخيه أندراوس « هلمّ ورائي فأجعلكما صيادي الناس. فللوقت تركا الشباك وتبعاه » (مت 4: 19 و20)
و(مر 1: 16ـ 18).
وهكذا انضم سمعان إلى تلاميذ الرب يسوع ثم اختير بعدئذ ليكون في تعداد الاثني عشر رسولاً (مت 10: 2) وفي هذا الصدد يكتب البشير لوقا ما يأتي: « وفي تلك الأيام خرج (يسوع) إلى الجليل ليصلي وقضى الليل كله في الصلاة لله. ولما كان النهار دعا تلاميذه واختار منهم اثني عشر الذين سمّاهم أيضاً رسلاً. سمعان الذي سمّاه أيضاً بطرس. وأندراوس أخاه…» (لو 6: 12ـ 16).
يتأمل المؤمن بالصلاة، بحدث دعوة الرب يسوع لسمعان بطرس ليكون تلميذاً له فيقول بالسريانية[1]:
«ܫܶܡܥܽܘܢ ܟܺܐܦܳܐ ܢܽܘܢ̈ܶܐ ܒܝܰܡܳܐ ܨܳܐܶܕ ܗ̱ܘܳܐ ܘܰܩܪܳܝܗ̱ܝ ܡܳܪܶܗ ܗܳܟܰܢ ܐܶܡܰܪ ܠܶܗ: ܬܳܐ ܠܳܟ ܫܶܡܥܽܘܢ. ܘܶܐܬܶܠ ܠܳܟ ܨܰܝܕܳܐ ܕܪܽܘܚܳܐ. ܕܰܬܨܽܘܕ ܐ̱ܢܳܫ̈ܐ ܡܶܢ ܡܰܘܬܳܐ ܠܚܰܝ̈ܶܐ. ܘܥܺܕܰܬ ܩܽܘܕܫܳܐ. ܥܠܰܝܟ ܫܶܡܥܽܘܢ ܒܳܢܶܐ ܐ̱ܢܳܐ ܠܳܗ̇ ܘܡܽܘܟܠܶܝ̈ܗ̇ ܕܰܫܽܝܘܠ ܠܳܐ ܡܶܨܝܢ ܚܳܣܢܺܝܢ ܠܳܗ̇»
وتعريب ذلك: «بينما كان سمعان كيفا يتصيد السمك في البحر، ودعاه ربه قائلاً له: هلّم يا سمعان فأهبك الصيد الروحاني، لتصطاد الناس(آتياً بهم) من الموت إلى الحياة، ولأبني عليك الكنيسة المقدسة وأبواب الجحيم لن تقوى عليها».
مشي سمعان على الماء:
حدث مرة أن كان يسوع يصلي على الجليل ليلاً، وكان التلاميذ في السفينة في بحر الجليل أو جنيشار، وهاج البحر وماج وكانت الرياح شديدة، والأمواج عاتية، وهي تتقاذف السفينة الصغيرة تريد ابتلاعها. وصارع التلاميذ النوء حتى الساعات الثلاث الأولى التي فيها يبتدئ الصباح… فلما رأى يسوع اضطرابهم والخطر المحدق بهم، نزل من الجبل، ومشى على البحر كأنه يمشي على اليابسة، ومضى إليهم، فلما أبصروه ارتعبوا واضطربوا قائلين: «إنه خيال». ومن الخوف صرخوا. فللوقت كلّمهم يسوع قائلاً: تشجعوا، أنا هو، لا تخافوا، فأجابه بطرس من السفينة وقال: يا سيد إن كنت أنت هو فمرني أن آتي إليك على الماء. فقال تعال. فنزل بطرس من السفينة ومشى على الماء ليأتي إلى يسوع. ولكن لما رأى الريح شديدةً خاف، وإذ ابتدأ يغرق صرخ قائلاً: يا رب نجّني. ففي الحال مدّ يسوع يده وأمسك به وقال له: يا قليل الإيمان لماذا شككت. ولما دخلا السفينة سكتت الريح. والذين في السفينة جاءوا وسجدوا له قائلين: بالحقيقة أنت ابن اللّـه (مت 14: 22ـ 23). في هذا الحدث أراد بطرس أن يتشبّه بسيده في المشي على الماء… فلما قال له الرب تعال. تجاسر،و بشجاعة فائقة نزل إلى الماء، ونجح أولاً وسار على الماء باتجاه الرب، ولكن ساورته الشكوك التي بدت منه في بدء كلامه مع الرب إذ قال له: «إن كنت أنت هو» بعد أن كان قد سمع من الرب قوله «أنا هو لا تخافوا» ولما ابتدأ بالمشي على الماء وهو ناظر إلى يسوع لم يغرق، ولكن لما حوّل نظره من الرب إلى الذات وتأمل قوة الأمواج ارتعب وابتدأ يغرق، ولم تفده معرفته بالسباحة في هذا النوء الشديد فصرخ قائلاً: «يا رب نجّني، ففي الحال مدّ يسوع يده وأمسك به ونشله». ثم وبّخه بقوله: «يا قليل الإيمان لماذا شككت»… وسكنت الريح بمجرد صعود الرب إلى السفينة.
اعتراف سمعان بألوهة الرب يسوع:
من أهم أحداث تاريخ سمعان في مرافقته الرب يسوع مدة ثلاث سنين، تلك اللحظة التي اعترف فيها بألوهة الرب يسوع معلناً أنه «المسيح ابن اللّـه الحي».
كان ذلك في نواحي قيصرية فيلبس حيث انفرد يسوع برسله الاثني عشر، وكان يصلّي (لو 9: 18) قبل اتخاذه القرارات الحاسمة رأيناه يصلّي أولاً على انفراد، ليختلي بأبيه السماوي. فبعد أن صلّى الآن أيضاً، انتهز خلوته برسله، فسألهم قائلاً: «من يقول الناس أني أنا ابن الإنسان» (مت 16: 13) وكعادته لم يكن سؤاله للاستفهام بل لخير الذين يطلب منهم الجواب. فطلب منهم أن يفكروا بأمر مهم جداً، هو رأي الناس به كابن الإنسان لأن العامة لا يرونه إلا كبشر. فأجاب التلاميذ أن الناس في حيرة من جهته، فقوم يقولون إنه يوحنا المعمدان وآخرون إيليا وآخرون إرميا أو واحد من الأنبياء (مت 16: 14) إي واحد من الأنبياء القدامى قد قام من الأموات، ذلك أن في تقليدهم أن نبياً يقوم من الأموات ولعله إرميا قبيل مجيء مشيحا المنتظر، ويظهر قبة الزمان المحتوية على قسط المن، وعصا هارون، ولوحي الشهادة، التي أخفاها إرميا في الجبل لتظهر قبيل ظهور المسيح. لذلك قالوا عن الرب يسوع إنه النبي الذي يظهر قبيل مجيء المسيح قد ظهر الآن. والقليل القليل منهم فقط كانوا يقولون إنه المسيح المنتظر، ذلك أن أعماله الصالحة وتواضعه ووداعته لم تطابق الصورة المادية الصرفة التي طبعت في أذهانهم للمسيح الذي ينتظرونه، كما رسمها لهم رؤساؤهم في تعاليمهم المعوّجة وتفاسيرهم المغلوطة لنبوات الأنبياء.
وكان سؤال الرب لرسله عن رأي الناس فيه هو مقدمة لسؤاله الأهم عن رأي رسله فيه، بعد تتلمذهم على يديه مدة سنتين ونصف السنة تقريباً. فسألهم قائلاً: «وأنتم من تقولون إني أنا» (مت 16: 15) لا بدّ أنهم كأغلب بني قومهم كانوا متمسكين طوال حياتهم بالآمال السياسية الدنيوية المتعلقة بمجيء المسيح، ومن الصعب جداً ترك هذه الآراء فجأة… وفي هذه اللحظات العصيبة لا بدّ أن يسجّل الإنسان موقفاً حاسماً فيبتّ في الأمر بسرعة فائقة، وإلا خسر المعركة، ورسب في الامتحان، ويتقدّم سمعان الشجاع لينوب عن رفقائه تبرعاً كما فعل في مناسبات أخرى، إما لأن يسوع نظر إليه كأنه يكلّفه بالجواب نيابة عن الآخرين، وبالأصالة عن نفسه، أو أن رفقاءه طلبوا إليه أن يمثّلهم في الجواب، المهم أنه نجح في الامتحان نجاحاً باهراً، حيث قال للرب: «أنت هو المسيح ابن اللّـه الحي» (مت 16: 16).
كان سؤال الرب يسوع ما القول فيه كابن الإنسان (مت 16: 13) فجاء الجواب «أنت هو المسيح ابن اللّـه الحي» (مت 16: 16) إن القولين في يسوع المسيح صادقان، على الرغم من التناقض الظاهر فيهما. فإن اتحاد اللاهوت بالناسوت في المسيح الواحد، يسوّغ لنا أن نطلق عليه هاتين الصفتين في آن واحد فهو ابن اللّـه وابن الإنسان بأقنومه الواحد، وطبيعته الواحدة ومشيئته الواحدة.
كانت الشياطين سابقاً قد اعترفت بلاهوت السيد المسيح (مت 8: 29) و(مر 3: 11) و(لو14: 14). وكذلك نثنائيل (يو 1: 49) وبطرس ذاته أجاب قبلاً بهذه الألفاظ (يو 6: 19) ولكن الرب أظهر عظمة جواب بطرس في هذه المرة ذلك أن استحق أن يلهم من السماء، وتجاوب مع الإلهام السماوي، لذلك أجابه يسوع قائلاً: «طوبى لك يا سمعان بن يونا، إن لحماً ودماً لم يعلن لك لكن أبي الذي في السموات» (مت 16: 17) فقد أعلنت السماء هذه الحقيقة الإيمانية فصارت مبدأ لا ينقض، وأساساً للكنيسة المقدسة ثابتاً لا يتزعزع، لأن الرب قال لسمعان: «وأنا أقول لك أيضاً أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها. وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السموات وكل ما تحلّه على الأرض يكون محلولاً في السموات» (مت 16: 18، 19).
تفسير لفظة بطرس (كيفا):
أطلق الرب على سمعان اسم «كيفا» ولهذه اللفظة السريانية معنيان، فهي تعني الحجر الواحد المقطوع من حجر كبير أو جزء من صخرة. وقد ترجمت إلى اليونانية بلفظة بيتروسPetros وهي بصيغة المذكر. وكانت عادة الأقدمين أن يترجموا الأسماء إلى اللغة التي يتكلمون بها. وإن بولس الرسول الذي كتب باليونانية سمّى سمعان تارة «بطرس» وتارة «كيفا» (غلا 2: 7، 8). أما المعنى الثاني للفظة «كيفا» فهو الصخرة الثابتة في مكانها الطبيعي، وترجمت بهذا المعنى إلى اليونانية فصارتPetra وهي بصيغة المؤنث، وفي آية الرب الموجهة إلى سمعان بطرس صارت تشبيهاً للعقيدة الإيمانية الثابتة التي نطق بها سمعان إذ قال للسيد: «أنت المسيح ابن اللّـه الحي»، فالكنيسة أسست على مبدأ سام نطق به إنسان مؤمن هو سمعان بطرس الذي لإيمانه وتجاوبه مع الوحي الإلهي استحق أن يدعى «كيفا».
السيد المسيح هو أساس الكنيسة:
«مبنيين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية» (أف 2: 20). فالكنيسة مبنية على المسيح فهو أساسها، وحجر الزاوية فيها، «من هو إله غير الرب ومن هو صخرة غيره» (2صم 22: 23) قال الرسول بولس: «فإنه لا يستطيع أحد أن يضع أساساً آخر غير الذي وضع الذي هو يسوع المسيح» (1كو 3: 11) ويدعو الرسول بطرس الرب يسوع بحجر الزاوية بقوله: «الحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية»
(1بط 2: 7).
وبهذا المعنى يترنم المصلي صباح كل يوم سبت[2] قائلاً:
ܟܺܐܦܳܐ ܒܕܰܒܪܳܐ ܝܶܠܕܰܬ ܗܘܳܬ ܢܰܗܪ̈ܳܬܐ. ܘܨܳܪܰܬ ܛܽܘܦܣܶܟܝ ܓܰܠܝܳܐܺܝܬ ܒܬܽܘܠܬܳܐ ܩܰܕܺܝܫܬܳܐ. ܕܰܕܢܰܝ ܡܶܢܶܟܝ ܒܰܒܪܺܝܬܳܐ ܒܪܳܐ ܕܰܐܠܳܗܳܐ ܕܗܽܘܝܽܘ ܟܺܐܦܳܐ ܕܰܫܪܳܪܳܐ. ܐܰܝܟ ܕܶܐܡܰܪ ܦܰܘܠܳܘܣ܀
وتعريب ذلك: إن الصخرة التي دفقت أنهاراً في البرية، ترمز إليكِ بوضوح أيتها العذراء القديسة. فقد أشرق منك العالم ابن اللّـه الذي هو الصخرة الحقيقية على حدّ قول الرسول بولس.
فأساس الكنيسة إذاً الرئيس والأول هو يسوع ذاته الذي هو هو أمس واليوم وإلى الأبد، الحي الذي يمنح الكنيسة حياة، الصخرة التي لا تتزعزع. يقول الرسول بولس: «فلستم إذاً بعد غرباء ونزلاً بل رعية مع القديسين وأهل بيت الله. مبنيين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية الذي فيه كل البناء مركباً معاً ينمو هيكلاً مقدساً في الرب، الذي فيه أنتم أيضاً مبنيون معاً مسكناً لله في الروح» (أف 2: 20ـ 22). فلا يمكن أن تبنى الكنيسة إلا على شخص المسيح يسوع، ولما يتكلم الرب يسوع كالباني بقوله: «أبني كنيستي» إنما يعني أنه يبنيها على مبدأ روحي، لأن الكنيسة هي بناء روحي. فالأساس الروحي هو حقيقة التجسّد المعلنة في العبارتين «ابن الإنسان» و«ابن اللّـه الحي»، ولما يذكر آباء الكنيسة الرسول بطرس كأساس أيضاً في الكنيسة، إنما ذلك لإعلانه حقيقة التجسد الإلهي، ويستمدّ قوة وجوده كحجر في أساس الكنيسة من المسيح يسوع الذي هو أساس الكنيسة وحجر الزاوية فيها. وبهذا الصدد قال العلامة ابن الصليبي (ت1171): «إن (الرب) لم يقصد بالصخرة أقنوم بطرس بل الاعتراف والإيمان الصحيح به (وكأني به يقول) على الإيمان الذي اعترفت به أنني ابن اللّـه الطبيعي أبني بيعتي» والسيد المسيح يوضّح لنا سبب تطويبه لسمعان وتسميته «كيفا أي بطرس، الحجر»، بقوله لسمعان: «إن لحماً ودماً لم يعلن لك لكن أبي الذي في السموات» فالإعلان سماوي، وقد خضع سمعان له فصار واسطة لإذاعته، فنال الطوبى. والآباء أحياناً يشكرون بقية الرسل مع بطرس جاعلين إياهم أساساً في الكنيسة. فقد جاء في صلاة مساء يوم الثلاثاء في كتاب الإشحيم[3] ما يأتي:
ܒܪܺܝܟܽ ܗ̱ܘ ܕܰܒܢܳܗ̇ ܠܥܺܕܰܬ ܩܽܘܕܫܳܐ ܥܰܠ ܦܰܣܰܬ ܐܺܝܕܰܘ̈ܗ̱ܝ. ܘܣܳܡ ܫܶܬܐܣܶܝ̈ܗ̇ ܢܶܒܝ̈ܶܐ ܫܠܺܝ̈ܚܶܐ. ܘܣܳܗ̈ܕܶܐ ܩܰܕܺܝ̈ܫܶܐ. ܘܟܰܢܶܫ ܘܰܡܠܳܗ̇ ܟܽܠ ܥܰܡܡܺܝ̈ܢ. ܘܗܳܐ ܡܰܣܩܺܝܢ ܒܳܗ̇ ܬܶܫܒܽܘܚܬܳܐ ܒܠܺܠܝܐ ܘܒܺܐܝܡܳܡܳܐ܀
وتعربيه: مبارك (المسيح) الذي بنى كنيسته على راحة يديه[4]. ووضع الأنبياء والرسل والشهداء القديسين أساساً لها وجمع فيها الشعوب كافة فامتلأت منهم وهم يصعدون المجد ليلاً ونهاراً.
وفي المعنى نفسه جاء في صلاة صباح يوم الثلاثاء[5] ما يأتي:
ܫܽܘܒܚܳܐ ܠܰܡܫܺܝܚܳܐ ܕܥܰܠ ܦܰܣܰܬ ܐܺܝܕܰܘ̈ܗ̱ܝ. ܒܢܳܐ ܠܥܺܕܰܬ ܩܽܘܕܫܳܐ ܘܰܐܬܩܶܢ ܒܳܗ̇ ܡܰܕܒܚܳܐ. ܘܣܳܡ ܒܳܗ̇ ܣܺܝ̈ܡܳܬܳܐ ܢܒܺܝ̈ܶܐ ܘܰܫܠܺܝ̈ܚܶܐ ܘܣܳܗ̈ܕܶܐ ܩܰܕܺܝ̈ܫܶܐ ܕܰܢܨܰܚܘ ܘܶܐܬܟܰܠܠܰܘ ܗ̄ܘܗ̄ ܒܪܺܝܟ ܕܰܒܢܳܐ ܠܥܺܕܬܶܗ ܘܰܐܬܩܶܢ ܒܳܗ̇ ܡܰܕܒܚܳܐ܀
وتعريب ذلك: المجد للمسيح الذي بنى الكنيسة المقدسة على راحة يديه ونصب فيها مذبحاً، ووضع فيها ذخائر هو الأنبياء والرسل والشهداء القديسون المظفرون مبارك الذي بنى كنيسته وأقام فيها مذبحاً.
وجاء في صلاة صباح يوم السبت[6] ما يلي:
ܥܰܠ ܗ̇ܳܝ ܟܺܐܦܳܐ ܕܒܶܝܬ ܫܶܡܥܽܘܢ. ܪܺܝܫ ܬܰܠܡܺܝ̈ܕܶܐ ܒܰܢܝܳܐ ܐ̱ܢܳܐ ܘܠܳܐ ܕܳܚܠܳܐ ܐ̱ܢܳܐ ܥܺܕܬܳܐ ܥܢܳܬ݀ ܘܶܐܡܪܰܬ݀. ܛܰܪܘ ܒܺܝ ܓܰܠـ̈ܠܶܐ ܘܰܡܚܫܽܘ̈ܠܐ ܘܠܐ ܐܰܙܺܝܥܽܘܢܝ ܘܰܐܩܪܶܒ ܥܡܰܝ ܢܶܣܛܽܘܪ ܠܺܝܛܳܐ ܘܰܗܘܳܬ ܡܰܦܽܘܠܬܶܗ܀
وتعريب ذلك: قالت الكنيسة: إني مشيّدة على صخرة زمرة سمعان رئيس التلاميذ، فلن أفزع أبداً، لقد لطمتني الأمواج والأنواء فلم تزعزعني، وحاربني نسطور اللعين فهوى ساقطاً.
وفي هذا البيت نلمس تساوي نصيب الرسل في بناء الكنيسة، ولكن في أبيات أخرى يصرّح الآباء بأن بطرس هو الأساس فيها. فقد جاء في صلاة يوم الجمعة[7] ما يأتي:
ܥܰܠ ܬܰܪ̈ܥܰܝܟܝ ܥܺܕܬܳܐ ܢܳܛܽܘܪ̈ܶܐ ܩܳܝܡܺܝܢ. ܒܠܺܠܝܳܐ ܘܒܺܐܝܡܳܡܳܐ ܡܶܢ ܒܺܝܫܳܐ ܢܳܛܪܺܝܢ. ܫܶܡܥܽܘܢ ܫܶܬܶܐܣܬܳܐ ܘܦܰܘܠܳܘܣ ܐܰܪܕܺܝܟܠܳܐ. ܘܝܽܘܚܰܢܳܢ ܕܰܥܒܺܝܕ ܫܰܘܫܒܺܝܢܳܐ ܘܪܳܚܡܳܐ ܗ̄ ܘܕܰܘܺܝܕ ܟܶܢܳܪܳܐ ܕܪܽܘܚܳܐ ܩܰܕܺܝܫܳܐ܀
ܥܰܠ ܫܶܡܥܽܘܢ ܟܺܐܦܳܐ ܡܳܪܰܢ ܥܺܕܬܶܗ ܒܢܳܐ. ܘܥܰܠ ܫܰܒܥܺܝܢ ܘܰܬܪܶܝܢ ܥܰܡܽܘܕܺܝܢ ܐܰܬܩܢܳܗ̇. ܡܶܢ ܛܽܘܪܳܐ ܕܩܰܪܕܽܘ ܪܳܡܳܐ ܘܰܡܥܰܠܝܳܐ ܐܰܪܕܺܟܠܳܐ ܕܰܒܢܳܐ ܒܰܡܪ̈ܰܘܡܶܐ ܡܰܥܡܪܶܗ ܗ̄ ܒܪܺܝܟ ܕܰܒܢܳܐ ܠܥܺܕܬܶܗ ܘܰܐܬܩܶܢ ܒܳܗ̇ ܡܰܕܒܚܳܐ܀
وهذا تعريب ذلك: على أبوابك أيتها الكنيسة يقف الحراس ليلاً ونهاراً، حافظين إياك من الشرير. فسمعان أساسك، وبولس مهندسك، ويوحنا عرّابك (رفيق الختن) وصديقك هللويا وأما داود فهو كنّارة الروح القدس.
لقد بنى ربنا كنيسته على سمعان كيفا، وثبّتها على اثنين وسبعين عموداً، فهو أكثر ارتفاعاً من جبل قردو، لأن مهندسها قد شيّد مسكنه في الأعالي هللويا مبارك هو الذي بنى كنيسته ونصب فيها مذبحاً.
مفاتيح ملكوت السموات:
لم يكتف الرب يسوع بإطلاق اسم «كيفا» أو بطرس على سمعان، بل أعطاه أيضاً منفرداً سلطاناً روحياً بقوله له «وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات، فكلّ ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السموات، وكلّ ما تحلّه على الأرض يكون محلولاً في السموات» (مت 16: 19). والمفاتيح هي علامة السلطة، وهي هنا سلطة التعليم والتبرير والتقديس. وقد فتح بطرس باب الإيمان أمام اليهود يوم الخمسين، وكان أول من خطب فيهم رسل الرب، ولما نخسوا في قلوبهم، قالوا له ولسائر الرسل ماذا نفعل أيها الرجال الأخوة، فقال لهم بطرس: «توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا فتقبلوا عطية الروح القدس. لأن الموعد هو لكم ولأولادكم ولكل الذين على بعد كلّ من يدعوه الرب إلهنا… فقبلوا كلامه بفرح واعتمدوا وانضم في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف نفس» (أع 2: 38ـ 41). كما فتح بطرس باب الإيمان للأمم إذ هدى في قيسارية كرنيليوس قائد مئة من الكتيبة التي تدعى الإيطالية، ومعه أهل بيته وأقرباؤه وأصدقاؤه، وأمر أن يعتمدوا باسم الرب (أع 10: 48) فصاروا في تعداد أبناء الملكوت. جاء في صلاة صباح يوم السبت من كتاب الإشحيم[8] ما يأتي:
ܪܓܺܝܓ ܗ̱ܘܳܐ ܩܳܠܶܗ ܕܡܳܪܰܢ ܟܰܕ ܐܶܡܰܪ ܗܘܳܐ ܠܫܶܡܥܽܘܢ ܪܺܝܫܳܐ ܕܰܫܠܺܝ̈ܚܶܐ ܡܶܛܽܠ ܟܳܗܢܽܘܬܐ. ܕܗܳܐ ܥܒܰܕܬܳܟ ܠܺܝ ܪܰܒܒܰܝܬܳܐ ܝܶܗܒܰܬ ܒܺܐܝܕܰܝ̈ܟ. ܩܠܺܝ̈ܕܶܐ ܕܪܰܘܡܳܐ ܘܰܕܥܽܘܡܩܳܐ ܕܬܶܐܣܽܘܪ ܐܳܦ ܬܶܫܪܶܐ. ܐܶܢ ܬܶܐܣܽܘܪ ܐܶܢܳܐ ܐܳܣܰܪ ܐ̱ܢܳܐ ܘܶܐܢ ܬܶܫܪܶܐ ܐܶܢܳܐ ܫܳܪܶܐ ܐ̱ܢܳܐ. ܘܐܶܢ ܬܦܺܝܣ ܚܠܳܦ ܚܰܛܳܝ̈ܶܐ ܫܡܺܝܥܳܐ ܗ̱ܝ ܒܳܥܽܘܬܳܟ܀
وتعريب ذلك: كان صوت ربنا عذباً جداً لما تكلّم سمعان رئيس الرسل في شأن الكهنوت قائلاً له: لقد أقمتك وكيلاً عني، ووهبتك مفاتيح العلاء والعمق، لتربط وتحلّ، فإن ربطتَ، ربطتُ أنا أيضاً، وإن حللتَ، حللتُ أنا أيضاً، وإذا ما شفعت في الخطاة تستجاب طِلبتك.
وقال العلامة مار ديونيسيوس يعقوب ابن الصليبي مطران آمد (ت1171) في تفسيره الآية «وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات…» (أنه بوساطة سمعان، خوّل الرب ذلك السلطان لجميع الكهنة القويمي الرأي).
إن صاحب المفاتيح، أي السلطة المطلقة، هو الرب يسوع المسيح نفسه، كما قيل عنه في سفر أشعيا النبي (22: 22) «وأجعل مفاتيح بيت داود على كتفه فيفتح وليس من يغلق، ويغلق وليس من يفتح» وجاء في سفر الرؤيا: «هذا يقوله القدوس الحق الذي له مفتاح داود الذي يفتح ولا أحد يغلق ويغلق ولا أحد يفتح» (رؤ 3: 7) فسلطة بطرس الروحية في الكنيسة بالمقارنة مع سلطة الرب يسوع نسبية ومستمدة من سلطة الرب يسوع المطلقة. وقد منح الرب تلميذه بطرس هذه السلطة منفرداً، وأعطاه إياها ثانية مع الرسل مجتمعين، وفي هذه المرة كان الرب يتكلم عن مغفرة الخطايا حيث قال: «وإن أخطأ إليك أخوك فاذهب وعاتبه بينك وبينه وحدكما، إن سمع منك فقد ربحت أخاك، وإن لم يسمع فخذ معك أيضاً واحداً أو اثنين لكي تقوم كل كلمة على فم شاهدين أن ثلاثة وإن لم يسمع منهم فقل للكنيسة، وإن لم يسمع من الكنيسة فليكن عنك كالوثني والعشار. الحق أقول لكم كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطاً في السماء، وكل ما تحلّونه على الأرض يكون محلولاً في السماء»
(مت 18: 15ـ 18).
وقد منح الرب يسوع رسله الأطهار كافة، سلطة التعليم والتبرير والتقديس، وذلك قبيل صعوده إلى السماء بقوله لهم: «دُفع إليّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض، فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعلّموهم جميع ما أوصيتكم به. وها أنا معكم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر» (مت 28: 18ـ 20).
وبهذا الصدد جاء في صلاة صباح يوم الاثنين[9] ما يأتي:
ܬܶܪܥܣܰܪ ܐܳܣܰܘ̈ܳܬܐ ܫܰܕܰܪ ܡܳܪܰܢ ܝܶܫܽܘܥ ܠܰܐܪ̈ܒܰܥܦܶܢܝܳܢ ܕܰܒܪܺܝܬܳܐ ܘܗܳܟܰܢ ܐܶܡܰܪ ܠܗܽܘܢ. ܛܪܽܘܕܘ ܫܺܐܕ̈ܶܐ ܡܶܢ ܐ̱ܢܳܫ̈ܳܐ. ܘܰܐܣܰܘ ܠܰܐܝܠܶܝܢ ܕܰܟܪ̈ܺܝܗܺܝܢ ܡܰܓܳܢ ܢܣܰܒܬܽܘܢ ܡܰܘܗܰܒܬܳܐ ܡܰܓܳܢ ܗܰܒܽܘܢܳܗ̇܀
ܫܽܘܒܚܳܐ ܠܶܗ ܠܒܰܪ ܐܰܠܗܳܐ. ܕܰܒܝܰܡܳܐ ܘܝܰܒܫܳܐ ܫܰܠܺܝܛ ܘܰܓܒܳܐ ܠܶܗ ܐ̱ܢܳܫ̈ܳܐ ܦܫܺܝ̈ܛܶܐ ܕܢܶܗܘܽܘܢ ܟܳܪ̈ܽܘܙܰܘܗ̱ܝ. ܡܶܢ ܝܰܡܳܐ ܓܒܳܐ ܠܶܗ ܦܶܛܪܽܘܣ ܘܡܶܢ ܒܶܝܬ ܐܽܘܪ̈ܚܳܬܳܐ ܦܰܘܠܳܘܣ ܘܰܥܒܰܕ ܐܶܢܽܘܢ ܟܳܪ̈ܽܘܙܶܐ ܕܥܺܕܬܐ ܩܰܕܺܝܫܬܳܐ܀
وتعريب ذلك: أرسل ربنا يسوع اثني عشر طبيباً إلى جهات العالم الأربع قائلاً لهم: اطردوا الشياطين عن الناس واشفوا المرضى. مجاناً أخذتم الموهبة فمجاناً أعطوها.
المجد لابن اللّـه الذي له سلطانه يشمل اليمّ واليابسة. وقد اختار له أناساً بسطاء ليصيروا له رسلاً (ينشرون بشارته الإنجيلية) فاختار بطرس من على شاطئ البحر، كما اختار بولس من على مفرق الطرق، وجعلهما كاروزين في الكنيسة المقدسة.
وجاء في صلاة صباح يوم الجمعة[10] ما يأتي:
ܫܠܺܝ̈ܚܶܐ ܩܰܕܺܝ̈ܫܶܐ. ܟܳܪ̈ܽܘܙܶܐ ܕܗܰܝܡܳܢܽܘܬܐ ܕܰܐܝܟ ܐܰܟܳܪ̈ܶܐ ܠܰܐܪܥܳܐ ܢܦܰܩܘ. ܨܰܠܰܘ ܕܢܶܬܥܰܩܪܽܘܢ ܙܺܝܙܳܢ̈ܶܐ ܡܶܢ ܒܰܝܢܳܬܰܢ ܕܙܰܪܥܳܐ ܛܳܒܳܐ ܠܳܐ ܢܶܬܚܢܶܩ ܗ̄ ܒܪܺܝܟܽ ܗ̱ܘ ܕܙܰܪܥܳܗ̇ ܠܰܣܒܰܪܬܶܗ ܡܶܢ ܣܰܘ̈ܦܶܐ ܠܣܰܘܦܶܝ̈ܗ̇ ܕܰܐܪܥܳܐ܀
وتعريب ذلك: أيها الرسل القديسون المنادون بالإيمان، يا من خرجتم إلى العالم كالزارعين (لبذار الإنجيل) صلوا لكي يُقلع الزؤان من بيننا لئلا يُخنق الزرع الجيد هللويا مبارك هو الذي زرع بذور بشارته في أقطار المسكونة قاطبة.
وجاء في صلاة ليلة يوم الخميس[11] طلبة للملفان القديس مار يعقوب السروجي وهي مناجاة على لسان الكنيسة قائلة:
ܗܳܐ ܪܕܺܝܦܳܐ ܐ̱ܢܐ ܡܶܢ ܟܽܠ ܓܰܒܺܝ̈ܢ ܩܳܥܝܳܐ ܥܺܕܬܳܐ، ܫܠܺܝ̈ܚܰܘܗ̱ܝ ܕܰܒܪܳܐ ܥܰܕܪܽܘܢܳܢܝ̱ ܒܰܨܠܰܘ̈ܳܬܟܽܘܢ. ܕܟܰܕ ܐܶܬܥܰܠܝ ܒܪܳܐ ܠܘܳܬ ܫܳܠܽܘܚܶܗ. ܠܟܽܘܢ ܐܰܪܦܺܝ ܒܺܝ ܚܶܣ̈ܢܶܐ ܡܪ̈ܺܝܪܶܐ ܕܠܳܐ ܡܶܬܟܰܒܫܺܝܢ܀
وتعريب ذلك: تتضرع الكنيسة متشفعة برسل ابن (الله) قائلة: إنني مضطهدة من سائر الفرق، فاعضدوني بصلواتكم، فإن ابن اللّـه لما صعد إلى السماء عائداً إلى (الآب) مرسله، أودعني أمانة بأعناقكم أيها الحصون المنيعة الصامدة التي لا تقهر.
وكما تلتجئ الكنيسة إلى الرسل كافة متشفعة بهم، كذلك تؤمن بأنهم سينالون مكافأتهم المتساوية في السماء نتيجة لوعد الرب يسوع لهم، وبهذا المعنى يترنم المؤمن في الصلاة بالقومة الثالثة من ليل يوم الأربعاء[12] قائلاً:
ܐܳܡܪܺܝܢ ܠܶܗ ܫܠܺܝ̈ܚܶܐ ܠܡܳܪܰܢ. ܡܽܘܢ ܝܳܗܒܰܬ ܠܰܢ ܕܰܪܚܶܡܢܳܟ. ܘܰܥܢܳܐ ܦܳܪܽܘܩܰܢ ܘܗܳܟܰܢ ܐܶܡܰܪ ܠܗܽܘܢ: ܕܥܰܠ ܟܽܘܪ̈ܣܰܘܳܬܐ ܬܶܪܥܣܰܪ ܒܡܶܐܬܺܝܬܝ ܐܰܘܬܶܒܟܽܘܢ. ܘܰܬܕܽܘܢܽܘܢ ܬܪܶܥܣܰܢ ܫܰܒ̈ܛܶܐ ܕܰܒܢ̈ܝ ܝܺܣܪܳܐܺܝܠ. ܘܥܰܡܝ ܬܺܐܪܬܽܘܢ ܡܰܠܟܳܘܬ ܪܰܘܡܳܐ. ܘܥܰܠ ܦܳܬܽܘܪܝ ܡܶܬܒܰܣܡܺܝܢ ܐܢ̱ܬܽܘܢ. ܘܶܐܬܶܠ ܠܟܽܘܢ ܐܰܓܪܳܐ ܛܳܒܳܐ. ܒܰܬܠܳܬܺܝܢ ܘܒܶܫܬܺܝܢ ܘܒܰܡܐܐ ܕܰܢܛܰܪܬܽܘܢ ܦܽܘܩܳܕܢܝ ܘܥܒܰܕܬܽܘܢ ܨܶܒܝܳܢܝ܀
وتعريب ذلك: يقول الرسل لربنا ماذا تهب لنا لقاء محبتنا لك؟ فأجاب مخلصنا قائلاً: في مجيئي الثاني أجلسكم على اثني عشر كرسياً لتدينوا أسباط إسرائيل الاثني عشر، وترثوا معي ملكوت السماء وتنعموا على مائدتي. كما أفيكم الأجر الصالح بثلاثين وستين ومائة، لقاء حفظكم وصيتي وإتمامكم إرادتي.
وجاء في صلاة صباح يوم الجمعة[13] ما يأتي:
ܡܰܢܽܘ ܕܠܳܐ ܢܶܬܗܰܪ ܟܰܕ ܚܙܳܐ ܠܗܽܘܢ ܠܰܫܠܺܝ̈ܚܶܐ ܕܥܰܠ ܟܽܘܪ̈ܣܰܘܳܬܐ ܝܳܬܒܺܝܢ. ܘܠܒܺܝܫܺܝܢ ܢܽܘܪܳܐ ܕܰܡܥܰܛܦܺܝܢ ܫܰܠܗܶܒܺܝܬܐ ܕܰܠܕܒܶܝܬ ܐܺܝܣܪܳܐܺܝܠ ܕܺܝܢܺܝܢ ܗ̄ ܒܪܺܝܟܽ ܗ̱ܘ ܕܰܐܓܥܶܠ ܒܺܐܝܕܰܝ̈ܗܽܘܢ ܫܽܘܠܛܳܢܳܐ ܕܪܰܘܡܳܐ ܘܥܽܘܡܩܳܐ܀
وتعريب ذلك: من لا يندهش حينما يرى الرسل جالسين على كراسيّ (في السماء) وقد اتشحوا بالنور وتجللوا بالسلهبة وهم يدينون آل إسرائيل هللويا مبارك الذي أودع بأيدي رسله سلطة (في) العلاء والعمق.
تهوّر بطرس بكلامه:
بعد أن اعترف بطرس بأن يسوع هو المسيح ابن اللّـه الحي، أوصى الرب تلاميذه بألاّ يقولوا ذلك لأحد «لأن ساعته لم تأتِ بعد» وكان هذا الإقرار من رسله، بلاهوته، قد مهّد له الطريق لإعلان سر الفداء، فأنبأهم لأول مرة بموته وقيامته. ويقول البشير متى: «من ذلك الوقت ابتدأ (يسوع) يعلّمهم أنه سيتألم كثيراً في أورشليم ويُرفض من الرؤساء ويقتل ثم يقوم في اليوم الثالث» (مت 16: 21).
استغرب الرسل كثيراً كلام الرب هذا، وتهّور بطرس فأنكر على الفادي الآلام والموت. ويصف الإنجيلي ذلك بقوله: «وابتدأ (بطرس) ينتهر بقوله له حاشاك يا رب لا يكون لك هذا» (مت 16: 22) فما رآه بطرس في نفسه غيرة حبيّة نحو سيده، كان الحقيقة من حيل الشيطان لإسقاط بطرس، لذلك «التفت (يسوع) وقال لبطرس: اذهب عني يا شيطان، أنت معثرة لي لأنك لا تهتم بما لله لكن لما للناس» (مت 16: 23). استحق بطرس هذا التوبيخ لحبه للمجد العالمي. «ودعاه شيطاناً» لأن الشيطان حاول تجربة الرب يسوع في البرية ففشل، وأعاد الكرة بوساطة بطرس الآن، فانتهره الرب يسوع كما انتهر إبليس في البرية طارداً إياه.
كان خطأ بطرس أنه لم يدرك سرّ الصليب الذي هو إيفاء العدل الإلهي حقه بموت السيد المسيح، وتحصيل الحياة الأبدية للمؤمنين به. ذلك أن سريّ التجسّد والفداء مرتبطان بعقيدة ألوهة السيد المسيح، فمن أنكر كفارته الإلهية أنكر ألوهته. ومن اعترف به مخلصاً، اعترف بسرّ تجسده الإلهي وبالتالي بآلامه وموته وقيامته وصعوده إلى السماء.
وبعد توبيخ بطرس، يشرح الرب يسوع شروط التلمذة الحقيقية له، من إنكار الذات وحمل الصليب يومياً وإتباعه له المجد أي السير في طريقه وتتبع خطواته في طريق الآلام دون ملل ولا كلل.
تجلي الرب يسوع على الجبل:
كان الرب يسوع قد خصّ بطرس ويعقوب ويوحنا بمشهد عظام الأمور كالتجلي على الجبل، وإحياء إبنة يايرس والصلاة الأخيرة في البستان. وقد أخطأ بطرس في أقواله خلال حادثة تجلي الرب يسوع على جبل تابور أو جبل الشيخ (حرمون) حيث تغيرت هيئته قدام تلاميذه الثلاثة المذكورة أسماؤهم، فصار وجهه يلمع كالشمس، ثيابه بيضاء كالثلج، وظهر معه موسى وإيليا يكلمانه عن خروجه الذي كان عتيداً أن يكلمه في المدينة المقدسة، وكلمة الخروج هنا تعني الخلاص والفداء وعمل الكفارة الذي كان الرب يسوع عتيداً أن يكمّله بموته الاختياري. وتسرّع بطرس، إذ أخذ بروعة المنظر، فقال: «يا رب حسن أن نكون ههنا، وإن شئت فلنصنع ههنا ثلاث مظال واحدة لك وواحدة لموسى، وواحدة لإيليا» (مت 17: 4).
أراد بطرس بكلامه هذا تكريم الرب والنبيين موسى وإيليا، وإبعاد الرب عن مواطن التهلكة، ليمكث في الجبل ولا ينزل ليتألّم من اليهود ويموت، ولكنه أخطأ إذ جعل الرب يسوع بمستوى النبيين موسى وإيليا الأمر الذي رفضته السماء لذلك سمع صوت الآب السماوي من سحابة يقول: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت فله اسمعوا» (مت 17: 5) وبذلك أعلنت السماء أن يسوع هو ابن اللّـه ولئن ظهر أمام الناس كإنسان. وبينما كان التلاميذ الثلاثة ساقطين على وجوههم خوفاً، ارتفعت السحابة تقلّ النبيين رجوعاً إلى حيث كانا إذ قد أتمّا رسالتيهما بالشهادة ليسوع. ووجد يسوع وحده لا شريك له ابناً وحيداً لله الآب السماوي.
في حادثة التجلي وقف بطرس بين الصليب والمجد، سمع عن الصليب والموت، كما رأى المجد العظيم، وتعلّم الدرس الخالد أن لا مجد دون صليب، وكان لحادثة التجلي التأثير الكبير في حياة بطرس بعدئذ حتى أنه كتب في رسالته الثانية قائلاً: «لأننا لم نتبع خرافات مصنّعة إذ عرفناكم بقوة ربنا يسوع المسيح ومجيئه بل قد كنا معاينين عظمته لأنه أخذ من اللّـه الآب كرامة ومجداً إذ أقبل عليه صوت كهذا من المجد الأسنى: هذا هو ابني الحبيب الذي أنا سررت به، ونحن سمعنا هذا الصوت مقبلاً من السماء إذ كنا معه في الجبل المقدس» (2بط 1: 16ـ 18).
المعجزة لإيفاء الجزية:
حدث مرة في كفرناحوم أن طلب جباة مال هيكل ليدفع لهم الرب يسوع الدرهمين المفروض دفعهما على كل يهودي فوق سن العشرين لنفقات الهيكل. ربما طلبت هذه الجزية من الرب يسوع لأول مرة بتحريك من رؤساء الكهنة وكتبة الشعب والفريّسيين، محاولة منهم لتصغير شأن الرب بحرمانه من حقوق الإعفاء المنوحة للأنبياء ومعلمي الشريعة والكهنة واللاويين، أو لاتخاذ حجة لإيقاع الضرر به إن هو أبى دفع هذه الجزية. وقد يكون الرب عوّدهم دفع هذه الجزية سنوياً. فالتقى الجباة بطرس خارجاً وسألوه «أما يوفي معلمكم الدرهمين؟» (مت 17: 24) ودون أن يسأل بطرس معلمه، أجابهم «بلى» فلما عاد إلى البيت سبقه يسوع قائلاً: «ماذا تظن يا سمعان، ممن يأخذ ملوك الأرض الجباية أو الجزية أمن بنيهم أم من الأجانب، قال له بطرس: من الأجانب، قال له يسوع فإذاً البنون أحرار». بهذا بيّن الرب لبطرس خطأه بتسرعه، وقبل أن يفاتح بطرس الرب بموضوع الجزية أعلمه الرب أنه عارف الخفايا، وبحوار الرب مع بطرس صرّح بحقوقه وأنه لا يحقّ لأحد أن يطلب منه جزية للهيكل الذي هو بيت أبيه السماوي. ولكن يسوع في الوقت نفسه لم يتشبث بحقه، لأنه إن أصرّ على عدم دفع الجزية يُعثر الآخرين، لأن فئات رؤساء الكهنة والكتبة وغيرهم وكذلك عموم الشعب لا يعترفون به بعد مسيحاً، فيكون رفضه إيفاء الجزية في اعتبارهم تمرداً وتحقيراً للهيكل وأخيراً للدين، خاصة وأن هذه الجزية هي من النظام الأصلي وليست من تعليم الشيوخ… وأراد الرب يسوع أن يقرن خضوعه للنظام بمعجزة تقوّي إيمان بطرس وتعلن أن هذا الخضوع لم يكن قسراً، لذلك أمر بطرس أن يُحضر المطلوب فقط بوساطة مهنته بصيد السمك بالصنارة لأجل السرعة وأخبره أنه عند فتحه لفم أول سمكة يصطادها يجد استاراً يساوي أربعة دراهم تكفي لإيفاء المفروض عليه وعلى سيده وقال: «أعطِهم عنّي وعنك» وهكذا كان. وكانت الفائدة من هذه المعجزة لا المنفعة الشخصية بل المحافظة على صدق بطرس وكرامته وتقديم قدوم النظام الموسوي بتدقيق.
تمسك بطرس وإيمانه بالرب يسوع:
حدث مرة أن كان الرب يسوع يعلّم في مجمع كفرناحوم، موضحاً عقيدة سر جسده ودمه الأقدسين ومما قاله للجمع: «الحق الحق أقول لكم: إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه، فليس لكم حياة فيكم. من يأكل جسدي ويشرب دمي له حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير» (يو 6: 53، 54) فقال كثيرون من تلاميذه إذ سمعوا إن هذا الكلام صعب. من يقدر أن يسمعه… من هذا الوقت رجع كثيرون من تلاميذه إلى الوراء ولم يعودوا يمشون معه. فقال يسوع للاثني عشر ألعلكم أنت أيضاً تريدون أن تمضوا. فأجابه سمعان بطرس: يا رب إلى أين نذهب؟ كلام الحياة الأبدية عندك ونحن قد آمنّا وعرفنا أنك أنت المسيح ابن اللّـه الحي (يو 6: 60ـ 68).
قال بطرس هذا الكلام بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن سائر الرسل، الذين أحبوا الرب أكثر من كل شيء في العالم، وقد تركوا كل شيء وتبعوه، وقد اختارهم الرب وهو يعرفهم لأنه فاحص القلوب والكلى، ولذلك فيوحنا الإنجيلي وهو يكمّل سرد الحادثة يقول: «أجابهم يسوع أليس أني أنا اخترتكم الاثني عشر وواحد منكم شيطان. قال عن يهوذا سمعان الإسخريوطي لأن هذا كان مزمعاً أن يسلّمه وهو واحد من الاثني عشر» (لو 6: 70، 71).
ولما ضرب الرب يسوع مثل العبيد الذين ينتظرون رجوع سيدهم من العرس، ليفهم تلاميذه أن مجيئه الثاني سيكون مباغتاً، وأن عليهم أن يكونوا مستعدين لاستقباله لأن ابن الإنسان يأتي في ساعة لا يظنونها (لو 12: 35ـ 40) قال له بطرس يا رب ألنا تقول هذا المثل أم للجميع أيضاً (يو 12: 41).
وعلى أثر كلام الرب يسوع عن مغفرة الخطايا، ومنحه سلطان الربط والحلّ لرسله، سأله بطرس عن عدد المرات التي يغفر فيها لمن أخطأ إليه، بقوله: «كم مرة يخطئ إليّ أخي وأنا أغفر له، هل إلى سبع مرات؟ قال له يسوع لا أقول إلى سبع مرات بل إلى سبعين مرة سبع مرات» (مت 18: 21، 22).
ولما تكلّم الرب عن صعوبة دخول الغني إلى ملكوت السموات، تكلّم بطرس بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن رفقائه قائلاً للرب يسوع: «ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك فماذا يكون لنا؟ فقال لهم يسوع أقول لكم أنكم أنتم الذين تبعتموني في التجديد متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده تجلسون أنتم أيضاً على اثني عشر كرسياً تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر. وكل من ترك بيوتاً أو أخوة أو أخوات أو أباً أو أماً أو امرأة أو أولاداً أو حقولاً من أجل اسمي يأخذ مئة ضعف ويرث الحياة الأبدية. ولكن الكثيرون أولون يكونون آخرين، وآخرون أولين» (مت 19: 27ـ 30).
اعتراض بطرس على الرب في حادثة غسل أرجل التلاميذ:
كان ذلك ليلة آلام الرب يسوع، وكان يسوع قد اتكأ على مائدة الفصح، كرب العائلة، وحوله تلاميذه يشاركونه أكل الخروف. وقبل أن يمنحهم سر جسده ودمه تحت شكلي الخبز والخمر، نهض يسوع من مكانه، وخلع الرداء المختص به كملعم، واتّزر بمنشفة كعبد، وتناول إبريق الماء والمغسل، وأخذ يغسل أرجل التلاميذ مبتدئاً من الصغير فلما جاء الدور إلى سمعان اعترض على يسوع موجهاً إليه سؤالاً بصورة الاستفهام والتعجب قائلاً: «أأنت يا سيد تغسل لي رجليّ؟ ولم يقنع بكلام الرب بأنه سيفهم فيما بعد سرَّ عمله بل جدد اعتراضه بصورة الجزم قائلاً ليسوع: لن تغسل رجليّ أبداً». وبهذا الكلام يخطئ بطرس سيده من حيث يدري أو لا يدري، ويذمّ عمل رفقائه الذين رضخوا لإرادة الرب فغسل لهم أرجلهم، وأظهرهم بطرس وكأنهم أقل إدراكاً منه. فوبّخه الرب بقوله: «إن كنت لا أغسلك فليس لك معي نصيب» عند ذلك كما تهوّر في الممانعة زاد فتهّور في عكسها أي في المطالبة بأكثر مما قصد يسوع أن يفعله، لأنه أجاب: «ليس رجليّ فقط بل أيضاً يديّ ورأسي»، وهذا ما ندعوه الكبرياء في ميدان التواضع، ولئن كان فعله قد صدر عن حسن نية فهو يُعّد خطأ أيضاً، ولذلك خطّأه يسوع مبيّناً أن لا حاجة لغسل يديه ورأسه بقوله له: «إن الذي قد اغتسل لا يحتاج إلا إلى غسل الأرجل لأنه كله نقي وأنتم أنقياء ولكن لا جميعكم» (يو 13: 5ـ 10). ذلك أن الرجل المهذب يغتسل قبل ذهابه إلى زيارة أو يلبي دعوة أحد في الاشتراك في وليمة. وهذه السفرة القصيرة لا تغبّر إلا الرجلين فقط فيحتاج المرء إلى غسلهما.
قبل السقوط: الكبرياء
على مائدة العشاء الأخير يتكلم الرب بالتفصيل عن آلامه ويصرّح لتلاميذه أنهم سيتركونه ويهربون حالما يلقى القبض عليه. ويردف قائلاً: كلكم تشّكون فيَّ في هذه الليلة لأنه مكتوب إني أضرب الراعي فتتبدد خراف الرعية ولكن بعد قيامي أسبقكم إلى الجليل (مت 26: 31). فلم يستطيع بطرس أن يصدّق أنه هو نفسه يكمن أن يعمل عملاً مشيناً كهذا ولذلك قال للرب: «وإن شكّ فيك الجميع فأنا لا أشك أبداً. قال له يسوع: الحق أقول أنك في هذه الليلة قبل أن يصيح ديك تنكرني ثلاث مرات. قال له بطرس ولو اضطررت أن أموت معك لا أنكرك. هكذا قال جميع التلاميذ» (مت 26: 33ـ 35).
إن جواب بطرس للرب يدلّ على بساطة ومحبة في آن واحد. فهو كعادته يتسرّع بالكلام، ولكنه نفي القلب، ودود، ويُلام على كلامه لأنه لم يفهم أن قول الرب لتلاميذه عن شكوكهم وهروبهم هو نبوة لا بدّ أن تتمّ. وقد شكّ بطرس بصدق هذه النبوة وكذّبها من حيث يدري أو لا يدري. كما أظهر غروراً وكبرياء كأنه أفضل من رفقائه فهم قد يتركون سيدهم ويهربون، أما هو فيحسب نفسه أكثرهم جميعاً محبة للرب وتمسكاً به.
ثم خرج الرب مع تلاميذه إلى عبر وادي قدرون على جبل الزيتون حيث كان بستان جثسيماني فدخله وتلاميذه (يو 18: 1). «ولما صار إلى المكان قال لهم صلّوا لكي لا تدخلوا في التجربة» (لو 22: 40) واختص بطرس ويعقوب ويوحنا ليشاهدوه وهو يتألّم، ويسمعوه وهو يتكلم، ويشهدوا لتسليمه إرادته بيد أبيه، وقبوله باختياره شرب كأس الموت نيابة عن البشرية. ومما يلاحظ أن يسوع ترك هؤلاء التلاميذ الثلاثة وذهب ليصلّي للأب السماوي. ولما عاد إليهم وجد بطرس والذين معه نيّاماً. فقال لبطرس: «أهكذا ما قدرتم أن تسهروا ساعة واحدة. اسهروا وصلّوا لئلا تدخلوا في التجربة. أما الروح فنشيط وأم الجسد فضعيف.» (مت 26: 40، 41).
ولما جاء يهوذا وهو يقود الجند الموضوعين تحت أمرة رؤساء اليهود ومعهم خدام من عند رؤساء الكهنة والكتبة والفرّيسيين وشيوخ الشعب حتى أصبحوا جمعاً غفيراً يحملون مشاعل ومصابيح وسلاحاً جاؤوا جميعاً للقبض على يسوع. وفكّر بطرس أنه ينبغي أن يدافع عن سيده فاستل السيف الذي معه وضرب عبد رئيس الكهنة المسمّى ملخس على رأسه بقصد قتله ولكنه لم يصب إلا أذنه اليمنى فقطعها، فأظهر يسوع أولاً استياءه من فعل تلميذه الغيور وأمره أن يرد سيفه إلى غمده وذكره بالحكمة القديمة القائلة: «إن الذين يأخذون بالسيف بالسيف يهلكون»، أي أن الانتقام يولد الانتقام. ثم سأله إن كان لا يعلم أن سيده لا يحتاج إلى من ينصره من البشر فهو لا ينتظر من رسله أن يعينوه بالقوة، فلو شاء التخلص من أعدائه لما كان عليه إلا أن يطلب من أبيه فيرسل له أكثر من أثني عشر جيشاً من الملائكة. أو لا يعلم تلميذه حتى الآن أن هذا القبض على سيده ينبغي أن يكون لكي تكمل الكتب، وان سيده لهذا أتى إلى العالم ليفتدي العالم بموته وقيامته.
ومدَّ يسوع يده وأبرأ ملخس معيداً أذنه إلى مكانها، ليعلمنا محبة الأعداء والإحسان إلى المبغضين، وكانت تلك الأعجوبة خاتمة معجزاته قبل الصلب.
بطرس ينكر سيده:
وألقى الجند القبض على الرب يسوع ليلاً، وحينئذ تركه تلاميذه كلهم وهربوا، أما بطرس فتبعه من بعيد، وعندما أتوا بيسوع إلى دار رئيس الكهنة، وحكم عليه بالموت، بعد أن أهانه رؤساء الكهنة والكتبة والفرّيسيون، واستهزؤوا به وضربوه ضربات موجعة، «أما بطرس فكان جالساً، خارجاً في الدار، فجاءت اليه جارية قائلة: وأنت كنت مع يسوع الجليلي، فأنكر قدّام الجميع قائلاً: لست أدري ما تقولين. ثم إذ خرج إلى الدهليز رأته أخرى فقالت للذين هناك وهذا كان مع يسوع الناصري. فأنكر أيضاً بقسم: إني لست أعرف الرجل. وبعد قليل جاء القيام وقالوا لبطرس: حقاً أنت أيضاً منهم فإن لغتك تظهرك. فابتدأ حينئذ يلعن ويحلف إني لست أعرف الرجل ( متى 26: 72) وللوقت صاح ديك. فالتفت يسوع ونظر إلى بطرس فتذكر بطرس كلام يسوع الذي قال له: إنك قبل أن يصيح الديك تنكرني ثلاث مرات. فخرج إلى خارج وبكى بكاءً مراً» (مت 26: 69ـ75) وصار بطرس بذلك أول التائبين من أتباع الرب يسوع ومثالاً للخطاة النادمين على خطاياهم العائدين إلى اللّـه بتوبة واسعة. وهكذا ذهب الرب يسوع وحده إلى الصليب ومات كفّارة عن خطايا العالم وفدى العالم بموته.
بطرس يؤمن بقيامة الرب:
ولما قام الرب يسوع من الأموات في اليوم الثالث، وأخبرت النسوة بطرس بذلك، ذهب بطرس ويوحنا إلى القبر ليتأكدا من حقيقة القيامة. وسبق يوحنا بطرس إلى القبر، ولكنه لم يدخله لرهبة الموقف، ولإحترامه بطرس الذي كان أكبر منه سناً، وجاء بطرس ودخل القبر أولاً، ثم تبعه فوجدا القبر فارغاً من جسد الرب، ووجدا الأكفان موضوعة، والمنديل الذي كان على رأس الرب ملفوفاً وموضوعاً وحده، دلالة على أن الذي جرى في القبر كان بكل تأنٍّ ونظام وأن الرب حقاً قد قام، وان جسده لم يؤخذ لا من أصدقاء ولا من أعداء. فلو سرق لسرق مع الأكفان، وحتى لو تركت الأكفان، وليس حلها هيّناً، لما وضعت بالترتيب بحيث أنها كانت موضوعة وكأن الشخص باق في داخلها. فإن الرب لما قام خرج من أكفانه وهي باقية مرتبة منظمة، فرأى سمعان بطرس ذلك وآمن بأن يسوع قام من الأموات وأنه حي لا محالة وأنه هو المسيح ابن اللّـه الحي، وزالت شكوك بطرس التي ساورته لما شاهد الرب يُلقى عليه القبض ويتألم ويموت، وإن سمعان بطرس أول من آمن من الناس بقيامة الرب يسوع من الأموات.
قبول الرب العلني لبطرس التائب:
في ليلة ألامه اتكأ الرب مع الاثني عشر رسولاً على مائدة العشاء الأخير، وأكل معهم الفصح بحسب العهد القديم، وسلمهم سر القربان المقدس، وتنبأ عن يهوذا الذي يسلمه إلى يد أعدائه، وأعطاه الويل. ويذكر البشير لوقا المشاجرة التي جرت بين الرسل عمن هو الأعظم بينهم فقال لهم يسوع موبّخاً: «ملوك الأمم يسودونهم والمتسلطون عليهم يدعون محسنين، وأما أنتم فليس هكذا، بل الكبير فيكم ليكن كالأصغر والمتقدم كالخادم، لأن من هو أكبر الذي يتكئ أم الذي يخدم؟ أليس الذي يتكئ، ولكني أنا بينكم كالذي يخدم» (لو 22: 24ـ 27). وبهذا يضع السيد المسيح نفسه مثالاً لرسله في كيفية إدارة الكنيسة فقد قال سابقاً: «إن ابن الإنسان لم يأت ليُخْدَم بل ليَخدُم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين» (مت 20: 28) وكان الأوان قد آن لذلك البذل والتضحية وقبل أن يكمله عملياً، برهن لهم عن صدق كلامه أنه جاء ليَخدُم لا ليُخْدَم فغسل أرجلهم، وأوصاهم بالتواضع والآن وهو يراهم ويسمعهم يتشاجرون فيمن هو الأكبر بينهم، يضع لهم القاعدة الذهبية لإدارة الكنيسة، وهو يود أن يُفهم تلاميذه أن الرئاسة في الكنيسة هي الخدمة لا السلطة، مع سمو الموهبة التي ينالها الإنسان من السماء بنيله رتبة الرسولية لذلك يقول لهم: «أنتم الذين ثبتوا معي في تجاربي. وأنا أجعل لكم كما جَعَل لي أبي ملكوتاً. لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي. وتجلسوا على كراسيَّ تدينون أسباط بني إسرائيل الاثني عشر» (لو 22: 28ـ 30).
وفي تلك المناسبة التاريخية المقدسة، يتنبأ الرب يسوع عن سقوط تلاميذه في التجربة الكبرى، بتركهم إياه وهروبهم أثناء آلامه وصلبه وموته. ويذكر سمعان بطرس خاصة إنكاره المشين لسيده وهو ينذره ويحذره وفي الوقت نفسه ينبئنا عن توبته وعودته إليه فيحمله مسؤولية تثبيت التلاميذ وبهذا الصدد يقول الرب لبطرس: «سمعان، سمعان هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة. ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك وأنت متى رجعت ثبِّت أخوتك»
( لو 22: 31 ـ 32).
ما أعظم النعمة التي نالها سمعان بطرس إذ صلّى الرب لأجله ليجتاز التجربة القاسية بل المحنة الصعبة التي صادفته في حياته ويتخلص من الشيطان اللعين الذي طلبه ورفقاءه ليغربلهم كما طلب في الماضي أيوب الصديق، ولما سمح له اللّـه أن يجربه قسا إبليس جداً عليه وعذبه بشتى التجارب، التي تحمّلها أيوب بصبر جميل فصار مثال الصابرين الصالحين المنتصرين على إبليس بتمسكهم باللّـه واتكالهم عليه تعالى. وهكذا انتصر سمعان على الشيطان بقوة صلاة الرب يسوع لأجله. وهنا نلاحظ الفرق بين يهوذا الإسخريوطي الخائن الذي تنبأ عنه الرب بأنه يسلمه إلى يد أعدائه، ولعنه بقوله: «ابن الإنسان ماضٍ كما هو محتوم ولكن ويل لذلك الإنسان الذي يسلمه» (لوقا 22: 22). فيهوذا بعد سقوطه الهائل لم يعد إلى رفقائه الرسل مع كونه ندم كل الندم على ما فعل، ولكنه بقي خاضعاً لإبليس فسيطر اليأس على قلبه ولم يذكر رحمة اللّـه بالخطاة، ودعوة المسيح إياهم ليأتوا إليه، فذهب وشنق نفسه.
أما سمعان فقد أحاطته العناية الربانية وصانته، فانسحق قلبه ندامة على نكرانه سيده وبكى بكاءً مراً ولكنه لم يسمح لليأس أن يستولي عليه، ولم يترك رفقاءه محبي الرب بل رأيناه ملتصقاً بهم وخاصة بيوحنا الأقرب إليه فيهم فلم يفن إيمانه استجابة لطلبة الرب لأجله والتي كانت نتيجة لمعرفة الرب ببساطة قلبه وطهره فما صدر منه كان إذن لضعفه البشري وإذ عاد إلى الرب نادماً غفرت له خطيته، وليس هذا فقط بل أعلن قبوله أمام رفقائه راعياً لهم ولخراف الكنيسة ونعاجها كما سنرى فيما يأتي.
كان الرب يسوع بعد قيامته، قد ظهر لبطرس ولسائر التلاميذ مرات عديدة في أماكن شتى، وأزمنة مختلفة، وبأشكال متنوعة، فبعد قيامته لم يكن يظهر نفسه إلا لمن يشاء ومتى شاء أي في الزمن الذي يريده وبالهيئة الجسدية التي يختارها ولذلك يصف الإنجيل ظهوره بقوله: «أظهر نفسه» ( يو 21: 1) وقد أظهر نفسه في إحدى المرات كالآتي: كان بطرس قد قاد رفقاءه إلى بحيرة طبرية في الجليل بقوله لهم: «أنا ذاهب لأتصيد» فأجابوه: «نذهب بحب أيضاً معك». وذهبوا لم يصطادوا شيئاً طيلة الليل، وفي الفجر سحبوا الشباك إلى السفينة توجهوا نحو البر، فبينما هم على بعد نحو مئتي ذراع عن البّر جاءهم صوت من شخص غريب كان واقفاً على الشاطئ يناديهم: «يا غلمان ألعلَّ عندكم إداماً؟» لما أجابوه: لا، قال لهم أن يلقوا الشبكة إلى جانب السفينة الأيمن فيجدوا، ففعلوا. فامتلأت الشبكة سمكاً حتى أنهم لم يعودوا يقدرون أن يجذبوها. فقال يوحنا لبطرس: «هو الرب». كانوا سابقاً يدعون الرب يسوع «المعلم» ولكن بعد قيامته من الأموات وبتأثير هذه القيامة على نفوسهم صار اسمه لديهم «الرب». ونتيجة لهذه المعجزة نرى يوحنا الذكي يكتشف أن الشخص الذي كان على الشاطئ هو الرب ذلك أن يسوع قبل ثلاث سنين وفي هذه البحيرة بالذات كان قد اجترح معجزة مماثلة لهذه المعجزة وعلى أثرها دعا سمعان بطرس وأندراوس أخاه ويوحنا ويعقوب ابني زبدي ليكونوا تلاميذه وليجعلهم صيادي الناس، وبالمعجزة برهن لهم أنه سيكون معهم وهو الذي يدلهم فسيصطادون الكثيرين من الناس. وبإعطائهم إياه وبتعاونهم بعضهم مع بعض سيربحون النفوس الكثيرة.
صدّق بطرس حالاً قول يوحنا رفيقه، فأتزر بثوبه وألقى بنفسه في البحر ليأتي يسوع لمحبته له ولشوقه الشديد إليه. وكعادته بتسرّعه قد يكون أخطأ في تركه السفينة، وعدم تعاونه مع رفقائه بسحب الشبكة الملأى سمكاً إلى السفينة، فالمسيح هداهم إلى السمك ليجمعوه لا ليتركوه. فبعدما جرّ رفقاؤه الشبكة مسافة المئتي ذراع، وداست أقدامهم الشاطئ تركوا الشبكة الملأى في البحر ليقدموا واجباتهم إلى سيدهم. فنظروا عند ذلك «جمراً موضوعاً وسمكاً موضوعاً عليه وخبزاً». فأمرهم الرب أن يقدموا من السمك الذي في الشبكة، فأنتبه بطرس لغلطه وأسرع كعادته للعمل وجذب الشبكة إلى الأرض ولما أحصي السمك وجد عدد مئة وثلاثة وخمسين سمكاً كبيراً. فاندهشوا وعلموا أن الرب عندما سألهم ألعل عندكم إداماً؟ لم يكن لحاجة له، إنما ليعرفهم بنفسه وباهتمامه بمصالحهم الزمنية، خاصة وقد رأوا جمراً موضوعاً وسمكاً موضوعاً عليه وخبزاً، وكانت سلامة الشبكة من التمزيق على الرغم من كثرة السمك التي فيها معجزة ثانية.
علم يسوع أنهم قد تعبوا طوال الليل، فبحكمته أهتمّ أولاً بحاجاتهم الزمنية، فقال لهم: «هلمّوا تغدّوا» وأخذ الخبز وأعطاهم وكذلك السمك.
بطرس الراعي:
وبعدما تغدّوا أعار الرب يسوع بطرس التفاتاً خصوصياً ليعلن توبته على أثر انسحاق قلبه وندامته الصادقة على الخطية الكبرى التي اقترفها بنكرانه سيده. وأنه لم يغفر له وحسب بل قبله في مركزه الرسولي رفع رتبته من صيد النفوس إلى رعايتها وأوكله على أخوته «فبعدما تغدّوا قال يسوع لسمعان بطرس:يا سمعان بن يونا أتحِبُني أكثر من هؤلاء؟ قال له نعم يا رب أنت تعلم أني أحبك. قال له إرعَ غنمي. قال له ثالثة يا سمعان بن يونا أتحبني، فقال له : يا رب أنت تعلم كل شيء. أنت تعرف إني أحبك. قال له يسوع: إرعَ غنمي الحق الحق أقول لك لما كنت أكثر حداثة كنت تمنطق ذاتك وتمشي حيث تشاء. ولكن متى شختَ فإنك تمد يديك وآخر يُمنطقك ويحملك حيث لا تشاء. قال هذا مشيراً إلى أية ميتة كان مزمعاً أن يمجد اللّـه بها. ولما قال هذا قال أتبعني» (يو 21: 15ـ19). فتبع بطرس الرب يسوع كتلميذ مقتدياً بمعلمه بالتضحية ونكران الذات في سبيل خلاص النفوس. «والتفت بطرس ونظر التلميذ الذي كان يسوع يحبه يتبعه وهو أيضاً الذي اتكأ على صدره وقت العشاء وقال يا سيد من هو الذي يسلمك. فلما رأى بطرس هذا قال ليسوع : يا رب وهذا ماله؟ قال له يسوع: إن كنت أشاء أنه يبقى حتى أجيء فماذا لك؟ اتبعني أنت»
(يو 21: 20ـ22).
على شاطئ بحيرة طبرية تسلم سمعان بطرس مهام وظيفته لأول مرة وهو يصطاد سمكاً (لو 5: 10) وعلى شاطئ هذه البحيرة ذاتها استردّ سمعان بطرس مقاليد وظيفته وهو يتصيد أيضاً (يو 21: 15ـ 19). ولكن لا ليكون صياد الناس فحسب، بل راعي النفوس أيضاً.
تعد صفة الرعاية من الصفات السامية والأسماء السنية التي في الكتاب المقدس على الذات الإلهية. فداود النبي الراعي دعا اللّـه تعالى راعياً، ليعبر بهذه الصفة عن عناية اللّـه به بقوله: «الرب راعيّ فلا يعوزني شيء» (مز 23) والنبي حزقيال يقول على لسان الرب: «أنا أرعى غنمي وأنا أربضها يقول السيد الرب، وأقوي الضعيفة، وأحفظ السمينة والقوية وأرعاها بعدل» (حز 34: 15ـ16). وقد تنبأ أشعيا النبي عن الرب يسوع بقوله: «هوذا السيد الرب بقوة يأتي وذراعه تحكم له… كراع يرعى قطيعه، بذراعه يجمع الحملان، وفي حضنه يحملها، ويقود المرضعات» (أش 40: 9ـ11).
وأعلن الرب يسوع نفسه راعياً صالحاً بقوله: «أنا هو الراعي الصالح، وأعرف خاصتي وخاصتي تعرفني، كما أن الأب يعرفني وأنا أعرف الأب. وأنا أضع نفسي عن الخراف» (يو 10: 14ـ 15). وقال لجماعة المؤمنين به: «لا تخف أيها القطيع الصغير لأن أباكم سر أن يعطيكم الملكوت» (لو 12: 32) فالمسيح راعي الخراف، والمؤمنون به قطيعه ولذلك فالرسول بطرس يقول للمؤمنين: «لأنكم كنتم كخراف ضالة لكنكم رجعتم إلى راعي نفوسكم وأسقفها» ( 1بط 2: 25) فالمسيح هو صاحب الخراف وهو راعيها، وهو وحده له الحق بإقامة رعاة لرعاية رعيته المباركة المفتداة بدمه الأقدس. وقد أقام بطرس راعياً للخراف والكباش والنعاج.
قال العلامة مار غريغوريوس يوحنا ابن العبري (ت1286) في كتاب كنز الأسرار: «وأشار (الرب) بالخراف إلى الصبيان وبالكباش والنعاج إلى الرجال والنساء. وبهذا السؤال والاعتراف الثلاثي شفى جحود بطرس الثلاثي».
أما العلامة مار موسى ابن كيفا (ت 903) في تفسيره قول الرب لسمعان بطرس: «ارعَ خرافي» (يو 21: 15ـ19) فيقول[14]: «أما الخراف فهم رعاة البيعة ومدبروها، وأما الكباش فهم الرجال المؤمنون، والنعاج النساء بنات حوّاء الضعيفات، ثم أراد بالخراف أيضاً التلاميذ الاثنين والسبعين والكهنة ومعلمي الكنيسة ورؤساءها الذين يرشدون أغنام المسيح (إلى سبل الهدى)، وأراد من المؤمنين القديسين كافة»، ويتابع ابن كيفا كلامه قائلاً: «إن المرتسم بطريركاً… يمسك بيده «عكازة» ويقال له ما قاله الرب لبطرس فقط «ثبِّت أخوتك»
(لو 22: 32).
ولم يأخذ البطريرك هذا الامتياز في الرئاسة والرسامة أو حفل التنصيب ـ إن كان مرسوماً أسقفاً ـ إلا لكونه خليفة الرسول بطرس هامة الرسل ورئيسهم.
وينجلي رأي الكنيسة السريانية بحقيقة رئاسة مار بطرس الرسول لسائر الرسل رفقائه من الطقس الكنسي فقد جاء في صلاة ليلة الاثنين[15] ما يأتي:
ܡܽܘ̣ܫܶܐ ܪܺܝܫܳܐ ܕ݂ܥܰܬ݁ܺܝܩܬ݁ܳܐ ܘܫܶܡܥܽܘ̇ܢ ܕ݁ܰܚܕ݂ܰܬ݁ܳܐ. ܬ݁ܪ̈ܰܝܗܽܘ̇ܢ ܕ݁ܳܡܶܝܢ ܠܰܚܕ݂ܳܕ݂̈ܶܐ ܘܰܐܠܳܗܳܐ ܒ݂ܗܽܘ̇ܢ ܫܪܶܐ. ܡܽܘ̣ܫܶܐ ܐܰܚܶܬ݂ ܠܽܘ̣̈ܚܶܐ ܕ݂ܢܳܡܽܘ̇ܣܳܐ. ܘܫܶܡܥܽܘ̇ܢ ܩܰܒ݁ܶܠ ܩܠܺܝ̣ܕ݂̈ܶܐ ܕ݂ܡܰܠܟ݁ܽܘ̣ܬ݂ܳܐ. ܡܽܘ̣ܫܶܐ ܒ݂ܢܳܐ ܡܰܫܟ݁ܰܢ ܙܰܒ݂ܢܳܐ ܘܫܶܡܥܽܘ̇ܢ ܥܺܕ̱݁ܬ݁ܳܐ ܒ݂ܢܳܐ. ܡܶܢ ܥܰܬ݁ܺܝ̣ܩܬ݁ܳܐ ܘܰܚܕ݂ܰܬ݁ܳܐ ܠܳܟ݂ ܫܽܘ̣ܒ݂ܚܳܐ ܡܳܪܝܳܐ ܗ̄ ܨܠܽܘ̇ܬ݂ܗܽܘ̇ܢ ܬ݁ܥܰܕ݁ܰܪ ܠܰܢ ܀
وتعريب ذلك : إن موسى هو رئيس العهد القديم، أما سمعان فهو رئيس العهد الجديد ويشبه أحدهما الآخر، وقد حلَّ اللّـه فيهما.
فموسى أنزل لوحي الناموس، وسمعان تسلم مفاتيح الملكوت. موسى بنى قبة العهد، وسمعان بنى الكنيسة، (يرفع) إليك المجد يا رب من (الكنيستين) القديمة والجديدة هللويا لتعضدنا صلاة ( موسى وسمعان).
وجاء في صلاة يوم الاثنين[16] ما يأتي:
ܫܡܥܘܢ ܪܝܫܐ ܕܫܠ̈ܝܚܐ ܘܦܘܠܘܣ ܓܒܝܐ. ܝܘܚܢܢ ܕܐܥܡܕ ܡܪܗ ܗܘܘ ܒܥܝ̈ܐ ܚܠܦ ܥܢ̈ܐ ܗܝ ܕܪܥܝܬܘܢ. ܥܠ ܡܪ̈ܓܐ ܕܗܝܡܢܘܬܐ ܘܕܒܪܘܢܗ̇܀
وتعريب ذلك: أيا سمعان رئيس الرسل، وبولس المختار ويوحنا الذي عمّد سيده، صلوا لأجل الخراف التي رعيتموها في مروج الإيمان هللويا فأرشدوها ودبروها. ويطلق الطقس الكنسي على الرسولين مار بطرس ومار بولس صفة هامتي الرسل، أو رئيسيهما، ويكرر هذا خاصة في طقس عيد استشهادهما الواقع في 29 حزيران من كل عام. وفي الشملاية أو الدبختا) الرابعة في خدمة القداس الإلهي حيث يقول الشماس:
ܘܠܪܝܫܝ ܫܠ̈ܝܚܐ ܡܪܝ̱ ܦܛܪܘܣ ܘܡܪܝ̱ ܦܘܠܘܣ.
وتعريب ذلك: (ونذكر) رئيسي الرسل الساميين مار بطرس ومار بولس.
إن مفهوم الرئاسة في الكنيسة هو خدمة المؤمنين ويتضح ذلك من وصية الرب القائل: «من أراد أن يكون فيكم عظيماً فليكن لكم خادماً» (مت 20: 26و 23: 11ومر 9: 53). ونلمس من سفر أعمال الرسل تعاون الرسل جميعاً في إدارة الكنيسة، كما يتبين من حادثة انتخاب متياس (أع 1) ليأخذ مكان يهوذا الخائن الذي شنق نفسه. وفي اختيار الشمامسة السبعة ( أع 6) وفي مجمع أورشليم عام 51 (أع 15) وفي إرسال بعضهم بعضاً للخدمة في أماكن عديدة كما أرسل بطرس ويوحنا إلى السامرة ليمنحا الروح القدس للمهتدين من أهلها إلى المسيحية الذين عمّدهم الشماس فيلبس.
وإن الرسول بولس يشرك الرسولين يعقوب ويوحنا مع الرسول بطرس في زعامة الرسل بقوله: «فإذ علم بالنعمة المعطاة لي يعقوب وصفا ويوحنا المعتبرون أنهم أعمدة أعطوني وبرنابا يمين الشركة لنكون نحن للأمم وأما هم فللختان» (غل 2: 9)، ويقول الرسول بولس أيضاً: «فإن الذي عمل في بطرس لرسالة الختان، عمل فيَّ أيضاً للأمم» (غل 2: 8). إن ذلك جرى لتنسيق العمل التبشيري. ويتكلم بولس عن تحزب بعضهم له أو لأبولس أو للصفا(1كو 1: 12) وكيف أنه أي بولس قاوم بطرس مواجهة لأنه كان ملوماً (غل 2: 11).
كل هذه الأمور لا تقلل من مكانة بطرس في الكنيسة فبطرس نفسه لم يدع أنه يملك الكنيسة بل كان يتعاون مع رفقائه وهو يقول عن نفسه: «إنه الشيخ» أي القسيس (الكاهن) نظير بقية الشيوخ. ويوصي الشيوخ بقوله: «ارعوا رعية اللّـه التي بينكم نظاراً لا عن اضطرار بل بالاختيار ولا لربح قبيح بل بنشاط، ولا كمن يسود على الأنصبة بل صائرين أمثلة للرعية ومتى ظهر رئيس الرعاة تنالون إكليل المجد الذي لا يبلى» (1بط 5: 2ـ4). وقال الرسول بولس لقسوس أفسس: «احترزوا إذاً لأنفسكم ولجميع الرعية التي أقامكم الروح القدس فيها أساقفة لترعوا كنيسة اللّـه التي اقتناها بدمه» (أف 20: 28).
فاللّـه يدعو الإنسان بعد أن يختاره لخدمة رعيته ويعطيه هذه الوظيفة كقول كاتب الرسالة إلى العبرانيين: «ولا يأخذ أحد هذه الوظيفة بنفسه بل المدعو من اللّـه كما هرون أيضاً» (عب 5: 4)، هؤلاء المدعوون من اللّـه ليسوا متساوين بالسلطة ولا بالرتبة الكهنوتية بل لأجل حفظ النظام في الكنيسة لا بدَّ من أن يكون رئيس ومرؤوس وبهذا الصدد قال مار أفرام السرياني(ت 373) في القديس بطرس:
ܛܘܒܝܟ ܕܓܒܟ ܒܪ ܐܠܗܐ ܘܠܬܠܡܝܕ̈ܘܗܝ ܪܝܫܐ ܥܒܕܟ.
ܛܘܒܝܟ ܕܐܢܬ ܗ̱ܘ ܗܘܝܬ ܐܝܟ ܪܝܫܐ ܘܐܝܟ ܠܫܢܐ ܠܓܘܫܡܐ ܕܐܚܝ̈ܟ[17].
وتعريب ذلك: طوباك يا بطرس لأن ابن اللّـه اصطفاك فنصبك رئيساً لتلاميذه.
طوباك فقد صرت رئيساً لجماعة أخوتك، ولساناً (ناطقاً باسمهم).
وجاء في كتاب الرسامات الكهنوتية وخدمة الأسرار المختصة بالأحبار ضمن الصلوات التي تتلى في أثناء رسامة الأسقف ما يأتي:
ܐܶܡܰܪ ܠܶܗ ܪܰܒ ܪ̈ܳܥܰܘܳܬܳܐ ܠܫܶܡܥܽܘܢ ܪܺܝܫܳܐ ܕܰܫܠ̈ܺܝܚܶܐ. ܚܙܺܝ ܫܶܡܥܽܘܢ ܡܳܢܳܐ ܥܳܒܶܕ ܐܰܢ̱ܬ ܠܓܽܘܥܠܳܢܳܐ ܕܝܶܗܒܶܬ̥ ܒܐܝܕ̈ܰܝܟ ܒܥܺܝܪܽܘܬ̥ܳܐ ܛܰܪ ܡܰܪܥܺܝܬ̥ܳܟ ܡܶܢ ܣܽܘܓܦܳܢ̈ܶܐ ܘܚܺܪ̈ܝܳܢܶܐ. ܕܚܽܘܫܒܳܢܳܐ ܐܺܝܬ̥ ܠܳܟ ܕܬܶܬܶܠ ܩܕܳܡ ܕܰܝܳܢܳܐ ܕܟܺܐܢܽܘܬ̥ܳܐ ܕܠܰܝܬ ܒܕܺܝܢܶܗ ܡܰܣܰܒ ܒܰܐܦ̈ܶܐ܀
ܟܰܕ ܡܰܟܪܳܗ̇ ܚܰܬܢܳܐ ܫܡܰܝܳܢܳܐ ܠܥܕܰܬ ܩܽܘܕܫܳܐ ܡܗܰܝܡܰܢܬܳܐ. ܩܪܳܐ ܠܫܶܡܥܽܘܢ ܘܰܩܪܳܐ ܠܝܽܘܚܰܢܳܢ ܘܦܰܩܶܕ ܐܶܢܽܘܢ ܫܰܘܝܳܐܺܝܬ. ܠܫܶܡܥܽܘܢ ܥܰܒܕܶܗ ܪܰܒ ܒܰܝܬܳܐ. ܘܰܠܝܽܘܚܰܢܳܢ ܟܳܪܽܘܙܳܐ. ܩܪܳܐ ܐܶܢܽܘܢ ܘܦܰܩܶܕ ܐܶܢܽܘܢ ܕܰܙܗܺܝܪܳܐܺܝܬ ܢܰܛܰܪܽܘܢܳܗ̇ ܠܥܺܕܰܬ ܩܽܘܕܫܳܐ ܡܗܰܝܡܰܢܬܐ܀
ܟܰܕ ܩܰܒܶܠ ܫܶܡܥܽܘܢ ܒܰܪ ܝܰܘܢܳܐ ܩܠܺܝܕ̈ܶܐ ܕܪܰܘܡܳܐ ܘܰܕܥܽܘܡܩܳܐ. ܐܶܡܰܪ ܠܶܗ ܪܰܒ ܪ̈ܳܥܰܘܳܬܳܐ ܚܙܺܝ ܫܶܡܥܽܘܢ ܡܽܘܢ ܥܳܒܶܕ ܐܰܢ̱ܬ. ܝܗܺܝܒܳܐ ܠܳܟ ܡܰܪܥܺܝܬܳܐ. ܪܰܒ ܠܺܝ ܐܶܡܪ̈ܰܝ ܘܰܢܩܰܘ̈ܳܬܝ. ܕܚܽܘܫܒܳܢܳܐ ܐܺܝܬ ܠܳܟ ܕܬܶܬܶܠ ܩܕܳܡ ܒܐܡܰܐ ܕܰܐܳܠܗܽܘܬܳܐ ܕܠܰܝܬ ܩܕܳܘܡܝܗ̇ ܡܰܣܰܒ ܒܰܐܦ̈ܶܐ܀
وتعريب ذلك:
قال عظيم الرعاة ( الرب يسوع) لسمعان رئيس الرسل، احترز يا سمعان بالأمانة التي أودعتها في يديك فارعَ رعيتك متيقظا وصنها من الآفات والهرطقات، فإنك ستحاسب عنها أمام الحاكم العادل الذي لا محاباة في حكمه.
لما خطب الختن البيعة الأمينة والمقدسة، دعا سمعان، ودعا يوحنا، وأمرهما معاً، فأقام سمعان وكيلاً، ويوحنا كارزاً، وأمرهما أن يصونا الكنيسة المقدسة الأمينة ساهرين على خدمتها بانتباه.
لما تسلم سمعان ابن يونا مفاتيح العلاء والعمق قال له عظيم الرعاة احذر يا سمعان منتبهاً فيما تفعله فقد وهبتك الرعية فارعَ خرافي ونعاجي، وسوف تعطي حساباً أمام المنبر الإلهي بدون محاباة.
قال ابن العبري العلامة الشهير ( ت 1286) ما نصه:[18]
ܒܳܬܰܪ ܪ̈ܺܝܫܰܝ ܟܳܗܢ̈ܶܐ ܕܕܝܰܬܺܝܩܝ ܥܰܬܺܝܩܬܳܐ ܦܶܛܪܽܘܣ ܪܺܝܫ ܟܳܗܢ̈ܶܐ ܕܕܝܰܬܺܝܩܺܝ ܚܕܰܬܳܐ܀
وتعريب ذلك: «بعد رؤساء كهنة العهد القديم( قام) بطرس رئيس كهنة العهد الجديد».
انتخاب متيَّاس رسولاً:
بعد صعود الرب يسوع إلى السماء اهتَّم بطرس مع رفقائه بانتخاب متياس رسولاً بدلاً من يهوذا الخائن، لاعتقادهم أنه لا بدّ من أن يكملوا عدد الرسل الاثني عشر الذين كان الرب يسوع قد وعدهم بالجلوس على اثني عشر كرسياً ليدينوا الأسباط الاثني عشر وبهذا الصدد يكتب لوقا في سفر أعمال الرسل ما يأتي: «وفي تلك الأيام قام بطرس في وسط التلاميذ وكان عدة أسماء معاً نحو مئة وعشرين، فقال: أيها الرجال الأخوة كان ينبغي أن يتم هذا المكتوب الذي سبق الروح القدس فقاله بفم داود عن يهوذا الذي صار دليلاً للذين قبضوا على يسوع. إذ كان معدوداً بيننا وصار له نصيب في هذه الخدمة. فإن هذا اقتنى حقلاً من أجرة الظلم وإذ سقط على وجهه أنشق من الوسط فانسكبت أحشاؤه كلها. وصار ذلك معلوماً عند جميع سكان أورشليم حتى دعي ذلك الحقل في لغتهم حقل دما أي حقل دَم. لأنه مكتوب في سفر المزامير لتصر داره خراباً ولا يكن فيها ساكن وليأخذ وظيفته أخر. فينبغي أن الرجال الذين اجتمعوا معنا كل الزمان الذي فيه دخل إلينا الرب يسوع وخرج. منذ معمودية يوحنا إلى اليوم الذي ارتفع فيه عنا يصير واحدٌ منهم شاهداً معنا بقيامته. فأقاموا اثنين يوسف الذي يدعى بارسابا الملقب يوستس ومتياس. وصلوا قائلين أيها الرب العارف قلوب الجميع عين أنت من هذين الاثنين أياً اخترته. ليأخذ قرعة هذه الخدمة والرسالة التي تعدَّاها يهوذا ليذهب إلى مكانه. ثم ألقوا قرعتهم فوقعت القرعة على متياس فحسب مع الإحدى عشر رسولاً (أع 1: 15ـ26).
بطرس الواعظ الناجح:
كان الرب يسوع قبيل صعوده إلى السماء قد أمر تلاميذه ألا يغادروا المدينة المقدسة حتى يأخذوا قوة من العلاء. فكانوا مجتمعين في العلية نحو مئة وعشرين نفساً، مواظبين على الصلاة والطلبة بنفس واحدة، فحلَّ الروح القدس في يوم الخمسين أي بعد عشرة أيام من صعود الرب يسوع إلى السماء.
ومما كان الرب قد قاله قبل صعوده إلى السماء «لأن يوحنا عمَّد بالماء وأما أنتم فستتعمّدون بالروح القدس… وستنالون قوة متى حلَّ الروح القدس عليكم وتكونون لي شهوداً… وفي كل اليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض…» (أع 1: 5ـ8).
وعلى أثر حلول الروح القدس على التلاميذ اجتمع جمهور من اليهود من الأتقياء من سكان المدينة المقدسة والقادمين إليها من كل أمة تحت السماء وسمع كل واحد منهم التلاميذ يتكلمون بلغته فبهتوا وتعجبوا قائلين بعضهم لبعض أترى ليس جميع هؤلاء المتكلمين جليليين، فكيف نسمع نحن كل واحد منا لغته التي ولد فيها… ما عسى أن يكون هذا… وكان آخرون يستهزئون قائلين: «أنهم قد امتلأوا سلافة» (أع 2: 1ـ13).
فوقف بطرس وبإلهام الروح القدس ألقى عظته الشهيرة التي برهن بها على أن التلاميذ ليسوا سكارى، واقتبس من أسفار العهد القديم كما فعل بكل عظاته بعدئذ (أع 1: 14 و15) وذكر الجمهور هنا بإتمام نبؤة يوئيل النبي القائل: «يقول اللّـه ويكون في الأيام الأخيرة أني أسكب من روحي على كل بشر فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويرى شبابكم رؤى ويحلم شيوخكم أحلاماً وعلى عبيدي أيضاً وإمائي أسكب من روحي في تلك الأيام فيتنبأون.. ويكون كل من يدعو باسم الرب يخلص» (أع 2: 17ـ18). أما عن السيد المسيح فيقول بطرس لليهود: «يسوع الناصريُّ رجلٌ قد تبرهن لكم من قِبَلِ اللّـه بقوات وعجائب وآيات صنعها اللّـه بيده في وسطكم كما أنتم أيضاً تعلمون. هذا أخذتموه مسلّماً بمشورة اللّـه المحتومة وعلمه السابق وبأيدي أثمة صلبتموه وقتلتموه الذي أقامه اللّـه ناقضاً أوجاع الموت إذ لم يكن ممكناً أن يمسك منه» (أع 2: 22 و24) ويشهد بطرس بقول النبي داود القائل على لسان الرب: «لأنك لن تترك نفسي في الهاوية ولا تدع قدوسك يرى فساداً» (مز 16: 10) ( أع 2: 27).
وكان لعظة بطرس تأثير بالغ في سامعيه حتى أنهم نخسوا في قلوبهم وقالوا لبطرس ولسائر الرسل ماذا نصنع أيها الرجال الأخوة: فقال لهم بطرس: «توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا فتقبلوا عطية الروح القدس، لأن الموعد هو لكم ولأولادكم، فقبلوا كلامه بفرح واعتمدوا وانضم في ذلك اليوم نحو ثلاثة ألاف نفس» (أع 2: 37ـ42).
وهكذا فتح بطرس باب الإيمان لليهود.
أعجوبة شفاء الأعرج:
بعد حادثة حلول الروح القدس بخمسة أيام صعد بطرس ويوحنا إلى الهيكل في صلاة الساعة التاسعة أي في الساعة الثالثة بعد الظهر بحسب توقيتنا في هذه الأيام. وعند باب الهيكل الذي يُدعى الجميل، وجدا رجلاً أعرج من بطن أمه، فتطلع إليهما وطلب منهما صدقة، فتفرسا فيه وقالا انظر إلينا. فلاحظهما منتظراً منهما شيئاً. فقال بطرس: «ليس لي فضة ولا ذهب ولكن الذي لي فإياه أعطيك. باسم يسوع المسيح الناصري قم وامش. وامسكه بيده اليمنى وأقامه ففي الحال تشددت رجلاه وكعباه. فوثب ووقف وصار يمشي ودخل معهما إلى الهيكل وهو يمشي ويطفر وبسبح اللـه» (أع 3: 1ـ 10) وكان الشعب يعرفه جيداً فمجدوا اللـه، وتراكضوا إليه وهم مندهشون. ونظروا إلى بطرس وسونا بخشوع لأنهما يملكان قوة خارقة فخاطبهم بطرس قائلاً: «ما بالكم تتعجبون من هذا ولماذا تشخصون إلينا كأننا بقوتنا أو تقوانا جعلنا هذا يمشي»
( أع 3: 12).
ثم بشرهم بالمسيح يسوع بقوله: «إله آبائنا مجد فتاه يسوع الذي اسلمتموه أنتم وأنكرتموه أمام وجه بيلاطس وهو حاكم بإطلاقه. ولكن أنتم أنكرتم القدوس البار وطلبتم أن يوهب لكم رجلٌ قاتل. ورئيس الحياة قتلتموه الذي أقامه اللّـه من الأموات ونحن شهود لذلك… وبالإيمان الذي بواسطته أعطاه هذه الصحة أمام جميعكم» (أع 3: 1ـ 16). ثم دعاهم إلى التوبة والإيمان بالمسيح فآمن نحو ألفي رجلٍ وصار عدد الرجال الذين سمعوا الكلمة وأمنوا نحو خمسة آلاف (أع 4: 4).
ولطمس خبر الأعجوبة ألقي القبض على بطرس ويوحنا من قبل رؤساء الكهنة وقائد جند الهيكل والصدوقيين، وفي اليوم التالي أنعقد مجلس السنهدريم لمحاكمتهما ووجه إليهما السؤال الأتي: «بأية قوة وبأي اسم صنعتما أنتما هذا؟» (أع 4: 7).
إن اسم اللّـه هو سر قوته تعالى فالسؤال يعني ما مصدر هذه القوة الفائقة للطبيعة. حينئذ امتلأ بطرس من ا لروح القدس ووقف وألقى خطاباً دافع فيه عن أمرهما، ودعاهم إلى الإيمان بالمسيح يسوع ومما قاله لهم: «أنه باسم يسوع المسيح الناصري الذي صلبتموه انتم الذي أقامه اللّـه من الأموات، بذاك وقف هذا أمامكم هذا هو الحجر الذي احتقرتموه أيها البناؤون الذي صار رأس الزاوية. وليس بأحد غيره الخلاص لأن ليس أسم آخر تحت السماء قد أعطي بين الناس به ينبغي أن نخلص» (أع 4: 5ـ12). وأرتبك أعضاء المجلس وكان بينهم من هو متعاطف مع تلامذة الرب فأخرجوا بطرس ويوحنا خارجاً وتآمروا فيما بينهم قائلين ماذا نفعل بهذين الرجلين لأنه ظاهر للجميع أن آية معلومة قد جرت بأيديهما ولا نقدر أن ننكر. ولكن لئلا تشيع أكثر في الشعب لنهددهما تهديداً أن لا يكلما أحداً من الناس فيما بعد بهذا الاسم. فدعوهما وأوصوهما أن لا ينطقا البتة ولا يعلِّما باسم يسوع. فأجابهم بطرس ويوحنا وقالا: إن كان حقاً أمام اللّـه أن نسمع لكم أكثر من اللّـه فأحكموا. لأننا نحن لا يمكننا أن لا نتكلم بما رأينا وسمعنا. وبعدما هددوهما أيضاً أطلقوهما إذ لم يجدوا البتة كيف يعاقبونهما بسبب الشعب لأن الجميع كانوا يمجدون اللّـه على ما جرى» (أع 4: 15ـ 21).
بطرس يحارب المراءاة في الكنيسة:
عاش المؤمنون بالمسيح في شركة تامة ولم يكن بينهم معوز أو فقير، وكانوا كلهم أخوة، فالأغنياء فيهم يأتون بأموالهم ويضعونها عند أقدام الرسل لتنفق على سائر المؤمنين. وكان الرسل رقباء على حفظ الإيمان والسيرة الصالحة وإذ لمس بطرس روح الكذب متجسدة في حنانيا وامرأته سفيرة اللذين باعا حقلهما ولم يأتيا بكل ثمنه إلى الرسل وتأكد بطرس أن هذه هي روح إبليس، استجوبهما أمام التلاميذ فأنكشف كذبهما ولعنهما لتواطئهما على الكذب على الروح القدس فهلكا حالاً. وصار خوف عظيم على جميع الكنيسة وعلى جميع الذين سمعوا بذلك (أع 5: 1ـ 11) وتعلم المؤمنون درساً خالداً بأن اللّـه يبغض المراءاة ويرفض المرائين.
بطرس يجترح المعجزات:
كان بطرس أول من أيد البشارة من رسل الرب يسوع بإجتراح المعجزات. وعظم اللّـه تعالى هذه الموهبة لديه «حتى أنهم كانوا يحملون المرضى خارجاً في الشوارع ويضعونهم على فراش وأسرَّة حتى إذا جاء بطرس يخيم ولو بظله على أحد منهم. واجتمع جمهور المدن المحيطة إلى أورشليم حاملين مرضى ومعذبين من أرواح نجسة وكانوا يُبْرأون جميعهم» (أع 5: 15ـ16).
وأثناء وجود بطرس في اللد جاء من يافا رجلان يخبرانه عن موت أمرأة فاضلة اسمها طابيثا أي (غزالة) «كانت ممتلئة أعمالاً صالحة وإحسانات كانت تعملها» (أع 9: 36) وأرادت الكنيسة أن تكرمها بعد مماتها فأرسلت تستدعي بطرس. فقام بطرس وجاء مع الرجلين فلما وصلوا جميعاً إلى يافا أصعداه إلى العلية حيث كان جثمان طابيثا ووقفت لدى بطرس الأرامل يبكين ويرين أقمصة وثياباً مما كانت تعمل طابيثا وهي معنا فتألم بطرس وطلب من الجميع ان يتركوه لوحده، وجثا على ركبتيه وصلى بدموع… والتفت إلى جسد طابيثا وقال لها بالسريانية الآرامية «طابيثا قومي» يا غزالة لك أقول أنهضي، ففتحت طابيثا عينيها فمد يده لها وأعانها على القيام. فرح المؤمنون كثيراً وسمع كثيرون بهذه الأعجوبة فآمنوا بالرب يسوع.
ويصف البشير لوقا في سفر أعمال الرسل تأثير الآيات التي أتاها الرسل على الجمهور وإيمانهم وتوبتهم ودخولهم في حظيرة المسيح، كما يصف تأثير ذلك على الكتبة والفريسيين ورؤساء كهنة اليهود واضطهادهم الرسل وسجنهم إياهم وكيف أن ملاك الرب في الليل فتح أبواب السجن وأخرجهم وقال: اذهبوا قفوا وكلموا الشعب في الهيكل بجميع كلام هذه الحياة… وجعلوا يعلمون (أع 5: 17ـ23) وكيف أحضر التلاميذ بعنف أمام مجمع اليهود فسألهم رئيس الكهنة قائلاً: «أما أوصيناكم وصية أن لا تعلموا بهذا الاسم (اسم الرب يسوع) وها أنتم ملأتم أورشليم بتعليمكم وتريدون أن تجلبوا علينا دم هذا الإنسان. فأجاب بطرس والرسل وقالوا ينبغي أن يطاع اللّـه أكثر من الناس. إله آبائنا أقام يسوع الذي أنتم قتلتموه معلقين إياه على خشبة، هذا رفعه اللّـه بيمينه رئيساً ومخلصاً ليعطي إسرائيل التوبة وغفران الخطايا. ونحن شهود له بهذه الأمور والروح القدس أيضاً الذي أعطاه اللّـه للذين يطيعونه»
( أع 5: 28ـ32).
واستشاط رئيس الكهنة وأعضاء مجمع اليهود غضباً وأرادوا أن يقتلوا الرسل فقام في المجمع رجل فريسي اسمه غمالائيل معلم الناموس مكرم عند جميع الشعب وأمر أن يخرج الرسل قليلاً وتكلم بحكمة وعدالة ومما قاله: «الآن أقول لكم تنحوا عن هؤلاء الناس واتركوهم، لأنه إن كان هذا العمل من الناس فسوف ينتقض. وإن كان من اللّـه فلا تقدرون أن تنقضوه. لئلا توجدوا محاربين لله أيضاً، فانقادوا إليه ودعوا الرسل وجلدوهم وأوصوهم أن لا يتكلموا باسم يسوع ثم أطلقوهم. أما هم فذهبوا فرحين من أمام المجمع لأنهم حسبوا مستأهلين أن يهانوا من أجل اسمه. وكانوا لا يزالون كل يوم في الهيكل وفي البيوت معلمين ومبشرين بيسوع المسيح» (أع 5: 33ـ 42).
اختيار الشمامسة السبعة:
واشترك بطرس مع رفقائه الرسل بتنظيم الكنيسة، وإصلاح ذات البين فيها، فلما تذمر اليونانيون المتنصّرون على العبرانيين لإغفال أراملهم في الخدمة، أمر الرب جماعة المؤمنين أن يختاروا سبعة رجال مشهوداً لهم ومملوئين من الروح القدس وحكمة، ففعلوا وصلى عليهم الرسل ووضعوا عليهم الرسل ووضعوا عليهم الأيدي وأقاموهم شمامسة لمعاونتهم في خدمة المعمودية والوعظ وخدمة الموائد التي هي تقسيم الخبز اليومي على الفقراء والمعوزين ( أع 6).
إرسال بطرس ويوحنا إلى السامرة:
وحدث اضطهاد عنيف شديد من اليهود على أتباع الرب يسوع في المدينة المقدسة، تبدد من جرائه المؤمنون، ما عدا الرسل، في اليهودية والسامرة. فانحدر فيلبس أحد الشمامسة إلى السامرة وكرز بالمسيح يسوع فاعتمد كثيرون من الرجال والنساء. «ولما سمع الرسل الذين في أورشليم أن السامرة قد قبلت كلمة اللّـه أرسلوا إليهم بطرس ويوحنا، اللذين لما نزلا صليا لأجلهم لكي يقبلوا الروح القدس. لأنه لم يكن قد حلَّ بعد على أحد منهم. غير أنهم كانوا معتمدين باسم الرب يسوع. حينئذ وضعا الأيادي عليهم فقبلوا الروح القدس»
( أع 8: 14ـ 17).
بطرس يفتح باب الإيمان للأمم:
كان بطرس في يافا نازلاً في بيت رجل دباغ اسمه سمعان، بيته عند البحر وكان يصلي على سطح الدار نحو الساعة السادسة. وجاع كثيراً، وبينما هم يهيئون له طعاماً، وقعت عليه غيمة فرأى السماء مفتوحة، وإناءً نازلاً عليه مثل ملاءة عظيمة مربوطة بأربعة أطراف ومدلاة على الأرض. وكان فيها كل دواب الأرض والوحوش والزحافات وطيور السماء، وصار إليه صوت: «قم يا بطرس اذبح وكل» وارتعب بطرس وقال: «كلا يا رب لأني لم آكل قط شيئاً دنساً أو نجساً» فصار إليه الصوت: «ما طهره اللّـه لا تدنسه أنت» وكان هذا ثلاث مرات ثم أرتفع الإناء أيضاً إلى السماء. واستيقظ بطرس وهو لا يعلم تفسيراً لهذه الرؤيا. فإذا ثلاثة رجال يقرعون الباب، باب الدار يطلبون بطرس… لقد أرسلهم كرنيليوس قائد المائة في الفرقة المعروفة بالإيطالية، والتي مقرها قيصرية، وهو رجل وثني، ولكنه كان يصوم ويصلي ويوزع الصدقات على الفقراء. وفيما كان صائماً إلى الساعة التاسعة من النهار أي قرب الغروب، وإذا به يبصر في رؤيا ملاكاً من اللّـه داخلاً إليه وقائلاً له: يا كرنيليوس. أجاب كرنيليوس ماذا يا سيد. وقال له الملاك: صلاتك وصدقاتك صعدت تذكاراً أمام اللّـه والآن أرسل إلى يافا رجلاً واستدع سمعان الملقب بطرس انه نازل عند سمعان رجل دباغ بيته عند البحر.
أخبر الرجال الثلاثة بطرس بكل هذا فقام بطرس ومن معه وجاءوا إلى قيصرية ودخلوا بيت كرنيليوس فلما دخل بطرس استقبله كرنيليوس وخرَّ ساجداً عند قدميه. فأنهضه بطرس قائلاً: «قم فإني أنا أيضاً إنسان» (أع 10: 25ـ26) وقال بطرس: «أنتم تعلمون كيف أنه محرم على رجل يهودي أن يلتصق بأحد أجنبي ويأتي إليه. أما أنا فقد أراني اللّـه أن لا أقول عن إنسان ما أنه دنس أو نجس فلذلك جئت من دون مناقضة إذ استدعيتموني. فأستخبركم لأي سبب استدعيتموني؟! فقصّ عليه كرنيليوس قصة الرؤيا التي رآها قبل أربعة أيام فتعجّب بطرس لدى سماعه كلمات كرنيليوس وقال: بالحق أنا أجد أن اللّـه لا يقبل الوجوه، بل في كل أمة الذي يتقيه ويصنع البر مقبول عنده (أع 10 : 35) وألقى بطرس رسالته الإنجيلية وأعلن شهادته عن الرب يسوع الذي مات لأجل خلاص البشرية وقام من الأموات في اليوم الثالث المعين من اللّـه دياناً للأحياء والأموات. له يشهد جميع الأنبياء أن كل من يؤمن به ينال باسمه غفران الخطايا ( أع 10: 34ـ43).
فبينما كان بطرس يتكلم بهذه الأمور حل الروح القدس على جميع الذين كانوا يسمعون الكلمة فقال بطرس لرفقائه: «أترى يستطيع أحد أن يمنع الماء حتى لا يعتمد هؤلاء الذين قبلوا الروح القدس كما نحن أيضاً. وأمر أن يعتمدوا باسم الرب. حينئذ سألوه أن يمكث أياماً» (أع 10: 47ـ48).
وهكذا فتح مار بطرس رسول الختان باب الإيمان للأمم. وسخطت عليه الكنيسة في المدينة المقدسة معترضة بادئ بدء على عمله بقولها له: «أنك دخلت عند رجال ذوي غلفة وأكلت معهم» (أع 11: 3) فشرح لهم بطرس بالتفصيل ما جرى معه والرؤيا التي رآها وكيف الروح القدس حلَّ على الأمم، فلما سمعوا هذه الأمور مجدوا الله.
ملاك الرب يخرج بطرس من السجن:
في سنة 43 للميلاد وهي السنة الأولى من ملك هيرودس أغريباس الأول حفيد هيرودس الكبير الذي قتل الرسول يعقوب الذي كان قطباً من أقطاب المسيحية هناك وهو أخو يوحنا (أع 12: 1) ولما رأى هيرودس أن ذلك يرضي اليهود، ألقى القبض على بطرس وزجه في السجن وسلمه في السجن إلى أربعة من العسكر ليحرسوه، فكان بطرس مربوطاًً حسب العادة بسلسلتين إلى عسكريين واحد من هنا وواحد من هناك، وبينه وبين باب السجن أربع نقط للحراسة في كل نقطة أربعة عساكر وقد سجن بطرس في أيام العيد وكان الملك مخططاً تقديمه إلى الشعب بعد الفصح.
أما الكنيسة فكانت تصلي بلجاجة من أجل بطرس. وصعدت صلاتها إلى السماء فقبلت واستُجيبت. ففي منتصف الليل أرسل اللّـه ملاكه إلى السجن المظلم فملأه نوراً.وضرب جنب بطرس وأيقظه قائلاً قم عاجلاً، وعند ذاك انحلت السلسلتان من يديه أما الحرس فقد سقطوا في سبات عميق، وقال الملاك لبطرس تمنطق وألبس نعليك، ففعل هكذا. وهو ما يزال بين الصحو والمنام ولا يعلم فيما إذا كان ينظر رؤيا أو أن الذي يجري هو حقيقي. فجازا المحرس الأول والثاني ثم الثالث والرابع وانفتح الباب أمامهما باب الحديد من ذاته فخرجا، وتقدما زقاقاً واحداً وللوقت فارقه الملاك وعلم بطرس ان ما جرى هو حقيقي. فجاء إلى بيت مريم أم يوحنا مرقس حيث كان الإخوة مجتمعين وهم يصلون. فلما قرع باب الدهليز جاءت روَدَا الجارية لتستفسر عن الطارق فلما سمعت صوت بطرس لم تفتح الباب من الفرح بل ركضت إلى داخل وأخبرت أن بطرس واقف قدام الباب، فلم يصدقوها بل قالوا لها أنت تهذين وقال قوم منهم لعله ملاكه. وظل بطرس يقرع الباب فلما فتحوا الباب ورأوه اندهشوا فأشار إليهم بيده ليسكتوا، وحدثهم كيف أخرجه الرب من السجن وطلب منهم أن يخبروا يعقوب أخا الرب والإخوة بهذا، أما هو فخرج وذهب إلى موضع آخر (أع 13: 1ـ7).
مار بطرس في أنطاكية:
قال المؤرخ الكبير البطريرك أفرام الأول برصوم (ت 1957): «أما كنيسة أنطاكية فقد أثبت التقليد الكنائسي القديم الراهن، الذي أجمعت عليه نخبة ممتازة من أئمة النصرانية الأولين، وعلمائها ومؤرخيه الأقدمين، أن القديس بطرس الرسول بشرَّ فيها بالدين المسيحي وهدى وعمَّدَ فيها خلقاً كثيراً وبنى أول كنيسة وسنّ للمؤمنين الاتجاه في الصلاة إلى الشرق وأسس فيها كرسيه الرسولي الأول وكان هو أول أساقفتها أي بطاركتها الذين إليه يتسلسلون وممن صرح بهذا، العلامة أوريجانس (256+) وأوسابيوس القيصري (340+) والقديس أفرام السرياني (373+) ومار يوحنا ذهبي الفم (407+) والمعلم هيرنيمس (420+) ولا سيما مار سويريوس الأنطاكي (538+) الذي أيد هذه الحقيقة في خطبه ورسائله سبع مرات وذكر رئاسته على الرسل وتقدمه ثماني مرات[19].
كانت المسيحية قد دخلت أنطاكية على يد تلاميذ السيد المسيح الذين تشتتوا هاربين من[20] أورشليم بسبب الاضطهاد الذي أثاره اليهود ضدهم بعيد استشهاد إسطيفانوس رئيس الشمامسة (أع 11: 19) ثم بعث الرسل إليهما برنابا أحد التلاميذ السبعين، ولما رأى أن خدمة الكلمة مزدهرة فيها ذهب فأحضر بولس الرسول من طرسوس ومكثا فيها سنة كاملة مبشرين (أع 11: 22ـ26).
وقد أرتاى بعض المؤرخين أن بطرس جاء إلى أنطاكيا سنة 34م ذلك أن صعود الرب يسوع إلى السماء كان سنة 30 للميلاد[21] وأن بولس آمن بالرب يسوع بعد ذلك بسنة واحدة وجاء إلى أورشليم بعد إيمانه بثلاث سنين، أي سنة 34 ليتعرف على بطرس فمكث عنده خمسة عشر يوماً ولم يرَ غيره من الرسل إلا يعقوب أخا الرب ( غل 1: 18ـ19) وفي السنة ذاتها جاء بطرس إلى أنطاكيا ومكث فيها سبع سنين أي حتى السنة 41 للميلاد. ثم عاد إلى أورشليم[22].
وبعد ان بشر في أماكن شتى، في بلاد فلسطين، من سامرة ولد ويافا وقيصرية، حاول هيرودس أغريبا ملك اليهودية أن يقتله فسجنه في أورشليم في أواخر السنة الثالثة والأربعين أو أوائل الرابعة والأربعين للميلاد هلك هيرودس أغريبا في قيصرية (أع 12: 23).
قال ابن العبري المؤرخ الشهير( 1286+) في تاريخه الكنسي «في السنة الأولى من ملك أغريبا في اليهودية قتل يعقوب ابن زبدي وسجن بطرس وإذ أنقذ ملاك اللّـه بطرس من السجن برح أورشليم وكان يسير مبشراً في الطريق مدة سنتين ثم بلغ أنطاكية».
إن كثرة أشغال بطرس التبشيرية اضطرته إلى التغيب عن أنطاكية أحيانا فسام أفوديوس أسقفاً نائباً عنه وخلفاً له[23]. وخرج بطرس يجول بين اليهود والمتشتتين في بلاد الشام كطرابلس وجزيرة أرواد وغيرهما. ثم شخص إلى بلاد البنطس على البحر الأسود وغلاطية وقبادوقية وإقليم آسيا الصغرى وبيثينية.
وفي السنة الحادية والخمسين عاد إلى أورشليم حيث حضر المجمع الرسولي الذي عقد على أثر محاولة بعض المتنصرين من اليهود إلزام المتنصرين من الأمم أن يختتنوا أي أن يتهوّدوا قبل أن يتنصروا فقرر المجمع: «ألا يثقل على الراجعين إلى اللّـه من الأمم بل أن يمتنعوا عن نجاسات الأصنام والزنا والمخنوق والدم، وأرسل هذا القرار إلى أنطاكية بيد بولس وبرنابا ومعهما يهوذا الملقب برسابا وسيلا» (أع 15) وأفرز بطرس مع يعقوب ويوحنا لرسالة أهل الختان كما أفرز بولس وبرنابا لرسالة أهل الغرلة ( غل 2: 7ـ9).
وفي السنة الثانية والخمسين وجد بطرس في أنطاكيا وكان بولس أيضاً هناك. والأظهر أنهما في تلك الأثناء اجترحا معجزة إحياء فتى وحيد لأهله اسمه قسيان وأنشأ بطرس بيعة في داره عرفت ببيعة القسيان في ما حكاه القديس يعقوب السروجي[24] الملفان (521+) وقد ظلت عامرة حتى النصف الثاني من القرن الثالث عشر.
ويكتب الرسول بولس إلى أهل غلاطية عمّا جرى بينه وبين الرسول بطرس في أنطاكيا قائلاً: «فلما قدم كيفا (بطرس) إلى أنطاكيا قاومته مواجهة لأنه كان ملوماً، لأنه قبل قدوم قوم من عند يعقوب كان يأكل مع الأمم. فلما قدموا تنحى وأعتزل مخافة من أهل الختان، وتظاهر معه سائر اليهود حتى أن برنابا أيضاً انجذب إلى تظاهرهم فلما رأيت أنهم لا يسيرون سيراً مستقيماً إلى حق الإنجيل قلت لكيفا أمام الجميع، أن كنت أنت مع كونك يهودياً قد عشت عيش الأمم لا كاليهود، فلم تلزم الأمم أن يسلكوا مسلك اليهود» (غل 2: 11ـ14). إن الهام الرسل يستلزم عصمتهم في التعليم الديني لا في أعمالهم الشخصية الأدبية فالوحي لا يستلزم العصمة من الخطأ في كل شيء وحيث أن بطرس – كما نلمس في حادثة تنصر كرنيليوس – كان مؤمناً أن الخلاص بالمسيح هو للعالم أجمع، لذلك قبل لوم بولس إياه بفرح وبذلك اعترف بذنبه. وإذا صح نسب الرسالة المسماة برسالة بطرس الثانية، إلى بطرس، فإننا نقرأ له مدحاً لبولس يقول فيه: «واحسبوا أناة ربنا خلاصاً كما كتب أليكم أيضاً أخونا الحبيب بولس على حسب الحكمة التي أوتيها كما في رسائله كلها أيضاً متكلماً فيها على هذه الأمور، إلا أن فيها أشياء صعبة الفهم يحرفها الذين لا علم عندهم ولا رسوخ كما يفعلون في سائر الكتابات لهلاك نفوسهم» (2بط 3: 15ـ16).
وكان بطرس وحده في أنطاكية من السنة الثالثة والخمسين حتى الستين كما يؤيد أغلب المؤرخين الثقات، فأن بولس أتى إلى أورشليم سنة 58م واجتمع هناك بيعقوب أخي الرب ( أع 21: 18) ولم يذكر أنه وجد بطرس لأن بطرس كان في أنطاكية.
مار بطرس في روما:
ولئن ارتأى أغلب المؤرخين أن الرسول بطرس قد زار روما واستشهد فيها، إلا أنهم أجمعوا على أن الرسول بطرس لم يصل هناك قبل أواخر حكم نيرون الطاغية الذي ملك من سنة 54 واستمر إلى سنة 86م. أما زعم بعضهم بأن مار بطرس كان في روما في عهد قلوديوس قيصرـ الذي بدأ حكمه سنة 41م واستمر إلى سنة 54م ـ أنه ظلَّ أسقفاً فيها مدة خمس وعشرين سنة، فهذا الزعم لا يتفق مع ما دوّنه كتبة أسفار العهد الجديد عن القديس بطرس حيث يتبين أنه كان في سنة 43ـ 44م في أورشليم وفقاً لما ورد في (أع 12: 3) وكان هناك أيضاً في سنة 51 وفقاً لما ورد في (أع 15) وبعد ذلك كان في أنطاكية وفقاً لما ورد في (غل 1: 11 وإلخ).
وعلاوة على هذه فقد بشّر المؤمنين في مقاطعات كثيرة من آسيا الصغرى وتفقدهم كما نرى من رسالته الأولى التي كتبها بين سنتي 63 و67م ووجّهها إلى المتغربين في شتات بنتس وغلاطية وكبدوكية وآسيا وبيثينية (1بط1: 1) ويظهر من العدد الثالث عشر من الإصحاح الخامس من الرسالة أنها كتبت في بابل هذه إمّا هي بابل الأصلية التي تقع على نهر الفرات، والتي أُخذ إليها اليهود أسرى، وبقي منهم كثيرون فيها وكانت مركزاً للدراسات اليهودية فلا يستبعد أن يكون بطرس قد زارها.
أو قد تكون (بابليون) في مصر القريبة من القاهرة والتي كان قد أسسها اللاجئون البابليون ودعيت باسم مدينة أسلافهم.
كما أن روما سُمِّيت بابل من اليهود والمسيحيين على السواء، فإننا نجد في سفر الرؤيا وصفاً لها (رؤ 17، 18). ولكن الاحتمال بأن تكون الرسالة قد كتبت هناك ضعيف جداً[25]. ولا يكمن القول إن بطرس كان في روما عندما كتب الرسول بولس رسالته إلى أهلها حوالي سنة 57 أو 58 لأنه لم يرد أي ذكر لاسمه بين الأخوة الذين بعث إليهم بتحياته.
ولم يكن في روما عندما كتب بولس رسائله منها أثناء حبسه (من سنة 61 أو 62 إلى سنة 63 أو 64).
هل يعقل أن يلتقي الرسولان في روما ولو مدة قصيرة ولا يشير أحدهما عن الثاني في رسائله إلى الكنائس، ولاسيما بولس الذي أثبت في رسائله حتى الأمور الخصوصية البسيطة فكيف يغفل عن ذكر زميله بطرس إن كان معه في روما؟!.
لذا يستنتج أغلب الباحثين المدققين في أن الرسول بطرس لم يذهب إلى روما إلا قبيل استشهاده، كما يؤكد أغلب المؤرخين أنّ سيمون الساحر لم يذهب إلى روما إلا في حكم نيرون.
سيمون الساحر:
للرسول بطرس مع سيمون الساحر صولة وجولة، فقد جاء في سفر أعمال الرسل عن سيمون الساحر هذا ما يأتي: «فانحدر فيلبس إلى مدينة السامرة وكان يكرز لهم بالمسيح… وكان قبلاً في المدينة رجل اسمه سيمون يستعمل السحر ويدهش شعب السامرة قائلاً أنه شيء عظيم. وكان الجميع يتبعونه من الصغير إلى الكبير قائلين هذا هو قوة اللّـه العظيمة. وكانوا يتبعونه لكونهم قد اندهشوا زماناً طويلاً بسحره. ولكن لما صدقوا فيلبس وهو يبشر بالأمور المختصة بملكوت اللّـه وباسم يسوع المسيح اعتمدوا رجالاً ونساءً. وسيمون أيضاً نفسه آمن. ولما أعتمد كان يلازم فيلبس. وإذ رأى آيات وقوات عظيمة تجرى اندهش.
ولما سمع الرسل الذين في أورشليم أن السامرة قد قبلت كلمة اللّـه أرسلوا إليهم بطرس ويوحنا، اللذين لمّا نزلا صليّا لأجلهم لكي يقبلوا الروح القدس. لأنه لم يكن قد حلّ على أحدٍ منهم. غير أنهم كانوا معتمدين باسم الرب يسوع. حينئذ وضعا الأيادي عليهم فقبلوا الروح القدس. ولما رأى سيمون أنه بوضع أيدي الرسل يعطي الروح القدس قدّم لهما دراهم قائلاً أعطياني أنا أيضاً هذا السلطان حتى أيّ من وضعت عليه يدي يقبل الروح القدس فقال له بطرس لتكن فضتك معك للهلاك لأنك ظننت أن تقتني موهبة اللّـه بدراهم. ليس لك نصيب ولا قرعة في هذا الأمر لأن قلبك ليس مستقيماً أمام الله. فتُب من شرّك هذا واطلب إلى اللّـه عسى أن يظهر لك فكر قلبك. لأني أراك في مرارة المرّ ورباط الظلم. فأجاب سيمون وقال اطلبا أنتما إلى الرب من أجلي لكي لا يأتي عليّ شيء مما ذكرتما» (أع 8: 5ـ 24).
وجاء في تاريخ أوسابيوس القيصري (+340) نقلاً عن احتجاجات يوستينوس[26] ما يأتي: «وبعد صعود الرب إلى السماء دفعت الشياطين رجالاً معينين قالوا أنهم آلهة، ولم يسمحوا لهم فقط بأن يظلوا غير مضطهدين. بل اعتبروا أيضاً مستحقين الإكرام، كان أحدهم سيمون، وهو سامري من قرية جتو. وعلى عهد كلوديوس قيصر أجرى في مدينتك[27] الإمبراطورية لعض أعمال السحر العجيبة بفضل الشياطين التي كانت تعمل فيه واعتبر إلهاً، وكإله أكرمته بتمثال أقيم في نهر التيبر بين القنطرتين، ونقشت عليه باللاتينية الكتابة (إلى سيمون الإله القدوس). وصار كل السامريين تقريباً، وقليلون حتى من الأمم الأخرى، يعترفون به ويعبدونه كالإله الأول. وجالت معه في ذلك الوقت امرأة تدعى هيلانة كانت سابقاً عاهرة في مدينة صور من أعمال فينيقية، وهم يدعونها«الفكرة الأولى التي برزت منه». وقد روى هذه الأمور يوستينوس، واتفق معه أيضاً ايريناوس في الكتاب الأول من مؤلفه «ضد الهرطقات» حيث تحدث عن هذا الرجل وعن تعاليمه الفاسدة[28].
ويشهد بعض المؤرخين أن الرسول بطرس جاء إلى روما لمطاردة سيمون الساحر وقد جاء في بعض الكتب غير القانونية كسفر أعمال بطرس، ورسالة الرسل، أن سيمون هذا ذهب إلى روما وخدع أهلها بسحره وضللّهم وجعلهم يحسبونه إلهاً. وإن الرسول بطرس تبعه إلى روما وأخذ يجترح المعجزات الباهرات فتقلص ظلَّ سيمون الساحر وتبع الجمهور بطرس. فحاول سيمون جذب الأنظار إليه وأعلن عن موعد لصعوده إلى السماء على مرأى من أهل رومية وملكهم وعظمائهم فدعا شياطين سحره ليرفعوه عن الأرض فحملوه على مناكبهم وارتفعوا به في الفضاء، فازداد عجب الرومانيين به وصاحوا بصوت واحد قائلين: عظيمة هي قدرة سيمون. وكان الرسول بطرس بين الجمهور فجثا على الأرض وصلى بحرارة ليتمجد اسم الرب الإله. فاستجاب الرب صلاته ويقال أيضاً وصلاة مار بولس الرسول، وأخزى الرب الشياطين فتركت سيمون فهوى إلى الأرض فتهشَّم وانكرست ساقاه، وصار هزءاً وسخرية أمام الناس. فحمله تلاميذه إلى بيت مجاور ثم هلك منتحراً إذ ألقى بذاته من سطح الدار إلى الأرض.
استشهاد مار بطرس:
وسام مار بطرس ليُنس أسقفاً لروما ويقال أن مار بولس شاركه بهذه الرسامة. وكان مار بطرس زاهداً يقتات بالترمس فقط. ولما سُعي به إلى نيرون الطاغية، طرحه في السجن في روما وبعد تسعة أشهر قضى عليه بالموت مصلوباً منكّساً رأسه بحسب رغبته في مكان مرتفع يسمّى بالواتقان وذلك في 29 حزيران عام 67م[29].
قيل لمّا اشتدّ اضطهاد نيرون ضد المسيحيين خاف المؤمنون على حياة القديس بطرس، فألّحوا عليه بأن يهرب من روما، فهرب، وبينما هو خارج من المدينة شاهد السيد المسيح حاملاً صليبه ومتجهاً نحو المدينة، فسأله بطرس إلى أين أنت ماضٍ يا رب؟! أجابه يسوع إلى روما لأصلب مرة ثانية. ففهم بطرس كلام الرب وقفل راجعاً إلى روما فألقي القبض عليه وسجن ثم استشهد. وقيل أنه اجتذب الحرس والجند إلى الإيمان في الفترة التي قضاها في السجن[30].
وكتب بطرس رسالة للكنيسة سبق الكلام عنها. وتعتبر ضمن الرسائل التي تسمى العامة أو الجامعة. وهي مشبعة بالروح الرعوية، وخير مشجع على تحمل الضيقات، ونقاء السيرة. قال أوسابيوس القيصري (+340) «أن رسالة بطرس الأولى معترف بصحتها وقد استعملها الشيوخ الأقدمون في كتابتهم كسفر لا يقبل أي نزاع. على أننا علمنا أن رسالته الثانية الموجودة بين أيدينا الآن ليست ضمن الأسفار القانونية»[31].
كانت هذه الرسالة الثانية، منذ فجر النصرانية، موضوع جدل بين بعض آباء الكنيسة، فقد أنكر بعضهم قانونيتها، وما يزال كثيرون إلى اليوم يعتقدون أن كاتبها لم يكن الرسول بطرس نفسه بل أحد أتباعه الذين ظن أنه يحق له أن يكتب باسم مار بطرس لأن ما كتبه كان مشرباً بروحه. ولم يضم آباء كنيستنا السريانية هذه الرسالة إلى أسفار العهد الجديد القانونية في الترجمة السريانية البسيطة[32]. وحيث أن قانونية سفر من الأسفار لا تتوقف على هوية كاتبه بل على مضمونه، لذلك قبلتها الكنائس، واعتبرتها ضمن الأسفار القانونية.
أما ما يسمّى بـ «أعمال بطرس» و«إنجيل بطرس» والرسالة إلى اكليمنضس و«الرؤيا» وغيرها فهي من الكتب الأبوكريفا أي غير القانونية التي لم تقبلها الكنيسة.
هذا ما بدا لنا أن نكتبه عن القديس بطرس هامة الرسل معتمدين بذلك مؤلفات آبائنا الميامين ملافنة كنيستنا السريانية المقدسة، توضيحاً للحقائق التاريخية وتثبيتاً للعقائد الإيمانية.
مـار تومــــا الرســـــول
المقدمة:
رسالة الفداء والرسل الاثنا عشر:
إن رسالة الفداء التي جاء بها الرب يسوع من السماء هي رسالة محبة، محبة اللّـه تعالى لبني البشر كافة. هذه المحبة تجلّت بموت الرب يسوع على الصليب لخلاص البشرية «لأنه هكذا أحب اللّـه العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية» (يو3: 16) ولكي تصل هذه الرسالة إلى أقطار المسكونة قاطبة، اختار الرب اثني عشر رسولاً خرّجهم في مدرسته الإلهية مدة ثلاث سنوات وثلاثة أشهر، علّمهم خلالها بكلامه، وبحياته، الدروس السامية بالمحبة، ونكران الذات والتضحية، فحملوا صليبه، وصلبوا ذواتهم معه على الخشبة، ودفنوا أنانيتهم في القبر الجديد، وقاموا معه في اليوم الثالث في جدة الحياة أناساً جدداً، ليحيوا لا هم، بل المسيح يحيا فيهم، فتلاشت مصالحهم الشخصية، فكانوا يطلبون ليس ما هو لأنفسهم، بل ما هو للـه، ولخلاص الإنسان وإذ حاد واحد منهم عن جادة الحق، حُذف اسمه من سفر الحياة. إنه يهوذا الإسخريوطي ابن الهلاك. أما الأحد عشر فقد استحقوا أن يروا المسيح قائماً من بين الأموات، بل أن يروه أيضاً صاعداً إلى السماء، وقبل صعوده رفع يديه وباركهم، ووضع على عاتقهم مسؤولية نشر البشارة الإنجيلية في أقطار المسكونة قائلاً لهم: «اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها» (مر16: 15) ويوم الخميس حلَّ عليهم الروح القدس حسب وعد الرب لهم، فثبّتهم، وشجّعهم، وعلّمهم، وذكّرهم بكل ما قاله الرب يسوع لهم.
مار توما الرسول
هؤلاء هم سفراء المسيح الأبطال الذين تحمّلوا في سبيل تأدية الشهادة السامية صنوف الاضطهادات، والضيقات، والآلام، والعذابات وحتى الاستشهاد. واعتبروا نشر بشارة الإنجيل رسالة إلهية أنيط بهم القيام بأعبائها، لذلك يقول الرسول بولس: «لأنه إن كنت أبشّر فليس لي فخر إذ الضرورة موضوعة عليَّ. فويلٌ لي إن كنتُ لا أبشّر» (1كو9: 16) والرسولان بطرس ويوحنا يقولان: «لأننا نحن لا يمكننا إلاّ أن نتكلّم بما رأينا وسمعنا» (أع4: 20) وهكذا تمّ قول صاحب المزامير القائل: «في كل الأرض خرج منطِقهم وإلى أقصى المسكونة كلماتهم» (مز19: 4).
توما الرسول:
كان توما أحد هؤلاء الرسل، ويُعدُّ السابع بين الاثني عشر (مت10: 3) وبما أنه بشّر في الهند، فإنه يدعى رسول الهند، ولكن معرفتنا بتفاصيل أعماله التبشيرية يسيرة جداً بالمقارنة مع معرفتنا بأعمال مار بطرس ومار بولس وغيرهما من الرسل والمبشرين، ولكننا مع ذلك لا نجهل عنه كل شيء. وبتناولنا ترجمة حياته بالدرس، وحديثنا عنه، نستند إلى الإنجيل المقدس، والتقليد الكنسي السرياني الموثوق به.
اسمه:
كان توما من بلاد الجليل، ولد وشقيقه أدى ـ أحد السبعين ـ توأمين ـ فدعي بالسريانية توما، أي التوأم (يو11: 16و21: 2) ويدعى أيضاً يهوذا، وهو غير يهوذا الإسخريوطي الذي أسلم الرب.
محبته للرب يسوع:
كانت محبة توما للسيد المسيح عميقة جداً، وخالصة، وصافية، حتى أنه كان مستعداً لأن يموت مع الرب، فقد ذكر الإنجيل المقدس أن الرب يسوع لما عزم على التوجّه إلى بيت عنيا لإقامة لعازر من بين الأموات حذّره تلاميذه مذكّرين إيّاه بمحاولة اليهود قتله، فقال توما لإخوانه التلاميذ: «لنذهب نحن أيضاً لكي نموت معه» (يو11: 16).
وفي العشاء الأخير، لما سمع توما الرب يسوع يتكلّم عن انفصاله عن تلاميذه، بالجسد، وأنّهم سيتبعونه، قال له: «يا سيد لسنا نعلم أين تذهب فكيف نقدر أن نعرف الطريق؟» قال له يسوع: «أنا هو الطريق، والحق، والحياة» (يو1: 5و6) فنحن مدينون لتوما بسؤاله هذا، حيث أن جواب الرب يظهر للعالم حقيقة الدين المسيحي المؤسس على المسيح يسوع الذي هو الطريق، والحق والحياة.
تشككه بقيامة الرب يسوع:
وقد اشتهر توما بتشككه بحقيقة قيامة الرب من بين الأموات، وإيمانه بالقيامة بعد رؤيته الرب حياً. كان الرب له المجد، قد أخبر تلاميذه قبل صلبه، أنه سيصلب ويموت، وفي اليوم الثالث يقوم، وذكَّرهم بحادثة النبي يونان، كما كان قد أشار إلى رفع موسى الحية في البرية، واعتبر ذلك رمزاً لصلبه على العود، وقال لهم أن يهدموا الهيكل وهو يقيمه في ثلاثة أيام، هذه الأقوال والتشابيه والرموز وغيرها، فاه بها الرب أمام تلاميذه، ولكنهم لم يدركوها ولم يسبروا غورها، فبعد أن صلب ومات ودفن في القبر الجديد، قام من بين الأموات في فجر الأحد، وظهر يوم قيامته خمس مرات لبعض النسوة والتلاميذ، ولما كانت عشية ذلك اليوم وهو أول الأسبوع، وكانت الأبواب مغلقة، حيث كان التلاميذ مجتمعين بسبب الخوف من اليهود، جاء يسوع ووقف في الوسط وقال لهم سلام لكم، ولما قال هذا أراهم يديه وجنبه ففرح التلاميذ إذ رأوا الرب… أما توما أحد الاثني عشر الذي يُقال له التوأم فلم يكن معهم حين جاء يسوع، فقال له التلاميذ الآخرون قد رأينا الرب، فقال لهم: «إن لم أبصر في يديه أثر المسامير وأضع إصبعي في أثر المسامير، وأضع يديّ في جنبه لا أؤمن» (يو20: 19 ـ 25). وهكذا كان توما يصرّ على طلب البرهان الحسي. ومرّ أسبوع كان عند توما أطول من عام، إنها فترة التجربة، لم يظهر الرب خلالها لأحد «وبعد ثمانية أيام كان التلاميذ داخلاً وتوما معهم، فجاء يسوع والأبواب مغلقة ووقف في الوسط وقال سلام لكم، ثم قال لتوما: هات إصبعك إلى هنا وأبصر يديَّ، وهات يدك وضعها في جنبي، ولا تكن غير مؤمن بل مؤمناً. أجاب توما قائلاً: ربي وإلهي، فقال له يسوع لأنك رأيتني يا توما آمنت طوبى للذين آمنوا ولم يروا» (يو20: 26 ـ 29).
يقال أن إصبعي توما السبّابة والوسطى ملتصقتين منذ ولادته فانفكتا لما وضعهما توما مكان المسامير في كفي الرب. ويقال أيضاً أن توما لم يجرؤ على أن يضع إصبعه موضع المسامير في كفّي السيد المسيح، ويده في جنبه.
وإذا كان توما قد أساء بشكوكه إلى رفاقه التلاميذ بعدم تصديقه كلامهم، وأساء أيضاً إلى الرب بعدم إيمانه بقيامته التي كان الرب قد أعلن عنها قبل آلامه. فإنه يعذر بطلبه البرهان الحسي لشدة شوقه لرؤية الرب قائماً من بين الأموات كما رآه رفقاؤه، وقد استوحى البرهان الحسي من كيفية ظهور الرب للتلاميذ أول مرة، حيث أراهم يديه وجنبه، ولم يكن توما أقل محبة لمعلمه من رفقائه حتى لا يظهر له الرب وقد ظهر لهم. وهو مثلهم سيحمل مشعل الإنجيل المنير إلى العالم، لذلك يود أن يرى المسيح قائماً من بين الأموات ليبشّر بالمسيح الحي. وبعد ظهور الرب للتلاميذ وتوما معهم انقلب الشك لديه إلى إيمان ثابت، بل أن شكوك توما غدت حقاً سبيلاً يؤدّي بالباحث إلى الإيمان وقد أتى بالملايين من الناس إلى الإيمان بالمسيح القائم من بين الأموات، كما صارت سبباً لإعطاء الطوبى للذين آمنوا ولم يروا.
وفي إيمانه، طرح توما نفسه عند قدمي يسوع، ونادى «ربي وإلهي» وبذلك أيّد وحدة المسيح الطبيعية والأقنومية، فهو يرى إنساناً، ويرى جروحاً، وقد يكون لمس هذه الجروح الكريمة، أو لم يلمسها، المهم في الأمر أنه شاهد المسيح الإله المتجسّد الذي صلب، ومات، ودفن، وقام من بين الأموات حياً، ودعاه رباً وإلهاً، وبذلك اعترف بطبيعة واحدة، وأقنوم واحد للسيد المسيح، لأنه لا يصح لنا أن نطلق عليه الصفات الإلهية والبشرية في آن واحد، لولا وحدة الطبيعة، ووحدة الأقنوم فيه.
ورأينا توما بعدئذ مع بعض التلاميذ يتصيّد في بحيرة طبرية بعد قيامة الرب، حيث أظهر لهم الرب نفسه (يو21: 1و2).
مار توما في التقليد الكنسي السرياني:
يذكر التاريخ الكنسي أن توما الرسول أرسل إلى الرها أخاه أدى وهو أحد المبشرين السبعين. وأما هو فقد توجه إلى المشرق حيث دعا إلى الإيمان شعوباً مختلفة، وبشّر الحامية الفارسية المجوسية التي كانت في تكريت، وختم أعماله التبشيرية في الهند على عهد كوندفر البرثي أحد ملوكها[33].
قصة ذهاب مار توما إلى الهند:
في التقليد الكنسي السرياني قصة شيقة، يعتبر الرسول توما بطلها، وتبدأ حوادثها بمحاولة الرسل اقتسام مناطق العالم المعروفة عصرئذ بينهم، ليذهب كل منهم إلى منطقة ينشر بشارة الإنجيل فيها. فأصابت القرعة الرسول توما للذهاب إلى الهند، فخاف توما كثيراً وارتعب وتردّد بقبول ذلك، بل كان أقرب للرفض منه إلى القبول، فيظهر له السيد المسيح ويقول له: إذا لم تذهب أنت إلى الهند فسأذهب أنا بنفسي إليها وأموت ثانيةً، فأذعن توما للأمر، بعدما نال وعداً من الرب بألاّ يتخلّى عنه تعالى، بل يكون معه حيثما يذهب. وتقول القصة أن تاجراً هندياً اسمه حابان أرسل إلى سورية في تلك الأيام من قبل أحد ملوك الهند لإيجاد بنّاء ماهر يشيد للملك قصراً منيفاً، فباع الرب يسوع تلميذه توما عبداً للتاجر حابان إلى بلاد المشرق بطريقه إلى الهند. واجتاز بلاد العراق فبشّر أهلها[34].
ويذكر التاريخ أن مار توما وجد في بلاد ما بين النهرين المجوس الذين كانوا قد سجدوا للرب يسوع وهو طفل في بيت لحم، فبشّرهم، معلناً لهم أن الفداء قد تمّ بموت السيد المسيح صلباً ودفنه وقيامته في اليوم الثالث، فآمنوا واعتمدوا، ورسم منهم كهنة وأساقفة، وواصل سفره إلى بلاد الهند فوصل إليها سنة اثنتين وخمسين للميلاد. ويقال أنه بدأ تبشيره بالجنوب ثم واصل العمل إلى الشمال والتقى الملك سيد التاجر حابان، وأخذ منه أموالاً طائلة لتنفق في تشييد القصر المذكور، ولكنه وزّعها على الفقراء والمعوزين. ولما سمع الملك استدعاه إليه وسأله جليّة الأمر، فقال له توما أنه قد بنى له قصراً فخماً في السماء، فغضب الملك كثيراً، وألقاه في سجن عميق وجعله تحت حراسة مشدّدة، وتعذيب مرير، ريثما يردّ إليه المال… وهكذا تحمّل توما الآلام والعذابات وحده… لما كان بطرس في السجن كانت الكنيسة تواصل الصلاة لأجله، فأخرجه ملاك الرب، ولما كان بولس في السجن كان تلاميذه يخدمونه، فكان ذلك عزاء له، أما توما فقد كان وحده في سجنه في بلاد بعيدة اعتبرت في تلك الأيام بلاد الغرائب والعجائب، ولكننا على يقين بأن الرب يسوع كان معه يشجّعه على تحمّل المشقات كجندي صالح. وقد دبّر وسيلة لإنقاذه. ونجاح مهمّته التبشيرية، ذلك أن (جاد) أخا الملك ابتلي بمرض عضال، ومات ونقلت الملائكة روحه إلى السماء حيث شاهد قصراً منيفاً، قيل له أنه القصر الذي شيّده توما لأخيه الملك، ثم أعاد اللّـه (جاد) إلى الحياة، فلما رآه أهله حياً انذهلوا، فقصّ عليهم جاد ما رآه في السماء، وطلب إلى أخيه الملك ليبيعه القصر الذي شيّده له توما في السماء… فصدّق الملك الرؤيا… وأطلق سراح الرسول توما، وآمن بالرب يسوع هو وأهل بيته، وعظماء مملكته، واعتمدوا جميعاً، بل ساعدوا توما في نشر البشارة الإنجيلية فرسم منهم كهنة وأساقفة، وغادرهم ليواصل تبشيره بالإنجيل في مناطق أخرى من بلاد الهند.
خطف توما بالروح ورؤيته العذراء مريم:
ويُحكى عن توما قصص أخرى شبيهة بقصة تشييد القصر في السماء، لا مجال لذكرها هنا، ولكن لا بدّ من التنويه في هذه العجالة بحادثة خطف توما بالروح وذهابه من الهند إلى المدينة المقدسة، للاشتراك بتجنيز السيدة العذراء والدة اللّـه مريم، وتأخير وصوله إلى هناك، ورؤيته وهو في الطريق العذراء تصعد إلى السماء بموكب ملائكي عجيب، وطلبه منها علامة يبرهن بها لإخوته التلاميذ عن صدق حديثه عندما يخبرهم عما شاهده، فأعطته زنارها، وبعدما اجتمع توما بالتلاميذ، وطلب إليهم فتح ضريح السيدة العذراء، ففعلوا ولم يجدوا الجثمان الطاهر، أخبرهم بما رأى، وعاد إلى الهند آخذاً معه الزنار المقدس[35].
استشهاده:
تحمّل مار توما الرسول العذاب الأليم من الوثنيين في الهند حتى أنهم سلخوا جلده كما يسلخ جلد الحمل الوديع، فوضع جلده على كتفه بصبر عجيب، وجال بين الناس يبشّر باسم السيد المسيح حتى هجم عليه كهان الوثنيين وهو يصلّي وطعنوه بالرماح في جنبه الأيمن، ففاضت روحه الطاهرة في عام 75م في مدينة ميلابور القريبة من مدراس حيث دفن جثمانه الطاهر، واقترن اسمه ببلاد الهند، فهو رسول الهند. قال كيرلس اليسوعي نقلاً عن حوادث البرتغاليين أنّهم وجدوا عند مرورهم بمسيحيي ميلبار (جنوب الهند) أن هؤلاء يقولون في كتب صلواتهم باللغة السريانية ما ترجمته «إن القديس توما اجتذب إلى الإيمان المسيحي الحبشة والصير والعجم»[36] ويعني بالحبشة بلاد الهند، فقد جرت العادة أن يُطلق على جميع الشعوب السود لوناً، اسم الأحباش أو الكوشيين[37].
نقل رفاته إلى الرها:
في 3 تموز من عام 394م نقلت الجالية السريانية الرهاوية[38] رفات مار توما الرسول من الهند إلى الرها فوصل إليها في 22 آب من السنة ذاتها، وأودع في الكاتدرائية الفخمة التي كان قورا أسقفها، قد وضع حجر أساسها وبدأ بتشييدها سنة 313م، وأنجز بناءها بعده الأسقف سعاد. وهي على اسم مار توما الرسول.
قداسة سيدنا البطريرك يحمل ذخائر القديس مار توما الرسول
التي اكتشفها في عهد مطرنته على أبرشية الموصل عام 1964
أديرة وكنائس على اسم الرسول توما:
شُيدت على اسم الرسول توما أديرة وكنائس عديدة في أماكن شتى من العالم، فمن الأديرة المشهورة دير قنسرين الذي أنشئ على شاطئ الفرات مقابل بلدة جرابلس، وذلك نحو عام 530، وتخرّج في مدرسته رهبان عديدون، وخمسة عشر أسقفاً، وسبعة بطاركة، وكان عامراً حتى القرن الثالث عشر. أما الكنائس فعديدة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر كاتدرائية مار توما الرسول الفاخرة في الرها، التي مرّ بنا ذكرها. وكنيسة مار توما الرسول في باب المُحوِّل في الكرخ في بغداد، وتسمى أيضاً كنيسة قطيعة الدقيق التي أنجز بناؤها في غضون القرن التاسع للميلاد، وأحرقت عام 1002م وجدّدها المفريان إغناطيوس الأول عام 1004م ثم هدمت في القرون المتأخرة. وفي عام 1978 شيّد المؤمنون في بغداد كنيسة جديدة على اسم مار توما الرسول بالكرخ في بغداد[39] لإحياء ذكرى كاتدرائية مار توما في باب المُحوَّل في الكرخ.
ومن الكنائس القديمة العهد التي شيِّدت على اسم مار توما الرسول كنيسته في الموصل[40] بالعراق التي ذكرت في التاريخ مركزاً للأبرشية منذ بدء القرن السابع للميلاد، ويعتقد أنها كانت داراً لأحد المجوس الذين سجدوا ليسوع وهو طفل في بيت لحم، وبشّرهم الرسول توما، فأمنوا بالرب، وحوَّل هذا المجوسي داره إلى كنيسة وهي لا تزال عامرة[41].
اكتشاف ذخيرة الرسول توما:
عام 1964 بينما كانت أعمال الترميم تجري في كاتدرائية مار توما الرسول في الموصل على عهد مطرانيتنا لتلك الأبرشية، اكتشف في ثغرة في أعلى العمود الأول الواقع عن يسار الشخص المواجه مذبح الكنيسة القديمة[42] جرن حجري من الرخام الصلب، لونه أبيض مائل إلى الحمرة ملفوف بقماش أبيض، بُلي لقدمه، والجرن ذو ستة وجوه مستطيلة الشكل، طول سطحه 5 ,13سم، وعرضه 5 ,8 سم، وارتفاع كل من جوانبه 8سم، وعمقه الداخلي 5 ,14سم، وعرضه الداخلي 5 ,5سم، وطوله الداخلي 9سم. غطاؤه مستدق الأطراف منحوت من الحجر ذاته. كتب على أحد جوانب الجرن الطويلة بالقلم السرياني الإسطرنجيلي (مار توما)، وبالقلم السرياني النسخي الذي بشّر بلاد الهند. وفي الجانب المقابل للكتابة دُقَّ مسمار حديدي لتثبيت الجرن بالبناء. وفي الأول من أيلول 1964 فتحنا الجرن فوجدنا داخله قطعاً صغيرة من العظام والبخور، ملفوفة بقماش أصفر اللون بلي لتقادم عهده، وتناثرت أجزاؤه عند لمسه. وبعد أن درسنا بإمعان وتمحيص مع من لهم إلمام واسع ودراسات قيّمة في علم الآثار والتاريخ، تأكّد لدينا بأننا عثرنا على كنز ثمين هو جزء من رفات القديس مار توما الرسول، فأقمنا الصلاة المناسبة، وتبركنا والمؤمنين من هذه الذخيرة المقدسة. وأعدنا القماش البالي إلى موضعه في الجرن، ثم ختمنا الجرن، وشيّدنا مقاماً لائقاً في الكاتدرائية ذاتها، ووضعنا الذخيرة.
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المجال هو: كيف وصلت هذه الذخيرة إلى الموصل؟! والجواب على ذلك هو أن رفات مار توما كانت قد نقلت إلى الرها في القرن الرابع كما مرّ بنا، وأن الرها والموصل تخضعان للكرسي الرسولي الأنطاكي، وقد اعتاد السريان لدى تشييدهم الكنائس على اسم أحد القديسين أن يحتفظوا بجزء من رفات هذا القديس للبركة. فلا يستبعد طلب الكنيسة في الموصل جزءاً من رفات القديس توما من الكنيسة في الرها عن طريق الكرسي الرسولي الأنطاكي، خاصة وأن كنيسة الموصل تعتبر من الكنائس القديمة جداً، ويظن أنها كانت بيت مجوسي كما مرّ بنا، وأن القديس توما عندما اجتاز العراق في طريقه إلى الهند قد حلّ في ذلك البيت.
الخاتمة:
قال أوسابيوس القيصري المؤرخ (339+): «أن المسيحيين منذ فجر النصرانية كانوا ولا يزالون يجتمعون عند مدافن الشهداء ويقدمون الصلوات والنذور مكرمين رفاتهم». ولا غرو فإن للقديسين كرامة لدى اللّـه تعالى، فقد جاء في سفر التكوين قول الرب الإله لإسحق «لا تخف لأني معك وأباركك وأكثر من نسلك من أجل إبراهيم عبدي» (تك26: 24)[43]. وجاء في ليترجية مار يعقوب أخي الرب دعاء يرفع إلى الرب عن القديسين وهو: «أننا نذكرهم لكي يذكرونا أمامك». وإن لذخائر القديسين كرامة كبرى، وقوة سماوية سامية، فإن موسى حمل عظام يوسف عندما غادر شعب العهد القديم مصر(خر13: 19) ويقول الآباء إن عظام يوسف غدت سوراً للشعب في البرية، ونقرأ في الكتاب المقدس عن عظام إليشاع النبي التي ما إن لامستها جثة الشاب الميت حتى عادت الحياة إلى ذلك الشاب[44].
قال مار يعقوب السروجي الملفان السرياني الكبير (521+) وهو يخاطب الرسول توما على لسان الرب يسوع ما تعريبه: «في ذلك المكان الذي يجثم فيه رفاتك الطاهر إلى يوم النشور هناك تستقر قوة يستشفي بها جميع المنكوبين».
«فلقاء أنك ستطعن بالحربة مثلي لأنك أحببتني كثيراً، ستنساب منك أنهار مياه حية».
«لقاء إرسالي إيّاك بصفة عبد إلى الديار الهندية، سيرسل الملوك في أثر رفاتك احتراماً».
«يكون ضريحك حصن معونات للعظماء والبسطاء، وبه يحتمي جميع الذين عضتهم أنياب الضيق والاضطهاد».
«فجسدك يكون ميناء السلام يقل البشر، ويقصدك الناس زرافات ووحداناً من جميع أنحاء المعمورة إجلالاً لعظامك»[45].
لتكن صلاة الرسول توما معنا جميعاً لننال الطوبى التي أعطاها الرب للذين، وإن لم يروه، آمنوا به مخلصاً ورباً وإلهاً عظيماً، صلب، ومات بالجسد، وقام في اليوم الثالث من القبر حياً ممجَّداً.
مقام ذخائر مار توما الرسول في كنيسة مار توما بالموصل ـ العراق
القديس مار إغناطيوس النّوراني (107+)
تمهيد:
تُعدّ ترجمة حياة مار إغناطيوس النوراني، بطريرك أنطاكية الثالث، أقدم تاريخ بيعي بعد أسفار الكتاب المقدس. دوّنها من رافقه إلى رومية حيث نال إكليل الشهادة، كما أن الرسائل السبع التي كتبها وبعث بها إلى بعض الكنائس وإلى زميله بوليقربوس أسقف أزمير تلي الأسفار المقدسة أهمية في الكنيسة المسيحية من النواحي الروحية والعقيدية والشرعية والتاريخية.
أصله:
هو سرياني الأصل على رأي أغلب المؤرخين الثقات[46] ويظن أنه ولد حوالي سنة 35م[47] ويقول المؤرخ تيلمون في معرض كلامه عن رسائله: «إن إنشاء القديس (إغناطيوس) يتبع حركات حرارته أكثر من أصول النحو، ويظهر أن لسانه لم يكن يكفي للتعبير عن جلائل أفكاره. وفي هذا نرى سمواً، ناراً، وقوة، وجمالاً روحياً. لم يكن عاماً أبداً، حتى ارتاب فيها بعض العلماء وقالوا هل هذه الرسائل البديعة هي من يراعة صدر النصرانية؟ كلها ملأى عواطف وهي إحساسات عميقة تقتضي التأمل فيها لكي تعرف وتفهم جيداً. وأنّا نجد في إنشائه من المزايا ما يدعونا للاعتقاد بأنه سرياني المنبت أكثر منه يونانياً. فإن فوسيوس يلاحظ منها سجية السريان في امتداد حبل الصفات ووفور النعوت»[48].
أسماؤه:
تنصر إغناطيوس في أنطاكية، وتتلمذ على أيدي الرسولين مار بطرس في أنطاكية ومار يوحنا في آسيا الصغرى. وبالإضافة إلى اسمه الأصيل (إغناطيوس) وهو باللغة اللاتينية، وقد ترجم إلى السريانية فصار «نورونو» أي النوراني، اتّخذ له اسماً حقيقياً آخر هو (ثاوفوروس) ومعناه (حامل اللـه)، وإذا حوّرت هذه اللفظة اليونانية يصير معناها (الذي حمله اللـه). من هنا جاء رأي بعضهم[49] أن القديس مار إغناطيوس كان أحد الأطفال الذين احتضنهم الرب يسوع ليعطي رسله الأطهار مثالاً للتواضع المسيحي حيث قال لهم: «الحق أقول لكم: إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السموات» (مت18: 1 ـ 4 ولو9: 46 ـ 49)، أما مار يوحنا الذهبي الفم (407+) فيؤكد أن مار إغناطيوس لم يرَ الرب يسوع في الجسد قط، إنما كان تلميذ الرسولين بطرس ويوحنا[50].
وسمّى يوحنا الصوّام أسقف القسطنطينية في آخر القرن السادس[51]، مار إغناطيوس (بيت اللّـه ومسكنه) ومن هنا جاءت الخرافة التي دسّت قصته لدى اللاتين الذين زعموا أن قلبه كان بعد وفاته متقطعاً ووجد فيه اسم «يسوع المسيح» مكتوباً بأحرف ذهبية، الأمر الذي يرفض جملةً وتفصيلاً لأنه يخالف الواقع التاريخي الذي يؤكد أنه لم يفضل من جثمانه الطاهر بعد استشهاده إلا أغلظ العظام.
تسقّفه على أنطاكية:
قال أوسابيوس القيصري (340+) في تاريخه الكنسي: «كما اشتهر أيضاً إغناطيوس الذي اختير أسقفاً لأنطاكية خلفاً لبطرس والذي ما تزال شهرته ذائعة بين الكثيرين»[52] وارتأى بعض المؤرخين أنّ ظروف الكنيسة في أنطاكية قضت بأن يسام أفوديوس على المسيحيين الذين من أصل أممي وثني. ذلك أن اليهود المتنصرين كانوا إلى ذلك الزمن يمارسون بعض الفرائض التي تقتضيها شريعة موسى. فرئس أفوديوس وإغناطيوس معاً في أنطاكية حتى انتقال أفوديوس إلى الخدور العلوية، فوحد إغناطيوس الفريقين، وأطلق على الكنيسة صفة (الجامعة). وهو أول من استعمل هذه اللفظة كنعت للكنيسة المسيحية.
ذكر مار يوحنا الذهبي الفم (407+) أن مار إغناطيوس رسم أسقفاً على أنطاكية بأيدي الرسل وخاصة مار بطرس ومار بولس. وأما أوسابيوس القيصري (340+) فيعين تاريخ تسقف مار إغناطيوس إلى أنطاكية سنة 68م أي بعد استشهاد الرسولين مار بطرس ومار بولس، ويجعل مار أفوديوس أول أسقف لأنطاكية بعد الرسول بطرس[53]. وللتوفيق بين الرأيين يرى بعضهم أن أوسابيوس أخطأ بتعيين تاريخ تسقف مار إغناطيوس، أو أن رسامته وأفوديوس أسقفين على أنطاكية تمت في آن واحد، كما ذكرنا، فصحَّ اعتبار مار إغناطيوس خليفة مار بطرس الرسول ومار أفوديوس في آن واحد.
مار أفوديوس بطريرك أنطاكية الثاني:
وهكذا يعتبر مار أفوديوس أول خليفة للرسول بطرس على الكرسي الرسولي الأنطاكي، ويعيّن أوسابيوس (340+) بدء رئاسته سنة 43، وقد سكت المؤرخون القدامى عن تفصيل ترجمة حياته، وينظّمه بعضهم في صف السبعين تلميذاً، ويسمونه رسولاً، ويعيّدون له، ويعتبره آخرون شهيداً، نال إكليل الشهادة في آخر عهد نيرون[54] ويقول آخرون: إنه مات حتف أنفه. وينسب إليه كتاب يدعى (النور) وضع على شكل رسالة وهو مفقود، ولا يُعرف مضمونه.
مار إغناطيوس الأسقف وحالة الكنيسة على عهده:
في رسالته إلى رومية، يسمي مار إغناطيوس نفسه أسقف سورية. ذلك أن أنطاكية كانت عاصمة سورية القديمة.
كانت مهمة الأسقف صعبة جداً، في الظروف القاسية التي كانت كنيسة أنطاكية تجتازها عصرئذ. وكان مار إغناطيوس يترجم بالعمل ما كتبه بعدئذ إلى زميله الأسقف بوليقربوس في موضوع رسالة الأسقف قائلاً، ومعناه: «اعرف سمو مركزك واحرص على سير الأمور الزمنية والروحية، بصورة صحيحة (في الكنيسة). اهتم بوحدة (الرأي) فالوحدة من أعظم النعم. ساعد الجميع كما يساعدك الرب وتحملهم بمحبة. واظب على الصلاة واسأل اللّـه ليهبك باستمرار حكمة. كن يقظاً ولا تدع عقلك يغفو وينام أبداً. كن دائماً وفي كل الأمور حكيماً كالحية ووديعاً كالحمامة (مت10: 16) لا يضطرب قلبك وأنت تجابه أهل البدع والأضاليل… اثبت كالسندان تحت المطرقة… لا تهمل الأرامل بل اعتن بهنّ لأنك سندهن، بعد اللـه، إن المصارع البارع ينتصر في النهاية برغم ما تصيبه من ضربات قاسية، فكم بالحري يجب علينا أن نتحمل كل شيء في سبيل اللّـه كي يتحملنا بدوره، ضاعف الغيرة، ميّز، الأزمنة، ولا تسمح أن يجري شيء (في الكنيسة) بدون إذن منك. ولا تقدم على شيء بدون الرب الإله، لا تزدر بالعبيد، اهرب من الأعمال القبيحة، وأشهر حربك عليها» هذا ما كان يمارسه مار إغناطيوس في خدمته للكنيسة كأسقف. محارباً الخرافات والأضاليل اليهودية والوثنية، التي حاول بعضهم دسّها في صلب العقائد المسيحية، كما ناهض البدع والهرطقات العديدة التي ولدت الشكوك بضلالتها، وحاولت عرقلة مسيرة نشر البشارة الإنجيلية.
كانت السلطة الرومانية تتحيّن الفرص للإيقاع بأتباع السيد المسيح وقد استشهد عدد هائل منهم في اضطهادات أثارها ضدهم القياصرة الرومان، ذلك أن التنكّر لدين الدولة، كان لدى الرومان واليونان، يعادل التآمر مع أعدائها، وبالتالي فهو التورط في الخيانة العظمى للوطن. وكان المسيحيون يعرفون جيداً أن عبادتهم الرب يسوع كانت تتنافى كل التنافي مع مطالب الحكومة الرومانية من كل مواطن بأن يعبد الإمبراطور الروماني وكانت الدولة الرومانية على أثر اتساع رقعة استعماراتها قد اعترفت بآلهة الشعوب الداخلية في حكمها، واعتبرت الدين اليهودي ديناً شرعياً لليهود الذين لهم حريتهم باعتقادهم باله واحد. واعتبرت المسيحية فرقة من فرق اليهود. ولكن اليهود أبوا أن يشاركهم المسيحيون الامتيازات التي يتمتعون بها، فأعلنوا للدولة أن المسيحيين ليسوا يهوداً، فزادت شكوك الدولة بنيات المسيحيين وكراهيتها لهم وأخذت تدوّن أسماءهم، مفتشة عن زعمائهم[55] لاسيما لما جبى الإمبراطور دمطيانوس (81 ـ 96) ضريبة الهيكل من اليهود، وأكره المسيحيين أيضاً على دفع هذه الضريبة وإرسالها إلى صندوق رومة. فأقلقت هذه الترتيبات بال القديس مار إغناطيوس وقضّت مضجعه لأن عدد المسيحيين كان آخذاً بالازدياد في سورية، وكان عددهم في أنطاكية وحدها قد بلغ نحو مئتي ألف نسمة[56] وكانت المقاومة للمسيحية قد أخذت أشكالاً عامة من عداوة شعبية وحملات فكرية واضطهاد جسماني وكان مار إغناطيوس يكثر من الصلاة والصوم طالباً إلى اللّـه تعالى أن يخفف الشدة عن المؤمنين، وأن يهبهم نعمة الصبر ليتحملوا صنوف العذاب في سبيل الإيمان، وكي يكونوا مستعدين لتقبل إكليل الشهادة حباً بالمسيح يسوع ربنا، وكان مار إغناطيوس ذاته، إبان اضطهاد دومطيانوس، توّاقاً إلى نيل إكليل الشهادة ليحظى بالحياة الأبدية مع الرب يسوع.
ولما هلك دومطيانوس هدأت عاصفة الاضطهاد على عهد نرفا (96 ـ 98) الذي ارتقى عرش الإمبراطورية وهو طاعن في السن، وأبطل اضطهاد المسيحيين، فتنفست الكنيسة الصعداء فترة قصيرة من الزمن، ولكن لما ملك الامبراطور تراجانوس (98 ـ 117) وكان يبغض أتباع الرب يسوع بغضاً شديداً، كابد المسيحيون في أيامه ما كابدوه في أيام نيرون (54 ـ 68) ودومطيانوس (81 ـ 96) فقد وافق تراجانوس على تنفيذ قانون نيرون الذي يعتبر التمسك بالدين المسيحي خروجاً على القانون، وتميّز الاضطهاد الذي أثاره على المسيحية في تشديد الخناق على قادتها الروحيين. فاستشهد العديد منهم في أماكن شتى. فصلب سمعان أسقف أورشليم وقتل كرزونوس أسقف الإسكندرية وألقى إغناطيوس أسقف أنطاكية إلى الأسود، كما سنرى. وربط عنق أكليمنضس أسقف روما بمرساة وطرح في البحر. ويرى الذهبي الفم (407+) أن إبليس وهو يهاجم الأساقفة في شدة تراجانوس، كان يحاول تثبيط عزيمتهم باقتيادهم إلى أبعد المواضع ليعانوا عذاباً أقسى وهم يجدون أنفسهم يجاهدون منفردين بعيدين عن أبنائهم الروحين، وصفر من التشجيع والتعزية ولكن خاب ظن إبليس وأتباعه فقد أظهر الآباء الروحيون وكذلك سائر المؤمنين، بطولات روحية عميقة، كانت خير وازع لتشديد الضعفاء وجذب الغرباء إلى حظيرة المسيح فصّح القول «إن دم الشهداء بذار الإيمان».
ومما يذكر بهذا الصدد أن بلينوس سكندس[57] حاكم بيثينية وهو من أشهر الولاة في زمانه، أزعجته كثرة عدد الشهداء، ذلك أنه حكم على بعض المسيحيين بالموت وحرم البعض من حقوقهم المدنية، فثارت عليه الجماهير، فارتبك، وكتب إلى الامبراطور تراجانوس يستشيره، وأخبره في رسالته بوضوح عن العدد الوفير من المسيحيين الذين تقدموا إلى نيل إكليل الشهادة بفرح معترفين بإيمانهم، يطلب إليه ليعرّفه عما يجب اتخاذه في هذه الحالة، وما قاله في رسالته: «إنني لم أجد في المسيحيين ما يستوجب القتل، ولم أجد فيهم شيئاً مشيناً، أو مخالفاً لشريعة المملكة سوى أنهم يستيقظون باكراً، ويرتلون بعض الترانيم للمسيح ربهم. ومع هذا فهم يحرمون الزنى والقتل وأمثالهما من الجرائم الأخلاقية ويفعلون كل شيء وفق الشرائع» وأضاف قائلاً: «إن عدد المسيحيين كثير في كل مدن بيثينية وقراها، وإنه لا يعرف كيف يتصرف معهم». فأجابه تراجانوس: «بألا يجري التفتيش على المسيحيين كما كانت العادة في زمن أسلافه، بل عندما يؤتى إليك بأناس منهم، اسألهم إن كانوا بالحقيقة كذلك، فإن أجابوا بالإيجاب، تهددهم بالقتل، وان أصروا على أنهم خدام المسيح اقتلهم. وان أنكروا إيمانهم وذبحوا للأوثان، أطلقهم». ومن ذلك الوقت لم يَعد الاضطهاد على المسيحيين عنيفاً، ولكنهم لم يكونوا آمنين على أنفسهم ذلك أنّ أعداءهم، من الحكام والشعب، كانوا يتحينون الفرص للإيقاع بهم بتوجيه التهم إليهم بمخالفة الشريعة فيحكم عليهم بالموت، بعد أن يساموا صنوف العذاب، وبهذه الصورة حصلت اضطهادات محلية في مقاطعات عديدة واستشهد عدد هائل من المؤمنين حباً بالمسيح يسوع[58].
الحكم على مار إغناطيوس بالموت:
وُشي بالأسقف إغناطيوس إلى حاكم أنطاكية بأنه زعيم المسيحيين وقد جذب عدداً كبيراً من اليهود والوثنيين إلى حظيرة المسيح، فاستقدمه الحاكم، واستجوبه، فاعترف القديس إغناطيوس بالإيمان بشجاعة فائقة، فحكم عليه بأن يساق إلى رومية ويُطرح هناك للوحوش الضارية لتفترسه.
وهناك رواية تقول: إن الحكم على مار إغناطيوس بالموت صدر مباشرة من الامبراطور تراجانوس وهي السنة 106 وقد تعجرف جداً لما حازه من الغلبة في العام الماضي على الداقييين والسكيثيين وغيرهم من الأمم، أثار الاضطهاد الشديد على المسيحيين لجذبهم لعبادة الأبالسة، وأخذ يهدد الأساقفة خاصة بالموت الزؤام ما لم يقدموا الذبائح للأوثان. وبرح رومية في تشرين الأول من عام 106، واجتاز أرمينية الصغرى، وبلغ سلوقية في كانون الأول، ودخل أنطاكية يوم الخميس سابع يوم من كانون الثاني من السنة 107، ووشي إليه بأسقفها البار مار إغناطيوس، فاستدعاه، فأسرع القديس بالمثول أمامه لعله يفدي بنفسه رعيته ويجنبها الشدة. وسأله الإمبراطور قائلا: من أنت أيها الروح الشرير حتى تعصي أوامرنا وتحث الناس أيضاً على عصيانها؟.
فأجاب القديس مار إغناطيوس قائلاً: لا يسمي أحداً ثاوفوروس روحاً شريرة لأن الأرواح الشريرة تهرب من أمام خدام اللـه.
قال الإمبراطور: ما معنى ثاوفورس؟
أجاب القديس: الحامل اللّـه في قلبه.
قال الامبراطور: من يكون هذا الذي يحمل اللّـه في قلبه؟
أجاب القديس: إن كل من يؤمن باللّـه الآب وبابنه الوحيد يسوع المسيح، وبروحه القدوس، الإله الواحد، ويعمل الصلاح لأجل اللّـه وحباً به تعالى، فهو يحمل اللّـه في قلبه.
قال الإمبراطور: إذن أنت تحمل اللـه!؟
أجاب القديس: نعم أنا احمل اللّـه في قلبي، لأن ربنا يسوع المسيح وعدنا بقوله: «الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الذي يحبني، والذي يحبني يحبه أبي وأنا أحبه وأظهر له ذاتي… واليه نأتي وعنده نصنع منزلاً (يو14: 21 و23).
قال الإمبراطور: نحن أيضاً نحمل آلهتنا معنا في الحروب لتحارب عنا فنظفر بأعدائنا.
قال القديس: لا يمكن للأصنام عديمة الحس أن تكون آلهة.
قال الإمبراطور: دع عنك هذا الكلام واذبح للأصنام التي هي آلهتنا، فتظفر مني بالعطايا الفاخرة، وأجعل منك عظيم أحبار ديانتنا.
قال القديس: زادك اللّـه من غناه أيها الامبراطور الموقر، أنا خادم سيدي يسوع المسيح، وعبده، وكاهنه، وله وحده أقدم ذبائح الشكر، بل أنا على أتمّ الاستعداد لأقدم ذاتي ضحية على مذبح محبته.
ولما سمع الإمبراطور تراجانوس أجوبة القديس مار إغناطيوس استشاط غضباً وأصدر حكمه عليه بالموت، وأمر أن يكبل بالقيود الثقيلة ويساق إلى رومية حيث يطرح للوحوش الضارية في احتفالات الأعياد الوطنية، ليبتهج الشعب بمشاهدة الوحوش الشرسة وهي تفترسه بنهم، لعله يصير عبرة للآخرين فيقدمون الذبائح للأوثان.
فلما سمع القديس قرار الامبراطور، انبسطت أساريره وهش وبش، وقبّل الأغلال التي قيد بها، وهو يقول، أحمدك اللهم لأنك شهادة محبتي الكاملة لك، شرفتني أن أصفد بالأغلال الحديدية الثقيلة، مثل الرسول بولس صفيّك. وكل ما أتمناه الآن أن تسمح بأن تمزقني الوحوش سريعاً لأصل إليك… ثم صلى بدموع سخية لأجل كنيسة أنطاكية التي ساسها أربعين سنة، فلما شعر المؤمنون بذلك أسرعوا أفواجاً باكين، ومتبركين منه، مودعين إياه[59].
يشك بعض المؤرخين بصحة رواية محاكمة مار إغناطيوس أمام الامبراطور تراجانوس في أنطاكية. ذلك أن أوسابيوس القيصري (340+) ويوحنا فم الذهب (407+) يذكران أن القديس إغناطيوس حوكم أمام حاكم أنطاكية وليس الامبراطور. وبما أن الرواية تقول أن الامبراطور تراجانوس ذهب إلى أنطاكية لمناسبة الحرب الفرثية، وتعين تاريخ هذه الحرب في السنة 107 ويظهر لنا التناقض بمجرى حوادثها أنّ تلك الحروب وقعت بين السنتين 115 ـ 117 لا قبل ذلك[60] فيكون شكوك بعض المؤرخين بصحتها هي في مكانها، لأننا حتى لو أخرنا تاريخ استشهاد مار إغناطيوس إلى السنة 110 كما يفعل بعضهم، فإننا لا نستطيع أن نوفّق بين حادثة الاستشهاد وزيارة تراجانوس لأنطاكية، فالرواية مليئة بالتناقضات مما يدل على أنها موضوعة.
في الطريق إلى رومية:
كانت مسيرة مار إغناطيوس من أنطاكية إلى رومية مسيرة مجد وسؤدد للمسيحية المضطهدة المتعبة، في مستهل القرن الثاني للميلاد، كما يعد استشهاده من أهم حوادث التاريخ في ذلك الزمن.
غادر الأسقف إغناطيوس أنطاكية سالكاً طريق البر، على رأي بعضهم، وعبر آسيا الصغرى، مجتازاً أماكن شتى التقى فيها المؤمنين حتى وصل إلى ازمير، وكان يخفره عشرة جنود قساة، أوكلوا مهمة توصيله إلى رومية، بلغوا من القسوة والشراسة درجة كبيرة حتى أنّ القديس يسميهم فهوداً، فإنهم قد أساؤوا معاملته بقدر ما أحسن إليهم.
يقول أوسابيوس القيصري (340+): «وفي أثناء رحلته وسط آسيا وكان تحت حراسة عسكرية شديدة، كان يشدد الكنائس في المدن المختلفة حيثما حطّ رحاله، وذلك بعظات ونصائح شفوية. وكان فوق كل شيء يحثّهم ليحترسوا أشد الاحتراس من الهرطقات التي كانت قد بدأت تنتشر وقتئذ وينصحهم للتمسك بتقاليد الرسل. وكان علاوة على هذا يراه من الضروري أن يدعم تلك التقاليد بأدلة يكتبها، وأن يعطيها شكلاً ثابتاً ضماناً لسلامتها»[61].
ولما وصل إلى أزمير هرعت لاستقباله، والتبرك به، أساقفة مغنيزيا، وأفسس، وفيلادلفيا في وفود كنائسهم التي ضمت كهنة وشمامسة ومؤمنين ومؤمنات.
وارتأى بعضهم أن الجند أخذوا مار إغناطيوس في طريق البحر، فبعدما غادروا أنطاكية إلى سلوقية التي على مصب العاصي جاؤوا إلى مرفأ قيليقية أو بمفيلية، وأركبوه سفينة مخرت بهم عباب اليم بمحاذاة السواحل الآسيوية، حتى وصلوا إلى أزمير. وهناك هرع المؤمنون من كل حدب وصوب للتبرك منه ورافقه الكثيرون منهم إلى رومة، كما تقدمه مسيحيون من أنطاكية وغيرها في طريق أقصر وتوجهوا إلى رومة لينتظروه هناك.
وكان برفقته الشماس أغاثوده من سورية والشماس فيلون من قيليقية، وإذ كان مار إغناطيوس مكبلاً بالقيود ولا يقوى على الكتابة استكتب الشماس فيلون كما كان هذا أيضاً يسعف القديس في الوعظ.
يقول مار غريغوريوس يوحنا ابن العبري مفريان المشرق (1286+) في كتابه تاريخ البطاركة ما يأتي: «أُسِر مار إغناطيوس في أنطاكية، وأرسل إلى رومية وفي طريقه ثبت في الإيمان المؤمنين الذين التقوه وكان يقول: «إني حنطة اللّـه النقية، ولابد أن أطحن بأنياب الوحوش الضارية، لأصير خبزاً لذيذاً يقدم على المائدة السماوية»[62].
ويذكر أيضاً عن القديس مار إغناطيوس انه كان يقول للمؤمنين الذين التقوه في أزمير «إني أرى بينكم شهداء كثيرين فتشددوا يا أحبائي في الإيمان والمحبة» وحثهم على التمسك بتعاليم الرب يسوع وما تسلموه من الرسل الأطهار، وتقديم واجب الطاعة للأسقف ولذوي الرتب الكهنوتية كافة، وان يفتكروا بالحياة الأبدية، ويتجنبوا أهل البدع الخبيثة التي حاول بعض الهراطقة دسها في صلب العقيدة المسيحية السمحة.
بوليقربوس أسقف أزمير (155+):
وفي ازمير التقى مار إغناطيوس أسقفها مار بوليقربوس الذي كان خدينه في التتلمذ على يد القديس يوحنا الإنجيلي، وهنأه بوليقربوس لاستحقاقه نيل إكليل الشهادة الذي تمناه هو لنفسه أيضاً، وقد استجاب الرب طلبة بوليقربوس واستشهد هو الآخر سنة 155م على عهد القيصر انطونينس بيوس(138 ـ 161) ذلك أن والي أزمير أمره أن يجحد السيد المسيح، أثناء الشدة التي أثيرت في المدينة ضد أتباع الرب، فأجابه القديس بوليقربوس: إن لي ستاً وثمانين سنة وأنا أخدم المسيح سيدي فلم أرَ منه إلا خيراً فكيف أنكره؟ فغضب الوالي وقال له: «إن لم تطع فستحرق حياً، فأجاب القديس أما نارك فتحرقني لحظة ثم أحيا إلى الأبد مع سيدي والهي في السماء. فأمر الوالي بحرقه، فدنا من النار وهو يصلي ويرنم مبتسماً مبتهجاً ولكن لم يكن للنار سلطان عليه فلم تؤثر فيه بأعجوبة. فأخبر اليهود الوالي فأمر فطعن بخنجر ففاض من دمه ما أطفأ النار ثم استلّ أحدهم سيفاً وضرب عنقه فنال إكليل الشهادة الذي كان يتوق إليه وذلك سنة 155 وقيل 156 وقد كتب هذا القديس عدة رسائل[63].
وهو الذي جمع رسائل القديس إغناطيوس، وأرسلها إلى أهل فيلبي مصحوبة برسالة منه إليهم كما سنرى.
رسائل مار إغناطيوس:
وخلال وجود مار إغناطيوس في أزمير كتب أربع رسائل نفيسة جداً وجهها إلى كنائس أفسس، ومغنيزية، وترلّس، ورومية.
وأُركب البحر من أزمير وأقلعت السفينة به وبصحبه، وجيء به إلى طروادة، فبعث من هناك بثلاث رسائل إلى فيلدلفيا وأزمير وأسقفها مار بوليقربوس. وواصلوا السفر، ورغب في أن ينزل في بوتبولي اقتداء بالرسول بولس، ولكن الرياح كانت معاكسة فاضطروا على مواصلة السفر حتى انتهوا إلى ميناء رومية.
وصوله إلى رومة واستشهاده:
في رومة استقبلته وفود الكنائس التي سبقته إلى عاصمة الإمبراطورية لتتبرك منه، وتودّعه الوداع الأخير، وفي مقدمتهم وفد أنطاكية، فودعوه بدموع سخية وقلوب مكلومة، ونفوس حزينة وصلوات حارة، وقاده الجند بسرعة فائقة إلى الكولوسيوم وهو الملعب الكبير والشهير في رومة، حيث كانت الجماهير الغفيرة قد اكتظت منتظرة مشاهدة أسقف أنطاكية يطرح للوحوش قبل انتهاء أعياد انتصار الرومان على الداسيين، تلك الأعياد التي دامت مئة وثلاثة وعشرين يوماً، سقط فيها عشرة آلاف مصارع تسلية للشعب الروماني، واستشهد فيها رفيقا مار إغناطيوس القديسان زوسيموس وروفس اللذان طرحا للوحوش الضارية في اليوم السابع عشر من شهر تشرين الثاني، وقيل بل في اليوم الثامن عشر من كانون الأول من السنة 107م وبعد يومين أي في العشرين من كانون الأول عُرّي القديس مار إغناطيوس من ثيابه وطرح إلى الوحوش، فجثا على ركبتيه راكعاً يصلي وهو منشرح الصدر منبسط الأسارير فرحاً، فهجمت عليه الوحوش الضارية ومزقته والتهمته ولم تبقِ من جسده الطاهر سوى العظام الخشنة. وكان المؤمنون وهم يشاهدون هذا المنظر الأليم ينتحبون ويتشفعون بالقديس.
رفاته:
ثم جمعوا بإكرام وتبجيل عظامه المقدسة ولفوها بكتان نفيس وأرسلوها إلى أنطاكية برفقة فيلون وأغاثودة الشماسين اللذين رافقاه إلى رومة. ودفنت ذخائره المقدسة في أنطاكية في ضريح لائق خارج باب دفنه، ثم نقلها الامبراطور ثاودورسيوس الصغير (379 ـ 395+) في سنيه الأخيرة إلى كنيسة بنيت في أنطاكية[64] دعيت على اسم الشهيد القديس مار إغناطيوس وفي القرن السابع نقلت رفاته الطاهرة إلى رومية ووضعت في كنيسة الشهيد البابا اكليمنضس[65].
ظهوره لتلاميذه بعد استشهاده:
ذكر كتبة سيرته أن تلاميذه بعد أن رأوا بأم أعينهم مشهد استشهاده المحزن، عادوا إلى الدار التي كانوا قد حلّوا فيها، وقضوا الليل ساهرين بدموع وصلوات ساجدين راكعين خاشعين طالبين من اللّـه تعالى العزاء وأن يمنحهم علامة وعربوناً أكيداً على ما يعقب موتاً كهذا من المجد. وفي ذعرهم وولههم استولى على بعضهم نعاس فرأوا القديس إغناطيوس داخلاً المكان وكأنه مسرع وهو يعانقهم. ورآه آخرون مصلياً لأجلهم ومباركاً إياهم. كما ظهر طيفه للبعض وهو يتصبّب عرقاً كرجل يخرج من جهاد عنيف شاق، وماثل أمام الرب بثقة عظيمة ومجد فائق الوصف. فتعزوا جداً بهذه الرؤى وانقلب حزنهم فرحاً لما ناله القديس الشهيد من الغبطة في السماء[66].
مكانته في الكنيسة السريانية وأعياده:
للقديس مار إغناطيوس النوراني مكانة مرموقة في كنيستنا السريانية، فهو شفيع كرسينا الرسولي الأنطاكي والجالس عليه، واسمه الكريم يسبق دائماً اسم البطريرك المنتخب لهذا الكرسي المقدس. بدأ ذلك سنة 878 عندما ارتقى إلى الكرسي البطريركي مار يشوع الذي اتخذ اسم إغناطيوس تيمّناً بمار إغناطيوس النوراني الشهيد وحذا حذو يشوع أربعة بطاركة بعده. ولما اعتلى الكرسي الرسولي الأنطاكي مار يوسف بن وهيب مطران ماردين سنة 1293م وهو إغناطيوس الخامس ثبتت هذه العادة من بعده وماتزال حتى اليوم[67].
وتعيّد كنيستنا السريانية للقديس مار إغناطيوس في 17 تشرين الأول ذكرى استشهاده كما تحتفل بذكرى دفن عظامه في 30 كانون الثاني[68].
أما اليونان فيعيّدون له في 20 كانون الأول، ويعيّد له اللاتين في 17 كانون الأول، ثم عيّدوا له في الأول من شباط. أما ذكرى وصول رفاته إلى أنطاكية فيحتفل بها اليونان في 29 كانون الثاني، واللاتين في 17 كانون الأول.
مؤلفاته:
عدا رسائله السبع المذكورة آنفاً، نسبت إليه في القرن الرابع، أربع رسائل أخرى موضوعة، وجّه اثنتين منها إلى يوحنا الرسول وواحدة إلى السيدة العذراء مريم والرابعة من السيدة العذراء إليه. وهذه الرسائل مزورة، ولم يذكرها أحد من القدماء.
كما عدّه بعضهم بين الذين ألّفوا نقضاً للهراطقة. ذلك أنه دحض آراءهم الفاسدة في رسائله السبع، دون أن يذكر أسماءهم، وكان همه أن يحثّ المؤمنين ليتجنبوهم وأن يصلّوا لأجلهم لعلهم يعودون إلى اللّـه بالتوبة.
وقد أدخل مار إغناطيوس في كنيسة أنطاكية عادة ترتيل المزامير بين جوقتين أسوة بالملائكة النورانيين الذين ظهروا له برؤيا[69] وانتقلت هذه العادة بعدئذ إلى سائر الكنائس المسيحية[70].
رسائله:
كتب مار إغناطيوس النوراني، وهو في طريقه من أنطاكية إلى رومة، سبع رسائل نفيسة، بعث بها إلى أهل الإيمان في أفسس، ومغنيزيا، وفيلادلفيا، وأزمير، وإلى زميله بوليقربوس أسقف أزمير. وقد احتلت هذه الرسائل الجليلة مكانتها اللائقة في الكنيسة المسيحية، حتى أنها تلت أسفار كتاب العهد الجديد المقدسة بالأهمية. ذلك أنها تتضمّن أهم مبادئ المسيحية السامية، وعقائدها السمحة التي تسلمتها الكنيسة من رسل الرب الأطهار، أولئك الذين أخذوها عن الفادي الإلهي مباشرة، وحافظوا عليها وصانوها سليمة نقية إذ صانهم الروح القدس، في هذا الشأن، من الخطل والزلل.
فقد كتب الرسول يوحنا إنجيله المقدس في أواخر القرن الأول للميلاد، بعد انتشار بعض الهرطقات الخبيثة التي أثارت حرباً فكرية طاحنة ضد العقائد المسيحية محاولة تشكيك المؤمنين بحقيقة لاهوت السيد المسيح وناسوته، وموته وقيامته، فيتصدى لهم تلميذ المسيح الحبيب، الرسول يوحنا، ويعلن في فاتحة إنجيله المقدس، أزلية ابن اللّـه الوحيد، وسر تجسده الإلهي، بقوله: «في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند اللـه، وكان الكلمة اللـه» (يو 1: 1) إلى أن يعلن الناسوت الكامل الذي أخذه منا الكلمة الأزلي قائلاً: «والكلمة صار جسداً وحلّ فينا ورأينا مجده كما لوحيد من الأب مملوءاً نعمة وحقاً» (يو 1: 14). ويؤكد هذا في رسالته الأولى قائلا «الذي كان من البدء الذي سمعناه الذي رأيناه بعيوننا الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة، فان الحياة أظهرت وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأظهرت لنا. الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به لكي يكون لكم أيضاً شركةٌ معنا(1يو 1: 1 ـ 3).
وينسج مار إغناطيوس النوراني على منوال معلمه الرسول يوحنا فيدحض، في رسائله السبع، آراء الهراطقة وبدعهم الوخيمة، دون أن يذكر أسماءهم المشينة.
مضمون الرسائل بصورة عامة:
إلى جانب مناهضة الهراطقة، يقدم مار إغناطيوس في رسائله السبع النصح والإرشاد للمؤمنين الذين وجه إليهم هذه الرسائل ليبتعدوا عن النزاعات وأسباب الشقاق، ويأمرهم بالتمسك بالمحبة ووحدة الصفوف والالتفاف حول الأسقف والخضوع له لأنه يمثل اللّـه تعالى في الكنيسة. كما يوصي بتكريم الكهنة والتعاون مع الشمامسة ويوضح درجات الكهنوت الثلاث مما يدل على أن توزيع هذه الدرجات في الكنيسة رسولي المنشأ.
ويحث مار إغناطيوس المؤمنين على المواظبة على الصلاة وخاصة صلاة الجماعة برئاسة الأسقف. والاشتراك بسر الشكر (الأوخارستيا) ويؤكد على وجوب تناول القربان المقدس أي جسد المسيح ودمه الأقدسين لأن تناولهما ضروري للخلاص ولنمو المؤمنين في الحياة الروحية.
رسائله باللغة السريانية:
نقلت رسائل مار إغناطيوس السبع من اليونانية، اللغة التي كتبت بها، إلى السريانية في غضون القرنين الثاني والثالث للميلاد. ويوجد من هذا النقل ثلاث مخطوطات في خزانة لندن كتبت في القرون (6 ـ 9) ومخطوطة لرسالته إلى بوليقربوس في خزانة باريس من القرن التاسع ووجد في باسبرينة في طورعبدين بتركيا الرسائل إلى مغنيزيا، وترلّس، وفيلادلفيا وأسيا (أزمير)[71].
ونقل كورتن من السريانية إلى الانكليزية ثلاث رسائل وهي: إلى بوليقربوس، وأفسس، ورومية، معتمداً بذلك مخطوطات سريانية كتبت الأولى قبل عام 550م والثانية في القرن السابع أو الثامن، والثالثة كتبت سنة 931، ونشر كورتن الترجمة الانكليزية المذكورة عام 1845 بذلك فسح المجال لعلماء الاستشراق ليتناولوا بالدرس هذه الرسائل، آخذين بعين الاعتبار الترجمة السريانية، وكانت نتيجة دراساتهم أن النص السرياني مترجم عن النص اليوناني الأصيل الذي اعتبر النص المختصر، تمييزاً له من النص المطول الذي أضيف إليه زيادات لا تمت إلى الأصل بصلة[72].
واقتبست الكنيسة السريانية من رسائل مار إغناطيوس السبع، عبارات توجيهية، ووصايا أبوية، أنزلتها منزلة القوانين البيعية المجمعية التي لها سلطة الإلزام على المؤمنين، رأينا أن نعربها لفائدة القارئ الكريم وننشر أيضاً نصها السرياني. وقد اعتمدنا بذلك مخطوطة حديثة نسخت عام 1928م عن مخطوطتين نفيستين موجودتين في خزانة دير الزعفران في ماردين ـ تركيا، مكتوبتين على رق يعود تاريخ إحداهما إلى القرنين الثامن والتاسع والثانية إلى القرن العاشر. وقد حققت المخطوطة التي بين يدينا على المخطوطتين المذكورتين وعلى مخطوطة قديمة للقس دانيال، وفي كل هذه المخطوطات نواقص إذ سقط منها أوراق لقدمها.
واليك أيها القارئ الكريم نخبة طيبة من أقوال القديس مار إغناطيوس النوراني هي باقة عباقة من حديقة رسائله السبع، تمتع بقراءتها، وتأمل سموّها، وأحمد اللّـه تعالى لوصولها إلينا، سليمة، صحيحة، نقيّة، لتشهد لنا على صحة تعاليم الرسل، والآباء الرسوليين التي هي تعاليم الإنجيل المقدس ذاتها.
من رسالته إلى أهل الإيمان في أفسس[73]:
مجّدوا يسوع المسيح كما مجدكم، واخضعوا للأسقف والكهنة لكي تتقدسوا بوحدة الطاعة.
إني مصفّد بالأغلال، لأجل اسم المسيح، ولكنني لم أبلغ الكمال بيسوع المسيح بل مازلت مبتدئاً في مدرسته، وها أنا اكتب إليكم كصديق إلى أصدقائه، حاثاً إياكم لتسلكوا بموجب روح اللـه. عالمين هذا أن يسوع المسيح هو مبدأ حياتنا وهو فكر الآب، كما أن الأساقفة في كل العالم هم في فكر يسوع المسيح.
لا ينبغي أن يكون لكم وأسقفكم (أونيسيموس) إلا فكر واحد بعينه، كما أنتم فاعلون، فان ارتباط قسسكم المكرمين بالأسقف يشبه ارتباط الأوتار بالقيثارة، فباتفاق عواطفكم ومحبتكم وتجانسها ترفع أصوات التسبيح والتمجيد ليسوع المسيح ربنا.
فان كنت أنا في مدة وجيزة، تأكدت بيني وبين أسقفكم (أونيسيموس) عقدة إخلاص داخلي هذا شأنه ليس فيه شيء عالمي (دنيوي) لكنه روحي كله، فكيف لا تُغبطون أنتم المتحدون معه في قلوبكم كاتحاد البيعة بيسوع المسيح، ويسوع بأبيه. فلنحذر مقاومة الأسقف إذا أردنا أن نظل خاضعين للـه.
لا يضل أحد، فان مَن يبتعد عن المذبح يحرم نفسه من خبز اللّـه (أف5) وإذا كانت صلاة شخصين متحدين لها مفعول كبير، فأي شيء لا تقدر عليه صلاة الأسقف متحدة بصلاة الكنيسة كلها؟. من لا يحضر الاجتماع فهو متكبر وقد دان نفسه، لقد كُتب «إن اللّـه يقاوم المتكبرين» (1بط5: 5 ويع4: 6).
أنا ضحية الصليب وان الصليب لنا خلاص وحياة أبدية. وإن إلهنا يسوع حملته مريم في أحشائها حسب التدبير الإلهي، فولد من نسل داود (يو7: 42 ورو1: 3) بقوة الروح القدس.
إن إبليس جهل أسراراً ثلاثة عجيبة تمت في صمت، هي: بتولية العذراء، وإيلادها، وموت الرب (يسوع) فسقطت مملكة (إبليس) القديمة. لأن اللّـه ظهر في الجسد، ليكمل النظام الجديد (رو6: 4) (ويمنح) الحياة الأبدية (للمؤمنين).
اذكروني كما يذكركم المسيح. صلوا لأجل كنيسة سوريا التي اختطفت منها حاملاً أغلالي إلى رومة، أنا آخر المؤمنين في أنطاكية ولكن اللّـه اختارني لأمجده.
سلام باللّـه الآب ويسوع المسيح رجائنا العام.
وفيما يأتي تعريب ما اُقتبس من رسالته إلى أهل الإيمان في أفسس ونُقل إلى السريانية وأُدخل مجموعة القوانين الكنسيّة في كنيستنا السريانية المقدسة:
فلنجتهد، ألا نوجد مقاومين الأسقف، لكي نوجد خاضعين للـه تعالى. لأنه بقدر ما يرى أحدهم الأسقف صامتاً، عليه أن يهابه أكثر، ذلك أن من يرسله رب البيت لإدارة شؤون بيته، يجب قبوله كقبولنا مرسله ذاته، فعلينا أن نكرّم الأسقف تكريمنا الرب يسوع نفسه.
اجتهدوا أن تعقدوا اجتماعاتكم بدون انقطاع، لتقديم آيات الشكر والتمجيد للـه تعالى دائماً. لأنه بقدر ما كنتم ثابتين معاً تدحرون قوة إبليس، وباتحادكم في الإيمان تتلاشى سلطته. لاشيء أفضل من السلام، فهو الذي يُبطل سائر حروب السماويين والبشر.
خير للإنسان أن يكون صامتاً وهو شيء (مهم) من ألا يكون شيئاً (مهماً) ويتكلم.
جيد جداً أن يعمل الإنسان، إن كان يعمل بما يعلم…
لا يؤذن بالعماد، ولا بإجراء النياحات (الصلاة عن الموتى) بدون الأسقف. فكل عمل يفحصه الأسقف هو مرضيٌّ لدى اللـه. فاتبعوا هذا لكي يكون كل ما تعملونه ثابتاً وأكيداً.
لتستيقظ إذن، قبل فوات الأوان، تائبين إلى اللـه، جميل أن نعرف (سلطة) اللّـه والأسقف، فان من يكرم الأسقف يُكرَّم من اللـه.
ومن يقوم بعمل ما (فيما يخص الكنيسة) بدون معرفة الأسقف يعبد الشيطان.
من رسالته إلى أهل الإيمان في مغنيزيا:
لا ينبغي أن يتخذ من حداثة أسقفكم (دامسوس) سبباً للإفراط في الدالة عليه، بل وقروه لأنه يحمل هذه الأسقفية التي هي نفس سلطة اللّـه الآب. واني أعلم أن كهنتكم الأنقياء لم يستخفوا في حداثته الظاهرة، ولكنهم يخضعون لأبي ربنا يسوع المسيح أسقف الجميع. فكونوا إذن مسيحيين لا بالاسم وحسب بل بالفعل.
أن الرب (يسوع) لم يأتِ عملاً لا بذاته ولا برسله بدون الآب (راجع يو5: 19 و8: 28) وهو الأب واحد. وهكذا ينبغي لكم ألا تقدموا على عمل ما بدون الأسقف والكهنة،…فليس صالحاً إلا ما تصنعونه مشتركين. ولا يمدح أبداً ما عملتموه منفردين.
إن الذين كانوا يعيشون بموجب نظام العهد العتيق، واعتنقوا الرجاء الجديد، فلا يحفظون بعد السبت لكن يوم الأحد اليوم الذي فيه ظهر نجم حياتنا بوساطة موت الرب (يسوع المسيح). هذا السر الذي جحده كثيرون وهو ينبوع إيماننا، وصبرنا على تحمل ما يؤهلنا أن نصير تلاميذ حقيقيين ليسوع المسيح معلمنا الأوحد.
ما أبشع هذا التناقض، إننا نتلفظ باسم يسوع المسيح ونعيش كيهود. فان المسيحية لم تؤمن باليهودية لكن اليهودية آمنت بالمسيحية التي إليها جاءت كل الشعوب المؤمنة باللّـه من كل لغة.
اذكروا أيضاً كنيسة سوريا. فأنا عضو منها حقير، وأنني بحاجة إلى اتحاد صلواتكم ومحبتكم، حتى بواسطة كنيستكم يمطر اللّـه ندى نعمة على كنيسة سوريا.
وفيما يأتي تعريب ما اقتبس من رسالته إلى أهل الإيمان في مغنيزيا، ونُقل إلى السريانية، وأُدخل مجموعة القوانين الكنيسة في كنيستنا السريانية المقدسة:
إن الذين لا إيمان لهم، هم تحت سلطان رئيس هذا العالم (إبليس) أما المؤمنون المحبون فهم صورة اللّـه الآب، بالمسيح يسوع (ربنا). ما لم نرغب في الموت لأجله ونتشبه بآلامه. لا تكون حياته فينا.
إنني رأيت جماعتكم كلها (وعانقتكم) بالإيمان والمحبة بذات الأسقف، والقسس، والشمامسة، هؤلاء جميعاً الذين ذكرتهم سابقاً.
فأناشدكم، أن تجتهدوا لانجاز سائر أعمالكم، بالاتحاد في اللـه، تحت رئاسة الأسقف كأنه بمقام اللـه. والقسس كأنهم بمنزلة سفراء الملوك، والشمامسة بمنزلة الرسل.
فليكن اتفاقكم مع أسقفكم وسائر رؤسائكم (خير) مثال، وللتعليم (الصحيح) غير المزيف.
مثلما لم يعمل ربنا (يسوع) أي عمل بذاته أو بوساطة رسله بدون أبيه (السماوي) هكذا أنتم أيضاً لا تأتوا عملا (فيما يخص الكنيسة) بدون الأسقف والقسس.
دآيجنطيوس، مًلا دمجًبين من آجإةا دقديشا آيجناطيوس ةلميدا دشليحًا، ؤو لبيش لالؤا وسؤدا، آفسقوفا دةرين دآنطيوكيا، دحيلا دقنًونا عدةنيًا آية لؤين ÷
من آجرةا دلوة آفسًيا:
نةحفط ؤكيل، دلا نؤوا سقوبًلا لافيسقوفا، آيكنا دنؤوا دحزا آْنش لافيسقوفا دشةيق، يةيرآية ندحل منؤ لكل جير دمشدر مرا بيةا لفوإنسوؤي ديلؤ، ؤكنا زدق لن دنقبليوؤي، آيك دلؤو دشدرؤ. بافيسقوفا ؤكيل يديعاؤي، دآيك دبمرن زدق لن دنحور بؤ وبةر قليل ؤويةون ؤكيل مةحفطين لمةكنشو آميناية لةوديةا ولشوبحا دءلؤا. آمةي جير دآمينين آنةون آكحدا، مسةةر حيلؤ دسطنا. ومشةرا آوحدنؤ، بيد آويوةا دؤيمنوةكون. لية جير مدم دميةر من شلما، ؤو دبؤ مةبطلين كل شإبين دشميًنا ودآرعنيًا وبةر قليل ميةرا ؤي ؤدا دنؤوا شةيق آْنش كد آيةوؤي مدم. آو دنؤوا مملل كد لا آيةوؤي. شفيراهؤي جير دنلف آْنش، آن ؤو دؤو ما دآمر عبد ؤو
ديلؤ من آجرةا دلوة مجنيسيا: آيلين دلية بؤون ؤيمنوةا، دآركونؤ آنون دعلما ؤنا. وآيلين دمؤًيمنا آنون بحوبا. ألمؤ آنون دءلؤا آبا،بيد يشوع مشيحا. وآن لا نأبا دنموة مطلةؤ بحشؤ، حيًوؤي لية آنون بن. مطل دين دبؤنون فإأوفا دقدمة كةبة عليؤون، دآفيسقوفا كية ودقشًيشا ودمشمشنًا، حزية لكلؤ كنشكون بؤيمنوةا وبحوبا، بعاآنا منكون، دباويوةا دءلؤا ةةحفطون لمسعر كل مرم، كد يةب بريشكون آفسقوفا بطوفسا دءلؤا،وقشيًشا بطوفسا دمًلاكي مًلكا، ومشمشًنا بطوفسا دشليًحا.
ديلؤ من آجرةا دلوة ططًليو:ما جير دمشةعبؤين آنةون لافيسقوفا آيك دليشوع مشيحا، آلا يشوع مشيحا، ؤو دمية عل آفيًن. آيكنا دكد مؤيمنين آنةون بموةؤ، ةمدون من دلممة زدقا ؤكيل ؤي دمدم بلعد من آفسقوفا لاةسعرون. آكما دعبدين آنةون. وؤويةون مشةعبدين آف لقًشيشا، آيك دلشليحًوؤي ديشوع مشيحا سبرن، آيكنا دنشةبح، دبؤ كد بؤ حاينن. ولا دين آف لمشمشًنا آيك دآيةيؤون بنيً آْرزؤ ديشوع مشيحا، دبكل آسكيما نفرشون لكل آْنش. لو جير دماكولةا ودشقيا آيةيؤون مشمشنًا، آيك دمن يشوع مشيحا. ومن آفسقوفا دآيةوؤي بطوفسا دآبا. ومن قًشيشا، آيك دمن بنًي ملكؤ دءلؤا وؤًدما دشليحًا. لبر من ؤلين عدةا لامشةمؤا وبةر قليل آف آنا جير، لو مطل دآسيرآنا ومشكح آنا دآدع شمينيًةا آف آةإوةا دمًلاكا، وقومًا دشًليطنا ودمةحزيًن ودلا مةحزًين، مطل ؤنا ؤويةون لي ةلمًيدا، سجي جير حسيرينن. دمن ءلؤا لانةبأر. بعاآنا ؤكيل منكون، لا ؤواآنا، آلا حوبؤ ديشوع مشيحا، دبسيبرةا بلحود دقوبل طيبوةا ةةحشحون. ومن عقرا نوكريا ةةرحقون. دآيةوؤي دؤرسيس.دؤنون دمحلطين نفشهون بيشوع مشيحا آيكنا دنةهيمنون،آيك ؤنون ديؤبين سما دموةا بحمرا ودبشا. آيكنا دآينا دلايدع، برجةا موةا نقبل. آزدؤرو ؤكيل من آيلين دؤكنا آنون÷
ديلؤ من آجرةا دلوة فولوقارفوس آفسقوفا دسمورنا:مدينةا آيلين دين دمسةبرين دآيةيؤون مدم: وملفين يوًلفنا نوكإيا، لانةؤرونك قوم دين بشررا، آيك حيلةنا دبلع ونزكا. يةيرآية دين مطل ءلؤا، كل مدم ولا لن دنسيبر، آيكنا دنسيبرن آف ءلؤا نسور بكون. آنا آؤوا حلف نفشًةكون. دآيلين دمشةعبدين لافسقوفا ولقشيشًا ولمشمشًنا، عمؤون ةؤوا لي منةا لوة ءلؤا
ديلؤ من آجرةا دلوة فيلادلفيا مدينْةا:آيلين جير ددءلؤا آنون وديشوع مشيحا، ؤلين عم آفسقوفؤون ؤو آيةيؤون. وآيلين دةيبية وآةين لشلموةا دعدةا، وآف ؤنون ؤوين آيةيؤون دءلؤا، دنؤوون حيين بيشوع مشيحا. لاةطعون آحًي. آينا دنقف لؤو دسدق لعؤةه دءلؤا، لايرة. آينا دمؤلك بةرعيةا نوكريةا، ؤنا لحشؤ دمشيحا لا شلم. آةحفطو ؤكيل لمةحشحو بحدا ةوديةا. حد ؤو جير فجرؤ دمرن يشوع مشيحا وحد ؤو كسا دشلموةا ددمؤ. وةوب قعية ؤكيل بقل كد آيةي بينةكون، ومللة مقل رما بقل دءلؤا، دلافيسقوفا ؤويةون مةدنين. ولقشيشًا ولمشمًشنا. وآية آنشًا دسبرو علي، دآيك من ديدع آنا فًلجوةا دآنشًين آمرة ؤلين. سؤد ؤو لي دين ؤو دبؤ آسيرآنا، دمن بنيًنشا لا يلفة ؤلين. روحا دين قعا ؤوا وآمر ؤلين. دبلعد من آفسقوفا مدم لا تعبدون. وةوب آمرآنا لكون، دآسبرة[74] دآية شلما بعدةا دسوريا. يايا لكون مدين آيك دلعدةا دءلؤا، دةجبون مشمشنا حد، دنؤوا آيزجدا دءلؤا. دنازل لةمن. ونحدا عمؤون كد كنيشين آكحدا، ونشبحون لشمؤ دمريا. طوبنا ؤو بيشوع مشيحا، ؤو آينا دمشةوا لؤدا ةشمشةا. آف آنةون تشبحون، عل دأبين آنةون. لا عطلا لكون ؤدا حلف شمؤ دءلؤا، آيك عدًةا قديشًةا ؤلين دشدإين آفيسقوًفا، وآحإنيةا قشيًشا
ديلؤ من آجرةا دلوة عدةا دآسيا لية شولطنا بلعد من آفيسقوفا. لا لمعمدو، وآفلا لمعبد نيًحةا. آلا مدم دؤو بقا، ؤو ؤو شفير لالؤا. دنؤوا شرير ومؤيمن. كل مدم دسعرين آنةون. وليةا ؤي مكيل دنةةعير، عد آية لن زبنا، دنةوب لوة ءلؤا. شفيرا ؤي ؤدا دندع لالؤا ولافيسقوفا. آينا دميقر لافيسقوفا، مةيقر من ءلؤا. آينا دين دسعر مدم ومكسا من آفيسقوفا، لسطنا فلح
ةوب ديلؤ من آجرةا ؤي دلوة ماجنيًسيا دقديما كةيبا من لعل آلا شلمو لافيسقوفا. ولايلين ديةبين بريشكون لحودا وليولفنا دلا مةحبلنوةا. آيكنا دين دمرن بلعد آبوؤي مدم لا عبد، لابقنومؤ ولا بيد شليحًوؤي، ؤكنا آفلا آنةون بلعد من آفيسقوفا وقشيشًا ةسعرون مدم. آفلا منسيو ةنسون. دنةحزا مدم دوليةا ؤو، لحد حد منكون منؤ ولؤ، بلعد من آفيسقوفا
ةوب من آجرةا ؤي دلوة ططيًلو دقديما سيما آنةون ؤكيل سبو عليكون نيحوةا، وآنيحو نفشًةكون بؤيمنوةا، ؤي دآيةيذ بسبرا منذ آيك حإشا ؤوو آمةي دمملل لكون آْنش لبر من يشوع مشيحا، ؤو دؤوا من جنسا دبية دويد من مريم. ؤو دبشررا آةيلد وآكل وآشةي، وبشررا آأطلب ومية، كد حزين آيلين دبشميا آنون وأيلين دبارعا وآيلين دلةحة من آرعا، وبشررا قم من بية ميًةا، دآقيمؤ آبوؤي، آيكنا دآف لن آيلين دمؤيمنين بؤ،ؤكيل نقيمن آبوؤي، ديشوع مشيحا، ؤو دبلعدؤوي حيًا دشررا لية لن. آن ؤو دين دآيك دآمرين آْنشين دلا ءلؤا، ؤنون دين ؤنون دلا ؤيمنوةا، مسةبرو آسةبر دحش، آيك ما دؤنون آيةيؤون بمسبرنوةا، آنا ؤكيل مدين. لمنا آسيرآنا. ولمنا مألاآنا دآةاكل من حيًوةا. مجن[75] مدين ماةآنا لمنا دجلوةا آمرآنا عل مرن. عروقو ؤكيل من موعيًةا بيشًةا، دموًلدن فاإا دموةا. ؤلين كية دآينا دآكل منؤين. بعجل ماة. ؤلين جير، لاؤوا نأبةا آنون دآبا. ءلو جير آيةيؤون سوًكا دأليبا. وفاإيؤون دلا حبلا مقوين ؤوو بحشا دأليبؤ دمركون. ؤو دآيةيكون ؤدًموؤي
ةوب من دلوة فولوقارفوس، دسيما من لعل ياا ؤو لك ؤكيل آو فولوقارفا شوا لطوبا دمن ءلؤا، دةكنش لك بنًي ملكا لملكا دياا لالؤا، وةجبا لاينا دسجي حبيب لكون وآيةوؤي دلا ماينوةا، ؤو دمشكح دنؤوا ونةقرا آيزجدا دءلؤا. ؤنا نةطفيس دنازل لسوريا، ونشبحون لحوبكون ؤو دلا ممان لشوبحؤ دءلؤا. كرسطينا جير لية لؤ شولطنا عل نفشؤ. آلا آميناية لالؤا مطيب. ؤنا دجير عبدا دءلؤا ؤو، وآف ديلكون ما دشمليةونيؤي شًلمي ؤلين دقديشا آيجناطيوس لبيش لالؤا وسؤدا.
عبثاً تحاولون (تبرير) ما تقومون به منفردين ـ بدون الأسقف ـ، كأنه واجب ملقى على عاتق كل واحد منكم، لوحده منفرداً.
من رسالته إلى أهل الإيمان في ترلّس:
إن جسد المسيح الواحد، ودمه الواحد يوحدنا جميعاً، والمذبح الواحد والأسقف الواحد يحتاط به الكهنة والشمامسة. فلا تشتركوا الا في الأوخارستيا الواحدة.
إن الإنجيل ملاذي، وهو في نظري يسوع المسيح ذاته في الجسد.. إن يسوع المسيح هو كتبي، هذه الكتب التي لا تمس هي صليبه وموته وقيامته، والإيمان الذي أعطاه،
صموا آذانكم عن سماع الذي يشرح لكم الأسفار المقدسة بمفهوم يهودي. من الأفضل أن نصغي إلى إنسان مختون يبشر بالمسيحية من أن نسمع غير مختون يكرز باليهودية وإذا كانا كلاهما لا يخاطبانكم عن المسيح فليسا سوى نعوش وقبور.
لما كنت في ظهرانيكم ناديت جهراً قائلا بصوت هو صوت اللّـه عينه: اتحدوا مع الأسقف والكهنة والشمامسة تجنبوا الانقسامات وتمثلوا بيسوع المسيح فقد تمثل هو أيضاً بأبيه.
لقد سمع دعاؤكم… لأنه كما علمت، أن السلام عاد إلى كنيسة أنطاكية في سورية…
ما أسعد من تنتخبونه وترسلونه لتقديم التهاني باسمكم لأهل الإيمان المسيحي في أنطاكية على مثال سائر الكنائس. فقد أرسلت القريبة منها أساقفتها والبعيدة كهنة وشمامسة.
إن فيلون شماس قيلقية… يساعدني في الوعظ وهكذا أرابوس آغاتوبوس الذي زهد في كل شيء على هذه الأرض ليرافقني منذ تركت سوريا.
فيما يأتي تعريب ما اقتبس من رسالته إلى أهل الإيمان في ترلس ونقل إلى السريانية، وأُدخل مجموعة القوانين الكنسيّة في كنيستنا السريانية المقدسة:
إنكم بخضوعكم لأسقفكم كما ليسوع المسيح، تظهرون لي أنكم لا تسلكون بموجب الجسد بل بيسوع المسيح، الذي مات لأجلنا، لكي تخلصوا من الموت أنتم المؤمنين بموته، عليكم ألا تقدموا على عمل شيء (في الكنيسة) بدون الأسقف، كما أنتم فاعلون، وأطيعوا القسس أيضاً، كما لرسل يسوع المسيح رجائنا، لكي نوجد أحياء فيه. على الشمامسة أيضاً كخاصة يسوع المسيح (المعينين لخدمة أسراره) أن يُكرِّموا الجميع في كل شيء.
فهم لم يقاموا لخدمة الطعام والشراب، بل لخدمة كنيسة اللـه. فعليهم أن يحترسوا لئلا يجلب عليهم اللوم احتراسهم من النار. وليقدم كل واحد منكم الإكرام للشمامسة كما ليسوع المسيح. وليكرم الأسقف الذي هو بمقام الآب (السماوي) والقسس كما لمستشاري اللّـه ومجمع الرسل، فلا تدعى (أية جماعة) كنيسة بدون هؤلاء.
أما أنا فليس لأنني أسيرٌ وقادر على إدراك الأمور السماوية، ومواطن الملائكة، ورتب السلاطين (من الملائكة)، والأمور المنظورة وغير المنظورة، صرتم لي تلاميذ. وإننا لمحتاجون جداً ألا نوجد مرذلين من اللـه.
أتوسل إليكم، لا أنا بل بالأحرى، هي محبة المسيح تسألكم ألا تتناولوا سوى طعام الشكر (والحمد)، وأن تبتعدوا عن جذور (النباتات) الغريبة أي هرطقات الذين يشركون أنفسهم بيسوع المسيح (خادعين الناس) لكي يصدقوهم، (وفي عملهم هذا) يشبهون من دسَّ السم الزعاف في الخمر والعسل، لكيما إذا ما تناوله من لا معرفة له بحقيقته يشرب (كأس) الموت، بشوق. فاحذروا إذن من أمثال هؤلاء.
لتطب نفوسكم بالإيمان المملوء رجاء وهناء بدم (ربنا) يسوع المسيح.
صموا آذانكم عن سماع أي إنسان لا يكلمكم عن يسوع المسيح انه من نسل داود (وقد ولد) من مريم، ذلك الذي ولد، وأكل، وشرب حقاً. وصلب، ومات، حقاً على مرأى من سكان السماء والأرض، ومن تحت الأرض، وقام من بين الأموات حقاً، وقد أقامه أبوه كما سيقيمنا أيضاً أبو (ربنا) يسوع المسيح نحن المؤمنين به. الذي بدونه لا حياة لنا حقيقية.
فلو كانت آلامه خيالية وهمية كما يدّعي بعض الملحدين أي الذين لا إيمان لهم، وهم كذبة ومرتابون، فهل نافعي أن أصفد بالأغلال، ولماذا أصلي طالباً (إلى اللـه) أن تفترسني الوحوش؟ أأموت عبثاً؟ ألعل كلامي عن الرب محض كذب؟. اهربوا اذن من النباتات الضارة التي تنتج ثمار الموت، التي من أكل منها مات حالاً وهذه ليست كالغرسة التي غرسها الآب، فلو كانت مما غرسه الآب لظهرت كأغصان (لخشبة) الصليب، ولكانت ثمارها تثبت بدون فساد في آلام صليب ربكم الذي أنتم أعضاء (جسده).
من رسالته إلى أهل الإيمان في رومة:
اقتبس أوسابيوس القيصري (340+) بعض العبارات من هذه الرسالة دوّنها في تاريخه الكنسي[76] رأينا أن نوردها ههنا وهي كالآتي: «من سوريا إلى روما أحارب وحوشاً برية، براً وبحراً، ليلا ونهاراً، إذ كنت موثقاً بين عشرة فهود أي جماعة من الجند لا يزدادون شراسة إلا أنّ أحسنت معاملتهم وعلى أي حال فإنني في وسط إساءاتهم ازداد تعلم شروط التلمذة ولكنني مع ذلك لست مبرراً[77].
ليتني أسر بالوحوش المعدة لي وإنني أصلي أن أجدها معدة، وسألاطفها لكي تبتلعني بسرعة ولكي لا تعاملني كما فعلت بالبعض الذين رفضت أن تمسهم بسبب الخوف وإن رفضت فسألزمها سامحوني، فإنني أعرف ما يلائمني.
لقد بدأت الآن أن أكون تلميذاً لا يحاولنّ أحد من المنظورين أو غير المنظورين أن يمنعني م الحظوة بالمسيح، فلتقبل إلي النيران والصليب، وهجوم الوحوش، وسحق العظام، وتمزيق الأطراف وسحق كل الجسد، وتعذيبات إبليس، إن كنت بذلك أصل إلى يسوع المسيح» آه.
ومما جاء في تلك الرسالة أيضاً:
أسألكم واحدة: أن تدعوني أقدم للـه سفك دمي لأن المذبح قد نصب، وبإمكانكم أن تجتمعوا حوله بالمحبة كجوقة ترتيل لأناس يعبدون اللّـه حسناً، فترنمون ترانيم الحمد للآب السماوي وابنه يسوع المسيح لأنه تنازل فجذبني من الشرق إلى الغرب مقيداً، لاعترف هناك باسمه العظيم وأصير لأجله ضحية حية. جيد جداً أن أرقد بعيداً عن العالم لأقوم للـه. فاستمدوا لي بدعائكم قوة لكي أكون مسيحياً لا بالكلام بل بالقلب، لا بالاسم فحسب بل بالفعل أيضاً. فالذي يجعل الإنسان مسيحياً ليس الكلام ولا الظواهر، بل شهادة النفس والثبات في الفضيلة.
أنا أكتب إلى جميع الكنائس قائلا: إنني ماضٍ لأموت في سبيل اللّـه فرحاً… دعوني إذن لأصير مأكلاً للأسود والدواب، فاني بواسطتها أصل إلى الله. فإنني حنطة اللّـه ينبغي أن أطحن لأصير دقيقاً ناعماً ليصبح خبزاً للمسيح يسوع نقياً خالياً من كل عيب. الأفضل أن تلاطفوا هذه الحيوانات، حتى تكون قبري، ولاتدع شيئاً يبقى من جسدي فلا أثقل على أحد بدفني.
لا لذة لي بخيرات العالم كلها، ولا فائدة ترجى لي منها، بل انه لأفضل لي بكثير أن أموت من أجل المسيح من أن أملك على الدنيا بأسرها؟ فإنني أقتفي أثر من مات لأجلنا، ولا أطلب سواه… ولم أعد أطلب قوتاً إلاّ خبز اللـه. الخبز السماوي، خبز الحياة، الذي هو جسد يسوع المسيح ابن اللـه، ولا أرغب في شراب سوى دم هذا الإله المتجسد ذاته… فاقبلوا إذن أن أموت من أجل يسوع المسيح… تحننوا عليّ أيها الأخوة ولا تمنعوني من أن أولد للحياة… دعوني أتمثل بآلام الهي… من كان اللّـه في قلبه يفهم رغباتي…
لم يُمْلِ الجسد علي هذه الرسالة، بل روح اللـه.
صلوا لأجل كنيسة سوريا. فبعد أن أُخِذتُ منها، لم يبق لها راعٍ سوى اللّـه تعالى.
من رسالته إلى بوليقربوس أسقف أزمير:
أحمد اللّـه الذي أنعم علي لأرى وجهك المقدس، وأبتهج بالرب الإله، وأرجوك بحق الموهبة التي نلتها منه تعالى، أن تواصل جهادك بهمة، واجتهاد أفضل.
انه لجدير بالمتزوجين، رجالاً ونساءً، ألا يعقدوا زواجهم بدون موافقة الأسقف. ليكون الزواج بروح اللـه، ولتقديس اسمه تعالى.
وفيما يأتي تعريب ما اقتبس من رسالته إلى بوليقربوس أسقف أزمير، ونقل إلى السريانية، وأدخل مجموعة القوانين الكنسيّة لكنيستنا السريانية المقدسة:
لا يحيرك (ويقلقك) أولئك الذين يظنون أنفسهم شيئاً، ويعلّمون تعاليم غريبة. أما أنت فاثبت على الحق كجبار يتحمل (صابراً) فإذا كان المصارع الماهر يتحمل (الضربات التي تصيبه) وبالنهاية ينتصر. فكم بالحري يجب علينا أن نتحمل كل شيء في سبيل اللـه، لكي يتحملنا اللّـه أيضاً.
اهتموا بالأسقف، (معتنين به)، لكي يشملكم اللّـه بعنايته إنني أقدم نفسي لأجلكم يا من تطيعون الأسقف والقسيسين والشمامسة. وليؤهلني اللّـه وإياهم للحصول على حصة معه تعالى (في ملكوته السماوي).
يجدر بك أيها المغبوط من اللّـه يا بوليقربوس، أن تعقد اجتماعاً من المستشارين ليشيروا بما يليق لمجد اللـه، وتختار من هو محبوب كثيراً لديكم، ومجتهداً جداً، وبإمكانه أن يكون ويدعى المرسل من اللـه، ويرضى أن يذهب إلى سوريا. ليثنوا على محبتكم المضطرمة، لمجد اللّـه تعالى، فالمسيحي لا سلطة له على ذاته ولكنه يجب أن يكون مستعداً في كل حين لعمل مشيئة اللـه. وهذا عمل اللـه. ويصير عملكم أيضاً إذا أتممتموه.
من رسالته إلى أهل الإيمان في فيلادلفيا:
تجنبوا الانقسامات وابتعدوا عن التعاليم الخبيثة يا بني النور لا تضلوا إن من يتبع مبتدع هرطقة لا يرث ملكوت اللـه. وليس له نصيب في آلام ربنا يسوع المسيح.
وفيما يأتي تعريب ما اقتبس من هذه الرسالة ونقل إلى السريانية، وأدخل مجموعة القوانين الكنسية السريانية المقدسة:
إن الذين مع اللـه، ويسوع المسيح، هم المتحدون مع أسقفهم. وكذلك الذين يتوبون ويعودون إلى الاتحاد بالكنيسة يصيرون أيضاً (أولاداً) للـه ليحيوا بيسوع المسيح. لا تضلوا يا أخوتي، إن كل من يتبع فاعل شقاق في كنيسة اللّـه لا يرث ملكوت اللـه. وكل من يتبع تعاليم غريبة لا يقبل آلام المسيح فاجتهدوا أن تتمسكوا بعقيدة واحدة. لا تشتركوا إلا بسر الشكر الواحد لأنه لا يوجد غير جسد واحد لربنا يسوع المسيح وكأس واحدة توحدنا بدمه ومذبح واحد….
عندما كنت عندكم، ناديت بصوت جهوري هو صوت اللّـه وقلت: اذعنوا للأسقف وللقسيسين والشمامسة. وظن أناس أنني تكلمت بهذا لسابق علمي بوجود تصدع في صفوفكم، يشهد لي من أنا مكبل بالقيود من أجل أسمه، ان أحداً لم يخبرني بذلك الانشقاق، ولكن الروح (القدس) كان ينطق فيَّ وبوساطتي كان يقول ذلك. إنكم بدون الأسقف يجب ألا تقدموا على عمل ما (بما يخص الكنيسة) وأقول لكم أيضاً أنني توقّعت أن السلام قد حلّ في كنيسة سوريا. فخليق بكم، ككنيسة اللّـه أن تختاروا شماساً ترسلونه إلى هناك كأنه مرسل من اللّـه ليقدم لهم التهاني ويشاركهم فرحتهم جميعاً، وهم مجتمعون يسبّحون اسم الرب. إن من يستحق القيام بهذه الخدمة سعيد بيسوع المسيح، وأنتم أيضاً تمدحونه وإذ ترغبون في ذلك لا يصعب عليكم القيام بهذا الأمر، لمجد اسم اللّـه (القدوس) كما فعلت بعض الكنائس المقدسة فبعضها أرسلت أساقفتها، وبعضها أرسلت قسساً وشمامسة.
من رسالته إلى أهل الإيمان في أزمير:
إنني أعلم وأؤمن أن الرب يسوع المسيح كان في الجسد حتى بعد قيامته (من الأموات) لما ظهر لبطرس ورفقائه بعد قيامته قال لهم المسوني وجسوني وانظروا إنني لست روحاً لا جسد له، وللحال لمسوه وآمنوا[78] وقد أكل يسوع وشرب أمامهم بعد قيامته كمن له جسد[79] على الرغم من اتحاده مع الآب السماوي بالروح. لو أن ربنا صنع (سائر أعماله) في الظاهر فقط، لكنت أنا أيضاً مكبلاً بالأغلال في الظاهر لا غير. فلماذا أسلمت ذاتي للموت بالنار والسيف بين أنياب الوحوش الكاسرة؟ إن من كان قريباً من (الاستشهاد) بالسيف فهو قريب من اللّـه ومن كان بين أشداق الوحوش الضارية فهو موجود مع اللّـه على أن يتحمل كل شيء لأجل اسم يسوع المسيح. وأنا أتحمل صنوف العذاب لكي أشترك بآلام الرب الذي صار إنساناً كاملا، هو يهبني قوة.
تجنّبوا الذين يمتنعون عن الأوخارستيا والصلاة، وينكرون أننا في الأوخارستيا نتناول جسد (الرب) يسوع ودمه، ذلك الجسد الذي تحمل الآلام من أجل خطايانا (ومات) وأقامه الآب السماوي بصلاحه. وهكذا فان الذين يكفرون بهبة اللّـه يموتون… وكان جديراً بهم أن يتمسكوا بالمحبة لكي يشتركوا بالقيامة. ابتعدوا عنهم..
أطيعوا الأسقف كما أطاع (الرب) يسوع المسيح أباه السماوي وأخضعوا للقسس خضوعكم للرسل، وأكرموا الشمامسة إكرامكم لشريعة اللـه. لا تعملوا شيئاً (فيما يخص الكنيسة) بدون الأسقف، ولا تكون الأوخارستيا صحيحة ما لم يحتفل به برئاسة الأسقف أو بتفويض منه.
إن الكنيسة هي حيث يوجد الأسقف، والكنيسة الجامعة هي حيث يوجد المسيح يسوع. بدون الأسقف لا يسمح بالعماد. ولا بالاحتفال بالأغابية (طعام المحبة وتوزيع الخبز) وكل ما يقره الأسقف مقبول لدى اللـه، وما يصنع (في الكنيسة) بأمره فهو الصحيح حتماً.
من يكرم الأسقف يكرمه اللـه. ومن يتصرف بدون معرفة الأسقف يعبد الشيطان.
لقد استجيبت صلواتكم لأجل كنيسة أنطاكية في سوريا. أنا قادم من هناك مصفداً بالأغلال الحديدية الثمينة لدى اللـه. أنا الصغير بين مؤمني هذه الكنيسة بل لا أستحق أن أكون في عداد المؤمنين فيها. ولكن إرادة اللّـه بنعمته تعالى رفعتني إلى هذا الشرف الأثيل.
القديس ثاوفيلوس البطريرك الأنطاكي السابع
أحد آباء الدفاع عن المسيحية (169 ـ 181 أو 185+)
قال فيه المؤرخ أوسابيوس القيصري (264 ـ 340+) ما يأتي: «في ذلك الوقت (أي في السنة الثامنة من حكم الامبراطور مرقس أوراليوس) اشتهر ثاوفيلوس سادس أسقف على كنيسة أنطاكية من عهد الرسل، لأن كرنيليوس الذي خلف هيرون كان الرابع، وبعده أقيم ايروس (أوروس) أسقفاً، وهو الخامس في الترتيب»[80] وإذا ابتدأنا بسلسلة أساقفة أنطاكية بالرسول بطرس مؤسس الكرسي، وأول أساقفته، يعد ثاوفيلوس الأسقف السابع لأنطاكية[81].
ولادته ونشأته:
ولد ثاوفيلوس وثنياً في إحدى مدن ما بين النهرين، ـ دجلة والفرات ـ كما يستدل من كتابه الدفاعي الموجه إلى أورتوليكس. ودرس العلوم اليونانية، والتاريخ، وشعر هوميروس واسيود، ومناقشات أفلاطون، وتعمق في دراسة الفلسفة، وألم باللغة العبرية[82].
تنصره:
لم تُجدِ العلوم الفلسفية ثاوفيلوس نفعاً، فقد كان معذب الضمير، مضطرب النفس غير مقتنع بعبادة الأوثان، وكان متعطشاً إلى معرفة الإله الحقيقي، وإدراك سر حقيقة الحياة بعد الموت. ويذكر في كتابه الدفاعي الموجه إلى أورتوليكس، انه لما درس أسفار أنبياء النظام القديم في الكتاب المقدس، انكشفت أمام ناظريه الحقائق الإلهية فاستنارت عين بصيرته بنور الهي عجيب، وتبين له عمل الروح الإلهي الذي لقن أولئك الأنبياء أموراً جليلة، قبل وقوعها بمدة طويلة، ووقعت في الموعد الذي حدده لها الوحي الإلهي. وخاصة ما تنبأ به أولئك الأنبياء عن السيد المسيح، مخلص العالم، قبل مجيئه إلى العالم بالجسد، بقرون عديدة، وقد تمت هذه النبوات بالرب يسوع، بحذافيرها، وفي الزمن المحدد لها، والأمكنة المعينة لحدوثها، وبالكيفية التي ذكرها أولئك الأنبياء، وكأنهم كانوا شهود عيان. فآمن ثاوفيلوس بصدق الوحي الإلهي، وبحقيقة قيامة الأموات التي كان يرتاب فيها كثيراً. وهكذا وجد في الدين المسيحي ضالته المنشودة. فتنصر، وامتلأ من الروح القدس والحكمة، وفاح شذا فضائله، وعبقت منه الكنيسة المقدسة.
جلوسه على الكرسي الأنطاكي:
ولما فرغ الكرسي الرسولي الأنطاكي، بانتقال أسقفه كرنيليوس إلى الخدور العلوية سنة 196، انتخب مار ثاوفيلوس أسقفاً عليه، في فترة زمنية عصيبة.
الحملات الفكرية ضد المسيحية:
فقد واجه المسيحية، في فجرها، خاصة ابتداءً من أوائل القرن الثاني للميلاد، وحتى انعقاد مجمع نيقية عام 325م، خطران فادحان، أحدهما خارجي، والآخر داخلي، أما الخطر الخارجي فهو العداء العنيف الذي أثاره ضدها اليهود الحاقدون على الرب يسوع وأتباعه. فكانوا يفترون على الكنيسة افتراءات باطلة. كما وجّه ضدها كتّاب الوثنية الحاذقون في فن الجدل، سهام انتقاداتهم الحادة، مهاجمين العقائد المسيحية السمحة، بشخص السيد المسيح، وعجائبه، وموته، وقيامته، وحقيقة الوحي الإلهي، والقيامة العامة، والنعيم والجحيم، والخلود، والأبدية، وكانوا يرمون المسيحية بأشنع التهم كالإلحاد، والدعارة، وأكل لحوم البشر. مستندين بذلك إلى أقاويل العامة وظنونهم الفاسدة. أما الإلحاد فلرفض المسيحيين السجود لصنم أو تمثال، أما أكل لحوم البشر فلسوء فهم عقيدة تناول القربان المقدس وإيمان المسيحيين بأنهم بتناولهم الخبز والخمر المقدسين إنما هم يتناولون جسد الرب يسوع ودمه الأقدسين تحت شكلي الخبز والخمر. أما تهمة الدعارة، فقد نشأت لدى أعداء المسيحية، من التفسير الشهواني لكلمة «المحبة» و«قبلة السلام».
وكان الشخص البارز بين من أثار هذه الحملات الفكرية التهجمية ضد المسيحية في القرن الثاني للميلاد، هو الفيلسوف اليوناني كلسوس. وبالقيام بهذه الحملة الفكرية تمكن اليهود والوثنيون، من إثارة عامة الشعب ضد أتباع السيد المسيح، ليبرروا بذلك الاضطهاد الجسماني الذي أثاروه ضدهم بغضة وعدواناً، للتنكيل بهم، وتعذيبهم، ومحاولة إبادتهم، ما لم ينكروا الإيمان بالسيد المسيح ويرتدوا إلى الوثنية. ومما ساعدهم على بلوغ أربهم، اعتبار الأباطرة الرومانيين، الديانة المسيحية، غير شرعية. لذلك فمن أقرّ بأنه مسيحي عرّض نفسه للموت، لأنه يعد من أعداء المملكة.
الدفاع عن المسيحية:
أما رد الفعل الذي بدا من المسيحيين، فهو أنهم لم يقدموا على القيام بدفاع عسكري، لأنهم لا يؤمنون بالعنف، وقد أمروا بمحبة الأعداء، ولكنهم لم يتنازلوا للدولة الوثنية عن مبادئهم الدينية، لذلك جنّد آباء الكنيسة الميامين وعلماؤها الفطاحل، أنفسهم لصد هذه الهجمات الفكرية العدائية، واستنكار الاضطهادات الجسدية، بكتابات وجهوها إلى القيصر، أو رجال المشيخة، أو إلى الجمهور، أو بعض الخاصة من اليهود والوثنيين، صدوا بها سهام أعدائهم إلى نحورهم، ونفوا عن المسيحية التهم الباطلة التي حاول أولئك الأعداء إلصاقها بهم. ثم أقاموا الحجج الدامغة على صحَّة الدين المسيحي، وسموّ تعاليمه، وبرهنوا على صحة مجيء السيد المسيح الذي تنبأ عنه الأنبياء، وانتظرته الشعوب. وربطوا العقائد المسيحية بكتابات أسفار العهد القديم من الكتاب المقدس، ليوضّحوا بأن المسيحية لم تكن بدعة حديثة، كما اتهمها أعداؤها، بل هي مؤسسة إلهية قديمة جداً ومحترمة. وأن رسالة الرب يسوع هي رسالة الفداء التي كان العالم بأمس الحاجة إليها للتكفير عن خطاياه، ونيل السعادة الأبدية.. وهاجم أولئك العلماء سخافة الديانة الوثنية الفاسدة، واليهودية الضالة، الحاقدة، التي ابتعدت عن ينابيع الوحي ولم تفهم النبوات فلم تؤمن بالمسيح. وقد دعي أولئك الآباء والعلماء بكتّاب الاحتجاج أو علماء الدفاع عن عقائد المسيحية وآدابها.
وممن برز في هذا المضمار، في القرن الثاني للميلاد، اريستيد فيلسوف أثينا الذي رفع احتجاجه إلى القيصر في حدود 140م وقد وُجدت نسخة احتجاجه باللغة السريانية في خزانة كتب دير طور سينا[83]. والقديس يوستينوس الذي استشهد سنة 166م ولأهمية كتاباته سنتناول ترجمة حياته ومؤلفاته بالتفصيل بعد الانتهاء من دراستنا ترجمة القديس ثاوفيلوس. كما ألف أثيناغورس الاثيني رسالته المعنونة بـ«التماس لأجل النصارى» التي وجهها إلى القيصرين مرقس اوراليوس ولوقيوس أوراليوس بين سنة 176 ـ 178م.
الهرطقات الخبيثة:
أما الخطر الذي جابه المسيحية من الداخل، عصرئذ، فهو ظهور الهرطقات الخبيثة التي حاول أعداء المسيحية دسها بعقائدها القويمة، لبلبلة الأفكار السليمة، وتشويشها، وزرع الشكوك في صحة ما تسلمته الكنيسة من الرسل الأطهار من تعاليم إلهية صحيحة، وتقاليد شريفة. فنهض آباء الكنيسة مدافعين أيضاً عن تعاليمها وتقاليدها، وبإرشاد الروح القدس وقيادته، فحصوا الأسفار المقدسة التي يتألف منها كتاب العهد الجديد الآن، وبسلطانهم الرسولي أقرّوا بأنها أسفار قانونية، موحى بها من الله. كما نبذوا الكتب المزورة.
كان لدفاع آباء الكنيسة ومعلميها عن الحق المسيحي، ثمار طيبة، فقد نالت المسيحية بذلك احترام الأوساط العلمية والفلسفية التي كانت تهتم بالنواحي الفكرية. كما جذبت انتباه العديد من المفكرين فدرسوا العقائد المسيحية، الأمر الذي مهد أمامهم الطريق للتعرف على المسيح المخلص، وكان خير وسيلة لاقتناعهم بسمو الدين المسيحي، فتنصروا. كما دفع آباء الكنيسة إلى تحديد العقائد المسيحية والدفاع عن صحتها.
مار ثاوفيلوس يدافع عن المسيحية:
قال أوسابيوس القيصري (340+): «وقد ناضل ثاوفيلوس مع غيره (ضد الهراطقة الذين كانوا كالزؤان مفسدين الحصاد النقي الذي للتعاليم الرسولية). وهذا ما يتضح من بحث جليل الشأن كتبه ضد مرقيون. وقد حفظ إلى اليوم هذا المؤلف أيضاً مع باقي المؤلفات». وهذه المؤلفات الأخيرة هي التي ذكرها أوسابيوس بقوله: «فلا يزال باقياً لثاوفيلوس ثلاثة مؤلفات أولية موجهة إلى اتوليكوس، ومؤلف آخر عنوانه «ضد هرطقة هرموجينس» فيه يقتبس بعض الشهادات من رؤيا يوحنا، وأخيراً بعض كتب تعليمية أخرى»[84] كلها تصلح لتعليم المسيحي وتهذيبه.
كان مار ثاوفيلوس أديباً، بليغ العبارة باللغة اليوناينة، وكاتباً طويل الباع في الإنشاء. وفي كتاباته، دحض ببراهين قاطعة افتراءات اليهودية، وتهجمات الوثنية، مستنكراً الاضطهادات التي أثارها أباطرة الرومان وحكامهم ضد المسيحية الودعاء الذين تحملوا صنوف العذاب بصبر جميل. معلناً براءتهم مما أُلصق بهم من تُهم باطلة، كما فنّد بكتاباته آراء الهراطقة، ونبذ تعاليمهم الفاسدة، نبذ النواة، وذلك في مؤلفاته ضد مرقيون وهرموجانيس الإفريقي التي ذكرها أوسابيوس. وله كتاب في تكوين العالم وأصل الإنسان، أشار إليه في رسالته الثانية إلى أوتوليكوس، كما له كتاب في التعليم المسيحي. وذكر هيرونيموس (331 ـ 420) أنه عنّ لمار ثاوفيلوس جمع الأناجيل الأربعة في كتاب واحد[85]، وكتب في تفسير الإنجيل، وفي شرح أمثال سليمان[86] وأنه أول من صرّح بأن كاتب الإنجيل الرابع هو يوحنا الرسول[87]. ومما يؤسف له أنه لم يبقَ من مصنفاته هذه كلها سوى نتف ولم يصلنا سوى كتابه الذي ينطوي على ثلاث رسائل نفيسة وجهها إلى اتوليكوس الذي قال عنه ثاوفيلوس انه كان أحد أصدقائه الوثنيين الذين مجّدوا آلهتهم، وأنه كان حاكماً في أنطاكية[88]، وقد ألّف كتباً سخر فيها من الدين المسيحي، وأنّب ثاوفيلوس لاعتناقه هذا الدين وأخذ يهزأ من فكرة الإله غير المنظور، وأرونا إلهكم؟! وأرونا ميتاً عاد إلى الحياة؟! وقيل أن أوتوليكوس هذا كان شخصاً وهمياً جعل منه الأسقف ثاوفيلوس هدفاً للنصح والإرشاد[89]، وهذا الرأي ضعيف.
وقد فنَّد مار ثاوفيلوس ادعاءات أوتوليكوس وافتراءاته الباطلة ضد المسيحيين، متناولاً بالبحث في رسالته الأولى، طبيعة اللّـه ومظهراً أن اللّـه تعالى غير منظور، ولكن المؤمن النقي القلب يراه لا بالعين المجردة، بل بالإيمان، ويراه أيضاً بالتأمل بمخلوقاته العجيبة التي خلقها وأوجد لها نظاماً عجيباً تسير بموجبه، وهو أيضاً يدبرها بحكمته.
ويستهل رسالته الثانية بخلاصة ما جاء في الأولى عاقداً المقارنة بين سمو التعاليم المسيحية، وعجز الخرافات الوثنية، وتطرَّق إلى النبوات التي أوحى بها اللّـه إلى أنبيائه والتي تمت بحذافيرها فيما بعد. كما يسخر من الفلاسفة الذين يدّعون الحكمة وهم يعبدون أصناماً لاحسّ لها، مما يبرهن على جهلهم.
وفي رسالته الثالثة رد على قول أوتوليكوس أن الدين المسيحي حديث العهد. فربط ثاوفيلوس حقائق الدين المسيحي بنبوات العهد القديم وذكر أن أولئك الأنبياء أقدم من فلاسفة اليونان ومشترعيهم.
ومما يقوله ثاوفيلوس لأوتوليكوس: «إنك تسيء الحكم على اللّـه لأنك لا تمارس عبادته. وقد كنت أنا أيضاً كذلك أرفض الإيمان به، ولكنني بعدما أعملت الفكر أصبحت مؤمناً. وعندي في اللّـه ما يضمنني، فإذا صحّ عزمك سهّلت عليك طاعة اللـه»[90] ويقول أيضاً: «إن اسم المسيح يدل على الممسوح، وهو اسم شريف يبعث في القلب سروراً، وجدير بغاية الوقار، فإذاً لهذا السبب ندعى مسيحيين لأننا نمسح بزيت مقدس»[91].
لفظة التثليث:
ومما هو جدير بالذكر، أن بعض اللاهوتيين يعتقدون بأن مار ثاوفيلوس هو أول من استعمل لفظة التثليث في الثالوث الأقدس والجوهر الواحد[92] علماً بأن المكاشفة بالثالوث الأقدس جاءت في الإنجيل المقدس وسائر أسفار العهد الجديد، وهي واضحة بتعابيرها. كما أن ثاوفيلوس لم يشعر بحرج في استعمال هذه اللفظة، وإلا لكان حاول شرحها والتعريف بها[93].
انتقاله إلى جوار ربه:
بعد ما خدم مار ثاوفيلوس الكرسي الأنطاكي نحو ثلاث عشر سنة، انتقل إلى الخدور العلوية بين سنة 181 و185 وعيدت له الكنيسة الشرقية في 23 تموز والكنيسة الغربية في 18 تشرين الأول[94].
القديس يوستينوس الفيلسوف (167+)
وممن اشتهر أيضاً في ميدان الدفاع عن المسيحية وعقائدها السمحة وتقاليدها الشريفة في القرن الثاني للميلاد، القديس يوستينوس.
نشأته:
ولد يوستينوس وثنياً في مدينة نابلس في السامرة في فلسطين سنة 100 ـ 110 للميلاد. ودرس الفلسفة فصار فيلسوفاً سامرياً، وتقلب في المذاهب الفلسفية: الرواقية والأكاديمية، والفيثاغورية، وتبع خاصة الأفلاطونية فلم ترو هذه المذاهب الفلسفية ظمأه.
تنصره:
وفي مجال بحثه عن الحق كان كريشة في مهب الريح حتى كان ذات يوم يسير على شاطئ البحر في مدينة أفسس، شارد الذهن مضطرب النفس، إذا بشيخ طاعن في السن يرافقه ويخاطبه عن عدم جدوى النظريات الفلسفية في العقائد الدينية، وأرشده إلى أسفار الكتاب المقدس التي كتبها الأنبياء الأتقياء بوحي السماء، قبل ظهور الفلاسفة اليونان، وكان أولئك الأنبياء منزهين عن الكذب، وقد تنبّؤوا عن مجيء السيد المسيح وتمت نبواتهم بحذافيرها فيه. وختم الشيخ كلامه قائلاً ليوستينوس «عليك أيها الشاب الطالب المعرفة الحقيقية بمطالعة كتب هؤلاء الأنبياء لكي تستدل على معرفة الحق. وأن تطلب أولاً من اللّـه ليفتح لك أبواب الحياة ليهبط على قلبك النور السماوي، لأن هذه الأمور لا تُفهم ما لم يهب اللّـه ومسيحه معرفتها للإنسان». وغاب الشيخ من أمام عينيه فجأة، ولم يلتقه ثانية، ولكنه أخذ بمشورته فانكبَّ على دراسة أسفار الكتاب المقدس وخاصة أسفار الأنبياء، وعاشر أتباع السيد المسيح فأنار الروح القدس قلبه فتفتق ذهنه، وفهم أسرار الدين المسيحي وآمن بالرب يسوع واعتمد[95] وكان عمره نحو ثلاثين سنة، ولم يخلع ثوبه الفلسفي بل جال فيه مبشراً الطبقات المثقفة، ونفخ في الفلسفة اليونانية روحاً مسيحية فكان أول الفلاسفة المسيحيين، وزهد في الدنيا، ورسم كاهناً وقد دعاه أوسابيوس القيصري «محب الحكمة الحقيقية». وجادل الوثنيين واليهود وجذب عدداً غفيراً منهم إلى الإيمان المسيحي. وذهب إلى روما مرتين واختير للوعظ والإرشاد وأنشأ فيها مدرسة[96]. ويُعد أبرز كتّاب الدفاع عن المسيحية في القرن الثاني للميلاد.
أهم مؤلفاته:
قال أوسابيوس القيصري: «وقد نجح يوستينوس هذا في نضاله ضد اليونانيين، ووجه أحاديث متضمنة احتجاجاً ودفاعاً عن إيماننا إلى الإمبراطور أنطونينوس الملقب بيوس، والى مجلس الأعيان الروماني لأنه كان يعيش في روما»[97].
ويدوّن أوسابيوس في تاريخه مقدمة الدفاع الموجّه إلى أنطونينوس غير ذاكر فيما إذا كان دفاعاً واحداً أو دفاعين. وهذه هي المقدمة: «إلى الإمبراطور تيطس اليوس أدريان أنطونينوس قيصر أوغسطس وإلى فيريسيموس[98] وابنه الفيلسوف وإلى لوسيوس الفيلسوف ابن قيصر بالولادة وابن بيوس بالتبني، محب الاطلاع، وإلى مجلس الأعيان المقدس، وإلى كل الشعب الروماني، وأنا يوستيينوس بن بريسكوس وحفيد باكيوس الذي من فلافيانيا بوليس في فلسطين سوريا، وأوجه هذا الخطاب والالتماس نيابة عن المبغضين والمضطهدين ظلماً في كل أمة، وأنا واحد منهم»[99] ومما يقوله: «إن اللفظ «مسيحي» كاللفظ «فيلسوف» لا يشكل في حد ذاته جرماً أو براءة. وإن المسيحيين أبرياء. ولابتعادهم عن إتيان الشر يمثلون العنصر الأفضل في المملكة… وإن الإضطهاد يهيئ للمسيحيين ظرفاً يظهرون فيه تفوق دينهم على الأديان الوثنية… وإن الوثنية من عمل الشيطان»[100].
ويبدأ يوستينوس القسم الثاني من دفاعه الموجه إلى القيصر بذكر حكم الاعدام الذي أصدره حاكم رومة على ثلاثة من المسيحيين، وكان ذلك إن رجلا مسيحياً اسمه بطليموس اشتكى عليه لدى حاكم رومة بأنه مسيحيٌّ، فأمر الحاكم باعدامه. فتقدم مسيحي آخر اسمه لوسيوس سائلاً الحاكم لماذا حكمت على هذا الإنسان بالاعدام، مع أنه ليس بقاتل، ولا بسارق، ولم يرتكب ذنباً آخر سوى أنه يدعو ذاته مسيحياً؟ فأجابه الحاكم بقوله: وهل أنت مسيحي أيضاً؟ فأجاب لوسيوس نعم أنا مسيحي. فأمر الحاكم بأن يعدم لوسيوس مع رفيقه. واذا وجد شخص ثالث اعترف أيضاً بأنه مسيحي، وضمه الحاكم إلى الاثنين الأولين فقُتلوا في آن واحد. فأبتدأ يوستينوس احتجاجه بسرد وقائع هذه الحادثة الاليمة مبيناً الظلم الواقع على المسيحيين، ومما قاله: إنهم لو كانوا بالحقيقة قوماً أشراراً لما كانوا يقبلون الموت بفرح بسبب اعترافهم بدينهم»… وكتب يوستينوس أموراً أخرى للإمبراطور ملتمساً منه معاملة المسيحيين بالعدل والرحمة. مفنداً التهم الباطلة الموجهة ضدهم، وسماهم: «كرماً غرسته يد اللـه»[101].
وقد صدَّ يوستينوس هجمات اليهود الفكرية في محاورته مع تريفون اليهودي في أفسس التي دامت مدة يومين، ودونها يوستينوس بكتاب. وفيها برهن على اتمام النبوات التي ذكرها أنبياء العهد القديم بالرب يسوع، ماسيا المنتظر. ويشرح أن الناموس المسيحي هو ناموس الكمال وأنَّ ناموس موسى كان موقتاً، وان الشعب الذي يؤمن بالمسيح ويعمل بوصاياه يحق له أن يدعى شعب اللـه[102].
ويشرّع يوستينوس فيما كتبه من كتب الدفاع عن المسيحية، بعض عقائد المسيحية وطقوسها[103] وفي هذا المضمار يعد أول كاتب مسيحي، يكشف للوثنيين واليهود عن بعض طقوس المسيحية وفرائضها، فقد شرح كيفية قبول الفرد في حظيرة المسيح بعد قبوله الإيمان، واجتيازه الاختبار، وكيف أن المسيحيين يأخذونه إلى جدول ماء قريب، حيث يقبل سر العماد المقدس ثم يأتون به إلى حيث يجتمع المقدس. ويقول يوستينوس عن القربان المقدس انه يدعى سر الشكر «الافخارستية» ولايحق أن يتناوله الامن تمسك بالإيمان القويم الذي يتمسك به أتباع المسيح الحقيقيون ويكون قد تنقى من خطاياه وحفظ وصايا الرب يسوع، وتعاليمه الالهية. وان الخبز والخمر اللذين يتناولهما المؤمن، بعد تقديسهما، هما سر جسد الكلمة والمتجسد ودمه[104].
استشهاده:
أفحم يوستينوس فيلسوفاً وثنياً اسمه قريسقوس، فحقد هذا عليه، ووشى به، وبستة آخرين، لدى روستيكوس والي رومة، فاستجوبهم هذا، فاعترفوا بإيمانهم جهراً[105] وحاول الوالي اقناعهم بوجوب الخضوع للآلهة الوثنية والسجود لها فأبوا قائلين أنهم يخضعون للأوامر الإلهية الصادرة من السماء. ثم سأل الوالي القديس يوستينوس عن عمله، وكيف وصل إلى الإيمان بالمسيح، فقدم يوستينوس شهادته عن كيفية تفتيشه عن الإله الحقيقي حتى وجده. وبدأ القديس يشرح للوالي طريق الخلاص بالمسيح ونيل الحياة الأبدية فأجابه الوالي قائلاً: هل تظن بأنني إذا أمرت بضربك من الرأس إلى القدم وأعدمتك الحياة أنك تذهب إلى السماء. أجاب يوستينوس: إنني واثق من ذلك وليس لي فيه أدنى ريب أو شك… حينذاك اشتد غضب الوالي وحكم على يوستينوس ورفقائه الستة بقطع رؤوسهم، بعد تعذيبهم، فأخذهم الجلادون إلى موضع الاعدام، وقد امتلأت قلوبهم فرحاً، «لأنه قد وهب لهم لأجل المسيح لا أن يؤمنوا به فقط بل أن يتألموا لأجله» (في 1: 29) لذلك كانوا ينشدون الترانيم الروحية ممجدين اللـه. وبعد ضربهم بالعصي بضراوة ووحشية، ضرب الجلادون أعناقهم ففاضت أرواحهم الطاهرة إلى السماء، وأخذ المؤمنون أجسادهم المقدسة ودفنوها باكرام. وكان ذلك بين 163 و167 للميلاد.
ومما دوّنه مار يوستينوس في كتاباته التي دافع بها عن المسيحية قوله: «لو كنا ننتظر ملكاً أرضياً لما كنا نمضي إلى الموت بسرور بل كنا ننكر أننا مسيحيون لأن نهاية حياتنا هنا معناها نهاية ما نشتهي من ملك أرضي. على أننا نؤمن باللّـه الذي لا يخفى عليه شيء وهذا الاعتقاد يصير فضائلنا خالصة من الرياء وهوذا الأوثان مع رسوم عبادتها القاسية لا تقدر أن تضبط الأشرار لأن خدامها بشر لا تعرف ما في القلوب على أن الناس لو كانوا آمنوا مثلنا بوجود اله واحد مطلع على أسرار القلوب الخفية لكان الخوف يصدّهم عن الشر ويرتدون عن كل فكر شرير. ان الهنا الذي نعبده يحاسب على الأفعال والأقوال حتى الأفكار فإنه يؤاخذ على أدنى فكرٍ رديء»[106].
القديسة الشهيدة بربارة (+235)
تمهيد:
أجمعت الكنائس الرسولية عامة، والشرقية منها خاصة، على تكريم القديسة الشهيدة بربارة، والتشفع بها. إنما اختلف المؤرخون في تحديد زمن ولادتها واستشهادها. فقد ارتأى بعضهم أنها نالت إكليل الشهادة عام 235م إبان الاضطهاد السابع الذي أثاره ضد المسيحية الإمبراطور مكسيميانس الغوثي الأصل (225 ـ 237) ومما يؤيد صحة هذا الرأي، ما جاء في قصتها أنها راسلت العلامة أوريجانس المتوفي عام 255م قد أخذنا بهذا الرأي في كتاباتنا قصتها هذه.
أما الرأي الثاني فيعتبرها أحدى شهيدات الاضطهاد العاشر الذي أثاره الإمبراطور ديوقلطيانس في أوائل القرن الرابع وأنها استشهدت عام 203م[107].
ورغم اختلاف الروايتين في تحديد تاريخ ميلاد القديسة بربارة واستشهادها، ولكنهما تتفقان في ذكر اسم نيقوميدية المدينة التي ولدت فيها ونشأت واستشهدت، واسم أبيها ديوسقوروس، وفي سرد تفاصيل مراحل حياتها وكيفية محاكمتها واستشهادها، وما رافق ذلك من العجائب الباهرة، ونجد هذا التوافق في مختلف النصوص التي دونت بلغات شتى. وقد اعتمدنا في كتابة قصتها هنا على النصوص السريانية والعربية والانكليزية للكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكية.
القديسة الشهيدة بربارة
ولادتها ونشأتها:
ولدت بربارة في أوائل القرن الثالث للميلاد في مدينة نيقوميدية[108] من أعمال بيثينية، وكانت الإبنة الوحيدة لوالدها ديوسقوروس الوثني المتعصب الذي اشتهر في قومه بالغنى الفاحش والجاه مع قساوة القلب وكره شديد للدين المسيحي والمسيحيين. أما وحيدته بربارة فكانت دمثة الأخلاق، لطيفة متواضعة، تحب الناس كافة. وإذ ماتت والدتها وهي في ميعة الصبا، أقام أبوها لها حراساً لتبقى قابعة، عقر قصره المنيف. كما جلب لها أساتذة بارعين يلقونها شتى العلوم اللغوية والفلسفية والتاريخية لتنشأ كسائر فتيات الأغنياء في عصرها مثقفة ثقافة دنيوية ودينية وثنية. كما ملأ أبوها جوانب قصره أصناماً لشتى الآلهة التي كان يعبدها للتمثل له وحيدته في السجود لها والتبخير أمامها.
تنصرها:
نالت بربارة ثقافة دنيوية عالية، ولكنها كانت تشعر بفراغ كبير في عقلها وقلبها، وبعكس أبيها احتقرت الأصنام التي لا حس لها ولا حياة، وبدأت تبحث عن الإله الحقيقي، الذي خلق السماء والأرض، وكان بين خدمها بعض المسيحيين فاستفسرت منهم عن إلههم الذي لا يسكن في حجارة، فشرحوا لها أصول الدين المسيحي وأشاروا عليها لتراسل العلامة أوريجانس أستاذ مدرسة الإسكندرية الكبير، الذي بإمكانه أن يبسط أمام أمثالها من المثقفين والمثقفات حقائق الدين المبين بطريقة فلسفية. فكتبت بربارة إلى أوريجانس بما يدور في رأسها من أفكار دينية فلسفية. وطلبت إليه أن يتنازل ليكون معلماً لها، فابتهج أوريجانس بذلك وأجابها على رسالتها موضحاً حقائق الإيمان المسيحي، وأرسل كتابه بيد تلميذه الأب فالنتياس[109] الذي أوصاه أن يشرح لبربارة بالتفاصيل تعاليم الرب يسوع. ولما قرأت بربارة رسالته امتلأت من الروح القدس، وبشجاعة فائقة أدخلت فالنتيانس إلى قصرها ليكون أحد أساتذتها. فلقَّنها أصول الإيمان المسيحي وشرح لها عقيدة التجسد الإلهي وبتولية العذراء مريم والدة الإله. وبعد أن تعمَّقت بأصول الدين القويم طلبت أن تنال نعمة العماد فعمدها الأب فالنتيانس. فكرست نفسها للرب يسوع وكانت تواظب على الصلاة والتأمل بسيرة الفادي سواد ليلها، وبياض نهارها، وازداد احتقارها للأصنام التي ملأ أبوها القصر فيها.
رفضها الزواج بوثني:
وطلب يدها أحد أبناء النبلاء من الوثنين في نيقوميدية، ففاتحها أبوها بذلك فرفضت الاقتران به، محتجة برغبتها في البقاء إلى جانب أبيها، وصعوبة فراقه والابتعاد عنه. فقرر أبوها أن يعودها البقاء دونه فسافر إلى مدينة أخرى بضعة أيام.
تحطيمها الأصنام وتقديسها الثالوث:
وانتهزت بربارة فرصة غياب أبيها عن القصر. فأكثرت من الصلاة والصيام والتأمل، بالكتب المقدسة وسير القديسين من الشهداء والشهيدات، كما حطمت أصنام أبيها الكثيرة المنتشرة في جوانب القصر. وكان أبوها قد أمر أن يشيد لها في القصر حمام خاص ويفتح فيه شباكان، ففي غيابه أمرت البنائين أن يفتحوا شباكاً ثالثاً كي يكون عدد الشبابيك التي يدخل خلالها النور على عدد الثالوث الأقدس.
ظهور السيد المسيح لها:
وظهر لها الرب يسوع بهيئة طفل صغير جميل جداً، فسُرَّت بذلك لحظات من الزمن وانقلب سرورها حزناً عميقاً لما تغيرت هيئة الطفل الإلهي، إذ تخضب جسمه بالدم فتذكرت الفادي، وتحمله الآلام والصلب في سبيل فداء البشرية. وكانت الملائكة تظهر لها وتعزيها وتشجعها. وهكذا عاشت بربارة السماء على الأرض وشابهت الملائكة طهراً ونقاء.
معرفة أبيها بتنصرها:
عندما عاد ديوسقوروس من رحلته ووجد أن ابنته بربارة قد حطمت أصنامه، هاج كالوحش الكاسر وأوشك في سورة غضبه أن يقضي عليها ضرباً وتجريحاًً ولكنها هربت من أمام وجهه. وبعد أيام فاتحها ثانية بأمر تزويجها من شاب وثني من علية القوم، فرفضت معلنة له بأنها قد وهبت نفسها للرب يسوع، فخرج عن طوره وكاد أن يفتك بها معتبراً كلامها إهانة له، ولدينه الوثني، ثم بدأ يوضح لها مغبة عملها المشين إذ هي أصرت على البقاء على مسيحيتها ورفضت الدين الوثني. وكيف أنه سيفقد مركزه المرموق في الدولة ومكانته الممتازة بين قومه وأبناء جلدته وأشراف مدينته. وإن هي أنكرت الدين المسيحي وارتدت إلى عبادة الأوثان فسيبذل لها المال الكثير ويوفر لها السعادة والهناء. أما إذا أصرت على البقاء على المسيحية فسيغسل عاره بسفك دمها بيده. فطلبت إليه بربارة بدموع سخية أن ينصت إليها ولو مرة واحدة في حياتها، بعد أن يهدأ من ثورته. وشرعت تشرح له بطلان عبادة الأوثان التي لا حياة لها وهي من صنع الإنسان، وضرورة تقديم العبادة للإله الحي القيوم والرب يسوع المسيح ابن اللّـه الحي الذي تنبأ عن مجيئه الأنبياء، فتجسد من الروح القدس والعذراء مريم وخلَّص البشرية بسفك دمه الكريم على صليب الجلجلة. فاحتدم غضب ديوسقوروس وكاد أن يبطش بها وشكا أمرها إلى حاكم المدينة.
اعترافها بالمسيح جهراً:
بناء على شكوى ديوسقوروس استدعى مرقيانس حاكم نيقوميدية الفتاة بربارة ليحاكمها أمام جمهور غفير. وحاول إغراءها بادئ الأمر بالوعود الذهبية، ولكنه باء بالفشل الذريع إذ أظهرت له بربارة احتقارها لكل ما في العالم من مال وجاه ومركز مرموق، وافتخارها بالمسيح يسوع واستعدادها تحمل الآلام الموت في سبيله. فأمر الحاكم جنوده فكبلوها بسلاسل ثم عرّوها من ثيابها وجلدوها بسياط مسننة أطرافها الحديدية وحادة كالسكاكين. فتمزق جسدها الطاهر وسالت دماؤها الزكية وهي صابرة صبر القديسين، لا تشتكي ولا تبكي ولا تئن ولا تفوه بكلمة بذيئة بل تمجد المسيح يسوع الذي أهلها أن تنال الآلام لأجل اسمه القدوس. وتسأله أن يمنحها القوة والحكمة لتعترف به أمام الناس ليعترف بها هو أيضاً أمام أبيه السماوي. ثم أمر الوالي فألقيت في غياهب السجن، واستقدمها في اليوم التالي لاستجوابها ثانية أمام جمع غفير من الناس الذين تعجبوا جداً إذ رأوا جسمها خالياً من آثار السياط، فقد شفى السيد المسيح جراحاتها كلها. وحاول الحاكم ثانية إغراءها وإذ لم تؤثر فيها أيضاً وعوده ووعيده، أمر جنوده فهشَّموا ساقيها بأمشاط من حديد، وحرقوها بمشاعل موقدة، وأكثروا الضرب على رأسها وقطعوا ثدييها، ثم ملّحوا جسدها المثخَّن بالجروح، وأخذوا يجلدونها بضراوة وهي تسبّح اللّـه وتعترف بإيمانها بالمسيح.
يوليانة تؤمن بالمسيح:
ولم يتمالك المشاهدون من أن يذرفوا الدموع منذهلين من صبرها الجميل، وآمن العديد منهم بالمسيح يسوع الذي قوّى إيمان بربارة لتتحمل العذاب بابتهاج في سبيل الإيمان به. ومن بين هؤلاء المشاهدين امرأة وثنية اسمها يوليانة التي آمنت بالمسيح بمعاينتها الكرامات في جهاد بربارة، وحل عليها الروح القدس فملأها شجاعة روحية فتقدمت إلى الحاكم على مشهد من جمهور غفير، وأعلنت إيمانها بالمسيح يسوع واستعدادها لتحمل الآلام في سبيل ذلك. فأمر الوالي جنوده ليوقعوا بها العذاب فأذاقوها أعذبة لا تطاق حتى فاضت روحها الطاهرة إلى السماء ونالت إكليل المجد مع إكليل الشهادة.
مواصلة جهاد بربارة وتحملها:
أما بربارة فأعادوها إلى سجنها المظلم حيث باتت ليلتها، وفي صباح اليوم التالي قادوها للمرة الثالثة مكبلة بالسلاسل وأوقفوها أمام الحاكم على مشهد من جمهور غفير، وكم كانت دهشة الناس عظيمة إذ رأوها بكامل صحتها ولا أثر للجروح في جسدها الطاهر. ونسب الوالي شفاءها إلى آلهته الباطلة، وقال لها مكابراً، انظري كيف آلهتنا قد أشفقت عليك ومنحتك الشفاء لتهب لك فرصة جديدة لعبادتها وحرق البخور لها أمام هذا الجمهور الحافل. فأجابته بربارة ببسالة قائلة: لو كان لأصنامك حياة لاستطاعت أن تحمي نفسها يوم حطمتها في قصر أبي. أما الذي ضمد جروحي ومنّ عليّ بالشفاء فهو المسيح يسوع ربي، الإله الحي الذي هو القيامة والحياة وبقدرته الفائقة يعيد الحياة إلى الموتى. والآن ولئن تسلموني إلى الموت فلسوف يحييني ربي ويقيمني في اليوم الأخير من قبري لأرث معه ومع شهدائه الملكوت السماوي. فاستشاط الحاكم غضباً وأمر جنوده فأمعنوا في تعذيب بربارة حتى سال دمها النقي على الأرض بغزارة وهي تصلي ليمنحها الرب قوة على تحمل الآلام لأجله. كما أمر الحاكم بقطع رأسها بحد السيف بعد جرها في شوارع المدينة عارية، فسترها اللّـه بضياء سماوي.
استشهادها بيد أبيها:
وطلب أبوها من الحاكم أن يأذن له بقطع رأسها بيده، فسمح له بذلك. فقادها أبوها إلى خارج المدينة، وهو يزبد كالكلب المسعور. والناس حوله يهزون رؤوسهم من هول الموقف. متعجبين من قساوة قلبه، وانحطاطه إلى درك البربرية حيث بزّ الوحوش الكاسرة شراسة وضراوة. وعندما وصل الموكب إلى قمة هضبة عالية، جثت بربارة على الأرض، وضمت يديها إلى صدرها على شكل صليب، وحنت هامتها، فتناول أبوها الفأس وهوى به على رقبتها وقطع هامتها الجميلة، وفاضت روحها الطاهرة إلى السماء لتنضم إلى أرواح الشهداء الذين أعطيت لهم ثياب بيضاء وقيل لهم لينتظروا، تحت المذبح، حتى يكتمل عدد الشهداء رفاقهم (رؤ 6: 9ـ 11)، فينالوا الجزاء.
هلاك ديوسقوروس والحاكم الطاغيين:
وأهلك اللّـه تعالى ديوسقورس والد القديسة الشهيدة بربارة وهو في طريق عودته إلى المدينة إذ انقضّت عليه صاعقة فأحرقته بنارها كما أحرقت في الوقت ذاته مرقيانس حاكم نيقوميدية، فاستولى على الناس خوف عظيم ومجدوا إله القديسة بربارة، وآمن به جمع غفير. وكان ذلك عام 235م وأخذ المؤمنون جسدها الطاهر ودفنوه بأكرام وقد نقل رفاتها بعد أجيال عديدة إلى مصر وهو الآن في كنيسة القديس أباكير[110] وتعيّد لها الكنيسة في 4 كانون الأول.
أهـل الكهف في المصادر السريانية
تمهيد:
لا بدعة إذا قلنا إن الأدب السرياني المسيحي زاخر بالقصص المشوّقة سواء أكانت موضوعة بالسريانية أم منقولة إليها، ليجتني القراء من مطالعتها فوائد روحية جليلة. فتناقلتها الألسن، وتوارثتها الأجيال، ودوّن جزء كبير منها في عصر أبطالها، أو بعدهم بمدة قصيرة أو طويلة. وهي تتناول سير بعض الآباء الأولين، ورجالات الكنيسة الميامين، والشهداء، والمعترفين[111] والقديسين، والنسّاك الفضلاء، والنسوة الفواضل.
ولا يُنكر ما طرأ على بعض من هذه القصص من زيادة أو نقصان أتياها عن طريق بعض الكتّاب والنسّاخ الذين أرخوا لمخيلتهم العنان، فسبحت في أجواء الخيال، وأضافت إلى الحوادث أخباراً هي أقرب إلى الأساطير منها إلى الواقع التاريخي، ومع كل ذلك فبإمكان المؤرّخ المدقق الذي يهمه تحرّي الحقيقة، أن يقع عليها مجردة فيقبلها وحدها ويرفض سواها.
ومن القصص السريانية الرائعة، قصة أهل الكهف، التي نتناول ههنا بحثها ودراستها بإمعان لما لها من أهمية تاريخية.
القصة في النص السرياني
عندما ملك DECIUS داقيوس الأثيم (249 ـ 251م) على المملكة الرومانية، وزار مدينة أفسس، أصدر أمره إلى نبلائها بنحر الذبائح للأصنام، وأمر بقتل المسيحيين الذين لم يخضعوا لأمره، فقُتل عدد كبير منهم وأُلقيت جثثهم للغربان والنسور والعقبان وسائر الجوارح. وحاول بالوعد والوعيد إقناع سبعة[112] شبّان من أبناء النبلاء، وشي بهم إليه، أن ينكروا دينهم المسيحي، الذي تمسّكوا به بعروة وثقى، ويقدّموا الذبائح للأوثان، فرفضوا. فنزع عن أكتافهم شارات الحرير، وأخرجهم من أمامه، واستمهلهم أياماً علّهم يعدلون عن رأيهم ويخضعون لأمره.
وانطلق داقيوس الملك إلى زيارة مدن أخرى مجاورة لأفسس على أن يعود إليها ثانية للغاية المذكورة أعلاه.
وكانت الفرصة سانحة ومؤاتية للفتيان السبعة ليقرنوا إيمانهم بأعمال الرحمة، فأخذوا من دور آبائهم ذهباً، ومالاً كثيراً، وتصدّقوا به على الفقراء، سراً وعلناً، والتجأوا إلى كهف كبير، في جبل أنكيلوس (Ocholon) مواظبين على الصلاة.
وكان (يمليخا) أحدهم يتّشح بأسمال متسوّل متخفياً، ويدخل المدينة ليبتاع لهم الطعام، ويتسقط الأخبار مستطلعاً مجريات الأمور في قصر الملك، ويعود إلى رفاقه فيخبرهم عما في المدينة، وما يقع من أحداث. وذات يوم عاد داقيوس الملك إلى أفسس، وطلب الفتيان السبعة فلم يجدهم. وكان يمليخا آنذاك في المدينة فخرج منها هلعاً ناجياً بنفسه من الموت، لا يلوي على شيء، ومعه قليل من الطعام، وصعد إلى الكهف حيث رفاقه، وأخبرهم عن دخول الملك إلى المدينة، وبحثه عنهم، فتملّكهم الخوف وركعوا على الأرض ممرغين وجوههم بالتراب متضرعين إلى اللّـه بحزنٍ وكآبة، ثم أكلوا ما جلبه لهم يمليخا من الطعام. وبينما كانوا يتجاذبون أطراف الحديث، استولى عليهم النعاس، وغشاهم سبات هنيء، فرقدوا بهدوء رقاد الموت، ولم يشعروا بموتهم.
وحيث أنَّ الملك لم يعثر عليهم في المدينة استقدم ذويهم، فأخبروه بأنَّ الفتية قد هربوا إلى كهف في جبل (انكيلوس) فأمر الملك بسدّ باب الكهف بالحجارة ليموتوا، فيصير الكهف قبراً لهم، غير عالم أنَّ اللّـه قد فصل أرواحهم عن أجسادهم لقصد ربّاني أعلن بعد سنين بأعجوبة باهرة.
وكان (انتودورس) و (آربوس) خادما الملك مسيحيين، وقد أخفيا عقيدتهما خوفاً منه، فتشاورا معاً وكتبا صورة إيمان هؤلاء المعترفين بصحائف من رصاص، وضعت داخل صندوق من نحاس، وختمت، ودُسّت في البنيان عند مدخل الكهف.
وهلك داقيوس، وخلفه على العرش الروماني ملوك كثيرون، حتى جلس في دست الحكم الملك المؤمن ثيودوسيوس الصغير (450 +)، وظهرت على عهده بدع عديدة حتى أنَّ بعضهم أنكر قيامة الموتى، وتبلبلت أفكار الملك، وشفه الحزن، فاتّشح بالمسوح، وافترش الرماد، وطلب من الرب أن يضيء أمامه سبيل الإيمان.
وألقى اللّـه في نفس (ادوليس) صاحب المرعى الذي يقع فيه الكهف، حيث رقد المعترفون، أن يشيّد هناك حظيرة للماشية، فنزع العمال الحجارة عن باب الكهف، ولمّا انفتح، أمر الإله أن يُبعث الفتية الراقدون أحياء، فعادت أرواحهم إلى أجسادهم، واستيقظوا، وسلّم بعضهم على بعض كعادتهم صباح كل يوم، ولم تظهر عليهم علامة الموت، ولم تتغير هيئتهم ولا ألبستهم التي كانوا متّشحين بها منذ رقادهم، فظنّوا وكأنما قد ناموا مساءً واستيقظوا صباحاً.
ونهض يمليخا كعادته صباح كل يوم، وأخذ فضّة وخرج من الكهف متجهاً نحو المدينة ليشتري طعاماً. وعندما اقترب من بابها دهش حين رأى علامة الصليب منحوتة في أعلاه، فتحول إلى باب آخر من أبوابها فرأى المنظر ذاته، ودخل المدينة فلم يعرفها إذ شاهد فيها أبنية جديدة تنكرت له، وسمع الناس يقسمون باسم السيد المسيح، فسأل أحد المارين عن اسم المدينة، فأجابه اسمها أفسس، فزاد يمليخا حيرة وقال في نفسه: لعمري لا أعلم ما جرى لي، ألعلي فقدتُ عقلي وغاب عني صوابي؟ الأفضل أن أسرع بالخروج من هذه المدينة قبل أن يمسّني الجنون فأهلك.
وإذ كان يمليخا مسرعاً ليترك المدينة، تقدّم بزيّ شحاذ، إلى أحد الخبّازين ليشتري خبزاً، وأخرج دراهم من جيبه وأعطاه إياها فأخذ هذا يتأملها فرآها كبيرة الحجم، ويختلف ضرب طابعها عن طابع الدراهم المتداولة في عصرهم، فتعجّب جداً وناولها لزملائه، فتطلعوا إلى يمليخا وقالوا: إنه قد عثر على كنز خبيء من زمن طويل. فألقوا عليه القبض وأخذوا يسألونه قائلين: من أين أنت يا هذا؟ لقد أصبت كنزاً من كنوز الملوك الأولين، وتألب الناس حوله، واتهمه بعضهم بالجنون، وأخيراً جاءوا إلى أسقف المدينة، وكان يزوره وقتئذٍ والي أفسس فقد شاءت العناية الربانية أن تجمعهما في تلك الساعة معاً ليظهر على أيديهما للشعوب كلها كنز بعث الموتى، فأقرَّ يمليخا أمامهما بأنه رجل من أهل أفسس، وأنه لم يعثر على كنز، وأن الدراهم التي معه هي من نفس عملة تلك المدينة، وقد اشترى بمثلها، قبل يوم واحد فقط خبزاً، فقال له الوالي: إنَّ صورة الدراهم تشير إلى أنها قد ضربت قبل عهد داقيوس الملك بسنين، فهل وُجدتَ يا هذا قبل أجيال عديدة، وأنت لا تزال شاباً. فعندما سمع يمليخا ذلك سجد أمامهم وقال: أجيبوني أيها السادة عن سؤال، وأنا أكشف لكم مكنون قلبي، أنبئوني عن الملك داقيوس الذي كان عشية أمس في هذه المدينة، أين هو الآن؟ أجابه الأسقف قائلاً: إنَّ الملك داقيوس مات قبل أجيال، فقال يمليخا: إنَّ خبري أصعب من أن يصدّقه أحدٌ من الناس، هلمّ معي إلى الكهف في جبل (انكيلوس) لأريكم أصحابي، وسنعرف منهم جميعاً الأمر الأكيد، أما أنا فأعرف أمراً واحداً هو أننا هربنا منذ أيام من الملك داقيوس، وعشية أمس رأيت داقيوس يدخل مدينة أفسس، ولا أعلم الآن إذا كانت هذه المدينة أم لا.
فانشغل بال الأسقف عند سماعه قول يمليخا، وبعد تفكير عميق قال: إنها لرؤيا يظهرها اللّـه لنا اليوم على يد هذا الشاب، فهلمّ بنا ننطلق معه لنرى واقع الأمر. قال هذا ونهض، ونهض معه الوالي وجمهور من الناس، وعندما بلغوا الكهف عثروا في الجهة اليمنى من بابه على صندوق من نحاس عليه ختمان من فضة، فتناوله الأسقف، ووقف أمام مدخل الكهف، ودعا رجال المدينة وفي مقدمتهم الوالي، ورفع أمامهم الأختام، وفتح الصندوق، فوجد لوحين من رصاص، وقرأ ما كُتب عليهما: «لقد هرب إلى هذا الكهف من أمام وجه داقيوس الملك، المعترفون مكسيمليانوس ابن الوالي ويمليخا، ومرتينيانوس، وديونيسيوس، ويؤانس، وسرافيون، وقسطنطنوس، وانطونينوس. وقد سدّ الكهف عليهم بحجارة» وكتب أيضاً في سطور اللوحين الأخيرة صورة إيمان المعترفين، وعندما قُرئت هذه الكتابة، تعجّب السامعون، ودخلوا الكهف فشاهدوا المعترفين جالسين بجلال ووجوههم مشرقة كالورد النضر. فكلّموهم، وسمعوا منهم أخبار الحوادث التي جرت على عهد داقيوس.
وأُرسل فوراً إلى الملك ثيودوسيوس كتاب، مضمونه: (لتسرع جلالتك وتأتِ فترى ما أظهره اللّـه تعالى على عهدك الميمون من العجائب الباهرات، فقد أشرق من التراب نور موعد الحياة وسطعت من ظلمات القبور أشعة قيامة الموتى بانبعاث أجساد القديسين الطاهرة.).
ولما بلغ ثيودوسيوس الملك هذا النبأ، وهو في القسطنطينية، نهض عن الرماد الذي كان قد افترشه، وشكر اللـه، وجاء والأساقفة وعظماء الشعب، إلى أفسس، وصعدوا جميعاً إلى الكهف الذي ضمّ المعترفين في جبل انكيلوس فرآهم، وعانقهم الملك، وجلس معهم على التراب، وحدّثهم. ثم ودَّع المعترفون الملك، والأساقفة، والشعب، وأسلموا أرواحهم بيد اللـه. فأمر الملك أن تُصنع لهم توابيت من ذهب، ولكن الفتية ظهروا له في حلم في الليل، وقالوا له أنَّ أجسادنا انبعثت من تراب لا من ذهب، فاتركنا في كهفنا على التراب.
وأقرَّ مجمع الأساقفة عيداً لهؤلاء المعترفين. ووزع الملك صدقات جزيلة على الفقراء، وأطلق سراح الأساقفة المأسورين في المنفى، وعاد ومعه الأساقفة إلى القسطنطينية مغمورين بفرحة إيمان الملك ممجدين اللّـه تعالى على كل ما جرى.
أقدم مَنْ كَتَبَ القصة بالسريانية
وصلت إلينا هذه القصة بلغة سريانية أصيلة، نثراً ونظماً. أما النثر فقد كتبه لنا زكريا الفصيح (536 +) ويوحنا الأفسسي (587 +) وكلاهما من المؤرخين الثقات، وهما قريبا العهد من زمن الحادثة. وحيث أن المؤرخ شاهد للحدث التاريخي، لذلك لا بدَّ لنا أن نعرف شيئاً عن حياة كل منهما، لنثمّن شهادتهما هذه.
أما زكريا الفصيح، فقد ولد في غزة، ودرس النحو، والبيان، والفقه، والفلسفة في مدرستي الاسكندرية وبيروت، ومارس المحاماة في القسطنطينية، ثم رسم أسقفاً على جزيرة مدللي بعد سنة 527 م. وأهم مصنفاته تاريخ ديني مدني كتبه باليونانية تناول فيه بالتفصيل أحداث الفترة الواقعة ما بين سنتي 450 و 491 نقل إلى السريانية ملخصاً، وفُقد أصله اليوناني ثم نقله برمته الراهب صاحب الكتاب المنحول تاريخ زكريا إلى مجموعته التاريخية القيمة التي ألّفها بالسريانية سنة 569 م، ولعل هذا المؤلف هو الذي ترجم تاريخ زكريا الفصيح إلى السريانية. وقد نشر هذا الكتاب (لاند)، ثم (بروكس) في مجلدين منقولاً إلى اللاتينية سنة 1919 وتوفي زكريا سنة 563 م[113] على ما أسلفناه.
أما يوحنا الأفسسي فقد ولد حوالي سنة 507 في بلدة (أكل) من أعمال ولاية (آمد)، وترهّب في ميعة صباه، وتبحر في علوم الكتاب المقدس، وأتقن اللغتين السريانية واليونانية، ورسم مطراناً لأفسس عام 558 م فنسب إليها وإلى آسيا الصغرى، وتوفي في حدود سنة 586 م أو 587 م. ومن جملة النعوت التي اطلقت عليه «مؤلف تواريخ البيعة».
قال فيه البطريرك أفرام الاول برصوم[114]: «وصنّف يوحنا تاريخاً كنسياً في ثلاثة مجلدات يشتمل كل منها على ستة أسفار أو أبواب، الاول والثاني من عهد يوليوس قيصر حتى سنة 571 والثالث وضمنه أخبار الكنيسة والعالم من سنة 571 حتى 585 ويقع في 418 صفحة. المجلد الاول مفقود، والثاني نقل برمته تقريباً إلى التاريخ الذي ألّفه الراهب الزوقنيني عام 775م[115]. وأما الثالث فوصل إلينا، وقد سقطت منه بضعة فصول… وكان يوحنا مؤرخاً، صادقاً، محققاً، مجتهداً، يقدر الحوادث قدرها من الوجهة الأرثوذكسية ولكنه نزيه».
أما النص الشعري السرياني لقصة أهل الكهف، فهو للشاعر السرياني الملهم مار يعقوب السروجي (521 +) الذي نظم قصيدة عصماء على الوزن الاثني عشري، تقع في أربعة وسبعين بيتاً، وهو ولئن سمح لفكره أن يسبح في الخيال، ولكنه احتفظ بعناصر القصة الرئيسية[116].
ولد يعقوب السروجي في قرية (قورتم) على ضفة الفرات عام 451 م ودرس اللاهوت، والفلسفة، والعلوم اللغوية، في مدرسة الرها، وترهب، وتنسك، ورسم كاهناً، ثم قلد رتبة (البريودوط)[117] أي الزائر، لبلدة حورا، وعام 519 رسم أسقفاً على (بطنان سروج) وانتقل إلى جوار ربه عام 521 م، وعيّدت له الكنيسة.
نظم على البحر الاثني عشري، الذي استنبطه وعُرف بالبحر السروجي نسبة إليه. وقد جمعت قصائده فبلغت سبعمائة وستين، قد تبلغ أبيات بعضها الألفين أو الثلاثة أو تزيد. وتناولت أهم أحداث الكتاب المقدس، والإيمان، والفضائل، والبعث، والتوبة، والتزهيد بالدنيا، وتقريظ القديسين. أما مصنّفاته النثرية فهي رسائل وخطب للأعياد. وله تفاسير، وكلها بإنشاء جزل متين[118].
متى رقد أهل الكهف؟
أجمع المؤرخون السريان، على أن رقاد أهل الكهف كان على عهد الملك داقيوس (249 ـ 251 م) أما استيقاظهم فكان على عهد الملك ثيودوسيوس الصغير (450)[119] ويقول مار يعقوب السروجي (521 +) في قصيدته الآنفة الذكر عن زمن رقادهم ما تعريبه: «عندما خرج داقيوس إلى زيارة قرى مملكته ومدنها، دخل أفسس، وألقى فيها رعباً عظيماً، وأقام احتفالاً لزوس وأبولون وأرطاميس… كان هناك فتية من النبلاء رفضوا الاذعان لأمره ولم يخضعوا له كسائر رفاقهم وتجلببوا بالإيمان وهم الخراف الوديعة، وأصرّوا على ألاّ يبخّروا أمام الآلهة.»
ويقول عن زمن استيقاظهم: «مرت عهود الملوك الوثنيين وزال سلطانهم، وساد السلام في الكنيسة المقدسة في العالم. وشاء الرب أن يوقظهم لمجد (اسمه القدوس) ويظهرهم للمؤمنين ليكرموهم.» ويردف قائلاً: «تناولوا لَوْحَيْ الرصاص وقرأوهما ومنهما علموا أسماءهم وعملهم، فأخبروا حالاً الملك العظيم ثيودوسيوس ليأتي حالاً ويراهم».
ولا بد لنا أن نوجز للقارئ الكريم دقائق حياة الملكين داقيوس الأثيم (249 ـ 251) وثيودوسيوس المؤمن (408 ـ 450) لما لهما من صلة تاريخية متينة بأهل الكهف، ونلمّ في الوقت نفسه بتاريخ العصرين اللذين عاش فيهما هذان الملكان، ورقد في اولهما أهل الكهف واستيقظوا في الثاني، وبذلك تتضح معالم القصة متكاملة في ذهننا.
داقيوس:
تولى داقيوس مملكة الرومان سنة 249 م وقد أثار اضطهاداً عنيفاً ضد المسيحيين لبغضه سلفه القيصر فيلبس العربي المحسن إليهم. فأصدر سنة 250 مرسوماً يأمر فيه باستئصال شأفة المسيحية، وجعل السلطة المركزية في الدولة تأخذ على عاتقها إرغام المسيحيين على ترك دينهم وتقديم البخور والخمور للآلهة، وقضى المرسوم، الذي وصف بالمخيف المرعب، بتعذيب المسيحيين إن لم يعبدوا الاوثان. فاستشهد العديد من رؤساء الكنيسة منهم فابيانوس أسقف اورشليم. وهرب ديونيسيوس أسقف الاسكندرية إلى البرية. كما استشهد آلاف مؤلفة من المؤمنين وشرد الآخرون من أمام وجه الطاغية ولم تطل هذه الشدة إذ قتل داقيوس سنة 251 م وهو يحارب الغوط والبلقان عند مصب الدانوب، وبهلاكه خمدت شوكة الاضطهاد[120].
ثيودوسيوس الصغير:
أما ثيودوسيوس الصغير وهو ثيودوسيوس الثاني ابن أرقاديوس، فقد ملك سنة 408 ـ 450م وفي زمانه توطدت أركان المسيحية. وكان يكثر من الصوم، ولا سيما يومي الأربعاء والجمعة، ويواظب على مطالعة أسفار الكتاب المقدس حتى حفظها على ظهر قلبه. وقيل له يوماً «لماذا لا تقتل أحداً» فأجاب: «ليتني أستطيع أن أحيي الموتى» ولتمسكه بأهداب الفضيلة، نهى الشعب عن حضور الملاعب والملاهي أيام الآحاد والأعياد قائلاً: «للعبادة وقت وللهو وقت» وجمع مشاهير الفقهاء فوضعوا سنة 435 مجموعة الشرائع المنسوبة إليه أذاعها سنة 438 وكان كثير الاجلال لرفات القديسين، فقد أمر بنقل رفات يوحنا الذهبي الفم إلى القسطنطينية بإجلال وإكرام، وبكى حين شاهدها طالباً إلى اللّـه أن يغفر لوالديه اللذين اضطهدا يوحنا. ونقل أيضاً رفات الأربعين شهيداً من سبسطية إلى ضواحي القسطنطينية. كما أن رفات القديس إغناطيوس النوراني نقلت على عهده من رومية إلى أنطاكية. وتوفي ثيودوسيوس في 28 تموز سنة 450 م[121].
مدة رقاد أهل الكهف:
جاء في تاريخ زكريا الفصيح (536 +) ما يأتي: «سنة 38 لملك ثيودوسيوس الملك حدث جدال بموضوع قيامة الموتى،… وألهم اللّـه (ادليس) صاحب المنطقة التي فيها الكهف ليبني حظيرة للماشية والخ…»[122].
وحيث أن ثيودوسيوس ملك سنة 408 م كما مرَّ بنا، يضاف إليها 38 سنة فيكون المجموع 446 سنة يطرح منها 250 سنة وهي سنة اضطهاد داقيوس المسيحيين وهروب الفتية إلى الكهف ورقادهم، فيبقى 196 سنة وهي المدة التقريبية لرقاد الفتية في الكهف حتى بعثهم.
وزكريا الفصيح نفسه يحدد مدة الرقاد بعددين متباعدين، فمرّة يقول: «ما يقارب (190) سنة» ومرّة أخرى يقول (120) سنة ويصحح ناشر تاريخه هذه السنة فيجعلها (190) كالسابقة. وفي سرد القصة يقول زكريا: «إنَّ الوالي أجاب ديونيسيوس (أحد فتية الكهف) قائلاً: كيف نصدّق كلامك، وكتابة هذه العملة وختمها يعودان إلى ما قبل مئتي سنة»[123].
ويقول ابن العبري (1286 +): «وبعد مئة وثمانٍ وثمانين سنة من رقاد الفتية، في السنة الثامنة والثلاثين لملك الملك ثيودوسيوس الصغير في أيامه اشتدّت المجادلة بموضوع قيامة الموتى وشكوك الملك… نفح اللّـه بالراقدين حياة، فاستيقظوا وكأنهم يستيقظون من نومهم»[124].
أما الرهاوي المجهول (1234 +) فيقول في تاريخه: «إنّ مدة رقاد الفتية كان 370 سنة»[125] وتحدد بعض النصوص السريانية مدة الرقاد بـ (372)[126].
ويقول الزوقنيني (775 م) في تاريخه: «وأخذ (يمليخا) من عملة ذلك الزمن، الموضوعة في الكيس من فئة اثنتين وستين وأربع وأربعين، التي سكّت على عهد الملك الذي كان قبل أيام المعترفين وهي قبل ثلاثمائة وسبعين سنة»[127].
أما مار يعقوب السروجي (521 +) فيقول في قصيدته: «كان لأحد الفتية قطع قليلة من العملة، لتكون برهاناً على إثبات الأعجوبة. فبعد مرور الزمن تبقى العملة ثابتة ومنها يعرف التاريخ الذي سكّت فيه هذه العملة» ويقول في الأبيات الختامية للقصيدة: «منذ البدء وحتى الآن لأي إنسان جرى ما جرى لكم (أيها الفتية) فقد بعثتم (أحياء) بعد ثلاثمائة وسبعين سنة من زمن رقادكم».
نستنتج من هذا كله أن النصوص السريانية لم تتفق فيما بينها على تحديد المدة التى رقد فيها أهل الكهف، ولكنها ذكرت أن رقادهم كان على عهد داقيوس (249 ـ 251) وأن استيقاظهم كان على عهد ثيودوسيوس الصغير (408 ـ 450) فاختلاف السنين نتج عن اختلاف تاريخ سكّ قطع العملة التي وجدت مع الفتية في الكهف بفئاتها المتفرقة ليس إلا.
أين رقد أهل الكهف؟
تؤيد المصادر السريانية كافة أن أهل الكهف قد رقدوا في كهف يقع على مرتفع يدعى جبل (انكيلوس) في ضواحي مدينة أفسس.
قال مار يعقوب السروجي (521 +) في مطلع قصيدته عن أهل الكهف ما ترجمته: «أود أن أقص على السامعين خبر الفتية أبناء الرؤساء الذين من أفسس.» وقال على لسان أحد الفتية يخاطب رفاقه: «يوجد ههنا في قمة الجبل كهف صخري، لنصعد أيها الأخوة ونختفِ فيه مدة من الزمن» وقال على لسان يمليخا وهو يخاطب أسقف المدينة: «انني من مدينة أفسس وأنا ابن دروفورس أحد رؤسائها» وقال أيضاً عن لوح الرصاص «كتبوا فيه: هؤلاء الفتية من أفسس هربوا من أمام وجه داقيوس».
وقال زكريا الفصيح (536 +): «تاريخ الشهداء السبعة الذين بعثوا في مغارة جبل (انكيلوس) في مدينة أفسس»[128].
وأفسس هذه، هي المدينة الاغريقية القديمة التي تقع على الشاطئ الغربي من آسيا الصغرى. اشتهرت قبل الميلاد بمينائها وتجارتها الرابحة وبهيكل أرطاميس، بشّرها بالدين المسيحي الرسول بولس سنة 54 م وتلمذ أهلها، وكتب إليها رسالة سنة 61 م وأصبحت المدينة فيما بعد أحد مراكز المسيحية المهمة، عقد فيها المجمع المسكوني الثالث سنة 431 م. انحسر عنها البحر فزال مجدها الاقتصادي ولم يبقَ فيها سوى الأنقاض، بقربها بلدة تركية أيضاً اسمها (ايا سلوق)[129] يقصدها السياح لمشاهدة ما شخص من آثارها الوثنية والمسيحية، خاصة شوارع مدينة أفسس القديمة، وهيكل أرطاميس وكاتدرائية مار يوحنا اللاهوتي، ومدافن أهل الكهف. وقد قمت سنة 1962 و 1968 بزيارتين لأنقاض مدينة أفسس ورسومها ورأيت بأمّ عيني مدافن أهل الكهف وكهفهم.
مما هو جدير بالذكر أن السيد F. Miltner المسؤول عن الاكتشافات التي أجراها في أفسس المعهد النمساوي للآثار قبل الحرب العالمية الثانية، وقد نشر نتيجة أبحاثه باختصار، صرح قائلاً: إن آثار الكنيسة التي اكتشفها في المكان المعروف تقليدياً أنه الموضع الذي حدثت فيه الأعجوبة (بعث أهل الكهف) قرب كهف بانايرداغ panayir Dagh تدل على أن تشييد هذه الكنيسة يعود إلى القرن الخامس للميلاد[130]. وهذا القول يقيم الحجة على أن مدينة أفسس كانت موطن أهل الكهف ومسرح أدوار أعجوبة رقادهم وبعثهم. فالقصة بالسريانية تذكر بأن الملك ثيودوسيوس الصغير قد شيّد كنيسة بقرب كهفهم، ولا بدّ أن تكون آثار هذه الكنيسة التي اكتشفتها البعثة النمساوية المذكورة أعلاه.
عدد أهل الكهف وأسماؤهم:
لم يتفق المؤرخون السريان على عدد فتية الكهف وأسمائهم. فقد جاء في تاريخ زكريا الفصيح (536 +) ما يلي: «وهذه أسماء الفتية السبعة الذين هربوا (من أمام وجه داقيوس) : اكليديس وديمدس، واوكنيس، واسطيفانس، وفريطيس، وسبطيس وقرياقوس[131] ولكنه يقول بعدئذ «وقد أقاموا صديقهم ديونيسيوس الشاب الحكيم السريع الجريء وكيلاً عنهم»[132] بينما كان زكريا قد أهمل اسم ديونيسيوس في الجدول السابق ويعود فيذكره ضمن لوحة الرصاص التي وجدت على باب الكهف حيث يعدد الأسماء كالتالي: «اكليديس وديونيسيوس واوكنيس واسطيفانس وفريطيس وسبطيس وقرياقس»[133] ومن الواضح هنا أنَّ اسم ديونيسيوس حلَّ محل اسم ديمديس ولعل الأسمين لشخص واحد.
أما الراهب الزوقنيني (775 م) الذي ضمَّ تاريخه كتاب يوحنا الأفسسي (587 +) برمته كما سبقت الإشارة إليه فيبدأ القصة بقوله: «فصل من قصة الفتية الثمانية من أفسس وهم: مكسيمليانس، ويمليخا، ومرطلوس، وديونيسيوس، ويؤانس، وسرافيون، واكسوسطدينوس، وانطونينوس الشهداء أبناء نبلاء أفسس»[134].
أما مار يعقوب السروجي (521 +) فلا يذكر في قصيدته المذكورة آنفاً عددهم ولا أسماءهم سوى اسمين وهما، اولاً: يمليخا حيث يقول على لسانه «أجاب أحدهم واسمه يمليخا وهو فتى شجاع، وقال: أنا أنزل إلى أفسس وأسترق الخبر، فأجابه رفاقه إذن اشترِ لنا خبزاً لنأكل» ثانياً: اسم مرطولوس حيث يقول: «أجاب أحدهم واسمه مرطولوس وقال لأخوته: لديَّ عملة (دراهم) أخذتها معي عندما خرجت إلى ههنا، فيأخذ منها يمليخا ويشتري لنا طعاماً. وفي استجواب الوالي ليمليخا يقول: وسأله حالاً عن أسماء رفاقه فسرد الفتى أمامه أسماء سائر أخوته وعددهم، وكيفية هروبهم ومكان اختفائهم».
أما ابن العبري (1286 +) فيقول: «في أيام داقيوس الملك هرب الفتية السبعة من أفسس واختفوا في كهف…[135]. ويقول في موضع آخر: «وفي هذا الزمن.. بُعث من بين الأموات الفتية السبعة من أفسس الذين كانوا قد هربوا في اضطهاد داقيوس واختفوا بكهف بأحد الجبال»[136] وهنا يسرد ابن العبري قصتهم بالتفصيل ويسمي وكيلهم الذي نزل إلى المدينة باسم (ديونوس) فعدد أهل الكهف إذن بحسب الروايات السريانية سبعة أو ثمانية، وأسماؤهم مختلف فيها كذلك. ولعل هذا الإختلاف الطفيف جاء بسبب البيئة اليونانية، وأسمائهم اليونانية، فسردها النساخ السريان وحرفوا بعضها، وكان الأجدر بالمؤرخين والنساخ أن يكونوا أكثر تدقيقاً في سرد أسماء الفتية وعددهم. ويميل المؤرخون اليوم إلى الأخذ برأي القائلين أنهم كانوا سبعة، كما ثبتت الروايات اللاتينية واليونانية.
أسقف أفسس وأهل الكهف:
تذكر القصة اسم موريس أسقفاً لأفسس، وقد استجوب أحد الفتية ثم ذهب مع والي المدينة إلى الكهف. بينما يذكر التاريخ أن أسقف أفسس الذي حضر مجمع أفسس المسكوني عام (431 م) وهو ممنون[137]. أما أسقفها الذي عاصر عهد بعث فتية الكهف فهو اسطيفانس وهو الذي حضر مجمع أفسس الثاني عام 449 م وحضر مجمع خلقيدونية سنة 451[138].
ويذكر الراهب الزوقنيني (775 م) في تاريخه أيضاً اسم موريس أسقف أفسس، أما زكريا الفصيح (536 +) فلم يسمِّه.
وبما أن التاريخ يثبت بأن اسم أسقف المدينة في تلك الفترة الزمنية هو اسطيفانس، فيرى بعضهم أن اسم موريس جاء من (مور. اس) فإن لفظة (مور) تعني السيد وتسبق دائماً أسماء كبار رجال الدين المسيحي لدى السريان، و (اس) الحرفان اللذان يبدأ بهما اسم (اسطيفانس) فلعل الاسم قد اختصره بعض النسّاخ بحسب العادة المتبعة لدى النسّاخ السريان عندما تقع الكلمة أو الاسم في آخر السطر يختصر بحرفين أو أكثر ويوضع فوقه خط صغير ومع الزمن فقد أخذ النسّاخ بعضهم عن بعض كما اقتبس المؤرخون الخلف عن السلف. وحوِّرَ الاسم وصار (موريس) بدلاً من (مور اسطيفانس).
أهل الكهف في الكلندار السرياني:
في خاتمة القصة السريانية نقرأ ما يلي: «وأقرَّ مجمع من الأساقفة عيداً عظيماً لهؤلاء المعترفين» لعلَّ هذا المجمع كان خاصاً محلياً لا عاماً، ولكننا نرى الكنائس الشرقية على اختلاف مذاهبها تحتفل بعيدهم.
فقد ورد عيدهم في الكلندار السرياني القديم في 24 تشرين الاول. ولدى الكلدان في 4 تشرين الاول عيد الفتيان الثمانية الذين من أفسس[139] كما ورد تذكارهم لدى الروم الأرثوذكس في 4 آب وفي 22 تشرين الاول تذكار الفتيان القديسين السبعة الذين كانوا في أفسس[140].
ولدى الموارنة في 7 آذار عيد الفتية السبعة من أفسس[141].
وحيث أن الكنيسة السريانية جَرَت على أن تخصص طقساً[142] خاصاً بمناسبة أعياد قديسيها تحتفل به في أعيادهم، لذلك عثرنا على طقس عيد أهل الكهف[143] ودرسناه فرأينا أنه يسرد تفاصيل القصة كما وردت في التقليد السرياني، مظهراً تمسك الفتيان السبعة بإيمانهم، وكيفية هروبهم خوفاً من داقيوس في شهر آذار، إلى كهف في جبل بقرب أفسس، ورقادهم مدة (350 سنة) واستيقاظهم، ويدعوهم الطقس بالشهداء.
مار أفرام السرياني
سيرته ـ مؤلفاته ـ أقوال مأثورة له ـ بعض ما قيل عنه
سيرته:
ولد مار أفرام في مدينة نصيبين في مطلع القرن الرابع للميلاد، من أبوين مسيحيين[144]، ويذكر في إحدى كتاباته التي نقلت إلى اليونانية في عهده ثم نقلت إلى العربية بعدئذ «ان اللذين ولداه بالجسد ثقّفاه في الإيمان المسيحي وربياه على مخافة الرب وحدّثاه عما سبق فكابده آباؤه من العذاب في سبيل الحفاظ على الإيمان وحبّ السيد المسيح»[145].
تتلمذ، في شرخ شبابه، لمار يعقوب أسقف نصيبين، واعتمد على يديه وهو ابن ثماني عشرة سنة[146] فأحبه هذا كثيراً واتّخده تلميذاً وكاتباً في آن واحد ورسمه شماساً[147] وألبسه الثوب الرهباني[148]، واصطحبه عام 325م إلى مجمع نيقية[149]، وعلى أثر عودتهما من المجمع أسس مار يعقوب في نصيبين مدرسة سلّم زمام التعليم فيها إلى تلميذه مار أفرام[150]. وبعد انتقال مار يعقوب إلى جوار ربه سنة 338م تسلّم مار أفرام إدارة المدرسة، وفيها نظم القصائد البديعة والأناشيد الشجية التي تعرف بالنصيبينية[151]، وتعد صوراً رائعة لحياة ذلك العصر في تلك المنطقة، ففيها يصف لنا ما قاسته مدينته في الحصارات والحروب، حيث كانت بحكم موقعها على حدود الدولتين الفارسية والرومانية، تتعرض لحروب طاحنة، فتخضع لسلطان الفرس حيناً والرومان أحياناً، وقد عاصر مار أفرام هذه المآسي في الأعوام 338 و350 و359 و363، ويظهر بكتاباته ما كان يكنه قلبه الكبير وقلب كل مواطن صالح من إيمان باللّـه واتكال عليه تعالى، كما أنه يقوّم ويثمّن مواقف رجالات الكنيسة المشرّفة، بتشجيع رعيتهم أوقات الحروب للدفاع عن المدينة ببسالة باذلين في سبيل ذلك النفس والنفيس كما يقرض أساقفة نصيبين[152] وهم مار يعقوب (+338) وخلفاءه بابويه (338ـ349) وولغش (349ـ361) وإبراهيم.
وكانت اللغة السريانية لغة التدريس الرسمية في مدرسة نصيبين حيث كانت نصيبين في القرن الرابع مدينة سريانية قلباً وقالباً، لغة وحضارة[153].
وكانت مدرسة نصيبين تتبع في الفلسفة طريقة مدرسة أنطاكية[154] «التي كانت تعتمد على أرسطو أكثر من أفلاطون وكانت مبادئها توجب في كل موضوع بساطة في المنهج، وكمالاً في الإيضاح، وإدراكاً في تعليم الإيمان»[155].
وقد تخرّج في هذه المدرسة علماء نوابغ، ولا غرو فقد كان مديرها وأستاذها الأول مار أفرام عملاق الأدب السرياني، الذي منذ نعومة أظفاره كان يقضي بياض نهاره وسواد ليله في الدرس والتحصيل مكباً على مطالعة الكتاب المقدس فتعمق في علومه، وأتقن اللغة السريانية وآدابها حتى غدا في الرعيل الأول بين أقطابها بل هو فارسها الذي لا يجارى.
وكان مار أفرام صواماً قواماً، ذبل جسده ورق نتيجة لتطرفه وإغراقه في حياة الزهد، وقد وصفه مار غريغوريوس النوسي (+396) قائلاً: «إنه لم يأكل سوى خبز الشعير والبقول المجففة، ولم يشرب سوى الماء، حتى حاكى هيكلاً عظمياً بل تمثالاً من الفخار، أما لباسه فكان ثوباً خلقاً بل أطماراً بالية»[156]. وقد وصف فلسفته الرهبانية بقصيدة نفيسة جداً[157] خماسية الوزن يخاطب فيها نفسه التي روّضها على شظف أعمال التقشف القاسية، جاء فيها ما ترجمته بتصرف:
ـ كم من مرة جعت. وكان جسدي بحاجة إلى الطعام، ولكنني امتنعت عن تناوله لكي أستحق الطوبى التي سينالها الصائمون.
ـ عطش جسدي الذي جبل من طين الأرض، ورغب في الماء ليرتوي، فأهملته ناضباً لكي يستحق أن يذهب ويتلذذ بندى فردوس النعيم.
ـ وإذ كان الجسد دائماً يكثر مراودتي في فتوتي وشيخوختي فإني كنت أروّضه يوماً فيوماً حتى النهاية.
ـ في صباح كل يوم كنت أفكر بأنني سأموت مساء وكالرجل المائت لا محالة، قمت بأعباء عملي كل أيام حياتي دون ملل ولا كلل.
ـ وفي مساء كل يوم كنت أتصور أني لا أكون في الوجود صباحاً، فأنتصب بالصلاة والعبادة حتى شروق الشمس وبزوغها.
ـ عندما سألني الجسد غفوة هو بأمس الحاجة إليها استهويته بالطوبى التي منَّها الرب للإيقاظ.
ـ أقمت من نفسي للمسيح كنيسة وفيها قدّمت له أتعاب أعضاء جسمي بخوراً وعطوراً.
ـ قد صار ذهني مذبحاً وإرادتي كاهناً، وكمثل حمل لا عيب فيه ضحّيت بذاتي قرباناً.
ـ قد حملت نيرك يا سيدي منذ فتوتي وحتى شيخوختي وواظبت على عبادتك حتى النهاية جذلان بلا ملال ولا كلال.
ـ تحمّلت عذاب الجوع منتصراً عليه إذ رأيتك بين اللصين تذوق المرارة لأجل (خلاصي).
ـ اعتبرت ضيق العطش وكأنه لم يكن، إذ رأيت سيدي بسبب خطيتي يمتصّ الخل من الإسفنجة.
ـ لم أعر للأطعمة أهمية، ونبذت الخمور، إذ وضعت نصب عيني وليمة ملكوتك أيها الختن السماوي.
ولم تكن الرهبانية لديه تصوفاً وانقطاعاً عن العالم وصوماً وصلاة فحسب بل كانت أيضاً خدمة للإنسانية، ووسيلة لحفظ التراث القومي، لذلك جعل الأديرة مركزاً مهماً للعلم والمعرفة حيث ازدهرت العلوم والآداب، واقتداء به أكبّ تلاميذه ومن بعدهم أغلب الرهبان السريان على الدرس والتحصيل، وعكفوا على البحث والتأليف، فتركوا لنا آثاراً أدبية قيمة ونفيسة تعجّ بها مكتبات العالم اليوم وبذلك أسهموا في رقي بلادهم وازدهارها ونشر الحضارة فيها.
وعندما سلمت نصيبين إلى الفرس سنة 363م هجرها مار أفرام وبرفقته نخبة طيبة من أساتذة مدرستها وتلامذتها إلى الرها، فكان مار أفرام تارة يتنسك في مغارة في جبلها المقدس، وتارة يتفرغ للتدريس في مدرستها الشهيرة التي كانت قد أسست في فجر المسيحية[158] فجدّدها مار أفرام وصحبه وازدهرت على أيديهم، ودامت حتى عام 489[159]. وكان تلامذتها ـ وأغلبهم من بلاد فارس ـ يتلقّون دروساً في شرح الكتاب المقدس بعهديه معتمدين بذلك على تفسير مار أفرام وهو أقدم من فسّر الكتاب المقدس عند السريان، كما كانوا يأخذون عنه العلوم اللاهوتية لإثبات حقائق الدين المبين ومناهضة تعاليم طيطيانس ومرقيون وبرديصان وماني وأريوس، وبدعهم الوخيمة. فعدت كتاباته مثالاً للتعاليم اللاهوتية في الكنيسة السريانية.
واهتمّت مدرسة الرها أيضاً بتدريس الفلسفة على مذهب أرسطو وتلقين طلابها العلوم اللغوية والأدبية باللغتين السريانية واليونانية[160].
وقيل أن مار أفرام قد زار الأنبا بشواي وغيره من النساك في مصر[161]. كما زار بعدئذ القديس مار باسيليوس أسقف قيصرية قبدوقية (+379)([162]). ويستبعد بعض النقاد هاتين الزيارتين.
وفي الرها ألّف مار أفرام أول جوقة ترتيل من الفتيات السريانيات اللواتي علّمهن ما ابتكره، أو ما كان اقتبسه من الأنغام الموسيقية، وما نظمه من القصائد الروحية، والتراتيل الشجية التي ضمّنها العقائد الدينية وصورة الإيمان المستقيم، فكنّ يتغنين بها في الكنيسة أثناء الصلاة[163]. فإلى مار أفرام يعود الفضل في تنظيم الحياة الطقسية في الكنيسة السريانية وبتأليف الجوقات الكنسية.
وعندما حلّت المجاعة في الرها في شتاء عام 372 ـ 373 ومات عدد غير يسير من أهلها أخذ مار أفرام يطوف دور الأغنياء ويحثّهم على أعمال الرحمة ويجمع منهم الصدقات[164] ويوزّعها على الفقراء. كما أسس دوراً جمع فيها ثلاثمائة سرير وقيل ألفا وثلاثمائة سرير صارت ملجأ للعجزة. وكان يشرف بنفسه على الاعتناء بهم[165]. وعلى أثر الجوع انتشر وباء الطاعون، فانبرى مار أفرام في تطبيب المرضى وموآساتهم حتى أصيب بدوره بداء الطاعون[166] واحتمل صابراً آلامه المبرحة، وفاضت روحه الطاهرة في 9 حزيران عام 373م[167] ودفن في مقبرة الغرباء في ظاهر مدينة الرها، بناء على وصيته، وبني على ضريحه دير عرف بالدير السفلي[168] ثم نقل رفاته الطاهر إلى مقبرة الأساقفة في كنيسة الرها الكبرى، وقيل أنه نقل عام 1145م إلى أوربا مع ذخائر بعض القديسين[169] وعيّدت له الكنيسة شرقاً وغرباً[170].
وفي الساعات الأخيرة من حياته المجيدة، وفي لحظات احتضاره الرهيبة، أملى على تلاميذه وصيته الأخيرة شعراً[171]فاهتموا بتدوينها حالاً، وقد ترجمت إلى اليونانية بعد وفاته بمدة وجيزة، واستشهد بها القديس غريغوريوس النوسي (+396) خمس مرات في تقريضه إياه[172]. وقد اعترف مار أفرام بوصيته هذه بإيمانه، وبيّن تمسّكه بالعقيدة المسيحية، وحثّ تلاميذه على التشبه به.
مؤلفاته:
أدرك مار أفرام اللغة السريانية نقية صافية خالية من العجمة وسائر الشوائب، وغنية واسعة وأداة طيعة في التعبير عن مختلف الأهداف الفكرية، وشتّى الأغراض الكلامية، فكتب فيها تفاسيره نظماً ونثراً، ودبّج روائعه وبدائعه التي صارت مفخرة الأدب السرياني. وكان له القدح المعلى في تقدم مدرستي نصيبين والرها السريانيتين حيث وجدت لها اللغة السريانية مرتعاً خصباً فنمت وازدهرت.
تناول مار أفرام الكتاب المقدس بعهديه شرحاً وتفسيراً، وقد اعتمد الترجمة البسيطة، ولكثرة شروحه صرّح بعضهم قائلاً: «لو نفدت ترجمة الكتاب المقدس بالسريانية الأصلية لتيسر جمع نصوصها من تصانيف مار أفرام»[173].
وقد اتبع بالتفسير طريقة مدرسة أنطاكية بشرح النص آية آية بالمعنى الحرفي بمفهوميه الحقيقي والمجازي[174]، ولم يبقَ من تفاسيره هذه سوى شرح سفر التكوين وجزء من سفر الخروج، وشذور متفرقة من أسفار العهد القديم[175] نجدها في مجموعة الراهب سويريوس (+861).
أما تفسيره للإنجيل المختلط المعروف بالدياطسرون الذي وضعه ططيانس عام 170م فلم يصل إلى أيدينا منه سوى ترجمته الأرمنية[176] كما لم يبقَ من تفاسيره لرسائل الرسول بولس سوى آيات يسيرة ضمن تفسير الإنجيل ليشوعداد المروزي أسقف الحديثة النسطوري (840 ـ 853)[177]. وله مواعظ هي شروح لفصول من الكتاب المقدس، وله أيضاً مقالات في محبة العلي وفصول مختارة من كتاب وسم بكتاب الآراء وهو في حياة النسك والرهبنة[178] وأرسل خطابين الأول إلى دمنوس في نقض الهراطقة، والثاني إلى هيباتيوس رداً على مرقيون وبرديصان ومانين ورسالة بعث بها إلى الرهبان ساكني الجبال[179]، ومجموعة قوانين في الرهبنة فقد أصلها السرياني وحفظ النقل اليوناني أورد ذكرها غريغوريوس النوسي (+396)، ولم يبقَ من القصص التي ألّفها سوى بطرس الرسول[180]. وقد نسب إليه كتاب وسم «بغار الكنوز» وهو قصة آدم وحواء بعد أن طردا من الجنة[181] كما وضع عليه خطأ عظة في نهاية العالم ورد فيها ذكر غزوة الهون التي حصلت في تموز سنة 396م أي بعد وفاته بثلاث وعشرين سنة. وكذلك عزي إليه تأبين للقديس باسيليوس الكبير الذي مات بعد موت مار أفرام بست سنوات[182].
لقد نظم مار أفرام الشعر السرياني على البحر السباعي خاصة، وارتأى بعضهم أنه قد استنبطه فسمي أيضاً بالأفرامي أو أنه أخذه عمن سبقه من الشعراء الذين فُقد شعرهم[183]، وتعد أبيات بعض قصائده بالآلاف. كما نظم المداريش أي الأناشيد وهي أبيات من الشعر تصاغ على أوزان مختلفة وألحان شتى بلغ عددها الخمسمائة استنبطها برديصان (222+)[184]. ولم يعتمد مار أفرام القافية في نظمه، لأن السريان لم يدخلوها في شعرهم حتى صدر القرن التاسع متأثّرين بذلك بالعرب[185]، ولا نعرف عدد قصائده وأناشيده التي ضاع جانب كبير منها، وما تبقّى منها اليوم يعد بالمئات.
وهو شاعر فحل، طويل النفس، يمتاز أسلوبه بالإسهاب، وشعره عامة سلس، يرسله على السليقة فيتدفق كالسيل العرم.
وتناول بشعره شتى المواضيع الدينية، العقائدية منها والروحية، فبجّل السيد المسيح، وطوّب أمه العذراء مريم، ومدح الأبرار والصالحين وغبط الزهاد والمتوحدين، ورثى النفس الخاطئة وحثّها على التوبة، وقرّع البدع والمبتدعين خاصة ماني ومرقيون وبرديصان وآريوس، وأكثر من سرد الحكم في قصائده النفيسة، وأناشيده البديعة، التي كانت تعبر عما احتواه قلبه الكبير من الإيمان، وما استوعبه عقله الجبار من الحكمة، وقد حازت مكانة القمة في الكنيسة السريانية فأدخلت الطقس البيعي وهو حيّ.
ولأهمية مؤلفات مار أفرام نقلت إلى اليونانية وهو حي أو في العقد الأول بعد وفاته، كما نقلت بعدئذ إلى لغات شتى نخص بالذكر منها لغة الضاد فقد نقل إليها ابراهيم بن يوحنا الأنطاكي سنة 980م عدداً من مقالاته في الرهبنة[186]، كما وصل إلينا منها أيضاً إحدى وخمسون مقالة نقلت من اليونانية إليها حوالي القرن الحادي عشر نقلاً فيه الجيد وفيه الملحون وأصلها السرياني مفقود[187]. ومنذ القرن الثامن عشر وحتى اليوم حقق علماء الاستشراق الأفذاذ وبعض الشرقيين، أغلب مؤلفات مار أفرام الشعرية والنثرية ونشروها بالطبع وترجموها إلى اللغات اللاتينية والإنكليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية وغيرها. «ومن محاسن مؤلفات مار أفرام أن ترجمتها لم تفقدها شيئاً من عذوبة فصاحتها الفطرية فهي إذا قُرئت باليونانية مثلاً أحدثت نفس التأثير والإعجاب الذي تحدثه قراءتها في أصلها السرياني»[188].
لقد زيّنت آثار مار أفرام مكتبات الشرق والغرب وهي تعتبر من نفائس المخطوطات في دنيا المكتبات ونظر العلم والفن، إذ يرجع تاريخ بعضها إلى القرون الخامس والسادس والسابع للميلاد. وتوجد في مكتبات معظم حواضر الشرق العربي الشهيرة، ومدينة الفاتيكان، والمتحف البريطاني، وأوكسفردن وبرمنكهامن وكمبرج، وباريس، وشيكاغو وغيرها.
أقوال مأثورة لمار أفرام:
ـ إن الحكيم لا يبغض أحداً، وإن أبغض فإنما يبغض الجاهل. أما الجاهل فلا يحب أحداً فإنه يحب رفيقه الجاهل.
ـ اقتن الذهب بمقدار أما العلم فاكتسبه بلا حد، لأن الذهب يكثر الآفات وأما العلم فيورث الراحة والنعيم.
ـ كن في فتوتك متواضعاً لترتفع في شيخوختك.
ـ إن الحكمة أفضل من الزينة، والعلم خير من الأموال، وفتى حدثاً حكيماً خير من ملك شيخ جاهل.
ـ الحسد سهم نافذ يقضي على راميه.
ـ ليس بكثرة البنين تكون الحياة للآباء.
ـ إذا شاء رب البرايا قام الولد الواحد مقام الكثيرين.
القديس مار أفرام السرياني كنارة الروح القدس وشمس السريان
قالوا في مار أفرام:
قال القديس غريغوريوس النوسي (+396):
«أفرام كرمة اللّـه الكثير ثمرها… إن ضوء سيرته وعلمه قد أنار العالم وصار أفرام معروفاً عند كل من تطلع الشمس عليه ولن يجهله إلا من جهل باسيليوس الكبير الذي هو كوكب الكنيسة المنير»[189].
وقال القديس يوحنا فم الذهب (+407):
«أفرام كنارة الروح القدس، ومخزن الفضائل، ومعزّي الحزانى ومرشد الشبّان، وهادي الضالين، كان على الهراطقة كسيف ذي حدّين»[190].
وقال سوزومين المؤرّخ اليوناني (+423):
«إنه أرفع من كل ثناء وقد زيّن الكنيسة كلها أفخر زينة، وفاق الكتاب اليونانيين بحكمته ورونق كلامه وأصالة رأيه وسداد برهانه»[191].
وقال القديس هيرونيموس (+430):
«أفرام شماس كنيسة الرها ألف كتباً كثيرة في اللغة السريانية وقد بلغ من الشهرة والتوقير أن بعض الكنائس تتلو ما كتبه على الشعب، في الكنائس، بعد تلاوة منتخبات الأسفار المقدسة. وقد طالعت في اليونانية كتابه في الروح القدس مترجماً من السريانية ووجدت فيه قمة الذكاء السامي في الترجمة أيضاً»[192].
وقال القديس يعقوب السروجي (+521):
«مار أفرام الينبوع الفياض الذي روت مياهه أرض الإيمان، والخمرة المعتقة التي أخذت صفاتها من دماء الجلجلة… النسر الذي انتصب بين الحمامات الوديعة… الذي ضارع موسى الكليم وأخته مريم بتلقينه العذارى والفتيات ولفيف المؤمنين، أنغاماً محكمة بث فيها تعاليم الكنيسة الحقة، وأحرز بواسطتها إكليل الظفر والانتصار على أعدائها… الشاعر المبدع الذي جاش قلبه كالبحر الخضّم بالميامر التي لا تحصى والمداريش التي لا تعد… إنه تاج الأمة السريانية جمعاء»[193].
القديس أنطونيوس الكبير
أبي الرهبان وكوكب البرية 356+
كاتب القصة:
في أواسط القرن الرابع للميلاد فاحت رائحة فضائل القديس الأنبا[194] أنطونيوس الذكية في أرجاء العمورة. فكتب بعض المتوحدين الأتقياء في الغرب[195] إلى القديس أثناسيوس الرسولي 373+ مستفسرين منه عن صحة الأمور العجيبة التي قيلت عن هذا الحبيس[196] البار، والناسك القديس. فأجابهم القديس أثناسيوس بكتاب باليونانية شرح فيه بالتفصيل ما رآه بنفسه أو سمعه ممن عاشروا الأنبا أنطونيوس. ويقول في مقدمته: «… إنني أسرعت في الكتابة إليكم عما أعرفه أنا شخصياً إذ رأيت أنطونيوس مراراً، وعما استطعت أن أتعلمه منه، لأنني لازمته طويلاً، وسكبت ماء على يديه، وفي كل هذا كنت أذكر هذه الحقيقة أنه يجب أن لا يرتاب المرء إذا ما سمع كثيراً، ومن الناحية الأخرى يجب أن لا يحتقر الرجل إذا ما سمع عنه قليلاً» وقد نُقلت هذه القصة إلى السريانية[197].
أنارت سيرة القديس الأنبا أنطونيوس الطريق أمام جمهور غفير من الشبان، فتركوا العالم، وتبعوا الرب يسوع، وامتلأت برية مصر بالمتوحدين والمتوحدات، والرهبان والراهبات، بل ازدهرت حياة الرهبانية في العالم المعروف. ذلك أن القديس أثناسيوس كاتب قصة حياة القديس أنطونيوس، حملها إلى روما في زيارته إياها عام 339، وأشاع في إيطاليا طريقة الأنبا أنطونيوس في النسك فانتشرت وكانت أقوى عامل لازدهار الحياة النسكية في غرب أوربا، ولما درسها أوغسطينس 430+ بعدئذ ساعدت على توبته[198] وقد وصف القديس أثناسوس القديس أنطونيوس بقوله: «إنه أبو الرهبان وكوكب البرية»، ويعد أول مصابيح البرية ومؤسس الرهبنة التي هي فلسفة المسيحية الروحية.
نشأة مار أنطونيوس:
ولد أنطونيوس في بلدة «قِمَن» (وهي كوم العروس اليوم) في صعيد مصر، حوالي سنة 251م من أسرة مسيحية تقية وتربى في كنف والدين فاضلين أحبهما كثيراً وأطاع أوامرهما، وكان يرافقهما بالذهاب إلى الكنيسة لعبادة اللّـه بالروح والحق.
لم يكن للفتى أنطونيوس رغبة في تحصيل العلوم الدنيوية، فنشأ أمياً أو شبه أمي، ولكنه كان يتلذذ بسماع كلمات الإنجيل المقدس، ويحفظ عن ظهر قلبه حوادثه، وآياته الكريمة.
ولما أكمل العشرين من عمره نال سر العماد المقدس. وبعيد ذلك بمدة قصيرة انتقل والداه إلى الخدور العلوية تاركين له مالاً دثراً، وأختاً وحيدة أصغر منه ألقيت على عاتقه مسؤولية العناية بها.
اعتزاله العالم:
تألم أنطونيوس جداً على وفاة والده، ووقف يتأمله وهو جثة هامدة باردة ويقول: أليست هذه الجثة كاملة ولم يتغير منها شيء البتة سوى توقف هذا النفس الضعيف!؟.. وخاطب أنطونيوس أباه الميت قائلاً: «أين هي عزيمتك، وأمرك، وسطوتك العظيمة، وهمتك العالية بجمع المال الكثير!؟ إنني أرى أن ذلك قد بطل، وقد تركت كل شيء ورحلت.. فيا لهذه الخسارة الفادحة، والحسرة الجسيمة! فإن كنت أنت يا أبتاه قد تركت هذا العالم مجبراً، أما أنا فسأعتزله طائعاً، كيلا يخرجوني منه مثلك يا أبي كارهاً»[199].
بدأ أنطونيوس الشاب التقي يكثر من التأمل بحقارة هذا العالم وبأمجاد السماء. وحدث مرة بينما كان يصلي في الكنيسة، والكاهن يتلو الإنجيل المقدس، جذب انتباهه قول الرب للشاب الغني: «إن أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبع أملاكك وأعط الفقراء، فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني» (مت19: 21). واعتبر أنطونيوس كلام الرب يسوع موجهاً إليه. وأن الرب بهذا الكلام يدعوه ليترك كل شيء ويتبعه كما فعل الرسل الأطهار (مت19: 27ـ 29) فللحال خرج أنطونيوس من الكنيسة، وعاد إلى بيته مصمماً على أن ينفذ الوصية بحذافيرها، فوزع على الفقراء ما ورثه من والديه من مال وعقار، ومن جملة ذلك ثلاثمائة فدان من الأراضي الممتازة، واحتفظ لأخته بيسير من المال فقط. وقد ازداد إيماناً واندفاعاً عندما سمع الرب يقول أيضاً في الإنجيل المقدس: «فلا تهتموا قائلين: ماذا نأكل، وماذا نشرب، وماذا نلبس؟ فإن هذه كلها تطلبها الأمم، لأن أباكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها، لكن أطلبوا أولاً ملكوت اللّـه وبره، وهذه كلها تزاد لكم، فلا تهتموا للغد، لأن الغد يهتم بما لنفسه، يكفي اليوم شره» (مت6: 31ـ 34). لما سمع الشاب أنطونيوس هذا الكلام وزع البقية الباقية من الإرث على المحتاجين، وأودع أخته بيتاً لبعض العذارى التقيات، واعتزل العالم، وانفرد متنسكاً في مكان قريب لبلدته، إذ لم يكن نظام الرهبنة قد ظهر بعد[200] وبدأ يسترشد ببعض المتوحدين، فقد كان في القرية المجاورة واحد منهم طاعن في السن وقد اعتزل الناس منذ نعومة أظفاره ـ والعزلة عبادة ـ فكان يتعبّد مكثراً من الصوم والصلاة، فقصده أنطونيوس وسمع منه عن حياة الزهد، والنسك، والتوحد، واقتدى بسيرته الفاضلة، كما قصد أنطونيوس غيره من المتوحدين الذين سبقوه في طريقة النسك هذه، وأخذ عنهم ذلك وأفاد من خبرتهم لبلوغ الكمال المسيحي، وشابه بذلك النحلة التي تنتقل من زهرة إلى أخرى ترتشف الرحيق لتعطي الشهد الفاخر.
وخرج أنطونيوس بعدئذ هائماً على وجهه في البرية حتى وصل إلى شاطئ النهر فسكن إلى جانب جميزة، وصادف أن شاهد مرة نسوة يستحممن في النهر أمامه، فلامهن قائلاً: أما تخجلن مني وأنا رجل متوحد أعبد اللّـه في هذا المكان!؟ فأجابته إحداهن: على المتعبدين المتوحدين أن يعبدوا اللّـه في البرية الداخلية لا على ضفاف الأنهار، فاعتبر أنطونيوس هذا الكلام رسالة له من اللـه، فترك المكان حالاً وسكن في البرية الداخلية حيث أقام له صومعة قرب وادي العربة.
جهاده في حياة النسك، والتجارب التي طرأت عليه:
وكان الشيطان يحاربه بالملل والكسل، كاد أن يغلبه مدخلاً اليأس في قلبه، فسئم أنطونيوس حياة النسك، وشعر كأن الصلاة عبء ثقيل، وأمام هذه التجربة الصعبة سكب أنطونيوس نفسه أمام اللّـه بتواضع، وذرف الدموع السخينة، وهو يطلب حياته الروحية، فظهر له ملاك الرب بشكل رجل متشح برداء طويل ومتمنطق بمنطقة من جلد ولابس زنار صليب كالإسكيم وقد غطى رأسه بقبعة، وهو جالس يضفر الخوص، ثم يقوم يصلي، ويعود يضفر الخوص، ثم يقوم ثانية للصلاة، وأنطونيوس يتأمله مندهشاً، فالتفت أخيراً إلى أنطونيوس قائلاً له: «اعمل هكذا تسترح» ثم اختفى عنه، فعلم أنطونيوس أن الرب أرسل ملاكه ليعلمه كيفية عبادة اللّـه بالصلاة وعمل اليدين، فاتخذ أنطونيوس زي الرهبنة وخاصة الإسكيم الرهباني على الشبه الذي كان الملاك متشحاً به، وأكثر من العمل في ضفر الخوص، وهكذا تخلص من تجربة الملل والكسل، وعاد إليه نشاطه وعلو همته في الصوم والصلاة وعمل اليدين. وكان ينفق جزءاً مما يحصل عليه من عمل يديه لأجل القوت ويوزع الباقي على الفقراء.
وعاد إبليس يحاربه ثانيةً، وفي هذه المرة كانت التجربة القاسية بتذكير أنطونيوس بحياته الأولى حيث كان يعيش في بحبوحة ورفاه ويقارن ذلك بالشقاء الذي يتحمله في حياة النسك، والزهد، والتقشف، كما شنَّ عليه إبليس أيضاً حرب الجسد، فألهبه بالشهوة الدنسة، وملأ رأسه بالأفكار الأثيمة. وحدث ذات مرة أن جمع إبليس أمام أنطونيوس كل آلات الطرب واللهو واللذات الدنيئة والنساء. أما أنطونيوس فتواضع أمام الرب الإله وطلب معونته تعالى، وكان يغمض عينيه ويقول للأبالسة: «عجباً منكم! كيف تجعلون لي مقداراً أكثر مما أنا عليه بكثير، وتحسبون لي حساباً كأني شيء مهم، وتحتالون في سقوطي مع أني ضعيف عن مقاومة أحد أصاغركم، أبعدوا عني وعن ضعفي فإني مسكين وتراب ورماد» وهكذا كان أنطونيوس يغلب إبليس باتضاعه واتكاله على اللّـه فتزول عنه الأفكار الأثيمة، كان يردد مع الرسول بولس: «لا أنا بل نعمة اللّـه التي معي» (1كو15: 10).
وانفرد أنطونيوس في ناؤوس[201] خال، حيث حبس نفسه فترة من الزمن كثَّف فيها الصلاة، وأكثر من الصيام فلما رأى الشيطان نسكه الصارم وعبادته الحارة، حسده وضربه ضرباً موجعاً وتركه بين حي وميت فلما أتى أصدقاؤه الذين يحضرون إليه ما يقتات به، ووجدوه على تلك الحال، حملوه إلى الكنيسة واعتنوا به، وإذ وجد أنطونيوس نفسه قد تماثل إلى الشفاء قليلاً عاد إلى مكانه الأول، فعاد إبليس إلى محاربته بخيالات كثيرة إذ ظهر له في أشكال وحوش وذئاب وأسود وحيات وعقارب، وكان إبليس صور له أن هذه الوحوش الشرسة تهم لافتراسه وتمزيقه إرباً إرباً. أما أنطونيوس فكان يرسم على نفسه علامة الصليب ويصلي بحرارة فكانت الأبالسة تتوارى من أمامه كالدخان، وتلك الوحوش تذوب كالشمع أمام النار، وكان أنطونيوس يستهزئ بالشياطين قائلاً لهم: «لو كان لكم علي سلطان لكفى واحد منكم لمحاربتي، ولكن حيث أن اللّـه تعالى قد جردكم من كل قوة لهذا تحتالون أن تخيفوني بكثرتكم»، وكان يترنم بالمزمور الذي بدؤه: «يقوم اللّـه ويتبدد أعداؤه» (مز68: 1).
وفي كل تجاربه كان أنطونيوس يستمد قوته من اللّـه تعالى الذي يرمق خائفيه بعينه الساهرة. ونتيجة لخبرته الروحية هذه قال يوماً لتلاميذه[202]: إني أبصرت مصابيح من نار محيطة وسمعت صوت اللّـه القدوس يقول: «لا تتركوهم ما داموا مستقيمي الطريقة» فلما أبصرت هذا تنهدت وقلت: «ويلك يا أنطونيوس: إذ كان هذا العون محيطاً بالرهبان، ومع ذلك فالشياطين تقوى عليهم أحياناً!» فجاءني صوت الرب قائلاً: إن الشياطين لا تقوى على أحد، لأني منذ أن تجسدت سحقت قوتها عن البشريين، ولكن كل إنسان يميل إلى الشهوات ويتهاون بخلاصه، فشهوته هي التي تصرعه وتجعله يقع». فصحت قائلاً: «طوبى لجنس الناس وبخاصة الرهبان، لأن لنا سيداً هكذا رحيماً ومحباً للبشر».
ويذكر القديس أثناسيوس أن الأنبا أنطونيوس «كان يسهر طويلاً لدرجة أنه كثيراً ما كان يقضي الليل كله مصلياً دون أن ينام، وهذا لم يفعله مرة واحدة بل مراراً حتى عجب منه الآخرون وكان لابساً شعراً، ولم يستحم بماء طوال حياته (النسكية) وكان يأكل مرة واحدة في اليوم، بعد الغروب، وفي كثير من الأحيان مرة كل يومين، أو مرة كل أربعة أيام، أما طعامه فكان الخبز مع قليل من الملح، وشرابه الماء فقط.. وكان يكفيه أن ينام على حصير خشن، ولكنه غالباً كان ينام على الحضيض»[203] وتتلخص فلسفته في الزهد بقوله: «إن قوة النفس تكون سليمة عند الإقلال من ملذات الجسد، ولذلك فالرسول بولس يقول: «حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي» (2كو12: 10) فإن التقدم في الفضيلة والاعتزال عن العالم من أجلها يجب ألا يقاسا بالزمن بل بالرغبة وثبات العزيمة، ولم يبال الأنبا أنطونيوس بالماضي بل كان كل يوم كأنه في بداية نسكه يبذل جهداً أكثر شقاء نحو النمو مكرراً لنفسه قول الرسول بولس: «انس ما هو وراء، وامتد إلى ما هو قدام» (في3: 14) وقول النبي إيليا القائل: «حي هو الرب الذي أنا واقف أمامه اليوم» (1مل18: 15).
ولما بلغ الأنبا أنطونيوس الخامسة والثلاثين من عمره، اجتاز نهر النيل شرقاً وتوغل في البرية فوجد حصناً قديماً، مهجوراً، في داخله مجرى ماء، أوت في ثغوره الثعابين الغدارة والزحافات الفتاكة فاتخذ الأنبا أنطونيوس قلاية[204] له، فغادرته الأفاعي والزحافات حالاً، فسد مدخله وحبس فيه نفسه ولم يغادره أعواماً عديدة ولم يأذن لأحد أن يدخل إليه، بل كان من يأتي إليه يقف خارجاً ويستمع إلى كلمات الوعظ والإرشاد. وكان معارفه يدلون إليه من فوق كمية من الخبز مرتين في السنة.
وبعد قضاء عشرين عاماً معتزلاً الناس عابداً اللّـه متزهداً، ذاع صيته في الأقطار، وبإلهام رباني خرج من الحصن مملوءاً من الروح القدس والحكمة، صحيح الجسم قويه، على الرغم من التقشف الشديد المضني. تفوح منه رائحة القداسة، ويشع في محيّاه نور المسيح. ومضى إلى الفيوم ووعظ الإخوة هناك وثبتهم على حياة النسك، ثم عاد إلى حصنه.
وأنعم اللّـه عليه بموهبة شفاء المرضى، فقصده الناس من كل فجٍّ عميق، فكان يعظهم بكلمة الحياة، ويصلي لأجلهم فينالون شفاء النفس والجسد.
واقتدى بنسكه كثيرون، وتتلمذوا عليه آخذين عنه طريقة الزهد والنسك، التي دعيت بعدئذٍ بالرهبنة بشروطها الثلاثة: البتولية، الفقر الاختياري، والطاعة. وكان يتفقد الرهبان في البرية بين الفينة والفينة، ويرشدهم إلى طريق الكمال[205] بالقول والمثال. وعمّر لهم أديرة وسنّ لهم قوانين انضباطية تنضم لهم الحياة المشتركة. ويعتبر القديس الأنبا أنطونيوس مؤسساً للحياة الرهبانية الأولى، نصف النسكية التي تمتاز بانفراد كل راهب أو ناسك في قلايته أو صومعته خمسة أيام في الأسبوع[206] ويجتمعون معاً أيام السبت والأحد[207] والأعياد في ديرهم المجاور لأماكن إقامتهم، للاشتراك في الأسرار الإلهية.
وقصد الأنبا أنطونيوس الإسكندرية عام 311 إبان شدة مكسيمينس[208] رغبة منه في الاستشهاد في سبيل المسيح يسوع. فكان يتفقد المعترفين[209] في سجونهم ويعزيهم ويشجعهم على الثبات حتى الموت على الإيمان المستقيم الرأي. وكان الحاكم قد أصدر أمراً بأن لا يظهر راهب في المدينة، أما الأنبا أنطونيوس فلم يبالِ بذلك بل كان يجاهر بالإيمان أمام الناس وحتى أمام الحاكم ذاته ببسالة فائقة. وشاء اللّـه تعالى أن يحفظه لمنفعة الكنيسة فلم يستشهد وعاد إلى ديره سالماً. وتنبأ الأنبا أنطونيوس عن خراب البيعة وتسلط الهراطقة عليها مدة من الزمن، وعودتها إلى عقيدتها المستقيمة الرأي وتقاليد آبائها.
كما تنبأ عن نمو الرهبنة وازدهارها. وهو الذي ألبس الأنبا مكاريوس[210] الاسكيم الرهباني وانبأ بما يكون منه، وزار الإسكندرية للمرة الثانية وذلك سنة 355م، يوم كان الأريوسيون يفتكون برجال الكنيسة والمؤمنين باضطهاد عنيف أثاروه ضد المؤمنين، فخرج الأنبا أنطونيوس من عرينه يدافع عن الإيمان المستقيم الرأي ويعزي المعترفين، ويزور المسجونين مشجعاً اياهم على الثبات على الإيمان ويسفه الهراطقة الأريوسية الشنيعة، فتحمل في سبيل ذلك عذاباً أليماً وهدى العديد من الهراطقة الى الإيمان، وشاء اللّـه أن يبقيه حياً هذه المرة أيضاً لخير الكنيسة فلم يستشهد.
وزاره البطريرك اثناسيوس الرسولي، وكتب سيرته كما مر بنا. وكتب اليه الملك قسطنطين وأبناه قسطنطينوس وقسطنس خطابات طمعاً بنيل بركته، ورجوه أن يجاوبهم، ففعل بإلحاح تلاميذه عليه. وكانت أجوبته منطوية على النصائح الأبوية، والتذكير بالحياة الأبدية. وقد فرحوا بها كثيراً.
وقبل وفاة القديس الأنبا بولس أول المتوحدين الحبساء ( + 347)، زارها الأنبا انطونيوس، بإلهام رباني وسمع منه قصته كما أنبأه الأنبا بول عن دنو أجله، وأن اللّـه أرسله ليقوم بمراسم دفنه، فحزن الأنبا أنطونيوس كثيراً وبكاه بكاء مراً. واهتم به وكفنه بعباءته التي أهداها اليه الأنبا اثناسيوس الرسولي البابا الاسكندري العشرون، وصلى عليه وأودعه لحداً حفره أسدان أرسلهما اللّـه اليه، وأخذ قميصاً من خوص كان عليه ورجع الى تلاميذه وأخبرهم بقصته، وقد عمَّر الأنبا بولس نحواً من مئة وثلاث عشرة سنة.
ولما شعر القديس الأنبا انطونيوس بدنو أجله، جمع تلامذته الرهبان ووعظهم، وأوصاهم أن يدفنوا جسده في التراب ويخبئوه تحت الأرض. وأناط هذه المهمة إلى تلميذيه أماثاس وكاريوس، ومما قاله في وصيته: «حافظا على كلمتي حتى لا يعرف المكان أحد سواكما. لأنني في قيامة الأموات سأتقبل جسدي بلا فساد من المخلص» وأمر بتوزيع ثيابه وأن تعطى للأسقف أثناسيوس (الفروة) أي جلد الخروف والرداء الذي كان مضطجعاً عليه والذي أعطاه إياه جديداً الأسقف أثناسيوس نفسه، ولكنه عتق مع القديس أنطونيوس. وإن تعطى (الملوطة) الجلد لتلميذه انكونيوس الاسقف سرابيون. وان يعطى عكازه لتلميذه الانبا مكاريوس وأن يحتفظا لهما بالثوب المصنوع من الشعر وأن يأخذا أيضاً ما تبقى له، ومما قاله لهما : «أما الباقي فخذاه يا ولديَّ لأن انطونيوس راحل ولن يبقى معكما فيما بعد». وهكذا رقد بالرب وكان عمره مئة وخمسين سنة. وذلك في 17 كانون الثاني ( يناير) عام 356م، وقام بدفن جسده حسب وصيته تلميذاه اماثاس ومكاريوس[211] وتعيد له كنيستنا السريانية المقدسة وبقية الكنائس في 17 كانون الثاني من كل عام.
ومما هو جدير بالذكر أن القديس الأنبا أنطونيوس حتى ساعة انتقاله الى الخدور العلوية، لم تضعف قوته، ولا تناثرت أسنانه ولا تغيرت سحنته.
وبحسب نبوته أزدهرت الرهبنة فقبل وفاته كان عدد الرهبان الذين يدبرهم في مصر قد بلغ مائة ألف، ولم تنقض خمسون سنة بعد ذلك حتى كان عدد الرهبان في براري مصر مساوياً تقريباً لعدد سكان البلاد[212].
وظلت رفاته مخفية حتى عام 561م حين اكتشفت، ووضعت في كنيسة بمدينة كابون القريبة من الإسكندرية، ونقلت عام 635م إلى القسطنطينية، وفي القرن الحادي عشر إلى مدينة فيينا في شمال مارسليا فرنسا واستقرت أخيراً في كنيسة يولياني في مدينة آرل الواقعة على مصب الرون غرب مارسيليا. وقد ظهرت منها معجزات كثيرة[213].
أقوال مأثورة للأنبا انطونيوس:
ولئن كان القديس أنطونيوس شبه أميّ لكنه تخرج كالرسل في مدرسة الروح القدس، وأخذ عن المتوحدين الذين سبقوه في هذه الطريقة وعاصروه. وصار أباً ومعلماً لعشرات الآلاف من الرهبان. وأخذ عنه تلاميذه الأقربون، ودونوا عنه رسائل روحية وأقوال مأثورة نورد فيما يأتي بعضاً منها على سبيل المثال لا الحصر[214]:
الاعتدال:
كلما لجأ الإنسان إلى الاعتدال عاش بسلام القلب بخلوه من الاهتمامات الزائدة بأمور كثيرة. لكن التعلّق بأمور هذا العالم ينشىء كدراً ويعود صاحبه التذمر على اللّـه. وهكذا تقودنا شهوات أنفسنا إلى الأتعاب ونتخبط في ظلمة الحياة الأثيمة.
الشره:
كل خبزك بسكينة وهدوء وإمساك. وإياك والشره فأنه يطرد خوف اللّـه من القلب، والحياء من الوجه ويجعل صاحبه مأسوراً من الشهوات ويضل العقل عن معرفة اللّـه. أجعل لك مرة واحدة في النهار للقيام بحاجة الجسد لا للشهوة ولا تاكل حتى تشبع.
تجنب الحديث الغليظ والكلام الباطل:
إياك والغلظة في الحديث لأن الذكي بالروح يتصف بالتواضع والعفة أكثر من كل شيء. يكتب الرسول بولس قائلاً: «لا تطفئوا الروح لا تحتقروا النبؤات» (اتس 5: 19، 20) ولتعلموا أنّ لا شيء يطفئ الروح مثل الكلام الباطل.
التواضع والغيرة:
لقد صليت لأجلكم حتى تقبلوا ذلك الروح الناري العظيم الذي اقتبلته أنا. وإذا أردتم اقتباله حتى يسكن فيكم فقدموا أولاً أتعاب الجسد واتضاع القلب. ويرفع أفكاركم للسماء ليلاً ونهاراً. اطلبوا ذلك الروح الناري بقلب مستقيم وسيعطى لكم. هكذا قبله إيليا التشبي واليشع وغيرهما من الأنبياء.
لا تتوهم بأنك عالم وحكيم لئلا يذهب تعبك سدى، وتمر سفينتك فارغة. ارفض الكبرياء وأعتبر جميع الناس أبرّ منك.
عندما تهب الريح هادئة يستطيع كل قبطان أن يفتكر في نفسه متعظماً، وأن يباهي بمهارته لكن عندما تتغير حال الرياح فجأة فحينئذٍ تنكشف خبرة الربان الحقيقية.
المواظبة على القراءة والعمل:
أتعب نفسك في قراءة الكتب المقدسة فهي تخلصك من النجاسة. فأذا جلست في قلايتك فلا تفارق هذه الاشياء: 1ـ القراءة في الكتب المقدسة،2ـ التضرع إلى اللـه،3ـ شغل اليد. وإن الراهب الذي يكون في قلايته غير ذاكر اللّـه تعالى، ولا قارئ في الكتب المقدسة، يكون كالبيت الخرب خارج المدينة التي لا تفارقه الاوساخ.
الطاعة :
إن الطاعة والمسكنة يخضعان الوحش لنا.
الكذب:
إياك والكذب فهو يطرد خوف اللّـه من الإنسان.
التفكير في الموت:
تفكر في كل يوم أنه آخر ما بقي لك في العالم فأن ذلك ينقذك من الخطيئة.
قصة مار متى الناسك
والشهيدان مار بهنام وسارة ورفاقهما الأربعين
كاتب القصة
لقصة هؤلاء القديسين نسخة سريانية بليغة العبارة لمؤلف مجهول، يظن أنه أحد رهبان دير مار متى، يعود تاريخ نسخها الى القرن السابع للميلاد[215].
ولعل الكاتب عاصر مار متى الناسك أو كان في عهد مار زكا خليفة مار متى. وربما كان مصير النسخة الأصلية مصير غيرها من نفائس مخطوطات دير مار متى التي أحرقها برصوم النصيبيني سنة 480م[216] ولهذه القصة أيضاً نسخة في مكتبة لندن، ومخطوطة كُتبت عام1199م في دير والدة الاله في مصر[217]، وأخرى ليست أحدث منها كُتبت في دير والدة الاله في الرها[218]. وتحتفظ مكتبة برلين ومكتبة الفاتيكان بمخطوطتين أخريين اعتمدهما الاب بولس بيجان في نشر القصة بالطبع عام 1891م[219] وكأغلب قصص لشهداء والقديسين، لا تخلو هذه القصة من زيادات أضافها إليها النساخ جهلاً، وهي لاتخفى على القارئ اللبيب، لذلك فبعد تحري الحقائق التاريخية نقدم القصة خالية من الزوائد بعيدة عن المغالاة.
القديس مار متى الناسك
ولادة مار متى ونشأته:
وُلد مار متى في قرية ابجر شمالي في ديار بكر في الربع الأول من القرن الرابع، وكان والداه مسيحيين بارين تقين سالكين بحسب شريعة الرب بلا لوم. وقد أنعم اللّـه عليهما بالمال الوافر والأولاد الصالحين.
وتلقى متى مبادئ الدين المبين في دير مار سركيس وباخوس بجوار قريته، حيث قضى سبع سنين. ثم انتقل الى دير زوقنين بظاهر ديار بكر حيث لبس الاسكيم الرهباني ورسم كاهناً، وتبحر في الكتاب المقدس ومصنفات الأباء على أيدي أساتذة ماهرين ورهبان أتقياء[220]. ولما أثار الامبراطور الروماني يوليانس الجاحد (361 ـ 363) اضطهاده على المسيحية في أطراف إمبراطوريته لاحق الرهبان يريد إبادتهم، فهرب مار متى الى البلاد التي كانت تحت حكم أثور[221] حيث تنسك في كهف، كما سكن رفيقاه مار زكا ومار ابراهيم في الجبل نفسه، واقتدى بهم كثير من الشبان زهدوا بالدنيا وتنسكوا في كهوف الجبل وابتنوا لهم ديراً صغيراً يجتمعون فيه أيام الآحاد والأعياد للصلاة، وإقامة القداديس الالهية والاشتراك بتناول القربان المقدس.
واشتهر مار متى بالتبشير في بالانجيل، وتعليم المؤمنين أصول الدين المسيحي المبين. كما عُرف بصنع المعجزات الباهرات. ومن أهم المعجزات التي صنعها اللّـه على يده شفاء سارة ابنة سنحاريب حاكم ولاية أثور وتعميدها مع أخيها بهنام ورفاقهما الأربعين.
وتوفي مار متى في ديره شيخاً طاعناً في السن ودفن بجوار مذبح الكنيسة في الدير في موضع يدعى بيت القديسين. وتعيد له الكنيسة في 18 إيلول من كل سنة.
الفتى بهنام يؤمن بالسيد المسيح:
كان الفتى بهنام بن سنحاريب حاكم ولاية أثور احدى ولايات الدولة الفارسية[222] التي كان ملكها عصرئذ شابور ( 309- 379) يدين بالوثنية ويضطهد المسيحيين بشراسة وضراوة. وكانت مدينة نمرود عاصمة ولاية أثور موطن الوالي سنحاريب وأفراد عائلته، وكانت قريبة من مدينة نينوى عاصمة المملكة الأشورية سابقاً.
في غضون النصف الثاني من القرن الرابع حدث للفتى بهنام حدث غيَّر مجرى حياته. ذلك أنه خرج كعادته إلى الصيد يرافقه أربعون فارساً، ولم يعلم بأن اللّـه، جلَّ جلاله، هيّأ لاصطياده ورفقائه في شبكة الإنجيل المقدس. فقد أرسل تعالى ملاكه بشبه أيل كبير طارده الفتى بهنام ورفقاؤه إلى لحف جبل مقلوب، ثم توارى عن أبصارهم فجاء وقد غابت الشمس وخيَّم الظلام الدامس، فاضطروا الى المبيت حيث انتهوا بقرب عين ماء.
وفي منتصف الليل تراءى ملاك الرب في الحلم للفتى بهنام وأعلن له: «أن اللّـه قد اختاره ليكون أحد أصفيائه القديسين، وأمره بأن يتوغل الجبل صباحاً ويقصد القديس الناسك الشيخ متى المقيم في هذا الجبل، فعلى يده سيظهر اللّـه تعالى إرادته الإلهية حيث سيرشده ورفاقه إلى طريق الحياة كما أنه على يد مار متى سيُطِّهر اللّـه سارة أخت بهنام من برصها». وفي الصباح الباكر استيقظ بهنام قلقاً وقص على رفاقه وقائع رؤياه، فشجعوه على الامتثال لأوامر الملاك، وصعدوا معه الجبل حيث استقبلهم الشيخ مار متى ببشاشة، وأخبرهم أن اللّـه أنبأه عن مجيئهم وأمره ليبشرهم بإنجيل الفداء. وشرح لهم مار متى أصول الدين المسيحي فآمن الفتى بهنام وطلب إلى مار متى أن يرافقه إلى أثور ليصلي إلى أخته سارة التي كانت مصابة بمرض الجذام (البرص)، وقد أعيى داؤها نطس الأطباء. فرافقهم مار متى ومعه أحد تلاميذه ولما وصلوا ظاهر المدينة طلب إليه بهنام أن ينتظره هناك ريثما يأتي بأخته سارة تاركاً معه بعض جنده.
وأسرع الفتى بهنام يحمل البشارة إلى أمه كاشفاً لها سره وباسطاً أمامها دخيلة أمره، طالباً إليها أن تسمح له بأخذ أخته سارة إلى القديس الشيخ مار متى ليصلي عليها، فأذنت له والدته بذلك.
ولما التقت سارة مار متى جثت أمامه فصلى عليها وبشرها بالمسيح يسوع فآمنت. فضرب مار متى الأرض بعصاه وتفجرت عين ماء عمد فيها سارة فطهرت حالاً من برصها، ثم عمد الفتى بهنام ورفقاءه الأربعين.
وعاد مار متى إلى ديره ومنسكه في جبل مقلوب، وعاد الفتى بهنام وأخته سارة وصحبه الأربعون إلى المدينة وقد استناروا بنور المسيح.
وذاع خبر شفاء سارة في أرجاء الولاية، وابتهج سنحاريب إذ علم ذلك، ولكن فرحته انقلبت إلى حزن عميق لما علم أن ولديه قد تنصرا. فاستدعاهما وحاول اقناعهما بترك دين المسيح والعودة إلى المجوسية والسجود للنار والتبخير للأصنام، فلم يجده ذلك نفعاً، وذهبت جهوده هباء. فتوعدهما بالعذابات الأليمة أن يرتدا عن المسيحية، واذ تأكدا بأنه قد صمم على قتلهما رأى بهنام أن يلتقي معلمه مار متى لنيل بركته قبل استشهاده، لذلك غادرالمدينة خلسة هو واخته وصحبه الأربعون، فوُشى بهم الى سنحاريب. فاستشاط هذا غضباً وأمر جنده باللحاق بهم وقتلهم حيثما وجدوا فأدركوهم على بضعة كيلو مترات من مدينة نمرود، فنحروهم نحر الخراف الوديعة على قمة تل، وهم يصلون مقدمين ذواتهم قرباناً للـه. طالبين إلى الرب أن يصفح عن الوالي سنحاريب وسائر من كان سبباً في استشهادهم. وعاد الجند إلى سنحاريب وأخبروه بكل ما كان، فسرَّ في بادئ الأمر، وتقّسى قلبه فأمر بحرق أجساد الشهداء. ولما عاد الجند إليهم رأوا الأجساد تشع نوراً كالشمس، وقبل الشروع بحرقها تزلزلت الأرض وانشقت وبتلعت الأجساد الطاهرة وأخفتها عن الأبصار[223].
وعلى أثر ذلك أصاب سنحاريب مسّ من الجنون، فكان يهذي، ويتألم، ويولول، ويمزق ثيابه، ويضرب جسمه، ويسقط على الأرض مصروعاً وينادي ويلاه! أين بهنام؟ وأين سارة؟… فظهر ملاك الرب في الحلم إلى والدة مار بهنام وقال لها: «إن كنت ترغبين في شفاء زوجك فخذيه إلى حيث قتل الشهداء الأبرار». فلما استيقظت فعلت ما أمرها الملاك به وأخذت زوجها إلى الموضع الذي استشهد فيه ولداها بهنام وسارة، وباتا ليلتهما هناك. فظهر مار بهنام لأمه في الحلم وقال لها: «أرسلي وادعي القديس متى ليصلي على أبي فيشفى»، ففي الصباح لما استيقظت بعثت أناساً ليأتوا بمار متى، فلبّى مار متى الدعوة وجاء إلى حيث كان سنحاريب، وصلى عليه فنال سنحاريب الشفاء التام، ورجع إلى رشده وآمن بالرب يسوع واعتمد على يد مار متى هو وزوجته وعظماء ولايته.
أيقونة استشهاد مار بهنام وسارة والجنود الأربعين
دير مار متى:
وشيد مار متى ورفقاؤه بمساعدة الوالي سنحاريب ديراً عظيماً في جبل مقلوب مكان الدير الذي كان يجتمع فيه مار متى ورفقاؤه النساك، أضحى من أشهر أديرة ما بين النهرين نظراً للادوار المهمة التي لعبها في تاريخ كنيسة المشرق بعدئذ بعديد نساكه حيث عُدوا بالالوف، فسمي جبل الألوف أو الألفاف، كما اشتهر بمعهده اللاهوتي والعلماء الفطاحل الذين تخرجوا فيه. فقد كان موطناً للتعليم منذ العقد الثالث من القرن السابع وحتى أواخر القرن الثالث عشر، ومنه شع نور الانجيل في جوانب كثيرة من بلاد المشرق كما اشتهر بمكتبته الذائعة الصيت. وبالرغم من الشدائد العنيفة التي المت بهذا الدير على مر العصور والأجيال فما يزال بعض ابنيته ماثلة الى اليوم[224]. ويعتبر أثراً خالداً ينطق بمجد السلف الصالح على الصعيدين الروحي والعلمي.
دير مار بهنام:
وبنى الوالي سنحاريب بارشاد مار متى قبة على المكان الذي انشقت فيه الأرض وابتلعت أشلاء الشهداء ماربهنام وأخته سارة ورفقائه الأربعين. وتسمى تلك البعقة (معبد الجب) وهي قائمة الى اليوم.
وقد صنعت معجزات لا تحصى بالتشفع بمار بهنام وأخته سارة. واتفق أن تاجراً فارسياً، اسمه اسحق، قصد الحج إلى الأماكن المقدسة والتبرك بمهد السيد المسيح وقبره الفارغ فمر بمعبد الجب وتبرك بمكان ضريح القديس مار بهنام واطلع على أخباره، فشاد له هيكلاً جميلاً شائقاً على أثر شفاء فتاة بصلاة القديس مار بهنام[225]. وبعد بضع سنين شيد دير مهم على اسم مار بهنام بجانب معبد الجب عُرف بدير الجب[226] أو دير مار بهنام أو دير الخضر، ويقع جنوبي مدينة الموصل على بعد خمسة وثلاثين كيلو متراً، صار كرسياً أسقفياً في القرن السادس عشر. وفي عام 1839 صار بيد السريان الكاثوليك وذلك بمساعدة القنصل الفرنسي في الموصل. وهو عامر إلى اليوم، وآثاره نفيسة…
وتُعيّد الكنيسة لمار بهنام وأخته سارة ورفقائه الشهداء الأربعين في العاشر من شهر كانون الأول من كل عام، وتطنب في أوصافه في صلواتها الطقسية.
القديس موسى الحبشي
كاتب القصة:
إن أول من دون قصة موسى الحبشي الملقب بالأسود هو بلاديوس أسقف هلينوبليس (425+) الذي كان معاصراً له وعرفه معرفة جيدة (يخبرنا أنه كان حبشياً ولذلك يلقب بالأسود).
وقد نقلت هذه القصة إلى السريانية، ذلك أن علماء قد نقلوا، في العصور الأولى من اليونانية إلى السريانية تاريخ نساك مصر المعروف بكتاب فردوس الآباء من تأليف بلاديوس[227] ومن جملة قصصه قصة موسى الحبشي.
نشأة موسى
ولد في الربع الأول من القرن الرابع[228] ويخبرنا بلاديوس[229] أنه كان حبشياً ولذلك لقب. ويظن غيره أنه كان من إحدى قبائل البربر[230]. وعبداً لكبير القروم فيهم. وكان هؤلاء يعبدون الشمس. ونشأ شرس الطباع، حاقداً على اسياده، مشاكساً يلتذ بالعنف ويرهبه الناس ويتجنبونه، حتى أن سيده طرده اتقاء شره، وبلغ درجة من القوة والشراسة بحيث صار رئيس عصابة، للسرقة، والنهب، والقتل، تتألف من سبعين رجلاً، ويقال انه عبر النيل ذات مرة سباحةً والسيف بين فكيه ليقتل راعياً للانتقام، كان موسى أكثر أفراد القبيلة شراً، جباراً متجبّراً ويفتخر بقوته الجسمية، واتصف خاصة بالشراهة حتى قيل إنه كان يأكل خروفاً كاملاً ويشرب زق خمر في وقعة واحدة، وكان متمرغاً في الشهوات الدنيئة، لا يخجل من أحد.
اهتداؤه إلى المسيح:
ما بين العنف والقوة بون شاسع. ومن الناس من يتلذذ بأذى غيره، فيقتل، ويدمر، ويعذب، ويظن أنه صار بذلك قوياً جباراً، هذا هو العنف، والعنف قوة، ولكن ليس في مكانها الطبيعي، كالقطار الذي يخرج عن القضبان الحديدية التي وجدت ليسير عليها، فيندفع بعنف من مساره الطبيعي المحدد له. هكذا الإنسان اذا سلك بالعنف يكون قد خرج عن شريعة اللّـه والنواميس التي سنها له اللّـه تعالى ليسلك بموجبها، وبخروج هذا الإنسان على شريعة الرب يتحول إلى آلة بيد الشر، فيدمر ويهلك ويهدم فينهدم.
هكذا كان موسى انساناً قوي البدن جباراً، مرعباً مخيفاً وهداماً. ولكن اللّـه لم يتركه يخبط خبط عشواء في بيداء الخطية بل أيقظ ضميره، وجعله يبحث عن الإله الحقيقي وهو يخاطب الشمس التي كانت قبيلته تعبدها: «هل أنت الإله الحقيقي» ؟! ويقال أنه رأى رؤيا فكانت على أثر ذلك توبة مفاجئة[231] وصادف مرة أحد المزارعين ففرش له دخيلة أمره، وكشف أمامه سره، فأرسله هذا إلى الأنبا ايسيذوروس في برية شيهيت ليدله على الإله الحقيقي، فتقلد موسى سيفه واتجه نحو البرية وصادف شيوخاً عديدين ورهباناً وعبَّاداً قد تركوا العالم وفرزوا أنفسهم لعبادة اللّـه في زهد ونسك شديدين، وقابل الأنبا ايسيذوروس وارتعب هذا منه إذ رآه على تلك الحال وقد سمع عن جرائم كثيرة. ولكن موسى هدأ من روعه وطمأنه بأنه قد جاء إلى البرية مفتشاً عن الإله الحقيقي، ومما قاله: «لما سمعت أن رهبان وادي حبيب يعرفون اللـه لذلك أتيت إليك لتخبرني وتسأل اللّـه عني حتى لا يغضب علي لأجل شر أعمالي ولا يهملني لأجل قبائحي غير المحدودة»، وكان يقول هذا وهو يبكي بكاءً غزيراً[232] ولما سمع الأنبا ايسيذوروس ذلك أيقن أن اللّـه أرسله اليهم فشرع يعلمه مبادئ الإيمان المسيحي، ويعظه بكلام الرب ويشرح له عن الخلاص بدم السيد المسيح، وعن عواقب الإنسان الثلاث: الموت والدينونة والسعادة الأبدية أو العذاب الأبدي. ثم أخذه إلى الأنبا مكاريوس الكبير[233] فوعظه هذا بدوره أيضاً فذاب قلب موسى كما يذوب الشمع أمام النار، لقد أخذ اللّـه منه القلب الحجري، وأعطاه قلباً إنسانياً رقيقاً، وانكشف أمامه سر الحياة الأبدية، واستوعب معنى نعمة الخلاص بدم المسيح حيث حلت هذه النعمة في قلبه فتجاوب معها ورحب بالخلاص فناله.
اعترافه العلني بخطاياه:
وأذ أشرق نور الرب على موسى ملأ قلبه ضياء واحساساً بشناعة الخطية فأبغضها، وندم كثيراً على ما اقترفته يداه من جرائم كبيرة وآثام لا تحصى. وتاب عنها، وحتم أن لا يعود إلى عيشة الشر، وزالت رغبة العنف من رأسه وقلبه، واعترف علانية أمام المؤمنين في الكنيسة معدداً جميع خطاياه السالفة معلناً ندامته الصادقة. وكان الأنبا أبو مقار أثناء الإعتراف يشاهد لوحاً عليه كتابة سوداء وكلما اعترف موسى بخطيئة مسحها الملاك حتى اذا انتهى من الأعتراف وجد أبو مقار اللوح أبيض ناصعاً.
واختبر الآباء، مدة كافية من الزمن، صدق توبة موسى، ثم عمده الأنبا ايسيذوروس[234]، وعملت نعمة اللّـه في قلبه فصار إنساناً جديداً «إذاً إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة. الأشياء العتيقة قد مضت. هوذا الكل قد صار جديداً» ( 2كو 5: 17) وهكذا ارتاح موسى من عناء الخطية إذ لبَّى نداء الرب القائل: «تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم احملوا نيري عليكم وتعلموا مني. لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم لأن نيري هيِّن وحملي خفيف» (مت 11: 28).
واكتشف موسى أن العنف ليس قوة وإنما القوة تكمن في انتصار الإنسان على أهوائه الشريرة، وأن الإنسان ولئن كان ضعيفاً إذا اتكل على المسيح يسوع، بإمكانه أن يحيا حياة البر والقداسة لأن الرب يقول: «قوتي في الضعف تكمل» ( 2كو 12: 9) وهكذا أيقن موسى أن المسيح هو الطريق والحق والحياة، فآمن به سالكاً طريقه متمسكاً بحقه، وكان يحيا في المسيح فصار في سلام مع اللـه، ومع نفسه، ومع القريب.
الباسه الأسكيم الرهباني:
وطلب موسى من الأنبا ايسيذوروس أن يلبسه اسكيم الرهبانية، فنصحه هذا أن يرجع إلى المدينة ويعيش حياة نقية كسائر المؤمنين الصالحين فيها. لأن حياة الرهبانية والنسك في البرية قاسية جداً، ولا يمكنه أن يتحملها بالمقارنة مع ماضيه، كما أنه سيصير هزءاً وسخرية اذا بدأ ولم يتمكن من أن يكمل ويرجع حينذاك إلى عيشته السابقة. أما موسى فأصر على أن يحيا في البرية وتضرع إلى مرشده أن يلبسه الاسكيم الرهباني، ولما تأكد ايسيذوروس من صدق نيته وميله الشديد إلى حياة الزهد ألبسه الأسكيم الرهباني.
وأبدى موسى في حياته هذه الجديدة غيرة وقَّادة فكان يواصل الصلوات المقترنة بالسجود ليل نهار، مكثراً من الأصوام الصارمة، وإذا أكل فكان يكتفي بوجبة واحدة في اليوم يتناول فيها قليلاً من الخبز اليابس والماء، ساكباً الدموع السخينة والسخية التي وصفت بأنها كانت مثل الماء الصاقي. كما كان يسهر أحياناً طوال الليل وعيناه مفتوحتان من غير رقاد، ودون أن يجلس على الأرض لئلا تأخذه قوة النوم اغتصاباً. وكان يرعاه في البرية مرشدان روحيان خبيران في حياة الرهبنة وهما الأنبا مكاريوس الكبير، والأنبا ايسيذوروس، وكان يطيعهما خاضعاً لأوامرهما، فاستقرت قدماه على صخرة التوبة النصوح[235].
بعض التجارب التي طرأت عليه:
وحاربه ابليس عدو الخير حرباً ضروساً لا هوادة فيها، فكان يزيِّن له لذة أهواء الجسد، وضرورة اتباعها، فهو كبشر، لابد من أن يأكل ويشرب جيداً ليغذي جسده، كما كان بدأ الصراع الداخلي العنيف بين حياته الأولى المليئة بالأثام وبين الحياة الملائكية الطاهرة التي يحياها في البرية بسلام مع اللّـه. وأخذ ابليس يثير في قلبه رغبة العنف حتى في ميدان محاربته ابليس ذاته، وكان يتوق إلى العودة إلى حياته الأولى عندما كان يلتذ بإيذاء الناس. ولما اشتدت عليه وطأة الأفكار الشريرة، وأنهكه الجهاد المستمر ضدها لدرجة أنه صار على قاب قوسين أو أندنى من السقوط باليأس والعودة إلى حياة الخطيئة، هرع إلى مرشده الروحي الأنبا ايسيذوروس طالباً اليه أن يخلصه من هذا المأزق الحرج، ويصلي لأجله لئلا يفقد النعمة التي نالها من الرب. فكان هذا يعزيه ويصلي معه ولأجله ويرشده قائلاً: «لا تحزن هكذا وأنت ما زلت في بدء الصعوبات ولمدة طويلة سوف تأتي رياح التجارب وتقلق روحك فلا تخف ولا تجزع وأنت إذا ثابرت على الصوم والسهر واحتقار أباطيل هذا الدهر سوف تنتصر على شهوات الجسد»[236] وأمره بأن يعود إلى قلايته ويلزم الهدوء والسكينة فيها، فعاد الراهب موسى إلى قلايته ولازمها بحياة انفراد صارمة، ملتجئاً إلى الرب يسوع. وهكذا غلب ابليس بعد جهاد روحي اقترن بالانسحاق أمام اللّـه والاتكال التام عليه تعالى. فتخلص الراهب موسى من الرذائل، وبدأ بممارسة الفضائل.
التواضع من ثمار التوبة:
وأكثر ما تمسك به الراهب موسى هو فضيلة التواضع، ومن طريف أساليبه في ممارستها أنه كان يمر ليلاً بقلالي الشيوخ في الدير ويحمل جرارهم إلى البئر التي كانت تبعد عن الدير مسافة طويلة، ويملأ الجرار ماء ويعيدها إلى مكانها دون أن يعلم الشيوخ من فعل ذلك. وبعد سنين كثيرة، حسده إبليس وأبغضه كثيراً والتقاه مرة على البئر وضربه ضرباً مبرحاً كاد يودي بحياته، وتركه بين حي وميت. فجاء بعض الأخوة وحملوه ومضوا به إلى الكنيسة حيث أقام ثلاثة أيام، تماثل بعدها للشفاء. فعاد يمارس فضيلة التواضع كما فعل سابقاً متحدياً ابليس وجنده. ومرة اخرى ضربه ابليس بقرحة في رجله أقعدته طريح الفراش مدة ليست بقصيرة. ولما اكتشف أنها نوع من أنواع محاربة الشيطان له ازداد نسكاً، وزهداً، وعبادة، حتى صار جسده كخشبة محروقة. ومنّ عليه الرب بالشفاء لتحمله التجربة بتواضع وذلة وصبر جميل دون تذمّر أو ضجر.
ولمس مرشده الأنبا ايسيذوروس قوة ايمانه بالرب وأتكاله عليه في محاربة ابليس فقال له مرة: «وأنا أؤمن أيضاً بسيدي يسوع المسيح وأقول لك: باسم يسوع المسيح من الآن فصاعداً سوف تبطل الشياطين محاربتك»، وقال له أيضاً: «امضِ إلى البيعة المقدسة وتناول من الأسرار الإلهية»، وكان يواظب على تناول القربان المقدس. ومن ذلك الوقت عاش الأنبا موسى في سلام نسبي، وازداد حكمة، ونما في الكمال المسيحي والنعمة.
كرمه وحسن ضيافته:
وطارت له شهرة في الأسقيط وفي نترا، وقصده زوار كثيرون، واتصف خاصة بمحبة الغرباء والإهتمام بهم وضيافتهم والأعتناء بخدمتهم بتواضع واستقبالهم ببشاشة، وفي هذا الميدان قيل ان رهبان الاسقيط فرضوا مرة أسبوعاً يصومونه جميعهم فاتفق في أثناء ذلك أن ضيوفاً نزلوا على الراهب موسى فجعل يطبخ لهم، فلما رأى الرهبان الدخان المتصاعد من قلايته شكوه لكبارهم وحاولوا تأنيبه أمامهم، ولكن هؤلاء أجابوهم أن محبة القريب أفضل من الصوم وقالوا لموسى: لقد عصيت أوامر الناس لكنك حفظت وصية اللّـه التي هي المحبة ( يوحنا 13: 34) بما يدعو للعجب[237].
رسامته كاهناً:
بعد سنين عديدة اجتمع لديه نحو خمسمائة أخ فصار مرشداً لهم في حياة الرهبنة والزهد، وانتخبوه ليرسم كاهناً. فأراد الأسقف أن يمتحنه، فقال للكهنة: «اذا جاء الراهب موسى إلى المذبح اطردوه لنسمع ما يقول»، فلما دخل انتهروه وطردوه قائلين له: «اخرج أيها الأسود إلى خارج الكنيسة» فأطاع موسى وخرج. وسمعه أحد الشمامسة وهو يناجي نفسه قائلاً: «لقد فعلوا بك ما تستحق فأنت لست بإنسان، وقد تجرأت على مخالطة الناس وأنت أسود اللون فلماذا تجلس معهم؟».
ويقال أن الأنبا ايسيذوروس أخذه بعد هذه التجربة إلى مدينة الاسكندرية وقدمه إلى البطريرك ثاوفيلوس فوضع عليه اليد ورسمه كاهناً. وقيل أيضاً أنهم لما دخلوا به أمام المذبح وهمَّ البطريرك بوضع اليد عليه سمعوا صوتاً أتى من أعلى قائلاً: مستحق مستحق مستحق[238].
وقيل له بعد أن لبس ثوب الخدمة الكهنوتية الأبيض: «ها إنك قد صرت كلك أبيض يا أنبا موسى!»، أما هو فأجاب في اتضاع وقال: «ليت هذا يكون من الداخل كما من الخارج».
هروبه من المجد الباطل وعدم إدانته أحداً:
اشتهر الأنبا موسى بهروبه من المجد الباطل، فكان يحب الجلوس في القلاية مدداً طويلة دون أن يخرج منها، وهو منهمك بالصلاة ونسج الخوص. وقد قال مرة لأحد الأخوة: «امضِ واجلس في قلايتك، والقلاية سوف تعلمك كل شيء صالح».
وكانت محبته للقريب فائقة جداً «والمحبة تتأنى وترفق. المحبة لا تحسد، المحبة لا تتفاخر ولا تنتفخ ولا تقبِّح ولا تطلب ما لنفسها ولا تحتد ولا تظن السوء ولا تفرح بالإثم بل تفرح بالحق وتحتمل كل شيء وتصدق كل شيء وتصبر على كل شيء» (1كو 13: 4 ـ 7 ) لذلك لم يدن موسى أحداً أبداً.
ويحكى أن أحد الأخوة في الإسقيط اخطأ مرة، فانعقد مجلس الآباء لمحاكمته، واستدعي الأنبا موسى ايضاً، فامتنع عن الحضور فجاءه أحد الآباء يكرر عليه الدعوة قائلاً: «إن الآباء كلهم ينتظرونك» فقام وحمل وراء ظهره كيساً مثقوباً ملأه رملاً وجاء ووقف في وسط المجلس. فلما رآه الآباء هكذا سألوه قائلين: ما هذا أيها الأب الموقر؟ فأجابهم قائلاً: إنها خطاياي الثقيلة وراء ظهري تجري دون أن أبصرها، وقد جئت اليوم لإدانة غيري. فلما سمعوا ذلك غفروا للأخ المذنب[239]. ومن أقواله: «إياك أن تسمع سقطة أحد أخوتك لئلا تدينه خفية»، وقال أيضاً: «إنه الأفضل للإنسان أن يقدم ذاته للموت من أن يدين قريبه ويعيب عليه في أي شيء».
استشهاده:
وقد وهبه اللـه مواهب عديدة منها طرد الشياطين باسم المسيح ربنا يسوع. ويقال أن الشياطين كانت كالذباب تهرب من أمام وجهه. وكان يصلي على المرضى فينالون الشفاء.
وكان مرة مع الشيوخ في زيارة الأنبا مكاريوس الكبير، فقال القديس مكاريوس: إني أرى واحداً له إكليل الشهادة. فأجابه الأنبا موسى متنبئاً عن نفسه قائلاً : لعلي أنا هو لأنه مكتوب: «الذين يأخذون بالسيف بالسيف يهلكون» (مت 26: 52) ولم يمض على هذه النبؤة مدة طويلة، حتى كررها الأنبا موسى بوضوح قائلاً للأخوة: «سوف يقبل البربر اليوم إلى البرية فأهربوا أنتم»، قالوا له: «ألا تريد أنت الهرب يا أبانا؟» أجابهم قائلاً: «طوال هذه السنين وأنا أنتظر هذا اليوم»، قالوا: «نحن أيضاً لا نهرب ولكن نموت معك» فأجابهم قائلاً: «هذا ليس شأني إنما هي رغبتكم، ليهتك كل شخص بنفسه»، وكانوا سبعة أخوة. وبعد برهة من الزمن قال لهم: «هوذا البربر يقتربون إلى الباب، فدخل البربر وقتلوهم ولكن واحداً[240] منهم كان خائفاً فهرب واختبأ بين الحصر ورأى سبعة أكاليل نازلة من السماء توجت الستة وبقي السابع، فتقدم السابع أيضاً ونال معهم إكليل الشهادة، وكان ذلك حوالي سنة 408م وكان عمر القديس موسى نحو 75 سنة[241] وهو أول شهيد في آباء برية السقيط.
وكان البربر للمرة الأولى يهجمون على تلك البرية وقد سبب هجومهم تشتت الرهبان وظلت البرية خربة بعض الوقت ومهجورة.
وذكر الأنبا موسى في السنكسار القبطي هو في 24 بونه المصادف 18 حزيران، وتذكره الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في مجمع القديسين في القداس الإلهي وفي التسبحة. وجسده الأن في دير برموس في برية ( أبو مقار).
أقوال مأثورة للقديس الأنبا موسى الأسود:
– خوف اللّـه يطرد جميع الرذائل، والضجر يطرد خوف اللّـه.
كما يفعل السوس في الخشب كذلك الرذيلة في النفس.
أربعة هي عون الراهب الشاب : الهذيذ في ناموس اللّـه كل ساعة، ومداومة السهر، والنشاط في الصلاة، وألا يعتبر نفسه شيئاً.
– أربعة مصدر ظلمة العقل: مقت الرفيق، الإزدراء به، وحسده، وسوء الظن به.
– الحفظ من الفكر الرديء يأتي من: القراءة في كتب الوصايا، طرح الكسل، القيام في الليل للصلاة والإبتهال، التواضع دائماً[242].
الكحول الهدامة:
– لا تحب الخمرة لئلا تحرمك من رضى الرب[243].
العفة:
الذي يتهاون بعفة جسده يخجل في صلاته[244]
قهر الشهوة يدل على تمام الفضيلة، والإنهزام لها يدل على نقص المعرفة[245].
النوم:
– الشبع من النوم يثير الأفكار، وخلاص القلب هو السهر الدائم. النوم الكثير يولد الخيالات الكثيرة، والسهر بمعرفة يزهر العقل ويثمره. من ينام بمعرفة هو أفضل ممن يسهر في الكلام الباطل[246].
ضبط اللسان:
كمثل بيت لا باب له ولا أقفال، يدخل اليه كل من يقصده، كذلك الإنسان الذي لا يضبط لسانه.
من يهتم بضبط لسانه فهو محب الفضيلة، وعدم ضبط الانسان لسانه يدل على أن داخله خال من أي عمل صالح.
احفظ لسانك ليسكن في قلبك خوف اللّـه[247].
تعب الجسد:
اتعب جسدك لئلا تخزى في قيامة الصدّيقين.
اذا سكنت مع أخوة فلا تأمرهم بعمل ما. بل اتعب معهم لئلا يضيع أجرك.
لا تحب الراحة ما دمت في هذه الدنيا[248].
أعمل لأن البطالة مفسدة النفس:
– إياك والبطالة لئلا تحزن، أحرى بك ان تعمل بيديك ليصادف المسكين منك خبزة، لأن البطالة موت وسقطة للنفس[249].
الوحدة:
لا يكن لك رجاء في هذا العالم لئلا يضعف رداؤك في الرب.
أبغض كلام العالم كي تبصر اللّـه بقلبك لأن الذي يخلط حديثه بحديث أهل العالم يزعج قلبه[250].
الجهاد:
من يتحمل ظلماً من أجل الرب يعتبر شهيداً. ومن يتمسكن من أجل الرب يعوله الرب. ومن يصر جاهلاً من أجل الرب يحكمه الرب. وقد شرح الأنبا موسى أقواله هذه بالتفصيل في خطاب أرسله إلى الأنبا نومين[251].
اليقظة في الصلاة:
كن متيقظاً في صلاتك (أي اجمع عقلك وفكرك) لئلا تأكلك السباع الخفية.
لنقتن لأنفسنا الشوق إلى اللّـه. فإن الاشتياق اليه يحفظنا من الخطية.
ينبغي لنا أيها الحبيب أن نجتهد بقدر استطاعتنا بالدموع أمام ربنا ليرحمنا بتحننه. لأن الذين يزرعون بالدموع يحصدون بالفرح[252].
دير مار موسى الحبشي في النبك ـ سوريا:
يذكر التاريخ الكنسي شخصين باسم (مار موسى الحبشي) كان أحدهما رئيس عصابة لصوص وتاب وترهب في مصر وقد أوردنا سيرته بالتفصيل أنفاً.
أما الآخر فهو من قديسي أواخر القرن السادس وأوائل السابع للميلاد، وكان من سلالة ملوك الحبشة ترك البلاط الملك وزهد بالدنيا، ولبس السكيم الرهباني، وقصد سوريا وتنسك في دير سرياني أرثوذكسي شيد في أوائل القرن السادس بجوار النبك. وسمي باسمه بعدئذ. وذلك أنه نال اكليل الشهادة على يد هرقل أحد أباطرة بيزنطة ( 610 – 641) لتمسكه بالعقيدة الأرثوذكسية بعروة وثقى ورفضه مجمع خلقيدونية ومذهب الملك البيزنطي. فان هرقل هذا بعد عودته من حرب الفرس عرج على الدير الواقع في الجبل المسمى بالجبل المدخن قرب النبك، فقتل العديد من رهبانه من جملتهم الأب موسى الحبشي، وتشتت الآخرون لرفضهم المذهب الخلقيدوني[253] ويذكر لمار موسى الحبشي هذا عجائب لا تحصى.
وكانت أصبع القديس الشهيد محفوظة في ديره حتى سنة 1870 ثم نقلت إلى مكان مجهول.
وجدد بناء هذا الديرعام 1556 وصار كرسياً أسقفياً في أواخر القرن الرابع عشر وتخرج فيه بطركان وعشرون أسقفاً، وكان يحوي مكتبة عامرة، وجلس عليه أساقفة أفاضل كان آخرهم ايوانيس الياس بن يشوع الأصفر الموصلي من دير مار متى الذي رسم مطراناً لدير مار موسى الحبشي والنبك وعمَّر الدير من ماله الخاص وتوفي غريباً في قارة عام 1832 مغلوباً على أمره لرسامة خلفه ضده، وكان رئيساً للدير حتى 30 آب 1931 ثم خلفه غريغوريوس متى نقار المكار الذي التحق بالباباوية واغتصب هذا الدير منا بنفوذ سياسي أجنبي[254] ومنذئذٍ صار دير مار موسى الحبشي بيد السريان الكاثوليك وأمسى خراباً.
واشتهر الدير باللوحات الفنية الجميلة التي نقشت على جدرانه وما زبر من صور وزخارف على أعمدة كنيسته.
قصة مار إبراهيم القيدوني
أحد نساك المشرق الشهيرين ت 366
كاتب القصة:
دون قصة مار إبراهيم بالسريانية أديب لامع، عاصر المترجم، لذلك سرد تفاصيل حياته بأمانة وإسهاب وشاهد عيّان لوقائعها. ويظهر في القصة عامل الإثارة والتشويق في حادثة سقوط ابنة أخي مار إبراهيم في الخطية وخروج مار إبراهيم من صومعته وتضحيته بخلوته وعزلته، ولو لمدة قصيرة، وذهابه إلى المدينة وإنقاذه ابنة أخيه. وهذا يشبه قصة تاييس لاناتول فرانس التي كتبها بعد هذه القصة بعدة قرون.
وتقع قصة مار إبراهيم في خمس وثلاثين صفحة من الحجم الوسط وقد نحلت مار أفرام (+373)[255] خطأ، كما في نسخة دير الزعفران[256] وغيرها من المخطوطات[257] وأياً كان الكاتب فقد كان معاصراً لمار إبراهيم، كما يظهر من متن القصة، حيث يقول عن مار إبراهيم: «إنه كان في زماننا»[258].
وقد نظم مار أفرام السرياني في مدح مار إبراهيم القيدوني مداريش وأناشيد بلغت سبعة عشر مدراشاً تتفق وترجمة حياته[259].
نشأة مار إبراهيم:
ولد مار إبراهيم، على الأرجح، في مدينة الرها[260] أو في ضواحيها. وسمي قيدونياً نسبةً إلى قرية قيدون[261] التي هدى أهلها إلى النصرانية[262].
كان والداه من علية القوم ووجاهة وغنى، واشتهرا بالتقوى ومخافة اللـه، فنشأ إبراهيم في بيت مسيحي مؤمن، ونال قسطاً وافياً من العلوم ودرس الكتاب المقدس، وكان يواظب على الصلاة والصيام، ويسلك طريق الاستقامة بموجب شريعة إلهنا دون لوم.
زهده:
زهد في الدنيا في شرخ شبابه، وهجر داره وعروسه بعد سبعة أيام من عرسه وغادر مدينته والتجأ إلى مغارة غير بعيدة عنها، فاتخذها له قلاية[263] وصومعة. ووجده أهله هناك بعد تفتيش دام سبعة عشر يوماً. وحاولوا أن يثنوه عن حياة النسك فلم يفلحوا، وطلب إليهم أن يتركوه يعبد اللّـه مكرساً له ذاته كلياً. ثم سد عليه باب المغارة، ولم يترك منها مفتوحاً سوى كوة صغيرة كان يتناول عبرها ما يأتونه به من طعام وشراب. وقد اتصف نسكه بسكب الدموع الغزيرة إلى جانب السهر والصوم والصلوات المستمرة المقرونة بالسجود.
قيل أن يوسف الصديق ابن يعقوب أبا الأسباط ظهر له في حلم، فسأله مار إبراهيم من أنت يا سيدي. فأجاب أنا هو يوسف الذي لم يكن من السهل علي التخلّص من سيدتي، أما أنت يا إبراهيم فحتى مع زوجتك لم تتدنس[264].
بعد عشر سنوات من هجر مار إبراهيم العالم انتقل أبواه إلى جوار ربهما تاركين له ثروة كبيرة، فأوكل إلى أحد أصدقائه ليوزعها على ذوي الفاقة ويستبقي لديه جزءاً منها يستعمل عند الحاجة ولم يكن إبراهيم يملك سوى ثوب خشن منسوج من شعر الماعز يتشح به، وصحن يأكل فيه ما يصلحه من الطعام البسيط، وحصير يفرشه على الأرض ويضطجع عليه.
وكان الناس يجتمعون خارج مغارته فيخاطبهم بكلمة اللّـه عبر الكوة الوحيدة في قلايته، فيسكبون دموع التوبة عائدين إلى اللّـه لأن كلامه كان له تأثير عليهم فيبكت ضميرهم. من هنا نعلم أن الزهد في الدنيا ليس إهمال الدنيا عن كسل، بل هو الاهتمام بما فوق لدرجة توجب ترك ما في العالم، وذلك طبقاً لوصية الرب «لا تقدرون أن تعبدوا ربين اللّـه والمال» (مت 6: 24 ولو 16: 13) ولهذا ينذر الراهب أو الراهبة نذر الفقر الاختياري، والبتولية، والطاعة، فتظهر فيهما فضيلة نكران الذات التي توجب التضحية بكل ما يُظن أنه سعادة للإنسان في هذه الحياة.
تنصر أهل قيدون:
وكان بجوار الرها قرية كبيرة تدعى قيدون، يقطنها أناس شرسو الطباع، يعبدون الأوثان، وقد حاول العديد من الكهنة تبشيرهم بالمسيح يسوع مخلص العالم، فلم يفلحوا. وقرّ قرار أسقف الرها على إرسال مار ابراهيم الناسك ليدعوهم إلى المسيح، ولما طلب إليه ذلك، اعتذر ابراهيم في بادئ الأمر، معتبراً الرسالة فوق طاقته، فهو رجل بسيط، وضعيف. ولكن الأسقف كرر عليه الأمر، واعتبر عدم ذهابه إلى قيدون، عصياناً. ومما قال له: «إنك قد هجرت العالم ولذاته، وانقطعت للعبادة، وتعوزك فضيلة واحدة ألا وهي فضيلة الطاعة، وإن إقامتك في قلايتك هي لخلاص نفسك فقط. أما إذ أطعت أمري، وذهبت إلى قيدون، وجذبت أهلها إلى المسيح فإنك تكون سبباً لخلاص نفوس كثيرة، وعلاوة على خلاص نفسك» فأذعن مار إبراهيم وأجاب الأسقف قائلاً: «لتكن إرادة اللـه». فرسمه الأسقف كاهناً.
وهكذا ذهب مار إبراهيم إلى قرية قيدون، وشيد فيها كنيسة جميلة مما استبقاه لدى صديقه من المال الذي ورثه عن والديه… وكان مار إبراهيم يعظ سكان القرية صباح مساء داعياً إياهم إلى المسيح. وشرع يتجول في القرية ويحطم الأصنام التي يعبدونها، الأمر الذي أثار غيظهم جميعاً، فأشبعوه ضرباً وتجريحاً، وجرّوه في الشوارع وطردوه خارج القرية. فرجع إليها ليلاً. ولما وجدوه في اليوم التالي أعادوا الكرة بضربه وطردوه من قريتهم، وفي اليوم التالي وجدوه في الكنيسة يصلي فتألبوا عليه وأسمعوه كلمات قاسية، أما هو فكان يقابلهم ببشاشة ولطف ويحاول إقناعهم لترك عبادة الأوثان وقبول الإيمان باللـه الحي وابنه الحبيب يسوع المسيح مخلص العالم. وقوبلت كلماته هذه الرقيقة، ومحبته الخالصة، بالمزيد من الشتم والضرب، وجرّوه ثالثة في شوارعهم وأخذوه خارج القرية حيث أهالوا عليه الحجارة، وظنوا أنه مات. ولكنهم وجدوه في الكنيسة، في صباح اليوم التالي، وهو يصلي لأجلهم بحرارة، ويطلب إلى الرب ليلهمهم ما فيه خلاص نفوسهم، ودام اضطهادهم إياه ثلاث سنين[265] وهو ثابت على محبته لهم والصلاة لأجلهم، واستجاب الرب صلاته… فقد لانت قلوبهم، فاجتمعوا به في الكنيسة وأعلنوا له قرارهم: بأن محبته العميقة لهم، وتضحيته في سبيلهم، وتحمله الإهانات منهم، وصبره على ظلمهم وعنتهم، كل هذه الأمور جعلتهم يثقون بأنه يريد صالحهم وخيرهم، لذلك طلبوا إليه أن يعلمهم أصول الدين المسيحي، وتنصروا على يديه، فعمّد منهم أكثر من ألف رجل ومكث عندهم عاماً كاملاً، ثم غادرهم سراً راجعاًً إلى حياة النسك والوحدة والزهد بالدنيا. فحزنوا على فراقه كثيراً، وأخبروا أسقف الرها فرسم لهم كهنة وشمامسة. ولما سمع مار إبراهيم بذلك سرّ كثيراً ورجع إلى قلايته الأولى حيث كان قد بدأ نسكه.
ترهب مريم ابنة أخيه وسقوطها وتوبتها:
وكان لمار إبراهيم أخ وحيد له ابنة وحيدة اسمها مريم، جاؤوا بها إلى عمها، بعد موت أبيها، وكان عمرها سبع سنين، فتتلمذت عليه. وشيد مار إبراهيم قلاية خارجية ملاصقة لقلايته، فأسكن ابنة أخيه في القلاية الخارجية، وسكن هو في الداخلية، وكانت بينها كوة صغيرة. وعلّمها سفر المزامير وسائر أسفار الكتاب المقدس، وأخذ يرشدها إلى حياة الكمال المسيحي، وكانت تشاركه الصلاة ليلاً ونهاراً، مقتدية بسيرته الطاهرة، ودامت الحال على هذا المنوال عشرين سنة.
ولكن عدو الخير أغوى مريم فسقطت في الخطية إذ غرر بها أحد الشبان. واستولى عليها إبليس فأفقدها الأمل بخلاصها، وتملك اليأس والقنوط قلبها، فغادرت قلايتها، بدون علم عمها، وانطلقت إلى مدينة أخرى، والتحقت بفندق تعمل فيه مطلقة العنان لشهواتها، منغمسة في سائر أنواع الرذائل.
وفي الليلة التي غادرت فيها مريم حياة الطهر والنقاء، إلى البلاد البعيدة، لتبذّر نعم اللّـه ومواهبه، كالابن الضال، في تلك الليلة اضطربت نفس عمها، إذ رأى في حلم تنيناً كبيراً دخل قلايته فوجد حمامة وديعة ابتلعها وهرب. وبعد يومين رأى القديس إبراهيم في حلم أيضاً ذلك التنين، وقد أتى إلى قلايته ثانية فوطئ القديس رأسه بقدميه، فانشق بطنه وخرجت منه تلك الحمامة سالمة، فمد القديس يده وانتشلها. ولما استيقظ القديس من نومه صرخ بأعلى صوته منادياً ابنة أخيه قائلاً: «يا للعجب يا بنتي مريم ماذا دهاك حتى أهملت مشاركتي الصلاة منذ يومين! ؟» فلم يسمع جواباً، وكرر النداء ثانية وثالثة، ولم يكن هناك من مجيب… فعلم أن أمراً سيئاً قد جرى لابنة أخيه. وإن اللّـه قد أظهر له ذلك في الحلم… فحزن عليها حزناً عميقاً، وكان ينتحب ليلاً ونهاراً وهو يقول: «ويحي فإن الذئب الخاطف قد افترس نعجتي الوديعة!». وكان يواصل الصلاة إلى الرب يسوع ليعيد مريم إليه كما أعاد الابن الضال إلى أبيه.
وبعد سنتين بلغ مار إبراهيم خبر عن مريم ابنة أخيه، فأرسل من يتحقق من أمرها ويتأكد من الموضع الذي تعيش فيه، ولما اطلع بالتفصيل على مكانها لبس مار إبراهيم ثياب جندي روماني، ووضع خوذة على رأسه، وامتطى صهوة حصان مطهّم، وانطلق نحو المدينة التي تسكنها مريم، وجاء إلى الفندق حيث كانت تعمل، وسأل صاحب الفندق عليها مقدماًً له مالاً جزيلاً ليعد له لقاء خاصاً بها… وهكذا كان… ولاطفها مار إبراهيم، وأكل وشرب معها، دون أن تعرف من هو… ثم رفع الخوذة عن رأسه وناداها باسمها قائلاً: يا بنتي العزيزة مريم هل نسيت عمك، بل أباك الروحي، ومرشدك ومربيك؟ ! فعرفته وسقطت على قدميه تبللهما بدموع سخينة حارة… وأخذ يحثها على التوبة ويدعوها لتعود إلى اللـه، فاللّـه يقبل التائبين مهما كانت خطاياهم كبيرة وكثيرة… وكانت مريم تنتحب بمرارة وهي تسكب دموع التوبة النصوح ومار إبراهيم يشاركها البكاء ويصلي لأجلها، ولما قررت العودة معه إلى حياة النسك، سألته ما إذا كان يسمح لها بأخذ المال الذي حصلت عليه من أعمال الخطيئة، فكان جوابه لها أن تدع في مكان الخطية ما هو حصة إبليس والخطية[266] فتركت كل شيء ورافقته في الصباح الباكر إلى صومعتها. فسكن مار إبراهيم في القلاية الخارجية وأسكنها في القلاية الداخلية. وكانت تواظب معه على الصوم والصلاة والسجدات المتواصلة ليلاً ونهاراً. وكان صوت بكائها يسمعه الوافدون إلى القديس مار إبراهيم لنيل بركته، وكان هؤلاء يشاركونها البكاء وهم يقرعون صدورهم تائبين إلى اللـه.
وقد قبل الرب توبة مريم، وكعلامة لرضاه تعالى أنعم عليها بموهبة صنع العجائب والمعجزات. فكانت تصلي على المرضى فيشفون وكانت حياتها سبب بركة للناس، وكان العديد من الخطاة التائبين ينالون العزاء لدى سماع قصتها.
وكان القديس مار إبراهيم يواصل الشكر للـه لعودة الخروف الضال إلى حظيرة الخراف، وخلاص النعجة الحليمة من الذئب الخاطف، وإنقاذ الحمامة الوديعة من التنين اللعين. ودعي القديس بإبراهيم الثاني عن جدارة، وذلك أن إبراهيم الأول أبا الآباء حارب ملوكاً ورؤساء وخلص لوطاً ابن أخيه من أعدائه (تك 14: 13 ـ 16) ومار إبراهيم الثاني هذا حارب إبليس اللعين وأنقذ منه مريم ابنة أخيه.
انتقال مار إبراهيم إلى جوار ربه:
وبعد عشر سنين من توبة مريم انتقل القديس مار إبراهيم إلى جوار ربه عن سبعين سنة قضى خمسين منها في حياة الزهد والنسك والتقشف. وكانت وفاته في الرابع عشر من شهر كانون الأول سنة 366 للميلاد. وشيع جثمانه الطاهر جمهور غفير من المؤمنين تسابقوا لاقتطاع شيء من ثيابه تبركاً[267]، وتعيّد له كنيستنا في الرابع عشر من شهر كانون الأول من كل سنة.
وكان مار إبراهيم طوال مدة نسكه، يرقد على حصيرة بسيطة كما ذكرنا آنفاً أو يفترش الأرض، ويكثر من الصوم، والسجدات في الصلاة. ولم يمرض ولم تخر قواه قط، ولم ييأس، ولم يقنط، ولم يمل هذه العيشة الخشنة القاسية، بل كان يشكر اللّـه دائماً ويواصل البكاء ليلاً ونهاراًً، فلم يمر عليه يوم لم يبك فيه بدموع حارة، بل لم تعرف شفتاه الضحك أبداً. وكان كأنه يموت كل يوم. لذلك حاربه إبليس بشدة، وظهر له بأشكال شتى، وقد غلبه القديس باسم الرب يسوع.
وكتب مار إبراهيم صلوات وأدعية ضم بعضها إلى كتب (الأشبية) إي صلوات الرهبان السبع[268].
انتقال مريم إلى جوار ربها:
وبعد انتقال مار إبراهيم إلى جوار ربه بعشر سنين، لحقت به مريم ابنة أخيه، ففاضت روحها الطاهرة سنة 376م لتنال مكافأة الرب على زهدها، ونسكها، وتوبتها الصادقة.
وقد نُظمت أناشيد سريانية كثيرة مستوحاة من توبة ابنة أخي مار إبراهيم، منها (مرقاة)[269] لمار أفرام السرياني (+373) ضمت إلى فنقيث[270] صلوات الصوم الأربعيني المقدس. ويعتني بها السريان في طور عبدين[271] في سهراتهم. رأينا أن ننقلها بتصرف إلى لغة الضاد، ونختم بنشرها هذه القصة الشائقة.
تعريب أبيات من مرقاة التي نظمت بالسريانية على لسان ابنة أخي مار إبراهيم القيدوني في توبتها:
مبارك هو المسيح الذي يفتح باب الرحمة للخطاة والتائبين، ألا فلأتنهّد باكية على حياتي.
الويل لي. ماذا أصابني وكيف سقطت. يا رب ارحمني. مع كوني ابنة أخي إبراهيم الجليل الشهير، ويلاه! فقد سقطت في حبائل الشيطان إذ تعبت غوايته، آه! منك أيها الشرير ماذا فعلت بي؟ ! لقد اختارني ابن الملك (السماوي) ودعاني لأفرح بوليمته. ألا أنني فضّلت فرح البشر. فيا رب ارحمني.
ويلاه! فإن الدير الذي اتشحت فيه بالاسكيم الرهباني[272]، يندبني الآن، أن الشيخ الذي ألبسني الاسكيم ينتحب عليّ بحزن عميق، آه منك أيها الشرير ماذا فعلت بي؟ !
لقد نزعت عني الإسكيم المقدس، وارتديت حلة الزانية… الويل لي… يا رب أنت ارحمني.
ويلاه! فإن كل من عرفني يقول لي: ويلك! لأنني تركت ربي، وأحببت العالم، آه منك أيها الشرير ماذا فعلت بي؟ ! لقد كنت متقلدة بسلاح الروح القدس. فخلعت اسكيمي وعدت القهقرى. فيا رب أنت ارحمني.
ويلاه! فقد كنت محبوبة، عندما كنت أخدم المسيح، ولكنني سقطت إذ أطعت الشيطان، آهٍ منك أيها الشرير ماذا فعلت بي. لقد نسيت مطالعة الكتب المقدسة، فالويل لي. وأبدلتها بصوت مزمار منكر. فيا رب ارحمني.
ويلاه! فقد كنت حمامة طاهرة وديعة، وسقطت بين شدقي إبليس، وصرت له لقمة سائغة، آه منك أيها الشرير ماذا فعلت بي؟ ! تبكيني بزة الشعر التي ارتديتها. فالويل لي. ولأنني خلعتها تخلّى عني المسيح. فيا رب ارحمني.
ويلاه! لقد غادرت ميناء السلام الذي كنت فيه مطمئنة، وأضحيت معذبة وسط الأمواج المتلاطمة الهائجة، آه منك أيها الشرير ماذا فعلت لي؟ ! لقد حرمت نفسي من أنعام الروح القدس. فالويل لي لأنني فضلّت عليها الأغاني المنكرة. فيا رب ارحمني.
ويلاه! إن نار جهنم الشديدة الأوار تنتظرني، وقد فقدت الأمل بحياتي، آه منك أيها الشرير ماذا فعلت بي؟ ! لقد فقدت الكنز الثمين الصالح الذي كنت أملكه. فالويل لي. فقد اختلسه الشرير مني. فأين أجده (ثانية)؟ فيا رب ارحمني.
ويلاه! إن سحابة الخطايا والذنوب غطتني فأرحقتني، وقد اتشحت شقاوتي بثوب الخزي والعار، آهٍ منك أيها الشرير ماذا فعلت لي؟ !
إن باب مراحم اللّـه مفتوح للخطاة أمثالي. إذا ازدادت ذنوبي. وأنا اخشى الدنو من (عدالته). فيا رب ارحمني. ويلاه! أنا التي خلقتني على صورتك كمثالك يا إلهي الحنون الشفوق، قد تركت حريتي وأحببت العبودية، فالويل لي. فيا رب ارحمني. أني أخجل من الدنو منك يا إلهي. فاقبلني بمراحمك الغزيرة. ويا رب ارحمني.
أيها العليّ الذي طأطأ سماء مجده ونزل إلى الأرض لينقذ الغرقى أمثالي، انتشلني من وهدة الظلام التي سقطتُ فيها، آهٍ ارحمني يا رب.
السماء والأرض ترجوانك من أجلي يا ربي. فامح آثامي بكثرة نعمتك. ويا رب ارحمني.
لتشكرن اللّـه نفسي التي أنقذها تعالى من يد الشرير، ولتسجدن له وتمجدنّه دائماً وأبداً، آهٍ ارحمني يا رب. آمين.
قصة مار نيقولاوس أسقف ميرا (341+)
المعروف بين القديسين السريان بمار زوخي
مصادر القصة:
تكرّم الكنائس المسيحية الرسولية الشرقية والغربية، القديس مار نيقولاوس. وقد دونت قصته بلغات شتى، من جملتها اللغة السريانية. وتنطوي مخطوطاتنا السريانية على النص الكامل لهذه القصة التي كُتبت مع سائر قصص القديسين السريان، واعتمدناها مستندين في ذلك إلى نسخ قديمة، كما قارنّا حوادثها بما ضمّته كتب السنكسار القبطي الأرثوذكسي وقصص القديسين، بالعربية والإنكليزية، لطوائف مسيحية أخرى.
رجل يحيا لأجل الآخرين:
إن التأمل بسيرة حياة مار نيقولاوس، لهو خير وازع لتمجيد اسم اللّـه القدوس، فقد عاش هذا القديس لأجل الآخرين، وكان شاهداً لعناية اللّـه تعالى بالمخلوقات عامة، والإنسان بشكل خاص. فاللّـه يُسخّر عبيده الأمناء، كالقديس نيقولاوس، ليعتنوا بإخوتهم بني البشر، بسد عوزهم الروحي والجسدي.
ويعتبر مار نيقولاوس شفيعاً للمظلومين والذين لم ينصفهم القضاء أحياناً. وتذكر قصته، أن قضاة عادلين اعتقلوا ظلماً وبهتاناً، متهمين بالرشوة، وإذ كانوا في السجن معذبين، صلى أحدهم إلى اللّـه متشفعاً بمار نيقولاوس، فاستجيبت صلاته ونجا مع رفاقه من حكم الإعدام، إذ ظهر للملك ولبعض المسؤولين ملاك الرب في حلم، معلناً براءة أولئك القضاة، فتمّ الإفراج عنهم.
ويعتبر مار نيقولاوس شفيع الأحداث، وصيادي السمك والبحارة، والمسافرين في البحر والبر، كما يعتبر شفيع المؤمنين في روسيا.
نشأته:
ولد مار نيقولاوس في أواخر القرن الثالث للميلاد في بلدة باتار في آسيا الصغرى، وكان أبوه أبيفانوس، وأمه تونة من أغنياء القوم في بلدهما واشتهرا بمخافة الرب، وعمل الصلاح وتوزيع الصدقات، وكانا عاقرين، يواصلان الصلاة إلى اللّـه والطلبات منه تعالى كي يرزقهما طفلاً. فاستجيبت صلاتهما وولد لهما ولد سماه نيقولاوس، وبالسريانية «زوخي» واهتما بتربيته التربية المسيحية الصالحة، وبتلقينه العلوم الروحية إلى جانب العلوم الدنيوية. وشعر معلموه بقوة النعمة الإلهية التي أسبغت عليه بوفرة، إذ بز رفاقه في تحصيل العلم وفي ممارسة أعمال الفضيلة، منذ نعومة أظفاره، فرسم شماساً، ثم ترهّب في دير كان ابن عمه رئيساً عليه، فأظهر فيه من النسك والعبادة ما تعجز عنه طاقة البشر.
مثال لعمل الرحمة:
على أثر وفاة والديه، وزع مار نيقولاوس أمواله الطائلة على الفقراء والمعوزين، من ذلك أنه سمع يوماً عن رجل غني عصفت بأمواله ريح الدهر الخؤون، وكان له ثلاث بنات جميلات كدن يهوين في وهدة الرذيلة لإنقاذ أفراد العائلة من الجوع والفاقة! فذهب إليه مار نيقولاوس ليلاً، ورمى إليه من النافذة صرّة من المال، وتوارى عن الأنظار، فلما استفاق الرجل صباحاً، وجد المال، فعد ذلك هبةً من اللـه، فتاب إليه تعالى وشكره على عنايته الإلهية. وجهّز ابنته الكبرى بذلك المال، وزوجها من شاب يخاف اللـه. فلما سمع مار نيقولاوس بذلك، فرح كثيراً، وأعاد الكرَّة ورمى صرةً ثانية من المال، استخدمه الرجل لزواج ابنته الثانية. ولكنه، وقد تاق إلى معرفة السر الكامن وراء هذا الإحسان الكبير، أخذ يسهر الليالي، مترقباً وإذ عاد مار نيقولاوس للمرة الثالثة، ورمى بصرة المال من الكوة، لحق به الرجل وأمسكه، وعندما عرفه سجد له شاكراً. فطلب إليه مار نيقولاوس أن يكتم اسمه وألا يخبر أحداً لأن الرب أوصى في ميدان الإحسان، ألا يُعلم الإنسان شماله ما تفعله يمينه. أما ذلك الرجل، فلم يتمكن من كتم الخبر، إذ راح ينشره بين أصدقائه وجيرانه، فعطر اسم مار نيقولاوس تلك المنطقة بكاملها.
ترؤسه ديراً:
ولما انتشر عُرف فضائل مار نيقولاوس وفاح أريجها في بلدته، رحل إلى بلدة ميرا[273] إذ كان خاله أسقفاً. فرسمه خاله كاهناً وأقامه رئيساً على دير[274] في ضواحي بلدة ميرا، وتنبأ له عن مستقبل باهر في خدمة الكنيسة، إذ سيتبوأ فيها مركزاً مرموقاً.
وقد جرت بوساطته أعجوبة باهرة، ذلك أن زوجين فقدا ابنهما الوحيد، وأنفقا أموالهما وهما يبحثان عنه، دون جدوى. وبعد سنين عديدة، قصدا الدير وهما يائسان، وطلبا من رئيس الدير مار نيقولاوس الصلاة لأجلهما، فأمر رئيس الدير الرهبان بالاجتماع لإقامة صلاة خاصة على نية هذين الزوجين المعذبين. فاستجاب الرب الصلاة، وأحضر ملاك الرب الصبي الذي كان قد اختطف وبيع عبداً لأناس باعوه بدورهم إلى أحد كبار الرجال في مصر، فاختطفه ملاك الرب وأتى به إلى الدير، فسلمه مار نيقولاوس إلى والديه.
زيارته الأماكن المقدسة:
وتاق مار نيقولاوس إلى زيارة الأماكن المقدسة والتبرّك من قبر الخلاص.. فركب البحر.. وخلال الرحلة، هاجت الأمواج وماجت، وعصفت الرياح، وكادت السفينة أن تنكسر وتغرق، فطلب النوتي إلى مار نيقولاوس أن يصلي إلى اللّـه ليرحمهم.. ففعل مار نيقولاوس، وهدأ البحر وكان أحد طاقم البحارة قد سقط من السارية ومات.. فصلى مار نيقولاوس إلى اللـه، فأعاد إليه الحياة..
تسقفه على ميرا:
كان خال مار نيقولاوس قد انتقل إلى جوار ربه وقام مكانه أسقف آخر. فبعد عودة مار نيقولاوس إلى ديره من زيارة الأماكن المقدسة رأى ذات ليلة حلماً عجيباً.. كان حلّة حبرية زاهية قدمت إليه ليتشح بها، كما رأى عرشاً رفيعاً ورجلاً يقول له: تفضل واجلس على هذا العرش. وفي ليلة أخرى رأى السيد المسيح يسلم إليه الإنجيل المقدس والسيدة العذراء تناوله الحلة الحبرية.
ويقال أنه على أثر وفاة أسقف ميرا، ظهر ملاك الرب لرئيس الأساقفة في حلم وقال له: إن الرب قد اختار مار نيقولاوس ليقام أسقفاً على ميرا، وعندما استيقظ رئيس الأٍساقفة أخبر سائر أساقفة المنطقة، فاعتبروا ذلك أمراً من السماء، فجاؤوا بمار نيقولاوس ورسموه أسقفاً على ميرا. وتقول رواية أخرى: إن ملاك الرب ظهر لأكثر من أسقف وهم مجتمعون في الكنيسة، صائمين مصلين كي يلهمهم الرب إلى اختيار الرجل الصالح ليقيموه أسقفاً على ميرا. فقال ملاك الرب لمن ظهر لهم في الحلم: إن أول من يدخل الكاتدرائية في صباح اليوم التالي هو الذي اختاره اللّـه لهذه الرتبة. كما ظهر الملاك لمار نيقولاوس في حلم، وأمره أن يغادر الدير باكراً جداً ويدخل المدينة ليصلي صباحاً في كاتدرائيتها. فلما فعل نيقولاوس ما أمره به الملاك، ووصل إلى باب الكاتدرائية، كان أحد الأساقفة في الانتظار.. فأمسك به وأدخله إلى بقية الأساقفة، فنادوا: «مستحق، مستحق، مستحق» أن يكون أسقفاً على ميرا، إنه الشخص الذي اختاره الرب لهذه الرتبة السامية. وبعد الانتهاء من مراسم رسامته أسقفاً، صلى مار نيقولاوس على إنسان فارق الحياة، فعادت نفسه إلى جسده، وقام حياً! فتعجب الجميع، وسبحوا اللّـه على قدرته.
زهده:
عاش مار نيقولاوس، وهو أسقف، حياة الناسك الزاهد العابد المتقشف. فكان يتشح بإسكيم الرهبانية ويلبس الصوف الخشن على جسده تحت الحلة الأسقفية الزاهية، ويواظب على الصلاة ليل نهار، ولا يتناول إلا وجبة واحدة من الطعام البسيط طوال اليوم، كما أنه لم يذق طعم اللحم أبداً. وأنعم اللّـه عليه بالحكمة في تدبير رعيته، فكان يسوسها بإيمان وبمخافة الرب، وكم حاجج الرب بصلوات حارة طالباً إليه أن يعفيه من حمل رسالة الأسقفية مقدراً جسامة المسؤولية. فظهر له الرب يسوع في حلم وخاطبه قائلاً: لا تخف يا نيقولاوس فإنني لا أتخلى عنك طالما أنت مكمّل واجبات الأسقفية بصدق وأمانة.
وكان اهتمام مار نيقولاوس بالفقراء من رعيته، ظاهراً وملموساً، وهو بذلك كان يمثل عناية اللّـه تعالى بالمخلوقات كافة ولا سيما الضعيف منها.
مار نيقولاوس المعترف:
وفي سنة 303 أثار القيصر الروماني ديوقلطيانس، الاضطهاد على المسيحية، فسام المؤمنين صنوف العذاب، وأمر بإغلاق كنائسهم وإبادة كتبهم المقدسة، فسجن عدداً كبيراً منهم، ونفى آخرين، وكان نصيب رعاة الكنيسة من هذا الاضطهاد وافراً جداً، ومن بين هؤلاء الرعاة الصالحين كان مار نيقولاوس الذي زجّه جنود قيصر في غياهب السجون وأذاقوه مر الآلام.. وهو يتحمل كل ذلك بصبر جميل حباً بالمسيح الفادي، ومكث مار نيقولاوس مسجوناً حتى انتصر قسطنطين الملك على أعدائه وفتح أبواب السجون، فخرج المعترفون ظافرين، وعاد مار نيقولاوس إلى أبرشيته ليرعى الشعب الذي ائتمنه على رعايته.
اشتراكه في مجمع نيقية:
وعندما انعقد مجمع نيقية عام 325، حضره مار نيقولاوس وفنّد مع آباء المجمع بدعة آريوس معترفاً بالإيمان المستقيم الرأي.
معجزة إكثار الحنطة:
وحدث على عهده جوع شديد، وكانت سفن الإمبراطور تنقل الحنطة من الإسكندرية إلى شواطئ آسيا الصغرى، فالتمس مار نيقولاوس قبطان إحدى هذه السفن ليهبه مائة برميل كبير من الحنطة بغية إعانة أبناء أبرشيته، وحالما وافق القبطان على ذلك، شاهد الحاضرون ملائكة تفرّغ الغلة إلى الميناء، ومما زاد من دهشتهم أن حمولة السفينة لم تنقص أبداً رغم إنزال الكمية المطلوبة من الغلة إلى أرض الميناء، فمجدوا اللّـه الذي أنعم على القديس مار نيقولاوس بعمل المعجزات.
انتقاله إلى جوار ربه ونقل ضريحه إلى أوربا:
في السادس من شهر كانون الأول من عام 341، انتقل القديس مار نيقولاوس إلى الأخدار السماوية وله من العمر ثمانون سنة، وقضى منها أكثر من أربعين سنة في خدمة الأسقفية في ميرا، ودُفن جسده الطاهر، بإكرام كبير في أحد مرتفعات مدينة ميرا، وكما اجترح عجائب في حياته، كذلك اجترحت على ضريحه عجائب عديدة! فصار ضريحه مزاراً يتبرك به المؤمنون القادمون من أماكن شتى، كما تشفع به المسيحيون في الشرق، كذلك تشفع به المسيحيون في الغرب، إذ نقلوا ضريحه الطاهر عام 1087م من مدينة ميرا عاصمة إقليم ليفيا في جنوب تركيا، إلى مدينة باري في إقليم إيوليا في إيطاليا وتعيد له الكنيسة في 6 كانون الأول المصادف 10 كيهك القبطي.
مار نيقولاوس في الكنيسة السريانية:
تكرّم كنيستنا السريانية القديس نيقولاوس أي مار زوخي مع سائر القديسين السريان وشيَّدت كنائس عديدة على اسمه في أماكن شتى، وقد جاء في السنكسار القبطي الأرثوذكسي[275] ما يأتي: «اليوم الخامس عشر من شهر برمودة المبارك[276] تعيد الكنيسة بتذكار تكريس أول هيكل بناه النصارى (السريان) المقيمون في أرض مصر للقديس نيقولاوس أسقف ميرا وهو أحد آباء مجمع نيقية الثلاثمائة والثمانية عشر[277]».
الخاتمة:
إن سيرة مار نيقولاوس حافلة بالأمور الغريبة العجيبة التي لا تخلو من اللغو والمبالغة ومن إضافات دسّها النساخ فشوَّهت الحقائق وأربكت المؤرخين وشككت أحياناً المؤمنين. ومع ذلك، فالقصة مليئة بالمعجزات الباهرات التي تعتبر حقائق تاريخية صادقة، اتفقت على صحتها نصوص القصة بلغات شتى. ولكثرة العجائب التي أجراها اللّـه تعالى على يدي القديس نيقولاوس في حياته، وبشفاعته بعد انتقاله إلى كنيسة الأبكار المكتوبة أسماؤهم في السماء، نقول: لكثرة هذه العجائب دعي القديس نيقولاوس بـ (صانع العجائب)، فقد أقام موتى، وأشبع جياعاً وهدأ بحراً هائجاً كما اشتهر بعمل الإحسان وبتوزيع الصدقات على الفقراء. فقد باع كل ما كان له وما ورثه عن والديه، ووزعه على المساكين، طبقاً لوصية الرب الموجهة إلى الراغبين في الكمال، كما اهتم بالمعوزين وهو أسقف. ومن وحي سيرته الفاضلة وأعمال الرحمة التي قام بها، ومن محبته للأحداث، اتخذ كشخص وهمي يوزع الهدايا في عيد الميلاد المقدس وسمي (سانتا كلوز) أو (بابا نوئيل) والاسم سانتا كلوز جاء من اسمه بالإنكليزية سانت نيكولاس Saint Nicholas وقد حور هذا الاسم إلى (سانت كلوز) Saint Claus واسمه السرياني (مار زوخي) يعني: الفاضل المنتصر والظافر والنقي الطاهر.
القديسة مريم المصرية
كاتب القصة، الطوباوي الأنبا زوسيموس:
عاش الأنبا زوسيموس في القرن الرابع للميلاد على الأرجح، وارتأى بعضهم أنه كان عائشاً في النصف الأول من القرن الخامس. وتنسّك مدة ثلاث وخمسين سنة في أحد أديرة فلسطين. واشتهر بتقواه وعفته ووداعته ومسامحته للأخوة ومحبته العميقة للـه والناس، وقد ذكر مرة لتلاميذه قصة عن محبته الخالصة لهم وهو يرشدهم إلى الإقتداء به بالمحبة، قال[278]: « جاءني في بعض الأوقات أحد الأخوة الآخذين مني الإسكيم، وكنت ألاطفه لأنه كان من الشباب المترفين، فقال لي: يا معلم أني أحبك. فقلت له: إني لم أجد بعد من يحبني كما أحبه. أنت قلت أنك، وصدقت في قولك، ولكنه أن عرض لك مني أمر لا تريده، فإنك لن تثبت على ما أنت عليه الآن، أما أنا فلا يغيّرني عن المحبة عارضٌ ما». وحدث، بعد زمان يسير، أن أنفصل عني، وصار يسبني كثيراً ويقول أقوالاً قبيحة، وكانت تبلغني. فكنت أقول في ذاتي: أن هذا هو مكوى يسوع، أرسله ليداوي تكبر نفسي، وكنت أقول لمن يخبرنا بهذا الكلام: أنه إنما يقول بما رأى من شروري التي كانت ظاهرة له أما قبائحي الخفية فلن يحصى عددها.
وبعد زمان، التقاني في قيصرية، وسلّم عليّ كعادته، أما أنا فقابلته ببشاشة، كأن لم يبدِ لي من قبيح، أما هو فسجد لي وقال: «يا معلم، من أجل الرب اغفر لي، فقد تقولت عليك بمثالب رديئة كثيرة». فقلت له بطلاقة وجه: هل تذكر محبتك عندما قلت لي أنني أحبك كثيراً؟ وقلت لك وقتئذ أني ما وجدت من يحبني كما أحبه، وليتحقق قلبك أنه ما خفي عني ما قلته، ولمن قلته وفي أي وقت قلته، وإن أردت قلته لك، ولم تقل شيئاً إلا وسمعته كما هو كما قيل، ولم يقنعني أي مُقنع أن أقول فيك قولاً رديئاً، ولم أترك ذكرك في صلواتي، ولكي تعلم صحة محبتي لك، فقد حدث لي في بعض الأوقات، أن أوجعتني عيناي وجعاً شديداً، فصليت وأنا منكبّ على وجهي وقلت: يا ربي يسوع المسيح اشفني بصلوات الأخ فلان وفي الحال شفيت. هذا هو جميع ما قلته للأخ ».
ساورت الطوباوي زوسيموس أفكار الكبرياء، وظن أنه قد بزّ آباء البرية بالزهد والتقشف وأعمال الفضيلة وبلوغ الكمال، وكاد أن يهوي في الخطيئة ويهلك روحياً لولا أن رحمة اللّـه افتقدته فانتشلته من وهدة الإثم، إذ جاءه أحد رهبان الدير مشيراً عليه بالذهاب إلى دير يقع على ضفة نهر الأردن، لينضم إلى رهبانه، ويقضي ما تبقى من حياته بين جدرانه. فأطاع زوسيموس وكأن ذلك الأمر جاءه من السماء، وشد الرحيل إلى ذلك الدير حيث استقبله رئيسه بإكرام وترحاب، وقال له: ما الذي أرسلك إلينا نحن المساكين البسطاء؟ أجاب زوسيموس: أتيت لأتعلم منكم سبيل الكمال. فقال له الرئيس: إننا بحاجة إلى من يعلمنا ذلك. فالكمال لله وحده. ثم سمح له رئيس الدير بالانضمام إلى صفوف الإخوة الرهبان، فتواضع زوسيموس كثيراً، وبدأ يفحص نفسه، فاكتشف سبب سقوطه ومتى جاءته التجربة وهكذا نجاه اللّـه من الشرير. وسلك في الطريق المستقيمة التي أوصلته إلى الكمال الإنجيلي.
الأنبا زوسيموس يلتقي القديسة مريم المصرية:
وكان الدير قريباً من البرية التي قضى فيها الرب يسوع أربعين يوماً وأربعين ليلة صائماً. وبحسب العادة المتبعة في ذلك الدير كان الرهبان في فترة صوم الأربعين يضربون في البرية منفردين، ممارسين خلال ذلك أصعب أعمال النسك والزهد والتقشف، ولا يعودون إلى الدير إلاّ في أحد الشعانين. وهكذا فعل الأنبا زوسيموس حيث عبر الأردن، وشرع يسير في البرية نهاراً ويتلو المزامير، وينام في العراء بضع ساعات الليل.
قبل انتهاء صوم الأربعين، لمح زوسيموس عن بعد شبه شبح يتحرك فتتبّعه وطلب من اللّـه بصلاة حارة أن يكشف له أمره، فألهم أنه إنسان، فواصل مطاردته والشبح يهرب من أمامه، وإذ أنهك التعب قوى زوسيموس سقط على الأرض وهو ينادي: أيها الإنسان توقف لأراك وأشفق على شيخوختي فأني أكاد أهلك من شدة الإعياء. فتوقف الشبح متستراً وراء أكمة وأجاب زوسيموس قائلاً: يا أبي زوسيموس أني امرأة، فإذا شئت أن تخاطبني فارم إليّ شيئاً أستتر به لأنني عريانة. واندهش زوسيموس من معرفة المرأة الغريبة اسمه، ولكنه أيقن أن ذلك حدث بإرشاد رباني، فطرح رداءه الخارجي فاتشحت به وجاءت وسجدت أمامه، فسجد هو أيضاً أمامها، وطلبت بركته لأنه كاهن اللّـه العلي، فزاد عجبه من أمرها بمعرفتها أنه كاهن. ولم يتمكن من إخفاء دهشته فقال لها: أيتها الأم الكريمة أرى أن اللّـه قد أنعم عليك بمواهب سامية، فقد عرفت اسمي ووظيفتي الروحية مع إننا لم نلتق من قبل، أرى أنك أمَة الرب التقية الفاضلة، فأرجو أن تباركيني وتصلي لأجلي ولئن كنت كاهناً. وإذ طلب منها ذلك بلجاجة، باركته. ثم طلب إليها أن تصلّي لأجله، فاتجهت نحو المشرق ورفعت يديها وبدأت تصلي ورآها زوسيموس وقد ارتفعت عن الأرض نحو ذراع واحدة أثناء الصلاة. فساورته الشكوك بأمرها وفكَّر في أنها تصنع هذا بقوة الشيطان. ففاجأته قائلة: لماذا تفكر في نفسك أفكاراً غريبة يا أبي زوسيموس؟ كن واثقاً بأنه ليس للشيطان شيء فيّ. وأنني وإن كنت خاطئة فإن رحمة اللّـه الواسعة افتقدتني ونعمته الغزيرة غمرتني.
وطلب إليها بإلحاح أن تكشف له سرها، وتسرد أمامه قصّتها لينتفع المؤمنون بسماع أخبارها. فأنبأته بقصة سقوطها في الخطية وتوبتها ونسكها، ولكنها التمست منه ألا يخبر أحداً بأمرها قبل موتها. كما طلبت إليه أن يأتيها في العام القادم بالقربان المقدس لتتناول جسد الرب ودمه وتتحد بالمسيح لأنها منذ خمس وأربعين سنة لم تسنح لها الفرصة للاشتراك بسر القربان المقدس وقالت له متنبئة: أنه لن يخرج إلى البرية خلال الصوم الأربعيني في العام التالي ولذلك عليه أن ينتظرها على ضفة نهر الأردن يوم خميس الفصح المقدس ومعه جسد الرب ودمه الأقدسان… ودعها زوسيموس وقفل راجعاً إلى ديره فوصل إليه صباح عيد الشعانين ولم يخبر أحداً بما سمع ورأى. وفي العام التالي مرض ليلة صوم الأربعيني فلم يتمكن من الخروج إلى البرية كسائر رهبان الدير، وتمت بذلك نبوتها، وبحسب طلبها جاءها يوم عيد الفصح إلى ضفة نهر الأردن وهو يحمل القربان المقدس، فلم يجدها، وكان يتطلع بقلق يمنة ويسرة، وظن أنها جاءت في غيابه وعادت إلى البرية إذ لم تجده. وحزن كثيراً وصلى إلى اللّـه ألا يحرمه من رؤيتها ولقائها والتحدث إليها، وفيما كان على هذه الحال إذ به يراها واقفة في الضفة المقابلة، وشاهدها ترسم علامة الصليب على النهر وتعبر ماشية على الماء وكأنها تمشي على اليابسة، فعبرت دون أن تبلل ملابسها… وتناولت القربان المقدس من يده شاكرة الرب الذي أنعم عليها بعد خمس وأربعين سنة لتتحد به بتناول جسده ودمه الأقدسين. وكان زوسيموس قد أحضر معه بعض البقول والبلح وتوسل إليها لتأخذ ذلك معها، فإكراماً له ونزولاً عند لجاجته، أخذت بيدها قليلاً من الترمس مظهرة امتنانها منه. وطلبت إليه أن يعود إليها في العام التالي ليلتقيها في فترة صوم الأربعين في المكان الذي التقيا فيه أول مرة في البرية… ثم ودعته، ورسمت علامة الصليب على النهر وعبرت سائرة على الماء كما جاءت… وفي العام التالي خرج زوسيموس إلى البرية في صوم الأربعين وجاء إلى المغارة التي لقيها أول مرة فلم يجدها ثم فوجئ بمشاهدتها ساجدة، وقد رفعت يديها إلى السماء، ولما تقدم منها وجدها ميتة… فبكى عليها كثيراً… ووجد أمامها الكلمات الآتية مكتوبة على الرمل: «أبي زوسيموس ادفن جسد الخاطئة المسكينة مريم المصرية وضم التراب إلى التراب أكرماً لربنا يسوع المسيح». فتعجب من ذلك كثيراً خاصة وأنه في اللقاءين السابقين نسي أن يسألها عن اسمها فكُتب الآن اسمها على الرمل فتعزى بذلك. وحاول أن يحفر لها قبراً فلم يقو على ذلك لشيخوخته، فأرسل اللّـه له أسداً حفر قبرها بمخالبه وغاب، فصلى الأنبا زوسيموس على جثمانها الطاهر ودفنها. وكانت سنة 421 وقد بلغت من العمر ستاً وسبعين سنة وقد اكتشف ضريحها بعد أجيال.
وبعد دفنها عاد القديس زوسيموس إلى ديره وأذاع قصة القديسة مريم المصرية سارداً إياها بالتفاصيل كما حكتها هي له.
والآن وقد علمنا النهاية الصالحة لهذه القديسة، وجدنا من الفائدة بمكان العودة إلى بدء قصة حياتها لإكمال مراحلها الشيقة فنسرد باختصار مقدمة هذه الحوادث التاريخية الصادقة وبقية أجزائها مستندين بذلك إلى الحقائق التي أعلنتها القديسة مريم المصرية ذاتها للقديس الأنبا زوسيموس.
ولادتها:
وُلدت مريم على الأرجح في الإسكندرية نحو سنة 345 من أبوين مسيحيين، ولما بلغت الثانية عشر من عمرها هوت في وهدة الإثم والفجور وتمرّغت في حمأة الشهوات الشبابية، ومكثت على هذه الحال الفاسدة مدة سبع عشرة سنة.
وذات يوم أبصرت سفينة مكتظّة بالحجاج القاصدين مدينة (القدس) للاشتراك في احتفال عيد الصليب والتبرّك من خشبته المقدسة. فانضمت إلى ركاب السفينة لتغري بعضهم وتسقطهم في الخطية.
وفي المدينة المقدسة حاولت يوم عيد الصليب الدخول مع المؤمنين إلى كنيسة القيامة، فشعرت وكأن يداً خفية تصدّها وتمنعها من الدخول بل تبعدها عن عتبة باب الكنيسة فلا تتمكن من أن تتخطاها، وحاولت مرات عديدة ولكن دون جدوى. فانسحبت من بين المؤمنين ووقفت بعيداً تتأملهم وهم يتزاحمون ويتسابقون بالدخول إلى الكنيسة بكل ثقة وإيمان، وتمنّت لو كانت مؤمنة مثلهم لاستحقت أن تتبارك من خشبة الصليب التي يقصد الجمهور التبرك منها… ولأول مرة في حياتها منذ انغماسها في الآثام، شعرت بضميرها يؤنبها، وأخذت تتأمل بحياتها الآثمة المليئة بالأدناس، وتقارن ذلك بنقاء سيرتها السابقة في ظل والديها التقيين وتحت جنح آباء كنيستها الأفاضل، عندما كانت تقوم في خلواتها وهي طفلة بصلوات حارة في الكنيسة أمام أيقونة العذراء مريم… فتفجرت الدموع من عينيها… وانسحق قلبها ندامةً على ما هي عليه من البعد عن اللّـه القدوس، وعلى عدم استحقاقها وهي النجسة، من دخول كنيسة اللّـه المقدسة… وناجت العذراء مريم الطاهرة النقية لتصلي من أجلها كي يتقبل الرب يسوع توبتها كما قبل توبة الخاطئة، والعشار، ولص اليمين… وشعرت حينذاك بقوة خفية تضمها إلى صفوف الداخلين إلى الكنيسة، فدخلت دون أية صعوبة، وبعد أن تبركت من خشبة الصليب، وقفت أمام أيقونة العذراء مريم تصلي، وتطلب منها لتشفع من أجلها ليمنحها الرب حياة الطهر والقداسة، فجاءها صوت من الأيقونة قائلاً: «اعبري نهر الأردن فهناك تجدين مكاناً لخلاصك وتنالين رضى اللـه». فنذرت نفسها للـه، وصممت تكريس ما بقي من حياتها لعبادته تعالى.
وخرجت من كنيسة القيامة، ودخلت كنيسة أخرى حيث اعترفت أمام كاهنها وتناولت القربان المقدس، ثم غادرت المدينة المقدسة متجهة نحو نهر الأردن وفي الطريق تصدق عليها أحدهم بثلاثة دراهم فضة ابتاعت بها ثلاثة أرغفة خبز… فعبرت نهر الأردن منطلقة إلى البرية حيث بدأت النسك والتزهد ولها من العمر تسع وعشرون سنة وتعبدت في البرية سبعاً وأربعين سنة، قاست المرائر في السنين السبع عشرة الأولى منها محاربة إبليس لها بالتجارب الصعبة بتذكيرها بحياتها الأولى الآثمة، وإثارة رغائب الجسد الفاسدة، وتسليط روح القنوط واليأس في قلبها لإعادتها إلى أباطيل العالم، ولكنها كانت تواصل الصلاة وتطلب العون من الرب فقوّاها الإله القدير ونصرها على الشرير. وقد سلكت في حياتها النسكية في سيرة السواح الأبرار، الذين لم يكن لهم أين يسندون رؤوسهم، وكانت في حالة اختطاف مستمر وهي في حالة الذين يعيشون للسماء وهم لا يزالون بالجسد. فبعد أن أمضت مدة من الزمان تقتات بأرغفة الخبز الثلاثة التي كانت ابتاعتها قبل الخروج إلى البرية، وشرعت تقتات بما يصادفها من أعشاب البرية وجذور غرساتها، وبليت ثيابها وبقيت عريانة تتحمل برد الشتاء وحرّ الصيف القائظ ولم ترَ في البرية خلال تلك الفترة وحشاً مفترساً كما لم تلق وجه إنسان حتى التقاها الأنبا زوسيموس في السنة الخامسة والأربعين لنسكها وسياحتها، ووقف على سيرتها ودوّنها كما مر بنا.
وتعيّد الكنيسة القبطية الأرثوذكسية الشقيقة في السادس من شهر برمودة المصادف الأول من شهر نيسان من كل سنة.
أما الأنبا زوسيموس فقد عاش طويلاً، وكان بعد دفنه القديسة مريم المصرية يزور ضريحها سنوياً والموضع الذي التقيا فيه لأول مرة، ويتشفع بها حتى انتقل إلى جوار ربه وعمره مائة سنة.
المصادر
ـ السنكسار القبطي طبعة القاهرة عام 1951 مج 2.
ـ بستان الروح للراهب القس شنودة السرياني طبعة 1960 مج 1.
ـ الرموز المسيحية ودلالتها لجورج فيرجستون ترجمة الدكتور يعقوب جرجس نجيب طبعة مصر 1964 ج2.
ـ القديسة مريم المصرية للقمص بيشوي عبد المسيح الطبعة الرابعة القاهرة 1979.
ـ الدر الثمين في أخبار القديسين ـ لمكسيموس مطلوم.
ـ بستان الرهبان لآباء الكنيسة القبطية طبعة مطرانية بني سويف عام 1968.
القديس مـار فيلكسينوس المنبجي
وكتابه طريق الكمال
مار فيلكسينوس المنبجي، الأديب الكبير، واللاهوتي الشهير الذي لمع في سماء الكنيسة السريانية في أواسط القرن الخامس وأوائل القرن السادس للميلاد، وتبوأ بين أدباء السريان مركز الصدارة لا سيما في كتابة النثر البليغ.
ولد في بلدة تحل في كورة باجرمي ـ محافظة السليمانية ـ بالعراق، قبيل منتصف القرن الخامس للميلاد، واسمه السرياني «أخسنويو» أي «غريب» وسمي فيلكسينوس لدى رسامته مطراناً، وهو اسم يوناني معناه «محب الغربة».
رحل وأهله إلى جبل طورعبدين المتصل بجبل الأزل المشرف على نصيبين، واستوطنوا شمالي قرية باسبرينه. ودخل دير قرتمين الشهير حيث درس العلوم الدينية وآداب اللغتين السريانية واليونانية ثم التحق بمدرسة الرها فتعمق بالعلوم الفلسفية واللاهوتية، انتقل بعدها إلى مدرسة دير تلعدا في كورة أنطاكية فتبحَّر بالسريانية واليونانية، وترهَّب ورسم كاهناً، وفي سنة 485م رسم مطراناً لمدينة منبج فنسب إليها[279].
تميزت فترة حياته بالخلافات المذهبية التي أثارتها السلطة البيزنطية الحاكمة وغذتها، لتضعف قوة الكنيسة وتفرَّق رجالها بعضهم عن بعض فتتمكن من تثبيت جذور استعمارها لبلاد سورية وغيرها، فكان لها بالمرصاد فيلكسينوس ورفاقه الأشاوس الذين ذادوا عن حياض الوطن والكنيسة معاً، وخاضوا غمار مجادلات مذهبية طويلة مدافعين عن الحق، فخلّفوا لنا مجلدات ضخمة من النتاج الأدبي الديني. ولم تلن عودهم رغم شدة الاضطهاد وشراسة الحكام البيزنطيين الغاشمين الذين نفوا بعضهم وساموهم صنوف العذاب. وبعد أن قاس مار فيلكسينوس الأمرَّين في المنفي بصبر جميل وشجاعة فائقة، استشهد مخنوقاً بالدخان عام 522م.
قال فيه العلامة البطريرك أفرام الأول برصوم (1957+) ما يأتي: «من أعلام السريان ومفاخرهم وفرسان الكلام، وكبار أئمة اللغة الذين يشار إليهم بالبنان، وأقطاب الزمان ذكاءً وعلماً وعملاً، مع ديانة وصيانة وزهد ظاهر وورع معروف، متكلم المتحققين، إمام البلغاء المترسلين.
كانت له بالعلم جلالة، وبالأدب السرياني رئاسة وشهرة، كلامه سمح سهل وإنشاؤه فخم جزل، بل هو اللؤلؤ المنثور، والدر المنضد تزينه المتانة وتوشيه البلاغة، ويكلله البيان، تفنن في وصف الطرائق الحسنى والفضائل المسيحية المثلى فجاءنا بكتاب في سيرة الكمال[280]، جامع لشتيت الفوائد بكلام ما لحسنه نهاية، حيثما التفت وردت منه على ضياء باهر وربيع زاهر، واللفظ البليغ، القلوب به معمورة، والصدور به مأهولة»[281].
«إن تآليف هذا الحبر العلامة هي تفسيرية ولاهوتية وجدلية وأدبية نسكية وطقسية ورسائل وخطب»[282]، نشر بعضها منقولاً إلى لغات أوربية، وإن كتابه الموسوم بـ «طريق الكمال» هو إكليل مؤلفاته الأدبية الروحية، دبجه في أوائل القرن السادس للميلاد، بلغة سريانية نقية تتجلى فيها مقدرته الأدبية، فهو الأديب الكبير الذي يجيد اختيار الكلمات فيصوغ منها جملاً بليغة وإذا ما احتاج إلى استخدام تعبير لاهوتي دقيق كتب باليونانية يستعير الكلمات المناسبة وينحتها (ويسرينها) بطريقة فنية بديعة تدل على تمكنه باللغتين.
نشر له المستشرق العلامة بدج عام 1894م في لندن، النص السرياني الكامل لكتابه المذكور أعلاه منقولاً إلى الإنكليزية، معتمداً في ذلك على مخطوطات عديدة حققها بدقة وأشار في الهوامش إلى أرقامها في خزانة المتحف البريطاني، ويرجع تاريخ أقدمها إلى القرن السادس وأحدثها إلى القرن الثالث عشر للميلاد، كتب بعضها في دير السريان ـ مصر إبان حياة مؤلفها على ما يظن.
ولما كانت طبعة الكتاب قد نفدت منذ مدة بعيدة، ونظراً إلى قيمته الأدبية نفاسته، أعدنا طبع نصه السرياني برمته مستندين إلى طبعة لندن التي زينها بدج بالهوامش باذلاً التعب الجم والجهد الجهيد، في تحقيق النص وإجادة الطباعة وأناقتها، وصدرناه بمقدمة في ترجمة المؤلف وأصدرناه ضمن مطبوعات مجمع اللغة السريانية في بغداد سنة 1978م، ويقع الكتاب بـ 625 صفحة، ويضم المجموعة الكاملة لمقالات مار فيلكسينوس المنبجي الثلاث عشرة التي تتناول المواضيع التالية: الإيمان، البساطة، الورع، الفقر الاختياري، الزهد، العبادة، مقاومة بعض الرذائل كالشره والشهوات البدنية والفجور.
بمطالعته يتذوق أدباء السريانية وقراؤها، حلاوة اللغة النقية والنثر البليغ، ويروون ظمأهم الروحي والأدبي من مائه العذب السلسبيل.
القديس مـار يـعـقـوب الـرهـاوي
تمهيد:
يُصنَّف يعقوب الرهاوي في مقدمة علماء السريان الفطاحل في علم الإلهيات، وتفسير الكتاب المقدس، والترجمة، والفلسفة، والفقه البيعي، والتاريخ والأدب، واللغة، والنحو وغيرها من العلوم.
قال عنه المستشرق أنطون بومشترك:
«إن ما اشتملت عليه تصانيفه المنثورة من صنوف العلوم كالنحو والفلسفة والعلوم الطبيعية وقد بلغت من الدقة والجودة الغاية، وما انطوت عليه من فنون المقالات، يدع لنا مجالا لنحكم ان السريان كانوا في هذه الابواب أعلى كعباً من الغربيين»[283].
وكان مبرزا في اللغات: السريانية واليونانية والعبرية[284] وكانت له قدرة فائقة على الترجمة، وفضله في ذلك معروف، حيث أن التراجمة السريان الذين سبقوه كانوا يعنون بالترجمة الحرفية، أما معاصروه فقد تعودوا العرف العلمي، وفضلوا المعنى على اللفظ، وذلك بفضل ما استنبطه هو وخدينه البطريرك أثناسيوس البلدي (+686) من اسلوب جديد في الترجمة[285] وما ابتكره معلمهما العلامة مار ساويرا سابوخت من طريقة فضلى في نقل العلوم الفلسفية من اليونانية إلى السريانية[286].
وكان مراسلاً لطلاب كثيرين التمسوا مساعدته بمواضيع دينية وعلمية ولغوية مختلفة، ولذلك ولأهمية أعماله اللغوية في دراسة الأسفار المقدسة قال عنه المستشرق وليم رايت: «يعتبر يعقوب الرهاوي في أدب بلاده كهيرونيموس بين آباء اللاتين[287] ولكثرة أتعابه في خدمة الإنسانية والعلم والمعرفة، أُطلق عليه «محب الأتعاب»[288].
ويجمع بومشترك ودوفال ورايت ونولدكه وغيرهم من المستشرقين الذين كتبوا في الأدب السرياني، أن مار يعقوب الرهاوي هو أشهر مَن نبغ في الدور المعروف في تاريخ الأدب السرياني بالدور العربي، يوم نضج الفكر السرياني، وبلغ عصره الذهبي حيث زهت العلوم والآداب والفنون وظهرت ثمار تلامذة مدرستي الرها ونصيبين يانعة[289].
وكان منفتحاً على العرب المسلمين، قال عنه الأستاذ أحمد أمين ما يلي: «واشتهر من هؤلاء (السريانيين) في العصر الأموي يعقوب الرهاوي (640 ـ708م تقريباً) وقد ترجم كثيراً من كتب الإلهيات اليونانية. وليعقوب هذا أثر كبير الدلالة، فقد أثر عنه أنه أفتى رجال الدين من النصارى بأنه يحل لهم أن يعلّموا أولاد المسلمين التعليم الراقي، وهذه الفتوى تدلّ من غير شك على إقبال بعض المسلمين في ذلك العصر على دراسة الفلسفة عليهم، وتردد النصارى أولاً في تعليمهم»[290].
حياته:
ولد في حدود سنة 633م في قرية عيندابا التابعة لولاية أنطاكية، وتهذّب في صباه في مدرسة القرية، ثم التحق بدير قنسرين[291] ولبس ثوب الرهبانية، ودرس على الفيلسوف الكبير مار ساويرا سابوخت، آداب اللغة اليونانية، وتعمق في الفلسفة واللاهوت ثم رحل إلى الإسكندرية لإتمام دراسته الفلسفية واللغوية، ثم عاد إلى سورية وتنسك في الرها[292] ورسم كاهناً. وفي سنة 684 رسمه رفيقه أثناسيوس الثاني البلدي البطريرك الأنطاكي (684ـ687) مطراناً على الرها فنسب إليها. وأقام فيها أربع سنوات. ولغيرته الوقادة على مراعاة القوانين البيعية، ورغبته الملحّة في إعادة النظام إلى أديرة أبرشيته، قاومه بعض الرهبان والإكليروس فجردهم من رتبهم، مخالفاً بذلك رأي البطريرك يوليانس وغيره من الأساقفة الذين كانوا يريدون التساهل بحفظ القوانين تبعاً لمقتضيات العصر. ويذكر عنه أنه جمع كتب القوانين البيعية أمام باب الدير الذي كان البطريرك حالاً فيه وأحرقها وهو يصرخ ويقول: ها أنذا أحرق القوانين التي تطأونها بأقدامكم ولم توجبوا حفظها وقد صارت لديكم من قبل الزيادة التي لا تجدي نفعاً[293]. وهكذا استقال عن خدمة الأبرشية ومضى فسكن في دير مار يعقوب في كشوم بقرب شميشاط، يرافقه تلميذاه دانيال وقسطنطين. ثم انتقل إلى دير أوسيبونا في كورة أنطاكية حيث أقام إحدى عشرة سنة يدرّس رهبانه اللغة اليونانية، ثم قصد دير تلعدا شمال غربي حلب حيث مكث قرابة تسع سنوات يراجع ترجمة العهد القديم من الكتاب المقدس[294]، وفي تلك الأثناء توفي المطران حبيب، خليفة مار يعقوب في كرسي أبرشية الرها، فالتمس الرهاويون منه ليعود إلى أبرشيته فعاد. وبعد مكثه فيها أربعة أشهر، ذهب إلى دير تلعدا ليأتي بكتبه، فوافته المنية هناك في 5 حزيران سنة 708 ودفن في الدير المذكور[295].
مصنفاته:
ترك مار يعقوب الرهاوي ما ينيف على ثلاثين كتاباً من وضعه، أو ترجمته، أو تنقيحه ومراجعته. وفيما يلي أهم تلك التآليف:
أولاً: في الكتاب المقدس وعلومه: قال بومشترك: لقد وجد كتاب اللّـه في يعقوب الرهاوي أكبر لاهوتي في اللغة السريانية يدل على هذا ما حوته مصنفات له شتى[296]. وأشهر دراساته في الكتاب هي:
1 ـ مراجعته منقحاً الترجمة المعروفة بالبسيطة[297]، مقسماً إياها إلى فصول، واضعاً في مقدمة كل فصل ملخصاً لمحتوياته، وفي الهامش شرحاً للكلمات الصعبة، كما ضبط اللفظ الصحيح[298]، وله ضوابط ألفاظ أسفار العهدين ألحق بها ضوابط مصنفات آباء النصرانية المشاهير[299].
2 ـ تفسيره الكتاب المقدس آية آية وفقاً للنص اليوناني[300]، وقد لُقب مار يعقوب «بمفسر الكتب»[301]، واستشهد بتفاسيره مار ديونيسيوس يعقوب ابن الصليبي مطران آمد (+1171) ومار غريغوريوس يوحنا ابن العبري مفريان المشرق (+1286).
ثانياً: العقائدية:
1 ـ نقل عن اليونانية إلى السريانية مواعظ مار سويريوس الأنطاكي (+538) وفرغ من ذلك سنة 701م[302].
2 ـ كتب رسالة في أعمال السيد المسيح مؤيدة بأقوال الأنبياء والرسل والمعلمين، وقد أورد نبذة من حياة كل منهم بعد إيراد أقوالهم[303].
3 ـ له كتاب عنوانه «العلة الأولى الخالقة الأزلية القادرة على كل شيء غير المخلوق وهي اللّـه حافظ الكل» ذكره جرجس أسقف العرب وهو ضائع[304].
4 ـ ألف في أواخر أيامه كتاباً ممتعاً، قيماً أسماه «أيام الخليقة الستة»[305]، وقد أكمله صديقه جرجس أسقف العرب بعد وفاته.
ثالثاً: الفلسفية:
1 ـ له كتاب أسماه (انكيريديون) أي المختصر وهو مجموعة العبارات المصطلح عليها في الفلسفة، ويعتبر أهم كتبه الفلسفية، وفيه يفسر خاصة الألفاظ الفلسفية المستعملة في علم اللاهوت كجوهر وذات وأقنوم[306].
2 ـ ترجم كتاب مقولات أرسطو إلى السريانية مع شروح وحواش كثيرة علقها عليه[307].
رابعاً: التاريخية:
في نحو سنة 692م نقح تاريخ أوسابيوس القيصري (265ـ340م) إمام المؤرخين، وصحح فيه حساب السنين، وأكمله مبتدئا من السنة العشرين من حكم قسطنطين الملك وحتى عصره هو. وزاد عليه كاتب مجهول فأوصله حتى سنة 710م، ولم يبق منه سوى نتف[308]، وقد استند إلى هذا التاريخ البطريرك مار ميخائيل الكبير (+1199) في تاريخه المشهور واستعان به أيضاً برشينايا أسقف نصيبين (+1046).
خامساً: الفقهية:
كان يعقوب الرهاوي حريصاً على حفظ القوانين البيعية وفي الوقت نفسه تناول هذه القوانين درساً وتمحيصاً فنقل كتب القوانين المنحولة إلى اقليميس الروماني وأولها كتاب عهد ربنا الموضوع في القرن الخامس[309]، كما نقل قوانين مجمع قرطاجنة الأول، وقوانين المجامع المسكونية الثلاثة[310]، وسنَّ ما يقارب مئة وستة وستين قانوناً كنسياً جاءت بصورة أجوبة على أسئلة وجهت إليه من معاصريه[311]، ضمّت بعضها إلى كتاب الهدايات لابن العبري (+1286).
سادساً: الطقسية:
قال العلامة البطريرك أفرام الأول برصوم: «وفضله (أي مار يعقوب الرهاوي) على الفروض الكنسية فاق أفضال الآباء الملافنة»[312]. ومن أهم أعماله الطقسية:
1 ـ تنقيحه ليتورجية[313] يعقوب أخي الرب وتصحيحها على الأصل اليوناني[314]. ونقل ليتورجية مار إغناطيوس النوراني إلى السريانية.
2 ـ وضعه ليتورجية بالسريانية[315].
3 ـ ترتيبه صلوات الفرض الأسبوعي المعروف بالإشحيم[316]، كما رتب فناقيث الآحاد والأعياد.
4 ـ تنظيمه كلنداراً لأيام الأعياد على مدار السنة.
5 ـ تصحيحه كتاب جناز الموتى[317].
6 ـ نقله من اليونانية إلى السريانية الحسايات[318] التي وضعها مار سويريوس الأنطاكي (+538) عن العماد.
7 ـ وضعه كتاباً سماه (الكنوز) حوى طقوس العماد والزواج وتبريك الماء لعيد الغطاس (أي عيد عماد السيد المسيح)[319].
8 ـ له رسالة في تفسير رتبة القداس عند السريان كتبها إلى توما الكاهن[320].
9 ـ تصحيحه ترجمة معانيث[321] مار سويريوس الأنطاكي[322]. ويعتبر مار يعقوب الرهاوي شاعراً بارعاً[323]، وله ميامر[324] ومداريش[325] ضمّ بعضها إلى طقوس أسبوع الآلام باسمه. وله عشر مقالات في الشعانين.
سابعاً: اللغوية:
أخذ السريان قواعد لغتهم نقلاً عن طريق المشافهة من آبائهم، دون الاستناد إلى أصول في النحو، حتى القرن السادس للميلاد حيث ابتدأ بعضهم يؤلف في نحو اللغة وجمع مفرداتها وقاية لها من الفساد والضياع بسبب اختلاطهم بالروم[326]. وقد أولى مار يعقوب عنايته الكبرى بلغته السريانية الحبيبة فنقاها من الألفاظ الأعجمية وأصلحها وردها إلى فصاحتها[327]. ووضع كتاباً مهماً جداً سماه (غراماطيقي) وهو أول مؤلف في النحو السرياني[328]، وعدّ مار يعقوب لذلك واضع هذا العلم لدى السريان.
ولا يغرب عن بالنا أن مار أحودامه (+559) ويوسف الأهوازي (+580) وعنان يشوع (+650) قد كتبوا في النحو قبل الرهاوي، ولكن كتبهم هذه ضاعت ولم يبق منها سوى نتف لا تروي غليلاً ولا تغني فتيلاً. أما كتاب الرهاوي فقد استعمله السريان كثيراً في التدريس، لذلك عده السريان أول كتاب في النحو لديهم واعتبر مار يعقوب كما ذكرنا آنفاً واضع علم النحو السرياني. ويشبهه بعضهم بأبي الأسود الدؤلي (المتوفي سنة 688م) واضع علم النحو في العربية[329].
وعلى غرار مار يعقوب ألف علماء لغويون ومنه اقتبسوا، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر ابن العبري (+1286) الذي أشار إليه ونقل عنه نبذاً قيمة في كتابه الموسوم بالأضواء (صمحي). وقد ضاع كتاب الرهاوي ولم يبق منه سوى شذرات يعود تاريخ نسخها إلى القرن التاسع أو العاشر[330]. كتبت بخط جيد ولكن معالم الكتابة قد زالت تقريباً. لذلك قرئت بالاستعانة بالمواد الكيمياوية وطبعت بعد ذلك[331]، وتحتوي على نقاط قيمة في النحو السرياني وفيها يوضح مار يعقوب طريقته الجديدة في علامات الحركات[332]. وقد رأينا أن نتناول دراسة رأيه في تشكيل الحروف السريانية فيما يلي باختصار.
علامات الحركات السريانية لدى الرهاوي:
كانت اللغة السريانية حتى أواخر القرن السابع للميلاد تُكتب بدون تشكيل، ثم استعمل السريان حروف العلة الثلاثة: الألف والواو والياء كحركات لضبط اللفظ ولكن هذه الطريقة كثيراً ما تربك القارئ حيث لا يميز فيما إذا كانت الحروف قد استعملت في الكلمة كحركة أم حرف.
أما التنقيط فقد استعمل قبل القرن السابع كتشكيل للكلمات، وليعقوب الرهاوي رسالة في ذلك يوضح فيها طريقة وضع النقط تحت الحرف أو فوقه ضبطاً للمعاني وتمييزاً بين المرادفات وما إليها[333]. ولعل السريان الغربيين هم الذين استنبطوا طريقة التنقيط لأنها لا تشتمل على الشدة المستعملة في لهجة السريان الشرقيين[334]، ولا يزال السريان الغربيون يستعملون أحياناً طريقة التنقيط القديمة. وهي الطريقة الوحيدة في ضبط اللغة لدى السريان الشرقيين.
وقد استنبط مار يعقوب علامات الحركات آخذاً بعضها عن اليونانية التي كان يجيدها حيث أنه رأى أن جميع أصوات الصوائت السريانية كما ينطقها الرهاويون يمكن أن تمثلها حروف يونانية، وكطريقة للإشارة يمكن أن تكون أكثر وضوحاً للقارئ من مجموعة النقط الصغيرة، فأخذ من اليونانية حرف الألف وجعله للفتح، والهاء للكسر، والعين مع الواو للضم، والحاء للكسر المشبع، والعين وحدها للضم الممال إلى الفتح، وجعل صورة هذه الحروف اليونانية صغيرة[335]. وكان أسلوبه في تشكيل الكلمات كتابة الحركات (الحروف الصوائت) مع الحروف الصوامت على السطر، ولم يكتب لهذه الطريقة البقاء طويلاً[336]، وتطورت بعدئذ فوضعت الصوائت كعلامات صغيرة فوق الحروف أو تحتها. كما أن السريان الغربيين لم يتركوا طريقة التنقيط بل سارت الطريقتان جنباً إلى جنب أجيالاً عديدة، ثم فضلت الحركات لوضوحها وسهولتها فاستعاض السريان بها عن التنقيط.
وقد نسب بعضهم إلى ثاوفيل الرهاوي (+785) مترجم الإلياذة إلى السريانية، ابتكار الحركات السريانية لضبط أسماء الأعلام اليونانية، ولكن المستشرقين وايزمن ونولدكه ورايت وسواهم[337] أيدوا نسبتها إلى مار يعقوب الرهاوي وبخاصة أن في المتحف البريطاني مخطوطاً[338] خطّ على عهد الرهاوي (+708) ـ ولعل الرهاوي نفسه كتبه بخط يده ـ وردت فيه الحروف اليونانية الصوتية مستعملة في تشكيل الكلمات السريانية هذا مع العلم بأن ثاوفيل الرهاوي قد توفي بعد مار يعقوب الرهاوي بثمانين سنة تقريبا. فمبتكر الحركات السريانية إذن هو مار يعقوب الرهاوي لا غيره[339].
وعدد هذه الحركات ثمان يذكرها ابن العبري (+1286) في كتابه الأضواء[340] (صمحي) ويجمعها في جملة واحدة وهي:ـ
نفأيكون آيل من بيشوةا وينظم لها جدولاً تسهيلاً لفهمها وكان يعقوب الرهاوي قد جمعها في جملة:
بنٍيحُو ةٍحين آورؤي ويأخذ ابن العبري على يعقوب الرهاوي إهماله حركة الرباص القصير ربأا كريا مثل جزةا وهي ضرورية في اللغة جداً، وتمسكه بحركة الرباص الوسط ربأا مأعيا التي هي ما بين الكسر الطويل والقصير وهي غير ضرورية.
ويقتصر ابن العبري في كتاب المدخل معلةا على ذكر خمس حركات فقط ويجمع الحركات بجملة كفرة سميو ويهمل الحركات الطويلة والقصيرة لأنه وضع كتابه للطلاب المبتدئين خاصة وشاء أن يلقنهم النحو بطريقة سهلة ويقول: إن لدى الشرقيين حركات أخرى ما عدا الحركات الخمس المذكورة أعلاه وقد ذكرها الرهاوي أيضاً.
ولا بد أن نذكر هنا أن الحركات الخمس لدى السريان الغربيين تشمل الحركات الثماني، ذلك أن كل حركة جاء بعدها حرف ساكن لفظت بإطباق وإذا جاء بعدها حرف متحرك لفظت بإشباع[341]، وهكذا تتميز الحركة الطويلة من القصيرة.
وكان مار يعقوب يحاول إصلاح الحروف السريانية أيضاً ويظهر لنا من رسالة كتبها إلى بولس قسيس أنطاكية أنه أراد تطوير الحروف وإصلاح الكتابة السريانية، ولكن السريان لم يكونوا على استعداد لقبول هذا التطور في لغتهم لذلك يقول لبولس: «لقد رغب كثيرون قبلي وقبلك في هذا ولكن خشية ضياع الكتب القديمة المدونة بهذه الحروف الناقصة هي التي أعاقتهم عن هذه الاستفادة[342]».
وله رسالة إلى جرجس أسقف سروج في الخط السرياني وضبط الإملاء والألفاظ يوصي بها النساخ بالأمانة في النقل[343].
مار جاورجي الأول بطريرك أنطاكية (790+)
في «بعلتان»[344] إحدى قرى حمص، وفي أوائل القرن الثامن للميلاد، ولد جاورجي من أبوين فاضلين، وتربَّى تربية خالصة، مرتشفاً مبادئ الدين القويم من ينبوع مدرسة قريته وكنيستها. فشبّ وهو بأهداب الفضيلة متمسك، وفي حياة التقى راغب، وفي نفسه الكريمة ميل إلى عيشة الأديار. فانضوى إلى دير قنسرين[345] الشهير، مثوى الأتقياء ومنبت أشهر رجالات الكنيسة السريانية، حيث عكف على الدرس والمطالعة، فملك ناصية السريانية، وتمكن من اليونانية، وتعمّق في الفلسفة والفقه البيعي، وتبحّر في علم اللاهوت وتفسير الكتاب العزيز. ثم توشّح بالإسكيم الرهباني المقدس، ورسم شماساً. وإذ كان مثالاً صالحاً لإخوته الرهبان نسكاً وعلماً وتقى، ذاع صيت فضائله في الآفاق.
وفي كانون الأول سنة 758 عقد الأساقفة مجمعاً في منبج[346] لانتخاب خلف للبطريرك إيوانيس الأول (754+) فوقع اختيارهم على المترجَم، فرسموه بطريركاً للكرسي الرسولي الأنطاكي.
غير أن هذا العمل لم يرق ليوحنا أسقف الرقة وداود أسقف دارا، وكان كل منهما يطمح إلى التربّع على السدة البطرسية، بحجة أنه لا يسوغ أن ينصب بطريركاً من كان بعد في رتبة الشماسية كجاورجي. وأدّى بهم الأمر إلى عصيان سافر، حسداً من مناقبه ـ وصاحب الفضل محسود ـ وأشعلا فتنة عمياء في بيعة اللّـه، وعملا على تفكيكها. فاغتصب الأول اسم البطريركية. ولما هلك بعد أربع سنوات، خلفه زميله سنة 766 وشخص إلى بغداد حيث وشى بالبطريرك مار جاورجي لدى الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور قائلاً: إنه صار بطريركاً بدون إذن منك، وأخذ من ثم يضايقنا بالضرائب. وكلما سألناه السبب في عدم حصوله على براءة منك، أجاب أنه لا يجوز أن يلج متاعه اسم نبي المسلمين. فوقعت الوشاية من الخليفة موقعاً حسناً، فاستشاط غضباً وأمر فقبضوا على البطريرك القديس، وعروه من ثيابه، وبسطوا ذراعيه. فصرخ باللغة اليونانية قائلاً: «يا والدة الإله أعينيني». فسأل الخليفة عما يقول، فأجابه أحد اللؤماء أنه يكفر. فأمر بضربه بالسياط. فلما ضرب ثلاثاً، سال دمه الزكي على الأرض. ثم سأله الخليفة: لمَ لم تأخذ براءة منا؟ فأجاب القديس: «لأني لا أريد إكراه أحد». وسأله أيضاً ولماذا تأبى حمل اسم نبينا؟ فذهل القديس لهذا السؤال وقال: «هوذا اسم نبيكم في جميع أمتعتنا، فضلاً عن طبعه على دراهمنا ومسكوكاتنا». وهكذا أخرس الحق الصريح الخليفة، الذي أعجب بذكاء القديس وشجاعته، وأيقن أنه بريء مما ألصق به من التهم. غير أن محبته للمال دفعته إلى سجنه وتعذيبه. فأمر كاتبه بنقله إلى داره واستجوابه عن معرفته بصناعة الكيمياء الكاذبة، طامعاً منه بكشف كنوز ذهبية. فمكث في داره ثلاثة أيام، لا يأكل ولا يشرب. وأخيراً طرح في السجن مع الأسرى.
ومنح الخليفة، داود الخائن، براءة بطريركية، وأكره الشعب السرياني على الخضوع له كبطريرك. فكان بعض أتباعه يستلون السيوف ويحيطون بالمذبح ويضطرون الرجال والنساء إلى الاشتراك معه في تناول القربان المقدس.
أما فضلاء المؤمنين فظلوا مخلصين لجاورجي المعترف، رغم ما ذاقوه من أمر العذابات وأقسى الإهانات في سبيل ذلك، حتى أن الأساقفة لبسوا ثياباً بيضاء كالعلمانيين، وأخذوا يجوبون القرى والدساكر متنكرين، يسوسون الكنائس، ويقومون بالخدم الدينية لمن ظل من المؤمنين أميناً لربه ولكنيسته، ومخلصاً لسيده البطريرك جاورجي، ويكفونهم حاجاتهم الروحية.
فلو تخيلنا أنفسنا من زائري سجن بغداد يومذاك، لرأينا في زاوية من زواياه المظلمات، شيخاً جليلاً قد أنهكت السياط قواه، فيما أن الابتسامة الملائكية لم تفارق ثغره. إنه الرجل الإلهي مار جاورجي. وكأني به يسخر من الآلام التي تقبّلها بصدر رحب منشرح حباً بسيده المسيح ليس إلاّ وينطق بصمته الرهيب إن «هذا ما أصابني من إخوتي ومن بني أمتي». إنها «الجراح التي أثخنتني في بيت أحبائي». كلا يا سيدي الجليل، إن الذين ظلموك وظلموا الرعية، هم أجراء دخلاء وذئاب خاطفة متلبسة بثياب الحملان، بل لصوص وسراق، لذلك لم ولن تسمع لهم الرعية لأنها لا تعرف صوت الغريب.
وتحدّثنا نظرات جاورجي العميقة عما كان يجيش في خاطره ويكنه قلبه الأبوي الكبير من العطف والاهتمام بأمور كنيسة اللّه. وكأني به يقول: أخبروني يا أحبائي، كيف حال كنيسة اللّـه السريانية، وإلى أي مدى بلغ الدخلاء اللؤماء من تمزيق شملها؟
ـ إنه قد تمّ فينا قول القائل: «ضرب الراعي فتشتتت الخراف»! فالكنيسة في حالة يرثى لها: أساقفتها مبددون، أغنامها الوديعة مشرّدة، وهي أحوج ما تكون إليك يا راعيها الصالح لتجمع شملها وتداوي جرحها.
ونراه يرنو إلى الأرض بكآبة وهو يستمع إلينا ونحن نحدّثه عن حالة الكنيسة السيئة، فيتأوه طويلاً، ثم يستعيد جأشه غير ناسٍ واجبه الأبوي بإرشاد تلاميذه، وإن كان في أشد الضيقات. لذلك نسمعه يقول: تشجعوا يا بنيَّ ولا تضطرب قلوبكم هلعاً، فاللّـه مع كنيسته إلى منتهى الدهر، وإن أبواب الجحيم لن تقوى عليها بحسب وعده الإلهي الصادق. أجل، إنه يكلأها بعينه اليقظى ولئن زجّ جاورجي في غياهب السجون، ويقيم لها عشرات الرجال أمثال جاورجي، يحيطون بأسوارها كالحراس الأمناء. فاذهبوا وثبّتوا إخوانكم وعلّموهم أن يصبروا ويصابروا على هذه التجربة، واثقين من أن الفرج على الأبواب.
هذا ما ترجمته آلام القديس جاورجي المريرة في سجن المنصور، في تلك الفترة العصيبة من الزمن، وهي التي أوحت إليه بمدراشه السرياني الفريد الذي رثى به نفسه. ومما قاله في أحد أبياته: «طوبى لي حين أنبأ بسقوط بابل مدينة الجبابرة، وفتح أبواب السجون، فأخرج كالرسول بطرس ظافراً، وأنشد طرباً نشيد زكريا «هوذا الشمس تشرق على العميان من العلى. لقد بكت يوماً بنات صهيون دانيال، فابكي أنت أيتها الأديار جاورجي».
ويطوي الزمان صفحته، ويقضي البطريرك جاورجي في السجن تسع سنوات، ويعتقل معه ثاودوريط بطريرك الروم الملكيين (الأرثوذكس) ويعقوب جاثليق النساطرة بوشاية من الظالمين. ولم يطلق سراحهم إلاّ بموت أبي جعفر المنصور سنة 775. بيد أن الخليفة المهدي أشار إلى صاحب الترجمة ألاّ يسمي نفسه بطريركاً عملاً بأمر أبيه المجحف.
غادر القديس بغداد، وزار تكريت[347] فالموصل فما بين النهرين العليا، «فتلقته الكنيسة كملاك نزل من السماء»، وذلك في الاستقبالات الفخمة والحفلات المهيبة التي أقيمت تكريماً له حيثما يمّم. ثم وصل إلى أنطاكية حيث رسم عشرة أساقفة، وأقصى عن الأبرشيات أولئك الذين سمّاهم داود الدخيل. وأخذ يطوف البلاد، متفقّداً شؤون المؤمنين، بانياً النفوس والكنائس، بهمة لم تعرف الكلل وغيرة لم يشبها الملل. فلا عجب بعد هذا إذا ما أنهك الجهد المتواصل قواه، فما أن وصل إلى قلوديا[348] حتى شعر بدنو أجله، فقصد دير مار برصوم القريب من ملطية، حيث انتقل إلى جوار ربه في اليوم الأول من شهر كانون الأول سنة 790 بعد أن «جاهد الجهاد الحسن وأكمل السعي وحفظ الإيمان» واستحق أن يتجرّع في سبيل الحق كؤوساً مترعة من الآلام المريرة، صابراً عليها صبر القديسين. فدفن في الدير نفسه، وعيَّدت له الكنيسة في السابع من الشهر المذكور.
وعلاوة على أعماله الرعوية، وتحمّله المشاق من أجل الإيمان مدة مديدة، فقد ترك لنا شرحاً وافياً لإنجيل متى، ورسالة لاهوتية أنفذها إلى كوريا شماس بيت نعر من قرى الرها، في عبارة «نكسر الخبز السماوي». كما أنه نظم في السجن ميامر[349] ومداريش[350]، ضمّ بعضها إلى الفرض الكنسي.
المصادر:
1 ـ التاريخ الكنسي لابن العبري ثلاثة مجلدات.
2 ـ اللؤلؤ المنثور للعلامة البطريرك أفرام الأول برصوم.
3 ـ ذخيرة الأذهان للقس بطرس نصري الكلداني مج1.
4 ـ الخريدة النفيسة في تاريخ الكنيسة للأسقف إيسيدورس ج2.
5 ـ رغبة الأحداث للقس أسحق أرملة ج2.
البطريرك ديونيسيوس التلمحري
تمهيد:
هذه صفحة مشرقة من صفحات تاريخنا المجيد، تتضمّن معلومات قيّمة عن الحياة الاجتماعية والدينية في القرن التاسع للميلاد كتبها بالسريانية العلامة الكبير المفريان ابن العبري (1286+) في الجزء الأول من التاريخ الكنسي[351] في معرض ترجمته لرجل عظيم هو البطريرك مار ديونيسيوس الأول التلمحري (845+) الذي خدم وطنه وكنيسته بإخلاص وتفان، رأيت أن أنقلها إلى العربية معلقاً عليها.
تحدّر البطريرك ديونيسيوس من بيت رهاوي عريق، ونشأ في بلدة تلمحرة[352]. ودرس وترهّب في دير قنسرين[353]، ورسم بطريركاً للكرسي الرسولي الأنطاكي سنة 818م واشتهر بعلمه وحسن إدارته، فصرّف الأمور بحكمة، ونال حظوة لدى الرؤساء السياسيين وفي مقدمتهم الخليفة المأمون الذي اصطحبه إلى مصر وانتدبه للقيام بمهمة سياسية هناك كما سترى. وكانت الكنيسة السريانية عصرئذ تزهو بالعلماء الأجلاء الذين زيّنوا جيدها بعقد فنون العلوم الدينية والمدنية، وكان المترجم أحدهم. فقد وضع بالسريانية تاريخاً عاماً من سنة 583 حتى سنة 843م بمجلدين. عرف البطريرك العلامة مار ميخائيل الكبير (1199+) أهميته فلخّصه، وضمّه إلى تاريخه الشهير، وفقد الأصل، وبقي المختصر. وقد نحله السمعاني خطأ تاريخاً وضعه راهب من دير زوقنين سنة 775م[354].
وقد عقد مار ديونيسيوس مجامع كنسيّة في الرقة عام 818م ودير أسفولس عام 828م وتكريت عام 834م وسنّ قوانين بيعية مهمة[355] تدلّ على تعمّقه بالفقه البيعي علاوة على تبحره بعلوم الفلسفة، واللاهوت، والتاريخ.
فدونك أيها القارئ الكريم ترجمة البطريرك ديونيسيوس التلمحري، بقلم العلامة ابن العبري، نقلتها عن السريانية وحاولت جهدي أن تكون قريبة من النص وعلّقت عليها لفائدتك.
(المعرّب)
تعريب النص السرياني والتعليق عليه:
(على أثر وفاة البطريرك قرياقس (817 +) اجتمع الجبّيون[356] مع القورسيين[357] وجاءوا إلى إبراهيم الذي كان قد أقيم عليهم بطريركاً دخيلاً، وقالوا له: حتى متى نبقى منفصلين عن الكنيسة ومحرومين؟ منذ أمد بعيد مات البطريرك الذي سعى مجتهداً لرفع عبارة (لنكسر الخبز السماوي) من كتاب خدمة القداس[358] العبارة التي من أجلها انفصلنا عن الكنيسة والآن نريد أن نتّحد بالكنيسة ثانية. فأجاب إبراهيم الدخيل محتالاً: «إنني حقاً قاسيت من أجلكم، واحتملت الذلّ والحقارة. فدعونا الآن نبقَ على ما نحن عليه، إلى أن يقام رئيس للأساقفة، فإذا أقام الأساقفة رئيساً لهم يتلفّظ بعبارة «لنكسر الخبز السماوي» ولو مرة واحدة، أكون محروماً ما لم أتخلَّ عن هذه الرئاسة وألجأ إلى السكينة». قال ذلك ظناً منه أن الأساقفة خوفاً من جماعة مساعديه المؤذين، يقيمونه رئيساً عليهم. وهكذا لزم الهدوء طيلة تلك السنة مطمئناً معتمداً على هذه الوسوسة.
أما الأساقفة فتداعوا واجتمعوا في الرقة في شهر حزيران سنة 818م وكان عددهم خمسة وأربعين أسقفاً[359]. وجاء ابراهيم وزمرة رهبانه (إلى الرقة) ونزلوا في فندق، مثيرين السجس من أجل عبارة «لنكسر الخبز السماوي». في الوقت الذي كان الأساقفة قد أجمعوا على أن من يرغب في أن ينطق بتلك العبارة فلا يمنعونه، ومن لا يرغب في قولها فلا يضطرونه إلى ذلك.
وأفلح الأساقفة بمصالحة المفريان باسيليوس مع المتاويين[360] ثم انتصب أحد الشيوخ في وسط المجمع وقال: «أما الآن وقد سمعنا هذه الأمور وقبلناها، فيجب علينا أن نبدأ بالأمر الذي هو باب كل الخيرات، (ألا وهو انتخاب البطريرك الجديد) فلنفرض على أنفسنا صوماً مدة ثلاثة أيام مواظبين على الصلاة، ليعدّ اللّـه لكنيسته الشخص الذي يعرفه تعالى أنه سيرعاها بالنقاء والقداسة، فحسن رأي الشيخ لدى الحاضرين، وصاموا ثلاثة أيام وصلّوا. ثم جلسوا، كل بحسب درجته، وأذنوا بعضهم لبعض لإبداء الرأي. فقال العديد منهم أنه ليس في ديورتهم من يليق بهذه الرتبة. وذكر آخرون أسماء أشخاص مشهورين مثل الملفان[361] اوتونوس وأخيراً انتصب الأسقف ثاودورس من دير مار يعقوب في كيسوم[362] وقال: «أستأذنكم أيها الآباء بالكلام، لقد جاء إلى ديرنا راهب من دير مار يوحنا بن أفتونيا وهو دير قنسرين، وأقام عندنا سنتين. وفحصناه فرأيناه أهلاً للرتبة» فلما قال هذا انفتح باب الحديث لأساقفة آخرين فأثبتوا رأيه فاتفقوا، وكتبوا كتاب الرضى ووقّع عليه بخطوطهم أولاً باسيليوس مفريان تكريت، ثم برحذبشابو أسقف المرج، فيوحنا أسقف مرعش، فأنسطاس أسقف دمشق. ثم بقية الأساقفة الواحد تلو الآخر.
يقول البطريرك ديونيسيوس في تاريخه: «إلى هنا أسجّل محققاً حوادث التاريخ بجرأة تامة. ولم أمدح من لا يستحق المدح محابياً، ولم أذمّ من لا يستحق الذم مرائياً. أما الآن فكنت أود أن يتناول هذه المهمة مؤرّخ آخر فيعلن أخطائي، ويمدح في أعمال الاستقامة إن استحققت المدح. لا أن أفعل أنا ذلك. وحيث أنه لا يوجد أحد سواي خبير بأموري مثلي، لذلك أتغاضى عن المدح، لئلا اتهم بأنني أكرم نفسي أمام ذويَّ، في الوقت الذي أعترف بضعفي وعدم جدارتي. فقد كنت عاجزاً قاصراً. وإنني لمستغرب جداً كيف أفحم الآباء الأساقفة الأطهار عندما رشحت لهذه الرتبة، ولا أقول أنهم ضلّوا وغشّوا بحسن ظنهم بي، ولكن كبسطاء القلب وسليمي النية. أخذوا على حين غرّة بشهرة حزتها من الخارج.
ولما كان رهبان دير قنسرين يومذاك مبدّدين، فقد كنت أقيم في دير مار يعقوب. فأرسل الآباء إلى هناك راهبين جبارين اصطاداني وشدّدا عليّ الحراسة. وكأنني فاعل إثم. حتى جاء الأساقفة الذين ظهروا لي أنهم أكثر قسوة (من الراهبين) بل بدون رحمة. حيث جروني إلى وسط المجمع وأنا أرفض ذلك معلناً ضعفي وعدم جدارتي، باكياً مبتهلاً إليهم ليتركوني وشأني ولكنهم وثبوا عليّ محاصرين إياي عنوة. حتى أنهم لم يترددوا أخيراً من أن يقوموا عن كراسيهم ويخرّوا راكعين أمام ضعفي، وإذ صعب الأمر عليّ كنت أصرخ قائلاً: إن الكهنوت ليس لضعيف وشقي مثلي، بل هو لسائر من ارتقوا إلى أوج الفضيلة، والكمال. (وهنا لم أستطع البقاء على عنادي). فلو مكثت في حال عدم الخضوع والطاعة، لوقعت في خطر العصيان أيضاً. لذلك ففي يوم الجمعة ساموني شماساً في دير العمود[363] ويوم السبت ساموني قساً في دير مار زكا[364]. ويوم الأحد غرة شهر آب سنة 818م قلّدوني رئاسة الكهنوت العليا الكاملة، وذلك في كنيسة الرقة الكبرى، وجعلوني، كما ذكروا لي أيضاً، وارثاً شرعياً للكرسي (الرسولي الأنطاكي) أنا الذي لا أستحق حتى أن أحلّ سيور الأحذية»[365].
وقد وضع عليه اليد[366] ثاودوسيوس مطران الرقة.
أما إبراهيم فلما خاب سعيه وانقطع أمله، حنق متوحشاً وقال لأصدقائه الجبّيين: «تأمّلوا بما فعله الأساقفة، أنهم قد أقاموا عليهم رئيساً من الدير والبلد اللذين حذفا عبارة «لنكسر الخبز السماوي» ولذلك أناشدكم بكلمة اللّـه، أن لا تواروا جسدي التراب عند موتي ما لم تقيموا عليكم رئيساً يخلفني، ولا تتصالحوا معهم البتة». وهكذا غادر ورفاقه على شقاق.
ولما انفضّت جلسات المجمع رحل البطريرك ديونيسيوس إلى قورس. فاجتمع القسس والشمامسة وأبناء الشعب هناك. ولما علموا أن البطريرك لا يمنع أن تقال عبارة: «لنكسر الخبز السماوي» عادوا إلى الاتّحاد معه. فحرمهم إبراهيم فرجعوا القهقرى وغادر البطريرك قورس، ورحل إلى أنطاكية ومنها إلى ما بين النهرين. ونزل بغداد وحصل على براءة من الخليفة (العباسي) وطلب إليه التكريتيون أن يعرّج عليهم ويعيّد عندهم. ولكن المفريان باسيليوس كتب إليه قائلاً: «ليس الوقت مناسباً لمجيئكم إلى تكريت…» لذلك ترك طريق تكريت والموصل وصعد في طريق الفرات إلى قرقيسياء ووصل إلى قرى الخابور ونصيبين ودارا وكفر توثا مدن ما بين النهرين (العليا) ومن هناك ذهب لتحية الأمير عثمان واستصدر منه أمراً ببناء هيكل دير قنسرين العجيب الذي كان قد احترق. وأخضع رهبان دير اوسيبونا من كورة أنطاكية الذين كانوا قبلاً تابعين لابراهيم. حينئذ ذهب إبراهيم إلى الرقة إلى الأمير عبداللّـه بن طاهر (بن الحسين الخزاعي) وجاء أيضاً (إلى الأمير) البطريرك مار ديونيسيوس. وبعد مداولات بأمور كثيرة أمر الأمير حاجبه بأن يسأل المسيحيين الواقفين خارجاً من هو رئيسكم؟ وعندما خرج وسأل ألوف المسيحيين الواقفين أمام الباب صرخوا قائلين: ليس إبراهيم رئيساً علينا بل هو ليس مسيحياً. حينذاك حدّق الأمير بإبراهيم بغضب وعنفه قائلاً له: «أراك رجلاً دجّالاً ومضلاً»، وأمر فنزعت عنه قبعته. وزجره الأمير ثانية قائلاً له: «لا أريد أن أسمع أنك تدعى بطريركاً منذ الآن. فاحذر، والأجدر بك أن تهتم بنفسك. فاصرف الرهبان الذين معك ليذهبوا وشأنهم». وهكذا تفرّق إبراهيم ومن كان برفقته. ولكن إبليس لم يتركهم هادئين، حيث أنهم أرسلوا شمعون أخا إبراهيم إلى بغداد، ومعه كتاب (العهد) الذي كان علي بن أبي طالب (رضي اللّـه عنه)… قد أعطاه لدير الجب الخارجي فلما رأى آل علي كتابة جدهم، دخلوا على الخليفة واستصدروا براءة (لإبراهيم) ولما عاد شمعون (إلى الرقة) جمع الرهبان المتحزّبين (له ولأخيه)، وعندما أخبر البطريرك بذلك وكان يومذاك في أنطاكية، جاء هو أيضاً إلى الرقة، ودخل وإياهم إلى الأمير عبداللّه. ولما رأى الأمير البراءة فوجئ بالأمر ودهش. وأرسل إلى بغداد مبعوثاً خاصاً عاد بعد زهاء عشرين يوماً ومعه كتاب من المأمون يبطل فيه البراءة. حينذاك سلّم الأمير عبداللّـه إبراهيم إلى يد البطريرك لينفذ فيه إرادته. فجرّده البطريرك نازعاً عنه قبعته ثم صرفه فذهب إلى قورس مثيراً الفتن. ولما بلغ الأمير ذلك استقدمه إليه مقيّداً كأنه لص، وجرّده من قبعته ثانية وذلك أمام القرويين التابعين له، لعله يخجل ويكفّ عن شره.
وفي سنة 825م انتقل الأمير عبداللّـه إلى مصر وخلفه أخوه محمد، الذي خرّب الأبنية الجديدة في كنائس الرها، وهدم بيعة الأربعين شهيداً… فرحل البطريرك ديونيسيوس إلى مصر بحراً، وهبّت العواصف وارتفعت أمواج البحر ولم ينجُ إلاّ بشقّ الأنفس. ورست السفينة في ميناء مدينة تنيس[367] وهي جزيرة واقعة في بحيرة تجمعت من مياه فيضان النيل والبحر الكبير[368] وخرج مسيحيو المدينة لاستقباله وعددهم يناهز الثلاث ربوات[369] وجاء إليه البطريرك يعقوب[370] بابا الإسكندرية ومعه عدد من الأساقفة. وكانوا جميعهم مبتهجين بزيارته، وقالوا له أن مصر لم تحظَ بزيارة بطريرك أنطاكي منذ عهد مار سويريوس الكبير. يقول مار ديونيسيوس في تاريخه ما يلي: حينئذ أخبرناهم عن دخول البطريرك أثناسيوس المكنّى بالجمال[371] (إلى مصر) والاتحاد الذي عقده مع أنسطس[372] بعد الانشقاق الذي جرى على عهد بطرس[373] ودميانوس[374] (وأردف البطريرك ديونيسيوس قائلاً في تاريخه): ومن هنا علمنا أنهم لم يكونوا مهتمّين بدراسة الكتب فضعفت معرفتهم بالتاريخ.
وذهب البطريرك من هناك إلى محلّة الفرس، ودخل على الأمير طاهر، وبما أنه كان عزيزاً على الأمير كثيراً، لامه الأمير على ركوبه البحر قائلاً: «ما الذي اضطرك إلى القدوم إلى مصر، فقد كان بإمكانك أن تخبرني بكل ما تريد في رسالة». فدعا له البطريرك، وشكر له حسن صنيعه، وأخبره عن الشر الذي حصل في الرها. فكتب الأمير إلى أخيه (محمود) يعاتبه، ويأمره بأن يرفع يده عن الكنائس، وألاّ يقاوم البطريرك ويضايقه.
ثم استعطف البطريرك الأمير لأجل أهل تنيس الذين أرهقتهم الجزية فأخذوا يتشكّون حيث كان يؤخذ من كل واحد منهم غنياً كان أم فقيراً، خمسة دنانير[375].
فأصدر الأمير أمره بأن يؤخذ من الغني ثمانية وأربعون درهماً[376]، ومن متوسط الحال أربعة وعشرون درهماً، ومن الفقير إثنا عشر درهماً.
كما إن ثاودوسيوس مطران الرها[377] وهو شقيق البطريرك ومرافقه برحلته هذه إلى مصر تظلّم أيضاً لدى الأمير بالنيابة عن رعيته (فاستجاب الأمير طلبه وأنصفهم). وثاودوسيوس هذا هو الذي نقل من اليونانية إلى السريانية أشعار الثاولوغوس[378] وذكره الربان أنطون الفصيح بالمقالة الخامسة والأخيرة من كتابه الفصاحة، ونعته بمحب العلوم، والعجيب، والمجتهد بمعرفة اللغات المختلفة. من هنا نعلم أن الربان أنطون التكريتي عاصر البطريرك مار ديونيسيوس التلمحري. كما روى لنا ملافنة عصرنا وشيوخه. ومن دواعي العجب أن البطريرك قد أهمل رجلاً فاضلاً كهذا فلم يذكره في تاريخه.
وعندما أتمّ البطريرك مهمته في مصر ونال مبتغاه، رجع إلى سورية ليأخذ قسطاً يسيراً من الراحة. ولكنه لم ينجح من حرب الآلام التي أثيرت ضده من أجل الكنيسة، ذلك أن نونا الأرخدياقون الفاضل الشهير قدم شكاوى عن الأعمال الممقوتة التي كان فيلكسينوس مطران نصيبين يقوم بها. فعقد أربعون مطراناً وأسقفاً مجمعاً في رأس العين[379] وحرموا فيلكسينوس فقصد فيلكسينوس القوروسيين اولئك الذين كان هو نفسه، على عهد البطريرك قرياقس (817+) قد بدّد شملهم في بيت جبرين. فقصدهم الآن، واجتذب إبراهيم ورفاقه وأتى بهم إلى كنيسة نصيبين وعلى أثر ذلك انقسمت هذه الكنيسة إلى شطرين.
وفي هذا الزمان نشب خلاف بين اليهود من أجل رئيس الجالوت، حيث أن الطبريين أقاموا رجلاً اسمه داود، بينما البابليون أقاموا رجلاً آخر اسمه دانيال من أتباع بدعة (العنانيين) الذين ينقضون السبت ويحفظون يوم الأربعاء. وعندما رفعت دعواهم إلى الخليفة المأمون، قرر: أنه إذا ما رغب عشرة رجال من مذهب اليهود أو المسيحيين أو المجوس في أن يقيموا عليهم رئيساً (دينياً منهم) فلا مانع من ذلك.
ولأجل هذا القرار نزل البطريرك ديونيسيوس إلى بغداد، وقبل أن يقابل الخليفة، رفع إليه (السريان) البغداديون الشكوى ضد مطرانهم لعازر، فتباطأ (البطريرك) في النظر في دعواهم مؤجلاً ذلك إلى ما بعد زيارته تكريت لئلا يصير شعبنا هزءاً بين الشعوب الغريبة. ولكن البغداديين لم يصبروا بل أكّدوا عليه النظر في شكواهم ضد مطرانهم، واضطروا البطريرك إلى حرمانه فانقسمت الكنيسة في بغداد إلى فئتين. ورفع حزب لعازر الأمر إلى الخليفة، ضد البطريرك، لكن الخليفة المأمون الحكيم لم يشأ أن يحزن البطريرك وهو رجل رئيس (في قومه) وقد جاء من بلاد بعيدة ليقدم له آيات الإكرام ويحمل إليه الهدايا، لذلك أذن للبطريرك بعد مدة من الزمن أن يدخل على (المأمون) وسمح له وحده دون الأساقفة ومرافقيه كافة، بأن يقترب منه، وكان المأمون ممتطياً صهوة جواده يتنزّه في بستانه، فوجّه سؤاله إلى البطريرك قائلاً: ما شأنك ـ وكيف أحوالك؟ فدعا له البطريرك، وابتدأ كلامه بدعوى لعازر، موضحاً بأنه عندما حوكم قانونياً، وثبت جرمه، عزل فعصى الأمر قائلاً: لقد صدر لنا أمر، بأنه إذا اتفق عشرة منا فلهم الحق بأن يقيموا لهم رئيساً. فأجاب الخليفة قائلاً: أجل لقد أصدرت هذا الأمر لليهود أولاً، لأننا غير ملتزمين تجاهكم بإقامة رئيس عليكم. أجاب البطريرك: إن حكمتك تعرف جيداً الضمانات المعطاة لنا والعهود المعقودة بينكم وبيننا، عندما سلّم لكم آباؤنا أكثر المدن، وهذه العهود توجب على أن لا تبدّلوا شرائعنا. ومن الواضح أن لا تحفظ شريعة بدون رئيس لها. ومن شرائعنا هذه رئاستنا الكنسية. وبعد التداول بأمور أخرى، قال الخليفة للبطريرك… انصرف اليوم وعد إلينا ثانية في موعد آخر. وبعد عشرة أيام طلب البطريرك من لعازر السالك أمام الخليفة فذكّر الخليفة بوعده فقال المأمون ليأتِ البطريرك صباح اليوم التالي. كما دعا معه علماء الشريعة المسلمين الذين وجّه إليهم السؤال قائلاً: ماذا يتراءى لكم هل نحن ملتزمون بإقامة رؤساء (كنسيين) من المسيحيين، ما دامت السلطة سلطتنا؟ فأجاب هؤلاء: أنه لا يتوجب علينا سوى ألاّ نضطرهم إلى تغيير دينهم وعاداتهم. فطالما هم خاضعون لنا بأمانة، بإمكانهم أن يعيشوا في سكينة متنعّمين بالسلام الذي يوفره لهم جيشنا.
فاستأذن البطريرك الخليفة وبدأ كلامه قائلاً: «إن آباءك المرحومين أثبتوا لنا رئاستنا (الكنسية) ومنحونا براءة بذلك. وأنت نفسك أيضاً أصدرت لنا براءة مماثلة. (فنرجو) أن لا تسنّوا لنا الآن شريعة جديدة». حينئذ سأله الخليفة قائلاً: لماذا أنتم المسيحيين دون سائر المذاهب تستصعبون هذا الأمر؟ فأجاب البطريرك قائلاً: «إن أولئك أيضاً مغتاظون، ومع ذلك فإن رئاسة المجوس واليهود هي رئاسة جسدية تؤخذ بالوراثة، أما رئاستنا فهي روحية تتثبت بمخافة اللّه. والخسارة فيها ليست خسارة ذهب بل هي تصيب (كبد) إيماننا. ومن المعروف أن القصاص الذي نحكم به على المذنبين لا يكون بالضرب والقتل وخسارة الأموال، بل إن كان (المذنب) أسقفاً أو قسيساً ننزع منه درجته (الكهنوتية) وإن كان علمانياً[380] نطرده من البيعة» فقال الخليفة منبّهاً: «لا مانع من جهتنا من أن تنزعوا عن الخاطئ درجته وكرامته نابذين إياه. ولكن لا نستحسن البتة أن تطردوه من البيعة. وتمنعوه من الصلاة. لأن على الخاطئ خاصة أن يصلي ويسأل اللّـه غفران خطيته». وأمر الخليفة قاضياً اسمه اسحق[381] قائلاً له: «افحص جيداً فيما إذا كان لعازر بعقيدته خاضعاً للبطريرك، فإذا كان كذلك، نفّذ أمر البطريرك فيه». وهكذا خرج البطريرك من مجلس الخليفة المأمون وقد أشاد بذكره الفقهاء لجرأته. وكان ذلك في شهر آذار من سنة 829م.
وفي تشرين الثاني من سنة 830م قام البطريرك برسامة أسقف بدلاً من لعازر ثم رحل إلى تكريت ومنها إلى الموصل. وفي غضون ذلك توفّي المفريان باسيليوس في دير عينقا بظاهر مدينة بلد فرسم البطريرك دانيال من دير بيرقوم[382] مفرياناً ثم رحل إلى سورية في كانون الأول من السنة ذاتها.
وفي تلك السنة جاء الخليفة المأمون إلى كيسوم فخرج البطريرك للقائه هناك. ولكنه لم يدركه لأنه رحل سريعاً إلى دمشق، فلحق به البطريرك، وبوساطة لعازر، السالك أمام الخليفة، رحّب به الخليفة، وسرّ بهداياه. وأمر أن يرافقه إلى مصر، ليرسله سفيراً إلى المسيحيين القاطنين في القسم السفلي من النيل[383] ليكفّوا عن تمرّدهم.
فذهب إليهم البطريرك ديونيسيوس (تلبية لرغبة الخليفة) ورافقه (الأنبا) يوسف بطريرك مصر[384] وسعيا لمصالحتهم ولكن الوالي الأفشين[385] رفض الصلح وأحرق قراهم وكرومهم وبساتينهم وقتل الكثيرين منهم وسجن الباقين وأرسلهم بمراكب إلى أنطاكية ومن هناك إلى بغداد فمات أغلبهم في الطريق. ورجع البطريرك إلى الخليفة المأمون يخبره بأن أهالي الوجه البحري مظلومون (تعدّى عليهم الأفشين). واستأذن الخليفة وسافر إلى دمشق.
ويخبرنا البطريرك (في تاريخه) أنه رأى البابا يوسف والأساقفة الأقباط المصريين، شعباً عفيفاً، متواضعاً غنياً بالمحبة الإلهية. ويقول أيضاً، لقد عظمنا في عيونهم بهذا المقدار بحيث أن كل امتيازات البابا (الإسكندري) وما يجب تقديمه له من آيات التكريم في ولايته قدّموها لنا طوال مدة إقامتنا بين ظهرانيهم. ولكننا وجدنا عندهم عادات لا تليق بفضيلتهم. من ذلك عدم تمرّسهم في دراسة الكتب المقدسة، فالرهبان خاصة كانوا مجرّدين من هذه النعمة، ولم يكن الطامعون بنيل الرتب الكنسية يهتمّون باقتناء المعرفة والحكمة. بل يحرصون على إعداد الذهب ذلك أن الفرد منهم لا يتمكّن من البلوغ إلى درجة رئاسة الكهنوت بأقل من مائتين أو ثلاثمائة دينار. وعندما لمناهم على ذلك تذرّع البابا بعذر قائلاً: «إن ثقل الجزية المفروضة على كنيسة الإسكندرية بلغت بنا إلى هذا الوضع المخالف للشريعة». كما أننا لمناهم لأنهم لا يعمّدون الأطفال الذكور قبل أن يبلغوا من العمر أربعين يوماً. ولا يعمّدون الإناث قبل أن يبلغن من العمر ثلاثين يوماً[386] ولذلك فأطفال كثيرون يموتون دون عماد.
ويقول أيضاً مار ديونيسيوس، إننا شاهدنا المسلات في هليوبوليس[387] عاصمة مصر التي كان فوطيفار حمو يوسف حبراً عليها. وقد قدت كل مسلة من حجر واحد فقط من الصخر الصلب أي الرخام، يبلغ ارتفاعها ستين ذراعاً[388] وعرضها ست أذرع. مع العلم أن الأعمدة الموجودة في هليوبوليس الخارجية أي بعلبك، ارتفاع الواحد أربعون ذراعاً فقط. وفي أعلاها كخوذة الجنود صنعت من نحاس أبيض ووزن الواحدة ألف رطل[389]… ويقول البطريرك أيضاً: «إننا رأينا في مصر الأهرام التي يذكرها اللاهوتي غريغوريوس النزينزي (390+) بأشعاره، وهي ليست مخازن يوسف كما ظنّ بعضهم، ولكنها أبنية فخمة عجيبة شيدت فوق قبور الملوك القدامى، وهي ثابتة وقوية غير متزعزعة، وقد نظرنا عبر ثغرة فتحت خصيصاً في جانب أحدها، ورأينا أنه بعمق خمسين ذراعاً، مرصوف بالحجر، ومساحته خمسمائة ذراع من الأسفل، وارتفاعه خمسمائة ذراع بصورة مربّعة تنتهي بذراع واحدة من فوق بارتفاع مائتين وخمسين ذراعاً. أما مقياس حجر البناء فبعضها بطول خمس أذرع وبعضها عشر أذرع، وتظهر الأهرام عن بعد وكأنها جبال عظيمة.
وقال أيضاً أنه رأى بيتاً مبنياً على نهر في موضع، مجرى النهر فيه واحدٌ قبل أن يتفرّع إلى أربعة فروع، وكأن البيت بركة مربعة ينتصب في وسطها عمود من حجر مسطرة عليه الدرجات والمقاييس[390] وعندما يفيض النهر في شهر أيلول وتدخل المياه داخل البيت، يأتي كل يوم المسؤولون الموكلة إليهم هذه المهمة، ويقرؤون مقياس الماء في ذلك العمود. فإذا بلغ أقل من أربع عشرة درجة، فإن جزءاً صغيراً من أرض مصر يشرب ماء فقط، ولا تزرع غلة ولا يجبى خراج في ذلك العام. وإذا بلغ مقياس الماء خمس عشرة أو ست عشرة يكون زرع الغلة وسطاً وكذلك جباية الخراج. وإذا صعد المقياس إلى سبع عشرة أو ثماني عشرة درجة تشرب مصر كلها وتزرع الغلة ويجبى الخراج كاملاً. وإذا فاض إلى عشرين درجة فإنه يحدث خراب عظيم ولا تكون غلة في تلك السنة.
في سنة 835م نزل البطريرك إلى تكريت ووضع حدّاً للنزاع القائم ما بين المتاويين والتكريتيين، وحدّد أن يذكر اسم مطران دير مار متى في كنيسة التكريتيين في الموصل مرتين فقط في السنة، في عيد الشعانين وفي (حفلة) تقديس الميرون. على أن تكون الأولوية، بعد ذكر اسم البطريرك الأنطاكي لمفريان تكريت في المشرق كله. وإن البطريرك انتخب توما ورسمه مفرياناً لتكريت خلفاً لدانيال الذي قد انتقل إلى جوار ربه. وعاد البطريرك إلى سورية، ثم رجع أيضاً إلى بغداد للسلام على الخليفة المعتصم الذي خلف أخاه[391] المأمون. والتقى البطريرك هناك بابن ملك الحبشة الذي جاء إلى بغداد للسلام على الخليفة أيضاً.
وسنة 837م مات إبراهيم المشاق، واجتمع الأساقفة المشاقون وأقاموا أخاه شمعون خلفاً له. ووضع عليه اليد فيلكسينوس أسقف نصيبين المحروم وكان القورسيون يرغبون في إتباع البطريرك مار ديونيسيوس ولكنهم كانوا تابعين لشمعون مرغمين لتأثير أقربائهم فيهم. كما قد كتب عن السامريين، الذين كانوا يتّقون الرب ولكنهم يعبدون آلهتهم[392].
وبهذا العصر انتابت المؤمنين في كل مكان محن مختلفة… ولذلك كتب البطريرك مار ديونيسيوس إلى إيوانيس أسقف دارا، الذي بناء على طلبه كتب البطريرك كتابه في التاريخ، قائلاً: «لا حاجة لي أن أوضّح لحكمتك عن الضيقات التي اجتازها، فهي قاسية إلى درجة أنني أقضي ليلي دون أن تغمض لي عين، ونهاري دون أن آخذ فيه قسطاً من الراحة. هذا إلى محن أخرى، وعذاب القلق الذي يحرق القلب ويذوي الجسد، فالقلب السريع الإحساس والشعور هو سوس العظام. لذلك أبكي وانتحب على حياتي أنا الشقي، فإن خطاياي أفضت بي إلى أن أتجرّع هذه الكأس. وعندما أرى بعيني ما يقاسيه أبناء الكنيسة من ذل، وحزن، وضيقات تزداد يوماً بعد يوم، يكتئب لها قلبي ويشتد ألمي. فالموت هو المنقذ الوحيد للخلاص من هذه البلايا. لذلك أتوق إليه توقي إلى شيء جيد وصالح. هنا ختم هذا المغبوط (البطريرك ديونيسيوس) كتابه في التاريخ. وانتقل إلى جوار ربه في اليوم الثاني والعشرين من شهر آب سنة 845م ودفن في دير قنسرين، وقد خدم البطريركية سبعاً وعشرين سنة ورسم مائة أسقف.
البطريرك يوحنا ابن المعدني (1263+)
ولد في أواخر القرن الثاني عشر، درس وترهّب ورسم كاهناً في أحد أديار ملاطية، وسنة 1230 رسمه البطريرك إغناطيوس داود (1252+) مطراناً لماردين باسم يوحنا. ورسم مفرياناً على تكريت والمشرق سنة 1232.
من أخباره أن أهل أبرشية الموصل ونينوى لم يتلقوه بادئ بدء بترحاب، لأنه لم يكن كسلفه، الشهيد المفريان ديونيسيوس الثاني، جميل الصورة، فصيح اللسان، بل كان الجدري قد ترك في وجنتيه أخاديد داكنة السواد، وكانت لغته العربية ركيكة.
ومكث المفريان في أبرشية الموصل ونينوى نحو خمس سنوات. ثم رحل إلى بغداد سنة 1237 فرحّب به المؤمنون هناك إذ عرفوا فضله وفضيلته، وجلده على الدرس والتنقيب وملازمته قلايته.
وكان في بغداد آنذاك الإخوة الثلاثة الأشراف شمس الدولة وتاج الدولة وفخر الدولة أبناء توما الذين كانوا مقربين لدى الخليفة العباسي المستنصر باللّـه (1226 ـ 1242) ومتولين إدارة بلاطه. فكرّموا المفريان يوحنا كثيراً، وبوساطتهم نال حظوة لدى الخليفة ورجال الدولة.
وكانت بغداد تزهو بمدرستها المستنصرية التي تعتبر مركز إشعاع فكري في الشرق يومئذ، فاهتمّ المفريان يوحنا بدراسة اللغة العربية وآدابها على أحد أفاضل علماء المسلمين فسبر غورها وتعمق بها وملك ناصيتها، مما رفع منزلته كثيراً لدى الخليفة العباسي وكبار رجالات دولته.
أما أهل أبرشية الموصل ونينوى فإذ رأوا المكانة المرموقة التي احتلها المفريان في قلوب الناس في بغداد، ندموا على ما صدر منهم ضده، والتمسوا بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل (1233 ـ 1258) فأنفذ رسالة إلى المفريان على يد ابي الحسن ابن الشماع رئيس دير مار متى يسأله فيها العودة إلى الموصل.
فكتب المفريان إلى بدر الدين لؤلؤ جواباً لرسالته شاكراً وقائلاً: «إنه قد نذر الحج إلى القدس. وأنه قاصد السفر بعد مدة يسيرة فإذا أتمّ هذا الغرض القدسي سيعود إلى الموصل لأداء واجب الأدعية والتوقير له».
وهكذا كان إذ شدّ المفريان الرحال إلى القدس وعرَّج بطريقه إلى أنطاكية حيث التقى بالبطريرك ثم عاد سنة 1244 إلى الموصل وكان بدر الدين لؤلؤ في مقدمة مستقبليه فتلقّاه والشعب كله بحفاوة واحترام.
وسنة 1252 على أثر انتقال البطريرك إغناطيوس داود إلى جوار ربه، طمح المترجم إلى التربع على الكرسي البطريركي فرسم في 4 كانون الأول سنة 1252 بطريركاً في كنيسة حلب، واستحصل على براءة من الملك الناصر بدمشق. وانفرد بالبطريركية مدة سنتين بعد وفاة ديونيسيوس السابع، ودبّر الكنيسة باجتهاد، ووافته المنية سنة 1263 في سيس بقيليقية. ورثاه المفريان يوحنا ابن العبري بقصيدة عصماء.
وترك مؤلفات قيّمة منها (نافورا) ليتورجية سريانية جمعها من ليتورجيات الآباء وخطب دينية سريانية وعربية، وقوانين كنسية وديوان شعر سرياني يدل على براعته بهذا الفن.
ومن ما يدل على تعمق المترجم في علم اللاهوت ننشر فيما يأتي صورة إيمانه التي كتبها كما قيل عند اجتماعه بالمدعو أفري أفندي الإفرنجي ورفاقه ودونك نصها)*(:
«أقول وأنا يوحنا الضايل أي الضعيف فاطريرك الملة السريانية بأنطاكية الشام بأن اعتقادي وإيماني بالرب يشوع المسيح كلمة اللّـه الأزلية إقنوم الابن الأزلي المولود من الآب قبل كل الدهور والأحقاب أنه تنازل من قلة سمائه بمشيئته وإيثار أبيه وروحه، ولم يرتحل عن سدة ربوبيته وحلّ بذاته في مريم العذراء أمته، واتخذ منها جسماً بشرياً ذا نفس ناطقة عالمة، واتحد بوساطة النفس المذكورة اتحاداً حقيقياً غير مجازي. ولسنا نقول أنه تكوّن إنساناً أولاً ثم حلّ فيه اللاهوت، لكن ما ظهر إلى الوجود جزء من البشرية المشار إليها إلاّ واللاهوت متحداً به بغير امتزاج ولا اختلاط ولا فساد، بل اتحاداً باقياً دائماً سرمدياً لا يغيره ولا يعتريه افتراق ولا انفصال. ولهدا نعتقد أنه اللّـه متجسد ابن واحد مولود من الآب ولادة أزلية. ومن مريم البتول أخيراً ولادة زمنية. أقنوم واحد جوهر واحد من جوهرين. وما نقول أن اللاهوت استحال إلى الناسوت، والناسوت إلى اللاهوت. ولا أنه تألف من هذين الجوهرين جوهر ثالث. بل هو واحد بقانون الاتحاد الإلهي الغير عرضي. مع أنه وإن كان الاتحاد سلب الاثنينية والعدد، فإنما إذ له طبيعتان وأوصافهما ثابتة فيه تُعرف بالوهم والعقل فقط. وليست تُسند الآيات المبهرة إلى لاهوته مجردة من البشرية، ولا تُنسب الطبيعيات إلى بشريته مجردة من اللاهوت وإنما نقول صنع المعجزات بالقوة الإلهية، وباشر الآلام والموت الاختياري بالطبيعة البشرية. وهو واحد فقط ابن اللّـه وابن البشر. ونقول أنه لما قبل الآلام والصلب والموت بمشيئته لأجل خلاص بريته لم تفارق لاهوته ناسوته ولا لنفسه المفارقة بدنها في حال الموت. لكن لم يزل متحداً بالبدن الموضوع لقبول الآلام وبالنفس المفارقة من غير أن يعتريها ألم. لأن الجوهر الإلهي جلّ عن قبول الأعراض والآلام. ولما كان كل أقنوم من الأقانيم الثلاثة يسمّى لمجرده إله وجوهر، وثبت أن الابن هو أحد هذه الأقانيم الثلاثة ويسمى جوهر وإله، لزمنا الأمر في هذا القانون أن نسمّي البتول أمه والدة اللّه. فإن قال قائل إن اسم اللّـه هو مشاع بين الأقانيم فربما تعدّى القول إلى غير أقنوم الابن وإلى الثلاثة معاً، قلنا له: هذا الاسم هو مشاع دون التعريف وخاص بوجود التعريف، لأن كل أقنوم من هذه الأقانيم المقدسة تجرد بمفرده بوصف يختص به دون غيره وذلك أن الآب اختص بالأبوة دون الابن والروح. والابن بالبنوة دون الآب والروح. والروح بالانبثاق دون الآب والابن. فإذا سمّينا الآب اللّـه وعرفناه بالأبوة لم يلزم أن يتعدّى الاسم إلى الابن والروح. وإذا سمّينا الابن اللّـه وخصصناه بالبنوة لم يلزم أن يتعدى القول إلى الآب والروح وكذلك يجري الأمر في روح القدس. فقولنا مريم البتول والدة اللّـه هو عبارة عن الابن فقط، وتخصيص الاسم يُعرف بوصف الولادة، والولادة دالة على المولود. فلا يلزم أن يتعدى القول إلى غيره. ولو قال لنا قائلٌ لمَ لا دعيتموها والدة المسيح. قلنا له: هذا مشتق من المساحة ومن الدهانة، ويحتاج إلى تفسير يطول شرحه ويخرج عن صيغة الاسم وربما ظن الجاهل أن المسمى هو داود أو شاول ومن يشاكلهما ممن سبق إلى هذا الاسم. مع أنه لو كان اسماً مشتقاً من اللاهوتية والناسوتية لكنّا اقتصرنا في حقيقة النسب عليه. وإنما هو بخلاف ذلك. وإذ كان المولود من البتول هو بالحقيقة إله سميناها والدة اللّه. ونحن في ذلك مقتفين أثر السليحيين (الرسل) والآباء القديسين وهذا ما أعتقده وأراه بلا زيف».
المصادر:
1 ـ اللؤلؤ المنثور للبطريرك أفرام الأول برصوم ص 409 ـ 410 ـ الطبعة الثالثة ـ بغداد 1976.
2 ـ تاريخ البطاركة بالسريانية ـ مخطوط لابن العبري.
3 ـ مجلة الحكمة ص 145 ـ 151 ـ القدس 1927 ـ ترجمة يوحنا بن المعدني بقلم الراهب يوحنا دولباني (مطران ماردين بعدئذ).
4 ـ ذخيرة الأذهان للقس بطرس نصر الكلداني ـ المجلد الثاني ـ ص 56 ـ 58.
5 ـ تاريخ مختصر الدول بالعربية لابن العبري.
6 ـ تاريخ المفارنة ـ مخطوط بالسريانية لابن العبري.
7 ـ رسالة البرهان والإرشاد للقس صليبا الموصلي.
القديس مار غريغوريوس ابن العبري
مفريان المشرق (1226 ـ 1286)
تمهيد:
يعد ابن العبري فارس كتبة السريانية الذي لا يجارى، وأشهر علمائها على الإطلاق. فاز لنبوغه وعبقريته بإعجاب المهتمّين بالدراسات السريانية من شرقيين ومستشرقين، فلقبه بعضهم بدائرة معارف القرن الثالث عشر للميلاد[393]. ولا غرو من ذلك فقد تبحّر ابن العبري في علوم الكتاب المقدس، واللاهوت، والمنطق، والفلسفة، والطب، والهيئة، والفلك، والتاريخ، والشرع البيعي، والبيان والنحو والشعر. ودبّجت يراعته في هذه العلوم وغيرها ستة وثلاثين كتاباً تعدّ جميعها في القمة مقاماً وأهمية. كما أتقن اللغات السريانية التي ألّف بها أغلب مصنفاته، والعربية التي وضع بها كتابه (تاريخ مختصر الدول) وغيره، واليونانية التي نقل عنها بعض ما كتب وصنّف. وقد أجاد النثر في هذه اللغات وكتب الشعر البديع بالسريانية خاصة وتعمّق بنحوها جميعاً وصرفها وبيانها وبديعها. كما ألمّ بالفارسية والأرمنية. فهو حقاً فريد زمانه ووحيد دهره.
ويمتاز ابن العبري بمزجه الفكر العربي الصوفي بالفكر السرياني النسكي، ويظهر ذلك واضحاً في كتابيه (الايثقون) و(الحمامة) بالمقارنة بكتاب العلامة الشهير أبي حامد الغزالي (1058ـ1111م) (إحياء علوم الدين). فبين هذه الكتب علاقة أدبية قوية لا سيما في موضوع تنظيم الحياة الأدبية والروحية للإنسان، وفلسفة التصوّف.
مراجع ترجمته:
تناول أدباء السريانية وبعض المؤرّخين القدامى والمعاصرين ترجمة ابن العبري بالدرس، وبذل بعضهم جهداً كبيراً في ذلك يستحقون عليه الثناء العطر. أما الينبوع الرئيس الذي نستقي منه الحقائق الناصعة في هذا الميدان فهو ما كتبه ابن العبري عن نفسه في تاريخه الكنسي وكتابه (الحمامة) وقصائده السريانية، وتكملة ترجمته بقلم أخيه (الصفا)، وسيرته المنظومة بالسريانية بقلم تلميذه المطران جبرائيل البرطلي، وبتناولنا ترجمته بالتفصيل، لا بد أن نستعرض باختصار أحداثاً تاريخية كنسية ومدنية ذات علاقة بحياته.
ولادته وأسماؤه:
هو مار غريغوريوس يوحنا، أبو الفرج، جمال الدين، المعروف بابن العبري.
ولد في ملطية[394]. قاعدة أرمينيا الصغرى سنة 1226م من أبوين مسيحيين، وسمي بالمعمودية يوحنا. وكان أبوه تاج الدين هرون بن توما طبيباً ماهراً، وشماساً، ذا مكانة اجتماعية مرموقة في بلدته وكنيسته.
توهّم بعضهم بأن هرون أبا ابن العبري كان من أصل يهودي وتنصّر ومن هنا جاءت نسبة المترجم بالسريانية بر عبريا (بار عبرويو) وبالعربية (ابن العبري) وأن ابن العبري كان متزوجاً، له ابن اسمه فرج، ولذلك لقّب بـ (أبي الفرج)[395]. وقد دحض ابن العبري هذه التهمة ببيت شعر قاله بالسريانية عن نفسه وهو:
آنؤو دمرن قنومؤ كَني لم شمريا |
لا ةأطمعر آن نقرونك بر عبريا |
فرُةيا ؤو جير ؤن شومؤا آف نؤريا |
لا دةوديةا مومةنيةا ولا سفريا[396] |
وتعريبه: «إذا كان سيدنا (المسيح) سمى نفسه سامرياً، فلا تخجلن إذا دعوك ابن العبري، فإن هذه التسمية صادرة عن نهر الفرات لا عن عقيدة معيبة ولا عن لغة».
من هنا نعلم أن تسميته بابن العبري جاءت لا لكونه من أصل يهودي أو تكلمه بلغة عبرية، بل لأنه ولد في أثناء عبور نهر الفرات[397]. أو لأصل عائلته من قرية (عبرة)[398] الواقعة على نهر الفرات بالقرب من ملطية التي جلا إليها جده.
أما اسم (هرون) الذي دعي به أبوه، فقد استعمله المسيحيون والمسلمون معاً كما استعملوا اسم موسى مثلاً. وهو لا يدل على انتمائهم إلى الدين اليهودي أبداً. فمن المسلمين نذكر الخليفة هرون الرشيد، ومن المسيحيين نذكر على سبيل المثال لا الحصر البطريرك ديونيسيوس هرون عنجور (ت1280م) والبطريرك يوحنا هرون بن المعدني (ت 1264م).
أما كنيته (أبو الفرج) فلا تدل على أنه كان متزوجاً أو كان له ابن اسمه فرج[399]. فمن الثابت أن ابن العبري كان متبتلاً، وأن أمثال هذه الألقاب والأسماء والتكني (بابن فلان وبأبي فلان) اقتبسها السريان من العرب الذين يستعملونها كثيراً.
نشأته:
نشأ ابن العبري في بيت رفيع العماد تتضوع في جوانبه رائحة العلم والفضيلة، وشغف باكتساب المعرفة ومحبة الخير. ولقّنه أبوه الطبيب مبادئ الطب، وسلّمه إلى أمهر الأساتذة، فأتقن على يدهم اللغات الثلاث: السريانية والعربية واليونانية، كتابة وخطابة وهو لمّا يزل شاباً يافعاً غض الإهاب. ثم درس الأرمنية والفارسية وتعمق بالعلوم الدينية والمدنية المعروفة عصرئذ[400].
هجرته إلى أنطاكية:
وفي سنة 1243م رحل ابن العبري برفقة أبيه هرون وأسرته إلى مدينة أنطاكية سورية[401]، على أثر الغارات التي شنّتها جيوش هولاكو على مدينة ملطية. وأخذ ابن العبري عن علماء أنطاكية الشيء الكثير من العلوم والمعارف.
نسكه:
وفي سنة 1244م قصد ديراً بجوار أنطاكية حيث تنسّك في مغارة بقربه منكبّاً على أعمال الزهد والتقشّف واكتساب العلم الروحي والفضيلة، فذاع صيته في الأصقاع وزاره في مغارته البطريرك إغناطيوس الثالث داود (ت 1252م). ونظم ابن العبري بالسريانية بيت شعر يصف به هذه الزيارة وهو:
آبا دجوا بةبيروة لبي آةملي سمكني |
ولوةي كد عل نوؤرؤ آزلج باسًي مشكني |
ؤنا كلؤ طيبو منؤ لي آشةكن |
دمن ةحمأةا قدمي عد ؤش ريشي ؤا مركن[402] |
وتعريبه: «زارني البطريرك أمس فأضاءت جوانب منسكي متلألئة بوجوده، وعضدني وأنا في غمرة اتضاعي لذلك فإن رأسي لا يزال حتى الآن مطأطئاً حياءً للنعمة الفائقة التي غمرني بها».
ولعل ما صادفه ابن العبري من المصاعب والمتاعب، والكوارث الناجمة عن غزوات المغول، زهّده بالدنيا فترفّع عن المادة حتى أنه لم يأخذ درهماً بيده طوال أيام حياته، وأحبّ حياة التصوف، وعلى الرغم من تبوُّئِه مركزاً دينياً رفيعاً في الكنيسة، ظل يتذوّق حلاوة الاختلاء باللّـه فوصفها في كتابه (الحمامة)[403] وصف خبير متمرّس.
أسقفيته:
بعد أن قضى ابن العبري سنة كاملة متعبّداً في مغارته في أنطاكية، غادر الدير سنة 1245م وجاء إلى طرابلس الشام حيث أكمل دراسته على يعقوب الأستاذ النسطوري، والتقى هناك بصليبا بن يعقوب من أبناء الكنيسة السريانية الأرثوذكسية في الرها الذي كان مثله يدرس علوم الطب والبيان والمنطق على يد الأستاذ يعقوب. وبلغ البطريرك إغناطيوس الثالث داود (ت 1252م) خبر تقدم الطالبين النجيبين بالعلم والمعرفة فاستدعاهما إلى أنطاكية ورسمهما كاهنين ثم أسقفين في 14 أيلول 1246م وعين صليبا على أبرشية عكا وسمّاه مار باسيليوس ولكنه لم يدخلها ونقل إلى أبرشية حلب. وعيّن يوحنا ابن العبري على أبرشية جوباس من أعمال ملطية وسمّاه مار غريغوريوس، ولم يكن قد تجاوز العشرين من عمره. قال ابن العبري في ذلك ما يأتي: «ولما بلغت العشرين من عمري اضطرني البطريرك المعاصر إلى أن أتقلّد رئاسة الكهنوت، حينئذ ألجأتني الضرورة إلى أن أجادل ذوي المعتقدات المخالفة من مسيحيين وغرباء، مجادلات مبنية على القياس المنطقي والاعتراضات. وبعد دراستي هذا الموضوع مدة كافية وتأملي فيه ملياً تأكّد لدي أن خصام المسيحيين بعضهم مع بعض لا يستند إلى حقيقة بل إلى ألفاظ واصطلاحات فقط… لذلك استأصلت البغضة من أعماق قلبي وأهملت الجدال العقائدي مع الناس»[404].
ويعترف ابن العبري بضعفه أمام الشكوك التي ساورته روحياً وأحجم عن ذكر نوعها وتفصيلها لئلا يصير ذلك سبب عثرة للبسطاء، ولكنه ينوّه بجانب منها فيقول: «واجتهدت على أن أدرك فحوى حكمة اليونان، أي المنطق والطبيعيات والإلهيات والحساب والآداب وعلم الفلك، وحركات الكواكب… ولم أجد ضالتي المنشودة في العلوم الخاصة والعامة كافة. فقد أوشكت أن أهلك هلاكاً تاماً حيث اصطادتني فخاخ هذه العلوم وكأنها قد رصدتني وإنني أمسكت عن ذكر ذلك وإيضاحه لئلا يضرّ بكثير من الضعفاء. والخلاصة أنه لو لم يعضد الرب ضعف إيماني في الأزمنة الخطرة ولو لم يرشدني إلى التأمل في كتب العلماء كالأب أوغريس وغيره من المغاربة والمشارقة وينتشلني من هوة الهلاك والدمار، لكنت قد يئست من الحياة الروحية لا الجسدية. فقد درست تلك الكتب في غضون سبع سنين»، ويتابع قوله بوصف حالته في شكوكه: «وكان ضميري يؤنبني أحياناً وهو يخاطبني بقوله: لا تهذِ ولا تظن أن كل ما لا تعرفه ليس بموجود، لأن ما تعرفه هو أقل بكثير مما لا تعرفه. وكنت بشكوكي هذه أعرِّج على الجانبين حتى أشرقت علي كالبرق أشعة نور خاطف لا يوصف، فتناثر جزء من القشور التي كانت متلبّدة على عينيَّ فانفتحتا. وأبصرت قليلاً، وكنت أصلي بلا فتور ليتداعى كلياً السياج القائم في الوسط لأرى المحبوب غير المنظور لا بالظلام بل علناً».
وحفر في أعلى عصا الرعاية التي يمسك بها الأسقف عادة بيتاً من الشعر السرياني يناجي به ربه قائلاً:
حوبك نجدني لمكؤنو لك عزيزا |
دبحًا شَلمًا لا ةرفيني مري آؤوا بزيزا |
بجودا دكؤنًيك طكسيني مري وآؤوا حريزا |
وبك آةفأا مريا منؤ دؤو َةزيزا[405] |
وتعريب ذلك: «اللهم أيها القوي إن حبك جذبني لأقدم لك الذبائح التامة. فلا تهملني لئلا يزدرى بي، ضمّني إلى جوقة كهنتك فانتظم في صفهم وأنجو بوساطتك يا رب من إبليس المارد».
وبعد سنة من رسامته أي في سنة 1247م نقل ابن العبري إلى أبرشية لاقبين من أعمال جوباس فدبّرها مدة خمس سنوات.
وفي سنة 1252م انتقل البطريرك إغناطيوس الثالث داود إلى جوار ربه، واختلف آباء الكنيسة في انتخاب من يخلفه في البطريركية فوقع اختيار بعضهم على ديونيسيوس هرون عنجور مطران ملطية. أما الآخرون فعلى المفريان يوحنا هرون ابن المعدني، ويذكر التاريخ أن ابن العبري وقف إلى جانب ديونيسيوس عنجور، ولعل ذلك لأنه كان مطران ملطية وصديقاً للشماس هرون والد ابن العبري. وتظهر لنا أطوار عنجور الغريبة من بيت شعر سرياني نظمه ابن العبري في هجائه قائلاً:
دآؤوا رحمك آو بر آْرزك نيشا لية لي |
دجنةا دموعيا كل يوم ريشا حدةا لية لي |
ؤا نيشنًا آية لك وآنا نيشا لية لي |
ومطلؤدا بدموة شعيا كوشا لية لي |
آنة ؤو آينا دمن محبنًا عجل سبع آنة |
ولحشنًا وآكليً قإأا عجل شمع آنة |
لمون لسيجا دحوبي شريرا عجل ةرع آنة |
دآنا آيةي ؤو دعدكيل لا يدع آنة[406] |
وتعريب ذلك: «لم يخطر ببالي قط أن أتخذك صديقاً أو نديماً لأنني لا أمتلك جنينة تنبت كل يوم رأساً جديداً. فأنت ذو أغراض، أما أنا فليس لي غرض، ولا استقرار لي (معك) وكأني في لعب، أنت يا هذا تمل من الأحباء سريعاً، وتسمع (مصدقاً) بسرعة المغرضين والثلابين. لماذا بسهولة تنقض سياج محبتي الصادقة؟ فأنا من لم تعرفه بعد».
في سنة 1253م رقّى البطريرك ابن المعدني باسيليوس صليبا بن يعقوب وجيه أسقف حلب إلى رتبة المفريانية[407] وسمّاه إغناطيوس. وجاء هذا إلى الموصل محملاً بالهدايا الثمينة، فقوبل بإكرام من بدر الدين لؤلؤ واليها، الذي خلع عليه حلة، وأعجب بلباقته وعلمه الواسع، فقد كان يجيد العربية وصناعة الطب والعلوم الفلسفية، كما كان رخيم الصوت جميل الصورة. ولكنه كان ضعيفاً في العلوم الدينية. وصعد إلى دير مار متى ليحتفل بتجليسه على كرسي المفريانية بحسب العادة المتبعة يومذاك، فاستقبله الرهبان برئاسة أبي الحسن بن شماع بخشونة بلغت درجة الوقاحة، الأمر الذي امتعض منه المفريان، وغادر الدير متفقداً الكنائس، فأحبه أغلب الشعب. ولكن لكثرة الشغب والفتن غادر بلاد المشرق بعد سنة ونصف راجعاً إلى حلب. وكان على كرسيها زميله في الدراسة في طرابلس المطران غريغوريوس يوحنا ابن العبري الذي نقل إلى كرسيها سنة 1253م بأمر ديونيسيوس عنجور على أثر خلوه برسامة صليبا مفرياناً. أما المفريان صليبا فاستأجر داراً خارج الكنيسة وأخذ يتعاطى الطب. وبعد سنة ذهب إلى دمشق، وبالرشوة استحصل على أمر من سلطانها يخوّله الاستيلاء على كرسي حلب وإبطال ولاية ديونيسيوس عنجور على كنائس سورية. فآثر ابن العبري اعتزال العمل الإداري اجتناباً للخصام وعاد إلى ملطية وخلا في دير مار برصوم لدى البطريرك ديونيسيوس عنجور، وبعد سنة ذهب إلى دمشق برفقة سفراء من التتر ونال من الملك الناصر تأييداً لديونيسيوس عنجور، فجاء هذا إلى حلب وتبوّأ كرسيها فغادرها المفريان إغناطيوس صليبا إلى طرابلس، وبعد مدة مرض مرضاً عضالاً وانتقل إلى جوار ربه يوم الأربعاء 12 حزيران سنة 1258م[408] ورثاه ابن العبري خدينه في الدروس الطبية والفلسفية بقصيدة سريانية عصماء جاء في مطلعها:
دشنية حبيبي حشكا لعلما ؤا مةحوا |
سؤرا دآحًا آْمر لي دنحك آمةي ؤُوا |
دلك معبرةا بحُزيًةي آعبر آيك دبكوًا |
ومانًا دبسرا آفيً باورحك لك ِآشَوِا[409] |
وتعريب ذلك: «خيّم الظلام على العالم بانتقالك منه يا حبيبي يا قمر الإخوان قل لي متى يكون موعد ظهورك!؟ لأجعل لك بناظري جسراً (فأراك) كما من وراء النوافذ وكأعضاء للجسد أعد لك وجهي طريقاً».
ولما اغتيل البطريرك عنجور في شهر شباط من سنة 1261م قال فيه ابن العبري البيت السرياني الآتي:
ؤا ؤو آينا دقطل ءلفا بعومرا وفيلا |
بقدوشقوًدشين ؤي كوةينؤ بدمؤ فيلا |
دحلـأ عدةا من قندًيلا وكس وفيُلا |
بؤيكل قودشا كد مةؤدم جعا آيك فيلا[410] |
وتعريبه: «هوذا من قتل في الدير ألف شخص وفيلاً، لطخ ثوبه في قدس الأقداس بدمه. إن من سلب الكنيسة قناديلها وكؤوسها وصوانيها، يستغيث كفيل وهو يقطع في قدس الأقداس إرباً إرباً».
وبعد موت عنجور أجمعت الآراء على البطريرك يوحنا هرون ابن المعدني، وقدّم له ابن العبري آيات الولاء وواجب الطاعة، فسرّ به ابن المعدني كثيراً وفكّر في ترقيته إلى منصب المفريانية، ولكن المنية حالت دون ذلك، فقد انتقل ابن المعدني إلى جوار ربه سنة 1263م، ورثاه ابن العبري بقصيدة بليغة جاء في مطلعها:
لمون آكريةني ؤنا كلؤ ملاك موةا |
ودلا إحما فرعةني ؤدا كلذ بيشةا |
لشمشا دزبنا ولنؤيرا وسُمكا دعدةا |
لريشا دنفشا ونفشا دروحا وروحا ةريأةا[411] |
وتعريبه: «لما أحزنتني إلى درجة كهذه يا ملاك الموت، وبدون رحمة أصبتني بهذا الشر (فأخذت) شمس الزمان المنير وسند البيعة وراس النفس ونفس الروح والروح المستقيمة؟!».
وقضى ابن العبري اثنتي عشرة سنة في تدبير أبرشية حلب، وأسس بالقرب من كنيستها فندقاً كمستشفى للمرضى، ومأوى للغرباء، ولقي شدائد كثيرة، وظروفاً صعبة بسبب الحروب المتتالية والاضطرابات السياسية إبّان الغزو المغولي، وكان ذلك الرجل الحازم المملوء حكمة وتواضعاً.
ففي سنة 1258م احتلّ المغول بقيادة هولاكو مدينة بغداد وانقرضت دولة العباسيين وسادت الفوضى جميع بلاد العراق وسورية، وعاث جيش هولاكو فساداً. وعند وصولهم إلى حلب خرج ابن العبري للقاء هولاكو يستعطفه على رعيته من ظلم المغول، وأنشد أمامه بالسريانية بيت شعر نقله عن الفارسية وهو:
آيك أيد آسيا لوةك آنا مرعا آةية |
آو ملك ملكًا دآقنا حيًا لاورعك آةية |
ودآقطوف فاإا حولمنيًا دزرعك آةية |
وآلا بايدا كي ةآجورةا لارعك آةية[412] |
وتعريبه: «يا ملك الملوك، لقد قصدتك كما يقصد المريض الطبيب، وخرجت للقائك لأنال حياة وأجتني ثمار زرعك التي تشفي العليل، وإلاّ فلأي تجارة أخرى وطئت أرضك؟».
ولم تجد شفاعة ابن العبري بشعبه نفعاً، فقد سبق السيف العذل، وقتل المغول العديد من السريان والروم وغيرهم في حلب، وكان عدد الذين قتلوا في حلب لا يقل عمن قتل في بغداد[413].
مفريانيته:
ولما تبوّأ الكرسي البطريركي إغناطيوس الرابع يشوع (ت 1283م) خلفاً لابن المعدني سنة 1264م أجمع أساقفة المجمع الأنطاكي على انتخاب ابن العبري مفرياناً على المشرق بعد خلو هذا الكرسي مدة ست سنوات على أثر وفاة المفريان إغناطيوس صليبا (ت 1258م).
وجرت حفلة رسامة ابن العبري مفرياناً على المشرق في 19 كانون الثاني سنة 1264 في سيس قاعدة قيلقية وحضرها هيوم ملك قيلقية وأولاده وأعيان دولته وأساقفة من الأرمن، إلى جانب أساقفة السريان وجمهور غفير من الشعب. والقى فيها ابن العبري خطاباً بليغاً بموضوع رئاسة الكهنوت، استهله بآية المرتل: «جبلةني وسمة علي آيدك أنت يا رب أنشأتني ووضعت علي يدك»[414].
وقام ابن العبري على أثر رسامته بزيارة هولاكو، فاستقبله بحفاوة لائقة لمكانته العلمية والدينية. واهتمّ ابن العبري بتثبيت رئاسة البطريرك إغناطيوس الرابع يشوع (ت1283م) الروحية، ومهّد لزيارته لهولاكو، فلما وصل البطريرك رحّب به هولاكو أجمل الترحيب ومنحه براءة تثبّت حقوقه، كما أثنى ببراءة أخرى على المفريان ابن العبري وخلع عليهما، ومنح براءة ثالثة لأسقف قيسارية قبادوقية السرياني، وفي السنة التالية توفي هولاكو وخلفه بالملك ابنه أباقا الذي نسج على منوال أبيه في إكرام البطريرك والمفريان.
وبعد مقابلة هولاكو بمدة وجيزة توجّه ابن العبري إلى العراق ليتولّى كرسي المفريانية، فرحّب به رجال الدولة وأبناء الكنيسة في الموصل، وقوبل باحترام لائق في دير مار متى. وزار بغداد فكرّمه مكيخا جاثليق النساطرة، وكان زمن الفصح قد حلّ، فكان السريان والنساطرة يحتشدون في كنيسة مار توما السريانية في محلة المحول[415] لسماع الطقوس الدينية التي كانت تتلى برئاسة المفريان ومن جملتها طقس تقديس الميرون. وأمضى ابن العبري الصيف كله في بغداد، ورسم مطرانين أحدهما لبغداد، والآخر لأذربيجان وغادرها في الخريف، ولما زارها ثانية سنة 1277م، قال فيه دنحا جاثليق النساطرة «طوبى لشعب أصاب مثل هذا»[416].
ونهض ابن العبري لتدبير أبرشيات المشرق العديدة الواسعة مدة اثنتين وعشرين سنة، ورسم لها اثني عشر أسقفاً اتصفوا بالتقوى والعلم الغزير، ورمّم وجدّد كنائس وأديرة في نينوى وبغداد وأربيل وتبريز ومراغة. وكان مولعاً بحسن هندسة الكنائس وزخرفتها، وحتى أنه طلب مرة من هوسبينا خاتون ابنة ملك المغول، فأرسلت إليه أحد المصوّرين اللذين كانت قد استقدمتهما من القسطنطينية من لدن أبيها لزخرفة كنيسة اليونان في تبريز، كلّفه ابن العبري بزخرفة كنيسة مار يوحنا ابن النجّارين التي شيّدها جنوب غربي برطلة، ونقل إليها ذخيرة الشهيد ابن النجارين[417].
الخلاف بين البطريرك وابن العبري:
دوَّن ابن العبري في تاريخه ما عاناه من أوصاب في عمله الرسولي، وما جرى بينه وبين البطريرك إغناطيوس الرابع يشوع من خلاف، ذلك أن البطريرك لم يعر أذناً صاغية إلى آراء ابن العبري الصائبة التي تتوخّى خير الكنيسة وازدهارها وحفظ كرامتها. وتفاقم الخلاف بينهما، وكاد يؤدي إلى شقاق.
وقد أصيب ابن العبري بمرض الديسنطاريا، وكان يومئذ في سيس بقيلقية، وصار قاب قوسين أو أدنى من الموت، ولكن العناية الإلهية شفته، فأرسل إليه البطريرك رسالة يهنئه بالشفاء، فعادت بينهما المياه إلى مجاريها، إذ زاره المفريان في دير مار برصوم.
وفاة البطريرك يشوع وتنصيب البطريرك فيلكسين:
ولما شعر البطريرك إغناطيوس الرابع يشوع بدنو أجله، أرسل يستدعي ابن العبري ليسلّمه إدارة البطريركية، فلم يتمكن هذا من السفر لاضطراب حبل الأمن في تلك الفترة بسبب الحروب المتواصلة. وتوفي البطريرك سنة 1283م في دير فقسيماط من أعمال قيلقية. واجتمع بعض الأساقفة في دير مار برصوم، وخلافاً لقوانين الكنيسة رسموا فيلكسين نمرود بطريركاً دون علم المفريان ابن العبري، وذلك في أوائل سنة 1283م واستحصلوا له على براءة من ملك المغول، فامتعض ابن العبري من هذا العمل المشين، الذي جاء ضد ما سنّته المجامع الكنسية.
وحاول البطريرك الجديد وأساقفته ترضية المفريان ابن العبري معتذرين إليه عما جرى، وأرسلوا إليه وفداً إلى تبريز حيث كان يومئذ فلم يستقبله. ثم قصده الأستاذ شمعون الطبيب، وهو عم البطريرك الجديد برفقة بعض الأساقفة مستعطفين، فرفض طلبهم أيضاً قائلاً: «إن الآباء القديسين حددوا منذ زمن بعيد ألاّ يقام مفريان بدون البطريرك، ولا يقام بطريرك بدون مفريان، وحيث أن هؤلاء الأساقفة قد تعدوا الشريعة وقوانين الآباء فليس لي معهم نصيب ولا أشاركهم في مخالفتهم الشريعة»، ثم جاء تاج الدولة ابن الأستاذ شمعون الذي كان تلميذه وطلب إليه متضرعاً فاستقبله ابن العبري ولم يرد طلبه. وكتب إلى البطريرك فيلكسين نمرود رسالة شرح فيها أسباب عدم مصادقته على رسامته البطريركية، وموضّحاً استياءه من استئثار بعض الأساقفة بأمر الانتخاب والرسامة، ضاربين بالقوانين الكنسية عرض الحائط، وأن امتعاضه منهم ليس بسبب طموحه إلى درجة البطريركية كما يظن بعضهم، فهو لم يكن يوماً ما يرغب في البطريركية. ومما قاله: ربما ظننت أن لي رغبة في البطريركية فلم أصادق على انتخابك ورسامتك بطريركاً. إن اللّـه فاحص القلوب، يعلم انه ولا عضو من أعضائي يتوق إلى هذه الدرجة، لأسباب شتى، منها أولاً: أنني قد اؤتمنت على رئاسة الكهنوت منذ أربعين سنة تقريباً، قضيت عشرين منها في الغرب، وعشرين في الشرق، وقد سئمت الأعمال الإدارية، ولذلك أطمح الآن إلى العزلة وأتوق إلى الراحة والحياة الهادئة، استعداداً للحصول على النهاية الصالحة المحفوظة لآل السلام. ثانياً: أنا بنعمة اللّـه أتنعّم براحة تامة برعاية الكنيسة في الشرق، فلا داعي لاستبدالها بأخرى كما فعل أسلافي المرحومون. وإن ما حصلت عليه من الراحة في الشرق لم يحصل عليه غيري على الرغم من اضطراب الزمان. ثالثاً: ولو افترضنا أنه كانت لي رغبة في البطريركية كسائر البشر الذين يطمحون إلى درجة أعلى، غير أن الخراب الذي عمَّ أبرشيات المغرب منذ أمد بعيد، كفيل بإزالة هذه الرغبة. فهل أرغب في أنطاكية التي يبكى عليها ويناح؟ أم في أبرشية كومايا الكهنوتية التي لم يبقَ فيها بائل على حائط، أو برؤة أو منبج أو قلونيقوس أو الرها أو حران التي أقفرت جميعها؟ أو الأبرشيات السبع[418] المحيطة بملطية التي لم يبق فيها بيت واحد؟. من هنا يعرف أن سبب حزني هو عملكم غير الممدوح بل الذميم، إذ بدون رضى الغربيين والشرقيين عملتم ما عملتم. يرجى علمكم، وربكم الذي لا يحابي الوجوه يعلم كل شيء[419].
وفي سنة 1286 بلغ المفريان ابن العبري الستين من عمره، وروى أخوه برصوم الصفا أن ابن العبري كان يتوقّع حلول أجله في تلك السنة، وكان يردد القول إنني بحسب علم الفلك ولدت في السنة التي بها اجتمع زحل والمشتري في برج الدلو، ورسمت مطراناً بعد عشرين سنة، وهي السنة التي اجتمع بها زحل والمشتري في برج الميزان. ونصبت مفرياناً بعد عشرين سنة من ذلك التاريخ، وهي السنة التي اجتمع بها زحل والمشتري في برج الجوزة. وأتوقع انتقالي من هذا العالم في سنة 1286م، وهي السنة التي يجتمع فيها زحل والمشتري في برج الدلو، كما اجتمعا في سنة ميلادي. وإلى هذا أشار ببيت شعر نظمه بالسريانية وهو:
مأيدة علما بشنة آنلز أدني نشبكي |
وسبر آنا لي دبشنة آنأز لا آؤوا بكي[420] |
وتعريبه: أيا صنارة العالم لقد اصطادني شركك في سنة 1537 يونانية (=1226م) وأظن أنني سأغادرك في سنة 1597 ي (=1286م).
ويروي لنا برصوم الصفا أن أخاه ابن العبري كان يتوجس شراً من سنة 1286م، فلما حلّت أيام الصيف كان يؤكّد بأن لا مناص من الموت خلالها. وكانت الموصل مقره تتعرض أيام الصيف لهجمات اللصوص الذين يأتونها من سورية. وفي تلك السنة كثرت في الموصل حوادث العنف من سلب ونهب وسبي وقتل. فخاف برصوم الصفا على أخيه ابن العبري لئلا يطرأ عليه ما يعرض حياته للخطر فتتم تكهناته. لذلك ألحّ عليه بالانتقال إلى مراغة في أذربيجان ففعل. وقوبل بالترحاب من أهل مراغة على مختلف مذاهبهم. وطلب إليه علماء المسلمين تعريب كتابه السرياني في التاريخ العام، فلبّى طلبهم وأتمّ نقله إلى العربية ما خلا ثلاث صفحات في نحو شهر بلغة عربية بليغة، وأسماه (تاريخ مختصر الدول).
انتقاله إلى جوار ربه:
وانتابته الحمى الشديدة ليلة السبت 28 تموز سنة 1286م، وفي اليوم التالي وصف له الأطباء دواء رفض تناوله قائلاً: لا فائدة من ذلك لأن الأوان آن للانتقال من هذا العالم. ولازمته الحمى ثلاثة أيام. وطلب قلماً وورقة ليكتب وصيته، فلم يقوَ على الكتابة. وكان يجس يده اليسرى بيده اليمنى ويقول: «لقد هدَّ حيلي وخارت قواي، ظلمتني يا أخي فلم تتركني أموت بين جمع الأساقفة والرهبان والكهنة والشمامسة الذين خدمتهم كرئيس عليهم مدة اثنتين وعشرين سنة، ليحتفلوا بتشييع جثماني. لقد هربتني يا أخي من الموت فلم يجدِ تهريبك إياي شيئاً. فتقوَّ إذن وتشجّع، ولا تبكِ ولا تكتئب بإفراط كأن هذا الأمر جديد في العالم». وكان يتلفّظ بمثل هذا الكلام طوال ذلك النهار وهو مبتسم الثغر مبتهج غير خائف من الموت. ثم نادى كاتبه الشماس سعيد الطبيب، وطلب إليه أن يكتب ما يمليه عليه وابتدأ كلامه بالسريانية بقول أشعيا النبي:
برنشا آيك عميرا يومًوؤي وآيك عوفيا دحقلا ؤكن يُعا[421].
وتعريبه: «الإنسان كالعشب أيامه وكزهر الحقل هكذا ينمو». ثم أعلن صورة إيمانه وهيّأ بذلك كراساً للكرسي البطريركي، وآخر لكرسي المفريانية لتدبير قلايته، وسلمهما بيد أخيه. كما أوصى تلاميذه على الثبات بالمحبة بعضهم مع بعض، وعدم التفرق قائلاً: ما دمتم ثابتين بالمحبة فأنا أكون بينكم، ولما سمعوا وصيته مزّقوا ثيابهم وعفّروا وجوههم بالتراب، وأجهشوا بالبكاء. أما هو فاستمر يتحدّث إليهم وهو يبتسم حتى ساعة متأخرة من الليل إذ انطفأ نور المصباح الوهاج وسقط عمود الكنيسة السريانية الأرثوذكسية الثابت المتين. وهكذا انتقل إلى جوار ربه ليلة الثلاثاء المصادفة 30 تموز من السنة 1286م. وكان في مراغة يومذاك يهبالاها جاثليق النساطرة المكرم الذي لما بلغه نعي ابن العبري حزن حزناً شديداً وأمر بألاّ يخرج أحد إلى عمله ذلك النهار وأن تغلق الأسواق وأن يلبس الناس ثياب الحداد، وتقرع أجراس الكنائس حزناً، وأرسل مطرانين يمثّلانه في مراسم الجناز. كما أرسل شموعاً كبيرة لهذه المناسبة. وبعد أن اجتمع ما يقارب مئتين من جميع الملل بمن فيهم الأرمن واليونان، وكان للسريان في مراغة أربعة كهنة فقط، نهضوا للصلاة من الصباح وحتى العصر، ثم واروا جسده التراب تحت مذبح الكنيسة. ونقل جثمانه الطاهر بعدئذ إلى دير مار متى بجوار الموصل بهمة أخيه برصوم الصفا.
مؤلفاته:
وضع ابن العبري بالسريانية والعربية ستة وثلاثين كتاباً يعد بعضها من أمهات المراجع، تناول فيها شتّى العلوم المعروفة في عصره وهي:
أولاً: المؤلفات الدينية:
1 ـ تفسير الكتاب المقدس: يعد كتابه آوأر آإزا كنز الأسرار موسوعة كتابية تفسيرية مهمة في الكنيسة السريانية الأرثوذكسية. تناول فيه تفسير أسفار الكتاب المقدس بعهديه العتيق والجديد ما عدا سفر الرؤيا. وذلك بحسب الترجمة السريانية المسماة بالبسيطة فشيطةا فشيتا مقارناً إياها بالترجمة السبعينية وبغيرها من النصوص والترجمات، منوهاً بفضل السبعينية على البسيطة[422]، ونهجه بالتفسير لغوي ولفظي ورمزي، ومصادره كتابات الآباء السريان: أفرام والسروجي وفيلكسينوس وسويريوس وموسى بن كيفا وديونيسيوس ابن الصليبي ودانيال الصلحي ويعقوب الرهاوي وجرجس أسقف العرب ويشوعداد المرزوي النسطوري وبعض الآباء اليونان.
أهم مخطوطاته: نسخة خزانة فلورنسة، أنجزت عام 1275 أو 1278م في حياة المؤلف[423] وبرلين عام 1298م، وأوكسفورد سنة 1498م، وبرمنكهام ـ منغانة ـ في القرن الخامس عشر على ما يظن، والخزانة البطريركية السريانية الأرثوذكسية في دمشق سنة 1567م، ودير الزعفران سنة 1569.
وقد نشرت أجزاء منه بالطبع ونقلت إلى لغات أوربية، من ذلك ما نشره المستشرقان مارتين سبرنكنلن ووليم كريهام في شيكاغو عام 1931 مترجمين إلى الإنكليزية من سفر التكوين حتى سفر صموئيل الثاني ومصورين النص السرياني في طبعة أنيقة وقعت بـ 393 صفحة من الحجم الكبير.
2 ـ اللاهوت النظري:
1 ـ كتاب منرة قودًشا أي منارة الأقداس وهو موسوعة لاهوتية ضخمة، ويعد أهم كتاب وضع في هذا الميدان في الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، قسّمه إلى اثني عشر ركناً أو باباً وتناول فيه الموضوعات اللاهوتية النظرية وهي العلم، ووجود اللّـه، وخلق العالم، والتثليث والتوحيد وسرّ التجسّد، والملائكة والشياطين، والنفس البشرية، ورئاسة الكهنوت، والحرية وقيامة الأموات والدينونة العامة والفردوس وغيرها.
مخطوطات هذا الكتاب كثيرة أهمها في مكتبات فلورنسة أنجزت سنة 1388م، والفاتيكان في القرن الرابع عشر، وبرلين سنة 1403م، وكمبردج في القرن الخامس عشر، والقدس سنة 1590م، ودير الزعفران وهي سريانية وكرشونية[424] سنة 1674م، والشرفة في القرن السابع عشر.
نقل المستشرق جان باكوس سنة 1930م الركنين الأولين منه إلى الفرنسية ونشر ذلك مع النص السرياني.
وكان الشماس سرجيس ابن الأسقف يوحنا بن غرير الدمشقي قد نقله إلى العربية سنة 1661م ونسخه كثيرة، منها مخطوطتا الشرفة سنة 1691م و1761م ومخطوطة خزانتي الخاصة سنة 1858م.
2 ـ كتاب زلجًا أي الأشعة وهو ملخّص كتاب منارة الأقداس قسمه على عشرة أبواب وتناول فيه أهم المواضيع اللاهوتية باختصار.
من مخطوطاته المهمة، الفاتيكانية أنجزت عام 1330م، وباريس عام 1353م، والزعفرانية عام 1509م.
نقل إلى العربية ومن نسخه مخطوطة دير الشرفة أنجزت أواسط القرن الثامن عشر.
3 ـ ولابن العبري في اللاهوت أيضاً رسالة سريانية تدعى «دستور الإيمان» تحتوي على صورة الإيمان الأرثوذكسي. ورسالة منظومة جواباً لمار دنخا الجاثليق النسطوري يعرض فيها بالبراهين العقلية والنقلية صحة العقيدة الأرثوذكسية[425]، ومع أن ابن العبري أدرك اللغة السريانية وهي في أوج عزها، وجعل منها آلة طيعة لأبحاثه العلمية ولا سيما اللاهوتية، فقد استعمل الكلمات اليونانية إلى جانب السريانية في أبحاثه اللاهوتية للتدقيق بالتعبير والتحديات اللاهوتية.
3 ـ الشرع الكنسي والمدني:
لابن العبري في الشرع الكنسي والمدني كتاب أسماه ؤودًيا أي الهدايات، كتبه بالسريانية وطواه على أربعين باباً و147 فصلاً في القوانين الدينية الكنسية وما يتعلق بالكنيسة وأتباعها من الرسوم والنظم المدنية. ومصادره فيه، الكتاب المقدس والقوانين الرسولية والمجامع المقدسة الإقليمية والمسكونية وبعض قوانين وضعها بطاركة أنطاكية والإسكندرية وآباء الكنيسة ومراسيم ملوك الروم وفتاوى خاصة. وأضحى هذا الكتاب الجامع الشامل دستوراً للكنيسة السريانية الأرثوذكسية[426].
أقدم مخطوطاته نسخة نفيسة جداً أنجزت سنة 1290م، وهي الآن في خزانة الخوري متى كوناط في بلدة بامباكودا ـ كيرالا ـ الهند[427] ونسخة في مكتبة مديشيس[428] بروما خطت سنة 1357م، ومخطوطة خزانة دير مار مرقس بالقدس أنجزت سنة 1391م، ونسخة دير مار أوكين سنة 1354م، ومطرانية السريان الأرثوذكس في الموصل عام 1483م، وباريس سنة 1488م، وأكسفورد سنة 1498م، والشرفة في القرن الخامس عشر.
نقل إلى العربية في أواخر القرن السادس عشر ونسخه عديدة ومنتشرة، منها نسخة الشرفة الكرشونية التي جاء فيها ما يأتي: «نقله إلى العربية الخوري يوحنا ابن المعلم عبود بن الجرير الزربابي في كنيسة مار بهنام بدمشق، كتبه الشماس يوحنا بن جبرائيل خادم الكنيسة المذكورة. وكان الفراغ من الكتابة في الثامن من شباط يوم عيد مار سويريوس سنة 1964ي = 1635م».
نشره الأب بولس بيجان سنة 1895م، معتمداً على نسخة باريس المخطوطة عام 1488م، وكان قبله السمعاني قد نقله إلى اللاتينية نقلاً وقع فيه تحريف وتشويه[429].
4 ـ اللاهوت الأدبي:
أ ـ كتاب آيةيقون الإيثيقون وضعه ابن العبري بلغة سريانية بليغة وهو في علم الأخلاق لحسن السلوك في الدين والدنيا. أي تنظيم الحياة الأدبية والروحية للإنسان. وقد أكثر فيه من أخبار النساك، وسرد حكماً لهم. وهو مثل كتاب «إحياء علوم الدين» للغزالي. فالكتابان يبحثان في حياة الإنسان التي هي ليست صلاة وصياماً ومحبة وصدقة وحسب، بل هي أيضاً تجارة وزواج وغذاء الجسد وتعليم الأطفال والخ…
يقسم كتاب الإيثيقون إلى أربع مقالات كبرى، تحوي كل منها أبواباً وفصولاً شتى. المقالة الأولى في ترويض الجسد وتنظيم حركات تمرينه، المقالة الثانية تقويم الجسد وترتيب أعماله، المقالة الثالثة تنقية النفس من الميول الشاذة، والمقالة الرابعة تجميل النفس بأنواع الفضائل، تحتوي المقالة الأولى والثانية على 204 فصول، والمقالة الثالثة والرابعة على 237 فصلاً.
أنجز ابن العبري كتابه هذا في مراغة في 15تموز سنة 1279م، أي قبل وفاته بسبع سنوات.
أهم النسخ وأقدمها هي مخطوطة خزانة البطريركية الكلدانية في بغداد، أنجزت سنة 1292م، أي بعد وفاته بست سنوات، ومخطوطتا أكسفورد أنجزتا سنة 1323 و1332م، وثلاث مخطوطات في المتحف البريطاني، خطت الأولى سنة 1335م في القدس، أما الثانية فكتبت سنة 1904م وكانت قبلاً ضمن مخطوطات دير السريان في مصر. وفي دار البطريركية السريانية الأرثوذكسية في دمشق مخطوطة جيدة أنجزت سنة 1576م.
عرّبه الراهب داود الحمصي ومنه نسخة في أكسفورد[430]. وفي دير الشرفة مخطوطة عربية بعنوان (كتاب الآداب وذوي الفهم والألباب) الذي هو كتاب الإيثيقون[431] أنجزت سنة 1699م يقول فيها الأب شيخو، لعل ابن الحطّاب نقلها إلى العربية في أيام ابن العبري، فإن في مكتبة الفاتيكان نسخة معرّبة بقلم ابن الحطاب، كما أن في الفاتيكان نسخة أخرى نقلها إلى العربية القس يوحنا بن جرير أنجزت سنة 1645[432].
أما أفضل تعريب له فهو بقلم المرحوم العلامة الملفان مار غريغوريوس بولس بهنام مطران بغداد والبصرة على السريان الأرثوذكس، وقد نشره سنة 1966م في مطبعة الشباب في القامشلي ـ سورية.
ونشر الأب بيجان النص السرياني سنة 1898م.
ب ـ كتاب يونا أي الحمامة. وهو مختصر في ترويض النسّاك ومختص بالرهبان الذين ليس لديهم مرشد روحاني، ألّفه بعد كتابه (الإيثيقون) بإنشاء سرياني جزل، وأسماه (الحمامة) رمزاً إلى الروح القدس الذي هبط على هامة السيد المسيح أثناء العماد بشبه حمامة. وقد قسّمه إلى أربعة أبواب، الباب الأول تعليم الفعل الجسدي الذي يتمّ في دار المبتدئين، الباب الثاني، كيفية ممارسة السيرة الروحية في الصومعة، الباب الثالث، شرح الاستقرار الروحي للحمامة المعزية، الباب الرابع، قصة تدرج المؤلف بالعلوم، ثم أقوال إلهامية، وعدد هذه الأقوال مئة، وقد أعطت كتاب الحمامة أهمية فاقت أهمية (الإيثيقون) ووضعت ابن العبري في الرعيل الأول بين النسّاك[433].
ولكتاب الحمامة مخطوطات قديمة، أقدمها مخطوطة المعهد الشرقي في جامعة شيكاغو. أنجزت سنة 1290م، أي بعد انتقال ابن العبري إلى جوار ربه بأربع سنوات فقط. وقد حققناها على مخطوطة جامعة أكسفورد التي أنجزت سنة 1499م وغيرها من المخطوطات وعرّبناها ونشرنا النص والترجمة سنة 1974م، ضمن مطبوعات مجمع اللغة السريانية في بغداد مع مقدمة مستفيضة في النسك السرياني المسيحي وعلاقته بالتصوف العربي الإسلامي، لخّصناها عن مقدمة المستشرق الهولندي ونسنك A. J. Wensinch الذي نقل الكتاب إلى الإنكليزية ونشره سنة 1909م.
وقد نشر الأب بولس بيجان نص كتاب (الحمامة) بالسريانية سنة 1898م في باريس، والأب جبرائيل قرداحي سنة 1898م أيضاً في روما، والأب يوحنا دولباني (مطران ماردين بعدئذ) سنة 1916م.
ونقل إلى العربية حوالي سنة 1299م، وسمي كتاب الورقاء في علم الارتقاء[434]، وله نسخ عديدة ثلاث منها في الشرفة الأولى ترتقي إلى القرن السابع عشر وهي كرشونية. ونشر الأب يوسف حبيقة، ترجمة عربية لهذا الكتاب في مجلة (المشرق 50 [بيروت 1956] ص 17 ـ 66).
ج ـ ملخّص تفسير الكتاب المنحول إيرثاوس، وهو صغير الحجم ينطوي على 22 فصلاً، ويقع في 190 صفحة، ولا علاقة له بما احتواه من آراء (بانثيئستية)[435]، أقدم مخطوطة له في لندن أنجزت حوالي سنة 1330م[436].
5 ـ الكتب الطقسية:
هذّب ابن العبري وأوجز سنة 1282م ليترجية[437] مار يعقوب الرسول الملقب بأخي الرب، نسخها لا تحصى، فهي مستعملة في الكنائس السريانية الأرثوذكسية في العالم، ترجمت إلى العربية والإنكليزية والمليالم (لغة جنوب الهند) وطبعت، والإسبانية والبرتغالية ولم تطبع بعد بهاتين اللغتين. وهذه الليترجية تعرف بليترجية مار يعقوب الرسول الصغرى.
ووضع ابن العبري ليترجية مطلعها «رحيم أنت أيها الرب ورحمتك منشورة على العالمين» ومنها نسخة في باريس تاريخها 1454م، نقلها إلى اللاتينية رينودوت ونشرها والنص السرياني مع ليترجية مار يعقوب الرسول التي أوجزها ابن العبري، وذلك في مجموع ليترجيات المشرق[438].
ولابن العبري تعليق على طقس تبريك الماء في عيد الدنح[439] كتبه سنة 1283م. كما أوجز كتاب رتبة المعمودية لمار سويريوس الأنطاكي[440] ونسب بعضهم هذا الموجز إلى يعقوب الرهاوي.
6 ـ الخطابة:
كان ابن العبري واعظاً ناجحاً وخطيباً مصقعاً ذكر له موقفه الخطابي يوم رسامته مفرياناً. ولم يصل إلى يدنا من خطبه سوى النذر اليسير، من ذلك خطبة عربية بليغة لعيد الشعانين حققها ونشرها البطريرك أفرام الأول برصوم[441]، وخطبة في التوبة وردت في بعض كتب باريس بالكرشونية تقرأ كمرثاة في الجنازة[442].
ثانياً: التاريخ المدني والديني:
1 ـ تاريخ الزمان (السرياني): كتاب ضخم كتبه بالسريانية وأسماه مكةبنوة زبنًا أي تاريخ الزمان، بدأ فيه من خلق العالم إلى أيامه، وروى أهم حوادث العالم دولاً وملوكاً، وعلماء ورؤساء إلى سنة 1285م، وضمن ذلك 332 فصلاً. ومصادره في ذلك تاريخا يعقوب الرهاوي وميخائيل الكبير وتواريخ سريانية وعربية وغيرها. وأقدم مخطوطاته مخطوطة مكتبة الفاتيكان كتبت قبيل سنة 1357م، وأكسفورد وأنجزت سنة 1498م، والقدس أواخر القرن الخامس عشر، وهذه المخطوطات تضمّ أيضاً التاريخ الديني بجزأيه. والكتاب في جملته مهم ومفيد جداً، وهو يتناول بوجه خاص منطقة الشرق وما يتعلق بها من حوادث في العالم المعروف يومذاك. وتتجلى أهمية الكتاب بالتفاصيل التي أوردها ابن العبري للحوادث التي عاصرها أو التي جرت أمامه وبالكلام على الأشخاص الذين عرفهم أو سمع عنهم.
2 ـ تاريخ مختصر الدول (العربي):
وقد طلب علماء المسلمين العرب في مراغة إلى ابن العبري أن ينقل كتابه (تاريخ الزمان) من السريانية إلى لغة الضاد فلبّى طلبهم وأتمّ تعريبه إلا بعض صفحات، وذلك في نحو شهر من الزمان، أفرغه في لغة بليغة وسمّاه (تاريخ مختصر الدول) وهو وإن توخّى فيه الإيجاز، إلاّ أنه أضاف إليه أموراً كثيرةً لا توجد في المطول (السرياني) ولا سيما ما يتصل بتحرير العرب أراضيهم من الفرس والرومان في أيام الفتوحات الإسلامية، وتاريخ دولتي الإسلام والمغول، وتراجم العلماء والأطباء، مستقياً الحقائق التاريخية من ينابيع المؤرّخين العرب كالطبري، وابن الأثير، وغيرهما.
نشر برنس وكيرش التاريخ السرياني بجزأين في ليبسيك سنة 1789م وجدد طبعه الأب بيجان اللعازري سنة 1890م، ونشره واليس بج مع ترجمته الإنكليزية في مجلدين في أكسفورد سنة 1932، ونقله القس اسحق أرملة إلى العربية، ونشره تتابعاً في مجلة المشرق البيروتية في المجلدات 43 ـ 50 للسنوات 1949 ـ 1956.
أما تاريخ مختصر الدول (العربي) فمخطوطاته كثيرة في فلورنسا وباريس ولندن وأكسفورد. طبع العلامة إدوار بوكوك موجزاً عنها، أسماه «مختصر تاريخ العرب» لابن العبري، في مدينة أكسفورد سنة 1650م، ثم طبع الكتاب بالعربية واللاتينية سنة 1663م بمراجعة بوكوك نفسه، وقد ترجمه بور إلى الألمانية وطبع سنة 1783م. ثم طبع الأب أنطون صالحاني اليسوعي النسخة العربية في بيروت سنة 1890م، وأعيد طبعه سنة 1958م. وهذه الطبعة الأخيرة نشرت بعد ذلك بالأوفست في بيروت.
3 ـ التاريخ الكنسي بالسريانية وهو مجلدان، يتضمن المجلد الأول تاريخ بطاركة أنطاكية، فبعد أن يتناول تاريخ الأحبار في العهد القديم بدءاً من هرون حتى حنان في عصر السيد المسيح يبدأ بأخبار العهد الجديد بدءاً من الرسول بطرس، ويستطرد مفصلاً تاريخ بطاركة أنطاكية حتى فيلكسينوس نمرود المتوفى سنة 1285م.
أما المجلد الثاني فهو تاريخ جثالقة المشرق، وابتدأ به بترجمة الرسول توما وختمه بترجمة نفسه التي أكملها بعد وفاته أخوه برصوم الصفا.
نسخ المجلدين ضمن النسخ التي ذكرناها آنفاً وتضم التاريخ المدني أيضاً، ونضيف إلى ذلك نسختنا التي أنجزت سنة 1858م، وتضمّ التاريخ البيعي بجزأيه فقط[443].
نشره المستشرقان ابيلوس ولامي بجزأين في لوفان سنة 1872 ـ 1877 ولخّصه الخوري اسحق أرملة، وعرّبه ونشره تباعاً في مجلة المشرق البيروتية لعامي 1923 و1924.
ثالثاً: قواعد اللغة السريانية:
لابن العبري في هذا الميدان كتابان، الأول وهو كتاب أمحًا أي اللمع، والثاني كتاب معلةا أي المدخل.
ويعد ابن العبري إمام النحويين السريان، وهو بكتابه (اللمع) يحذو حذو جاراللّـه الزمخشري (ت1144م) بكتابه (المفصل). فقسّم ابن العبري مثله كتابه إلى أربعة أقسام بحث فيها الأسماء والأفعال والحروف والمشترك. وأخذ أيضاً عن العرب اصطلاحاتهم بهذا الباب[444].
أما كتاب (المدخل) فهو ملخص كتاب (اللمع) نظمه ابن العبري على البحر الأفرامي، وأتمه في مدة أسبوعين اثنين، فهو قصيدة لغوية مطولة تنيف على ستمائة بيت. وعلّق عليه شروحاً وتفاسير، وأتبعه بمقالة في الألفاظ المهمة. وقد نسج به على منوال أبي عبداللّـه محمد بن مالك (نحو 1203 ـ 1274) بكتابه (الألفية).
من أهم مخطوطات (اللمع) نسخة دير الزعفران أنجزت سنة 1298م وفلورنسة سنة 1392، ولندن سنة 1332، والقدس وبوسطن وأكسفورد والخزانة البطريركية بدمشق، والشرفة. نشره المستشرق الفرنسي مارتان في باريس سنة 1873م على مطبعة حجرية، ونشره اكل موبرغ في ليبسك مع ترجمته الألمانية سنة 1907 ـ 1913م.
أما مخطوطات (اللمع) فأقدمها نسخة في جامعة شيكاغو أنجزت سنة 1290م، وفلورنسة سنة 1360م، والخزانة البطريركية في دمشق سنة 1371م، وفي الشرفة خمس نسخ أقدمها أنجزت سنة 1581م، والقدس سنة 1586م، وبرمنكهام سنة 1585م، ولندن ودير الزعفران وباريس. نشره في باريس سنة 1873م المستشرق مارتان على مطبعة حجرية.
وقد ابتدأ ابن العبري بتأليف كتاب ثالث في قواعد اللغة السريانية وسمّاه بلـأوأيةا أي (شرارة) ليكون خلاصة لهذا العلم، ولكن الموت عاجله قبل إتمامه وهذا الكتاب مفقود.
رابعاً: الفلسفة:
1 ـ زبدة الحكمة حوة حكمًةا وضعه ابن العبري بالسريانية وهو من أبدع ما صنّف، بل أروع ما كتب في الفلسفة باللغة السريانية، قوامه جزءان في 951 صفحة تضمن الجزء الأول العلم المنطقي الفلسفي: أيساغوجي، وكتاب المقولات العشر، والعبارة، وتحليل القياس، والبرهان والجدل والمغالطة والخطابة والشعر، وهو مجمل نظام الفلسفة الأرسطاطالية. والجزء الثاني تضمن العلم الثاني من الطبيعيات وجعله قسمين، تناول في الأول: الأمور العامة لجميع الطبيعيات كالمادة والصورة والحركة والخ. وكذلك السماء والعالم والكون والفساد للنشوء والفناء، ثم المعادن والينابيع والعناصر الأربعة، والشهب والغيوم والصواعق والرياح والزلازل والبحار والجبال. وشرح موضوع النبات والكائنات النامية، وموضوع الحيوان وطبائعه، وحال الكائنات الحيوانية، وكذلك النفس معرفتها والقوى المدركة والمحركة التي في الحيوان، وخاصة في الإنسان. وتناول في الجزء الثاني الفلسفة والعلم الإلهي، أي ما وراء الطبيعة. وعلم الأخلاق وتدبير الذات والمنزل، وسياسة المدن وطبائع الأمم[445].
للجزء الأول نسختان في فلورنسة أقدمها مؤرّخة بسنة 1340م، وأكسفورد سنة 1498م، وللجزء الثاني نسخة في مكتبة بطريركية أنطاكية السريانية الأرثوذكسية بدمشق خطت سنة 1285 ـ 1286م في حياة مؤلفه ابن العبري، ونسخة الخزانة الكلدانية بآمد سنة 1389م[446].
وقد اختصر ابن العبري هذا الكتاب بوضع كتابه الثاني الذي أسماه ةجرة ةجإةا أي (تجارة الفوائد) فجاء مجلداً وسطاً في المنطق والفلسفة، وكتبه قبل سنة 1276م. أهم مخطوطاته نسخة كمبردج التي أنجزت سنة 1276م، وفلورنسة: القرن الرابع عشر، والقدس سنة 1574م.
ووضع ابن العبري كتيباً أسماه ببةا (البؤبؤة أو الاحداق) في المنطق والفلسفة ينطوي على سبعة أبواب بأربعين صفحة صنّفه بعد سنة 1275م، أهم مخطوطاته إحدى ثلاث نسخ في جامعة روكفلر بشيكاغو أنجزت سنة 1290م، ولندن وكمبردج سنة 1579م، والخزانة البطريركية بدمشق والشرفة.
وكتاب آخر صغير أسماه سود سوفيا أي (حديث الحكمة) وينطوي على أربعة أبواب لكل منها فصول، ويتناول: 1 ـ علم المنطق، 2 ـ الطبيعيات، 3 ـ ما وراء الطبيعة، 4 ـ النفس والثواب والعقاب والخ… ألّفه بعد سنة 1275م، وأقدم مخطوطاته نسخة شيكاغو التي خطّت سنة 1299م، ولندن حوالي سنة 1330م، نشر العلامة البطريرك أفرام الأول برصوم سنة 1940م ترجمته العربية الفصيحة اعتماداً على نسخة أنجزت سنة 1608م أصابها في ماردين. ونقله هرمن جانس إلى الفرنسية سنة 1937م، ونشره مع النص السرياني.
أما بالعربية فلابن العبري رسالتان في النفس مختصرة، ومطوّلة، يستعرض فيهما آراء العديد من الفلاسفة القدامى، ثم يأخذ برأي أرسطو في تحديد النفس، كما فعل الشيخ الرئيس ابن سينا الفيلسوف العربي[447] وابن العبري في أبحاثه الفلسفية يعتمد على ابن سينا، ولا سيما فيما يخص النفس.
أما الرسالة المختصرة فهي 12 فصلاً و26 صفحة نشرها شيخو في بيروت سنة 1898، وقال غراف GRAF أن ابن العبري اقتدى فيها برسالة سريانية بالعنوان نفسه للكاتب السرياني موسى ابن كيفا، الذي نقل بدوره عن كتاب يوناني «في النفس البشرية» لططيانس نسب خطأ لغريغوريوس العجائبي.
والرسالة الثانية المطولة في علم النفس البشرية تنطوي على 26 فصلاً و74 صفحة، نشرها القس بولس سباط في مصر سنة 1928، ونشرها البطريرك أفرام الأول برصوم سنة 1938م، معتمداً على نسخة من القرن الثالث عشر حظي بها في هريست نيويورك ـ أميركا، وعلّق عليها مستدركاً أغلاط الناشر الأول[448].
ونقل ابن العبري من العربية إلى السريانية كتاب الإشارات والتنبيهات للفيلسوف العربي الشيخ الرئيس ابن سينا وسمّاه بـ كةبا دإمزا ومعيإنوةا وهو كتاب ضخم يقع في 218 صفحة من الحجم الكبير يتناول المنطق والفلسفة وما وراء الطبيعة، أنجز ابن العبري سَرْيَنته قبل سنة 1278م بلغة بليغة. قال البطريرك أفرام الأول برصوم[449]: «وهذه الترجمة الحرية بالذكر لم ينوّه بها المعاصرون من كتّاب الفلسفة العربية». أهم مخطوطاته نسخة فلورنسة أنجزت عام 1278م، وملبار عام 1547م، وباريس عام 1633م، والفاتيكان عام 1654م.
ونقل ابن العبري أيضاً من لغة الضاد إلى السريانية كتاب (زبدة الأسرار) لأثير الدين الأبهري (ت 1264م) وهو مفقود.
وفي ديوانه أيضاً عدة قصائد فلسفية.
خامساً: علم الهيئة والرياضيات:
لابن العبري في علم الهيئة، أي الفلك، ثلاثة كتب هي:
1 ـ تفسير كتاب (المجسطي) لبطليموس القلوذي، وهو بحث في علم النجوم وحركات الأفلاك. نهض ابن العبري بشرحه شرحاً وافياً، وعلّق عليه وأنجزه في مراغة سنة 1273م وهو مفقود.
2 ـ وله كتاب (الزيج الكبير) كةبا ربا دزيج أي معرفة حركات الكواكب لاستخلاص التقويم السنوي وتعيين الأعياد المتنقلة، ويقع بأربعين صفحة، ومخطوطته اليتيمة في الفاتيكان[450].
3 ـ كتاب سولقا ؤوننيا أي الصعود العقلي. وضعه بالسريانية سنة 1279م. أما المصطلحات العلمية فكتبها بالسريانية واليونانية زيادة بالفائدة، وفصل فيه العلوم الفلكية. والكتاب جزءان يحتوي أولهما على ثمانية فصول، ويستعرض أقوال القدامى عن هيئة السماء والأرض، ومطالعة ابن العبري على هذه الأقوال، ثم كلامه على الشمس والقمر والسيارات وأفلاكها الخاصة، وما يختصّ بالنجوم الثوابت. أما القسم الثاني ففيه سبعة فصول، ويبحث في هيئة الأرض والأجرام العلوية والجزائر والبحار والأنهار والظل وأقسام الزمن. ولزيادة الفائدة فقد رسم المؤلف أشكالاً هندسية ورسوماً حيثما اقتضت الحاجة. يقول ابن العبري في مقدمة الكتاب أنه يبحث في: «أشكال الأجرام والحركات الجوية وأبعاد الأجرام السماوية عن بعضها وحجومها بصورة مختصرة، وترك البحوث الهندسية والفلكية الكبرى إلى الموسوعة الكبرى المسماة (المجسطي) وسميته الصعود العقلي، لأنه به يتصاعد العقل إلى السماء العالية تصاعده فوق عجلات ناطقة، وقد قسّمته إلى قسمين: الأول يبحث شكل السماء، والثاني شكل الأرض».
يقول شيخو: «وفي هذا التأليف إشارات إلى بعض الاكتشافات الحديثة أخذنا العجب لما اطلعنا عليها»[451].
نشر منه المستشرق (غوتل) فصلاً في رسم الأرض ونقله إلى الإنكليزية سنة 1890، كما نشره القس فرانسوا نو ونقله إلى الفرنسية سنة 1895 معتمداً على أربع مخطوطات في باريس واكسفورد وكمبردج أقدمها أنجزت في القرن الرابع عشر[452].
عرب الأب (المطران بعدئذ) الملفان بولس بهنام فصولاً يسيرة منه ونشرها[453]. ولابن العبري في الرياضيات تفسير كتاب اقليدس في المساحة أتمه سنة 1272م وهو مفقود.
سادساً: الشعر:
يعد ابن العبري في الرعيل الأول بين شعراء السريانية، فشعره سلس، دسم، معبّر، بليغ، استعمل فيه القافية[454] وتفنّن بذلك كثيراً، وقد أجاد في كل أبواب الشعر التي طرقها من مديح وهجاء ووصف ورثاء وإخوانيات وزهد وحكمة وفلسفة. ونظم أكثر قصائده على البحر السروجي، ولا يعاب باستعماله الألفاظ اليونانية بكثرة مع وجود ما يقابلها أو يقاربها بالسريانية.
وقد سارت بقصائده الركبان، وانتشرت كثيراً، وحفظها السريان عن ظهر قلب وأنشدوها في مناسبات الأفراح والأتراح وتهافت الخطاطون على نسخها، فوجد منها مخطوطات كثيرة أهمها مخطوطة فاتيكانية تضمّ 308 مقاطيع وإحدى مخطوطتي اكسفورد أنجزت سنة 1498م. ويحوي ديوان شعر ابن العبري ثلاثين قصيدة وأكثر من مائة مقطوعة شعرية تتراوح بين البيتين والعشرة. نشر «لنجرك» معظم هذه الأشعار في «كنغسبر» سنة 1826 ـ 1838م، كما نشرها الأب أوغسطينوس شبابي الراهب الماروني في روما سنة 1877م، ونشر له «بج» سنة 1897م مقتطفات شعرية. وطبع له القس يعقوب منا منتخبات شعرية في (المروج النزهية). ونشر شابو وهارلز قصيدة شعرية له في ليدن سنة 1896م.
ونشر الأب (المطران بعدئذ) يوحنا دولباني سنة 1929م ديوان ابن العبري الشعري في مطبعة مار مرقس بالقدس بطبعة أنيقة ومتقنة. وأجاد تبويبه، وذيله بفهارس القصائد وبدء أبياتها وختامها، وبجدول بمعاني الكلمات السريانية والأعجمية الصعبة الواردة فيه. وقد خلت هذه الطبعة وطبعة شبابي من قصيدتين أفراميتين إحداهما في الثالوث الأقدس ذكرت في مخطوطة أكسفورد، والثانية في موضوع لاهوتي جدلي تضمّنت الحجج الدامغة المعززة بشواهد من الكتاب المقدس وتعاليم الآباء وهي رسالة نظمها ابن العبري حوالي سنة 1282م جواباً للجاثليق دنحا الأول النسطوري، كما مرّ بنا آنفاً.
ولابن العبري في ميدان الشعر أيضاً كتاب (المدخل) الذي ذكرناه في كلامنا على قواعد اللغة، وقصيدة تزيد على ستمائة بيت مرتبة على أحرف المعجم جمع فيها الألفاظ المتشابهة بالحروف في اللغة السريانية على طريقة الجناس اللفظي في علم البديع بالعربية، وألحق بها تفسيراً لتلك الألفاظ وضمّها إلى كتاب المدخل.
أما قصيدته المشهورة في (الحكمة الإلهية) فقد نظمها على طريقة الصوفيين العرب، فتغزّل بها بالكمالات الإلهية كعمر بن الفارض (ت 632هـ) مشبهاً إياها بفتاة جميلة المنظر سامية الخصال، وهي في 160 بيتاً، طبعها جبرائيل الماروني بباريس سنة 1626م، والقس يوحنا نطين الراهب الماروني برومة سنة 1880م، ونشر الأب جبرائيل قرداحي مقتطفات منها. كما نشرها الأب بطرس سارة اللبناني في مجلة المشرق البيروتية 51 (1957) ص (707 ـ 735) مع الترجمة العربية. وعرّب بعضهم أبياتاً منها شعراً.
وقد أجاد بتعريبها شعراً والتعليق عليها العلامة المطران بولس بهنام السرياني(الملحمة الحمراء) ونشرها بعدد ممتاز من مجلته لسان المشرق الموصلية 3 (1950)، كما نشر النص السرياني والترجمة في كتاب عنونه بـ (ابن العبري الشاعر) مطبعة الشباب في القامشلي سنة 1965 وضمّ إلى ذلك ما كان قد عرّبه شعراً من قصائده وهي: الشمعة الذابلة والمروحة.
سابعاً: الطب:
درس ابن العبري الطب على أبيه وعلى أمهر أطباء زمانه كما مرّ بنا. وله فيه ثمانية كتب وهي:
1 ـ كتاب كبير ألّفه بالسريانية جمع فيه آراء الأطباء في المواد الطبية بغاية التفصيل وهو مفقود.
2 ـ كتاب ألّفه بالعربية بعنوان منافع أعضاء الجسد كةبا دةنين يوةإنا دؤدًمي فجرا وهو مفقود.
3 ـ كتاب شرح فيه فصول أبقراط بالعربية وهو صغير. نسخته اليتيمة في مكتبة بطريركية أنطاكية السريانية الأرثوذكسية بدمشق أنجزت سنة 1640م.
4 ـ كتاب تفسير مسائل حنين بن اسحق الطبيب (ت 878م) بالسريانية وهو مفقود[455].
5 ـ كتاب تحرير مسائل حنين بن اسحق الطبية بالعربية وهو صغير الحجم نسخته اليتيمة في البطريركية بدمشق.
6 ـ اختصر كتاب ديوسقوريدس الطبيب العينزربي اليوناني المشهور ونقله من العربية إلى السريانية ودعاه بـ (كتاب انتخاب ديوسقوريدس) وهو في صور النباتات التي تصلح للمعالجة وتعريف خواصها ومنافعها وقوتها واختيارها وإصلاحها وإتقانها وهو مفقود.
7 ـ منتخب كتاب جامع المفردات، أي الأدوية بالعربية، لأبي جعفر أحمد بن محمد بن خليد الغافقي من أعيان الأندلس (ت560هـ) الذي استقصى فيه ما ذكره ديوسقوريدس وجالينوس وغيرهما في ثلاثة مجلدات، فاختصره ابن العبري، وسهل بذلك الانتفاع به وعنونه بـ (منتخب الغافقي) في الأدوية المفردة. أقدم مخطوطة له في دار الكتب بالقاهرة، أنجزت سنة 1285م، أي في عصر المؤلف وهي في 146 ورقة نشر الدكتوران ماكس مايرهوف وجورجي صبحي، جزأين منه مع ترجمة إلى الإنكليزية سنة 1932 ـ 1937. ومخطوطة ثانية في خزانة الكراندوك في مدينة غوثا بألمانية، كتبت سنة 1694م.
8 ـ كتاب القانون لأبي علي ابن سينا الشيخ الرئيس، نقل عنه ابن العبري من العربية إلى السريانية أربعة كراريس، وحالت المنية دون إنجازه وهو مفقود.
ثامناً: منوعات:
1 ـ كتيب الأحاديث المطربة. وضعه بالسريانية وسمّاه ةونيًا مفيجًنا قسمه إلى عشرين باباً، ويقع بأربعين صفحة، وانتخب فيه فوائد من أناس ينتمون إلى حضارات مختلفة. من ذلك فلاسفة اليونان وحكماء الهند، وملوك العرب، ورهبان ونساك وأطباء، وأسخياء وبخلاء وفكاهات المشعوذين والمضحكين وغير ذلك، أهم مخطوطاته إحدى نسختي دير الشرفة أنجزت على الأغلب في القرن الخامس عشر، جلدت عام 1713م. ونسخة مخرومة في استنبول أنجزت عام 1605م، وباريس 1670م. نشره (بج) عام 1897، ونشر له الأب لويس شيخو ترجمة عربية قديمة في مجلة (المشرق) البيروتية 20 (1922)، ص 709 ـ 717 و767 ـ 779.
2 ـ كتيب في تفسير الأحلام ألّفه في صباه، وبناه على مراقبة ورصد البروج ككتاب ابن سيرين (ت110هـ) عند العرب.
فبعد أن استعرضنا حياة العلامة ابن العبري العلمية والعملية، لا يسعنا إلاّ أن نردد مع المرحوم البطريرك دنحا أحد معاصريه القائل: «طوبى لشعب أصاب كمثل هذا».
مختصر بيبلوغرافيا ـ ابن العبري
BIBLIOGRAPHY (BARHEBRAEUS)
1 – L. CHEIKHO, Une version arabe des Recits Plaisants de B.H., Al-Machriq 20 (1922), 709ss, 767ss.
2 – W. M. CARR, Greg. A. Faradj commonly called B.H. : Commentary on the Gospels from the Horreum Mysteriorum, London 1925.
3 – F. S. MARSH, The book which is called The Book of the Holy Hierotheos With Extracts from the Prolegomena and Commentary of Theodosios of Antioch and from the “Book of Excerpts” and other Works of Gregory B.H., London-oxford 1927.
4 – G. Furlani, Die Physiognomik des B.H. in syricher Sprache, Zeitsch. f. Semitistik 7 (1929), 1-16.
5 – G. Furlani, La psicologia di Barhebreo secondo il libro “la crema della sapienza”, RSO 13 (1931), 24-52.
6 – M. Sprengling – W. C. Graham, B. H. Scholia on the Old Testament (Genesis – II Samuel), Chicago 1931.
7 – G. Furlani, B. H. sull, anima razionale, Orientalia 1 (1932), 1-23, 97-115.
8 – H. F. Janssens, B. H. Book of the pupils of the eye, Oxford 1932.
9 – H. Koffler, Die Lehre des B. H. von der Auferstehung der Leiber, Rom 1932, Or. Christ, 81.
10 – G. Furlani, Avicenna, B.H., Cartesio, RSO 14 (1933), 21-30.
11 – G. Furlani, De tre scritti in lingua siriaca di B.H. sull’anima, RSO 14 (1933), 284-308.
12 – G. Furlani, La demonologia di B. H. RSO 16 (1935), 375-387.
13 – H. f. Janssens, l’Entretien de la Sagesse (Introduction aux œuvres philosophiques de B. H.), Bibl, de la Fac. De Philes et Lettres de l’Univ-de Liege, t. 75 (1937).
14 – J. Bakos, Die Einleitung zur Psychologic des B. H. im achten Fundamente seines Buches der “Leuchte des Heiligtums” Archiv. Orientalia 10 (1938), 121-127.
15 – E. Honigmann, Zur Chronographie des B.H., Or. Lit. Zeit. 37 (1934), 273-283.
16 – J. Bakos Psychologie de G. A. dit B. H. d’apres la huitieme base de l’ouvrage Le Candelabre des Sanctuaires, Leiden 1948 (syr. & fr.).
17 – A. Torbey, Les preuves de l’existence des anges d’apres le traite de G.B.H. sur les anges, OC 39 (1955), 119-134.
مار باسيليوس بهنام الرابع مفريان المشرق)*(
(1852 ـ 1859)
ولد المفريان[456] بهنام الرابع في الموصل نحو سنة 1790 من أسرة (السعيد) التي تلقّب أيضاً بـ (فايوقة) ودرس على كهنة كنيسة مار توما اللغتين العربية والسريانية والطقس البيعي ومبادئ الإيمان المسيحي. عندما بلغ السادسة والعشرين من عمره سيم شماساً إنجيلياً، وعندما بلغ الثانية والثلاثين من عمره ألبس الاسكيم الرهباني في دير مار بهنام الواقع بقرب الموصل قبل أن تخرج ملطية هذا الدير من أصحابه الشرعيين السريان الأرثوذكس. وسيم المترجَم كاهناً قبل سنة 1823، ورسمه البطريرك الياس الثاني سنة 1838 مطراناً على الموصل باسم مار غريغوريوس بهنام وأوفده إلى الآستانة لمقابلة المسؤولين في الدولة العثمانية والمطالبة بحقوق الطائفة واسترجاع كنائسها المغتصبة.
وعاد إلى الموصل مركز أبرشيته وسعى لتنظيمها، ورعى شعبه إلى مروج العزّ والراحة بعظاته الروحية وإرشاداته القيّمة. واهتمّ سنة 1848 بتشييد القسم الداخلي من كاتدرائية مار توما وخاصة مذبحها الكبير.
وفي سنة 1852 ارتقى إلى رتبة المفريانية على يد البطريرك يعقوب الثاني وسمي مار باسيليوس بهنام الرابع واشترط عليه البطريرك ألاّ يرسم مطراناً فوعد وبرّ بوعده.
تعمّق المترجم بدراسة الكتاب المقدس وتفاسير الآباء الميامين، وأجاد الطقس السرياني، كما أتقن اللغات العربية والسريانية والتركية لغة الدولة العثمانية الحاكمة عصرئذ، وكان خطيباً مصقعاً وواعظاً ناجحاً ومصلحاً صالحاً.
ويمتاز أسلوبه في الوعظ بالبساطة والوضوح وكانت طريقة استعداده تعتمد، غالباً، على دراسة العظة بفكره منتخباً ما يصلح غذاءً روحياً للمؤمنين وما يفتقرون إليه من تعليم وتهذيب وإرشاد. وما يوافق المناسبة الطقسية. وكان يختار الآية الكتابية ويقسم الموضوع إلى أجزاء عديدة، وغالباً إلى ثلاثة أقسام، ويدوّن هيكل العظة ثم يرتجلها.
وكان في عهد مطرنته خاصة يلقي العظات في مجالس التعزية التي كان المؤمنون يقيمونها في دورهم أو في باحات الكنائس طيلة الأسبوع الأول لانتقال أحدهم إلى جوار ربه وبمناسبة مرور أسبوعين، وأربعين يوماً، ونصف سنة، وسنة على وفاته. وكان المؤمنون السريان الأرثوذكس وغيرهم يتهافتون على تلك المجالس لسماع عظاته، ويقترحون عليه أحياناً المواضيع الروحية التي يحتاجون إلى سماعها فيلبّي طلبهم ويرتجل عظته. وحدث مرة أن أحد المارقين من الكنيسة أراد أن يجرب (المطران بهنام) ويربكه فتظاهر وكأنه يقترح عليه موضوعاً وسلّمه ورقة بيضاء، فما كان من المطران بهنام، السريع البديهة، إلاّ أن افتتح عظته بالآية المقدسة الآتية: «وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروح اللّه يرفّ على وجه المياه» (تك 1: 2) وتدفق كالسيل العرم وارتجل عظة روحية نفيسة… فأعجب به السامعون وخجل (المجرِّب) ولا يزال شيوخ الكنيسة في الموصل يتداولون ذلك نقلاً عن آبائهم وأجدادهم.
ويظهر من المواعظ العديدة التي تركها لنا على أنها دوّنت على أيدي شمامسة أثناء إلقائها. ولا ندري فيما إذا كان المفريان بهنام قد اطلع عليها بعد تدوينها أم لا. والأرجح أنه لم يفعل ذلك، ولهذا جاء بعضها وكأنه حلقات متفرقة ومع ذلك فهي حلقات ذهبية نقية صافية وهّاجة، فمادتها الروحية دسمة وهي مليئة بروح الكتاب المقدس الذي أحبه المفريان وارتشف منه ماء الحياة فارتوى وروى نفوس المؤمنين[457]. وفي هذا المجال يخطرني جواب واعظ قدير استمع مرة إلى عظتين في موضوع ـ الفداء ـ وسئل عن رأيه فيهما: فقال عن الأولى: «خطاب بليغ وعبارات رنانة». وقال عن الثانية: «إن إلهنا مخلّص عجيب». وكأني به أراد أن يفضح فشل الواعظ الأول في بلوغ الهدف من العظة وفقده المعنى بل الروح في تشعبات دروب البيان والتمسك بالحرف. وعن نجاح الواعظ الثاني بتقديم الرب يسوع الإله المتجسّد مخلّصاً للبشرية.
ولا غرو من ذلك فإن الغاية السامية من الوعظ هي توصيل الواعظ الحقائق الإلهية إلى أخيه الإنسان، وحثّه على ممارسة الفضائل المسيحية وتجنّب الرذائل، وذلك بتذكيره بناموس الرب وفرائضه وبما يناله الصالح من ثواب والطالح من عقاب، والواعظ المسيحي الناجح الصالح هو من اختفى وراء الصليب وأشار باصبعه إلى المسيح الفادي باسطاً ذراعيه ليعانق التائب الراجع إليه تعالى.
كان المفريان بهنام الرابع واعظاً من هذا النوع، وإن ترجمة حياته تعتبر عظة بحد ذاتها ـ لما كان يتحلّى به من الفضائل السماوية وخاصة محبته للّه تعالى والقريب وغيرته على خلاص النفوس، فقد اشتهر بالصلاح والإصلاح، ولو اتخذت الكنيسة السريانية آراءه الإصلاحية البناءة لبلغت أوج ازدهارها منذ ذلك الزمان. إذ كان وحيد دهره وفريد عصره غيرة على الإيمان وشعوراً بالمسؤولية الراعوية، وامتاز ببعد النظر والتطلع إلى المستقبل بروح التفاؤل، وطموح المؤمن الواضع رجاءه بالرب، تزيّنه عزيمة صادقة وتمسّك شديد بالعقيدة المستقيمة الرأي.
وحيث أنه كان راعياً صالحاً يسعى لتقدم رعيته وازدهارها، حسده المغرضون واتهموه بالميل إلى البروتستانتية، ووشوا به لدى المثلث الرحمة البطريرك يعقوب الثاني الذي لبساطته دون أن يتحقق من صحة التهم الباطلة التي ألصقت بالمفريان البار تسرّع بإصدار الأمر بنفيه إلى العمادية (شمالي الموصل) في خريف سنة 1858م. فجمع المفريان المؤمنين، وبلّغ إليهم الأمر ووعظهم بطاعته لرئيسه «فالطاعة أفضل من الذبيحة». وغادر إلى العمادية عابراً نهر دجلة وأدركه عند الموضع الذي كان يسمّى بـ (باب الجسر) شخصان متليتنان حديثاً مرسلان من بعض الرهبان الدومينكان في الموصل، وعداه بإنقاذه من النفي، وإغداق المال الوفير عليه إذا اتبع مذهبهما. فأجابهما بإيمان متين مقترن بفضيلة الصبر على تحمل التجارب التي تطرأ على الأتقياء قائلاً: «خير لي أن أسير إلى المنفى طريق آبائي وأسلافي الصالحين، من أن أبيع بكوريتي كعيسو بأكلة عدس[458]».
ولما وصلت قافلته (تل نينوى) جاءه مخبر يقول «إن الشماس يعقوب قمر الذي كان في مقدمة من وشى به لدى البطريرك، قد انهارت أعصابه واعترى الرعش جسمه عندما نعى الناعي إليه ابنه الوحيد الذي غرق في دجلة ساعة غادر المفريان مقر كرسيه». فتطلّع المفريان إلى السماء وقال: «يا رب ارحمنا» وواصل سفره إلى العمادية، فأضر به البرد القارس، فأصيب بمرض عضال، هدَّ قواه فغدا طريح الفراش بضعة أشهر. ولما اطّلع البطريرك على حقيقة الأمر ندم على تسرّعه بالحكم غير العادل على المفريان فألغى أمر النفي. وعاد المفريان بعد سنة من نفيه إلى مقر كرسيه المفرياني في الموصل مريضاً، ولم يمهله الداء الوبيل كثيراً، فانتقل إلى جوار ربه في 21 أيلول سنة 1859م. وفي كاتدرائية مار توما أودع جثمانه الطاهر في ضريح حيث أضرحة أحبار الكنيسة الميامين.
وفي عام 1908 قدم الراهب أفرام اسطيفان برصوم الموصلي (البطريرك بعدئذ) من دير الزعفران إلى زيارة أهله في الموصل، ورأى عدم وجود شاهد على ضريح المترجَم، فحثَّ الشماس يعقوب سعيد أحد أنسباء المفريان بهنام ووكيل الوقف الذي تركه المفريان ليوزّع ريعه على الفقراء، ليسعى لعمل شاهد للضريح. ونظم الراهب أفرام بيت شعر بالسريانية بالبحر الأفرامي نحت على صخرة وضعت كشاهد على ضريح المترجَم وهو:
آةةسيم آبون مفرينا | بشنة آفنب لمشيحا |
وطعم كسا دعوندنا | شنة آفنط بايلول يرحا |
وترجمة ذلك: «نُصِّب أبونا مفرياناً سنة 1852 للميلاد وذاق كأس المنايا في شهر أيلول من سنة 1859م»
كما أن الراهب أفرام نظم أيضاً قصيدة سريانية مؤثّرة في أربعة أبيات تخليداً للحبر العظيم الذي سيبقى ذكره خالداً. وفيما يأتي نص هذه الأبيات السريانية:
آوليةا دمري بسيليوس مفرينا دمدنحا دؤو بؤنم ربيعيا دعبيدا لؤ لعؤيدا آفريم ديريا ودآةرشمة عل شكينةؤ شنة آأط مرنيةا وآةكةبة بعدة مري ةآوما دموأل.
بنيشا دمري يعقوب
من دين يؤبلي دمعًا لعينًا وحيلا لملةا |
دآبكا وٍآلا وبحنجًةا وبةنحًةا |
وآسدور وٍآمر مامرا بقينةا آبلنيةا |
لابا ميةرا كوكب درؤ سُمكا دعدةا
|
بسيليوس فوما مليلا دشريإةا |
مفرينا بؤنم حوةرا دآبؤًةا |
آيكن آشلا من آوليًةك حشيًشةا |
دمطرفةا عبدةني بموةك آف دويةا |
رعيا طبا ؤوية لن دؤدير بملفنوةا |
وؤدية لعنًا مليلةا لمإجا دميةإةا |
وشملية رؤطك دروحا ونطرة ؤيمنوةا |
علؤي نطير لك كليلا فايا دزديقوةا |
مكيل نةةنيح من طورفا ومن كريوةا |
دعليك آبون شبيحا مقلسا بإعوةا |
ونبعا كلن من رب كومإين بحفيطوةا |
دنشوين عمك نشبحيوؤي بعدةا شمينيةا |
ويصف البطريرك أفرام الأول نفسه المفريان بهنام الرابع نقلاً عن الشيوخ قائلاً: «كان شيخاً طويل القامة نحيل الجسم ذا شيبة مهيبة وكان عالماً شهيراً رسمه البطريرك يعقوب الثاني مفرياناً واشترط عليه ألاّ يرسم مطراناً واستكتبه بذلك سنداً ففعل وبرّ بوعده… قدم آزخ ووعظ الشعب وأطال في وعظه والناس راغبون في استماعه وهو ابن السبعين أو أكثر» (كتاب الأحاديث للبطريرك أفرام الأول برصوم، تحقيق ونشر البطريرك زكا الأول عيواص، المجلة البطريركية العدد 13 آذار 1982 ص12 وآذار 1981 ص 147).
والمفريان مار باسيليوس بهنام الرابع هو آخر مفارنة المشرق، إذ ألغيت هذه الرتبة سنة 1860م بقرار مجمعي وقّعه سبعة عشر مطراناً وأسقفاً.
ومما يذكر عنه أنه لدى عودته من نفيه إلى مقر كرسيه المفرياني الجثلقي، استقبله الشعب الموصلي بفرح عظيم وبعد أن باركهم قال: «عفا اللّه عما سلف، أما الذين وشوا بي ظلماً، فأسأل لهم من الرب المغفرة… ولكن إذ قد وضعوا أيديهم على مسيح الرب، وصاروا حجر عثرة للمؤمنين، فستستأنف دعواي أمام منبر المسيح». وقد قطع الرب دابر أولئك المنافقين الظالمين.
رجل النهضة والإصلاح في كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية
في القرن العشرين للميلاد مار إغناطيوس أفرام الأول برصوم (1957)
نبذة مختصرة في ترجمة حياته:
تعد ترجمة حياة هذا العلم صفحة مشرقة من صفحات تاريخ الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، التي كان رئيسها الأعلى في العالم أجمع، مدة ربع قرن من الزمان، ويعد أبا الإصلاح فيها. ولا مجال لنا في هذه العجالة أن نتناول بالدرس ما قام به من أعمال مجيدة في سبيل تقدمها وازدهارها، لذلك سنوجز القول في ملامح حياته، وأسماء أهم مؤلفاته المطبوعة منها والمخطوطة، ليطلع القارئ الكريم على مكانته العلمية العالية.
ـ ولد في الموصل عام 1887م. ودرس فيها مبادئ العلوم، وقد وهبه اللّـه ذكاء وقاداً، فأتقن اللغات: العربية، والسريانية، والتركية، والفرنسية.
ـ أكمل دراسته في مدرسة دير الزعفران بماردين الذائعة الصيت في رقيها وعزها، فتبحّر في التاريخين الديني والمدني، وعلم اللاهوت، والمنطق، وألمَّ باللغات الإنكليزية، واللاتينية، واليونانية.
ـ رسم راهباً عام 1907، وفي السنة التالية رقّي إلى درجة الكهنوت.
ـ رأس عام 1911 مطابع دير الزعفران، وطبع فيها مؤلفات قيمة له ولغيره من رجال الكنيسة.
ـ قام عام 1913 بجولته العلمية الأولى، للاطلاع على نفائس المخطوطات المحفوظة في خزائن الكتب في الأديار والكنائس في الشرق، وفي مكتبات أمهات مدن أوربا.
ـ انصرف إلى دراسة العلوم والفلسفة على أيدي أساتذة متضلعين.
ـ رسم عام 1918 مطراناً على سوريا باسم مار سويريوس أفرام، وأضيف إلى رئاسته الروحية، فيما بعد لبنان.
ـ قام عام 1919 بجولته العلمية الدينية الثانية في أوربا، موفداً من سلفه الطيب الذكر البطريرك الياس الثالث، فحضر مؤتمر باريس الأممي، وكانت له صولات في المطالبة بحقوق العرب، ونبذ كل شكل من أشكال الاستعمار. وكان لقوة عارضته وفصاحته في التعبير بالفرنسية، الأثر الطيب في المؤتمر، والامتنان من جانب زملائه ممثلي العرب.
قام عام 1927 بجولته العلمية الثالثة في أوربا، ثم سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية وكندا، بزيارة علمية دينية. وقد انتخب في أثناء ذلك عضواً في المعهد الشرقي بجامعة شيكاغو. وقد اطلع خلال رحلاته الثلاث على أغلب المخطوطات السريانية والعربية في مكتبات أوربا وأميركا، هذا فضلاً عما وقف عليه من خزائن الكتب العامة والخاصة في الشرق.
ـ انتخب عام 1932 عضواً في المجمع العلمي العربي في دمشق.
ـ انتخب عام 1933 ورسم بطريركاً (أي رئيساً أعلى على الكنيسة السريانية الأرثوذكسية في العالم أجمع) باسم مار إغناطيوس أفرام الأول برصوم بطريرك أنطاكية وسائر المشرق.
ـ أسس عام 1939 المدرسة الإكليريكية الأفرامية، بعد أن شيّد لها من ماله الخاص، صرحاً لائقاً في زحلة. ثم نقلها إلى الموصل عام 1945 وقد تخرّج فيها نخبة طيبة من الإكليروس.
ـ انتقل إلى جوار ربه في 23 حزيران عام 1957 ودفن في كنيسة أم الزنار بحمص.
أهم مؤلفاته المطبوعة:
1ـ كتاب «نزهة الأذهان في تاريخ دير الزعفران» طبع عام 1917 بمطابع دير الزعفران بماردين.
2ـ كتاب «الدرر النفيسة في مختصر تاريخ الكنيسة» طبع بحمص عام 1940 وأعيد طبعه مختصراً تحت اسم «المورد العذب» عام 1953.
3ـ كتاب «اللؤلؤ المنثور في تاريخ العلوم والآداب السريانية» طبع بحمص عام 1943، وأعيد طبعه في حلب عام 1956 بهمة مطرانها الجليل مار ديونيسيوس جرجس بهنام. وأشرفنا على الطبعة الثالثة منه في بغداد عام 1976 وقد نقله إلى الكنيسة ونشره بالطبع في القامشلي عام 1967 الطيب الذكر العلامة مار فيلكسينوس يوحنا دولباني مطران ماردين، ونقله إلى الفرنسية العلامة المستشرق جيرارد تروبو. ونقله إلى الإنكليزية الدكتور متى اسحق موسى.
4ـ كتاب «الألفاظ السريانية في المعاجم العربية» نشره تباعاً على صفحات مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق، ثم طبعه على حدة عام 1951 بدمشق.
5ـ كتاب «قيثارالقلوب» وهو مجموعة تتضمن ست عشرة خطبة وقصيدة بالعربية، طبع بحمص عام 1945.
6ـ كتاب تاريخ «طورعبدين» بالسريانية نقله إلى العربية، وطبعه مع النص، الطيب الذكر الملفان مار غريغوريوس بولس بهنام مطران بغداد والبصرة عام 1963.
7ـ الرسائل العامة بالسريانية والعربية وهي عظات قيمة كان يرسلها في مناسبات دينية إلى الكنائس السريانية الأرثوذكسية في العالم، نشر بالطبع نيافة مار ملاطيوس برنابا مطران حمص وحماه وتوابعها، القسم العربي منها عام 1964 بحمص.
8ـ «رسالة في أصول التعريب عن السريانية» نشرها بالطبع الأب جورج صليبا مدير إكليريكية مار أفرام اللاهوتية في العطشانة ـ لبنان عام 1969 (نيافة مار ثاوفيلوس جورج صليبا مطران جبل لبنان الآن).
9ـ «المجلة البطريركية» التي كان يشرف على إصدارها في دير مار مرقس في القدس، ونشر فيها مقالات عديدة.
10ـ نبذ تاريخية ومقالات نشرها أولاً في مجلات شتى طبع أغلبها منفردة، وأهمها: شهداء الحميريين، مدرسة أنطاكية اللاهوتية، مدينة الرها، نوابغ السريان في العربية الفصحى، مزارع الجزيرة، تاريخ زنار السيدة العذراء بحمص.
أهم المؤلفات التي حققها ونشرها بالطبع:
1ـ كتاب «الإشحيم» وهو كتاب الصلوات الأسبوعية بالسريانية نقحه وطبعه عام 1913 في دير الزعفران. وأعاد طبعه عام 1936 في القدس.
2ـ كتاب «تهذيب الأخلاق» بالعربية ليحيى بن عدي الفيلسوف السرياني (893 ـ 974م) نشره عام 1928 في مجلة اللغات السامية وآدابها في شيكاغو.
3ـ «رسالة في علم النفس الإنسانية» بالعربية، للعلامة ابن العبري (1226 ـ 1286) نشره بالطبع بحمص عام 1940.
4ـ كتاب «حديث الحكمة» بالعربية، للعلامة ابن العبري (1226 ـ 1286) نشره بالطبع بحمص عام 1940.
أهم مؤلفاته المخطوطة:
1ـ فهرس المخطوطات السريانية الموجودة خاصة في مكتبات الشرق العامة والخاصة.
2ـ معجم عربي ـ سرياني.
3ـ ذيل لغوي سرياني.
4ـ تاريخ كنسي مختصر بالسريانية، يغطي نصف قرن من الزمن بدءاً من عام 1900م.
5 ـ تاريخ بطاركة أنطاكية ومشاهير الكنيسة السريانية بالعربية.
6ـ تاريخ الأبرشيات السريانية بالعربية، ويقع في عدة مجلدات.
7 ـ كتاب «الحديث» وأكثره يشتمل على أخبار المئة التاسعة عشرة للميلاد مما سمعه من شيوخ وأحبار وكهنة معاصرين له منذ سنة 1909 حتى 1954م، ونشرناه تباعاً على صفحات مجلتنا البطريركية، فهو يعتبر قمة في أدب المذكرات.
8ـ مجموعة خطب وقصائد عربية وسريانية وفرنسية، فقد كان ـ رحمه اللّـه ـ خطيباً مصقعاً، وشاعراً مفلقاً، وكاتباً قديراً، باللغات الثلاث المذكورة أعلاه.
نال المترجم شهرة عالمية في أوساط العلوم والآداب، واللغتين العربية والسريانية، فبالإضافة إلى تآليفه، كانت بعض الجامعات تنتدبه في مواسم خاصة، ليحاضر في مواضيع تاريخية ولغوية وغيرها. ناهيك عما كانت تلهج به الصحف والمجلات العلمية والأدبية، من إطراء مواهبه الفذة وآثاره النفيسة، فقد لقبه فيلسوف الفريكة أمين الريحاني، بفخر الشرق في زمانه. ولا غرو فهو مؤلف «اللؤلؤ المنثور» الذي يعد بحراً من أي النواحي جئته. سهل الغوص، ميسور الصيد من لآلئ الألفاظ الفصيحة، وفنون البيان، وضروب المعاني، والبديع المستملح السائغ، دون ما تكلف أو معاناة، فهو معجم بذاته فريد، ودائرة معارف سريانية زاخرة.
وبعد، فهذا غيض من فيض ترجمة حياة البطريرك أفرام الاول برصوم الحافلة بالأمجاد، وبمناسبة مرور ثلاثين عاماً على انتقاله إلى الخدور العلوية احتفلنا بالقداس الإلهي في كاتدرائية أم الزنار بحمص صباح يوم الأحد المصادف لـ 22/11/1987 وارتجلنا الخطاب التالي:
«اذكروا مرشديكم الذين كلّموكم بكلمة اللّـه، انظروا إلى نهاية سيرتهم فتمثّلوا بإيمانهم» (عب 13: 7).
أعوام ثلاثون انصرمت وانقضت على انتقال سلفنا الأسبق المثلث الرحمات البطريرك العلامة مار إغناطيوس أفرام الأول برصوم إلى الخدور العلوية، وهو في السبعين من عمره.
وإحياء للذكرى المئوية لميلاده، والذكرى الثلاثين لانتهاء جهاده الروحي في الكنيسة المجاهدة على الأرض، وانضمامه إلى كنيسة الأبكار المكتوبة أسماؤهم في السماء، نحتفل بالقداس الإلهي في هذه الكاتدرائية التي تضمّ ضريحه الطاهر، كاتدرائية أم الزنار بحمص، التي أحبّها كثيراً، ورددت جوانبها صدى أنغامه الشجية يوم كان يرفع فيها إلى السماء صلواته المستجابة، عطر بخور طيب الرائحة، وينثر مواعظه البناءة، درراً غالية الثمن، فكانت كلمة اللّـه الحية تلج القلوب الواعية، فتنمو وتعطي الثمار الكثيرة. لقد كان صاحب الذكرى واعظاً بليغاً كيوحنا الذهبي الفم، مؤثراً في سامعيه كيوحنا المعمدان. يأتي بالابن الشاطر إلى بيت الآب السماوي، وبالخروف الضال إلى حظيرة الخراف. ويثبّت المؤمنين على التمسك بالعقيدة القويمة والفضائل المسيحية السامية التي كان هو ذاته يتحلّى بها.
فلنتأملن بنهاية سيرته الحميدة، ولنتمثّلن بإيمانه، إتماماً لوصية كاتب الرسالة إلى العبرانيين. فقد كان بطلاً من أبطال الإيمان، وأحد فطاحل السريان، وركناً متيناً من أركان الدين والعلم والوطن. خطّ بأحرف من نور أول صفحة مجيدة في سجل تاريخ الكنيسة الحديث، بعلمه الغزير وأعماله الراعوية الصالحة. وما تاريخ الكنيسة المجيد سوى سجل عمل الروح القدس في أناس يختارهم اللّـه تعالى، ويدعوهم، فيلبّون الدعوة، ثم يرسلون إلى العالم ليبلّغوه رسالته الإلهية. فهم أنبياء صادقون، وأحبار أجلاء، وكهنة أتقياء. أولئك قوم أنعم اللّـه عليهم بمواهبه الصالحة النازلة من السماء، ومنحهم سلطاناً على الأرض وبوّءهم كراسي في كنيسته على الأرض وفي السماء. وقال لهم الرب يسوع: «من يقبلكم يقبلني ومن يقبلني يقبل الذي أرسلني. من يقبل نبياً باسم نبي فأجر نبي يأخذ، ومن يقبل باراً باسم بار فأجر بار يأخذ» (مت 10: 40و41) ذلك أن هؤلاء قد حملوا صليب الرب، وتبعوه في طريق التضحية ونكران الذات، وأوصلوا إلى العالم نعمة الفداء فأتوا بالشعوب إلى عبادة اللّـه الحي بالروح والحق، وبهذا صنعوا التاريخ الكنسي المجيد. واللّـه تعالى هو وراء التاريخ، في كل أدواره وأحداثه، وقد برهن الرب على صدق وعده لكنيسته المقدسة أنه باق معها دائماً وإلى انقضاء الدهر، وأن «أبواب الجحيم لن تقوى عليها» (مت 16: 18) فالكنيسة ثابتة وقوية بالمسيح رأسها. ويقاس تقدمها بمقياس روحي سماوي، فهي ناجحة بالمسيح، وبقدر ما تقدم للعالم من أبطال الإيمان المملوئين من الروح القدس الذين يحيا المسيح فيهم، وعلى هذا المقياس نحدد الفترة الزمنية للعصر الذهبي لكنيستنا، كنيسة أنطاكية السريانية، فقد بدأ في القرن الرابع للميلاد، بظهور مار أفرام السرياني، وامتدّ عبر الدهور والأجيال ماراً بالسروجي، والبرادعي، والمنبجي، وسويريوس الكبير، والرهاوي وميخائيل الكبير وغيرهم، وانتهى في القرن الثالث عشر بانتقال ابن العبري إلى جوار ربه. وكنيسة أنطاكية السريانية في السراء والضراء كانت وما تزال تقدم لخدمة الإنسانية والدين، رجالاً ميامين، وهي تؤسس المدارس في الأديرة والكنائس، في المدن والقرى، لأن السريان طُبعوا على التمسّك بالإيمان ومحبة العلم والمعرفة.
وفُرضت على كنيسة أنطاكية السريانية بعد ابن العبري ظروف قاسية، بفترات زمنية مظلمة اجتازتها بقوة اللّـه، الذي سند وعضد آباءها القديسين، وقيَّض اللّـه تعالى لها في أوائل هذا القرن الخالد الذكر البطريرك العلامة مار إغناطيوس أفرام الأول برصوم، الذي أزاح عنها كابوس السنين العجاف، وأنهضها من كبوتها، وانتشلها من وهدتها، وفتح عينيها على أمجادها التليدة. وهكذا برز كوكباً للسريان منيراً، ومصلحاً جباراً، أحدث في تاريخ الكنيسة منعطفاً كبيراً، وابتدأ عهداً جديداً في عهد يقظة ونهضة وإصلاح، لبناء حاضر زاهر، ومستقبل باهر.
هذا هو البطريرك أفرام برصوم الرجل العظيم الذي اختاره اللّـه منذ نعومة أظفاره ليحمل رسالة المسيح الإلهية إذ هيّأ له الجو الروحي الملائم «فكان يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند اللّـه والناس» (لو 2: 52) بل صار كزيتونة مباركة غرست في بيت إلهنا على ضفاف جداول المياء الحية، فأعطت ثمرها في حينه وورقها لم يذبل.
ولد أيوب، وهذا اسمه قبل رهبنته، من أبوين فاضلين، في مدينة نينوى التاريخية. وتربّى على محبة العلم، وانكبّ على تحصيله في سن مبكرة، فتلقى في مدرسة الكنيسة بحي القلعة، وفي مدرسة أخرى أجنبية مبادئ العلوم الدينية والمدنية وألمّ باللغات السريانية والعربية والتركية والفرنسية. وتاقت نفسه إلى الانخراط في سلك الرهبانية، فأرسل إلى دير الزعفران بقرب ماردين حيث ألبس الإسكيم الرهباني عام 1907 ودعي اسمه أفرام، وفي السنة التالية رقّي إلى درجة الكهنوت.
وأخذ يلقي الدروس الدينية والعلمية واللغوية في مدرسة الدير التي كان قد أسّسها المطران ديونيسيوس بهنام سمرجي مطران الموصل يوم كان قائمقاماً بطريركياً وكانت بإدارة الراهب توما عازر قصير (مار أثناسيوس توما مطران الموصل بعدئذ) وفي الوقت ذاته كان الراهب أفرام يتعمّق بدراسة اللغة السريانية وعلومها وآدابها وألمّ باللاتينية واليونانية وتبحّر في التاريخين الديني والمدني وعلم اللاهوت والمنطق.
وفي دير الزعفران ابتدأ الراهب أفرام برصوم وهو في شرخ شبابه بتأليف بعض الكتب المفيدة في مبادئ الإيمان والطقس البيعي، نشرها في مطبعة الدير، التي كان قد أسّسها في أواخر القرن التاسع عشر المثلث الرحمات البطريرك بطرس الرابع وترأسها الراهب أفرام عام 1911. كما اهتمّ الراهب أفرام بالدفاع عن حياض الكنيسة فكتب ونشر ردوداً دامغة على كل من سوّلت له نفسه الأمّارة بالسوء الطعن بالكنيسة السريانية. وكان بكتاباته معتدلاً، منصفاً، لطيف العبارة، شيّق الأسلوب.
وكان في حياته الرهبانية مثالاً للراهب التقي الورع العفيف والمطيع، أخذ طريقة الزهد والتقشف عن الرهبان السريان الذين كان يزورهم في قلاليهم وأديرتهم، ويجلس عند أقدامهم، ويستمع إلى أحاديثهم الروحية والتاريخية ويدوّنها. وما اقتبسه من أولئك الزهاد الأتقياء من الفضائل السامية، وما تعلّمه منهم من طرائق الزهد، والتقشّف، والصوم، والصلاة، والعفة، والوداعة، والتواضع، والمحبة والتسامح وسائر الفضائل السامية، تجلّى في سيرته حتى آخر نسمة من حياته.
وجال، الراهب أفرام، المدن والقرى، زار الأديرة والكنائس، وبعض المؤمنين، ينقب عن المخطوطات السريانية القديمة، ووضع لها فهارس تعد اليوم من التحف الثمينة النادرة خاصة وأن العديد من تلك المخطوطات قد عبثت بها يد الزمن وفقدت، أو أتلفت.
وقام بجولته الأولى في أوربا ليطّلع على ما حوته مكتباتها الشهيرة من كنوز المخطوطات السريانية، وكان في كل ذلك كمن يغوص في أعماق البحار ينقب عن الجواهر الثمينة، وقد حصل عليها وقدّم لنا بعدئذ كتابه «اللؤلؤ المنثور» في تاريخ العلوم والآداب السريانية وغيره من المؤلفات النفيسة المطبوعة والمخطوطة.
وعيّنه المثلث الرحمات البطريرك عبداللّـه كاتباً ثانياً له، فرافقه إلى القدس حيث انفتحت أمامه آفاق جديدة في العلم والمعرفة، وبدأ علائق مهمة مع بعض العلماء واللاهوتيين من سائر الملل والنحل ـ فاتسعت مجالات عطائه العلمي الغزير.
وفي عام 1917 على أثر انتقال البطريرك عبداللّـه إلى جوار ربه اشترك الراهب أفرام بانتخاب سلفه المثلث الرحمات البطريرك الياس الثالث بالنيابة عن أحد المطارنة. وعيّنه سلفه المذكور نائباً بطريركياً لأبرشية حمص التي استقبلته بترحاب، وعرف الراهب أفرام كيف يشارك أبرشيته تحمّل محن الزمن العصيب بصبر جميل، ومداواة الجراح المثخّنة التي تركتها الحرب العالمية الأولى في جسد الكنيسة، وما خلفته هذه الحرب المشؤومة من مصائب ومصاعب وكوارث. ثم انتخبته الأبرشية بالإجماع فرسم مطراناً عليها سنة 1918 باسم مار سويريوس أفرام. وأضيف إلى رئاسته الروحية فيما بعد لبنان.
في حمص برزت مواهب المطران سويريوس أفرام الدينية والعلمية. وتجلّت محبته للوطن العزيز. وكانت له في هذا الميدان مواقف مشرّفة، كما له دور فعال قام به في الاشتراك مع الذين ناضلوا في سبيل تحرير الوطن الحبيب من المستعمرين الطغاة، ويعدّ بحق قطباً من أقطاب الحركة الوطنية العربية السورية. وقد قام عام 1919 بجولته العلمية الدينية الثانية في أوربا، موفداً من سلفه الطيب الذكر البطريرك الياس الثالث فحضر مؤتمر باريس الأممي. «وكانت له صولات وجولات في المطالبة بحقوق العرب ونبذ كل شكل من أشكال الاستعمار. وكان لقوة عارضته وفصاحته في التعبير بالفرنسية الأثر الطيب في المؤتمر من جانب زملائه ممثلي العرب».
وأوفده سلفه المثلث الرحمات البطريرك الياس الثالث إلى أمريكا لتفقد الجاليات السريانية، وتنظيم شؤونها الروحية والاجتماعية، فقام بذلك خير قيام، وجال ثانية في أوربا يدرس المخطوطات السريانية في مكتباتها الشهيرة. ولمكانته العلمية انتخب عام 1932 عضواً في المجمع العلمي العربي في دمشق[459].
كان المطران سويريوس أفرام برصوم راعياً صالحاً، خدم أبرشية حمص بتضحية ونكران ذات، مشاركاً المؤمنين أفراحهم وأتراحهم، وكان يقضي أياماً عديدة في تفقّد القرى روحياً واجتماعياً، مرة في السنة على الأقل. ويلقي المحاضرات البليغة على أبنائه الشباب، شارحاً لهم عقائد كنيسة أنطاكية السريانية وتاريخها. وكان يشجعهم على تحصيل العلوم مؤرّخاً بطولاتهم بأناشيده الشعبية، مفتخراً بغيرتهم الدينية، وشهامتهم، وتمسّكهم بالعقيدة الإيمانية، ومحبتهم لوطنهم العزيز. فأحبوه كثيراً والتفّوا حوله كالسوار بالمعصم.
وفي الفترة الزمنية العصيبة التي مرّت على السريان في بعض البلدان المجاورة استقبل صاحب الذكرى المهجرين الوافدين إلى سوريا مهيئاً لهم المأوى والمأكل والمشرب، مع النصح والإرشاد.
ولما أعلن الناعي انتقال الخالد الذكر البطريرك الياس الثالث إلى جوار ربه في الهند، أجمعت الكنيسة بأشخاص أحبارها على انتخاب المطران مار سويريوس أفرام برصوم قائمقاماً بطريركياً فنظم شؤون الملة وهيّأ الجو الملائم للانتخاب البطريركي، وانتخب بطريركاً سنة 1933 وجرت حفلة تنصيبه في حمص التي اتخذها مقراً مؤقتاً للبطريركية.
وأول عمل قام به كبطريرك هو تنظيم قوانين الكنيسة وسن ما يصلح منها لذلك الزمن مستنداً بذلك على قرارات المجامع المقدسة، ثم شراؤه من ماله الخاص أرضاً في مدينة زحلة شيّد عليها مدرسة مار أفرام الكهنوتية التي أسسها عام 1939 ورعاها إلى آخر نسمة من حياته لتكون مصنعاً لإكليروس الكنيسة المؤمن والمثقّف المتمسّك بعقيدته والمفتخر بتراثه الثمين ولغته السريانية المقدسة.
وجاءت الحرب العالمية الثانية لتضاعف من الأعباء الجسيمة على كاهل البطريرك أفرام، ولكنه تمكّن من أن ينظّم الأبرشيات الجديدة التي تألفت من النازحين في عهد مطرنته وبطريركيته ويرعاهم رعاية صالحة بما منحه اللّـه من حكمة وحسن تصريف للأمور.
كان لنا الحظ السعيد في الانضواء تحت لوائه، والانضمام إلى حاشيته طيلة السنتين الأخيرتين من حياته، فصرنا موضع اهتمامه الأبوي ورعايته الرسولية، واعترافاً منا بالجميل، علينا أن نسبق الآخرين إلى الإقرار بفضله، فقد كان رحمه اللّـه أباً حنوناً وراعياً صالحاً، يشمل أولاده الروحيين بعنايته، ويتجاوز الهفوات بعد إسداء النصح والإرشاد، ويعالج الضعفات بحكمة ووداعة، لأنه أب محب ذو قلب كبير يختلج بمحبة الكنيسة، ماضيها وحاضرها، ويخفق أملاً ورجاء لمستقبل أفضل.
عاش سبعين عاماً كانت بمثابة سبعمائة عام عوّض خلالها للكنيسة، عما خسرته في الحقبة الزمنية الواقعة بين أواخر القرن الثالث عشر وأوائل القرن العشرين، أي منذ فقدت الكنيسة العلامة ابن العبري، وحتى ظهور صاحب الذكرى البطريرك أفرام الأول برصوم، الذي وهبه اللّـه ذكاء خارقاً، وجلداً على الدرس والتحصيل، فكان منكبّاً على ذلك بياض نهاره وسواد ليله، وكان خصب الإنتاج الأدبي والديني فمن اطّلع على ما تركه لنا من مؤلفات بلغات شتّى أقرّ بما كان عليه من عبقرية فذة، فهو حقاً وحيد دهره، وفريد زمانه، ونسيج وحده.
كان يجلّ آباء الكنيسة وعلماءها، وقد خلّد ذكرهم في كتاباته النفيسة. كما كان يتمسّك بتقاليد الكنيسة وأنظمتها.
حدث في ليلة عيد رأس السنة الجديدة لعام 1957، وهو أيضاً عيد آباء الكنيسة كافة، وبحسب تقليد كنيستنا يجتمع قداسة البطريرك بحاشيته ليلة العيد، ويمسك بيمناه الصليب المقدس، وبيسراه العصا الرعوية، وهو في صالة البطريركية، وبعد أن ترتل الحاشية الأناشيد الخاصة بتكريم الأحبار يمنح البطريرك بركته الرسولية للكنيسة كافة أحباراً وكهنة وشمامسة وشعباً. وهكذا جرى ليلة عيد رأس السنة الجديدة المذكورة، إذ شرع صاحب الذكرى يتكلّم، طلب إلى اللّـه تعالى أن يبارك الكنيسة ويبارك البلاد رئيساً وحكومة وشعباً، وينشر أمنه وسلامه في العالم، ثم توقّف لحظة وأردف قائلاً: لعلها المرة الأخيرة التي احتفل فيها بمثل هذه المناسبة. وبكى… وشاركناه البكاء… كانت نغمة حزن في سمفونية طرب. ولفظ عبارات أخرى كأنه سلّم بها الكنيسة إلى الرب يسوع رأسها… وما تزال هذه الصورة المؤلمة ماثلة أمامنا حتى الآن.
وفي صباح الأحد المصادف للثالث والعشرين من شهر حزيران من ذلك العام، وقبل الانتهاء من القداس الإلهي كان صاحب الذكرى قد لفظ أنفاسه الأخيرة في قلايته وهو راقد على فراشه بسلام. ولسان حاله يقول مع الرسول بولس: «قد جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي، حفظت الإيمان، وأخيراً قد وضع لي إكليل البر الذي يهبه لي في ذلك اليوم الرب الديان العادل، وليس لي فقط بل لجميع الذين يحبون ظهوره أيضاً» (2تي 4: 7و8).
واليوم ونحن نحتفل بالذكرى المئوية لميلاده وبمرور ثلاثين عاماً على انتقاله إلى السماء، نكرّمه بالاقتداء بسيرته الصالحة، بالتمسّك بالإيمان القويم، وبممارسة الفضائل السامية، وبمحبة الوطن العزيز، ومحبة الكنيسة المقدسة، وإنعاش لغتنا السريانية الحبيبة.
أما أنتم يا أبناء حمص الأعزاء وخاصة نيافة أخينا الحبر الجليل مار ملاطيوس برنابا مطران حمص وحماة وتلميذ البطريرك أفرام فهنيئاً لك بضريح البطريرك أفرام الطاهر. فكما يحجّ الناس إلى هذه الكاتدرائية المقدسة للتبرك من زنار القديسة العذراء مريم الذي اكتشفه صاحب الذكرى في هذه الكاتدرائية عام 1952، يحجون أيضاً إلى ضريحه الطاهر لتكريم العلامة الكبير، والمؤرّخ الشهير، والأديب القدير، والشاعر المبدع، والراعي الصالح، أبي الإصلاح، البطريرك أفرام الأول برصوم، فليكن ذكره خالداً، فقد كان أميناً إلى الموت فليعطه الرب إكليل الحياة (رؤ 2: 10) آمين.
قداسة البطريرك مار إغناطيوس أفرام الأول برصوم وعن يساره سكرتيره الخاص الراهب زكا (قداسة مار إغناطيوس زكا الأول عيواص ـ مؤلف الكتاب)
في احدى الاحتفالات الروحية بحمص
كاهن اللّـه البار
المرحوم الخوري موسى توما حكيم
كنت قد سمعت عنه الكثير، يوم كان كاهناً يرعى خراف المسيح في البصرة رعاية صالحة. ويدبّر كنيسة مار أدّى البشير بخوف اللّه. ولقيته في الموصل حيث مكث فيها وعائلته من 6/5/1949 وحتى 8/7/1949، قام خلالها، مرات عديدة، بزيارة معهد مار أفرام الكهنوتي حيث كنت أدرس. واستمعت إليه يعظ بلغة عربية سهلة وسلسة، وأذكر أنه لم يكن يلفظ الشَّدة في كلامه كالعديد من السريان القدامى القادمين من طورعبدين، الناطقين بالسريانية (حسب لهجة طورعبدين). واستمعت إليه وهو يحتفل بالقداس الإلهي، وخلتني في السماء وأنا أصغي باهتمام إلى صوته العذب ينشد القداس ويلفظ الكلمات بوضوح، وإنني لم أسمع أبداً كصوته الملائكي الرخيم وإجادته للألحان البيعية، فتراه خاشعاً أمام مذبح الرب جاثياً أو منتصباً بقامته الفارعة، رافعاً نظره نحو السماء، وتخال كأن هالة من نور قد عكست أشعة علوية على جبينه العالي ووجنتيه الورديتين، فامتزج النور بالنار، وقد بسط كاهن اللّـه العلي يديه، ساكباً ذاته أمام اللّـه، بصلاة حارة، فتتمنى أن لا ينتهي من صلاته، وتقول في قرارة نفسك قول الرسول بطرس على جبل التجلي «جيد أن نكون ههنا» (مر 9: 5).
وودّعنا الأب موسى وأفراد عائلته في محطة السكك الحديدة في الموصل صباح يوم الجمعة 8/7/1949 حيث أخذوا القطار السريع إلى حلب، ومنها سافروا إلى بيروت، ثم ركبوا البحر إلى البرازيل، هناك التقيته ثانية بعد تسع سنوات من لقائنا الأول. ومكثت معه ثلاثة أشهر فعرفت منه وعنه أموراً مهمة كوّنت شخصيته الروحية المحبوبة، فأحببته محبة يوناثان لداود، وكنت ولا أزال أعتبره المثال الصالح للكاهن الناجح الذي يخدم كنيسة اللّـه بإخلاص وتفان ونكران للذات، وكنت ولا أزال أُجل ذكراه، وأُجل كل كاهن يخدم اللّـه وأبناء اللّـه مثل المرحوم الخوري موسى توما حكيم.
حياته:
ولد موسى حكيم في 15/6/1898م في بلدة (مِدّو) بكسر الميم ورفع الدال التي تسمّى بالسريانية (ميدون) وهي قرية تابعة لقضاء مذيات في طورعبدين ـ تركيا، جميع سكانها من السريان الأرثوذكس، مناخها معتدل جميل، وغلاتها وافرة.
اسم والده توما واسم جده رشيد وأعمامه مراد وأفرام وابراهيم وكانوا جميعهم أطباء شعبيين. وكان للأب موسى أيضاً معرفة واسعة وخبرة جيدة في علم الطب الشعبي، ولكنه لم يمارس المهنة، وفضّل عليها خدمة النفوس فصار طبيباً روحياً أي كاهناً.
ولاشتغال أفراد الأسرة «بالطب الشعبي» أطلق عليها اسم «حكيم» وكانت تسمى قبل ذلك بـ (شَرْبَتْ) فتح الشين والباء. وهي منحدرة من الرها (أوزما أو إديسا) وجاء مدو قبل خمسة قرون كما ذكر لنا صاحب الترجمة.
درس في مدرسة قريته مبادئ العلوم الدينية واللغة السريانية ورسمه مار يوليوس بهنام عقراوي مطران جزيرة قردو (جزيرة ابن عمر) شماساً مرتلاً صباح عيد الشعانين المصادف 26/3/1908 وذلك في مدّو. كما رسمه مار أثناسيوس أفرام سعيد أسقف دير مار كبرئيل شماساً قارئاً صباح الأحد الجديد المصادف 25/4/1910 وذلك في دير مار كبرئيل. وسنة 1911 عيّن معلماً للأطفال في مدرسة كنيسة عينورد شرقي ماردين ومذيات فمكث هناك يعلّم حتى سنة 1915 وفي الوقت ذاته تتلمذ على المطران مار فيلكسينوس عبدالأحد الذي اشتهر بنسكه وزهده وفضيلته، ورسمه هذا شماساً أفدياقوناً في عيد العنصرة المصادف لـ 13/5/1912 وعنه أخذ المترجم إجادة الطقوس البيعية، والتمسّك بالقوانين الكنسية. وهكذا بقي يتردد على دير مار كبرئيل حتى الأول من حزيران سنة 1920 حيث ترك طورعبدين وجاء إلى الموصل فوصل إليها في 16/6/1920 وانضمّ إلى شمامسة دير مار متى فترة من الزمن، ورسمه مار أثناسيوس توما قصير مطران الموصل وتوابعها شماساً إنجيلياً يوم الأحد 31/7/1922 وذلك في دير مار متى، وهناك درس اللغة العبرية والعلوم المدنية والدينية، وبعد مدة ترك الدير، وعمل في الموصل بالتجارة واشتهر بصدقه وأمانته، وتزوّج، ورزق أولاداً، ورسم كاهناً لكنيسة مار أدّى في البصرة على يد مار أثناسيوس توما قصير مطران الموصل في 11/11/1941 في كاتدرائية مار توما في الموصل. وهو أول كاهن يرسم لتلك الكنيسة في هذا الجيل، ويعتبر مؤسساً لها. وطارت له شهرة واسعة في العراق وخارجه لتقواه وبرّه وصلاحه، وصدق إدارته، فأحبّه الجميع.
وفي عام 1949 وبناء على طلب بعض أبناء الجالية السريانية في سان باولو ـ البرازيل نقلت خدماته الروحية إليها، فوصل مدينة القديس بولس في 1/9/1949 وبدأ جهاده الروحي المرير، وحمل الصليب الكبير، بتفان وتضحية. كجندي صالح للمسيح يسوع. وزار أفراد الجالية السريانية المنتشرين في طول البلاد وعرضها، متفقّداً شؤونهم الروحية والاجتماعية.
وكان في كل ذلك كالزارع الذي خرج ليزرع بذار الإنجيل، فلاقى قلوباً واعية وآذاناً صاغية، كما لاقى من لهم آذان ولا يسمعون ولهم عيون ولا ينظرون، ولا يريدون أن يخلصوا. وكان يقطع المسافات الشاسعة جواً وبحراً، وبراً، متجشماً عناء السفر دون كلل ولا ملل، وكان يشعر بأن اللّـه قد دعاه، والدعوة الكهنوتية هي اختيار اللّـه تعالى للإنسان وتكليفه بمهمة خلاص الناس، فقد لبّى موسى الدعوة، وحمل الرسالة، ووضع المسيح نصب عينيه، فاقتفى أثره واقتدى به وجعله مثاله في الحياة فصار هو أيضاً مثالاً صالحاً للآخرين، ملحاً للأرض، ونوراً للعالم، فكان يعظ الناس بالأعمال قبل الأقوال، وكان حيثما حلّ يملأ الجو حماسة روحية بحديثه الشائق، فهو محدّث لبق، يملّح كلامه بالقصص التاريخية المعبرة. وهو متمسّك بإيمانه يدافع عنه بالبراهين الكتابية والطبيعية ويقنعك بصحة العقيدة الدينية التي يفخر بها. كل ذلك بهدوء وتواضع، ووداعة، دون ضجة ولا جعجعة… فأثمر ثمار الروح ومن ثمارهم تعرفونهم…
تعود بنا الذكرى ونحن بهذا الصدد، إلى يوم الخميس المصادف 13/3/1958 وطائرة شركة (دوبرازيل) التي أقلتنا من بيروت بطريقها إلى سان باولو برفقة سلفنا الطيب الذكر البطريرك يعقوب الثالث ونحن يومئذ سكرتير البطريركية، هذه الطائرة تحطّ في مطار (الرصيف) لتتزود بالوقود بعد أن قطعت المحيط الأطلسي. ففوجئنا بوجود بضعة أشخاص من السريان يتجهون نحونا في صالة المطار، يتقدّمهم شيخ جليل ينشد بالسريانية (تو بشلوم) النشيد الخاص باستقبال الأحبار، والدموع تكاد تخنق صوته الخافت وتنساب بين تجعدات وجنتيه… وشاركناه ورفاقه بكاء الفرح فرح اللقاء السعيد، وقضينا معهم أكثر من ساعة وعلمنا بأن الأب موسى حكيم قد زارهم وثبتهم على إيمانهم وقوّى رباط العلاقة بينهم وبين وطنهم الأول وكنيستهم الأم، وهو الذي أبرق إليهم بموعد وصول الطائرة التي تقل قداسة البطريرك إلى مطار الرصيف فجاؤوا لينالوا البركة الرسولية[460].
ولما حطّت طائرتنا في مطار (كونفو ميناس) سان باولو، التقيت الأب موسى حكيم للمرة الأولى بعد لقائي به عام 1949 في الموصل وعانقني معانقة الأخ الحبيب، وهش بوجهي وبشّ. فانبسطت أساريري جداً عند رؤيتي وجهه الصبوح، وابتسامته اللطيفة، وسماع كلماته العذبة وهو يرحّب بحرارة بصديقه الشاب ابن صديقه القديم.
وأثناء وجودنا في البرازيل مدة ثلاثة أشهر رأينا عن كثب المكانة الكبيرة التي احتلّها الأب موسى حكيم في قلوب أبناء الجاليات العربية على مختلف مذاهبها وكما كانت في البصرة موضع ثقة الناس مسيحيين كانوا أم مسلمين هكذا حظي في سان باولو بتقدير من الناس واحترامهم لأنه رجل بار سار مع اللّـه، فاعتبر كأنه مرسل من اللّـه. بل هو رسالة المسيح المقروءة من الناس، فكان يفرح مع الفرحين، ويحزن مع الحزانى، وهو يشارك الجميع أفراحهم وأتراحهم بقلبه الكبير ونفسه الشفافة، وسما عن المادة إلى درجة عدم الاكتراث حتى بما هو ضروري لقضاء حاجة أفراد عائلته التي هو عميدها وسندها الوحيد يومئذ. وعندما بلغ بعض أولاده سن الرشد اعتمدوا على أنفسهم فهم عصاميون، وسدّوا حاجة أفراد الأسرة بعرق جبينهم، وسندتهم صلوات أبيهم البار ونشأتهم الصالحة فوفقهم الرب وهم اليوم من خيرة أبناء الجالية اجتماعياً، وروحياً واقتصادياً. إن سيرة الأب موسى حكيم برهان ساطع على أن اللّـه تعالى لا يهمل عبيده المتكلين عليه بل يعتني بهم. فقد أوصى الرب تلاميذه قائلاً: «لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون. ولا لأجسادكم بما تلبسون. أليست الحياة أفضل من الطعام والجسد أفضل من اللباس. انظروا إلى طيور السماء إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن وأبوكم السماوي يِقوتُها. ألستم بالحري أفضل منها… لكن اطلبوا ملكوت اللّـه وبره وهذه كلها تزاد لكم» (مت 6: 25 ـ 33) وكان الأب موسى حكيم يطبّق هذه الوصية عملياً، ويشعر بعناية اللّـه به وبأولاده. وكانت نفسه الكريمة، الأبية، وقلبه الحنون الشفوق، يدفعانه إلى التصدق بكل ما في جيبه على المحتاج غير مكترث بحاجة نفسه لذلك المبلغ.
ولمسنا محبة الناس له، وتقديرهم لفضله وفضيلته. في حفلة رسامته خورياً صباح يوم الأحد 30/3/1958 حيث اكتظت كاتدرائية الروم الأرثوذكس في سان باولو بجمهور غفير من أبناء الجاليات العربية، والفرحة بادية على وجوههم لترقية الأب موسى حكيم إلى رتبة الخورنة، وتقليده الصليب المقدس على يد الطيب الذكر البطريرك يعقوب الثالث، تقديراً لتقواه وخدماته الجليلة، ولم يدروا بأن ذاك الصليب على صدر الخوري موسى حكيم إنما كان علامة ظاهرة لصليب كبير خفي حمله منذ وطئت قدمه البرازيل، هو صليب المحبة والتضحية، والخدمة الكهنوتية المملوءة بالأتعاب، واحتمال المشقات كجندي صالح والاقتداء بالآباء الأبرار بأيوب الصبور على التجارب، وابراهيم الذي كاد ينحر ابنه وحيده محبة للـه، وبالرسل القديسين الذين حملوا بشارة الخلاص إلى اقطار المسكونة، ولم يأخذوا معهم زوادة للطريق، لأن الرب رافقهم في حلّهم وترحالهم وكان راعيهم فلم يعوزهم شيء… وبعد جهاد مرير… وتعب كثير… وثمر وفير… غادر الخوري موسى حكيم ارض الشقاء وانتقل إلى السماء صباح يوم الثلاثاء 6/8/1963، لقد تقطعت أوتار القيثارة الملائكية، وصمت البلبل الغريد… ولكنه وإن مات يتكلم، كما يقول الكتاب. فروحه الخالدة بدأت أناشيد التسبيح مع ملائكة العلاء في فردوس النعيم… وإيمانه المتين الثخين وأعماله الصالحة، وفضائله المسيحية، كل هذه قد ضمنت له اسماً طيباً وصيتاً حسناً، وذكراً خالداً بين عارفيه، فسجّل اسمه في السماء مع الصالحين، وعلى صفحات التاريخ الكنسي في عداد الخالدين، فهو الكاهن السرياني الأول الذي بسيرته بدأ تاريخ الكنيسة السريانية في البرازيل.
وكم كان سرورنا عظيماً بتكريمه، ونقل رفاته الطاهر من المقبرة العامة إلى كنيسة العذراء التي اشترك أفراد أسرته مع بعض المؤمنين والمؤمنات بتشييدها في سان باولو واحتفلنا بافتتاحها وتقديسها في 14/6/1981 ونقلنا رفات المترجم إليها في 19/6/1981 ليكون قريباً ممن أحبهم في حياته وعرفوا فضله بعد انتقاله إلى جوار ربه، لينالوا منه البركة كما نالها شعب العهد القديم من عظام يوسف الصديق فليكن ذكره خالداً «فذكر الصديق للبركة» (أم10: 7).
العلامة الأرخدياقون نعمة الله دنو
لقيته لأول مرة سنة 1949م أثناء قداس احتفالي في كاتدرائية مار توما في الموصل الحدباء وكنت يومئذ في السادسة عشرة من عمري طالباً في معهد مار أفرام الكهنوتي. كنت في سمعت الكثير عن الأرخدياقون نعمة الله دنو، ولكن لم تكن فيني في اكتحلت بمنظره الوسيم، ولم تشنف أذناي بسماع صوته الرخيم، ولئن كانت شهرته قد طبقت الخافقين فقد كان أشهر من نار على علم، وخاصة في الأوساط الدينية، وعلى الأخص في معهدنا الكهنوتي حيث كنا كثيراً ما نستعرض قائمة أسماء العلماء السريان في الماضي والحاضر ونصنفهم حسب تخصصهم وبقدر ما كان لنا من معرفة، وكنا نضع الأرخدياقون دنو في المرتبة الأولى بعد المثلث الرحمة العلامة البطريرك أفرام الأول برصوم والمثلث الرحمة العلامة المطران يوحنا دولباني خاصة ونحن نعلم أن أستاذينا الراهبين بولس بهنام (مطران الموصل ثم بغداد بعدئذ) وعبدالأحد توما (البطريرك يعقوب الثالث بعدئذ) كانا يستشيرانه في مسائل لغوية سريانية وتاريخية ولاهوتية عويصة، وكنا قد قرأنا له في العربية مقالات عديدة وكتباً جدلية شتى ودرسنا مبادئ اللغة السريانية في سلسلة كتب القراءة التي ألفها بأسلوب شائق وطريقة تربوية ناجحة للصفوف الابتدائية وحتى الصفوف العالية، وزينها بالرسوم الجميلة وأكثر فيها من القصائد البديعة التي يسهل على الطالب حفظها عن ظهر قلب لعباراتها الموسيقية كما عرب الكلمات الصعبة ودونها في الهوامش، وهو في نثره وشعره ينفح في القارئ والدارس روح الحماسة بمحبة الكنيسة والوطن والتغني بأمجادها والاقتداء بالآباء الميامين، لذلك أحببنا الأرخدياقون دنو من خلال دراسة كتبه السريانية ومطالعة مقالاته العربية اللاهوتية والتاريخية والأدبية وخاصة الجدلية، وكنا نتحمس معه للذود عن حياض الكنيسة والدفاع عن حقها المقدس، ونحن نشعر بأننا نشاركه مسؤولية منازلة الخصوم في ميدان الجهاد، ونرى فيه داود يظفر بجليات باسم الرب الإله، فلا تستغربن أيها القارئ الكريم الفرحة العارمة التي شملتني وزملائي بلقائنا المفاجئ الأرخدياقون نعمة اللـه دنو واقفاً في مذبح كاتدرائية مار توما في الموصل، وكانت تلك المرة الأولى التي يشاهد أغلبنا «أرخدياقوناً» يخدم في مذبح الرب بحلته الأنيقة الجميلة التي تشبه حلة الكاهن ما خلا بدلة القداس. فكنا نرنو إليه شاخصين ومراقبين حركاته وسكناته، فرأينا وجهه وكأنه وجه ملاك، لهدوئه وخشوعه ودعته وتواضعه وهو يسكب نفسه بالصلاة أمام اللـه تعالى.
وفي اليوم التالي زارنا الأرخدياقون دنو في المعهد الكهنوتي، فكان لنا ذلك اليوم عيداً سعيداً، واستمعنا إليه بشوق ورغبة وهو يلقي علينا محاضرته في موضوع (التركيخ والتقشية) وكان كالبحر الزاخر الهادر يتدفق علماً ومعرفة، وأعجبنا بأسلوبه السهل الممتنع في تقريب الحقائق إلى ذهن السامع وخاصة في شرح موضوع شائك في اللغة السريانية كموضوع «التركيخ والتقشية» ولكن الأرخدياقون كان ابن بجدتها وقد ملك ناصية اللغة وسبر غورها وعرف سرها وتعمق في قواعدها وبلاغتها، وبيانها وبديعها، ثم ألقى علينا كلمة توجيهية قيمة حثنا فيها على التمسك بالقيم الروحية، والاهتمام بدراستنا.
منذ ذلك التاريخ وصورة الأرخدياقون دنو عالقة في ذهني، وكلماته الطيبة راسخة في قلبي، ولقيته بعدئذ أكثر من مرة، وكنت في كل مرة ألتقيه أزداد إعجاباً به، فقد كان المصلح الصالح وأحد الرواد القليلين للنهضة الروحية والاجتماعية والعلمية لكنيستنا في القرن العشرين.
ولد نعمة اللـه دنو في الموصل سنة 1884م وكان أبوه عبد الكريم دنو شماساً ووكيلاً في كنيستي مار توما والطاهرة الخارجية، فنشأ نعمة اللـه محباً للكنيسة، شغوفاً بتحصيل العلوم الدينية والمدنية، فبعد أن درس في مدرسة مار توما مبادئ اللغتين السريانية والعربية والطقوس الدينية، انكب على المطالعة سواد ليله وبياض نهاره، فهو عصامي تعلم واتخذ خير الكتب أساتذة له كما راسل العلماء الأفاضل من رجال الدين والعلم والمعرفة فصار عالماً مثلهم.
رسم شماساً قارئاً سنة 1896 وأفودياقوناً (دون الشماس) سنة 1913 وإنجيلياً وأرخدياقوناً سنة 1941 وكان قد تزوج ورزق أبناء وبنات فكان نعم الزوج ونعم الأب.
مارس المترجم مهنة التجارة في الموصل بلدته ونجح فيها واشتهر بين أقرانه باستقامته، وصدق كلامه، وتقواه. ومما يذكر عنه أنه كان حريصاً على حفظ يوم الرب فلم يستلم أو يسلم بضاعة أو مالاً أو دراهم في يوم الأحد.
وكان في وقت فراغه في متجره أو داره يتكب على درس المخطوطات السريانية وغيرها من الكتب وينشىء المقالات والأبحاث القيمة فهو دؤوب على القراءة والكتابة لا يعتريه في ذلك ملل ولا كلل، وقد أولع بجمع الكتب المخطوطة منها والمطبوعة السريانية والعربية والأجنبية فأفاد منها كثيراً. وقد تكونت لديه خزانة كتب قيمة جداً في موضوعات شتى، ففيها التاريخية، واللاهوتية، واللغوية، والفلسلفية والأدبية وغيرها، وغذى مكتبته بما اشتراه من مجلدات من اوروبا أثناء زيارتيه لها سنتي 1924 و1925 وقد أهدى ذووه مكتبته هذه إلى معهد مار أفرام الكهنوتي بعد انتقال الأرخدياقون إلى جوار ربه، بناء على وصيته.
كان المترجم عفيف النفس، يتجنب الربح القبيح ، ولم يكن من ذوي اليسار ولم يكتنز الأموال الطائلة على الرغم من ذكائه في مهنة التجارة، ذلك أنه كان يقضي أوقاتاً طويلة في خدمة الكنيسة والملة مجاناً. فكان يعظ في الكنائس في الأعياد السيدية، والمناسبات الاجتماعية، وكان واعظاً ناجحاً قولاً وعملاً، يعظ الناس بسيرته قبل وعظهم بكلامه.
وكان عضواً في المجلس الملي في الموصل ثم في بغداد، وعضواً في لجنة مدرسة دير مار متى الكهنوتية من سنة 1929 وحتى سنة 1935، وكان يدرس السريانية لطلاب مدرسة مار توما من سنة 1909 وإلى سنة 1918 ويدرس طلاب وطالبات المدارس المتوسطة والثانوية علوم الدين والسريانية حتى انتقاله إلى بغداد سنة 1942 وكل خدماته هذه كان يقدمها مجاناً لوجهه تعالى.
كما أنه كان في مقدمة مؤسسي جمعية الإحسان في الموصل سنة 1926 ولهذه الجمعية تاريخ حافل بالمكارم، فقد سدت حاجة الفقير، وآوت الغريب وساعدت اليتيم والأرملة، بل عضدت العديد من الطلاب النبهاء الفقراء وساعدتهم على إكمال دراساتهم العليا، ومما يسجل بالفخر لهذه الجمعية ولمؤسسيها وفي طليعتهم المرحوم الأرخدياقون نعمة اللـه دنو، أنها اهتمت بإيواء المهاجرين السريان الذين جاؤوا إلى الموصل لا يملكون شروى نقير، فسدت حاجتهم وهيأت لهم دوراً وأسكنتهم ومما هو جدير بالذكر في هذا المقام أن أبرشية الموصل كانت تملك الشيء الكثير من الأواني الكنسية الذهبية والفضية فباعت القسم الكبير منها وصرفت المال على المهاجرين.
جاء في رسالة كتبها المرحوم الأرخدياقون دنو في 30 نيسان 1926 من الموصل إلى الأديب الكبير المرحوم روفائيل بطي في بغداد ما يأتي: «شغلتنا نكبة إخواننا في آزخ وقضاء نصيبين في هذه الأيام فأولئك المنكودو الحظ لم يكف ما نالهم من الضيم والجور في السنوات الماضية حتى صب عليهم الأتراك في أوائل الشهر الماضي كأس الانتقام الأخير فقد استاقوا رجال آزخ وشبانها إلى جهات مجهولة، وأطلقوا الجنود في القرية فأمعنوا فيها سلباً ونهباً، وغادروا النساء والأطفال والعجزة تحت رحمة الجوع والسبي، وعذبوا مطرانهم الشيخ مار يوليوس تعذيباً قاسياً، وفي قضاء نصيبين حين ذهبت الجنود للاقتصاص من (حاجه) الزعيم الكردي عمدوا إلى عدة قرى مأهولة بالسريان فأحرقوها ونسفوا ديري مار ملكي ومار دودو المشهورين وأماتوا رهبانهما رمياً بالرصاص لأنه عزَّ عليهم أن يغادروا ديريهم، ولقي المطران الشيخ مار صموئيل حتفه لشدة الأمطار التي هطلت عليهم وهو يهرب مع المصطهدين، وقد لجأ إلى الموصل نحو خمسمائة نسمة من الذين تمكنوا اجتياز المسافة هرباً وهم حفاة عراة في أشد حالات البؤس والشقاء، وجمعيتنا (الإحسان) تسعى لإيوائهم وتخفيف ويلاتهم، ويصل في كل يوم عدد من اللاجئين المظلومين، وسترفع الجمعية نداءها إلى الجهات القريبة والبعيدة لتمد يد المساعدة والغوث إلى هؤلاء المنكوبين لأن القيام بتدبيرهم وإسكانهم يحتاج إلى نفقات طائلة، إذا رأيتم مناسباً فانشروا شيئاً، في جريدة العراق على أن لا تجرحوا احساسات الحكومة التركية رأفة بالسريان المطمئنين الآن في ديار بكر وماردين وقضاء مذيات لئلا تعمد الحكومة التركية إلى إيذائهم عمداً متى رأت الجرائد العراقية تندد بفظائعهم».
من مطالعتنا لهذه الرسالة وغيرها نلمس الحكمة التي أنعم اللـه بها على الأرخدياقون دنو، فقد كان حقاً كمار اسطيفانوس رئيس الشمامسة، «مشهوداً له بالفضل ومملوءاً من الروح القدس والحكمة»(أع6: 3) يكمل وصية الرب «كنت غريباً فآويتمنوني» وفي الوقت نفسه يلهمه الروح أن يتصرف بحكمة حتى في ميدان الدفاع عن الحق المهضوم وحماية المضطهدين المشردين والتفكير بإخوة لهم آمنين لئلا ينالوا من الضيم والظلم ما نالوه هم.
نشر المترجم مقالات شتى بالعربية والسريانية في مجالات عديدة منها الحكمة والبطريركية في القدس، والنشرة السريانية في حلب والمشرق ولسان المشرق في الموصل وجريدة لسان الأمة في بيروت والصحف المحلية وله قصائد سريانية تظهر فيها عبقريته وصدق شعوره وتمكنه من اللغة وقد طرق موضوعات عديدة تاريخية ولاهوتية وطقسية وأدبية وغيرها وله خطب ورسائل، ويمتاز أدبه في العربية بجمال العبارة والوضوح وتتجلى في كتبه الجدلية خاصة مقدرته العلمية واللاهوتية والتاريخية، وغيرته الشديدة وتمسكه بالعقيدة الأرثوذكسية بعروة وثقى دون تعصب كما تظهر فيها أخلاقه العالية فهو يقارع الحجة بالحجة ويفحم الخصم بأسلوب مؤدب، وعبارات لطيفة دون أن تصدر منه كلمة بذيئة.
هأهم لبلأهم مؤلفاته:
1ـ الأصول الإيمانية، 2ـ الترنيمات الروحية، 3ـ رتبة طقس القداس للشمامسة جزءان، 4ـ تعليم القراءة السريانية ثلاثة أجزاء، 5ـ في أحكام اللغة السريانية، 6ـ كراسة شعانين الأطفال، 7ـ الردعة لدحض مزاعم رجعة القس اسحق أرملة، 8ـ التحفة في تفنيد اللمعة رداً على رسالة المطران يوحنا معمار باشي، 9ـ اقامة الدليل على استمرار الاسم الأصيل واستنكار النعت الدخيل، 10ـ حقائق تاريخية رداً على القس يوسف كوكي، 11ـ جلاء الاخفاق في تاريخ نصارى العراق. وله رسائل شخصية لها قيمتها الأدبية، أهداها إلينا ذووه.
أصيب المترجم في أيامه الأخيرة بمرض عضال، وعولج في بغداد ولندن، ولكن دون جدوى، واحتمل صابراً صبر القديسين آلام المرض المبرحة، وأكمل الفرائض الدينية، ولما زاره الكاهن ـ المرحوم الأب أفرام الخوري ـ ليمنحه الزوادة الأخيرة، طلب إليه الأرخدياقون أن يرتل معه بالسريانية ما قاله مار يعقوب السروجي: «لقد مال النهار إلى المغيب، وأحاقت بي ظلال الموت فكن لي يا ربنا شمساً في المساء لأسير بنورك» وهكذا فاضت روحه الطاهرة إلى السماء في الساعة الثالثة وعشرين دقيقة من بعد ظهر نهار الجمعة المصادف الثامن عشر من شهر أيار سنة 1951 ونقل جثمانه الطاهر من بغداد إلى الموصل حيث ووري الثرى في فناء كاتدرائية مار توما مأسوفاً على علمه وفضيلته فبكته الكنيسة السريانية الأرثوذكسية في كل مكان في العالم، وأقامت الصلوات لراحة نفسه، وسجل اسمه بأحرف من نور في أنصع صفحات التاريخ الكنسي رحمه اللـه.
المحتوى
تمهيد |
القديس مار بطرس الرسول هامة الرسل |
القديس مار توما الرسول |
القديس مار إغناطيوس النوراني |
القديس ثاوفيلوس البطريرك الأنطاكي السابع |
القديس يوستينوس الفيلسوف |
القديسة الشهيدة بربارة |
أهل الكهف في المصادر السريانية |
القديس مار أفرام السرياني |
القديس أنطونيوس الكبير |
قصة مار متى الناسك والشهيدان مار بهنام وسارة |
القديس موسى الحبشي |
قصة مار إبراهيم القيدوني |
قصة مار نيقولاوس أسقف ميرا |
القديسة مريم المصرية |
القديس مـار فيلكسينوس المنبجي وكتابه طريق الكمال |
القديس مار يعقوب الرهاوي |
مار جاورجي الأول بطريرك أنطاكية |
البطريرك ديونيسيوس التلمحري |
البطريرك يوحنا ابن المعدني |
القديس مار غريغوريوس ابن العبري |
مار باسيليوس بهنام الرابع مفريان المشرق |
البطريرك مار إغناطيوس أفرام الأول برصوم |
كاهن اللّـه البار المرحوم الخوري موسى توما حكيم |
العلامة الأرخدياقون نعمة الله دنو |
(1)ـ كتاب الإشحيم وهو مجموعة الصلوات الأسبوعية حسب طقس كنيسة أنطاكية السريانية. طبعة القدس سنة 1936 ص 141 صلاة القومة الثانية من ليلة الخميس بلحن (موريو موران). علماً أن مؤلفي صلوات الإشحيم وترانيمه هم مار أفرام السرياني (+373) ومار يعقوب السروجي (+521) ومار اسحق (363ـ 418) وبالاي أسقف بالش في القرن الخامس، وشمعون الفخاري (ت 514)، وقد جمعه مار يعقوب الرهاوي في أواخر القرن السابع (انظر اللؤلؤ المنثور في تاريخ العلوم والآداب السريانية للبطريرك أفرام الأول برصوم طبعة بغداد 1976 ص 57).
(1)ـ كتاب الإشحيم طبعة القدس 1936 ص 225.
(1)ـ وهذا يتضمن لوعد الرب في سفر إشعيا النبي القائل: «هوذا على كفي نقشتكِ. أسوارك أمامي دائماً» (اش 49: 16).
(1)ـ طبعة القدس عام 1936 ص 236.
(1)ـ الفصل الثالث من كتاب تفسير أسرار الرسامات الكهنوتية لمار موسى ابن كيفا والأشحيم ص 22.
(2)ـ الإشحيم ص 9 أنظر أيضاً صلاة صباح يوم الخميس ص 153.
(1)ـ صلاة الليل في يوم عيد الرسولين بطرس وبولس.
(1)ـ الميمر الأول من كتابه التاريخ البيعي.
(1)ـ الدرر النفيسة في مختصر تاريخ الكنيسة للبطريرك أفرام الأول برصوم طبعة حمص 1940 مج 1 ص 44و 45.
(2)ـ تاريخ أوسابيوس القيسري (430+) الكتاب الثاني، الفصل الثالث، الفقرة الثالثة.
(1)ـ إن ميلاد السيد المسيح بالجسد جرى قبل التاريخ المسيحي المتداول بأربع سنين، فأضيفت هذه السنين إلى حساب العالم قبل الميلاد.
(2)ـ كنيسة مدينة الله أنطاكية لأسد رستم بيروت ج 1 ص 19و20 وتاريخ الكنيسة السريانية للبطريرك يعقوب الثالث ( في عهد مطرنته) بيروت 1953 ج 1 ص 55.
(3)ـ كنيسة مدينة الله أنطاكية لأسد رستم ج1 ص 20.
(1)ـ تفسير رسالة بطرس الأولى لوليم باركلي بيروت 1960.
(1)ـ تاريخ أوسابيوس القيصري الكتاب الثاني الفصل الثالث عشر من (احتجاجات يوستينوس 1: 26).
(2)ـ الكلام موجّه إلى الإمبراطور.
(3)ـ الخريدة النفيسة في تاريخ الكنيسة للأسقف أيسدورس، القاهرة 1923 ج1 ص 37 و 38 وسير الشهداء والقديسين بالسريانية طبعة بيجان سنة 1890 الجزء الأول.
(1)ـ الدرر النفيسة ص 47 و 48 و 49.
(1)ـ تاريخ أوسابيوس القيصري الكتاب الثالث الفصل الثالث. ومرشد الطالبين إلى الكتاب المقدس الثمين بيروت 1937 ص 268.
(2)ـ أنظر مصابيح على الطريق للمؤلف دمشق عام 1984 ص 180.
([33])ـ تفصيل ترجمة توما الرسول في التاريخ الكنسي السرياني لابن العبري المجلد الثاني (المفارنة) وفي سيرة الشهداء والقديسين السريان ـ طبعة بيجان، وتاريخ أوسابيوس (1: 13 و3: 1).
([34])ـ الدرر النفيسة للبطريرك أفرام الأول برصوم حمص 1940 ص198.
([35])ـ نقل هذا الزنار المقدس في القرن الرابع من الهند إلى الرها مع رفات القديس مار توما ثم نقل الزنار وحده إلى كنيسة العذراء في حمص التي دعيت بكنيسة أم الزنار، ووضع في مذبحها الوسط واكتشف سنة 1952م ولا يزال هناك يتبرّك به المؤمنون.
([36])ـ الخريدة النفيسة للأسقف أيسيدورس ـ مصر مج1 ص53. ولا يزال السريان في الهند يصلّون بالسريانية، وقد ترجموا بعض الصلوات من السريانية إلى لغتهم المحلية (المليالم) وقد اكتشف صليب من حديد سنة 1625 في بلاد الصين يعود تاريخه إلى عام 239م مكتوب عليه بالسريانية واكتشف أيضاً عمود محفور باللغة السريانية بأيدي أحد الرهبان كا اكتشفت مخطوطات كتبت على (البردي) مكتوب عليها بالسريانية والصينية.
([37])ـ الدرر النفيسة للبطريرك أفرم الأول برصوم حمص عام 1940 ص211و212.
([38])ـ كانت الجالية الرهاوية تتألف من اثنتين وسبعين عائلة تعد أربعمائة نفس فيها قسوس وشمامسة وبرئاسة الأسقف يوسف الرهاوي وتاجر اسمه توما الكنعاني غادرت الرها إلى جنوبي الهند في منتصف القرن الرابع، وحلّت قرب كوجين، وأعطيت امتيازات سامية ولم تمتزج بالمصاهرة مع بقية المسيحيين ونمت وكثرت وهي تؤلف الآن أبرشية الكناعنة التي يبلغ عددها أكثر من ربع مليون نسمة. وهذه الجالية حسّنت حالة المسيحيين الاجتماعية ووطّدت العلاقة بين الكرسي الرسولي الأنطاكي والكنيسة في الهند فأطلق على الكنيسة اسم الكنيسة السريانية وسمي المسيحيون هناك سرياناً منذ ذلك التاريخ، كما استعمل الطقس السرياني الأنطاكي واللغة السريانية بالطقس، ويقول العلامة ابن الصليبي (1171 +) أن الكنيسة في الهند تستعمل في صلواتها عبارة «يا من صلبت من أجلنا» العبارة التي تستعملها الكنيسة السريانية الأرثوذكسية الجامعة ومن هنا نعلم بأن الكنيسة السريانية في الهند هي جزء من الكنيسة السريانية الجامعة عقيدة وطقساً وتاريخاً.
([39])ـ شيدت هذه الكنيسة على عهد مطرانيتنا لبغداد وسنة 1980 على أثر انتخابنا بطريركاً أقمنا فيها مقاماً لائقاً أودعناه جزءاً من ذخيرة مار توما الرسول التي كانت قد اكتشفت في كاتدرائية مار توما في الموصل عام 1964 على عهد مطرانيتنا لأبرشية الموصل.
([40])ـ الموصل وكانت تدعى نورادشير، بنيت سنة 570م على نهر دحلة في الجهة المقابلة لأطلال مدينة نينوى المندثرة، وسمّاها العرب الموصل، وكانت لها أهمية تجارية كبرى. ولها مكانتها في التاريخ الكنسي حيث صارت مركز كرسي مفريانية المشرق قروناً عديدة ففي غضون القرن الثاني عشر نقل كرسي المفريانية إليها وبقي حتى سنة 1859 حيث ألغيت الرتبة المفريانية بقرار مجمعي.
([41])ـ هي كنيسة قديمة لا يعرف تاريخ تأسيسها كأغلب الكنائس القديمة في العالم وهي الكنيسة الأولى التي ذكرت بتاريخ الموصل داخل المدينة. والمعروف لدينا من الوجهة التاريخية أنها كانت عامرة في أوائل القرن السابع على عهد مطرانها كريستوفوروس ويذكر التاريخ أنها كانت عامرة زاهرة على عهد الخليفة المهدي (779م). وقد جدد بناء مذبحها الوسطي وبيت المعمودية وبيت القديسين عام 1744 بعد فشل الحصار الذي ضربه نادرشاه على الموصل بعام واحد وذلك على عهد البطريرك شكر اللّـه والمطران جرجس من عائلة القس عبد الجليل، ولا يزال إطار باب المذبح القديم الواقع في ناحية اليسار يعود إلى هذا التاريخ وهو من طراز البناء المعروف بالجليلي، وفي سنة 1838 (أو 1848) بنيت الكنيسة الجديدة في مستوى أعلى من مستوى الكنيسة القديمة ثم نقلت أبواب المذبح القديمة إلى الوراء… تحتوي الكنيسة على أضرحة العديد من الأحبار يرجع تاريخ أقدمها إلى عام 1724م.
([42])ـ هو أحد أعمدة الكنيسة القديمة، وضع في قسمه السفلي رفات اكتشف في الموضع الذي كانت كنيسة مار ثاودورس مشيدة عليه وهذه الكنيسة كانت للتكريتيين وتسمى كنيسة الصليب وقد شيدت في الموصل في باب العراق أو باب تكريت وكانت عامرة سنة 1245 واندثرت عام 1583 واكتشفت بين أطلالها رفات يظن أنه لمار ثيودورس أو أحد الأحبار فنقل إلى كنيسة مار توما، وكذلك اكتشفت معه ثلاث مخطوطات طقسية مهمة يعود تاريخها إلى القرن الثالث عشر وهي فناقيث القيامة (1245م) والصوم (1246م) والدنح محفوظة في كنيسة مار توما.
([43])ـ انظر أيضاً (2مل 19: 34 و2مل 20: 6 و1مل 11: 12 و1مل 11: 13 و32 و34).
([44])ـ راجع (2مل 13: 21 و2: 13و14 وأع 19: 12).
([45])ـ تاريخ الكنيسة السريانية الهندية للمطران سويريوس يعقوب (البطريرك يعقوب الثالث بعدئذ) بيروت 1951 ص20و21 عن ميامر مار يعقوب مج3 ص760.
([46])ـ الدرر النفيسة في مختصر تاريخ الكنيسة للبطريرك أفرام الأول برصوم حمص 1940 مج1ص 116 وتاريخ الكنيسة ـ مدارس الأحد القبطية الأرثوذكسية ـ الجيزة ـ 1952 مج1ص55.
The Oxfod Dictionary of the Christian Chuch by cross 1958, pp. 676 and the Ealy Christian fathers, by C.C. Richardson, N.Y. 1970, v. 1, pp. 75.
([47])ـ كنيسة مدينة اللّـه أنطاكية. أسد رستم ج1ص50.
([48])ـ تيلمون ـ التاريخ الكنسي مج2 في ترجمة القديس إغناطيوس تلميذ الرسل وأسقف أنطاكية الشهيد ص207 ـ 231.
([49])ـ منهم أنسطاس الكتبي في القرن التاسع عشر.
([50])ـ مواعظ الذهبي الفم مج1 خطبة 42 انظر أيضاً كنيسة مدينة اللّـه ج1ص49.
([51])ـ وقال البعضهم أنه يوحنا الأورشليمي.
([52])ـ أوسابيوس القيصري ـ التاريخ الكنسي، تعريب القس مرقس داود ـ القاهرة 1960ص151ك 3ف 36: 2.
([53])ـ أوسابيوس القيصري ـ الناريخ الكنسي ك3ف22.
([54])ـ كنيسة مدينة اللّـه أنطاكية ج1ص49.
([55])ـ أسد رستم ـ كنيسة مدينة اللّـه ص 50 و51 و
Drehesm, Mrs Louis, Ealy Hist. of christ church 71 – 79.
([56])ـ موعظة الذهبي الفم مج1 خطبة 42.
([57])ـ أي بلينوس الصغير، دعي كذلك تمييزا له عن عمه المسمى بنفس الأسم، وكان صديقاً للأمبراطور تراجانوس (98 ـ 117) كما كان كاتبا ماهرا ولم يبق من كتابته سوى رسائله وقد جمعت في عشرة كتب (تاريخ الكنيسة لأوسابيوس ك 3ف23 عن «احتجاج ترتليانس»).
([58])ـ أوسابيوس القيصري ك3 ف23 عن احتجاج ترتيليانس ك2 ف2.
([59])ـ تاريخ الكنيسة 1952 مدارس الأحد القبطية بالجيزة ص73.
وتقديس السنة الطقسية بقراءة سير القديس اليومية ـ دير الدومينيكان ـ الموصل 1891ص99 ـ 101 والدرر النفيسة ج1 ص167 وتاريخ الكنيسة السريانية الأنطاكية للمطران سويريوس يعقوب (البطريرك بعدئذ) بيروت 1953 ج1 ص103.
([60])ـ كنيسة مدينة اللّـه ـ أسد رستم، ج1ص56.
([61])ـ تاريخ الكنيسة ـ يوسابيوس ك3 ف36: 4ص 151.
([62])ـ تاريخ البطاركة بالسريانية ـ لابن العبري ـ في ترجمة القديس مار إغناطيوس النوراني.
([63])ـ الدرر النفيسة ص184 و185 وتاريخ الكنيسة ـ مدارس الأحد القبطية الأرثوذكسية بالجيزة1952 ج1ص76.
([64])ـ الدرر النفيسة ص 168 ـ 169.
([65])ـ السنكسار للمطران ميخائيل عساف للروم الكاثوليك ـ حريصا ـ لبنان 1948 اليوم العشرون من شهر كانون الأول ص399.
([66])ـ تيلمون مج 2 ب 9 من ترجمة القديس إغناطيوس، وكنيسة مدينة اللّـه ـ لأسد رستم.
([67])ـ الكنيسة السريانية عبر العصور ـ للمؤلف ـ مجلة بين النهرين الموصل 1980م عدد 29 ص65.
([68])ـ كلندار القنسريني، وابن الصابوني والكلندار القديم، وآمد والقدس وابن خيرون.
([69])ـ الدرر النفيسة ص 169 وتفسير ابن الصليبي لانجيل متى 18: 2 والتاريخ الكنسي لابن العبري مج1 في ترجمة مار إغناطيوس النوراني.
([70])ـ تيلمون مج2 في ترجمة القديس إغناطيوس نقلا عن سقراط 1 ـ 6فصل 8 ص313.
([71])ـ اللؤلؤ المنثور للبطريرك أفرام الأول برصوم بغداد 1976 ص 168 و170، مخطوطات خزانة لندن تحت (14618 و17192 و12175) أما مخطوطة باريس فتحت رقم (62).
([72])ـ فيه وسلسلة (آباء الكنيسة ) منشورات النور بيروت 1970 ص 104 ـ 105.
Ante nicene fathers, A.C. Coxe, ann Arbor, Mi. U.S.A. Volume one: and the Oxford dictionary of the Christian Church, by Cross – 1958,
pp.676 – 677, and dictionary of the Apostolic Church, by j. Hastings N. y. 1919, Volume 1, pp. 594 – 604.
the Faith of the Early Fathera, W.A. jurgens cleverland, OHIO, U.S.A. 1970, Volume one pp. 17 – 28.
Early Christian Fathers C-C. Richardson N-y. 1970, pp. 74 – 130.
([73])ـ اعتمدنا في ترجمة هذه الأقوال على المخطوطات السريانية وبعض الموسوعات الانكليزية كما قارنا ذلك بما نشر بالعربية من أقواله خاصة في كتاب الدرر النفيسة في تاريخ الكنيسة للبطريرك أفرام برصوم حمص 1940مج1 ص 166 ـ 169 ـ و171 ـ 178 وكتاب القديس إغناطيوس الأنطاكي ورسائله للأب فيليب السمراني ـ بيروت 1966 والمصادر الانكليزية المذكورة سابقا وغيرها.
([77])ـ هذه العبارة تضمين لقول الرسول بولس الواردة في (1كو 4: 4)
([80])ـ تاريخ الكنيسة لأوسابيوس القيصري، تعريب القس مرقس داود، طبعة القاهرة 1960 ص191 (ك4: ف20).
([81])ـ تبدأ سلسلة أساقفة أنطاكية (أي بطاركتها) بالرسول بطرس الذي خلفه آفوديوس، فإغناطيوس النوراني، فايرون (هيرون) فكرنيليوس، فايروس (اوروس) ثم ثاوفيلوس.
([82])ـ تاريخ كنيسة أنطاكية ـ لخريسوستموس بابا دوبولس ـ تعريب الأسقف استفانس حداد، منشورات النور1984ص100 والدرر النفيسة في مختصر تاريخ الكنيسة للبطريرك أفرام الأول برصوم حمص 1940 مج1 ص217.
([84])ـ تاريخ الكنيسة لاوسابيوس(ك 4: ف24).
([85])ـ اللؤلؤ المنثور في تاريخ العلوم والآداب السريانية للبطريرك أفرام برصوم طبعة بغداد 1976 ص522.
([86])ـ بطريركية أنطاكية للدكتور نيل ص25 وتاريخ الكنيسة السريانية الانطاكية للمطران (البطريرك بعدئذ) يعقوب الثالث بيروت 1953ج1 ص111.
([87])ـ دئرة المعارف البريطانية طبعة9مج 10 ص818.
([88])ـ الدرر النفيسة ص 217و Who is who in the early Church, pp, 118,
([89])ـ كنيسة مدينة اللّـه أنطاكية العظمى لأسد رستم ـ بيروت 1958 ج1ص 75 عن:
BARDY, G. OP. CIT, 19
([91])ـ تاريخ الكنيسة السريانية المطران (البطريرك بعدئذ) يعقوب الثالث بيروت1953 ج1 ص113 عن بطريركية أنطاكية لنيل ص29.
([92])ـ الدرر النفيسة ص219 والخريدة النفيسة ج2 ص51.
([93])ـ كنيسة مدينة اللّـه أنطاكية ـ أسد رستم ص 78.
([94])ـ كلندار الربان صليبا بن خيرون ـ تاريخ الكنيسة السريانية للبطريرك يعقوب ص114.
([95])ـ أوسابيوس القيصري التاريخ الكنيسة 4: 11 ص173.
([96])ـ الدرر النفيسة ص 191 ـ 192.
([97])ـ تاريخ الكنيسة لأوسابيوس (4: 11).
([98])ـ أي مرقس أوريليوس الذي كان اسمه الأصلي مرقس اينوس فيروس قبل ان يتبناه الامبراطور فدعي فيريسيموس.
([100])ـ كنيسة مدينة اللّـه أنطاكية أسد رستم ص 69.
([102])ـ مدينة اللّـه أنطاكية ـ ص70.
([103])ـ مدينة اللّـه أنطاكية ـ ص70.
(4)ـA History of christianity, ray, petry, Duke 1962, V. 1, pp. 21 – 22 & the Faith of The early fathers, W. jurgens Ohio 1970, pp. 50 – 57.
([106])ـ تاريخ الكنيسة ـ مدارس الاحد القبطية الأرثوذكسية بالجيزة 1952ج1 ص82 و83.
(1)ـ الدرر النفيسة في مختصر تاريخ الكنيسة للبطريرك العلامة أفرام الأول برصوم طبعة حمص 1940 ص 353و 254.
(2)ـ نيقوميدية: مدينة قديمة شمال غربي آسيا الصغرى، على موقعها اليوم مدينة أزمير التركية، أعاد تأسيس نيقوميدس (264 ق.م). دمرها القوط 258 واختارها دقلديانوس عاصمة شرقية. واجتلت القسطنطينية مكانها (عن الموسوعة العربية الميسرة).
(1)ـ لا يستبعد أن يكون أوريجانس نفسه التقاها حيث يذكر في سيرته أنه تجوَل في أثينا ونيقوميدية وقيصرية كبادوكية أبّان اضطهاد مكسيميان سنة 235ـ 237م.
(1)ـ السنكسار القبطي الأرثوذكسي ـ القاهرة 1935. اليوم الثامن من شهر كيهك المبارك المصادف 4 كانون الأول السرياني. انظر أيضاً سنكسار الروم الكاثوليك طبعة حريصا مج1 ص 324 ـ 231 وتقديس السنة المسيحية طبعة الموصل 1891 مج2 ص 752.
([111])ـ المعترف هو من اضطهد في سبيل الدين ولم يستشهد.
([112])ـ بعض المصادر تذكر ثمانية بدلاً من سبعة.
([113])ـ اللؤلؤ المنثور في تاريخ العلوم والآداب السريانية للبطريرك أفرام الاول برصوم ط حلب 1956. ص 315 ـ 316 و 320 ـ 321
([114])ـ اللؤلؤ المنثور ص 331 ـ 332.
([115])ـ ألف راهب فاضل من دير زوقنين القريب من آمد تاريخاً كبيراً في مجلدين من الخلقة حتى زمانه. ونقل عن المؤرخين القدماء إلى يوحنا الآسيوي سنة 587 + وبعد ذلك وقف على نتف من الأخبار دونها ولم يدقق ضبط السنين. ولما قارب زمانه سنة 720 بسط القول بما كان فيه من الأحداث الدينية والدنيوية والكوائن الطبيعية، فاورد وقائع مفصلة تتعلق باواخر أيام الدولة الأموية وصدر الدولة العباسية إلى زمان المهدي. وتفرد بكثير منها، فلا تجده في أي تاريخ سرياني أو يوناني أو عربي. له نسخة في الفاتيكان عدد 162 كتبت قبل سنة 932 م (اللؤلؤ المنثور ص 399 ـ 400).
([116])ـ للقصيدة مخطوطة نفيسة في مكتبة الفاتيكان تحت رقم (115) Siriaco لا يعرف ناسخها ولا تاريخ كتابتها، يقدر السمعاني تاريخها بالقرن السابع أو الثامن، نشرها المستشرق الإيطالي غويدي، ونسخة ثانية تخص ديرنا المرقسي في القدس نسخها حبيس دير القيامة سنة 1898 ي = 1587 م وعنها كتبت نسخة دير الزعفران، وعنها كتبت نسخة المؤلف بيد الأبدياقون ابراهيم جوشقان العرناسي. ونسخة أخرى تخص مكتبة الفاتيكان أيضاً يقدر تاريخ نسخها بالقرن السادس عشر أو السابع عشر للميلاد.
([117])ـ البريودوط كلمة يونانية معناها نائب الأسقف أو كبير الخوارنة، وقد يسمّى بالسريانية الساعور وهو الراهب القسيس الذي يوفده الأسقف في بعض مهام الرعية ج بريودوطية ( اللؤلؤ المنثور).
([118])ـ اللؤلؤ المنثور ص 273 ـ 280.
الراهب (المطران) بولس بهنام، خمائل الريحان أو أرثوذكسية مار يعقوب السروجي الملفان، الموصل 1949. وهبة الإيمان أو الملفان مار يعقوب السروجي أسقف بطنان للبطريرك يعقوب الثالث. دمشق 1971.
([119])ـ تاريخ زكريا الفصيح ـ طبعة لوفان 1953 ج1 ص107 ـ 114. وتاريخ الراهب الزوقنيني عام (775 م) طبعة لوفان 1953 ص195 ـ 206. وتاريخ الرهاوي المجهول (أحد رهبان دير قرتمين سنة 1234 م، طبعة لوفان 1953 مجلد1 ص179. وتاريخ البطريرك ميخائيل الكبير (1199 +) طبعة باريس ص183 نقلاً عن زكريا الفصيح. وتاريخ البطاركة لابن العبري (1286 +) في ترجمة البطريركين فبيوس وثيودوطوس.
([120])ـ تاريخ البطاركة ـ للمفريان غريغوريوس يوحنا ابن العبري ـ في ترجمة بابولا وفبيوس. والدرر النفيسة في مختصر تاريخ الكنيسة للبطريرك أفرام الاول برصوم حمص 1940 ص 272 وتاريخ الكنيسة السريانية الأنطاكية للبطريرك يعقوب الثالث ـ بيروت 1953 ج1 ص 138 ـ 140 والطرفة النقية من تاريخ الكنيسة المسيحية للخوري عيسى أسعد حمص 1924 ص 24 و 25. وكنيسة مدينة اللّـه أنطاكية للدكتور أسد رستم ـ بيروت 1950 ج1 ص 98 ـ 103.
([121])ـ الخريدة النفيسة في تاريخ الكنيسة الأسقف ايسيدوروس ـ مصر 1915 ج1 ص 576 ـ 577. وتاريخ سورية للمطران يوسف الياس الدبس ـ بيروت 1899 ج2 مجلد 4 ص 276 ـ 269 عن «المؤرخ سقراط ك 7 ف 18 ـ 23 والمؤرخ زوزومين ك 9 ف 1».
([122])ـ تاريخ زكريا الفصيح ـ طبعة لوفان 1953 مجلد1 ص 114 و 115
([124])ـ تاريخ البطاركة ـ لابن العبري في ترجمة ثاودوطوس.
(4)ـ Patristic Studies By Ernest Honigmann Vatican 1953 PP 136 – 137
([127])ـ طبعة شابو في لوفان 1953 ص 189.
([128])ـ تاريخ زكريا الفصيح ص 106
([129])ـ Ayassoluk بلدة صغيرة تقع إلى الشمال الشرقي من اطلال افسس على مسافة ميل منها وكلمة ايا سلوق تحريف لكنيسة فيها Ayos Yohannes Theologos أي القديس يوحنا اللاهوتي وهذا كان اسم الكاتدرائية العظيمة التي بُنيت في مطلع القرن السادس للميلاد في أيام يوستنيان الاول. (مجلة الأبحاث البيروتية 1948 السنة 1 ج 3 ص 69 قصة أهل الكهف في التاريخ للأستاذ أنيس فريحة) وقد ذكرها ابن بطوطة في رحلته ومما قاله فيها: «… وسرنا إلى مدينة أيا سلوق، مدينة كبيرة قديمة معظمة عند الروم، وفيها كنيسة كبيرة مبنية بالحجارة الفخمة، ويكون طول الحجر منها عشرة أذرع فيما دونها، منحوتة أبدع نحت..؟» رحلة ابن بطوطة، طبعة صادر في بيروت سنة 1964 ص 303.
([130])ـ Patristis Studies P. 128
([131])ـ تاريخ زكريا الفصيح ـ لوفان 1953 مج 1 ص 109.
([134])ـ تاريخ الزوقنيني ـ طبعة شابو في لوفان سنة 1953 مج 1 ص 165. ويكرر الأسماء ذاتها في ص 204.
([135])ـ تاريخ البطاركة، لابن العبري، في ترجمة فوبيوس.
([136])ـ فيه في ترجمة ثاودوطيوس.
([137])ـ تاريخ الكنيسة السريانية الأنطاكية ج 2 ص 55، وتاريخ مدينة اللّـه أنطاكية ج 1 ص 315، والطرفة النقية ج 1 ص 111، والخريدة النفيسة ج 2 ص 492، وذخيرة الأذهان للقس بطرس نصري طبعة الموصل 1905 مج 1 ص 135.
([138])ـ تاريخ الكنيسة السريانية الأنطاكية ج 2 ص 116 و 157.
([139])ـ شهداء المشرق طبعة الموصل 1906 مج 2 ص 420 عن قائمة الأعياد والتذكارات حسب الطقس الكلداني المأخوذ من كلندار قديم محفوظ في مكتبة دير مار يعقوب الحبيس بجانب سعرد. ومن كلندار آخر مدرج في أنجيل قديم العهد محفوظ في القلاية البطريركية الكلدانية في العراق.
([140])ـ مجلة النعمة الدمشقية العدد 55 كانون الثاني 1966 ص 35 و 37.
([141])ـ الكلندار الماروني المطبوع في الإشحيم في رومية سنة 1624.
([142])ـ الطقس في العرف الكنسي يطلق على شعائر الديانة.
([143])ـ مكتبة الطائفة المارونية بحلب، المخطوطة المرقمة 686 التي كتبها شمعون ابن القس هارون ابن الخوري يوحنا المعروف بابن كعبوش من قرية حدشيت من جبة بشري من جبل لبنان وذلك سنة 1853 ي ـ 1542 م.
([144])ـ الدرر النفيسة في مختصر تاريخ الكنيسة ـ البطريرك أفرام الأول برصوم ـ طبعة حمص 1940 ص523، واللؤلؤ المنثور في تاريخ العلوم والآداب السريانية ـ له. طبعة حلب 1956 ص 243، وتاريخ الكنيسة السريانية للبطريرك يعقوب الثالث طبعة بيروت 1953 جـ 1 ص 241، وقاموس أوكسفرد للكنيسة المسيحية، بالإنكليزية ص 455.
([145])ـ المكتبة المختارة لآباء مجمع نيقية ـ بالإنكليزية ت طبعة مشيغن سنة 1956 القسم الثاني مج 13 ص 134 وسيرة مار أفرام السرياني للخوري اسحق أرملة ـ بيروت 1952 ص 15 عن مخطوطة دير الشرف 7 ـ 1 الميمر الثامن من الميامر الأفرامية العربية المنقولة عن اليونانية وعنوانه «توبيخ لنفسه واعتراف».
([146])ـ الآداب السريانية لفولوس كبريال وكميل البستاني بالعربية ـ بيروت 1969 ج1 ص 128 ودائرة المعارف البريطانية ـ طبعة 11 لسنة 1910 مج 9 ص678.
([147])ـ اللؤلؤ المنثور ص 244.
([148])ـ الدرر النفيسة ص 523. وقيل أن يوليان الشيخ أحد نسّاك جبل الرها هو الذي ألبس مار أفرام الثوب الرهباني (انظر سنكسار الروم الكاثوليك ـ للمطران ميخائيل عساف الطبعة الثانية ـ حريصا ـ ص 117 من ذكرى أعياد شهر كانون الثاني. وسيرة مار أفرام للخوري اسحق أرملة ص 37).
([149])ـ التاريخ الكنسي للعلامة ابن العبري (+1286) بالسريانية طبعة بيلوس ولامي في لوفان في ثلاثة مجلدات 1872 ـ 1877 مج1 ص23 وتاريخ سورية ولبنان للمطران يوسف الدبس مج4 ج2 ص208 والخريدة النفيسة في تاريخ الكنيسة للأسقف إيسيذوروس ـ مصر 1915 ج1 ص 256 وقاموس أوكسفرد في الكنيسة المسيحية بالإنكليزية طبعة لندن 1958 ص 455.
([150])ـ تاريخ كلدو وآثور للمطران أدى شير ـ بيروت 1913 مج 2 ص 41 ـ 42 عن تأسيس المدارس تأليف برحذ بشابا عربايا أسقف حلوان طبعة أدى شير في باترولوجية كرافيل دنو في باريس 1907 ص 63 حيث يقول: «إن يعقوب النصيبيني فتح مدرسة في نصيبين سنة 325 وجعل فيها مار أفرام معلماً».
([151])ـ تاريخ مختصر الدول للعلامة ابن العبري (+1286) بالعربية طبعة الصالحاني بيروت 1958 ص 80 واللؤلؤ المنثور ص 245.
([152])ـ تاريخ الكنيسة السريانية للبطريرك يعقوب الثالث ـ ج1 ص 242.
([153])ـ المباحث الجلية للبطريرك أفرام رحماني طبعة دير الشرفة 1924 ص 151 و152 والجزء الثالث من مجموعته المطبوعة بعنوان (Studia Syriaca) ص 6 وما بعدها.
([154])ـ الطرفة النقية في تاريخ الكنيسة المسيحية ـ للخوري عيسى أسعد ـ بالعربية ـ حمص 1924 ص 143.
([155])ـ تاريخ الروم للدكتور أسد رستم ت بالعربية ـ طبعة بيروت 1955 ج1 ص152 والدرر النفيسة مج1 ص 573.
([156])ـ تاريخ كنيسة مدينة اللّـه أنطاكية ت للدكتور أسد رستم ـ بالعربية ـ طبعة بيروت 1958 ج1 ص 291 وسنكسار الروم الكاثوليك ص 119 الخاص بشهر كانون الثاني.
([157])ـ كتاب سيرة مار أفرام السرياني للمؤلف ـ الطبعة الثانية ـ دمشق 1984 ص 35و36..
([158])ـ الروم. ج1 ص162 وذخيرة الأذهان للأب بولس بيجان ـ بالعربية ـ طبعة الموصل 1901 مج1 ص 98 والدرر النفيسة مج1 ص 572 عن برحذ بشابا العربي أسقف حلوان في النصف الثاني من القرن السادس آخذاً عن التقليد الشائع.
([159])ـ الآداب السريانية لفولوس وكميل ص 130.
([160])ـ الدرر النفسية ج1 ص572.
([161])ـ سيرة مار أفرام للخوري أرملة ص 56 و57 وأديرة وادي النطرون ـ دكتور منير شكري ـ الاسكندرية 1962 ص 58 والأديرة المصرية العامرة للأب صموئيل تاوضروس السرياني ـ مصر 1968 ص 142 وتاريخ كلدو وآثور ـ للمطران أدى شير ج2 ص48.
([162])ـ الخريدة النفيسة ـ ج1 ص257 و276.
([163])ـ سيرة مار أفرام للخوري أرملة ص 54.
([164])ـ الخريدة النفيسة ج1 ص 255 وذخيرة الاذهان مج1 ص 98.
([165])ـ سيرة مار افرام للخوري أرملة ص 71 عن سيرة الآباء القديسين طبع الموصل 1: 91.
([166])ـ الآداب السريانية لفولوس وكميل ج1 ص 131.
([167])ـ اللؤلؤ المنثور ص 245 والدرر النفيسة ص 524 كما ورد ذلك في خلاصة أخبار الرها (أنظر أيضاً المكتبة الشرقية للسمعاني والآداب السريانية لروبنس دوفال ص 329 وقد ارتأى بعضهم ان الوفاة جرت في 18 حزيران 373).
([168])ـ اللؤلؤ المنثور ص 245.
([169])ـ الآداب السريانية لفولوس وكميل ج1 ص132 وسيرة مار أفرام للخوري أرملة ص 80 و81 والحروب الصليبية له ص97 ـ 107.
([170])ـ اللؤلؤ المنثور ص 245 وسيرة مار أفرام ص 80 و103 و106 و111 و115 و135.
([171])ـ نشرها الأب بولس بيجان في باريس سنة 1901.
([172])ـ المكتبة المختارة لمصنفات آباء نيقية ـ بالإنكليزية ـ القسم الثاني ج13 ص 137 ـ ويظن بعض النقاد أن الوصية ليست من وضع مار أفرام ويقول آخرون وهم أكثر إنصافاً أن بعض اجزاء الصيغة الأصلية قد شوّه بزيادات دسّها النسّاخ جهلاً.
([173])ـ سيرة مار أفرام للخوري أرملة ص 174.
([174])ـ النشرة السريانية الكاثوليكية الحلبية لسنة 1973 ص 304 و305.
([175])ـ في الخزانة الفاتيكانية مخطوط من القرن السابع تحت رقم 115 وفي برمنكهام تحت رقم 147 وخزانة بطريركية السريان الأرثوذكس في دمشق. وقد نشر الأب بولس مبارك عام 1737 و1740 شروح أسفار التكوين والقضاة وصموئيل والملوط في 567 صفحة وشروح سفر أيوب والأنبياء الكبار والصغار في 312 صفحة.
([176])ـ تولى نشر الدياطسرون منذ سنة 1893 الرهبان الأرمن في مطبعتهم الشهيرة في البندقية ـ إيطاليا. وجمع هيل وروبنصون بعض مقاطع من شروح الدياطسرون ونقلاها إلى الإنكليزية سنة 1895.
([177])ـ نقل ميزنجر سنة 1876 إلى اللاتينية النص الأرمني لشرح رسائل بولس الرسول. كما نقله الآباء الميخطاريست إلى اللاتينية في فينّا سنة 1893.
([178])ـ مكتبة لندن تحت رقم 587 مخطوط نسخ عام 876م.
([179])ـ خزانة لندن تحت رقم 781 وقد ذكرها رايت في الفهرست ص 766.
([180])ـ نشرها البطريرك أفرام الأول برصوم في صدر المجلد الأول من تاريخ الرهاوي المجهول عن مصحف باسبرينة مخطوط في القرن التاسع.
([181])ـ نشرها ميخائيل كمشكو في المجلد الثاني من البترولوجيا السريانية ص 1319 ـ 1360.
([182])ـ الآداب السريانية لفولوس وكميل ج1 ص144.
([184])ـ المصدر السابق ص 630 و621.
([186])ـ الآداب السريانية لفولوس وكميل ج1 ص143.
([187])ـ اللؤلؤ المنثور ص 251.
([188])ـ سيرة مار أفرام السرياني ـ للخوري أرملة ص 179 عن تاريخ الآداب السريانية للمونسنيور بولس السمعاني 2: 29.
([189])ـ المجلة البطريركية السريانية بالعربية ـ دير مار مرقس بالقدس ـ عام 1940 السنة السابعة العدد الأول ص 17.
([191])ـ تاريخ سورية للدبس ص 211 و212 عن تاريخ سوزومين ك3 ف16.
([192])ـ المصدر السابق عن كتاب المشاهير لهيرونيموس ف 115.
([193])ـ أخبار الشهداء والقديسين بالسريانية نشره الأب بولس بيجان عام 1893 مج 3 ص 665 ـ 679.
(1)ـ أنبا كلمة يونانية تعني الأب وتطلق خاصة على رئيس الدير، ويطلقها الأقباط على البطاركة والأٍساقفة أيضاً.
(2)ـ لم يكن في الغرب في ذلك الوقت إلا متوحدون مبتدئون في إيطاليا وفرنسا. وكانوا على صلة بالقديس أثناسيوس منذ نفيه هناك، وكتب القديس أثناسيوس الرسولي قصة القديس أنطونيوس عام 357م أي بعد وفاة الأنبا أنطونيوس بسنة واحدة على الأغلب، ونقلها جيروم وصديقه أوغريس إلى اللاتينية حوالي سنة 375م كما نقلت عبر الدهور إلى لغات عديدة، ونقلها إلى العربية، عن ترجمة إنكليزية، القس مرقس داود ونشرت في القاهرة، مصر سنة 1950.
(3)ـ الحبيس كلمة سريانية تعني ناسك حبس نفسه في صومعة تعبداً لله والجمع حبساء.
(4)ـ اللؤلؤ المنثور للبطريرك أفرام الأول برصوم طبعة بغداد 1976 ص 149.
(1)ـ بستان الرهبان لآباء الكنيسة القبطية طبعة مطرانية بني سويف عام 1968 ص 491 والدرر النفيسة في مختصر تاريخ الكنيسة للبطريرك العلامة أفرام الأول برصوم طبعة حمص عام 1940 ص 502.
(1)ـ كتاب السنكسار للكنيسة القبطية الأرثوذكسية طبعة القاهرة عام 1935 مج 1 ص 310.
(1)ـ الناؤوس ج نواويس: مقبرة النصارى، وحجر منقور تجعل فيه جثة الميت.
(1)ـ سيرته بقلم القديس أثناسيوس الترجمة العربية ص 25 و26 والخريدة النفيسة للأسقف إيسيذورس طبعة مصر سنة 1923 جزء 1 ص 196ـ 199.
(1)ـ قلاية، كلمة لاتينية Cellula أصلها منزل الراهب أي كوخه، ويراد بها أيضاً مسكن البطريرك والأسقف. ج قلالي وقلايات (اللؤلؤ المنثور في تاريخ العلوم والآداب السريانية ـ البطريرك أفرام الأول برصوم طبعة بغداد 1976 ص 501).
(2)ـ تقديس السنة المسيحية بقراءة سيرة القديسين اليومية ـ طبعة الموصل 1891 مج 1ـ ص 51.
(1)ـ الدرر النفيسة في مختصر تاريخ الكنيسة ـ البطريرك أفرام الأول برصوم ـ حمص 1940 ـ ص 502، وأديرة وادي النطرون للدكتور منير شكري طبعة الإسكندرية 1962 ـ ص105.
(2)ـ تقديس السنة المسيحية بقراءة سيرة القديسين اليومية ـ طبعة الموصل 1891 مج 1ـ ص 51.
(3)ـ مكسيمينس الثاني دايا الإمبراطور الروماني على الشرق (305ـ 318)، اضطهد المسيحيين غلبه مناوئه ليقينيوس فانتحر.
(4)ـ المعترف من يتحمل الشدة والاضطهاد من أجل تمسكه بالإيمان بالمسيح ولم يستشهد.
(5)ـ الأنبا مكاريوس الكبير: ولد سنة 301 في شبشير منوفية بمصر وكان أبوه كاهناًً ورسم هو أيضاً كاهناً متزوجاً (قساً) ولكنه لم يعاشر زوجته وعاش معها بتولاً وبعد موتها توحد في الاسقيط بناء على الهام رباني جاءه برؤيا رآها. وتتلمذ على القديس الأنبا انطونيوس الذي يدعى أبا الرهبان كافة. وأخذ عنه طريقة الرهبنة واقتدى بحياته النسكية الفاضلة وتقشفه الصارم. فألبسه الأنبا أنطونيوس الاسكيم الرهباني… وتتلمذ على الأنبا مكاريوس كثيرون واشتهر بحسن رعايته لأبنائه الرهبان. كما اشتهر بصنع المعجزات وبنى له ديرين أحدهما لا يزال باقياً إلى اليوم ويحمل اسمه هو ( دير أبي مقار ) انتقل الى جوار ربه في التسعين، ورفاته محفوظة في ديره في وادي النطرون ( ملخصة عن يستان الرهبان ص 492 و 493 ).
(1)ـ سيرته بقلم الانبا أثناسيوس ص 111و112.
(2)ـ القديس انطونيوس ناسك انجيلي ـ الأب متى المسكين ـ من منشورات بيت التكريس بحلوان عام 1968 ص 51.
(1)ـ نقلا عن حياة الأنبا أنطونيوس القديس أثناسيوس الرسولي، والقديس انطونيوس ناسك انجيلي الأب متى المسكين وبستان الرهبان لأباء الكنيسة القبطية طبعة مطرانية بني سويف. وسيرة القديس العظيم الانبا انطونيوس طبعة مكنبة كنيسة مار مينا في الاسكندرية. الاقوال مترجمة عن ( الفيلو كاليا).
(1)ـ نقلها الى العربية الرهب الياس بهنام أحد رهبان دير مار متى، ونشرها في الموصل عام 1938م فوقعت في احدى وخمسين صفحة من الحجم الصغير.
(2)ـ «دفقات الطيب في تاريخ دير مار متى العجيب» للبطريرك يعقوب الثالث، طبعة زحلة عام 1961، ص3، و«سيرة أشهر شهداء المشرق»، بالعربية طبع الموصل سنة1900، مج1، ص305.
(5)ـ المجلد الثاني من «أعمال الشهداء والقديسين» بالسرياني. انظر أيضاً الكتاب «سيرة أشهر شهداء المشرق القديسين» بالعربي، طبعة الموصل عام 1900، مج1، ص 291- 306.
(1)ـ «تقويم الكنيسة السريانية الأرثوذكسية» للمؤلف – الموصل 1964م.
(2)ـ «تاريخ الرهاوي المجهول» 1: 156
يقع جبل مقلوب على بعد 35كم من شمال شرقي مدينة الموصل في العراق ويبلغ ارتفاعه 3400 قدما عن سطح البحر، ويسمى بجبل الألفاف لتنسك الرهبان في كهوفه، ويدعى أيضا بجبل مقلوب لشكل صخوره المنحدرة الى أسفل بنتوءات حادة قاسية وهو صعب المرتقى.
(1)ـ كانت المملكة الفارسية في القرن الرابع للميلاد مقسمة الى عدة امارات أو ولايات، على رأس كل منها عامل بقيمه، «ملك الملوك» الفارسي ويسمى «ملكاً» وكانت أثور احدى هذه الولايات، وقاعدتها نمرود. وفي النصف الثاني من القرن الرابع كان عامل شابور الثاني ( 309- 379) على هذة الولاية الحاكم أو الملك سنحاريب ( تاريخ الرهاوي المجهول، مج 1، ص257)
(1)ـ ذكر الرهاوي في تاريخه (1: 156، 157) استشهاد مار بهنام وسارة أخته بيد أبيهما سنحاريب ملك أثور في أواسط القرن الرابع لعهد يوليانس، لأن سنحاريب ينحدر من سلالة داريوس معاصر اسكندر ذي القرنين.
(1)ـ من أهم آثار القرن الرابع الشاخصة الى يومنا هذا والتي كان الوالي سنحريب قد شيدها في ير مار متى وهي:
1 – طريق الطبكي (أي المرتقى ) الذي يبرهن على هندسة بديعة.
2 – صهاريج الماء التي صنعت لجمع مياه الامطار لشرب سكان الدير وما تزال مستعملة حتى الآن.
3 – قلالي النسك العديدة، ومن أهمها قلاية القديس مار متى وهي تطل على الجنينة وطريق الطبكي. وفيها مذبح خاص منقور بالصخر كان القديس مار متى يقوم بالذبيحة الالهية عليه. وقلاية مار زكى ومار إبراهيم ومار اسحق، الخ..
4 – أجزاء من السور القديم وما تزال شاخصة هنا وهناك تشهد بمتانة البناء عصرئذ.
5 – قبة المذبح وهي تشكل مربعاً متقاطعاً شيدت بطريقة فنية بحسب ريازة ذلك العصر ويبلغ ارتفاعها عشرة أمتار.
6 – قبة بيت القديسين وهي مشابهة لقبة المذبح.
7 – مدفن الآباء الخارجي الذي كان قديماً داخل الدير وهي مغارة صخرية كبيرة.
(1)ـ «تقديس السنة المسيحية بقراءة سير القديسين»، طبعة الموصل عام 1891، مج2، ص777، و «أشهر شهداء الشرق»، مج1، ص304.
(2)ـ «التاريخ الكنسي» لابن العبري، مج3، ص329.
(1)ـ الؤلؤ المنثور للبطريرك أفرام الأول برصوم طبعة بغداد ص 149 وللقصة بالسريانية نسخ عديدة أهمها مخطوطة دير الزعفران رقم 117.
(2)ـ كتاب القديس أنبا موسى الأسود طبعة مدارس الأحد لكنيسة السيدة العذراء بمحرم بك – مصر عام 1967 ص 17 وقد ذكر مكسيموس مظلوم في كتاب الكنز الثمين في أخبار القديسين أنه ولد حوالي سنة 340م وقال غيره بل عام 239م.
(3)ـ ذكر بعض المؤرخين أن الأنبا موسى كان حبشياً وقال غيرهم أنه كان من اهل النوبة والحقيقة أن لون بشرته كان أسود فظن بأنه حبشي. ومما يؤيد أنه لم يذكر اسمه في مجمع التسبحة أو القداس الإلهي وحتى في القراءات الكنسية الأخرى. أما سبب هذا الإلتباس فهو ان بعضهم قد خلطوا بين الشعوب المنتمية الى العرق الأسود فقد وردت في بعض ترجمات الكتاب المقدس عن الوزير الذي عمده الشماس فيليبس بأنه حبشي ووزير قنداقة ملكة الحبشة (أع 8: 27) والحقيقة أنها كانت ملكة سبأ أي اليمن التي عرفت بالتاريخ باسم بلاد الحميريين، كما يذكر ذلك مار أفرام في ميمره (الجوهرة) ومار يعقوب الرهاوي في رسالته الى يوحنا الاتابي، وابن الصليبي في مقدمة الفصول العشرة. من هنا نستنتج أن موسى الاسود ولئن دعي أحياناً حبشياً فهو قد يكون مصرياً من أحدى قبائل البربر ولسواد لون بشرته ظن بأنه حبشي.
(1)ـ أديرة وادي النطرون – دكتور منير شكري عام 1962 ص 73.
(2)ـ مخطوطة المتحف القبطي رقم 496.
(3)ـ الأنبا مقار المصري المعروف أيضاً بمكاريوس ولد مسيحياً حوالي سنة 301م انضم الى رهبان وادي النطرون تحت قيادة الأنبا امون حوالي 230 وقد أمضى فترةً كافية من الزمن في هذا الوادي أقام أثناءها للرهبان الذين التفوا حوله ديراً عرف باسم دير أبي مقار بلغ عدد الرهبان الذين انضموا اليه فيه نحو 1500 راهب.. ثم انتقل الى المنطقة المرتفعة الواقعة شمال شرقي هذا الوادي والتي لم تكن معروفة بأي اسم الى ذلك الحين ثم عرفت بعدئذ باسم شيهات أو برية الأسقيط من عبارة معناها الناسك وتبعه الى هناك بعض الرهبان الذين أقاموا قلالي شيدوها بأنفسهم. وكانوا يحصلون على ما يلزمهم من الماء من موارد تقع على مسافات بعيدة. وقد اشتغل الرهبان في أوقات فراغهم بصنع السلال ليضمنوا ببيعها قوتهم الضروري وكان جل وقتهم مشغولا بالعبادة…
وكان الأنبا مقار قد تتلمذ على الأنبا أنطونيوس الكبير الذي ألبسه اسكيم الرهبنة كما أنه رسم قساً حوالي سنة 340م ليقوم بتأدية الخدمة الكنسية وتقديم الأسرار المقدسة لجماعة رهبانه الذين التفوا حوله في برية شيهات(بوادي النطرون) فأقام لهم ديراً عرف أولاً باسم مكسيموس ودوماريدس وهما ابنا الامبراطور خالتس المسيحي ( 364- 378م) ثم أطلق عليه فيما بعد (دير البراموس) وقد بلغ عدد رهبان هذا الدير في وقت ما 1500 راهب وأما كلمة براموس هذه مشتقة من اللفظ القبطي (باروميوس).
وقد اتخذ الأنبا مقار الكبير أربعة مساكن مختلفة في الصحراء كان ينتقل بينها أحدها في منطقة شيهات الداخلية وآخر في جهة تدعى ليبوس وثالث بمنطقة القلالي ورابع على جبل نيتريا وكان بعضها لا يحتوي على أي منافذ كما كان أحدها من الضيق بحيث لا يتسع لمد رجله داخله. وكان أحدها معدّاً لمقابلة زواره ومريديه.
ففي سنة 357م سافر الى جزيرة فيلا باسوان فبشر أهلها بالمسيحية فاعتنقوها يتأثير المعجزات التي أجراها اللّـه على يديه. ثم صدرت الأوامر بعودة القديس الى مقره في برية شبهات حيث استأنف عمله في ارشاد وتثبيت رهبانه وتدبير شوؤنهم.
وكتب رسائل لاهوتية دحض فيها مزاعم الفلاسفة الوئنيين نقلت الى الفرنسية وطبعت في باريس.
وقد تنيح بسلام في حوالي سنة 391 وقد بلغ من العمر تسعين سنة.
(1)ـ مخطوط المتحف القبطي رقم 496.
(1)ـ كتاب القديس الأنبا موسى الأسود – مدارس أحد كنيسة السيدة العذراء ص 10.
(1)ـ بستان الرهبان لأباء الكنيسة القبطية بالعربية طبعة مطرانية بني سويف عام 1968م ص 64.
(1)ـ الخريدة النفيسة في تاريخ الكنيسة لايسيذوروس. طبعة مصر 1923 مج 1 ص 569.
(1)ـ بستان الرهبان ص 68 وبلاديوس ص 122.
(1)ـ بستان الرهبان ص 68 وجاء في الحاشية ما يأتي: روت المخطوطة 357 طقس بالمتحف القبطي في القاهرة «أن هذا الأخ الذي هرب واختفى، أبصر ملاك الرب والأكاليل بيده وللوقت خرج مسرعاً أمام البربر فقتلوه ونال أكليل المجد من يد الملاك».
(2)ـ كتاب القديس موسى الأسود مكتبة كنيسة العذراء بمحرم بك ص 65 عن مخطوطة قبطية باللهجة الصعيدية بكتاب le manuserite de le verrion copte ومخطوطة بالمتحف القبطي بالقاهرة رقم 357 طقس.
(1)ـ عن بستان الرهبان ص 69 و71.
(1)ـ الخريدة النفيسة – الأسقف ايسيذوروس – مصر مج1 ص 566.
(2)ـ تاريخ الأبرشيات السريانية للبطريرك العلامة أفرام الأول برصوم – المجلة البطريركية السريانية السنة الخامسة عام 1938 ص 145 والسنة السادسة عام 1939 ص 137 – 139 وأوراق متناثرة مخطوطة بالعربية له أيضاً. واللؤلؤ المنثور له طبعة بغداد 1976 ص 515.
(1)ـ نشر القصة بالسريانية المستشرق يوسف لامي في بروكسل سنة 1891 عن أربع نسخ مخطوطة ناسباً إياها لمار أفرام (طالع أيضاً يوسف شمعون السمعاني مج1 من المكتبة الشرقية ص 396 وذخيرة الأذهان لبطرس نصري مج1 ص 97. واللؤلؤ المنثور للبطريرك أفرام الأول برصوم طبعة بغداد 1976 ص 140 و 147).
(3)ـ مخطوطة المكتبة الوطنية في باريس تحت رقم 234 خطت في القرن الثالث عشر ونسبت إلى مار أفرام طبعها الأب بولس بيجان في أخبار الشهداء والقديسين مج 6 ص 465 و 499 بنصها السرياني.
(4)ـ سيرة أشهر شهداء المشرق ـ بالعربية، طبعة الموصل 1906 مج2 المقدمة ص 2.
(1)ـ سيرة مار أفرام السرياني للمؤلف طبعة بغداد 1947 ص 29 واللؤلؤ المنثور ص 200 والمكتبة الشرقية للسمعاني مج1 ص 369.
(2)ـ الدرر النفيسة في مختصر تاريخ الكنيسة للبطريرك أفرام الأول برصوم طبعة حمص 1940 مج1 ص 540.
(3)ـ قيدون قرية كبيرة مجاورة لمدينة الرها.
(4)ـ سيرة أشهر شهداء المشرق: بالعربية طبعة الموصل 1906 مج 2 ص 58 ـ 72 وكلدو آثور بالعربية 1913 مج 2 ص 32. وتاريخ الرهاوي المجهول في السمعاني مج 1 396.
(5)ـ قلاية كلمة لاتينية (Cellula) تعني مخدع، أو حجرة الراهب أو منزله.
(1)ـ كتاب الإيثيقون بالسريانية للمفريان مار غريغوريوس ابن العبري (ت 1286) المقالة الثالثة الباب الرابع الفصل السابع.
(1)ـ تقديس السنة المسيحية بقراءة قصص القديسين اليومية ـ طبعة الموصل عام 1891 مح1 ص 252.
(1)ـ جاء في سفر التثنية: « لا تدخل أجرة زانية ولا ثمن كلب إلى بيت الرب إلهك عن نذر ما لأنهما كليهما رجس لدى الرب إلهك. »
(1)ـ كنيسة مدينة اللّـه أنطاكية ـ للدكتور أسد رستم. ج1 ص 289 عن Martin P.Zeit fur katolisch Theorogle 1880, 426 – 437.
(1)ـ مرقاة وبالسريانية (سيبلتو) وهي نوع من المنظومات السريانية الملحنة.
(2)ـ فنقيث: مجلد، المجموع العام، وهو اسم أحد كتب الفرض إلى الصلاة على الإطلاق (اللؤلؤ المنثور ص 501).
(3)ـ طور عبدين: جبل متصل بجبل الأزل المشرق على نصيبين، وكورة كثير الأديار والصوامع قصبتها بلدة مذيات، مكتظة بنيف وخمسين قرية وضيعة ثلثا أهلها مسيحيون سريانيون والبقية مسلمون يزيديون (اللؤلؤ المنثور ص 517).
(4)ـ الاسكيم: كلمة يونانية تعني ثوب الراهب أو ما جعل منه على الرأس.
(1)ـ كانت بلدة ميرا عاصمة إقليم ليكيا في آسيا الصغرى، مر بها الرسول بولس وهو في طريقه إلى مقدونيا واليونان، وتسمى اليوم كوجاك في جنوب تركيا.
(2)ـ إن القصة السريانية التي تنفرد في ذكر هذه الحادثة لم تذكر اسم هذا الدير ولا موقعه بالضبط.
(1)ـ السنكسار القبطي ـ طبعة القاهرة عام 1951 ـ جـ 2 ـ ص 95.
(2)ـ 15 من شهر برمودة القبطي يوافق 10 من شهر نيسان السرياني.
(1)ـ وكان موقع هذه الكنيسة ظاهر ثغر الإسكندرية قرب الكنيسة المعروفة بكنيسة القديس شنودة شرقي الثغر المذكور.
(1) ـ عن بستان الرهبان لآباء الكنيسة القبطية طبعة مطرانية بني سويف عام 1968 ص 467 و 468.
(1)ـ مدينة كبيرة تقع شمال شرقي حلب ـ سورية، وهي اليوم بلدة صغيرة.
(1)ـ وهو الكتاب الموسوم أيضاً بـ «طريق الكمال».
(2)ـ اللؤلؤ المنثور في تاريخ العلوم والآداب السريانية للبطريرك أفرام الأول برصوم ـ الطبعة الثالثة ـ بغداد 1976 ص 226.
(1)ـ ثبت هذه المؤلفات في كتاب اللؤلؤ المنثور ص 227ـ 233.
([283])ـ تاريخ الآداب السريانية لأنطون بومشترك طبعة بون 1922 ص 254 واللؤلؤ المنثور في تاريخ العلوم والآداب السريانية للبطريرك أفرام الأول برصوم طبعة حلب 1956 ص 381.
([284])ـ تاريخ مختصر الدول (للعلامة المفريان مار غريغوريوس يوحنا المعروف بابن العبري) طبعة بيروت سنة 1958 ص 31.
([285])ـ اللؤلؤ المنثور ص 209.
([286])ـ ترجمة الفيلسوف السرياني الشهير مار يعقوب الرهاوي بقلم مراد فؤاد جقي ـ القدس سنة 1929 ص 5.
([287])ـ تاريخ الآداب السريانية لرايت ص 143 ودائرة المعارف البريطانية طبعة 1911 مج 15 ص 113و114 وتاريخ الأدب السرياني من نشأته إلى العصر الحاضر للدكاتره مراد كامل ومحمد حمدي البكري وزكية محمد سري ـ القاهرة 1974 ص 263 واللؤلؤ المنثور ص 381.
([288])ـ عصر السريان الذهبي بقلم الفيكنت فيليب دي طرازي ـ بيروت 1946 ص 65و66.
([289])ـ ترجمة الفيلسوف السرياني ص 1و5.
([290])ـ فجر الإسلام تأليف أحمد أمين ـ مصر ـ الطبعة الثامنة 1961 ص 132.
([291])ـ لفظة قنسرين سريانية تعني قن النسور، ودير قنسرين هذا أسسه سنة 530م يوحنا أبن أفتونيا (+539) على شاطئ الفرات مقابل بلدة جرابلس وصار طوال خمسة قرون موئل العلم ومحج العلماء السريان وخرب في القرن الثالث عشر.
([292])ـ اللؤلؤ المنثور ص 365.
([293])ـ تاريخ البطاركة لابن العبري، بالسريانية في ترجمة البطريرك أثناسيوس البلدي. والمكتبة الشرقية للسمعاني مج2 ص336 وتاريخ سورية للمطران يوسف الدبس طبعة بيروت 1899 مج5 ص78.
([294])ـ تاريخ الأدب السرياني من نشأته إلى العصر الحاضر ص265 عن رايت ص17، 143 ودوفال ص367.
([295])ـ اللؤلؤ المنثور ص366 وترجمة الفيلسوف السرياني ص4.
([296])ـ تاريخ الآداب السريانية: بومشترك ص254.
([297])ـ نقل جماعة من اليهود المتنصرين أسفار الكتاب المقدس إلى السريانية في القرن الأول أو صدر المئة الثانية للميلاد على الأرجح، وسميت تلك الترجمة (فشيطتا) أي البسيطة لترك البلاغة في نقلها (انظر اللؤلؤ المنثور ص57و58).
([298])ـ لم يصل إلينا من هذه الترجمة المنقحة سوى مخطوطتين في المكتبة الوطنية في باريس تتضمنان أسفار موسى الخمسة ونبوءة دانيال. ومخطوطتين أخريين في المتحف البريطاني تشتملان على سفري صموئيل الأول والثاني وبدء سفر الملوك ونبوءة اشعيا، نسختا سنة 719ـ720 أي بعد وفاة مار يعقوب بنحو عشر سنوات.
([299])ـ نسخة في مكتبة دير مار مرقس بالقدس رقم 41 ونسخة أخرى في مكتبة دير الزعفران بماردين.
([300])ـ في مكتبة الفاتيكان نسخة من هذه التفاسير تحتوي على أسفار موسى الخمسة وسفر أيوب ويشوع والقضاة، وقد نشر المستشرقون فيلبس ورايت وشروتر ونستله بعض هذه التفاسير نقلاً عما جاء في مخطوطات المتحف البريطاني.
([301])ـ الكنز الثمين في صناعة شعر السريان وتراجم شعرائهم المشهورين تأليف القس جبرائيل القرداحي طبعة روما ص17و18 واصدق ما كان عن تاريخ لبنان وصفحة من أخبار السريان بقلم الفيكنت فيليب دي طرازي ـ بيروت 1948 مج1 ص168.
([302])ـ بلغ عددها مئة وخمساً وعشرين خطبة منها نسخة في المتحف البريطاني برقم 12159 كتبت سنة 868م. ونسخة في مكتبة الفاتيكان (انظر السمعاني ج1 ص494 وفهرست رايت ص534) وبعض هذه الخطب في خزانة دير الزعفران بماردين وخزانة بطريركية السريان في دمشق. وقد نشر منها احدى وخمسون خطبة منقولة إلى الفرنسية في ثلاثة مجلدات. ونشر البطريرك أفرام رحماني خطبتين منها في الدروس السريانية.
([303])ـ ترجمة الفيلسوف السرياني ص16.
([305])ـ له نسخة قديمة كتبت عام 822 لثاودوسيوس مطران الرها وكانت لمكتبة دير مار متى ثم صارت لخزانة امد الكلدانية فبطريركية الكلدان بالموصل عدد 54، ونسخة في (ليدن) خطت عام 1183 عدد 66. طبعة شابو وراشالد عام 1932 عن مصحف ليون عدد 2 المنقول سنة 839 وجدد شابو طبعه ضمن جمهرة لوفان سنة 1953.
([306])ـ مخطوطة منه في مكتبة المتحف البريطاني تحت رقم 12154 (انظر اللؤلؤ المنثور ص371).
([307])ـ مخطوطة منه في مكتبة فلورنسة برقم209والمكتبة الوطنية في باريس برقم 248(انظر الكنز الثمين ص18).
([308])ـ مكتبة المتحف البريطاني برقم 14685 وقد نشر بروكس هذه الوريقات منقولة إلى اللاتينية سنة 1903 (انظر اللؤلؤ المنثور ص371ـ372 وترجمة الفيلسوف السرياني ص12و13).
([310])ـ نسخة منها مكتوبة على الرق في مجلدين، محفوظة في مكتبة دير الزعفران في ماردين تحت رقم 20و21 ويرجح أنها بخط يده لأنها تنتهي بقوانينه واجوبته على اسئلة معاصريه. ونسخة أخرى في مكتبة دير مار مرقس بالقدس.
([311])ـ نسخة قديمة مخطوطة عام 1204 تتضمن قوانينه هذه محفوظة في دار البطريركية السريانية في دمشق. ونسخة دير الزعفران المذكورة في الحاشية السابقة، ولعلها النسخة الأصلية ولا يعرف تاريخها ولا ناسخها. وقد نشر بول دي لاكارد فتاوى مار يعقوب نقلاً عن مخطوطة باريس، وطبعها أيضاً كايزر منقولة إلى الألمانية عام 1886، ليبسك مستنداً إلى مخطوطتي باريس برقم 62و111 والى ثلاث مخطوطات أخرى في مكتبة المتحف البريطاني (انظر أيضاً ترجمة الفيلسوف السرياني ص12و17).
([313])ـ ليتورجية: لفظة يونانية تعني الخدمة الجمهورية، وهي مجموع صلوات القداس. واول ليتورجية في المسيحية تنسب إلى مار يعقوب أخي الرب وقد كتبها بالسريانية.
([314])ـ نسخة منها في مكتبة المتحف البريطاني برقم14691.
([315])ـ ترجمها رينو دوسيوس إلى اللاتينية واثبت ترجمتها في كتابه الليتورجيات الشرقية ج2 ص371.
([316])ـ بقي من مخطوطاته القديمة أوراق يسيرة محفوظة في دار الأثار بدمشق هي بقية نسخة كتبت في حدود القرن الثامن. كما أن هناك نسخة مخرومة في كنيسة السريان الرهاويين في حلب كتبت في القرن الرابع عشر ونسخة في خزانة باريس كتبت في القرن الخامس عشر (انظر أيضاً اللؤلؤ المنثور ص73و74و369).
([317])ـ نسخة منه في مكتبة دير مار مرقس في القدس برقم 120.
([318])ـ مفردها حساية لفظة سريانية معناها استغفار وهي صلاة منثورة مسهبة.
([319])ـ المكتبة الشرقية للسمعاني 487:1.
([320])ـ ذكرها ابن الصليبي (+1171) في شرح رتبة القداس، واثبتها السمعاني برمتها في الجزء الأول من المكتبة الشرقية ص479ـ486.
([321])ـ واحدها معنيث: لفظة سريانية معناها أغنية وهي نشيد منثور يجري على ثمانية الحان.
([322])ـ نسخة منها في مكتبة دير مار مرقس في القدس برقم 60 استكتبها يوسف قسيس طابان لابنه الشماس صليبا سنة 1210م ويذكر البطريرك أفرام الأول برصوم أن نسخة القدس التي وصلت إلينا ربما تكون بخط مار يعقوب نفسه انجزها سنة 675 (انظر اللؤلؤ المنثور ص370).
([323])ـ نشر له القس جبرائيل القرداحي ابياتاً مختارة، من قصيدة بديعة، وقال إنها القصيدة الوحيدة التي رويت ليعقوب الرهاوي (انظر الكنز الثمين للقرداحي ص18).
([324])ـ ميامر ومفردها ميمر وهو قصيدة سريانية. تطلق أيضاً على المقالة أو الخطبة.
([325])ـ مداريش واحدها مدراش، وهو شعر يصاغ على أوزان مختلفة ويرتل بالحان شتى.
([326])ـ كتاب المناهج في النحو والمعاني عند السريان لمؤلفه القس جبرائيل القرداحي الطبعة الثانية ـ رومة سنة 1906 صفحة ي و يا.
([327])ـ تاريخ سورية للدبس مج5 ص80.
([328])ـ الكنز الثمين للقرداحي ص18.
([329])ـ قال الأستاذ أحمد حسن الزيات في كتابه (الأدب العربي) الطبعة الخامسة ـ مصر سنة 1930 ص154 ما يلي :«والغالب على ظننا أن ابا الأسود لم يضع النحو والنقط من ذات نفسه وإنشائه وانما نظن أنه ألمّ بالسريانية ـ وقد وضع نحوها قبل نحو العربية ـ أو اتصل بقساوستها واحبارها فساعده ذلك على وضع ما وضع».
([330])ـ مكتبة المتحف البريطاني برقم 17217 Add.
([331])ـ اللؤلؤ المنثور ص363ـ382.
([332])ـ فهرس المخطوطات السريانية في المتحف البريطاني ج3 ص1168ـ1172.
([333])ـ نسخة منها في دار البطريركية السريانية الأرثوذكسية في دمشق.
([334])ـ اللمعة الشهية في نحو اللغة السريانية للمطران يوسف داود طبعة الموصل 1896 مج1 ص168.
([335])ـ تاريخ الأدب السرياني ص274 واللمعة الشهية ص166.
([336])ـ في القرن السابع عشر اراد أحد علماء الموارنة برومية أن يحيي طريقة يعقوب الرهاوي هذه بأسلوب أخر أي أن تكون علامات الحركات أحرف العلة الثلاثة مكتوباً كل منها إلى جانب الحرف المحرك به في صف حروف الكلمة. وطبع زبور داود بهذه الطريقة، ولكن هذا الأختراع أيضاً لم يعش بعد ذلك العهد (انظر اللمعة الشهية مج1 ص 127ـ128).
([337])ـ تاريخ الأدب السرياني من نشأته إلى العصر الحاضر ص274 الحاشية ـ عن كتاب وايزمن الموسوم Harae Syriacae.
([338])ـ المتحف البريطاني مخطوطة برقم 17134 ورقة ب انظر فهرست رايت ص337 ع 20.
([339])ـ اللمعة الشهية ص167و170.
([340])ـ وضع ابن العبري كتاباً اسمه (صمحي) الأضواء جعله اربعة أبواب على طريقتي السريان الغربيين والشرقيين فجاء «أجود مصنف في النحو السرياني وادقه واكفاه». اقدم نسخة منه في مكتبة المتحف البريطاني برقم 3335 خطت سنة 1332. كما نظم ابن العبري أيضاً أبواب النحو في أرجوزة بالبحر السباعي وعلق عليها هوامش بالسريانية ما لم يتسع له النظم (انظر اللؤلؤ المنثور ص43).
([341])ـ اللمعة الشهية مج1 ص25.
([342])ـ اللؤلؤ المنثور ص374 عن كتاب (صمحي) لابن العبري مقالة 4 باب1 ف 2.
([343])ـ نسخة منها في الخزانة البطريركية السريانية الأرثوذكسية في دمشق وقد نشرها فيلبس ثم مارتن سنة 1869 (انظر اللؤلؤ المنثور ص374 وتاريخ الأدب السرياني ص273 والسمعاني ص477 ورقم60 وص478 ورقم8 ورايت ص151).
([344])ـ قرية مندثرة كانت في جنوبي حمص.
([345])ـ أسس سنة 530 على شاطئ الفرات مقابل بلدة جرابلس وخرب في القرن الثالث عشر.
([346])ـ تقع في شمال شرقي حلب. كانت مدينة كبيرة، أما اليوم فهي بلدة صغيرة.
([347])ـ تقع غربي دجلة بين بغداد والموصل. كانت في الماضي مقراً لكرسي مفارنة المشرق لمدة ستة قرون تقريباً.
([348])ـ بلدة بقرب ملطية، خربت بعد القرن الثالث عشر.
([349])ـ مفردها ميمر، وهو قصيدة سريانية. وتطلق أيضاً على المقالة أو الخطبة.
([350])ـ واحدها مدراش، وهو شعر يصاغ على أوزان مختلفة ويرتل بألحان شتى.
([351])ـ وضع العلامة مار غريغوريوس يوحنا ابن العبري (1286+) مجلّدين في التاريخ الكنسي، ينطوي المجلد الاول على تاريخ بطاركة أنطاكية من عهد الرسول بطرس وحتى سنة 1285م. وكلمة بطاركة جمع لبطريرك وهذه لفظة يونانية تعني رئيس الآباء وهو في الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، رئيس الكنيسة الأعلى في العالم أجمع… أما المجلد الثاني فينطوي على تاريخ جثالقة المشرق الملقبين بالمفارنة من أيام الرسول توما وينتهي بترجمة ابن العبري نفسه إلى سنة وفاته. وكلمة مفارنة جمع لمفريان وهذه لفظة سريانية تعني المثمر وهو اسم لصاحب رتبة كنسية خاصة بالكنيسة السريانية مرادفة للجاثليق فهو دون البطريرك وفوق الأسقف وكان كرسيه في تكريت ثم نقل إلى دير مار متى فالموصل ـ وللكتاب نسخ قديمة في مكتبات الفاتيكان واكسفورد، والقدس، وغيرها. نشره المستشرقان ابلوس ولامي، منقولاً إلى اللاتينية سنة 1877 ـ 1879.
([352])ـ بلدة قريبة للرقة اسمها اليوم تل المناخير.
([353])ـ أنشئ هذا الدير في اوائل القرن السادس على شاطئ الفرات مقابل بلدة جرابلس واشتهر بالعلماء الذين تخرجوا فيه واندثر في القرن الثالث عشر للميلاد.
([354])ـ انظر اللؤلؤ المنثور في تاريخ العلوم والآداب السريانية للعلامة البطريرك أفرام الاول برصوم (1957+) الطبعة الثالثة، بغداد 1976 الصفحات 320 و321 و339.
([355])ـ في خزانتنا البطريركية في دمشق نسخة سريانية من الإثني عشر قانوناً التي سنّها في مجمع الرقة (انظر المصدر السابق ص 340).
([356])ـ نسبة إلى دير الجب الخارجي الذي كان يقع في برية الفرات بين حلب ومنبج وقد اندثر.
([357])ـ نسبة إلى بلدة قورس ولعلها تقع قرب منبج.
([358])ـ كان المحتفل بالقداس بحسب الطقس السرياني القديم يقول عند كسر القربان «لنكسر الخبز السماوي» وفي عهد البطريرك جورجي (790+) حدث خلاف في الكنيسة بسبب ذلك. فحذفت العبارة، واحتدم الجدال على ذلك. وقد كتب البطريرك جورجي رسالة ضافية أنفذها إلى كوريا شماس (بيت نعر) بهذا الخصوص. وعقد البطريرك قرياقس (817+) مجمعاً في بيت جبرين سنة 808م وحرم الجبّيين المنفصلين عن الكنيسة لرفضهم العبارة المذكورة أعلاه.
([359])ـ عقد العلامة البطريرك أفرام برصوم (1957+) فصلاً في موضوع انتخاب مار ديونيسيوس التلمحري بطريركاً. وأثبت جدول الآباء الذين وقّعوا محضر جلسة انتخابه، ونشر ذلك في مجلته البطريركية القدسية (السنة السادسة 1939 ص 213 ـ 219) ومما قاله: «وقد عدّ العلامة ابن العبري آباء المجمع المقدس خمسة وأربعين نقلاً عن ميخائيل الكبير. ولا عبرة بما ورد في جدول الأساقفة في تاريخه حيث جاء فيه أن عددهم كان ثلاثة وأربعين فإن ذلك من سهو النساخ. أما نسختنا القديمة العهد المكتوبة بنحو