كاهن اللّـه البار
المرحوم الخوري موسى توما حكيم
كنت قد سمعت عنه الكثير، يوم كان كاهناً يرعى خراف المسيح في البصرة رعاية صالحة. ويدبّر كنيسة مار أدّى البشير بخوف اللّه. ولقيته في الموصل حيث مكث فيها وعائلته من 6/5/1949 وحتى 8/7/1949، قام خلالها، مرات عديدة، بزيارة معهد مار أفرام الكهنوتي حيث كنت أدرس. واستمعت إليه يعظ بلغة عربية سهلة وسلسة، وأذكر أنه لم يكن يلفظ الشَّدة في كلامه كالعديد من السريان القدامى القادمين من طورعبدين، الناطقين بالسريانية (حسب لهجة طورعبدين). واستمعت إليه وهو يحتفل بالقداس الإلهي، وخلتني في السماء وأنا أصغي باهتمام إلى صوته العذب ينشد القداس ويلفظ الكلمات بوضوح، وإنني لم أسمع أبداً كصوته الملائكي الرخيم وإجادته للألحان البيعية، فتراه خاشعاً أمام مذبح الرب جاثياً أو منتصباً بقامته الفارعة، رافعاً نظره نحو السماء، وتخال كأن هالة من نور قد عكست أشعة علوية على جبينه العالي ووجنتيه الورديتين، فامتزج النور بالنار، وقد بسط كاهن اللّـه العلي يديه، ساكباً ذاته أمام اللّـه، بصلاة حارة، فتتمنى أن لا ينتهي من صلاته، وتقول في قرارة نفسك قول الرسول بطرس على جبل التجلي «جيد أن نكون ههنا» (مر 9: 5).
وودّعنا الأب موسى وأفراد عائلته في محطة السكك الحديدة في الموصل صباح يوم الجمعة 8/7/1949 حيث أخذوا القطار السريع إلى حلب، ومنها سافروا إلى بيروت، ثم ركبوا البحر إلى البرازيل، هناك التقيته ثانية بعد تسع سنوات من لقائنا الأول. ومكثت معه ثلاثة أشهر فعرفت منه وعنه أموراً مهمة كوّنت شخصيته الروحية المحبوبة، فأحببته محبة يوناثان لداود، وكنت ولا أزال أعتبره المثال الصالح للكاهن الناجح الذي يخدم كنيسة اللّـه بإخلاص وتفان ونكران للذات، وكنت ولا أزال أُجل ذكراه، وأُجل كل كاهن يخدم اللّـه وأبناء اللّـه مثل المرحوم الخوري موسى توما حكيم.
حياته:
ولد موسى حكيم في 15/6/1898م في بلدة (مِدّو) بكسر الميم ورفع الدال التي تسمّى بالسريانية (ميدون) وهي قرية تابعة لقضاء مذيات في طورعبدين ـ تركيا، جميع سكانها من السريان الأرثوذكس، مناخها معتدل جميل، وغلاتها وافرة.
اسم والده توما واسم جده رشيد وأعمامه مراد وأفرام وابراهيم وكانوا جميعهم أطباء شعبيين. وكان للأب موسى أيضاً معرفة واسعة وخبرة جيدة في علم الطب الشعبي، ولكنه لم يمارس المهنة، وفضّل عليها خدمة النفوس فصار طبيباً روحياً أي كاهناً.
ولاشتغال أفراد الأسرة «بالطب الشعبي» أطلق عليها اسم «حكيم» وكانت تسمى قبل ذلك بـ (شَرْبَتْ) فتح الشين والباء. وهي منحدرة من الرها (أوزما أو إديسا) وجاء مدو قبل خمسة قرون كما ذكر لنا صاحب الترجمة.
درس في مدرسة قريته مبادئ العلوم الدينية واللغة السريانية ورسمه مار يوليوس بهنام عقراوي مطران جزيرة قردو (جزيرة ابن عمر) شماساً مرتلاً صباح عيد الشعانين المصادف 26/3/1908 وذلك في مدّو. كما رسمه مار أثناسيوس أفرام سعيد أسقف دير مار كبرئيل شماساً قارئاً صباح الأحد الجديد المصادف 25/4/1910 وذلك في دير مار كبرئيل. وسنة 1911 عيّن معلماً للأطفال في مدرسة كنيسة عينورد شرقي ماردين ومذيات فمكث هناك يعلّم حتى سنة 1915 وفي الوقت ذاته تتلمذ على المطران مار فيلكسينوس عبدالأحد الذي اشتهر بنسكه وزهده وفضيلته، ورسمه هذا شماساً أفدياقوناً في عيد العنصرة المصادف لـ 13/5/1912 وعنه أخذ المترجم إجادة الطقوس البيعية، والتمسّك بالقوانين الكنسية. وهكذا بقي يتردد على دير مار كبرئيل حتى الأول من حزيران سنة 1920 حيث ترك طورعبدين وجاء إلى الموصل فوصل إليها في 16/6/1920 وانضمّ إلى شمامسة دير مار متى فترة من الزمن، ورسمه مار أثناسيوس توما قصير مطران الموصل وتوابعها شماساً إنجيلياً يوم الأحد 31/7/1922 وذلك في دير مار متى، وهناك درس اللغة العبرية والعلوم المدنية والدينية، وبعد مدة ترك الدير، وعمل في الموصل بالتجارة واشتهر بصدقه وأمانته، وتزوّج، ورزق أولاداً، ورسم كاهناً لكنيسة مار أدّى في البصرة على يد مار أثناسيوس توما قصير مطران الموصل في 11/11/1941 في كاتدرائية مار توما في الموصل. وهو أول كاهن يرسم لتلك الكنيسة في هذا الجيل، ويعتبر مؤسساً لها. وطارت له شهرة واسعة في العراق وخارجه لتقواه وبرّه وصلاحه، وصدق إدارته، فأحبّه الجميع.
وفي عام 1949 وبناء على طلب بعض أبناء الجالية السريانية في سان باولو ـ البرازيل نقلت خدماته الروحية إليها، فوصل مدينة القديس بولس في 1/9/1949 وبدأ جهاده الروحي المرير، وحمل الصليب الكبير، بتفان وتضحية. كجندي صالح للمسيح يسوع. وزار أفراد الجالية السريانية المنتشرين في طول البلاد وعرضها، متفقّداً شؤونهم الروحية والاجتماعية.
وكان في كل ذلك كالزارع الذي خرج ليزرع بذار الإنجيل، فلاقى قلوباً واعية وآذاناً صاغية، كما لاقى من لهم آذان ولا يسمعون ولهم عيون ولا ينظرون، ولا يريدون أن يخلصوا. وكان يقطع المسافات الشاسعة جواً وبحراً، وبراً، متجشماً عناء السفر دون كلل ولا ملل، وكان يشعر بأن اللّـه قد دعاه، والدعوة الكهنوتية هي اختيار اللّـه تعالى للإنسان وتكليفه بمهمة خلاص الناس، فقد لبّى موسى الدعوة، وحمل الرسالة، ووضع المسيح نصب عينيه، فاقتفى أثره واقتدى به وجعله مثاله في الحياة فصار هو أيضاً مثالاً صالحاً للآخرين، ملحاً للأرض، ونوراً للعالم، فكان يعظ الناس بالأعمال قبل الأقوال، وكان حيثما حلّ يملأ الجو حماسة روحية بحديثه الشائق، فهو محدّث لبق، يملّح كلامه بالقصص التاريخية المعبرة. وهو متمسّك بإيمانه يدافع عنه بالبراهين الكتابية والطبيعية ويقنعك بصحة العقيدة الدينية التي يفخر بها. كل ذلك بهدوء وتواضع، ووداعة، دون ضجة ولا جعجعة… فأثمر ثمار الروح ومن ثمارهم تعرفونهم…
تعود بنا الذكرى ونحن بهذا الصدد، إلى يوم الخميس المصادف 13/3/1958 وطائرة شركة (دوبرازيل) التي أقلتنا من بيروت بطريقها إلى سان باولو برفقة سلفنا الطيب الذكر البطريرك يعقوب الثالث ونحن يومئذ سكرتير البطريركية، هذه الطائرة تحطّ في مطار (الرصيف) لتتزود بالوقود بعد أن قطعت المحيط الأطلسي. ففوجئنا بوجود بضعة أشخاص من السريان يتجهون نحونا في صالة المطار، يتقدّمهم شيخ جليل ينشد بالسريانية (تو بشلوم) النشيد الخاص باستقبال الأحبار، والدموع تكاد تخنق صوته الخافت وتنساب بين تجعدات وجنتيه… وشاركناه ورفاقه بكاء الفرح فرح اللقاء السعيد، وقضينا معهم أكثر من ساعة وعلمنا بأن الأب موسى حكيم قد زارهم وثبتهم على إيمانهم وقوّى رباط العلاقة بينهم وبين وطنهم الأول وكنيستهم الأم، وهو الذي أبرق إليهم بموعد وصول الطائرة التي تقل قداسة البطريرك إلى مطار الرصيف فجاؤوا لينالوا البركة الرسولية[1].
ولما حطّت طائرتنا في مطار (كونفو ميناس) سان باولو، التقيت الأب موسى حكيم للمرة الأولى بعد لقائي به عام 1949 في الموصل وعانقني معانقة الأخ الحبيب، وهش بوجهي وبشّ. فانبسطت أساريري جداً عند رؤيتي وجهه الصبوح، وابتسامته اللطيفة، وسماع كلماته العذبة وهو يرحّب بحرارة بصديقه الشاب ابن صديقه القديم.
وأثناء وجودنا في البرازيل مدة ثلاثة أشهر رأينا عن كثب المكانة الكبيرة التي احتلّها الأب موسى حكيم في قلوب أبناء الجاليات العربية على مختلف مذاهبها وكما كانت في البصرة موضع ثقة الناس مسيحيين كانوا أم مسلمين هكذا حظي في سان باولو بتقدير من الناس واحترامهم لأنه رجل بار سار مع اللّـه، فاعتبر كأنه مرسل من اللّـه. بل هو رسالة المسيح المقروءة من الناس، فكان يفرح مع الفرحين، ويحزن مع الحزانى، وهو يشارك الجميع أفراحهم وأتراحهم بقلبه الكبير ونفسه الشفافة، وسما عن المادة إلى درجة عدم الاكتراث حتى بما هو ضروري لقضاء حاجة أفراد عائلته التي هو عميدها وسندها الوحيد يومئذ. وعندما بلغ بعض أولاده سن الرشد اعتمدوا على أنفسهم فهم عصاميون، وسدّوا حاجة أفراد الأسرة بعرق جبينهم، وسندتهم صلوات أبيهم البار ونشأتهم الصالحة فوفقهم الرب وهم اليوم من خيرة أبناء الجالية اجتماعياً، وروحياً واقتصادياً. إن سيرة الأب موسى حكيم برهان ساطع على أن اللّـه تعالى لا يهمل عبيده المتكلين عليه بل يعتني بهم. فقد أوصى الرب تلاميذه قائلاً: «لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون. ولا لأجسادكم بما تلبسون. أليست الحياة أفضل من الطعام والجسد أفضل من اللباس. انظروا إلى طيور السماء إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن وأبوكم السماوي يِقوتُها. ألستم بالحري أفضل منها… لكن اطلبوا ملكوت اللّـه وبره وهذه كلها تزاد لكم» (مت 6: 25 ـ 33) وكان الأب موسى حكيم يطبّق هذه الوصية عملياً، ويشعر بعناية اللّـه به وبأولاده. وكانت نفسه الكريمة، الأبية، وقلبه الحنون الشفوق، يدفعانه إلى التصدق بكل ما في جيبه على المحتاج غير مكترث بحاجة نفسه لذلك المبلغ.
ولمسنا محبة الناس له، وتقديرهم لفضله وفضيلته. في حفلة رسامته خورياً صباح يوم الأحد 30/3/1958 حيث اكتظت كاتدرائية الروم الأرثوذكس في سان باولو بجمهور غفير من أبناء الجاليات العربية، والفرحة بادية على وجوههم لترقية الأب موسى حكيم إلى رتبة الخورنة، وتقليده الصليب المقدس على يد الطيب الذكر البطريرك يعقوب الثالث، تقديراً لتقواه وخدماته الجليلة، ولم يدروا بأن ذاك الصليب على صدر الخوري موسى حكيم إنما كان علامة ظاهرة لصليب كبير خفي حمله منذ وطئت قدمه البرازيل، هو صليب المحبة والتضحية، والخدمة الكهنوتية المملوءة بالأتعاب، واحتمال المشقات كجندي صالح والاقتداء بالآباء الأبرار بأيوب الصبور على التجارب، وابراهيم الذي كاد ينحر ابنه وحيده محبة للـه، وبالرسل القديسين الذين حملوا بشارة الخلاص إلى اقطار المسكونة، ولم يأخذوا معهم زوادة للطريق، لأن الرب رافقهم في حلّهم وترحالهم وكان راعيهم فلم يعوزهم شيء… وبعد جهاد مرير… وتعب كثير… وثمر وفير… غادر الخوري موسى حكيم ارض الشقاء وانتقل إلى السماء صباح يوم الثلاثاء 6/8/1963، لقد تقطعت أوتار القيثارة الملائكية، وصمت البلبل الغريد… ولكنه وإن مات يتكلم، كما يقول الكتاب. فروحه الخالدة بدأت أناشيد التسبيح مع ملائكة العلاء في فردوس النعيم… وإيمانه المتين الثخين وأعماله الصالحة، وفضائله المسيحية، كل هذه قد ضمنت له اسماً طيباً وصيتاً حسناً، وذكراً خالداً بين عارفيه، فسجّل اسمه في السماء مع الصالحين، وعلى صفحات التاريخ الكنسي في عداد الخالدين، فهو الكاهن السرياني الأول الذي بسيرته بدأ تاريخ الكنيسة السريانية في البرازيل.
وكم كان سرورنا عظيماً بتكريمه، ونقل رفاته الطاهر من المقبرة العامة إلى كنيسة العذراء التي اشترك أفراد أسرته مع بعض المؤمنين والمؤمنات بتشييدها في سان باولو واحتفلنا بافتتاحها وتقديسها في 14/6/1981 ونقلنا رفات المترجم إليها في 19/6/1981 ليكون قريباً ممن أحبهم في حياته وعرفوا فضله بعد انتقاله إلى جوار ربه، لينالوا منه البركة كما نالها شعب العهد القديم من عظام يوسف الصديق فليكن ذكره خالداً «فذكر الصديق للبركة» (أم10: 7).
الهوامش
—————————————–
([1])ـ كتاب المرقاة في أعمال راعي الرعاة للمؤلف ـ حمص 1958م ص 162.