القديس أنطونيوس الكبير
أبي الرهبان وكوكب البرية 356+
كاتب القصة:
في أواسط القرن الرابع للميلاد فاحت رائحة فضائل القديس الأنبا[1] أنطونيوس الذكية في أرجاء العمورة. فكتب بعض المتوحدين الأتقياء في الغرب[2] إلى القديس أثناسيوس الرسولي 373+ مستفسرين منه عن صحة الأمور العجيبة التي قيلت عن هذا الحبيس[3] البار، والناسك القديس. فأجابهم القديس أثناسيوس بكتاب باليونانية شرح فيه بالتفصيل ما رآه بنفسه أو سمعه ممن عاشروا الأنبا أنطونيوس. ويقول في مقدمته: «… إنني أسرعت في الكتابة إليكم عما أعرفه أنا شخصياً إذ رأيت أنطونيوس مراراً، وعما استطعت أن أتعلمه منه، لأنني لازمته طويلاً، وسكبت ماء على يديه، وفي كل هذا كنت أذكر هذه الحقيقة أنه يجب أن لا يرتاب المرء إذا ما سمع كثيراً، ومن الناحية الأخرى يجب أن لا يحتقر الرجل إذا ما سمع عنه قليلاً» وقد نُقلت هذه القصة إلى السريانية[4].
أنارت سيرة القديس الأنبا أنطونيوس الطريق أمام جمهور غفير من الشبان، فتركوا العالم، وتبعوا الرب يسوع، وامتلأت برية مصر بالمتوحدين والمتوحدات، والرهبان والراهبات، بل ازدهرت حياة الرهبانية في العالم المعروف. ذلك أن القديس أثناسيوس كاتب قصة حياة القديس أنطونيوس، حملها إلى روما في زيارته إياها عام 339، وأشاع في إيطاليا طريقة الأنبا أنطونيوس في النسك فانتشرت وكانت أقوى عامل لازدهار الحياة النسكية في غرب أوربا، ولما درسها أوغسطينس 430+ بعدئذ ساعدت على توبته[5] وقد وصف القديس أثناسوس القديس أنطونيوس بقوله: «إنه أبو الرهبان وكوكب البرية»، ويعد أول مصابيح البرية ومؤسس الرهبنة التي هي فلسفة المسيحية الروحية.
نشأة مار أنطونيوس:
ولد أنطونيوس في بلدة «قِمَن» (وهي كوم العروس اليوم) في صعيد مصر، حوالي سنة 251م من أسرة مسيحية تقية وتربى في كنف والدين فاضلين أحبهما كثيراً وأطاع أوامرهما، وكان يرافقهما بالذهاب إلى الكنيسة لعبادة اللّـه بالروح والحق.
لم يكن للفتى أنطونيوس رغبة في تحصيل العلوم الدنيوية، فنشأ أمياً أو شبه أمي، ولكنه كان يتلذذ بسماع كلمات الإنجيل المقدس، ويحفظ عن ظهر قلبه حوادثه، وآياته الكريمة.
ولما أكمل العشرين من عمره نال سر العماد المقدس. وبعيد ذلك بمدة قصيرة انتقل والداه إلى الخدور العلوية تاركين له مالاً دثراً، وأختاً وحيدة أصغر منه ألقيت على عاتقه مسؤولية العناية بها.
اعتزاله العالم:
تألم أنطونيوس جداً على وفاة والده، ووقف يتأمله وهو جثة هامدة باردة ويقول: أليست هذه الجثة كاملة ولم يتغير منها شيء البتة سوى توقف هذا النفس الضعيف!؟.. وخاطب أنطونيوس أباه الميت قائلاً: «أين هي عزيمتك، وأمرك، وسطوتك العظيمة، وهمتك العالية بجمع المال الكثير!؟ إنني أرى أن ذلك قد بطل، وقد تركت كل شيء ورحلت.. فيا لهذه الخسارة الفادحة، والحسرة الجسيمة! فإن كنت أنت يا أبتاه قد تركت هذا العالم مجبراً، أما أنا فسأعتزله طائعاً، كيلا يخرجوني منه مثلك يا أبي كارهاً»[6].
بدأ أنطونيوس الشاب التقي يكثر من التأمل بحقارة هذا العالم وبأمجاد السماء. وحدث مرة بينما كان يصلي في الكنيسة، والكاهن يتلو الإنجيل المقدس، جذب انتباهه قول الرب للشاب الغني: «إن أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبع أملاكك وأعط الفقراء، فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني» (مت19: 21). واعتبر أنطونيوس كلام الرب يسوع موجهاً إليه. وأن الرب بهذا الكلام يدعوه ليترك كل شيء ويتبعه كما فعل الرسل الأطهار (مت19: 27ـ 29) فللحال خرج أنطونيوس من الكنيسة، وعاد إلى بيته مصمماً على أن ينفذ الوصية بحذافيرها، فوزع على الفقراء ما ورثه من والديه من مال وعقار، ومن جملة ذلك ثلاثمائة فدان من الأراضي الممتازة، واحتفظ لأخته بيسير من المال فقط. وقد ازداد إيماناً واندفاعاً عندما سمع الرب يقول أيضاً في الإنجيل المقدس: «فلا تهتموا قائلين: ماذا نأكل، وماذا نشرب، وماذا نلبس؟ فإن هذه كلها تطلبها الأمم، لأن أباكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها، لكن أطلبوا أولاً ملكوت اللّـه وبره، وهذه كلها تزاد لكم، فلا تهتموا للغد، لأن الغد يهتم بما لنفسه، يكفي اليوم شره» (مت6: 31ـ 34). لما سمع الشاب أنطونيوس هذا الكلام وزع البقية الباقية من الإرث على المحتاجين، وأودع أخته بيتاً لبعض العذارى التقيات، واعتزل العالم، وانفرد متنسكاً في مكان قريب لبلدته، إذ لم يكن نظام الرهبنة قد ظهر بعد[7] وبدأ يسترشد ببعض المتوحدين، فقد كان في القرية المجاورة واحد منهم طاعن في السن وقد اعتزل الناس منذ نعومة أظفاره ـ والعزلة عبادة ـ فكان يتعبّد مكثراً من الصوم والصلاة، فقصده أنطونيوس وسمع منه عن حياة الزهد، والنسك، والتوحد، واقتدى بسيرته الفاضلة، كما قصد أنطونيوس غيره من المتوحدين الذين سبقوه في طريقة النسك هذه، وأخذ عنهم ذلك وأفاد من خبرتهم لبلوغ الكمال المسيحي، وشابه بذلك النحلة التي تنتقل من زهرة إلى أخرى ترتشف الرحيق لتعطي الشهد الفاخر.
وخرج أنطونيوس بعدئذ هائماً على وجهه في البرية حتى وصل إلى شاطئ النهر فسكن إلى جانب جميزة، وصادف أن شاهد مرة نسوة يستحممن في النهر أمامه، فلامهن قائلاً: أما تخجلن مني وأنا رجل متوحد أعبد اللّـه في هذا المكان!؟ فأجابته إحداهن: على المتعبدين المتوحدين أن يعبدوا اللّـه في البرية الداخلية لا على ضفاف الأنهار، فاعتبر أنطونيوس هذا الكلام رسالة له من اللـه، فترك المكان حالاً وسكن في البرية الداخلية حيث أقام له صومعة قرب وادي العربة.
جهاده في حياة النسك، والتجارب التي طرأت عليه:
وكان الشيطان يحاربه بالملل والكسل، كاد أن يغلبه مدخلاً اليأس في قلبه، فسئم أنطونيوس حياة النسك، وشعر كأن الصلاة عبء ثقيل، وأمام هذه التجربة الصعبة سكب أنطونيوس نفسه أمام اللّـه بتواضع، وذرف الدموع السخينة، وهو يطلب حياته الروحية، فظهر له ملاك الرب بشكل رجل متشح برداء طويل ومتمنطق بمنطقة من جلد ولابس زنار صليب كالإسكيم وقد غطى رأسه بقبعة، وهو جالس يضفر الخوص، ثم يقوم يصلي، ويعود يضفر الخوص، ثم يقوم ثانية للصلاة، وأنطونيوس يتأمله مندهشاً، فالتفت أخيراً إلى أنطونيوس قائلاً له: «اعمل هكذا تسترح» ثم اختفى عنه، فعلم أنطونيوس أن الرب أرسل ملاكه ليعلمه كيفية عبادة اللّـه بالصلاة وعمل اليدين، فاتخذ أنطونيوس زي الرهبنة وخاصة الإسكيم الرهباني على الشبه الذي كان الملاك متشحاً به، وأكثر من العمل في ضفر الخوص، وهكذا تخلص من تجربة الملل والكسل، وعاد إليه نشاطه وعلو همته في الصوم والصلاة وعمل اليدين. وكان ينفق جزءاً مما يحصل عليه من عمل يديه لأجل القوت ويوزع الباقي على الفقراء.
وعاد إبليس يحاربه ثانيةً، وفي هذه المرة كانت التجربة القاسية بتذكير أنطونيوس بحياته الأولى حيث كان يعيش في بحبوحة ورفاه ويقارن ذلك بالشقاء الذي يتحمله في حياة النسك، والزهد، والتقشف، كما شنَّ عليه إبليس أيضاً حرب الجسد، فألهبه بالشهوة الدنسة، وملأ رأسه بالأفكار الأثيمة. وحدث ذات مرة أن جمع إبليس أمام أنطونيوس كل آلات الطرب واللهو واللذات الدنيئة والنساء. أما أنطونيوس فتواضع أمام الرب الإله وطلب معونته تعالى، وكان يغمض عينيه ويقول للأبالسة: «عجباً منكم! كيف تجعلون لي مقداراً أكثر مما أنا عليه بكثير، وتحسبون لي حساباً كأني شيء مهم، وتحتالون في سقوطي مع أني ضعيف عن مقاومة أحد أصاغركم، أبعدوا عني وعن ضعفي فإني مسكين وتراب ورماد» وهكذا كان أنطونيوس يغلب إبليس باتضاعه واتكاله على اللّـه فتزول عنه الأفكار الأثيمة، كان يردد مع الرسول بولس: «لا أنا بل نعمة اللّـه التي معي» (1كو15: 10).
وانفرد أنطونيوس في ناؤوس[8] خال، حيث حبس نفسه فترة من الزمن كثَّف فيها الصلاة، وأكثر من الصيام فلما رأى الشيطان نسكه الصارم وعبادته الحارة، حسده وضربه ضرباً موجعاً وتركه بين حي وميت فلما أتى أصدقاؤه الذين يحضرون إليه ما يقتات به، ووجدوه على تلك الحال، حملوه إلى الكنيسة واعتنوا به، وإذ وجد أنطونيوس نفسه قد تماثل إلى الشفاء قليلاً عاد إلى مكانه الأول، فعاد إبليس إلى محاربته بخيالات كثيرة إذ ظهر له في أشكال وحوش وذئاب وأسود وحيات وعقارب، وكان إبليس صور له أن هذه الوحوش الشرسة تهم لافتراسه وتمزيقه إرباً إرباً. أما أنطونيوس فكان يرسم على نفسه علامة الصليب ويصلي بحرارة فكانت الأبالسة تتوارى من أمامه كالدخان، وتلك الوحوش تذوب كالشمع أمام النار، وكان أنطونيوس يستهزئ بالشياطين قائلاً لهم: «لو كان لكم علي سلطان لكفى واحد منكم لمحاربتي، ولكن حيث أن اللّـه تعالى قد جردكم من كل قوة لهذا تحتالون أن تخيفوني بكثرتكم»، وكان يترنم بالمزمور الذي بدؤه: «يقوم اللّـه ويتبدد أعداؤه» (مز68: 1).
وفي كل تجاربه كان أنطونيوس يستمد قوته من اللّـه تعالى الذي يرمق خائفيه بعينه الساهرة. ونتيجة لخبرته الروحية هذه قال يوماً لتلاميذه[9]: إني أبصرت مصابيح من نار محيطة وسمعت صوت اللّـه القدوس يقول: «لا تتركوهم ما داموا مستقيمي الطريقة» فلما أبصرت هذا تنهدت وقلت: «ويلك يا أنطونيوس: إذ كان هذا العون محيطاً بالرهبان، ومع ذلك فالشياطين تقوى عليهم أحياناً!» فجاءني صوت الرب قائلاً: إن الشياطين لا تقوى على أحد، لأني منذ أن تجسدت سحقت قوتها عن البشريين، ولكن كل إنسان يميل إلى الشهوات ويتهاون بخلاصه، فشهوته هي التي تصرعه وتجعله يقع». فصحت قائلاً: «طوبى لجنس الناس وبخاصة الرهبان، لأن لنا سيداً هكذا رحيماً ومحباً للبشر».
ويذكر القديس أثناسيوس أن الأنبا أنطونيوس «كان يسهر طويلاً لدرجة أنه كثيراً ما كان يقضي الليل كله مصلياً دون أن ينام، وهذا لم يفعله مرة واحدة بل مراراً حتى عجب منه الآخرون وكان لابساً شعراً، ولم يستحم بماء طوال حياته (النسكية) وكان يأكل مرة واحدة في اليوم، بعد الغروب، وفي كثير من الأحيان مرة كل يومين، أو مرة كل أربعة أيام، أما طعامه فكان الخبز مع قليل من الملح، وشرابه الماء فقط.. وكان يكفيه أن ينام على حصير خشن، ولكنه غالباً كان ينام على الحضيض»[10] وتتلخص فلسفته في الزهد بقوله: «إن قوة النفس تكون سليمة عند الإقلال من ملذات الجسد، ولذلك فالرسول بولس يقول: «حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي» (2كو12: 10) فإن التقدم في الفضيلة والاعتزال عن العالم من أجلها يجب ألا يقاسا بالزمن بل بالرغبة وثبات العزيمة، ولم يبال الأنبا أنطونيوس بالماضي بل كان كل يوم كأنه في بداية نسكه يبذل جهداً أكثر شقاء نحو النمو مكرراً لنفسه قول الرسول بولس: «انس ما هو وراء، وامتد إلى ما هو قدام» (في3: 14) وقول النبي إيليا القائل: «حي هو الرب الذي أنا واقف أمامه اليوم» (1مل18: 15).
ولما بلغ الأنبا أنطونيوس الخامسة والثلاثين من عمره، اجتاز نهر النيل شرقاً وتوغل في البرية فوجد حصناً قديماً، مهجوراً، في داخله مجرى ماء، أوت في ثغوره الثعابين الغدارة والزحافات الفتاكة فاتخذ الأنبا أنطونيوس قلاية[11] له، فغادرته الأفاعي والزحافات حالاً، فسد مدخله وحبس فيه نفسه ولم يغادره أعواماً عديدة ولم يأذن لأحد أن يدخل إليه، بل كان من يأتي إليه يقف خارجاً ويستمع إلى كلمات الوعظ والإرشاد. وكان معارفه يدلون إليه من فوق كمية من الخبز مرتين في السنة.
وبعد قضاء عشرين عاماً معتزلاً الناس عابداً اللّـه متزهداً، ذاع صيته في الأقطار، وبإلهام رباني خرج من الحصن مملوءاً من الروح القدس والحكمة، صحيح الجسم قويه، على الرغم من التقشف الشديد المضني. تفوح منه رائحة القداسة، ويشع في محيّاه نور المسيح. ومضى إلى الفيوم ووعظ الإخوة هناك وثبتهم على حياة النسك، ثم عاد إلى حصنه.
وأنعم اللّـه عليه بموهبة شفاء المرضى، فقصده الناس من كل فجٍّ عميق، فكان يعظهم بكلمة الحياة، ويصلي لأجلهم فينالون شفاء النفس والجسد.
واقتدى بنسكه كثيرون، وتتلمذوا عليه آخذين عنه طريقة الزهد والنسك، التي دعيت بعدئذٍ بالرهبنة بشروطها الثلاثة: البتولية، الفقر الاختياري، والطاعة. وكان يتفقد الرهبان في البرية بين الفينة والفينة، ويرشدهم إلى طريق الكمال[12] بالقول والمثال. وعمّر لهم أديرة وسنّ لهم قوانين انضباطية تنضم لهم الحياة المشتركة. ويعتبر القديس الأنبا أنطونيوس مؤسساً للحياة الرهبانية الأولى، نصف النسكية التي تمتاز بانفراد كل راهب أو ناسك في قلايته أو صومعته خمسة أيام في الأسبوع[13] ويجتمعون معاً أيام السبت والأحد[14] والأعياد في ديرهم المجاور لأماكن إقامتهم، للاشتراك في الأسرار الإلهية.
وقصد الأنبا أنطونيوس الإسكندرية عام 311 إبان شدة مكسيمينس[15] رغبة منه في الاستشهاد في سبيل المسيح يسوع. فكان يتفقد المعترفين[16] في سجونهم ويعزيهم ويشجعهم على الثبات حتى الموت على الإيمان المستقيم الرأي. وكان الحاكم قد أصدر أمراً بأن لا يظهر راهب في المدينة، أما الأنبا أنطونيوس فلم يبالِ بذلك بل كان يجاهر بالإيمان أمام الناس وحتى أمام الحاكم ذاته ببسالة فائقة. وشاء اللّـه تعالى أن يحفظه لمنفعة الكنيسة فلم يستشهد وعاد إلى ديره سالماً. وتنبأ الأنبا أنطونيوس عن خراب البيعة وتسلط الهراطقة عليها مدة من الزمن، وعودتها إلى عقيدتها المستقيمة الرأي وتقاليد آبائها.
كما تنبأ عن نمو الرهبنة وازدهارها. وهو الذي ألبس الأنبا مكاريوس[17] الاسكيم الرهباني وانبأ بما يكون منه، وزار الإسكندرية للمرة الثانية وذلك سنة 355م، يوم كان الأريوسيون يفتكون برجال الكنيسة والمؤمنين باضطهاد عنيف أثاروه ضد المؤمنين، فخرج الأنبا أنطونيوس من عرينه يدافع عن الإيمان المستقيم الرأي ويعزي المعترفين، ويزور المسجونين مشجعاً اياهم على الثبات على الإيمان ويسفه الهراطقة الأريوسية الشنيعة، فتحمل في سبيل ذلك عذاباً أليماً وهدى العديد من الهراطقة الى الإيمان، وشاء اللّـه أن يبقيه حياً هذه المرة أيضاً لخير الكنيسة فلم يستشهد.
وزاره البطريرك اثناسيوس الرسولي، وكتب سيرته كما مر بنا. وكتب اليه الملك قسطنطين وأبناه قسطنطينوس وقسطنس خطابات طمعاً بنيل بركته، ورجوه أن يجاوبهم، ففعل بإلحاح تلاميذه عليه. وكانت أجوبته منطوية على النصائح الأبوية، والتذكير بالحياة الأبدية. وقد فرحوا بها كثيراً.
وقبل وفاة القديس الأنبا بولس أول المتوحدين الحبساء ( + 347)، زارها الأنبا انطونيوس، بإلهام رباني وسمع منه قصته كما أنبأه الأنبا بول عن دنو أجله، وأن اللّـه أرسله ليقوم بمراسم دفنه، فحزن الأنبا أنطونيوس كثيراً وبكاه بكاء مراً. واهتم به وكفنه بعباءته التي أهداها اليه الأنبا اثناسيوس الرسولي البابا الاسكندري العشرون، وصلى عليه وأودعه لحداً حفره أسدان أرسلهما اللّـه اليه، وأخذ قميصاً من خوص كان عليه ورجع الى تلاميذه وأخبرهم بقصته، وقد عمَّر الأنبا بولس نحواً من مئة وثلاث عشرة سنة.
ولما شعر القديس الأنبا انطونيوس بدنو أجله، جمع تلامذته الرهبان ووعظهم، وأوصاهم أن يدفنوا جسده في التراب ويخبئوه تحت الأرض. وأناط هذه المهمة إلى تلميذيه أماثاس وكاريوس، ومما قاله في وصيته: «حافظا على كلمتي حتى لا يعرف المكان أحد سواكما. لأنني في قيامة الأموات سأتقبل جسدي بلا فساد من المخلص» وأمر بتوزيع ثيابه وأن تعطى للأسقف أثناسيوس (الفروة) أي جلد الخروف والرداء الذي كان مضطجعاً عليه والذي أعطاه إياه جديداً الأسقف أثناسيوس نفسه، ولكنه عتق مع القديس أنطونيوس. وإن تعطى (الملوطة) الجلد لتلميذه انكونيوس الاسقف سرابيون. وان يعطى عكازه لتلميذه الانبا مكاريوس وأن يحتفظا لهما بالثوب المصنوع من الشعر وأن يأخذا أيضاً ما تبقى له، ومما قاله لهما : «أما الباقي فخذاه يا ولديَّ لأن انطونيوس راحل ولن يبقى معكما فيما بعد». وهكذا رقد بالرب وكان عمره مئة وخمسين سنة. وذلك في 17 كانون الثاني ( يناير) عام 356م، وقام بدفن جسده حسب وصيته تلميذاه اماثاس ومكاريوس[18] وتعيد له كنيستنا السريانية المقدسة وبقية الكنائس في 17 كانون الثاني من كل عام.
ومما هو جدير بالذكر أن القديس الأنبا أنطونيوس حتى ساعة انتقاله الى الخدور العلوية، لم تضعف قوته، ولا تناثرت أسنانه ولا تغيرت سحنته.
وبحسب نبوته أزدهرت الرهبنة فقبل وفاته كان عدد الرهبان الذين يدبرهم في مصر قد بلغ مائة ألف، ولم تنقض خمسون سنة بعد ذلك حتى كان عدد الرهبان في براري مصر مساوياً تقريباً لعدد سكان البلاد[19].
وظلت رفاته مخفية حتى عام 561م حين اكتشفت، ووضعت في كنيسة بمدينة كابون القريبة من الإسكندرية، ونقلت عام 635م إلى القسطنطينية، وفي القرن الحادي عشر إلى مدينة فيينا في شمال مارسليا فرنسا واستقرت أخيراً في كنيسة يولياني في مدينة آرل الواقعة على مصب الرون غرب مارسيليا. وقد ظهرت منها معجزات كثيرة[20].
أقوال مأثورة للأنبا انطونيوس:
ولئن كان القديس أنطونيوس شبه أميّ لكنه تخرج كالرسل في مدرسة الروح القدس، وأخذ عن المتوحدين الذين سبقوه في هذه الطريقة وعاصروه. وصار أباً ومعلماً لعشرات الآلاف من الرهبان. وأخذ عنه تلاميذه الأقربون، ودونوا عنه رسائل روحية وأقوال مأثورة نورد فيما يأتي بعضاً منها على سبيل المثال لا الحصر[21]:
الاعتدال:
كلما لجأ الإنسان إلى الاعتدال عاش بسلام القلب بخلوه من الاهتمامات الزائدة بأمور كثيرة. لكن التعلّق بأمور هذا العالم ينشىء كدراً ويعود صاحبه التذمر على اللّـه. وهكذا تقودنا شهوات أنفسنا إلى الأتعاب ونتخبط في ظلمة الحياة الأثيمة.
الشره:
كل خبزك بسكينة وهدوء وإمساك. وإياك والشره فأنه يطرد خوف اللّـه من القلب، والحياء من الوجه ويجعل صاحبه مأسوراً من الشهوات ويضل العقل عن معرفة اللّـه. أجعل لك مرة واحدة في النهار للقيام بحاجة الجسد لا للشهوة ولا تاكل حتى تشبع.
تجنب الحديث الغليظ والكلام الباطل:
إياك والغلظة في الحديث لأن الذكي بالروح يتصف بالتواضع والعفة أكثر من كل شيء. يكتب الرسول بولس قائلاً: «لا تطفئوا الروح لا تحتقروا النبؤات» (اتس 5: 19، 20) ولتعلموا أنّ لا شيء يطفئ الروح مثل الكلام الباطل.
التواضع والغيرة:
لقد صليت لأجلكم حتى تقبلوا ذلك الروح الناري العظيم الذي اقتبلته أنا. وإذا أردتم اقتباله حتى يسكن فيكم فقدموا أولاً أتعاب الجسد واتضاع القلب. ويرفع أفكاركم للسماء ليلاً ونهاراً. اطلبوا ذلك الروح الناري بقلب مستقيم وسيعطى لكم. هكذا قبله إيليا التشبي واليشع وغيرهما من الأنبياء.
لا تتوهم بأنك عالم وحكيم لئلا يذهب تعبك سدى، وتمر سفينتك فارغة. ارفض الكبرياء وأعتبر جميع الناس أبرّ منك.
عندما تهب الريح هادئة يستطيع كل قبطان أن يفتكر في نفسه متعظماً، وأن يباهي بمهارته لكن عندما تتغير حال الرياح فجأة فحينئذٍ تنكشف خبرة الربان الحقيقية.
المواظبة على القراءة والعمل:
أتعب نفسك في قراءة الكتب المقدسة فهي تخلصك من النجاسة. فأذا جلست في قلايتك فلا تفارق هذه الاشياء: 1ـ القراءة في الكتب المقدسة،2ـ التضرع إلى اللـه،3ـ شغل اليد. وإن الراهب الذي يكون في قلايته غير ذاكر اللّـه تعالى، ولا قارئ في الكتب المقدسة، يكون كالبيت الخرب خارج المدينة التي لا تفارقه الاوساخ.
الطاعة :
إن الطاعة والمسكنة يخضعان الوحش لنا.
الكذب:
إياك والكذب فهو يطرد خوف اللّـه من الإنسان.
التفكير في الموت:
تفكر في كل يوم أنه آخر ما بقي لك في العالم فأن ذلك ينقذك من الخطيئة.
الهوامش
————————————
(1)ـ أنبا كلمة يونانية تعني الأب وتطلق خاصة على رئيس الدير، ويطلقها الأقباط على البطاركة والأٍساقفة أيضاً.
(2)ـ لم يكن في الغرب في ذلك الوقت إلا متوحدون مبتدئون في إيطاليا وفرنسا. وكانوا على صلة بالقديس أثناسيوس منذ نفيه هناك، وكتب القديس أثناسيوس الرسولي قصة القديس أنطونيوس عام 357م أي بعد وفاة الأنبا أنطونيوس بسنة واحدة على الأغلب، ونقلها جيروم وصديقه أوغريس إلى اللاتينية حوالي سنة 375م كما نقلت عبر الدهور إلى لغات عديدة، ونقلها إلى العربية، عن ترجمة إنكليزية، القس مرقس داود ونشرت في القاهرة، مصر سنة 1950.
(3)ـ الحبيس كلمة سريانية تعني ناسك حبس نفسه في صومعة تعبداً لله والجمع حبساء.
(4)ـ اللؤلؤ المنثور للبطريرك أفرام الأول برصوم طبعة بغداد 1976 ص 149.
(5)ـ بستان الرهبان لآباء الكنيسة القبطية طبعة مطرانية بني سويف عام 1968 ص 491 والدرر النفيسة في مختصر تاريخ الكنيسة للبطريرك العلامة أفرام الأول برصوم طبعة حمص عام 1940 ص 502.
(7)ـ كتاب السنكسار للكنيسة القبطية الأرثوذكسية طبعة القاهرة عام 1935 مج 1 ص 310.
(8)ـ الناؤوس ج نواويس: مقبرة النصارى، وحجر منقور تجعل فيه جثة الميت.
(10)ـ سيرته بقلم القديس أثناسيوس الترجمة العربية ص 25 و26 والخريدة النفيسة للأسقف إيسيذورس طبعة مصر سنة 1923 جزء 1 ص 196ـ 199.
(11)ـ قلاية، كلمة لاتينية Cellula أصلها منزل الراهب أي كوخه، ويراد بها أيضاً مسكن البطريرك والأسقف. ج قلالي وقلايات (اللؤلؤ المنثور في تاريخ العلوم والآداب السريانية ـ البطريرك أفرام الأول برصوم طبعة بغداد 1976 ص 501).
(12)ـ تقديس السنة المسيحية بقراءة سيرة القديسين اليومية ـ طبعة الموصل 1891 مج 1ـ ص 51.
(13)ـ الدرر النفيسة في مختصر تاريخ الكنيسة ـ البطريرك أفرام الأول برصوم ـ حمص 1940 ـ ص 502، وأديرة وادي النطرون للدكتور منير شكري طبعة الإسكندرية 1962 ـ ص105.
(14)ـ تقديس السنة المسيحية بقراءة سيرة القديسين اليومية ـ طبعة الموصل 1891 مج 1ـ ص 51.
15)ـ مكسيمينس الثاني دايا الإمبراطور الروماني على الشرق (305ـ 318)، اضطهد المسيحيين غلبه مناوئه ليقينيوس فانتحر.
(16)ـ المعترف من يتحمل الشدة والاضطهاد من أجل تمسكه بالإيمان بالمسيح ولم يستشهد.
(17)ـ الأنبا مكاريوس الكبير: ولد سنة 301 في شبشير منوفية بمصر وكان أبوه كاهناًً ورسم هو أيضاً كاهناً متزوجاً (قساً) ولكنه لم يعاشر زوجته وعاش معها بتولاً وبعد موتها توحد في الاسقيط بناء على الهام رباني جاءه برؤيا رآها. وتتلمذ على القديس الأنبا انطونيوس الذي يدعى أبا الرهبان كافة. وأخذ عنه طريقة الرهبنة واقتدى بحياته النسكية الفاضلة وتقشفه الصارم. فألبسه الأنبا أنطونيوس الاسكيم الرهباني… وتتلمذ على الأنبا مكاريوس كثيرون واشتهر بحسن رعايته لأبنائه الرهبان. كما اشتهر بصنع المعجزات وبنى له ديرين أحدهما لا يزال باقياً إلى اليوم ويحمل اسمه هو ( دير أبي مقار ) انتقل الى جوار ربه في التسعين، ورفاته محفوظة في ديره في وادي النطرون ( ملخصة عن يستان الرهبان ص 492 و 493 ).
(18)ـ سيرته بقلم الانبا أثناسيوس ص 111و112.
(19)ـ القديس انطونيوس ناسك انجيلي ـ الأب متى المسكين ـ من منشورات بيت التكريس بحلوان عام 1968 ص 51.
(21)ـ نقلا عن حياة الأنبا أنطونيوس القديس أثناسيوس الرسولي، والقديس انطونيوس ناسك انجيلي الأب متى المسكين وبستان الرهبان لأباء الكنيسة القبطية طبعة مطرانية بني سويف. وسيرة القديس العظيم الانبا انطونيوس طبعة مكنبة كنيسة مار مينا في الاسكندرية. الاقوال مترجمة عن ( الفيلو كاليا).