سر الزواج
بقلم مار طيمثاوس يعقوب موصلية
مطران دير مار متى (+1966)
مقدمة
الزواج سر مقدس وجد في العالم مذ وجود أول إنسان فيه وهو سبب بقاء الجنس البشري على وجه العراء. بل هو ناموس من نواميس العمران والإلفة والاجتماع. سنّه الله قديماً إذ خلق الإنسان الأول. ولم يشأ أن يتركه منفرداً بل شاءت إرادته السرمدية فأوقع سباتاً عليه فنام. فأخذ إحدى أضلاعه وكوّن منها أول امرأة وأحضرها إليه ففاق من نومه ورآها وقال لأول وهلة بوحي إلهي «هذه الآن عظمٌ من عظامي ولحمٌ من لحمي هذه تُدعى امرأةً لأنها من امرئٍ أُخذت» (تك 2: 23).
هذا ما ناسبه الله تعالى بقوله «ليس جيداً أن يكون آدم وحدهُ فأصنع لهُ معيناً نَظيرهُ» (تك 2: 18) وبعد صنعها وإحضارها إليه قال الكتاب «باركهم وقال لهم أثمِرُوا واكثُروا املؤوا الأرض وأخضعوها» (تك 1: 28).
ومذ خلق الله العالم إلى يومنا هذا لا تزال هذه السنّة محفوظة عند جميع الأمم، مقدسة في جميع الأديان، شاغلة المقام الأسمى عند جميع طبقات البشر. وهي سمة الألفة والسلام وركن من أركان النظام الأدبي السائِد في الأرض قاطبة. ولكن قد تغيّرت هذه السنّة مع تغيّر البشر إذ صار الرجل يملك أكثر من امرأة والمرأة أكثر من رجل واختلّ النظام الأدبي الذي سنّه الخالق عندما خلق الإنسان إذ خلقهما ذكراً وأنثى لا أكثر (تك 1: 27) وبات هذا النظام مختلاً فاسداً محلول العرى حتى جاء الكامل (1كو 13: 10) القدوس (1بط 1: 16)، ورأى أن نظامه الأدبي الذي وضعه قد اختلّ وانحلّت عراه فلم يرضَ أن يبقى كذلك ذلك الجنس السامي الذي خلقه على صورته ومثاله الأقدس (تك 1: 27) بل أعاده مثلما كان أولاً وجدّده وسنّ له قوانين أدبية جديدة وباركه إذ حضر أول عرس دعي إليه في قانا الجليل وصنع فيه تلك الآية العظيمة إذ حوّل الماء خمراً (يو 2: 1ـ11) وهذا دلالة على شدة فرحه في ائتلاف البشر مع بعضهم وتجديد تلك الجبلة الكريمة المخلوقة على صورته الجميلة. فتشرّف في ذلك العرس وملأه بركاتٍ ونِعماً بحضوره فيه.
وقد أيّده وجعله سراً مقدساً بردّه على سؤال الفريسيين والكتبة بخصوص الطلاق قائلاً: «أما قرأتم أن الذي خلق من البدءِ خلقهما ذكراً وأُنثى. وقال من أجل هذا يترك الرجل أباهُ وأمهُ ويلتصق بامرأته ويكونُ الاثنان جسداً واحداً إِذا ليسا بعدُ اثنين بل جسدٌ واحدٌ. فالذي جمعه الله لا يفرقُهُ إِنسانٌ» (مت 19: 4ـ6).
ويتّضح لنا من كلام الرسل أن هذا السر سامٍ جداً «قال الرسول بولس من أجل هذا يترك الرجل أباهُ وأمهُ ويلتصق بامرأته ويكون الاثنان جسداً واحداً هذا السر عظيمٌ ولكنني أنا أقولُ من نحو المسيح والكنيسة» (إف 5: 31). إذاً قد أيّد الرسول هذا السر ودعاه عظيماً. وقارن بين الرجل والمرأة، والمسيح والكنيسة، وعمل مشابهة كلية بينهم إذ قال «أيها النساءُ اخضعن لرجالكُنَّ كما للرب لأن الرجل هو رأس المرأة كما أن المسيح رأس الكنيسة… أيها الرجال أحبوا نساءكم كما أحب المسيح أيضاً الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها. لكي يقدسها مُطهراً إيّاها بغسل الماءِ بالكلمة. لكي يُحضرهَا لنفسه كنيسةً مجيدةً لا دَنَسَ فيها ولا غضن أو شيءٌ مثل ذلك بل تكونُ مقدسةً وبِلا عيبٍ. كذلك يجبُ على الرجالِ أن يُحبّوا نِساءَهُم كأَجسادهم » (اف 5: 22ـ28) ومما يؤيد ذلك بالأكثر الواجبات الزوجية التي فرضها هذا الرسول في بعض رسائله راجع (1كو 7: 3 و11: 9ـ12 و كو3: 18و19).
وطبقاً واستناداً على هذه الأقوال الإلهية والبراهين المقدسة الرسولية تسير الكنيسة وتعتقد أن الزواج سر مقدس سامٍ معطى من الله. وعلى هذا أجمعت جميع الكنائس المسيحية.
أما الغاية منه فهي كما قال الكتاب: 1ـ تعاون الزوجين وتعاضدهما في أمور الحياة واكتساب المعيشة لهما ولأولادهما (تك 2: 18). 2ـ لحفظ تناسل الجنس البشري (تك 1: 28). 3ـ صيانة كيان المرء وحفظ حياته الروحية وذلك من الانفعالات الجسدية.
في الخطبة
لا بدّ أن تكون قبل عقد سر الزواج أيام يعرف بها الخطيبان بعضهما ليتّفقا برضى كليهما على الحياة الاجتماعية التي لا تفصل عراها ما دام الاثنان متفقين على رأي واحد. فالخطبة هي عقد عهد وميثاق صادر عن محبة قلبية وغاية مقدّسة شريفة بين الخطيب وخطيبته مباشرة أو بين أهلهما… أو أوليائهما.
أما كون هذا الاتفاق يتم برضى الخطيبين خصوصاً فلأن الشريعة المسيحية تعلم ذلك وقوانين الكنيسة ومعلّميها وذلك لئلا يكون عدم رضى أحدهما سبباً لتنغّص حياتهما في المستقبل أو يمكن أن يؤدي ذلك إلى فراقهما وسقوطهما بعد ذلك بالرذائلِ. وبالتالي إذا كانت الخطبة رغم إرادة أحدهما فلا تكون خطبة حقيقية فقوانين الكنيسة تشجب من يسبّب ذلك إن كان من والديّ الخطيب أو الخطيبة. فالأحسن إذا كان الأمر كذلك أن يتصرف الخطيب بعقله إذا أرغمه والداه على تزوّج من يأبى زواجها. وهاك ما قالته قوانين الكنيسة عن ذلك «إن التي لها سلطان على نفسها وتكون سنّها كاملة فلها أن تقارن بعلاً على ما يوجبه الناموس ولو كان أبوها كارهاً وهذا حكم الولد ذكراً كان أو أنثى» (المجموع الصفوي ب24 ف4).
وأما إذا أحب شاب فتاة وأحبّته هي أيضاً وأراد أن يتزوّج بها فليأخذ رضى والديه قبل كل شيء لأن قوانين الكنيسة تأمر بذلك وهاك ما قاله القديس باسيليوس «إن القوانين الكنائسية وبالأحرى الشريعة المسيحية تأمر الأبناء أن يأخذوا رضى وإذن والديهم أو متولي أمورهم في الزوجات اللاتي يريدون الاقتران (ق 40 و41). هذا فضلاً عن أن في العهد القديم كان الأولاد يسترضون والديهم في ذلك. فشكيم عندما أحبّ دينة ابنة يعقوب كلّم حَمُورَ أباهُ قائِلاً خُذ لي هذه الصبية زوجةً (تك 34: 4) ونزل شمشون إلى تِمنَةَ ورأى امرأةً في تِمنَةَ من بناتِ الفلسطينين فصعِدَ وأخبرَ أباهُ وأمهُ وقال قد رأيت امرأة في تِمنَةَ من بنات الفلسطينين فالآن خُذَاهَا لي امرأةً (قض 14: 1و2). وأما إذا كان الشاب يتيماً فله بنفسه أو بكتابة أو بواسطة أحد أصدقائه أن يخطب له امرأة وهاك ما قررت عن ذلك قوانين الكنيسة «والمخطوب له إن لم يكن تحت ولاية غيره صحّت خطبته لنفسه إما بنفسه أو بكتابة أو بمن يرضاه واسطة» (المجموع الصفوي ب24 ف2).
قلنا سابقاً إن الخطبة الحقيقية يجب أن تكون برضى الخطيبين خصوصاً وذلك لا ينفي رضى والديهما أو أولياء أمرهما. فإن من جرّب الحياة وذاق مرارتها وحلاوتها واحتمل حرّها وبردها، فلا بدّ أن يكون أدرى وأبصر ممن كان حديث السن، قليل المعاشرة مع الناس، عديم الامتحان بأمور الحياة والإدارة المنزلية. إن ذلك يختار على الأكثر الحسن والجمال ويفضّله على الأدب والدين والفضيلة. إذاً يجب على الوالدين أو الأولياء أن ينتخبوا لولدهما امرأة يرضى بزواجها. فإن قوانين الكنيسة لا تسمح لهم أن يرغموا ولدهم ليزوّجوه بمن لا يرضى بزواجها. فيكونوا قد أفسدوا حياة شخصين طول حياتهما. وجعلوهما يتجرّعان كؤوس العطب بعدم اتّفاقهما. وأفسدوا العائلة عن بكرة أبيها أو يكون الأولاد أيضاً مخاصمين غير متّفقين كوالديهم.
أما صفات الفتاة التي يخطبها الوالدان لولدهما فهي هذه حسبما حدّدها ابن العبري قائلاً: «لتكن متديّنة، صالحة، جميلة، طائعة، وديعة، هادئة، حليمة، نشيطة، مجتهدة، بتول، من جنس الولادات، من جنس صالح، من قبيلة زوجها، مطابقة لاعتقاد زوجها» (ܐܝܬܝܩܘܢ ـ الأخلاق م2 ب2 ف5). وقد زاد على هذه الصفات في كتاب الهدايات ما يأتي «لتكن غير مخطوبة لآخر، وأن لا يكون بينهما قرابة شرعية، أو رضاعية، أو إشبينية، غير مطلّقة، ولا يقلّ سنّها عن الاثنتي عشرة سنة، خالية من كل عيب جسدي» (هدايات ب8 ف1).
أما إذا كان الأمر بيد الخطيب فيجب أن يراعي هذه الشروط في انتخاب خطيبة لنفسه، وزد على ذلك أن يعرف أخلاقها وأطباعها وميولها، وأن يعرفها حق المعرفة، أي يعرف والديها، وتدبيرها المنزلي وإدارتها وسياستها مع أهل بيتها وكيفية معاملتها معهم، وأن يلاحظ هذه الفوائد:
1ـ يجب أن يحذر من الجمال الباطل المجرد عن الآداب
الدينية والمدنية لأن «الحسن غش والجمال باطل» (أم 31: 30) (الهدايات ب8 ف1).
2ـ يجب عليه أن ينظر خطيبته قبل الخطبة ويتأمل في آدابها وأخلاقها وحسنها ومطابقة أخلاقه مع أخلاقها، لئلا يخطبها قبل معرفتها ويترك خطبتها بعد ذلك لعدم مطابقة أخلاقه مع أخلاقها، لأنه ينتج من ذلك كسر صيت الفتاة وجلب العار عليها (الهدايات ب8 ف1).
في موانع الزواج
قال معلّمنا بولس الرسول «ليكن الزواج مكرّماً عند كل واحد والمضجع غير نجس» (عب 13: 4).
إن الزواج يجب أن يكون مكرّماً كما حث الرسول على ذلك أي يجب أن يكون مقدساً خالياً عن كل موانع شرعية تأباها الطبيعة والكتب المقدسة وقوانين الكنيسة وآباؤها. وأما إذا كانت هناك موانع شرعية تمنع ذلك وسار الناس رغماً عنها فلا يكون ذلك الزواج مكرّماً ولا ذلك المضجع طاهراً لأن فاعلها تعدّى الطبيعة والكتب المقدسة والقوانين الكنائسية، وفعل رغماً عن موضوعها بل يكون زواجه ضد الديانة المسيحية ومناقضاً لروح الآداب والطبيعة البشرية. إذاً يجب أن تكون للزواج المسيحي حدود لا يتعدّاها بنو الديانة المسيحية وذلك حبّاً بالقداسة ومطابقة لروح هذه الديانة الطاهرة. وأما موانع الزواج فهي:
أولاً: كما حدّدها ابن العبري في كتاب الهدايات (ب8 ف3) وهي على ستة وجوه كما يأتي:
1ـ القرابة الأهلية: وهي: أم ـ أخت ـ بنت الأخ ـ بنت الأخت ـ عمة ـ خالة ـ بنت العمة ـ بنت الخالة ـ بنت العم ـ بنت الخال. ويجب أن يبعد الزوجان عن بعضهما بسبعة أظهر مثلاً: الخطيب هو يوسف، ابن يعقوب، ابن اسحق، ابن إبراهيم. المخطوبة هي رفقة بنت نوئيل، بنت ملكا، بنت هارون أبي إبراهيم. وهذا الشرط ينطبق على القرابة الجنسية والإشبينية من المعمودية. والأخوة من الرضاعة.
2ـ أهلية الأهلية: الرجل والمرأة جسد واحد إذاً بنت المرأة هي بنت الرجل ولو كانت من رجل آخر وأم المرأة هي أمه وأختها أخته. وقال القديس باسيليوس تلك التي لا تجوز إلى جميع الذين هم قريبون لك بالجسد أن تكشف عورتهم هي جامعة وماسكة، فإذاً لا يكون أقرب من الرجل والمرأة إذ ليسا اثنين بل واحد. إذاً لا أم ولا أخت امرأته لها سلطان أن تتزوج بأحد من قرائب زوجها.
3ـ أهلية الأهلية الجنسية وهي: امرأة الأب لأنها أم، وامرأة الابن لأنها بنت، وامرأة الأخ لأنها أخت، وامرأة العم لأنها عمّة، وامرأة ابن العم لأنها بنت العم، وامرأة الخال لأنها خالة، وامرأة ابن الخال لأنها بنت الخال.
4ـ القرابة الرضاعية: قالت قوانين الكنيسة: إن المرضعة هي أم الرضيع وأولادها إخوة له وبناتها أخواته، ورجلها أبوه، وأخوها خاله، وأبوها جده، وقصارى القول إن أولادهم إخوة محضاً ولا يجوز زواجهم إلى ما بعد كمال السبعة أظهر كما مرّ بك. وذلك بشرط إذا دامت الرضاعة سنتين كاملتين، أما إذا قَلَّت عن ذلك فلا تحسب رضاعة كاملة وبالتالي لا تجعل الرضيع أخاً لأولاد المرضعة، فلا بأس من زواجهم من بعضهم إذا أرادوا.
5ـ القرابة الإشبينية في المعمودية: قرّرت قوانين الكنيسة أن الحامل هو أبو المحمول وامرأته أمه وأولاده إخوته، والحاملة هي أم المحمولة وبعلها أبوها وأولادهم إخوتها إلى الأبد، وإخوتهم أيضاً أعمام وعمات، وأخوال وخالات، ولا يجوز الاقتران ببعضهم إلا بعد تمام سبعة أظهر.
6ـ القرابة الإشبينية في الإكليل: حدّدت قوانين الكنيسة أن الإشبين هو أخ للعريس، والإشبينة أخت العروس، وأولادهم أولاد الإخوة والأخوات، فلا يجوز زواجهم ببعضهم إلا بعد نهاية خمسة أظهر من نحو العريس وثلاثة أظهر من نحو العروس.
ثانياً: يمنع زواج مؤمنة بغير مؤمن وبالعكس (الهدايات ب8 ف3) وهاك ما قرّره عن ذلك المجمع النيقاوي المقدس «وللرجل المؤمن أن يتزوّج غير المؤمنات بشرط دخول الزوجة في الإيمان، فأما النساء المؤمنات فلا يتزوّجن بالرجال الخارجين عن الإيمان لئلاّ ينقلوهنّ إلى مذاهبهم ويخرجوهنّ من الإيمان» (نيقية ق57).
ثالثاً: لا يجوز زواج حرّ بجارية وبالعكس وذلك إلاّ بعد الإطلاق القانوني. وهاك ما حدّدته عن ذلك القوانين الكنائسية «المسيحي الحرّ ليس له سلطان أن يملك جاريته ويتزوّجها ولو كانت مسيحية إلا بعد أن يُطْلِقها، ولا جارية غيره إلا إذا كان عبداً، وليس له سلطان أن يملك حرّة إذا كان عبداً، أما إذا كان حرّاً ولم تكن فتاة حرة ليتزوّجها وهو يخاف أن يسقط بنار الشهوة الجسدية في الرذيلة فليحتمل أكثر من ذلك لأن الصبر أحسن مما يجعل أولاده عبيداً بزواجه بجارية لأن أولاد الجارية هم عبيد ولو كان أبوهم حراً وأولاد الحرة أحرار ولو كان أبوهم عبداً» (الهدايات 8 ف3).
رابعاً: يمنع من الزواج من كان ناقص الخلقة، لأن الزواج قد وجد لإنتاج الذرية فالناقص إذاً لا يباح له أن يتزوج لأنه غير قادر على أداء واجب زوجه الآخر، ولكن إذا كان ذلك النقص مؤقتاً فليعالج حتى يشفى، أما إذا كان مزمناً ولا يرجى شفاؤه فيمنع صاحبه من الزواج البتة، وإليك ما قرّرته عن ذلك قوانين الكنيسة «إن ما يمنع عن الاجتماع المقصود بالزيجة وهو إمّا طبيعي كالعنين وهو الذي لا يتمكّن بطبيعة شخصه من الاجتماع المذكور: والخنثى وهو الذي له فرج الذكر والمرأة معاً في موضوع واحد وكمن لها عظم زائد مانع: وإما عرضي وهو ثلاثة أضرب أحدهما الخصي، وثانيهما الجنون الذي يكون زمان الإفاقة منه أقل، وثالثهما الأمراض القاطعة كالجذام، وأما البرص فالأمر فيه راجع إلى الاختبار» (المجموع الصفوي ب24 ف2).
خامساً: يمنع من الزواج الذي يصرع ذكراً كان أو أنثى، وذلك لأنه يتهيّج دمه وينتج منه ابتلاء ذريته بأنواع العاهات الخبيثة.
سادساً: لا يجوز أن يتزوج من كان مبتلياً بمرض خبيث مُعدٍ ولا يرجى شفاؤه.
سابعاً: قلنا سابقاً إن الزواج الشرعي يتم برضى الفريقين أما إذا أبى أحدهما فلا ينبغي زواجهما مطلقاً وهذا ما حدّدته عن ذلك قوانين الكنيسة «عدم رضى كل واحد من الرجل والمرأة بزيجة الآخر أو رضاه اغتصاباً بأحد وجوه القهر يمنع الاقتران ببعضهما» (المجموع الصفوي ب24 ف2).
إذاً يجب على الكاهن أن يلاحظ ذلك بكل دقة ويسأل أولاً الخطيبين ويأخذ رضى كليهما وبعد ذلك يجري الإيجاب.
ثامناً: يمنع زواج المطلقة لعلة الزنى كقول السيد له المجد «من يتزوّج مطلّقة فإنّه يزني» (مت 5: 32) (المجموع الصفوي ب24 ف2).
تاسعاً: يمنع من الزواج من كان مقيّداً ويراد بالقيد التزوّج وقد سافر زوجه إلى بلدة بعيدة وانقطعت أخباره فليمكث بلا زواج مقيّداً بزواجه الناموسي مع زوجه الغائب. وأما إذا أراد أن يتزوج فليدقّق وليكاتب البلاد التي ظُنَّ أن زوجه فيها فإن لم يأخذ عنه خبراً من تلك البلاد أو أخبروا بموته فيتزوّج إذ ذاك. أما إذا حدث أن الزوج الذي ظنّوه قد مات هو بعد على قيد الحياة وقد تزوّج ذاك أيضاً فيجب أن يترك زوجه الثاني ويلحق الأول إن كان بعد ماكثاً بلا زواج، أما الأولاد الذين ولدوا من الثاني فيحسبون شرعيين أحراراً.
عاشراً: يمنع عن الزواج من لم يبلغ الحد اللائق للزواج وهو اثنتي عشرة سنة للأنثى وأربع عشرة سنة للذكر وأما إذا كان في ذلك ضرورة قصوى فالحكم بذلك للأسقف أو للكاهن إذا كان الأسقف بعيداً (وليس من اللائق أن يتزوج رجل يناهز الخمسين من العمر بفتاة حديثة السن، …).
هذه أهم موانع الزيجة سردناها هاهنا وثبتناها من القوانين الكنائسية ولا يجوز مخالفتها.
أما إذا اقتضى الأمر أن تُحَلّ واحدة منها فالتي هي مثبتة من الكتب الإلهية والقوانين الطبيعية لا تُحل البتة وذلك كقرابة دموية أي ابن وأم وما فوق، وبنت وحفيدة ..الخ. وعدم الرضى والقيد والعجز عن القيام بواجبات الزواج كما مرَّ بك.
أما الموانع الأخرى فإنّها تُحل بأمر السنادوس وذلك لأجل ضرورة قصوى وذلك خوفاً من انشقاق أو من حدوث فتنة عظيمة بين عشيرتين لأنه قيل «كل ما تحلّونه على الأرض يكون محلولاً في السماء» (مت 18: 18). فقد أعطى السيد له المجد نوّابه سلطاناً كي يستعملوه عند الإيجاب والضرورة فقط.
في ما يفسخ الزواج
قلنا سابقاً إن الزواج سرّ مقدّس ومكرّم عند كل واحد ومضجعه غير دنس (عب 13: 4) فما دام ذلك كذلك يجب أن تحفظ له تلك القداسة والنزاهة بل أن يمكث غير دنس مكرّم عند كل أحد فإن حدث اختلال فيه وزالت نزاهته وتشوّه شكله واختلّ نظامه، بين الزوجين فيُفرَّقا من بعضهما إذا طلبا الفرقة كلاهما أو أحدهما، وذلك لدواع ضرورية تحل العقد بينهما وتزيل المودة من قلوبهما فيصبح زواجهما كفراً واتّحادهما لعنة لأن النظام القانوني الموضوع بينهما قد انحلّت عراه وزال عنه زيّه، وأما تلك الدواعي الضرورية فتُقسم إلى قسمين وهما: طبيعية وشرعية.
أولاً: الأسباب الطبيعية:
1ـ الخنوثة: ففي الرجل يكون ناقصاً وعاجزاً أن يعطي حق المرأة. فإن كان قد حدث ذلك قبل الزواج والمرأة تعلم بذلك فيفرّقا حالاً عند طلب المرأة. وأما إذا حدث ذلك بعد الزواج فليمكثا معاً سنة واحدة والرجل يعالج نفسه في خلالها فإن لم يشفَ في تلك المدة قالت بعض القوانين إنّهما لا يعزلان وقالت قوانين أخرى يعزلان عند تحقق المرأة أن الرجل لا يشفى البتة، لأن المرأة أيضاً لها طبيعة بشرية ضعيفة كقول الرسول بولس «لئلا يجرّبكم الشيطان لأجل شهوة أجسادكم» أما ابن العبري فيقول يجب أن يعزلا بعد تلك المدة.
أما خنوثة المرأة فهي أن يكون لها بعض أعضاء الذكور وتمنع الرجل من الاشتراك البتة، فإن كانت قد حدثت قبل الزواج والرجل يعلم فيطلّقها حينما شاء وذلك بأن يكاشف رؤساء الكنيسة في القضية. أما إذا حدثت بعد الزواج ليصبر عليها سنة واحدة حتى تعالج نفسها. فإن لم تشفَ وقطع رجاءَه من ذلك يطلّقها بعد نهاية تلك المدة.
2ـ القطع أو الخصي: إذا قطع عضو التناسل من العروق وهذه كلّها توجب الطلاق لأن الرجل عاجز أن يؤدّي واجب الزواج وغير قادر على إنتاج ذرية.
3ـ الانطباق في النساء: وهو ما يمنع اجتماع الذكر مع المرأة وهذا يوجب الطلاق لا محالة.
4ـ الانسداد في النساء أيضاً: وهو أن يصير في أنوثة المرأة سلعة تمنع اجتماع الذكر معها، فهذا أيضاً يوجب الطلاق.
أما هذان النوعان إذا لم يمنعا الرجل من الجماع فلا يطلّقها، ولكن إذا منعاه فينتظرها سنة فإن استمرت هكذا فلْيطلّقها.
5ـ الجذام: الذي يوجب الطلاق هو الذي يشّوه الوجه ويقبّحه ويحيط بالعينين وينثر الأجفان.
6ـ البرص: الذي يوجب الطلاق فهو الجرب العتيق الذي نما وانتشر في أكثر الجسم، ويكون عميقاً في اللحم مائلاً إلى البياض وينبت فيه شعر أبيض، وإذا نُخِز بإبرة يخرج منه نقيطات ماء بيضاء.
7ـ الجنون: الذي يوجب الطلاق هو وجع الصرع فهذا إن حدث بعد الزواج ينتظرها الزوج الآخر سنة واحدة أو أربع سنوات وإن لم يشف يطلق.
8ـ نتانة الفم وجريان الفم على الفراش في الليل: يوجبان الطلاق.
هذه أهم الأسباب الطبيعية التي توجب الطلاق فمنها ما يصيب الرجل ومنها ما يصيب المرأة ومنها ما يصيب كليهما.
ثانياً: الأسباب الناموسية أو الشرعية:
فهي أحرى بالطلاق من الأسباب الطبيعية لأنّه قد نص عن بعضها الإنجيل المقدس وهي قوله «من طلّق امرأته إلا لعلّة الزنى يجعلها تزني» (مت 5: 32) …
أما الأسباب الشرعية فهي هذه:
1ـ زنى المرأة …
2ـ يجب فراق الزوجين إذا حاد أحدهما عن الدين المسيحي …، أما إذا صار … من المذاهب المسيحية فلا يفرَّقان.
3ـ يجب فراق الزوجين إذا اتّفقا معاً بأن يترهّبا كلاهما أو أحدهما، والباقي منهما بغير رهبنة إذا أراد فليتزوج ثانية.
4ـ يجب الفراق أيضاً إذا كان أحد الزوجين ساحراً أو فاتح فال أو معرّفاً أو مستحضراً الأرواح. (الهدايات ب8 ف5).
في إعادة الزواج
تكلّمنا في الفصل السابق عن الطلاق وفسخ الزيجة وذلك قانونياً بشهادة آباء الكنيسة والكتاب المقدس، فإذا فسخنا الزواج هل يبقى الزوج المستحق الزواج وحيداً يتجرّع كؤوس العطب ويحتمل آلام الوحدة وهو في شخص لا يقدر على ذلك لا بل ولا يرضاه، أو إذا مات أحد الزوجين فهل يبقى الحي بلا زوج وهو لا يقدر الاحتمال لكونه شاباً أو صاحب عيال وليس من يدبّر عياله، وهذا ما أيّده القديس بولس بقوله: «المرأةُ مرتبطةٌ بالناموس ما دام رجلها حياً. ولكن إن مات رجلها فهي حرةٌ لكي تتزوج بمن تريد في الرب فقط» (1كو 7: 39) وهذا القول ليس عن المرأة فقط بل يشمل الرجل أيضاً وهاك ما قاله الرسول تثبيتاً لذلك «ولكن أقول لغير المتزوجين وللأرامل، إنه حسَنٌ لهم إذا لبثوا كما أنا. ولكن إن لم يضبطوا أنفسهم، فليتزوّجوا. لأن التزوّج أصلحُ من التحرّقِ» (1كو 7: 8و9).
وأما الزواج فيعاد ناموسياً مرة واحدة وهذا ما قاله القديس باسيليوس الكبير «الزواج الثالث لا يحسب زواجاً بل زنى فاحش كما أن سيدنا قال للسامرية «ليس هو زوجك» (يو 4: 18) (الهدايات ب8 ف2).
وقال القديس غريغوريوس الثاولوغوس «إن الزواج الأول ناموسي والثاني له غفران، والثالث عبور الشريعة، والرابع تدبير خنزيري» (الهدايات ب8 ف2) ولكن في هذا النوع ليس للأرامل بركة إكليل بل يصلّي له صلاة التوبة. لأنه محتاج إلى التوبة كما قرّر مجمع لاذقية «الذين تزوّجوا ثانية بالناموس والشريعة إذا بالصوم والصلاة يعطى لهم قربان» (الهدايات ب8 ف2) وأما الآن فقد تساهلت الكنيسة مع أولادها فكل ما ترمّل أحد له حق أن يتزو̮ج حسب الناموس ولكن لا يبارك له الإكليل كما قلنا، ويجب أن يتوب الأرمل المتزوّج بزواجات متعدّدة وهاك ما قرّره عن ذلك مجمع ناوقسارية «الذين سقطوا في كثرة الزواجات على قدر رجوعهم يزاد وينقص الزمان المحدد عليهم بالقانون» (الهدايات ب8 ف2). …
الذي منع زواج أختين للأخوين، القديس قرياقس التكريتي بطريرك أنطاكية ومجمعه المقدس في بيت باتين سنة 794م في القانون الخامس والثلاثين حتى أّنه منع أن تتزوّج امرأة ابن أخي زوجها، فكم بالحري أخيه (أخي زوجها) وكذلك القديس يعقوب الرهاوي الفيلسوف المشهور المتوفي سنة 708م منع هذا في القانون المئة.