قصة مار نيقولاوس أسقف ميرا

قصة مار نيقولاوس أسقف ميرا (341+)

المعروف بين القديسين السريان بمار زوخي

 

 

مصادر القصة:

تكرّم الكنائس المسيحية الرسولية الشرقية والغربية، القديس مار نيقولاوس. وقد دونت قصته بلغات شتى، من جملتها اللغة السريانية. وتنطوي مخطوطاتنا السريانية على النص الكامل لهذه القصة التي كُتبت مع سائر قصص القديسين السريان، واعتمدناها مستندين في ذلك إلى نسخ قديمة، كما قارنّا حوادثها بما ضمّته كتب السنكسار القبطي الأرثوذكسي وقصص القديسين، بالعربية والإنكليزية، لطوائف مسيحية أخرى.

 

رجل يحيا لأجل الآخرين:

إن التأمل بسيرة حياة مار نيقولاوس، لهو خير وازع لتمجيد اسم اللّـه القدوس، فقد عاش هذا القديس لأجل الآخرين، وكان شاهداً لعناية اللّـه تعالى بالمخلوقات عامة، والإنسان بشكل خاص. فاللّـه يُسخّر عبيده الأمناء، كالقديس نيقولاوس، ليعتنوا بإخوتهم بني البشر، بسد عوزهم الروحي والجسدي.

ويعتبر مار نيقولاوس شفيعاً للمظلومين والذين لم ينصفهم القضاء أحياناً. وتذكر قصته، أن قضاة عادلين اعتقلوا ظلماً وبهتاناً، متهمين بالرشوة، وإذ كانوا في السجن معذبين، صلى أحدهم إلى اللّـه متشفعاً بمار نيقولاوس، فاستجيبت صلاته ونجا مع رفاقه من حكم الإعدام، إذ ظهر للملك ولبعض المسؤولين ملاك الرب في حلم، معلناً براءة أولئك القضاة، فتمّ الإفراج عنهم.

ويعتبر مار نيقولاوس شفيع الأحداث، وصيادي السمك والبحارة، والمسافرين في البحر والبر، كما يعتبر شفيع المؤمنين في روسيا.

 

 

نشأته:

ولد مار نيقولاوس في أواخر القرن الثالث للميلاد في بلدة باتار في آسيا الصغرى، وكان أبوه أبيفانوس، وأمه تونة من أغنياء القوم في بلدهما واشتهرا بمخافة الرب، وعمل الصلاح وتوزيع الصدقات، وكانا عاقرين، يواصلان الصلاة إلى اللّـه والطلبات منه تعالى كي يرزقهما طفلاً. فاستجيبت صلاتهما وولد لهما ولد سماه نيقولاوس، وبالسريانية «زوخي» واهتما بتربيته التربية المسيحية الصالحة، وبتلقينه العلوم الروحية إلى جانب العلوم الدنيوية. وشعر معلموه بقوة النعمة الإلهية التي أسبغت عليه بوفرة، إذ بز رفاقه في تحصيل العلم وفي ممارسة أعمال الفضيلة، منذ نعومة أظفاره، فرسم شماساً، ثم ترهّب في دير كان ابن عمه رئيساً عليه، فأظهر فيه من النسك والعبادة ما تعجز عنه طاقة البشر.

 

مثال لعمل الرحمة:

على أثر وفاة والديه، وزع مار نيقولاوس أمواله الطائلة على الفقراء والمعوزين، من ذلك أنه سمع يوماً عن رجل غني عصفت بأمواله ريح الدهر الخؤون، وكان له ثلاث بنات جميلات كدن يهوين في وهدة الرذيلة لإنقاذ أفراد العائلة من الجوع والفاقة! فذهب إليه مار نيقولاوس ليلاً، ورمى إليه من النافذة صرّة من المال، وتوارى عن الأنظار، فلما استفاق الرجل صباحاً، وجد المال، فعد ذلك هبةً من اللـه، فتاب إليه تعالى وشكره على عنايته الإلهية. وجهّز ابنته الكبرى بذلك المال، وزوجها من شاب يخاف اللـه. فلما سمع مار نيقولاوس بذلك، فرح كثيراً، وأعاد الكرَّة ورمى صرةً ثانية من المال، استخدمه الرجل لزواج ابنته الثانية. ولكنه، وقد تاق إلى معرفة السر الكامن وراء هذا الإحسان الكبير، أخذ يسهر الليالي، مترقباً وإذ عاد مار نيقولاوس للمرة الثالثة، ورمى بصرة المال من الكوة، لحق به الرجل وأمسكه، وعندما عرفه سجد له شاكراً. فطلب إليه مار نيقولاوس أن يكتم اسمه وألا يخبر أحداً لأن الرب أوصى في ميدان الإحسان، ألا يُعلم الإنسان شماله ما تفعله يمينه. أما ذلك الرجل، فلم يتمكن من كتم الخبر، إذ راح ينشره بين أصدقائه وجيرانه، فعطر اسم مار نيقولاوس تلك المنطقة بكاملها.

 

ترؤسه ديراً:

ولما انتشر عُرف فضائل مار نيقولاوس وفاح أريجها في بلدته، رحل إلى بلدة ميرا[1] إذ كان خاله أسقفاً. فرسمه خاله كاهناً وأقامه رئيساً على دير[2] في ضواحي بلدة ميرا، وتنبأ له عن مستقبل باهر في خدمة الكنيسة، إذ سيتبوأ فيها مركزاً مرموقاً.

وقد جرت بوساطته أعجوبة باهرة، ذلك أن زوجين فقدا ابنهما الوحيد، وأنفقا أموالهما وهما يبحثان عنه، دون جدوى. وبعد سنين عديدة، قصدا الدير وهما يائسان، وطلبا من رئيس الدير مار نيقولاوس الصلاة لأجلهما، فأمر رئيس الدير الرهبان بالاجتماع لإقامة صلاة خاصة على نية هذين الزوجين المعذبين. فاستجاب الرب الصلاة، وأحضر ملاك الرب الصبي الذي كان قد اختطف وبيع عبداً لأناس باعوه بدورهم إلى أحد كبار الرجال في مصر، فاختطفه ملاك الرب وأتى به إلى الدير، فسلمه مار نيقولاوس إلى والديه.

 

زيارته الأماكن المقدسة:

وتاق مار نيقولاوس إلى زيارة الأماكن المقدسة والتبرّك من قبر الخلاص.. فركب البحر.. وخلال الرحلة، هاجت الأمواج وماجت، وعصفت الرياح، وكادت السفينة أن تنكسر وتغرق، فطلب النوتي إلى مار نيقولاوس أن يصلي إلى اللّـه ليرحمهم.. ففعل مار نيقولاوس، وهدأ البحر وكان أحد طاقم البحارة قد سقط من السارية ومات.. فصلى مار نيقولاوس إلى اللـه، فأعاد إليه الحياة..

 

تسقفه على ميرا:

كان خال مار نيقولاوس قد انتقل إلى جوار ربه وقام مكانه أسقف آخر. فبعد عودة مار نيقولاوس إلى ديره من زيارة الأماكن المقدسة رأى ذات ليلة حلماً عجيباً.. كان حلّة حبرية زاهية قدمت إليه ليتشح بها، كما رأى عرشاً رفيعاً ورجلاً يقول له: تفضل واجلس على هذا العرش. وفي ليلة أخرى رأى السيد المسيح يسلم إليه الإنجيل المقدس والسيدة العذراء تناوله الحلة الحبرية.

ويقال أنه على أثر وفاة أسقف ميرا، ظهر ملاك الرب لرئيس الأساقفة في حلم وقال له: إن الرب قد اختار مار نيقولاوس ليقام أسقفاً على ميرا، وعندما استيقظ رئيس الأٍساقفة أخبر سائر أساقفة المنطقة، فاعتبروا ذلك أمراً من السماء، فجاؤوا بمار نيقولاوس ورسموه أسقفاً على ميرا. وتقول رواية أخرى: إن ملاك الرب ظهر لأكثر من أسقف وهم مجتمعون في الكنيسة، صائمين مصلين كي يلهمهم الرب إلى اختيار الرجل الصالح ليقيموه أسقفاً على ميرا. فقال ملاك الرب لمن ظهر لهم في الحلم: إن أول من يدخل الكاتدرائية في صباح اليوم التالي هو الذي اختاره اللّـه لهذه الرتبة. كما ظهر الملاك لمار نيقولاوس في حلم، وأمره أن يغادر الدير باكراً جداً ويدخل المدينة ليصلي صباحاً في كاتدرائيتها. فلما فعل نيقولاوس ما أمره به الملاك، ووصل إلى باب الكاتدرائية، كان أحد الأساقفة في الانتظار.. فأمسك به وأدخله إلى بقية الأساقفة، فنادوا: «مستحق، مستحق، مستحق» أن يكون أسقفاً على ميرا، إنه الشخص الذي اختاره الرب لهذه الرتبة السامية. وبعد الانتهاء من مراسم رسامته أسقفاً، صلى مار نيقولاوس على إنسان فارق الحياة، فعادت نفسه إلى جسده، وقام حياً! فتعجب الجميع، وسبحوا اللّـه على قدرته.

 

زهده:

عاش مار نيقولاوس، وهو أسقف، حياة الناسك الزاهد العابد المتقشف. فكان يتشح بإسكيم الرهبانية ويلبس الصوف الخشن على جسده تحت الحلة الأسقفية الزاهية، ويواظب على الصلاة ليل نهار، ولا يتناول إلا وجبة واحدة من الطعام البسيط طوال اليوم، كما أنه لم يذق طعم اللحم أبداً. وأنعم اللّـه عليه بالحكمة في تدبير رعيته، فكان يسوسها بإيمان وبمخافة الرب، وكم حاجج الرب بصلوات حارة طالباً إليه أن يعفيه من حمل رسالة الأسقفية مقدراً جسامة المسؤولية. فظهر له الرب يسوع في حلم وخاطبه قائلاً: لا تخف يا نيقولاوس فإنني لا أتخلى عنك طالما أنت مكمّل واجبات الأسقفية بصدق وأمانة.

وكان اهتمام مار نيقولاوس بالفقراء من رعيته، ظاهراً وملموساً، وهو بذلك كان يمثل عناية اللّـه تعالى بالمخلوقات كافة ولا سيما الضعيف منها.

 

 

مار نيقولاوس المعترف:

وفي سنة 303 أثار القيصر الروماني ديوقلطيانس، الاضطهاد على المسيحية، فسام المؤمنين صنوف العذاب، وأمر بإغلاق كنائسهم وإبادة كتبهم المقدسة، فسجن عدداً كبيراً منهم، ونفى آخرين، وكان نصيب رعاة الكنيسة من هذا الاضطهاد وافراً جداً، ومن بين هؤلاء الرعاة الصالحين كان مار نيقولاوس الذي زجّه جنود قيصر في غياهب السجون وأذاقوه مر الآلام.. وهو يتحمل كل ذلك بصبر جميل حباً بالمسيح الفادي، ومكث مار نيقولاوس مسجوناً حتى انتصر قسطنطين الملك على أعدائه وفتح أبواب السجون، فخرج المعترفون ظافرين، وعاد مار نيقولاوس إلى أبرشيته ليرعى الشعب الذي ائتمنه على رعايته.

 

اشتراكه في مجمع نيقية:

وعندما انعقد مجمع نيقية عام 325، حضره مار نيقولاوس وفنّد مع آباء المجمع بدعة آريوس معترفاً بالإيمان المستقيم الرأي.

 

معجزة إكثار الحنطة:

وحدث على عهده جوع شديد، وكانت سفن الإمبراطور تنقل الحنطة من الإسكندرية إلى شواطئ آسيا الصغرى، فالتمس مار نيقولاوس قبطان إحدى هذه السفن ليهبه مائة برميل كبير من الحنطة بغية إعانة أبناء أبرشيته، وحالما وافق القبطان على ذلك، شاهد الحاضرون ملائكة تفرّغ الغلة إلى الميناء، ومما زاد من دهشتهم أن حمولة السفينة لم تنقص أبداً رغم إنزال الكمية المطلوبة من الغلة إلى أرض الميناء، فمجدوا اللّـه الذي أنعم على القديس مار نيقولاوس بعمل المعجزات.

انتقاله إلى جوار ربه ونقل ضريحه إلى أوربا:

في السادس من شهر كانون الأول من عام 341، انتقل القديس مار نيقولاوس إلى الأخدار السماوية وله من العمر ثمانون سنة، وقضى منها أكثر من أربعين سنة في خدمة الأسقفية في ميرا، ودُفن جسده الطاهر، بإكرام كبير في أحد مرتفعات مدينة ميرا، وكما اجترح عجائب في حياته، كذلك اجترحت على ضريحه عجائب عديدة! فصار ضريحه مزاراً يتبرك به المؤمنون القادمون من أماكن شتى، كما تشفع به المسيحيون في الشرق، كذلك تشفع به المسيحيون في الغرب، إذ نقلوا ضريحه الطاهر عام 1087م من مدينة ميرا عاصمة إقليم ليفيا في جنوب تركيا، إلى مدينة باري في إقليم إيوليا في إيطاليا وتعيد له الكنيسة في 6 كانون الأول المصادف 10 كيهك القبطي.

 

مار نيقولاوس في الكنيسة السريانية:

تكرّم كنيستنا السريانية القديس نيقولاوس أي مار زوخي مع سائر القديسين السريان وشيَّدت كنائس عديدة على اسمه في أماكن شتى، وقد جاء في السنكسار القبطي الأرثوذكسي[3] ما يأتي: «اليوم الخامس عشر من شهر برمودة المبارك[4] تعيد الكنيسة بتذكار تكريس أول هيكل بناه النصارى (السريان) المقيمون في أرض مصر للقديس نيقولاوس أسقف ميرا وهو أحد آباء مجمع نيقية الثلاثمائة والثمانية عشر[5]».

 

الخاتمة:

إن سيرة مار نيقولاوس حافلة بالأمور الغريبة العجيبة التي لا تخلو من اللغو والمبالغة ومن إضافات دسّها النساخ فشوَّهت الحقائق وأربكت المؤرخين وشككت أحياناً المؤمنين. ومع ذلك، فالقصة مليئة بالمعجزات الباهرات التي تعتبر حقائق تاريخية صادقة، اتفقت على صحتها نصوص القصة بلغات شتى. ولكثرة العجائب التي أجراها اللّـه تعالى على يدي القديس نيقولاوس في حياته، وبشفاعته بعد انتقاله إلى كنيسة الأبكار المكتوبة أسماؤهم في السماء، نقول: لكثرة هذه العجائب دعي القديس نيقولاوس بـ (صانع العجائب)، فقد أقام موتى، وأشبع جياعاً وهدأ بحراً هائجاً كما اشتهر بعمل الإحسان وبتوزيع الصدقات على الفقراء. فقد باع كل ما كان له وما ورثه عن والديه، ووزعه على المساكين، طبقاً لوصية الرب الموجهة إلى الراغبين في الكمال، كما اهتم بالمعوزين وهو أسقف. ومن وحي سيرته الفاضلة وأعمال الرحمة التي قام بها، ومن محبته للأحداث، اتخذ كشخص وهمي يوزع الهدايا في عيد الميلاد المقدس وسمي (سانتا كلوز) أو (بابا نوئيل) والاسم سانتا كلوز جاء من اسمه بالإنكليزية سانت نيكولاس Saint Nicholas وقد حور هذا الاسم إلى (سانت كلوز) Saint Claus واسمه السرياني (مار زوخي) يعني: الفاضل المنتصر والظافر والنقي الطاهر.

 

الهوامش

——————————————————

(1)ـ كانت بلدة ميرا عاصمة إقليم ليكيا في آسيا الصغرى، مر بها الرسول بولس وهو في طريقه إلى مقدونيا واليونان، وتسمى اليوم كوجاك في جنوب تركيا.

(2)ـ إن القصة السريانية التي تنفرد في ذكر هذه الحادثة لم تذكر اسم هذا الدير ولا موقعه بالضبط.

(3)ـ السنكسار القبطي ـ طبعة القاهرة عام 1951 ـ جـ 2 ـ ص 95.

(4)ـ 15 من شهر برمودة القبطي يوافق 10 من شهر نيسان السرياني.

(5)ـ وكان موقع هذه الكنيسة ظاهر ثغر الإسكندرية قرب الكنيسة المعروفة بكنيسة القديس شنودة شرقي الثغر المذكور.

 

للأعلى

%d مدونون معجبون بهذه: