القديس مـار فيلكسينوس المنبجي
وكتابه طريق الكمال
مار فيلكسينوس المنبجي، الأديب الكبير، واللاهوتي الشهير الذي لمع في سماء الكنيسة السريانية في أواسط القرن الخامس وأوائل القرن السادس للميلاد، وتبوأ بين أدباء السريان مركز الصدارة لا سيما في كتابة النثر البليغ.
ولد في بلدة تحل في كورة باجرمي ـ محافظة السليمانية ـ بالعراق، قبيل منتصف القرن الخامس للميلاد، واسمه السرياني «أخسنويو» أي «غريب» وسمي فيلكسينوس لدى رسامته مطراناً، وهو اسم يوناني معناه «محب الغربة».
رحل وأهله إلى جبل طورعبدين المتصل بجبل الأزل المشرف على نصيبين، واستوطنوا شمالي قرية باسبرينه. ودخل دير قرتمين الشهير حيث درس العلوم الدينية وآداب اللغتين السريانية واليونانية ثم التحق بمدرسة الرها فتعمق بالعلوم الفلسفية واللاهوتية، انتقل بعدها إلى مدرسة دير تلعدا في كورة أنطاكية فتبحَّر بالسريانية واليونانية، وترهَّب ورسم كاهناً، وفي سنة 485م رسم مطراناً لمدينة منبج فنسب إليها[1].
تميزت فترة حياته بالخلافات المذهبية التي أثارتها السلطة البيزنطية الحاكمة وغذتها، لتضعف قوة الكنيسة وتفرَّق رجالها بعضهم عن بعض فتتمكن من تثبيت جذور استعمارها لبلاد سورية وغيرها، فكان لها بالمرصاد فيلكسينوس ورفاقه الأشاوس الذين ذادوا عن حياض الوطن والكنيسة معاً، وخاضوا غمار مجادلات مذهبية طويلة مدافعين عن الحق، فخلّفوا لنا مجلدات ضخمة من النتاج الأدبي الديني. ولم تلن عودهم رغم شدة الاضطهاد وشراسة الحكام البيزنطيين الغاشمين الذين نفوا بعضهم وساموهم صنوف العذاب. وبعد أن قاس مار فيلكسينوس الأمرَّين في المنفي بصبر جميل وشجاعة فائقة، استشهد مخنوقاً بالدخان عام 522م.
قال فيه العلامة البطريرك أفرام الأول برصوم (1957+) ما يأتي: «من أعلام السريان ومفاخرهم وفرسان الكلام، وكبار أئمة اللغة الذين يشار إليهم بالبنان، وأقطاب الزمان ذكاءً وعلماً وعملاً، مع ديانة وصيانة وزهد ظاهر وورع معروف، متكلم المتحققين، إمام البلغاء المترسلين.
كانت له بالعلم جلالة، وبالأدب السرياني رئاسة وشهرة، كلامه سمح سهل وإنشاؤه فخم جزل، بل هو اللؤلؤ المنثور، والدر المنضد تزينه المتانة وتوشيه البلاغة، ويكلله البيان، تفنن في وصف الطرائق الحسنى والفضائل المسيحية المثلى فجاءنا بكتاب في سيرة الكمال[2]، جامع لشتيت الفوائد بكلام ما لحسنه نهاية، حيثما التفت وردت منه على ضياء باهر وربيع زاهر، واللفظ البليغ، القلوب به معمورة، والصدور به مأهولة»[3].
«إن تآليف هذا الحبر العلامة هي تفسيرية ولاهوتية وجدلية وأدبية نسكية وطقسية ورسائل وخطب»[4]، نشر بعضها منقولاً إلى لغات أوربية، وإن كتابه الموسوم بـ «طريق الكمال» هو إكليل مؤلفاته الأدبية الروحية، دبجه في أوائل القرن السادس للميلاد، بلغة سريانية نقية تتجلى فيها مقدرته الأدبية، فهو الأديب الكبير الذي يجيد اختيار الكلمات فيصوغ منها جملاً بليغة وإذا ما احتاج إلى استخدام تعبير لاهوتي دقيق كتب باليونانية يستعير الكلمات المناسبة وينحتها (ويسرينها) بطريقة فنية بديعة تدل على تمكنه باللغتين.
نشر له المستشرق العلامة بدج عام 1894م في لندن، النص السرياني الكامل لكتابه المذكور أعلاه منقولاً إلى الإنكليزية، معتمداً في ذلك على مخطوطات عديدة حققها بدقة وأشار في الهوامش إلى أرقامها في خزانة المتحف البريطاني، ويرجع تاريخ أقدمها إلى القرن السادس وأحدثها إلى القرن الثالث عشر للميلاد، كتب بعضها في دير السريان ـ مصر إبان حياة مؤلفها على ما يظن.
ولما كانت طبعة الكتاب قد نفدت منذ مدة بعيدة، ونظراً إلى قيمته الأدبية نفاسته، أعدنا طبع نصه السرياني برمته مستندين إلى طبعة لندن التي زينها بدج بالهوامش باذلاً التعب الجم والجهد الجهيد، في تحقيق النص وإجادة الطباعة وأناقتها، وصدرناه بمقدمة في ترجمة المؤلف وأصدرناه ضمن مطبوعات مجمع اللغة السريانية في بغداد سنة 1978م، ويقع الكتاب بـ 625 صفحة، ويضم المجموعة الكاملة لمقالات مار فيلكسينوس المنبجي الثلاث عشرة التي تتناول المواضيع التالية: الإيمان، البساطة، الورع، الفقر الاختياري، الزهد، العبادة، مقاومة بعض الرذائل كالشره والشهوات البدنية والفجور.
بمطالعته يتذوق أدباء السريانية وقراؤها، حلاوة اللغة النقية والنثر البليغ، ويروون ظمأهم الروحي والأدبي من مائه العذب السلسبيل.
الهوامش
———————————————–
(1)ـ مدينة كبيرة تقع شمال شرقي حلب ـ سورية، وهي اليوم بلدة صغيرة.
(2)ـ وهو الكتاب الموسوم أيضاً بـ «طريق الكمال».
(3)ـ اللؤلؤ المنثور في تاريخ العلوم والآداب السريانية للبطريرك أفرام الأول برصوم ـ الطبعة الثالثة ـ بغداد 1976 ص 226.
(4)ـ ثبت هذه المؤلفات في كتاب اللؤلؤ المنثور ص 227ـ 233.