القديسة مريم المصرية
كاتب القصة، الطوباوي الأنبا زوسيموس:
عاش الأنبا زوسيموس في القرن الرابع للميلاد على الأرجح، وارتأى بعضهم أنه كان عائشاً في النصف الأول من القرن الخامس. وتنسّك مدة ثلاث وخمسين سنة في أحد أديرة فلسطين. واشتهر بتقواه وعفته ووداعته ومسامحته للأخوة ومحبته العميقة للـه والناس، وقد ذكر مرة لتلاميذه قصة عن محبته الخالصة لهم وهو يرشدهم إلى الإقتداء به بالمحبة، قال[1]: « جاءني في بعض الأوقات أحد الأخوة الآخذين مني الإسكيم، وكنت ألاطفه لأنه كان من الشباب المترفين، فقال لي: يا معلم أني أحبك. فقلت له: إني لم أجد بعد من يحبني كما أحبه. أنت قلت أنك، وصدقت في قولك، ولكنه أن عرض لك مني أمر لا تريده، فإنك لن تثبت على ما أنت عليه الآن، أما أنا فلا يغيّرني عن المحبة عارضٌ ما». وحدث، بعد زمان يسير، أن أنفصل عني، وصار يسبني كثيراً ويقول أقوالاً قبيحة، وكانت تبلغني. فكنت أقول في ذاتي: أن هذا هو مكوى يسوع، أرسله ليداوي تكبر نفسي، وكنت أقول لمن يخبرنا بهذا الكلام: أنه إنما يقول بما رأى من شروري التي كانت ظاهرة له أما قبائحي الخفية فلن يحصى عددها.
وبعد زمان، التقاني في قيصرية، وسلّم عليّ كعادته، أما أنا فقابلته ببشاشة، كأن لم يبدِ لي من قبيح، أما هو فسجد لي وقال: «يا معلم، من أجل الرب اغفر لي، فقد تقولت عليك بمثالب رديئة كثيرة». فقلت له بطلاقة وجه: هل تذكر محبتك عندما قلت لي أنني أحبك كثيراً؟ وقلت لك وقتئذ أني ما وجدت من يحبني كما أحبه، وليتحقق قلبك أنه ما خفي عني ما قلته، ولمن قلته وفي أي وقت قلته، وإن أردت قلته لك، ولم تقل شيئاً إلا وسمعته كما هو كما قيل، ولم يقنعني أي مُقنع أن أقول فيك قولاً رديئاً، ولم أترك ذكرك في صلواتي، ولكي تعلم صحة محبتي لك، فقد حدث لي في بعض الأوقات، أن أوجعتني عيناي وجعاً شديداً، فصليت وأنا منكبّ على وجهي وقلت: يا ربي يسوع المسيح اشفني بصلوات الأخ فلان وفي الحال شفيت. هذا هو جميع ما قلته للأخ ».
ساورت الطوباوي زوسيموس أفكار الكبرياء، وظن أنه قد بزّ آباء البرية بالزهد والتقشف وأعمال الفضيلة وبلوغ الكمال، وكاد أن يهوي في الخطيئة ويهلك روحياً لولا أن رحمة اللّـه افتقدته فانتشلته من وهدة الإثم، إذ جاءه أحد رهبان الدير مشيراً عليه بالذهاب إلى دير يقع على ضفة نهر الأردن، لينضم إلى رهبانه، ويقضي ما تبقى من حياته بين جدرانه. فأطاع زوسيموس وكأن ذلك الأمر جاءه من السماء، وشد الرحيل إلى ذلك الدير حيث استقبله رئيسه بإكرام وترحاب، وقال له: ما الذي أرسلك إلينا نحن المساكين البسطاء؟ أجاب زوسيموس: أتيت لأتعلم منكم سبيل الكمال. فقال له الرئيس: إننا بحاجة إلى من يعلمنا ذلك. فالكمال لله وحده. ثم سمح له رئيس الدير بالانضمام إلى صفوف الإخوة الرهبان، فتواضع زوسيموس كثيراً، وبدأ يفحص نفسه، فاكتشف سبب سقوطه ومتى جاءته التجربة وهكذا نجاه اللّـه من الشرير. وسلك في الطريق المستقيمة التي أوصلته إلى الكمال الإنجيلي.
الأنبا زوسيموس يلتقي القديسة مريم المصرية:
وكان الدير قريباً من البرية التي قضى فيها الرب يسوع أربعين يوماً وأربعين ليلة صائماً. وبحسب العادة المتبعة في ذلك الدير كان الرهبان في فترة صوم الأربعين يضربون في البرية منفردين، ممارسين خلال ذلك أصعب أعمال النسك والزهد والتقشف، ولا يعودون إلى الدير إلاّ في أحد الشعانين. وهكذا فعل الأنبا زوسيموس حيث عبر الأردن، وشرع يسير في البرية نهاراً ويتلو المزامير، وينام في العراء بضع ساعات الليل.
قبل انتهاء صوم الأربعين، لمح زوسيموس عن بعد شبه شبح يتحرك فتتبّعه وطلب من اللّـه بصلاة حارة أن يكشف له أمره، فألهم أنه إنسان، فواصل مطاردته والشبح يهرب من أمامه، وإذ أنهك التعب قوى زوسيموس سقط على الأرض وهو ينادي: أيها الإنسان توقف لأراك وأشفق على شيخوختي فأني أكاد أهلك من شدة الإعياء. فتوقف الشبح متستراً وراء أكمة وأجاب زوسيموس قائلاً: يا أبي زوسيموس أني امرأة، فإذا شئت أن تخاطبني فارم إليّ شيئاً أستتر به لأنني عريانة. واندهش زوسيموس من معرفة المرأة الغريبة اسمه، ولكنه أيقن أن ذلك حدث بإرشاد رباني، فطرح رداءه الخارجي فاتشحت به وجاءت وسجدت أمامه، فسجد هو أيضاً أمامها، وطلبت بركته لأنه كاهن اللّـه العلي، فزاد عجبه من أمرها بمعرفتها أنه كاهن. ولم يتمكن من إخفاء دهشته فقال لها: أيتها الأم الكريمة أرى أن اللّـه قد أنعم عليك بمواهب سامية، فقد عرفت اسمي ووظيفتي الروحية مع إننا لم نلتق من قبل، أرى أنك أمَة الرب التقية الفاضلة، فأرجو أن تباركيني وتصلي لأجلي ولئن كنت كاهناً. وإذ طلب منها ذلك بلجاجة، باركته. ثم طلب إليها أن تصلّي لأجله، فاتجهت نحو المشرق ورفعت يديها وبدأت تصلي ورآها زوسيموس وقد ارتفعت عن الأرض نحو ذراع واحدة أثناء الصلاة. فساورته الشكوك بأمرها وفكَّر في أنها تصنع هذا بقوة الشيطان. ففاجأته قائلة: لماذا تفكر في نفسك أفكاراً غريبة يا أبي زوسيموس؟ كن واثقاً بأنه ليس للشيطان شيء فيّ. وأنني وإن كنت خاطئة فإن رحمة اللّـه الواسعة افتقدتني ونعمته الغزيرة غمرتني.
وطلب إليها بإلحاح أن تكشف له سرها، وتسرد أمامه قصّتها لينتفع المؤمنون بسماع أخبارها. فأنبأته بقصة سقوطها في الخطية وتوبتها ونسكها، ولكنها التمست منه ألا يخبر أحداً بأمرها قبل موتها. كما طلبت إليه أن يأتيها في العام القادم بالقربان المقدس لتتناول جسد الرب ودمه وتتحد بالمسيح لأنها منذ خمس وأربعين سنة لم تسنح لها الفرصة للاشتراك بسر القربان المقدس وقالت له متنبئة: أنه لن يخرج إلى البرية خلال الصوم الأربعيني في العام التالي ولذلك عليه أن ينتظرها على ضفة نهر الأردن يوم خميس الفصح المقدس ومعه جسد الرب ودمه الأقدسان… ودعها زوسيموس وقفل راجعاً إلى ديره فوصل إليه صباح عيد الشعانين ولم يخبر أحداً بما سمع ورأى. وفي العام التالي مرض ليلة صوم الأربعيني فلم يتمكن من الخروج إلى البرية كسائر رهبان الدير، وتمت بذلك نبوتها، وبحسب طلبها جاءها يوم عيد الفصح إلى ضفة نهر الأردن وهو يحمل القربان المقدس، فلم يجدها، وكان يتطلع بقلق يمنة ويسرة، وظن أنها جاءت في غيابه وعادت إلى البرية إذ لم تجده. وحزن كثيراً وصلى إلى اللّـه ألا يحرمه من رؤيتها ولقائها والتحدث إليها، وفيما كان على هذه الحال إذ به يراها واقفة في الضفة المقابلة، وشاهدها ترسم علامة الصليب على النهر وتعبر ماشية على الماء وكأنها تمشي على اليابسة، فعبرت دون أن تبلل ملابسها… وتناولت القربان المقدس من يده شاكرة الرب الذي أنعم عليها بعد خمس وأربعين سنة لتتحد به بتناول جسده ودمه الأقدسين. وكان زوسيموس قد أحضر معه بعض البقول والبلح وتوسل إليها لتأخذ ذلك معها، فإكراماً له ونزولاً عند لجاجته، أخذت بيدها قليلاً من الترمس مظهرة امتنانها منه. وطلبت إليه أن يعود إليها في العام التالي ليلتقيها في فترة صوم الأربعين في المكان الذي التقيا فيه أول مرة في البرية… ثم ودعته، ورسمت علامة الصليب على النهر وعبرت سائرة على الماء كما جاءت… وفي العام التالي خرج زوسيموس إلى البرية في صوم الأربعين وجاء إلى المغارة التي لقيها أول مرة فلم يجدها ثم فوجئ بمشاهدتها ساجدة، وقد رفعت يديها إلى السماء، ولما تقدم منها وجدها ميتة… فبكى عليها كثيراً… ووجد أمامها الكلمات الآتية مكتوبة على الرمل: «أبي زوسيموس ادفن جسد الخاطئة المسكينة مريم المصرية وضم التراب إلى التراب أكرماً لربنا يسوع المسيح». فتعجب من ذلك كثيراً خاصة وأنه في اللقاءين السابقين نسي أن يسألها عن اسمها فكُتب الآن اسمها على الرمل فتعزى بذلك. وحاول أن يحفر لها قبراً فلم يقو على ذلك لشيخوخته، فأرسل اللّـه له أسداً حفر قبرها بمخالبه وغاب، فصلى الأنبا زوسيموس على جثمانها الطاهر ودفنها. وكانت سنة 421 وقد بلغت من العمر ستاً وسبعين سنة وقد اكتشف ضريحها بعد أجيال.
وبعد دفنها عاد القديس زوسيموس إلى ديره وأذاع قصة القديسة مريم المصرية سارداً إياها بالتفاصيل كما حكتها هي له.
والآن وقد علمنا النهاية الصالحة لهذه القديسة، وجدنا من الفائدة بمكان العودة إلى بدء قصة حياتها لإكمال مراحلها الشيقة فنسرد باختصار مقدمة هذه الحوادث التاريخية الصادقة وبقية أجزائها مستندين بذلك إلى الحقائق التي أعلنتها القديسة مريم المصرية ذاتها للقديس الأنبا زوسيموس.
ولادتها:
وُلدت مريم على الأرجح في الإسكندرية نحو سنة 345 من أبوين مسيحيين، ولما بلغت الثانية عشر من عمرها هوت في وهدة الإثم والفجور وتمرّغت في حمأة الشهوات الشبابية، ومكثت على هذه الحال الفاسدة مدة سبع عشرة سنة.
وذات يوم أبصرت سفينة مكتظّة بالحجاج القاصدين مدينة (القدس) للاشتراك في احتفال عيد الصليب والتبرّك من خشبته المقدسة. فانضمت إلى ركاب السفينة لتغري بعضهم وتسقطهم في الخطية.
وفي المدينة المقدسة حاولت يوم عيد الصليب الدخول مع المؤمنين إلى كنيسة القيامة، فشعرت وكأن يداً خفية تصدّها وتمنعها من الدخول بل تبعدها عن عتبة باب الكنيسة فلا تتمكن من أن تتخطاها، وحاولت مرات عديدة ولكن دون جدوى. فانسحبت من بين المؤمنين ووقفت بعيداً تتأملهم وهم يتزاحمون ويتسابقون بالدخول إلى الكنيسة بكل ثقة وإيمان، وتمنّت لو كانت مؤمنة مثلهم لاستحقت أن تتبارك من خشبة الصليب التي يقصد الجمهور التبرك منها… ولأول مرة في حياتها منذ انغماسها في الآثام، شعرت بضميرها يؤنبها، وأخذت تتأمل بحياتها الآثمة المليئة بالأدناس، وتقارن ذلك بنقاء سيرتها السابقة في ظل والديها التقيين وتحت جنح آباء كنيستها الأفاضل، عندما كانت تقوم في خلواتها وهي طفلة بصلوات حارة في الكنيسة أمام أيقونة العذراء مريم… فتفجرت الدموع من عينيها… وانسحق قلبها ندامةً على ما هي عليه من البعد عن اللّـه القدوس، وعلى عدم استحقاقها وهي النجسة، من دخول كنيسة اللّـه المقدسة… وناجت العذراء مريم الطاهرة النقية لتصلي من أجلها كي يتقبل الرب يسوع توبتها كما قبل توبة الخاطئة، والعشار، ولص اليمين… وشعرت حينذاك بقوة خفية تضمها إلى صفوف الداخلين إلى الكنيسة، فدخلت دون أية صعوبة، وبعد أن تبركت من خشبة الصليب، وقفت أمام أيقونة العذراء مريم تصلي، وتطلب منها لتشفع من أجلها ليمنحها الرب حياة الطهر والقداسة، فجاءها صوت من الأيقونة قائلاً: «اعبري نهر الأردن فهناك تجدين مكاناً لخلاصك وتنالين رضى اللـه». فنذرت نفسها للـه، وصممت تكريس ما بقي من حياتها لعبادته تعالى.
وخرجت من كنيسة القيامة، ودخلت كنيسة أخرى حيث اعترفت أمام كاهنها وتناولت القربان المقدس، ثم غادرت المدينة المقدسة متجهة نحو نهر الأردن وفي الطريق تصدق عليها أحدهم بثلاثة دراهم فضة ابتاعت بها ثلاثة أرغفة خبز… فعبرت نهر الأردن منطلقة إلى البرية حيث بدأت النسك والتزهد ولها من العمر تسع وعشرون سنة وتعبدت في البرية سبعاً وأربعين سنة، قاست المرائر في السنين السبع عشرة الأولى منها محاربة إبليس لها بالتجارب الصعبة بتذكيرها بحياتها الأولى الآثمة، وإثارة رغائب الجسد الفاسدة، وتسليط روح القنوط واليأس في قلبها لإعادتها إلى أباطيل العالم، ولكنها كانت تواصل الصلاة وتطلب العون من الرب فقوّاها الإله القدير ونصرها على الشرير. وقد سلكت في حياتها النسكية في سيرة السواح الأبرار، الذين لم يكن لهم أين يسندون رؤوسهم، وكانت في حالة اختطاف مستمر وهي في حالة الذين يعيشون للسماء وهم لا يزالون بالجسد. فبعد أن أمضت مدة من الزمان تقتات بأرغفة الخبز الثلاثة التي كانت ابتاعتها قبل الخروج إلى البرية، وشرعت تقتات بما يصادفها من أعشاب البرية وجذور غرساتها، وبليت ثيابها وبقيت عريانة تتحمل برد الشتاء وحرّ الصيف القائظ ولم ترَ في البرية خلال تلك الفترة وحشاً مفترساً كما لم تلق وجه إنسان حتى التقاها الأنبا زوسيموس في السنة الخامسة والأربعين لنسكها وسياحتها، ووقف على سيرتها ودوّنها كما مر بنا.
وتعيّد الكنيسة القبطية الأرثوذكسية الشقيقة في السادس من شهر برمودة المصادف الأول من شهر نيسان من كل سنة.
أما الأنبا زوسيموس فقد عاش طويلاً، وكان بعد دفنه القديسة مريم المصرية يزور ضريحها سنوياً والموضع الذي التقيا فيه لأول مرة، ويتشفع بها حتى انتقل إلى جوار ربه وعمره مائة سنة.
المصادر
ـ السنكسار القبطي طبعة القاهرة عام 1951 مج 2.
ـ بستان الروح للراهب القس شنودة السرياني طبعة 1960 مج 1.
ـ الرموز المسيحية ودلالتها لجورج فيرجستون ترجمة الدكتور يعقوب جرجس نجيب طبعة مصر 1964 ج2.
ـ القديسة مريم المصرية للقمص بيشوي عبد المسيح الطبعة الرابعة القاهرة 1979.
ـ الدر الثمين في أخبار القديسين ـ لمكسيموس مطلوم.
ـ بستان الرهبان لآباء الكنيسة القبطية طبعة مطرانية بني سويف عام 1968.
الهوامش
——————————————————
(1) ـ عن بستان الرهبان لآباء الكنيسة القبطية طبعة مطرانية بني سويف عام 1968 ص 467 و 468.