في سر الكهنوت
مار طيمثاوس يعقوب موصلية
مطران دير مار متى (+1966)
رداً على القائلين لا كهنوت في العهد الجديد
تدّعي بعض الفرق المسيحية أن لا كهنوت في العهد الجديد وتستند في رأيها هذا على قول الرسول بطرس: «كونوا أنتم أيضاً مبنيين كحجارة حيّة بيتاً روحياً كهنوتاً مقدساً لتقديم ذبائح روحية مقبولة عند الله بيسوع المسيح» (1بط2: 5)، وقوله «وأما أنتم فجنس مختار وكهنوت ملوكي أمة مقدسة شعب اقتناء لكي تخبروا بفضائل الذي دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب» (1بط2: 9).
وقول صاحب الرؤيا: «وجعلنا ملوكاً وكهنة للّه أبيه» (رؤ1: 6) وقوله: «مبارك ومقدّس من له نصيب في القيامة الأولى هؤلاء ليس للموت الثاني سلطان عليهم بل سيكونون كهنة للّه والمسيح وسيملكون معه ألف سنة» (رؤ20: 6) نجيب أولاً: على نصوص الرسول بطرس قائلين: إن كل كلمة قيلت يجب أن يعرف 1ـ زمن قولها، 2ـ مرمى قائلها، 3ـ مفعولها، 4ـ نتيجتها، 5ـ وهل هي تاريخية، أو نبوية، أو تعليمية.
1ـ قيلت هذه الكلمة حين كان المؤمنون أطفالاً في الروحيات وحديثي الدخول في الديانة المسيحية ومملكة يسوع الروحية.
2ـ كان مرمى قائلها تعظيم منزلة الذين آمنوا بالمسيح واعتنقوا ديانته الطاهرة وإجلال مرتبتهم الروحية ورفعة شأنهم في المسيح يسوع. ففي العهد القديم كان الكهنوت منوطاً بسبط لاوي وحده، وكان محظوراً على أي كان من باقي الأسباط أن يتعاطى وظيفة الكهنوت. حتى إن الذي تجاسر على ذلك أورده اللّه حتفه بأشنع ميتة (عدد 16) وفضح الآخر بإخراج برص في جبهته حتى بادر هو بنفسه إلى الهرب من الخزي والعار مع أنه كان ملكاً (2أي 26: 17ـ 21) فإن كان الملك ورفعة شأنه وقدره العظيم لم يتسنَّ له أن يمارس وظيفة الكهنوت فكم بالعوام الذين ليس لهم شأن يذكر. هذا ما كان في العهد القديم من عزة شأن الكهنوت مع أن كثيرين من أولئك الناس كانوا مشتاقين لذلك فلم يتسنَّ لهم، ولو في حلمهم، أما في العهد الجديد فلم يُنَطْ الكهنوت في قبيلة من الناس أو في سبط من أولئك الأسباط، بل أعطي عموماً لمن يستحقه فكان قصده أن يعرف المؤمنين أن تلك الخدمة العظيمة التي كانت محظورة عليكم وكنتم ممنوعين عنها في عهدكم القديم فها الآن لا تمنع عمن يستحقها من جميع الناس فإذاً لا يستفاد من قوله أن المؤمنين جميعاً هم كهنة بل بعضهم ولكن من أي قبيلة كانت ومن يستحق ذلك.
3ـ ومفعول هذا الكلام: تشجيعاً للمؤمنين وتعليمهم أن منزلتهم لهي أعظم من منزلة كهنة العهد القديم الذي كانوا مشتاقين إليه، بل كانوا يتلهفون من الدنو منه لاعتقادهم أن تلك الخدمة هي أجل خدمة في الأرض وأسمى وظيفة أعطيت لبني آدم.
4ـ ونتيجتها هي: لمّا يعرف المؤمنون أن منزلتهم تسامت في الروحيات وزاد شرفهم باعتناقهم الديانة المسيحية فيزيد إيمانهم ويقوى فيهم الرجاء الذي كانوا ينتظرون أن يجنوه من ثمار تلك الديانة الطاهرة.
5ـ أما هذا الكلام فليس هو بكلام تاريخي يخبر عن العصور الغابرة، وليس هو نبوي ينبئ عما سيحدث في العصور المستقبلة، بل هو كلام تعليمي ووعظ روحي وتنشيط لسامعيه فيزيد رسوخهم في الإيمان وتشنّه فيهم الغيرة الروحية وتقوي عزيمتهم، وذلك ظاهر من قوله في أول هذا الإصحاح: «فاطرحوا كل خبث وكل مكر والرياء والحسد وكل مذمة، وكالأطفال مولودين الآن اشتهوا اللبن العقلي العديم الغش لكي تنموا به إن كنتم قد ذقتم أن الرب صالح» (1بط2: 1)، وقوله: «فلكم أنتم الذين تؤمنون الكرامة، وأما للذين لا يطيعون فالحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية وحجر صدمة وصخرة عثرة الذين يعثرون غير طائعين للكلمة الأمر الذي جعلوا له» (1بط2: 7ـ 9).
هذا معنى كلام الرسول بطرس في العددين المذكورين وقد أوضحناه بطريقة موجزة. أما كلام صاحب الرؤيا فيحلّه علم البيان هكذا، ولا خلاف بين نص وآخر مما أوردنا.
ثانياً: يجب أن يلاحظ في الكلام عند تفسيره علاقته بعلم البيان وتطبيقه على أصوله ومعرفة ذلك من أي نوع من فروع البيان هو. فنصوص صاحب الرؤيا هي ألفاظ مجازية أي هي اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة مع قرينه مانعة من إرادة معناه الأصلي الموضوع له. مثال ذلك «ما أفصح هذا الخطيب فإنه ينثر من فيه الدرر الغوالي واللآلئ الحسان» فهل الحقيقة أنثرَ ذلك الخطيب من فيه درراً ولآلئ؟ فالجواب كلا. بل أنثر من فيه كلاماً فصيحاً ذا معانٍ جليلة يشبه الدرر واللآلئ وهذا ما يعرف بالمجاز الاستعاري.
إذاً كلام صاحب الرؤيا ليس هو كلام حقيقي بل كلام مجازي استعاري، لأنه قال في النص الأول: «وجعلنا ملوكاً وكهنة» (رؤ1: 6) فهل حقيقة صرنا ملوكاً وكهنة، الجواب كلا، بل صرنا ملوكاً وكهنة بالمعنى المجازي لا الحقيقي وهذا حل النصّين الآخرين من كلام صاحب الرؤيا.
ومما يزيد الكلام وضوحاً هو أنه قال: «جعلنا ملوكاً وكهنة» فإذا فرضنا جدلاً أننا كهنة فهل نكون ملوكاً أيضاً، فالجواب كلا، إذاً لسنا كلنا ملوكاً ولا كهنة وقد ورد في الكتاب المقدس جمل كثيرة مجازية وهي أن صاحب الرؤيا ذكر قيامتين تتقدم إحداهما على الأخرى ألف سنة (رؤ20: 4و5) فهل من الممكن أن يكون قيامتان؟ فالجواب كل،ا بل إنما مراد الرائي وقصده بهذه اعتناق الإنسان الدين المسيحي وحصول بعض نعم خصوصية للأنفس المؤمنة قبل القيامة، خلاف ما يرتابه جاحدو كهنوت العهد الجديد من نزول المسيح إلى الأرض ثانية وتردده بين الناس ألف سنة ويكون أكثر رجال بلاطه من أولاد يعقوب وغير ذلك من الآراء الفاسدة.
ولنورد هنا بعض آيات العهد الجديد لتثبيت موضوعنا هذا وهي من باب الشبه للمبالغة. قال السيد المسيح لرسله الكرام: «أنتم ملح الأرض» (مت5: 13) ثم أردف قائلاً: «أنتم نور العالم» (مت5: 14) وقال الرسول بولس: «لأنكم كنتم قبلاً ظلمة وأما الآن فنور في الرب» (أف5: 8) فهل استحال الرسل إلى ملح ونور؟ أو هل المؤمنون قبل الإيمان كانوا ظلمة حقيقية وبعده استحالوا إلى نور؟ فانظروا واحكموا وانصفوا!!
هذا ما تضمنت تلك النصوص المعترض بها على كهنوت العهد الجديد ونزيد على ذلك تثبيتاً للحقيقة الكهنوتية فنقول:
وردت نبوات في العهد القديم تُنبئ على حقيقة كهنوت العهد الجديد وتثبت وجوده وهي صريحة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، وهاك بعض تلك النبوات. قال المرتل: «كهنتها ألبس خلاصاً وأتقياؤها يهتفون هتافاً» (مز132: 16و17) وقال النبي إشعيا: «وأما أنتم فتدعون كهنة الرب تسمون خدام إلهنا»(اش61: 6) وقال:«واتخذ أيضاً منهم كهنة ولاويين» (اش66: 21و22)، وقال إرميا النبي في نبوته عن المسيح: «في تلك الأيام وفي ذلك الزمان انبت لداود غصن البر.. ولا ينقطع للكهنة اللاويين إنسان من أمامي يصعد محرقة ويحرق تقدمة ويهيّئ ذبيحة كل الأيام» (إر33: 15ـ 19) وقال ملاخي النبي: «فيجلس ممحصاً ومنقياً للفضة فينقي بني لاوي ويصفيهم كالذهب» (ملا3: 3). هذا ما ورد في النبوات في العهد القديم تثبيتاً لتلك الحقيقة الراهنة وأما في العهد الجديد فقد صرح الرسول جلياً بأن المسيح رئيس كهنة (عب2: 17) ورئيس كهنة عظيم قد اجتاز السموات (عب4: 14) وكاهن إلى الأبد على مرتبة ملكيصادق (عب5: 6) و(7: 15، 8: 1، 9: 11) وقد سمّى الرسول ذاته كاهناً بقوله: «حتى أكون خادماً ليسوع المسيح لأجل الأمم مبشراً لإنجيل اللّه ككاهن ليكون قربان الأمم مقبولاً مقدساً بالروح القدس» (رو15: 16) هذا ما ورد من النصوص الصريحة المثبتة حقيقة كهنوت العهد الجديد ورئاسته على رتبة ملكيصادق. وهات الآن نقارن بين خدمة كاهن العهد القديم وخدمة كاهن العهد الجديد فنقول:
1ـ تقدمة الذبائح: كانت وظيفة كهنة العهد القديم تقديم الذبائح لأن كل رئيس كهنة مأخوذ من الناس، يقام لأجل الناس، فيما للّه لكي يقدم قرابين وذبائح عن الخطايا (عب5: 1) وكهنة العهد الجديد أيضاً يقدمون ذبيحة جسد ابن اللّه ودمه الطاهرين (لو22: 19)، غير أن أولئك كانوا يقدمون ذبائح رمزية وظلية، أما هؤلاء فيقدمون ذبائح غير دموية وحقيقية ليس على رتبة هرون بل على رتبة ملكيصادق الذي قرب خبزاً وخمراً (تك14: 18).
2ـ كانت وظيفة أولئك النظر في الأحكام إذ قال له اللّه: «إذا وجد في وسطك في أحد أبوابك التي يعطيك الرب إلهك رجل أو امرأة يفعل شراً في عيني الرب إلهك بتجاوز عهده ويذهب ويعبد آلهة أخرى ويسجد لها أو للشمس أو للقمر أو لكل من جند السماء الشيء الذي لم أوصِ به وأخبرت وسمعت وفحصت جيداً وإذا الأمر صحيح أكيد قد عمل ذلك الرجس في إسرائيل فأخرج ذلك الرجل أو تلك المرأة الذي فعل ذلك الأمر الشرير إلى أبوابك الرجل أو المرأة وارجمه بالحجارة حتى يموت» (تث17: 2ـ 5) وقد أعطى عين هذا السلطان إلى كهنة العهد الجديد بل أعظم منه بأضعاف إذ سلمهم السيد المسيح سياسة أمور الكنيسة والحكم بالعدل بين بنيها إذ قال: «وإن لم يسمع منهم فقل للكنيسة (الرعاة) وإن لم يسمع من الكنيسة فليكن عندك كالوثني والعشار» (مت 18: 17) وقد استعمل الرسل هذا السلطان إذ سلم بولس هيمينايس والاسكندر للشيطان لكي يؤدّبا حتى لا يجدفا (1تي1: 20) وقد تكلّم عن المحاكمة أمامهم قائلاً: «أيتجاسر منكم أحد له دعوى على آخر أن يحاكم عند الظالمين وليس عند القديسين ألستم تعلمون أن القديسين سيدينون العالم» (1كو6: 1و2) وأعطى السيد لهم سلطان الحكم وقال:«الذي يسمع منكم يسمع مني والذي يرذلكم يرذلني» (لو10: 16) ومن يقبلكم يقبلني (مت10: 40) وأعطاهم سلطان الحلّ والربط (مت 18: 18) وكل ذلك للنظر بالأحكام وحلّها والحكم على المذنب.
3ـ كان كهنة العهد القديم يعلمون الشعب شريعة الله وناموسه (تث 33: 10) و(ملا 2: 6) وكهنة العهد الجديد أيضاً أرسلهم سيدهم وقال لهم: «فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم… وعلموهم أن يحفظوا كل ما أوصيتكم به» (مت 28: 19و20). نتج مما تقدم أنّ في العهد الجديد كهنوتاً يسمو على كهنوت لاوي لأنه ليس على رتبة هرون بل على رتبة ملكيصادق وذلك من تطبيق النصوص المعترض بها علينا على أصول علم البيان ونبوات العهد القديم وتثبيت ذلك من العهد الجديد والمقارنة بين كهنوت العهد القديم وكهنوت العهد الجديد.