الأيام الستة
: مقارنة بين الخليقتين الأولى والثانية
: أهم الجبال وما فيها من معادن
في الأنوار التي خلقها الله في فلك السماء
: تغيرات تحدثها الشمس في الأرض
في البهائم والوحوش وكل زحافات الأرض –
الانسان الذي خلقه الله على صورته –
اليوم الأول
في تكوين السماء والأرض وما فيهما وما معهما –
مار يعقوب الرهاوي
هذه هي الخليقة الثانية . وهي جسمانية وهيولية ، متكونة من أربعة عناصر مختلفة هي : التراب ، والماء ، والهواء ، والنار .
أن العلة الأولى الخالقة وصانعة الكل والقادرة على كل شيء ، تتحرك نحو الخلق لطفاً منه ، وأن ما دعا الله ليخلق الكائنات ، هو صلاحه الوافر . وأنه تعالى الخالق والصانع أبداً ، والقوي والقادر على أن يفعل ما يشاء ، والحكيم العليم بما يجب أن يكون . أوقف بحر نعمته عن الفيضان لما رأى ذلك مناسباً ، وصد قوة اقتداره الخلاق القادر على كل شيء ومنع إرادته عن الخلق . ولما حسن لمشيئته ، ورأت حكمته العارفة بكل شيء أن الخلق صار أمراً ضرورياً ، فيكشف عن بحر صلاحه ، أظهر قوة اقتداره ، وأعلن معرفة حكمته ، بعد مرور عصور طويلة لا يتصورها البشر . وباعتقادي ، كان له أن يمتنع عن خلق أي من الكائنات ، بعد خلق تلك العقول التي أبدعها العقل الأعظم على صورته ، تلك الأشعة الساطعة الثانوية التي أصدرها النور الأول ، تلك القوات الروحية والسماوية وغير الهيولية أو الجسدية ، ذلك الجمال السني والنموذجي الذي يفوق الكل ، تلك الصور المطابقة لصورة باريها بمقدار ما يسمح به للمخلوقين ، خدام مشيئة خالقهم النشيطين . وبعد هذه الخليقة البسيطة والمشابهة لله ، القوية والسريعة ، العاقلة والروحية ، القريبة إلى خالقها والمنتسبة إليه بشكل ما : شاء أن يخلق أخرى مغايرة له وبعيدة عنه . خليقة محسوسة وكثيفة وجسدية وكثيرة التغير ، فتحرك نحو خلقها لكونه صالحاً ، وبصفته قوياً وقادراً على كل شيء . حرك إرادته لتنفيذ العمل ، وكحكيم عارف بكل ما يلزم ويتطلب ، فأنه أغنى هذه الخليقة منذ اللحظة الأولى ، لتأتي كافية من كل النواحي للذي كان عتيداً أن يخلق من بعدها
لذلك ، فأن الكلمة الخالق ، لكونه صالحاً وقوياً وحكيماً ، والابن الوحيد لله الأب العقل الأعظم ، خالق وصانع الكل ، الذي هو أيضاً إله حق ، وابن إله حق ، وحكمة وقوة أبيه ، ويمينه وذراعه القوية ، وشعاع مجده ، والصورة الكاملة لصلاح أبيه : جاء بخليقتنا هذه المحسوسة والجسدية بلحظة : من عدم الوجود ، إلى الوجود ، وفي اطار ما يستوعبه العقل من الكتاب الالهي الموحى به من الروح . أقول بتحفظ ومسترشداً الروح : أن الله الخالق والعلة الأولى ، بكلمته وروحه المساويين له في الأزلية والسرمدية والقوة والارادة والسلطة والعمل! أبدع هذا العالم المنظور والمحسوس والهيولي بهذه الصورة العظيمة ، وهذا الجمال العجيب البديع ، من سماء وأرض وما يتوسطهما وما فيهما وما معهما
فقد قال الروح الملهم عن هذه الخليقة ، على لسان موسى : “في البدء خلق الله” أو كما ذهب مترجمون آخرون : “في البدء صنع الله السماء والأرض” . ولكن ليس هناك اختلاف في المعنى بين خلق وصنع .
ولا يختلف الأمر عما نتداوله نحن البشر ، وكلتا الكلمتين توضحان للسامع والقارىء الذي من أجله قيل ودون : أن هذه الخليقة لم تكن موجودة اطلاقاً . بيد أن الله خلقها وصنعها وأوجدها وثبتها ، وبلحظة جاء بها بكل ما فيها من منظر وكيان ، كما ترى الآن منظورة ومحسوسة بكل ما فيها من تغيير وتنويع وخصائص متباينة ومدهشة ، التي وجدت فيها وعليها وإلى جانبها . والكتاب ، لم يقل أكثر من “خلق الله السماء والأرض” . لأنهما معروفتان وظاهرتان ومنظورتان ويعترف بهما كل واحد . فكل واحد وحتى السذج الذين لا يتقصون الأمور ، يرون السماء والأرض أكثر من كل الأشياء الأخرى ، ولكن خلقة هذه الأشياء مع السماء والأرض سوية ، أمر ظاهر ومعترف به ولا جدال فيه ، أعني بها التراب والماء والهواء والنار ، العناصر الأربعة التي منها راكب ويركب كل ما في العالم من أجساد ، وإليها تعود وتنحل
: مفهوم الخلق
أبدع الله هذا العالم وما فيه من جمال مدهش يفوق الوصف وبأشارة من أرادته ، وبلمح من قوته الهائلة ، فوراً ، وبلحظة زمن واحدة غير متجزئة وخاطفة
هذا ما أستطيع أن أعبر عنه بكلمات بشرية ، معترفاً بعدم وجود أية كلمة أو لفظة تعطي المعنى الملائم لكلمة صنع وخلق . فالله ، باعتباره خالقاً قوياً وصانعاً ماهراً ، أبدع مادة جسمانية ، كافية لجميع متطلبات أعماله الكثيرة والعجيبة ، ومختلف الطبائع الجسدية ، وتباين الأصناف التي لا يشبه بعضها البعض والتي لا يحصى عددها . وكلها مهمة وضرورية ومفيدة ، ويشهد لها الخالق بأنها حسنة
: أصل العناصر الأربعة
ولكي ينظر الانسان ويدرك أنها قد خلقت وأعدت له ، وجدت أربعة عناصر رئيسية وقوية وعامة . هي : التراب والماء والهواء والنار ، منها يتركب هذا العالم وكل ما يرى فيه ويحس به ، أي كل الأجسام المنظورة التي تقع تحت الحس . ويجب أن نفهم ، أن هذه المادة ذات المتغيرات الأربعة ، أي العناصر الأربعة التي خلقها الله بلحظة ، كانت مختلطة وغير متميزة ، وأن عناصرها أيضاً كانت غير متميزة ، فكان الماء مختلطاً مع التراب دون تمييز ، ككتلة من الطين معجونة ومجبولة ومغربلة ومتمازجة من التراب والماء ، ومعهما الهواء والنار . ومثل قلاع مستدير مركب ومختلط من الحصى الرملي والتراب والماء والتبن . هذا هو التصور الذي يتخيله العقل الفاحص . وكانت العناصر الأربعة مع بعضها البعض ، كرة واحدة مستديرة وكثيفة ومتلاحمة . ولم تكن المياه نقية وخالية من التراب بحيث يمكن أن يخترقها شعاع ما ساطع ، أو يسمح للنظر أن يخترقها كما هي عليه الآن في صفائها . ولم يكن للتراب قوام تام وثابت بحيث يامس بكثافة وحقيقته . وبنفس الصورة ، لم يكن أيضاً الهواء من النار ، ولا النار من الهواء كلياً : غير أنها كانت مختلطة ومغربلة مع بعضها البعض ، مثل سبيكة خليط من فضة ونحاس ورصاص . يصنعها الطماعون الجشعون والغشاشون الذين يغشون الفضة والذهب . وحينما يحاول الصياغ تصفيته من ذلك النحاس الممزوج به غشاً ، لا يسعهم إلا أن يمزجوا هم أيضاً رصاصاً ويلقوا به في نار شديدة الحرارة . وبهذه الطريقة وحدها يستطيعون تنقيته . وهذا ما ينبغي أن نتصوره قبل كل شيء بالنسبة إلى عناصر المادة الأربة المخلوقة حديثاً ، فقد كانت ممزوجة ولكن لكل منها خصائصه التي خصه بها الخالق ، تقوده قسراً إلى المكان الذي خصصه له الخالق من الخليقة الأولى ، وهذا ما جعله أن يكون متميزاً عن الأخرى .
_ تشبيه :
وإليك تشبيهاً نسبياً بحدود بحدود ما يستطيعه الكلام ، ومثالاً يشير رمزياً إلى ما نحن بصدده ، إذ لا يمكن تقديم تشبيه مطابق له تماماً . ولكن من الضروري أن نبرهن على هذا بالمقارنة ما أمكن ذلك ، ليهتدي السامع والقارىء إلى فهم أعمق… فلكي يبرهن الانسان على هذا ، عليه أن يأخذ إناء من الزجاج النقي مستديراً وكروياً ، ويلقي فيه سوية وبنفس المقدار ، زيجاً وعسلاً نقياً وماء وزيتاً ، فيشاهدها بكل يسر ووضوح ، تتفاعل كل بحسب خاصية طبعه ، حتى يستقر في المكان المناسب له . حيث يترسب الزيج وفوقه العسل ، والماء فوق العسل ، والزيت فوق جميعها . وإذا شاء الذي يحمل الإناء أن يقلب عاليه سافله ، بقصد تغيير أمكنتها ، فأنه يلاحظ على الفور تفاعلها الطبيعي والقسري والذي لا مداهنة فيه اطلاقاً حتى يأخذ كل مكانه كالسابق فيطوف الزيت فوق جميعها ويليه الماء ويأتي العسل في الوسط ، والزيج أسفل الكل . وأن شئت فخذ كذلك إناء زجاجياً واملأه بالماء واغلق فوهته ، فسوف تلاحظ للحال تفاعل الهواء داخل الماء ، حيث يجزئه أجزاء كثيرة ويتصاعد في داخله كخيوط رفيعة حتى يرتفع فوقه نهائياً ، ويتحرر من الاشتراك معه
والآن أفرغ الاناء إلى النصف ، وألق فيه قليلاً من التراب الناعم ، وخضه بالماء حتى يختلطا تماماً ويفقد كل منها شكله الطبيعي . وإذا تركتهما مدة ساعة واحدة ، ترى كيف أنها تنفصل هي بذاتها عن هذه الخلطة ، ويأخذ كل منها مكانه الطبيعي . فيستقر التراب في الأسفل . وفوقه الماء ، في حين أن الهواء يرتفع فوق كليهما . وهذا هو شأنها حيثما وجدت وامتزجت سواء في الينابيع أو المستنقعات أو الأنهار أو الجداول الصغيرة ، حيث يرسب التراب في الأسفل ، وفوقه الماء والهواء فوق كليهما . وإذا أردت أن تشاهد النار تتفاعل لتستقر في المكان المخصص لها . ولئن كان هذا غير ممكن في مثل هذا ، لكنك تستطيع مشاهدتها وهي تقوم بتفاعلها الطبيعي لتنفصل عن شركة الثلاثة الأخرى ، وتنتحي المكان الذي خصصه الخالق لها . وبالتوهجات والأبخرة المتصاعدة من القدور والمراجل المستعرة ، والأبخرة الرطبة المتصاعدة من الأرض والتي تسخن بالشمس ، وبالروائح والأدخنة المتصاعدة من الحرائق ، بكامل منظرها وهي تتصاعد من اللهب والمواقد والكوانين ، فتمزق الهواء وتخترقه بألسنتها النارية الملتهبة . وأن شئت أن ترى هذا بصورة سهلة ، يمكنك أن تلاحظ حركات النار نحو الأعلى ، في إناء الزجاج نفسه الذي لاحظت فيه حركة التراب والماء والهواء . حيث تصب فيه ماء ساخناً بدلاً من الماء البارد ، فتشاهد وهجها يتصاعد فوراً إلى الأعلى فوق الهواء الذي في داخل ذلك الإناء
: خصائص العناصر
فبهذه البراهين والتشابيه تدرك ، ولو يسيراً ، أن الله خلق طبيعة خاصة لكل من هذه العناصر الأربعة ، تجعله ينحرف إلى المكان المخصص له من الخالق ، بموجب الخصائص التي أعطيت له . فمن خصائص التراب ، الجمود والكثافة الداكنة ، وما أعطي من صلابة وثقل وبرودة ، واليبوسة الشبيهة بالتي للنار التي خلقت لتكون داخل ووسط وأسفل الكل وتحيطها المياه من الأعلى ومن الخارج ومن الجهات الست . ولتشبه بصورة ما أي النقطة الصغيرة البيضاء التي تشاهد في وسط صفار البيض الذهبي ، فمثلما يحيط الصفار بتلك النقطة من جميع الجهات ، هكذا تحيط المياه الأرض من جهاتها الست ، بسبب وزنها وبرودتها وكثافتها النسبية . ويحيط بالماء من الخارج ومن فوق ومن سائر الجهات أو الجوانب : الهواء الأكثر رقة ونقاء وسرعة وصفاء ولطافة ، المجرد من كل خاصية اللون : مثلما يحيط البياض الأصيل والجميل بصفار البيضة . وقد خلق الله خارج هذا وفوقه ، ما هو بمثابة قشرة البيضة الرقيقة واليابسة والصلبة التي تحيط بالبيضة ، ألا وهو النار الساخنة والمضيئة والمنيرة والسريعة والأكثر مرونة من الكل ، وذات يبوسة كالتراب ، لتحيط من الخارج والداخل بالعناصر الثلاثة الأخرى التي ذكرناها . الهواء والماء والتراب ، لكي توضع هذه العناصر الأربعة مع بعضها البعض ، من الداخل والخارج ، بشكل كروي مستدير ، فالتراب في الماء وتحته ، والماء في الهواء وتحته ، والهواء في النار وتحتها . هكذا كونت وخلقت هذه العناصر من قبل الله صانعها ، متحركة ضمن بعضها البعض . وكل يتحرك نحو المكان المخصص له . فالتراب يتحرك بالماء نحو الداخل والأسفل ، والماء يتحرك بالتراب من فوق ومن الخارج ، والهواء يتحرك في الماء من فوق ومن الخارج ، والهواء يتحرك في النار من تحت ومن الداخل . وهكذا … فأما أن تنجذب نحو الأسفل ، تلك التي خلقت لتكون في الأسفل ، أو أن تقفز نحو الخارج ، تلك التي خلقت لتكون أعلى من التي تحتها .
: مقارنة بين الخليقتين الأولى والثانية
هذه هي الخليقة الثانية التي أبدعها الخالق ، وهي ، نظراً لما فيها من تغيرات عديدة ، بعكس تلك غير المنظورة والعاقلة ، خليقة القبول المنيرة والمضيئة والروحية والسماوية والشبيهة بالله ، فتلك غير محسوسة ولا جسمانية . أما هذه فمحسوسة وجسمانية ، تلك لطيفة ورقيقة وتدرك بالعقل فقط ، أما هذه فكثيفة وثقيلة وهي ترى بالعين المجردة أو بأية حاسة اخرى . تلك غير متغيرة وثابتة ومستمرة بلا فساد ، أما هذه فقابلة دائماً للتغيير والتحوير والفساد . تلك ابتدأت ولن تنتهي ، أما هذه فأبتدأت وسوف تنتهي ، أو بحسب تعبير الكلمات المقدسة السرية : يطالها تغيير كبير ثابت لا يطرأ عليه تعديل . ويشهد الكتاب على أن تلك خلقت في بدء التكوين . أما هذه فلم يذكر حتى متى أبدعها خالقها . تلك بسيطة وذات عقل فريد . أما هذه فمنقسمة أربعة أقسام منذ بدايتها ، وتزدحم فيها الأضداد . وهكذا تبدو هذه الخليقة الثانية ، غريبة ومتباينة في مزاياها بعكس تلك الأولى ، فهي وحدة بعنصر واحد
أ- عنصر التراب
وسوف أبدأ الكلام بالعنصر الأقرب إلينا ، الذي نطأه ونقف ونسير عليه ، أعني به الأرض أي التراب ، وبتعبير آخر ، المدر هذا القلاع الذي نجلس ونتدحرج عليه ، فهو العنصر الأول للمادة التي خلقها الله في الخليقة الثانية المتغيرة . وهذا العنصر هو جسم جامد وكثيف ، صلد وصلب ، فيه ألوان متنوعة وأشكال متباينة وروائح ومذاقات من كل نوع . وهل أصل العقل والبرودة ، وسبب الكوارث وصانع المهالك ، ومصدر الظلام الدامس البغيض المقيت . وبسبب هذا دعاه المانويون الهاً شريراً : هؤلاء الذين لا إله لهم ، وهم أشرار وأولاد الشرير ، كما أن آباءهم المرقيانيين وأجدادهم الأوائل هم الآخرون دعوه كذلك . ويقول فالنتينينس أنه في حرب مستمرة مع الشمس الإله الصالح وواهب الحرارة . وكان بودي أن أبين حقيقة الشر بكلمات قليلة وموجزة ، إذ ليس بمقدوري الاسهاب في الأمر . إلا أن الوقت ليس وقت جدال ، ولا الموضوع هو موضوع البحث هنا
أن الأرض هي مصدر جميع العطور والأبخرة التي تعطي روائح يستنشقها الأحياء . . فأما أن تكون عطرة أو كريهة . وهي أصل مختلف المذاقات التي تتذوقها الأفواه والمرىء فاحصة الخصائص . وفيها أنواع مختلفة مما يحتاجه الناس في استعمالاتهم ، كالحديد والنحاس والقصدير والرصاص والزجاج والفضة والذهب والالكترون والجواهر والأحجار الكريمة والثمينة ، والعقيق والبلور ، والياقوت والفيروز واليشب أي الجمرة ، والسمانجوني ، والكرستال وحجر الماس والحجر الأسم ، والمغناطيس ، وغيرها من مواد الحجر والكحل والزرنيخ والعفص والمفرة والتوتيا والزاج ، مع مواد أخرى متنوعة ، وبرادة الحديد ، والزيوت التي تنساب من خصوبة هذه ، المعدة وهي ضرورية لمهنة الطب وسواها من المهن ، ومستلزمات الانسان ، مثل الحناء والقير والكبريت والنفط وكثير غيرها موجودة في هذا الجسم كما يروي خبراء المعادن . وبواطن الأرض (الجيولوجيون) والذين يشقون الترع والقنوات ، فما يتصاعد من الأرض ، ليس فقط الأبخرة والعطور الذكية والطيبة والمفيدة ، أنما تتصاعد أيضاً أبخرة كريهة لا تحتمل ومهلكة للبشر ، حتى أن وهج النار وألسنتها التي في داخل الأرض ، لا تستطيع الدنو منها كما يقال . كما يوجد فيها كذلك مختلف الأشياء ، ليس فقط ما هو ضروري ومفيد كما يقول الأطباء مثل المغرة والرواسنج أي والكثير غيرها بل توجد أيضاً روائح كريهة وقاتلة أخرى ومنها سم الموت مثل الزرنيخ والقطران وصدأ النحاس ، وكثير غيرها لا حاجة لذكرها . ومن هذه الأشياء يصنع بعض الأشرار الأثمة الذين لا إله لهم ، أدوية قاتلة ومهلكة ويعطونها لأخوتهم
ويوجد كذلك في تراب الأرض أشياء أخرى وخصائص غير التي ذكرت . تختلف في اللون والرائحة والطعم واللمس ، مثال ذلك الأشياء التافهة والكلسية والمرة والمالحة وكثير غيرها لا نعرف أسماءها . وإذا قربت منها الماء ، نتج ما يسمى ، وملح حلو وملح مر ومواد أخرى كثيرة . وبتأثير هذه يكتسب الماء مزايا مختلفة ، فيختلف طعم الماء باختلاف طعم المكان ، لأن كلاً من هذه الأشياء ذو طبيعة خاصة . لها طعم خاص ومادة خاصة ولون خاص ، فالماء أذن يختلف بالطعم والنوعية وأحياناً في اللون ، فمياه الأرض المفحمة هي غير مياه الجبال أو السهول . وهذه بدورها غير مياه الصخور والصحارى . ويختلف التراب أيضاً في قوة انمائه وتغذيته . ففي بعض الأمكنة ينمي ويأتي بثمر كثير ، وفي غيرها لا ينمي ولا يثمر . كذلك الأمر بالنسبة إلى الأحجار الموجودة في التربة . فهي الأخرى مختلفة الأنواع والألوان والروائح والملمس والمنظر ، فيقال أن هناك حجر الماس الذي لا ينكسر ، وحجر الصوان والرخام ، وحجر الرحى ، والمرمر ، وحجارة بيضاء وحمراء وسوداء وخمرية ، ولينة وقاسية ، وتلك المستعملة للتبيض ، وشفافة ولماعة ومنها ما لا يصلح لشيء أبداً . ومواد أخرى كثيرة ليس بمقدور العقل البشري حصرها أو حصر أنواعها
وما أكثر الاختلافات في تكوين الأرض وطبيعتها . فهناك جبال وعرة يصعب تسلقها ، في الوقت الذي تمزقها كهوف وشقوق غائرة يصعب اجتيازها ، ووديان واسعة وأفجاج . وهضاب ورواب ووهاد تسود قسماً منها بقاع وصحارى شاسعة وصعبة الاجتياز . وقسم أخر صالح ، تنبع فيه جداول المياه ، وتشكل مصدراً للينابيع والعيون والأنهار ، وتنمي الأشجار والغابات والمروج ، وقسم منها قحل وجاف لا يصلح لإنماء أي شيء . قسم أهل ويصلح لسكنى الأحياء . وقسم أخر لا يصلح للسكنى مطلقاً لعدم اعتدال مناخه وصعوبة تحمله من قبل الناس والحيوانات على حد سواء ، أما بسبب البرودة الشديدة أو نظراً لحرارة الشمس المحرقة . وبالاضافة إلى كل ما ذكر ، هناك أخاديد طويلة وعميقة ، وشقوق ووهاد مرعبة وعميقة الأغوار ، سواء تحت الجبال أم تحت البقاع والصحارى . لأن هذا العنصر وحده دون (العناصر) الأخرى ، له طبيعة ملائمة لتكوين هذه الأشياء ، نظراً إلى كثافته وصلابته . والأغوار التي فيها ليست فارغة بل ملأى دائما نظراً إلى طبيعة المياه التي تحيط بالأرض وتكون الينابيع عندما تندفع نحو الأعلى في أمكنة عديدة . ويحدث أحياناً مثل هذا من اتحاد الهواء الخفيف اللين وطبيعة النار المحرقة مع الماء ، أو من الماء والنار ، أو الهواء والنار سوية ، لذا توجد شقوق وأخاديد مملوءة بماء شديد الحرارة لقربها من عنصر النار ، وحينما يندفع الهواء أو الماء نحو الأعلى فوق سطح الأرض ، يكون ما يشبه الأخاديد المملوءة ماء ، وسواء إذا كان الهواء مصدر تلك الينابيع أو الماء ، فهي صالحة لعلاج أجسام البشر والحيوانات ، وبخاصة علاج الأمراض الناجمة عن البرد ، وذلك في حالة استحمام المرضى في ينابيع من هذه المياه الساخنة ، أو تعرضهم باستمرار للحرارة المتصاعدة منها .
وفي أماكن كثيرة تندفع النار وترتفع فوق سطح الأرض ، وتشاهد بوضوح في الجو وعن بعد كبير ولا سيما في الليالي . كما هو موجود في جبال فريجينا وكريت وخاصة جبال صقيلية . ولما كان هناك أخاديد في الأرض مملوءة ماء كما ذكرنا ، فلا بد من أن يبرز أمامنا سؤال ملح هو : ما مصدر تغذية العناصر التي تحتويها هذه الأخاديد؟ أي الماء والهواء والنار . حتى أنها تستمر مليئة دون أن تنضب ، في حين أن الينابيع تتدفق بصورة دائمة بما في داخلها منذ تكوين الأرض وحتى الآن دون أن تتوقف أو تنضب؟
نقول عن الأخاديد المملوءة ماء وهواء – آملاً أن يؤخذ الرأي بعين الاعتبار – أن أخاديد الماء تتغذى تدريجياً من ماء البحار التي تحيط بالأرض ، حيث تتدفق من أماكن في البحار الأكثر أرتفاعاً بالنسبة إلى مدار الأرض . صوب تلك الأخاديد فلا ينقص ماؤها . أما بالنسبة إلى الأخاديد المملوءة هواء ، فأن هذا الهواء يأتيها من أماكن بعيدة عن طريق مداخل فيملؤها تدريجياً من الهواء الذي على سطح الأرض ، أما الأخاديد التي تملؤها النار ، فإذا كان لا يوجد عنصر النار على سطح الأرض كما هو الحال بالنسبة إلى الماء والهواء : فأن المرء يقع في حيرة وهو يتقصى مصدر النار التي تغذي هذه الأخاديد تدريجياً . لم تفرغ ولم تنقص فأن النار فيها . وبالعكس فأننا نسمع حكايات من بعضهم حول نار تندفع وترتفع رغم مرور الزمن من هواوين في جزيرة صقيلية وتنتشر فوق سطح الأرض فتحرق وتبيد مناطق كثيرة . وإذ ليس هناك شيء أكيد عن مصدرها ، نقول مع بعض الشك ، ربما تتأتى من بلاد الحبشة الحارة حيث يتساوى الليل والنهار ، لكونها معرضة دائماً لأشعة الشمس وتحدث فيها الحرائق من جراء شدة حرارة الهواء الآتية من الشمس ، فتحوله إلى شرارة وتحرق حتى الأرض
وهناك أيضاً مداخل تمتلىء بتوهجات محرقة ، وبذلك تبقى محافظة على حرارتها التي تدفع بها الأمام ، مثل مواقع انفجار هذا العنصر الناري في الجهات الشمالية من الأرض وليس الجنوبية ، وتكثر المواقع التي تنفجر منها المياه الحارة في بلاد فلسطين وشمالها . ولم يذكر أحد أن مياهاً حارة أو ناراً تنفجر فوق سطح الأرض ، سواء في البلدان العربية الخصبة ، أو في مصر أو في بلاد الحبشة أو الفرس ، أو موريتانياً أو قيصرية أو ليبيا ، أي القسم الجنوبي من المسكونة . وإذا تأملنا الموضوع نستطيع أن نقول : أن مداخل الأخاديد النارية تقع في الجهة الجنوبية ، في حين تقع منافذها في الجهة الشمالية . ونضيف إلى ما قلناه ، ما سمعنا من بعضهم عن وجود نبع ماء حار حارق ، ينبع من مكان ضحل لا يتعدى عمقه القامة في بحر جزيرة . ولما اكتشفه أهل الجزيرة ، عزلوا الماء الحار عن ماء البحر بواسطة أنبوب من رصاص ، وجعلوا له مصباً ليستغل للاستجمام وعلاج أجساد البشر ، ويروي آخرون عن وجود منفذ للهواء الحار في منطقة ما في حمص تسمى عوتار . فعندما تهب رياح من الجنوب ينفجر بقوة عن توهج حارق بحيث لا يستطيع أحد الدنو منه . وهذا برهان على أن منفذ ذلك الهواء الحار هو في الجنوب . وربما يوجد في المنطقة ذاتها ما يغذي أخاديد النار فلا تنقص أو تتوقف أو تكف عن الخروج من منافذها . فمن لا يشك بهذا الكلام فليأخذ به . أما من كان لا يزال الشك يساوره ولم يقتنع بما قيل ، فلتضف هذه إلى أمور أخرى كثيرة غير معروفة وغير مدركة ، وتعزى فقط إلى معرفة الخالق العليم بكل شيء . ذاك الذي أوجدها ، وحسن له أن تظل هذه الأمور محجوبة وغير مدركة من قبل عقلنا البشري الضعيف
ومن الأمور التي لا تزال موضع شك وغير مدركة لدى جميع الناس ، أهمية وجود أخاديد للهواء والنار في باطن الأرض . أما بالنسبة إلى أخاديد الماء فالأمر معروف وهو تكوين ينابيع وانهار لفائدة الناس كما أراد الله أن يكون . والحق يقال ، أن الله لم يخلق أخاديد للهواء والنار عبثاً دون أن تكون لها أية فائدة للجنس البشري أو الحيوانات ، لأنه تعالى خلق كل شيء حسناً ، وبحكمة وصلاح ولضرورة ما ، ولم يخلق شيئاً لا جدوى فيه . بهذه القضايا التي ذكرت ودونت هنا وطرحت للتأمل ، لم يبق شيء للحديث عنه ، أو لم يسمع عنه أو يعرفه الكثيرون
لا أدري ما أسمي العمل الجبار العجيب ، الذي قد لا يصدقه الكثيرون ، الذي خلقه الله وجعله واقعاً وحقيقة ، في أماكن كثيرة من أعماق الأرض الخفية ، التي لا يعرفها الانسان ولا يراها . وقد شهد عليه بعض الكتاب وعلماء الطبيعة والمنقبون ، إلى جانب شهادات نخبة من ذوي الاختصاص والسمعة ، الذين ظهروا في الكنائس عبر التاريخ . أضف إلى هذا : علماء كثيرين من المدنيين الذين يروون ويؤكدون أنهم شاهدوا بأم اعينهم أشياء تبرهن على ما نحن بشأنه ، سأثبتها فيما يلي : هناك حالة طبيعية كما يبدو في تراب بعض الأماكن في أعماق الأرض ، وهي قابليته على التغيير إلى تراب لين ، وإذا ما تبلل بالماء الذي كان فيه أصلاً ، جعل منه حجراً صلباً وجامداً وصخرة لا تتبلل ولا تثلم . ومن الصعوبة كسرها حتى بالحديد . ويؤكد صحة هذا ، أن ثمة فعلاً خليقة مثل هذه في الأرض ، ما قاله العلامة أوسابيوس القيصري . الذي ولئن كان اختصاصه في شؤون غير هذه ، إلا أن كلامه يؤخذ بعين الاعتبار ، فهو يذكر في مقدمة تاريخه محاولاً تأكيد ما قاله الكتاب عن ارتفاع ماء الطوفان فوق كل جبال الأرض خمسة عشر ذراعاً ، ويقول : “تأكيدا على أن مياه الطوفان ارتفعت فوق أعلى الجبال ، يقول : لقد تحقق لدينا هذا نحن الذين نسطر ، من مشاهدة مختلف أنواع السمك التي وجدت يوماً ما في أعلى قمم جبال لبنان . وذلك عندما كان البعض يقطعون الحجر من الجبال للبناء ، وجدت أنواع مختلفة من أسماك البحر التي غرقت بالطين في أعماق البحار وتصلبت وكأنها ساخنة وذابلة ومتحجرة ، الأمر الذي جعلها أن تبقى حتى الآن . يشهد على صحة هذا ، النقارون الذين يعملون في قطع الحجارة ، الذين يجهزون حجارة صغيرة للبناء من صخور جبلية . وكنت منذ مدة قد سمعت قصة ساورني الشك فيها ، فكلمت بشأنها أحد هؤلاء النقارين بصورة جدية ، فأكد لي بالقسم ، القصة التي سمعتها وأطلعني على حقيقتها بالتفصيل . وقال ، بينما كان يقطع حجراً في جبل حران ، شوهدت داخل حجرة قطعت من صخرة خالية تماماً من أي مدخل أو عرق : عظام رسغ رجل منظمة ، وفوقها ضلعان . وإذ كانت الصخرة مرنة . كانت ضربة العامل خفيفة بخلاف المألوف بحيث لم تتأثر تلك العظام ، فأخرجت سليمة دون كسر أو تلف . أنا الذي أكتب هذا ، وقفت شخصياً على هذه القصة بل الشهادة عمن رآها بأم عينه
وزيادة في تأكيد كلامنا هذا وإيضاحه ، نورد حديث أحد العلماء الحرانيين ذائعي الصيت الذي كان يدافع بشدة عن القضاء والقدر من الكواكب السبعة ، والذي يشمل كل ما يحدث في هذا الكون ضد العالم ولغش الرهاوي أحد أتباع برديصان ، وكان يحاوره ضد القدر محاولاً تسفيهه ببراهين من الطبيعة . فأجابه ذلك الرجل بتأهب تام قائلاً : أن ما تتحدث به عن أمور غريبة تحدث أحياناً في الكون ، فأنا قد رأيت بعضاً منها وسمعت عن بعض أخر . ولكي تعلم بأني لست مخاصماً الحرانيين فسوف أقول ما سمعته ، ويشهد عليه الكثيرون ممن شاهدوه في جبل “نشوك” هذا ، بينما كانوا يقطعون حجراً ، فإذا نزلوا إلى عمق بعيد في المقطع ، وجدوا جسد إنسان وجثة كلب . أنه أمر يصعب تصديقه ، ولكن أنا بأم عيني رأيت ذلك مع كثيرين غيري . أما خصمه فقال : أنه رأى مكاناً ينبع منه ماء من أعماق الأرض فينساب ثم يتوقف في مكان ما داخل الأرض ، ويجمد ويتصلب ويكون حجارة ، وكان الناس يستخرجونها دون أن تموع ، وكانت تشبه المرمر ذات الالوان المختلفة ، فقد استحالت ليونة الماء وصارت بصلابة الحجر ، ويقول علماء الطبيعة ، كثيراً ما يحدث مثل هذا في خصائص عنصر التراب . إما تلقائياً أو من جراء برودة طبيعة الماء الشديدة ، أو من خصائص التراب الأخرى غير المعروفة لدينا .
وهناك أشياء أخرى مشابهة لهذه ، تقوم عليها براهين كثيرة على أنها من تلك النوعية . وتوجد في سواحل وأخاديد التلول والوديان العميقة صخور كبيرة صلبة وغير قابلة للكسر والانحلال أبداً . فأنها ترى كأجسام مجبولة ومركبة من التراب والرمل والأحجار : مكونة باختلاطها كتلة واحدة ، وترى إلى جوانبها أصداف حلزونية ومواد أخرى ملتصقة بها ومتماسكة معها وكأنها من صلب الصخر غير منفصلة عنه ، وتوجد أيضاً في قيعان الأنهار ، صخور أخرى تكونت من نفايات مياهها ، وهي صلبة وغير قابلة للكسر ، لكي يمثل هذه الأمور وما شابهها تتأكد تلك الخاصية الموجودة في عنصر التراب ، التي ولئن دوناها هنا مشفوعة بالشواه ، إلا أننا ما زلنا نجهل حقيقتها وعلة تكوينها . ترى هل هي رطوبة الماء أو يبوسة التراب أو البرودة أو الحرارة؟ بالإضافة إلى ما تناوله الحديث هنا ، فلا تزال أشياء أخرى كثيرة في عنصر التراب مجهولة لدينا . وقد أوجزت الكلام نظراً إلى اختلافات خصائص عنصر التراب وتنوع الألوان والأشكال والأشياء الأخرى التي فيه . ونظراً إلى ما يحوم من شكوك حول الأخاديد التي في الأرض
أما بالنسبة إلى كبر حجم الأرض ، وقياس وكمية هذه الكتلة الترابية ، أي بالنسبة إلى انتفاخ وكثافة هذا القلاع الصلب الصلد والثقيل والبارد ، فليس من شأننا أن نؤكد على وجه الدقة كم وكيف هي . وليس هذا من شأن الضعفاء وغير الكفوئين أمثالنا . وأعتقد أنه ليس حتى من شأن العقل أو الكلام البشري . لكنه شأن من قاسها بمعرفته لدى خلقته إياها . الذي قال عنه الكتاب الالهي متسائلاً : “من أمسك فحم الأرض ، من كان بكفه المياه” . واسمعوا ما يقوله الكتاب المقدس وبخاصة ملهمة الروح النبوي : “وقاس السموات بالشبر وكال بالكيل تراب الأرض ووزن الجبال بالقبان والأكام بالميزان . من قاس روح الرب ، ومن مشيره” . نفهم من هذا ، أننا لا نجرؤ على أن نقول شيئاً بالنسبة إلى قياس وكبر الأرض . وأننا نطرح جانباً كل ما افترضه أو جزم به العلماء الذين شطوا إذ تجرأوا وحاولوا معرفة ما يفوق ادراكهم ، اعتماداً على غزارة علمهم . أما نحن فإذ نتحدث بمثل هذه الأمور ، فلكي نعرف فيما إذا كانت صادقة أم كاذبة . أنها ، والحق يقال ، لن تكون صادقة لأنه أما أن تكون قد انقص منها أو أضيف إليها . ولا يسعنا إلا أن نبدي إعجابنا بعمل الله ، ولا نتجاسر فنتدخل ، مثل أولئك ، لمعرفة ما هو فوق طاقتنا ، أو معرفة مدى اقتداره الظاهر بأعماله
لقد قسم بعضهم محيط الكرة الأرضية هندسياً إلى ثلاثمائة وستين جزءاً متساوياً ، مثلما فعل علماء الفلك الذين قسموا كرة السماء كذلك إلى ثلاثمائة وستين جزءاً ، وقسموا كل جزء وقالوا : أنه يساوي تسعين ميلاً ، وكل ميل سبع غلوات ونصف ، وكل غلوة أربعمائة ذراع . أي أن قطر الكرة الأرضية من الغرب إلى الشرق ، ومن فوق إلى أسفل دائرياً ، اثنان وثلاثون ألفاً وأربعمائة ميل . وكذلك الخط الذي يمر في وسطها من جانب إلى الجانب الآخر ، سواء من الغرب إلى الشرق أو من الجنوب إلى الشمال . أما محيطها فيساوي ثلث هذه الأميال جميعها أي عشرة آلاف وثمانمئة ميل ، في حين جعل آخرون كل جزء خمسة وسبعين ميلاً فقط ، ومحيط الكرة الأرضية سبعة وعشرين ألف ميل ، لكي يجعلوا الخط الذي يمر في وسطها من أحد جانبيها إلى الجانب الآخر ، تسعة آلاف ميل . هذه هي تقديرات الذين تجرأوا وحاولوا معرفة مساحة هذا العنصر ، ومهما يكن من الأمر ، سواء كانوا صادقين أم كاذبين ، وسواء أكان نقصان في تقديرهم أم زيادة ، فأن عظمة هذا العمل ، موضوع حديثنا ، ليست بقليلة ، فهو يثير اعجابنا باقتدار الخالق سواء من جهة ضخامته أم مساحته
: الأسبقية بين العناصر
آ- فالعنصر الأول الذي كونه الله الخالق من مادة جسمانية بأشارة من إرادته وكلمة قدرته ، هو الأرض أي التراب ، الذي تجرأنا وأطنبنا الحديث عنه ، في حين أوجزنا في أمور كثيرة لا سيما في ما يخص القياس ، علماً منا بأنه مهما أطلنا الحديث ، فأن الكلمة تبقى عاجزة عن تقديم كل ما يستحقه من الكلام . فمن يستطيع ، يقول الروح ، أن يستقصي قوة الرب ، أو من يتحدث عن عظم اقتداره أو يستمع إلى كل تسابيحه؟
ب- الماء
أما العنصر الثاني الذي يلي التراب . والأكثر مرونة وليونة ورقة منه . وأكثر صلابة وقسوة وثقلاً وكثافة من عنصر الهواء : فهو العنصر المعروف بـ “الماء” ويعرف ، بأنه جسم رطب ومرن وقابل للذوبان وشفاف وذو كثافة معتدلة ، وبرودته معتدلة ، فهو أقل مما للتراب . وهو ذو لون واحد وطعم واحد ، ويعكس جفافه التراب ، وهو سهل الاختلاط معه ويذيب عسره وصلابته نظراً إلى مرونته وقابليته للذوبان ، ليس فقط مع طبيعة الأرض أي التراب ، بل أيضاً لأنه سريع الاختلاط والامتزاج مع العنصرين الآخرين : أي الهواء والنار . فبالنسبة إلى الهواء فأنه يمتزج به كالدخان ، على هيئة خيوط بخارية رفيعة ، أما بالنسبة إلى عنصر النار فأنه يختلط به داخل الشقوق الملتهبة . هذا هو عنصر الماء الذي منذ البدء ، كان يحيط بالأرض من فوق ومن أسفل ومن الجهات الست كما ذكرنا أعلاه . فقد كان دائماً يتفاعل ليفصل وينقي طبعه من طبيعة التراب العكرة والخشنة والثقيلة . هذا هو العنصر الثاني للمادة بعد التراب
ج- الهواء
أما العنصر الثالث الذي يلي الماء ، فهو عنصر الهواء ، والذي يحيط بالماء بنفس الصورة ، من فوق ومن الخارج ومن الجهات الست كما أسلفنا ، وهو العنصر الكروي الثالث الذي ، بسبب طبيعة الهواء النقية والمرنة والرقيقة ، وبسبب سرعته ورقته وصفائه ، كان يتفاعل هو الآخر بصورة مستمرة من أجل تنقية ذاته بشكل تام من طبيعة الماء الكثيفة والثقيلة . لذا يجب أن يوصف ويعرف بكونه جسما رفيعاً صافياً نقياً ومرناً ، وأكثر شفافية من سائر الأجسام . لذلك فأن النظر يخترقه بسهولة دون أي معوق . ويراه متفاعلاً مع الأجسام التي تدور في فلكه ، بسبب قابليته للذوبان ومرونته ، ويسمح بأن تمتزج به وتنتسب إليه وتصير كأنها منه . ولا يتقبل فقط خصائص مجاوريه المضادة ، أي برودة الماء وحرارة النار حيث يكون بارداً حيناً وحاراً حيناً آخر ، بل بالاضافة إلى هذا ، فهو يتقبل بسهولة وبكل تناغم ، ذات هذين العنصرين أي طبيعتها ، لكي تمتزج وتذوب فيه إلى درجة الاعتقاد بأنها وإياه شيء واحد . لذا يعتقد بأنه على ثلاث هيئات . فأنه يبدو وكأنه عنصر صاف نقي وجاف بالنسبة إلى الأرض التي يجاورها ويحتك بها بعيداً عن عنصر الماء . ولا يمتزج به شيء سوى ذرات رمل دقيقة ويسيرة جاءته من التراب لتمتينه وحصره في الوسط . وهو مثل الزق محصور ، كما حدد الخالق ، خارج العنصرين المحصورين داخله : أي التراب والماء ، ونظراً إلى ثباته خارجهما فهو لا يزحف ، إذ لا يجوز أن يكونا فوقه أو خارجه ، ولا أن يكون هو تحتهما أو داخلهما ، لكنه ثابت ومرصوص بصورة دائمية . وبتعبير آخر . أنه يحيطهما كجسم صلب وصلد بأمر خالقه فلا يخترقانه ، ويسميه الكتالب المقدس ، الجلد أو السماء . بالاضافة إلى هذا ، هناك طبقة ترابية أخرى تمتزج وتذوب بها طبيعة الماء ، ويكون وإياها شيئاً واحداً مركباً ومتماسكاً وغير منفصل ، وهو رطب وبارد نسبياً ، وكثيف وأكثر صلابة من العنصر الذي يليه . أضف إلى هذا طبقة الهواء الثالثة المركبة ، كما يعتقد ، من امتزاج الهواء والنار بنسبة متساوية ، وهي قابلة للاحتراق ، جافة وسريعة وخالية من الرطوبة كلياً . ويسمي اليونان هذه الطبقة أثيراً ، أي الهواء الملتهب . وهذا هو العنصر الثالث
د- النار
وعنصر المادة الرابع هو طبيعة النار وحدها المحيطة بالعناصر الثلاثة الأخرى من الداخل والأسفل ،بمقتضى إشارة خالقها ، لئلا تتبدد وتتلاشى ، وتكون مجتمعة كتلة واحدة مستديرة مثل بيت مبني من مختلف المواد ، كالحجارة واللبن والخشب والقرميد . فهذا عمل واحد مركب من أسس وزوايا وسقوف بحسب معرفة ومهارة بانيه . وهذا العنصر هو جسم محصور وحار وسريع ومرن . ونير ويضيء جميع الأجسام . وهو ولئن يدخل في تركيب الأجسام ويتغلغل فيها ، إلا أنه لا يسبب لها أي ضرر من الداخل . ولكن إذا جاءها من الخارج ، فأنه يبيدها ويلاشيها تماماً . هذا هو عنصر المادة الرابع الذي خلقه الله لتركيب وتقويم كل الأشياء المادية التي كان عتيداً أن يبدعها .
وهذه هي الخليقة الثانية التي كونها في بدء العالم المنظور والهيولي والتي تقول عنها توراة موسى : “في البدء خلق الله السماء والأرض” . هذا هو الشيء الذي أتى به الله من عدم الوجود إلى الوجود ، بقصد تكوين هذا العالم ، وهو المعروف بين أعمال الله بالمادة ، وهي أربعة عناصر أي أربعة أجزاء مختلفة هي : التراب والماء والهواء والنار
هذا كل ما في وسع كلمتي الواهنة أن تقوله عن الخليقة الجسمانية التي أبدعها خالق الكل ، وهي مادة واحدة ذات جواهر أربعة وعناصر أربعة مختلفة ومتفرعة عنها . وقد باشرت بالحديث من الأدنى إلى الأعلى فبدأت بعنصر التراب الأدنى ، وانتهيت بالعنصر الناري الأعلى ، وقد تحدث كتاب توراة موسى عن الخليقة بصورة ملائمة ، وليس هذا فقط بل تحدث أيضاً عن تنظيمها وتمكوينها بصورة أكثر ملائمة . وقد رأيت من الضرورة أن أعقب ولو بكلمات هشة ، على ما جاء في الكتاب ، مستمداً قوة وزخماً لكلماتي المتلعثمة ، من قوة وحقيقة ونقاء ذلك الكتاب
يقول الكتاب : “في البدء خلق الله السماء والأرض” . فهو يسمي العناصر الأربعة التي تحدثنا عنها ، سماء وأرضاً . معطياً كرامة للسماء بذكرها في الأول ، لمكانتها الأولى عند البشر لأنها بمثابة مسكن لله كما يتوهم البسطاء ، وتجزم به بعض الكلمات في المزامير . وقد علق هذا الوهم في أذهان الناس لأنهم اعتادوا أن يروا السادة يسكنون في الأدوار العليا ، والعبيد في الأدوار السفلى . وحيث أن الكتاب يميل إلى الإيجاز ، لذلك اقتصر على ذكر كلمتي السماء والأرض ، دون أن يأتي على ذكر أسماء الماء والهواء والنار ، علماً منه بأن الذين يقرأون سيدركون أن هذه خلقت وإياهما سوية . فقد حصر الروح الملهم العالم كله وما فيه بهذين الأمرين الرئيسيين . ثم يعود فيما بعد ليتحدث عن أرض أخرى ذكرها في بدء كلامه فيقول : “كانت الأرض خربة خالية” ، أي لم تكن منظورة ولا مكونة “وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرف على وجه المياه” . في بدء الكلام لم يأت على ذكر المياه ، ولم يتحدث عن تكوينها ، لكنه أشار إلى أنها والتراب كانا سوية في مقدمة الكائنات ، ولم تكن الأرض منظورة لأنها كانت مغمورة بالمياه من كل الجهات ، فكانت مخفية في أعماق غمر المياه ، وأردف قائلاً : أنها كانت غير منظورة وغير منظمة ، ليوضح جلياً أنها لم تكن موجودة عندما كانت مغمورة بالمياه ، وأنها لم تكن معدة لعيش الكائنات الحية عليها ، أو صالحة لنمو وتغذية النباتات والأشجار والجذور والأعشاب والزروع . هذا ما تشير إليه عبارة : “غير منظمة” . ويقول : “وكانت ظلمة على وجه غمر المياه المحيطة بالأرض” ، ذلك لأنها كانت مختلطة بالهواء الذي فوقها ، وكانت ما تزال وإياه جسماً واحداً . مغطاة بالظلام الدامس . إذ لم يكن هناك بعد هواء نقي يخترقه شعاع مضيء ولا حرارة لتطرد الظلام ، إذ لم يكن عنصر النور قد تنقى بعد بصورة كاملة ، من الماء والهواء اللذين تحته
ولهذا فأن الظلام كان يغطي الغمر الذي كان يغطي بدوره الأرض فيحول دون رؤياها . وكان روح الله الخالق ، مانح الحياة ونافخ النسمة ، ومكمل جميع الكائنات ، الذي أعطى التنفس والحركة والحس لكل حي : يرف على المياه ليمنحها والأرض التي في داخلها ميزة التوليد . وهذا ما قاله الكتاب الموحى به من الروح ، أخذاً عما هو مألوف لدينا نحن البشر ، ولا ينبغي للإنسان أن يستغرب من استعمال الكتاب تعابير وتشابيه بشرية ، بل أن نعبر عن اعجابنا ونقر بأن هذا يستحق الثناء حقاً ، فأن روح الحق قد ينجلي حتى عند من هم ضد الحق ، فأنهم إذ يتحدثون ويكتبون عن الحق مستشهدين بكلام الحق ، يكون الحق قد رسخ أكثر بشهادتهم . وقد ورد في كتب الكلدانيين الذين يريدون أن يقولوا : أن السماء والأرض والشمس والقمر وسائر الكواكب هي أزلية غير مخلوقة ، وهي آلهة وأرباب ، وهم سادة هذا العالم ومولون إياه اهتمامهم . . أن هذه قد خلقت برفرفة روح الاله ، وهم يحتفظون من حيث يدرون أو لا يدرون بظلال تشابيه ونماذج تتوافق مع ما نقول به ، فهم يقولون : “في البدء كان كل شيء ظلاماً ومياهاً قبل أن يكون هناك آلهة أو بشر . وكان الروح يرف فوق المياه ، فخلقت هذه كلها ، وصنعت لهم سماء وأرضاً وأبراجاً لبيوتهم وحدوداً لمملكتهم وجهات لمسيرتهم ، ووضعت نهاراً وليلاً وصورت تماثيل في الأبراج ، وجعلت هيئة للأرض ، وأمكنة في السماء ، وخلقت بيل أولاً وبعده مارود سيداً للآلهة ، ومن ثم البقية . وجعلت من الشمس والقمر سلاطين على الليل والنهار” . وهكذا جاء الكلام مطابقاً لكلام الحق ، حتى من أعداء وأضداد الحق . فأنهم هم أيضاً تحدثوا بكلمات مقتضبة وموجزة عن السماء والأرض وما فيهما ، كما هو الأمر في كتبنا ، موضحين جلياً بذلك أن الخليقة ليست كما كان يعتقد الملحدون الضالون ، غير مخلوقة ، بل هي من صنع الله خالق الكل ، كما تبين كتب روح الحق
فإذا كانت هذه العناصر مختلطة وغير منفصلة عن بعضها البعض وصافية بصورة تامة ، فكيف يمكن أن تكون لكل منها أذن خصائص نقية موجودة فيه ، فللمياه صفاؤها ، وللهواء نقاؤه ، وللنار ضياؤها وحرارتها ؟…
يقول الكتاب : فأمر الله وقال : “ليكن نور فكان نور” . وشرح بكلمات يسيرة ما أراد الله أن يكون ، قائلاً : “ليكن نور” ، وللحال أضاف دون أن يجزم وعلى وجه التقريب : “وكان نور” ، مظهراً بكلماته العابرة هذه : أن ذلك العمل قد تم على الفور دون أي ارتباك ، وقد أشار بصورة رمزية وسرية إلى من وجه إليه ذلك الأمر ، ولا بد أن يكون الكلام قد وجه إلى من هو قادر على تنفيذ الأمر عملياً ، حيث صدر الأمر بأن يكون نور ، وللحال كان نور . ومن المعروف أنه قصد بهذا ، كلمته الخالق الذي هو حكمته وقوته وذراعه ، الذي قال : “كنت معه عندما خلق السموات ، ومنح القوة للرعود في العلى ، والجمال للينابيع التي تحت السماء ، وجعل أسس الأرض راسخة مرصوصة” . قال هذا بصفته أقنوم الحكمة
أن هذه الكلمات الموحى بها من الروح القدس توضح : أن الله وجه كلامه إلى حكمته وكلمته الخالق ، لدى قوله “ليكن نور” . ولقد كتبت هذه لكي ينبعث منها لنا شعاع معرفة حكمة الله وأعماله . وما كان يعنيه بعبارة : “ليكن نور” هو تكوين هذه السموات وتصفية عناصر الهواء والنار ، وتكوين النار في الهواء ليضيء ما هو فوق المياه ، ويبعث شعاعاً مضيئاً إلى أعماق الغمر فتصفى المياه . ويشير إعطاؤه قوة للرعود في العلى ، إلى ثبات الجلد داخل الهواء ، أما إعطاؤه أسساً محكمة للأرض فلا يشير سوى إلى توطيد الأرض وتثبيتها ، إذ كان الماء المتجمع فوقها عتيداً أن ينحسر وينفصل عنها . وهكذا قال : “وأمر الله أن يكون نور . وللحال تنقى طبع النار ، وأظهر النور المنبعث من ذاته . وأرسله إلى صفاء الهواء الذي تحته ، فالنور يتولد من النار منذ بدء تكوينها ، تماماً مثلما أن الظلام الحالك هو وليد جسم عنصر التراب المادي . على هذه الصورة وجد النور ، فأنار كل ما هو تحته ، من هواء وماء وتراب ، بمقتضى أمر الخالق
“ورأى الله أن ذلك حسن” وبهذا يقدم له الكتاب المقدس شهادة ثناء ، وفصل الله بينه وبين الظلام وليد الأرض وظلها . ففي اللحظة التي ظهر فيها هذا ، تولد فيها ذاك ، فصار وضعه وتكوينه معاكساً له .
ولهذا قال الكتاب “وفصل الله بين النور والظلام ، ودعا الله النور نهاراً والظلام دعاه ليلاً ” وهذا ما عناه الله بقوله “ليكن نور” . أن هذا الأمر حرك عنصر النار نحو البقاء وهو يفصله عن الهواء ، ويبرز النور الذي كان مطبوعاً فيه منذ بدء تكوينه . وهكذا دون أول أمر يصدر عن الله الخالق وعرفناه . وكتب أيضاً “كان يوماً واحداً ”
وقال الله “ليكن جلد في وسط المياه وليكن فاصلاً بين مياه ومياه” فعمل الله الجلد وفصل بين المياه التي تحت الجلد والمياه التي فوق الجلد . ودعا الله الجلد سماء ، ورأى أن ذلك حسن . وكان ماء وكان صباح يوماً ثانياً ” . كان الأمر الأول القائل “ليكن نور” صادراً إلى طبيعة النار ، ذلك العنصر السامي المخلوق ، لينفصل ويتنفس وينجلي نوره فيضيء كل ما هو تحته وفي داخله . أما الأمر الثاني هذا ، موضوع البحث ، فأنه صدر إلى طبيعة عنصر الهواء ، لكيما هو الآخر بتنقيته من الماء الذي تحته ، ويصفو يتطهر بصورة تامة ، يقوى ويثبت مستقراً خارج نطاق عنصر الماء . ويحيطه التراب الذي يتخلله ، ويشبه إلى حد ما هواء كثيفاً ومضغوطاً كما هي الحال بالنسبة إلى الهواء والمحصور في الزق دون أن يكون له منفذ ، فأنه يشبه الجلد ، يمكن أن يشعر به الذين يلمسونه . من هذا العنصر أمر الله أن يكون جلد متين وسليم ، يثبت ويوطد فوق المياه وخارجها بعد تنقيته كلياً . ويكون فاصلاً بين المياه التي تحته ، وبين المياه الممتزجة في الهواء الرطب الذي يسبب الرعود فوقه . والذي منه تتكون ، بأمر الخالق ، الطل والأمطار والبرد والثلوج والجلد ، وهو الذي يرطب ويحفظ كل ما يدور في الهواء الجاف النقي . أي الناس والحيوانات والطيور والنباتات والأشجار والزروع والجذور ، كي لا يصيبها ضر فتحترق بالأثير المحرق الملتهب الذي هو تحت الشمس . أو بكتلة هذا النور (الشمس) المحترقة والمحرقة . فالجلد الذي أمر الله بتكوينه بين المياه التي على الأرض وبين الهواء المائي الذي فوقه وليد هذا النور ، والذي سماه الكتاب ماء نظراً إلى رطوبته وطراوته ، وهو يرى بلون أزرق فيروزي مشوب بالأسود – الأبيض ، ويعرف لدى الجميع بالسماء . نحن لا نرى شيئاً آخر في الفلك الذي ندور فيه ، النقي الصافي الشفاف ، إلا أن منظر الهواء في عمقه يشبه بلونه العميق ، لون غمر البحار الأسود العميق . على هذه الصورة كون الجلد بأمر الخالق . وفصل ، كما قال الله ، بين الماء المنسكبة والمحيطة بالأرض ، وبين تلك التي فوقها ، والتي كانت مختلطة بالهواء وقد جعلت وإياه طبقة ترابية ثابتة ، تتوسط الهواء النقي ، وهذا المحرق الملتهب المعروف بالأثير ، وهكذا دعا الله هذا الجلد سماء ، كما جاء في الكتاب . ورأى الله ذلك حسناً . وكمل اليوم الثاني
ونعلق على هذا الأمر كما علقنا على الأمر الأول فنقول : أننا ننسب عبارة “قال الله ليكن جلد” الواردة في الكتاب ، إلى الله الأب خالق الكل ، وهي موجهة إلى الابن الوحيد المساوي له في الأزلية والسرمدية والقوة والارادة والخلق ، بصفته حاذقاً ، حكيماً ، عالماً ، خالقاً مبدعاً ، قوياً قادراً على كل شيء . أما عن عبارة “صنع الجلد” أو كما هو مدون “دعا الله الجلد سماء” . والتي هي بديل عن أبدع وخلق . فنقول : أنها تنطبق تماماً على الابن بصفته حكمة وقوة الله الأب . وهو ، كما يقال ، يمينه وذراعه أيضاً . وما قيل من أنه به خلق الكائنات وأبدع العالمين هو حق . وهو الذي كون هذا الجلد وأبدعه ، أي خلقه بحيث تعلوه السماء . فقد كتب في المزامير “بكلمة الله خلقت السموات ، وبنسمة فيه كل قواتها” . على هذه الصورة كون هذا الهواء البالغ النقاوة حول المياه وحول الأرض وفي داخلها . بأمر الكلمة الخالق لكي يرى جلداً ويدعى سماء . وهكذا رأى الله ذلك حسناً . فسر به وفرح كما كتب ، إذ أعده بصورة ملائمة للسكونية وليعيش الحيوانات فيها . وسهلاً لاستنشاقها بمرونته ونقائه . فهذا الهواء النقي الصافي الذي نعيش فيه يدعى سماء ، نظراً إلى غمق لونه المائل إلى السواد . لذلك فالطيور التي تحلق وتسبح به مثل السمك في الماء ، تسمى طيور السماء ، ليس فقط من قبل عامة الناس ، بل ومن قبل الكتاب المقدس أيضاً . نظراً إلى عمقه واتساعه الهائل ، فأن هذا الجسدي (الإنسان) الضعيف لا يستطيع أن يتفحصه أو يخترقه برمته لكي يرى الهواء المائي الرطب الذي فوقه . أدعى أحد امكانية اختراقه بسبب صفائه وشفافيته ورقته ، حتى الوصول إلى ذلك المائي ، قلنا : أن عمق هذا وذاك الذي نراه فوقنا كلون أسود . أبيض . هو ما دعيناه نحن البشر وندعوه سماء . وهو يدعى كذلك في كل لغة ولدى كل شعب . وكما قلت ، أننا نشاهد ما هو باد لنا من فوق والذي اعتدنا أن نسميه سماء ، ولا يجب أن يعتقد أنه شيء آخر أكثر من كونه عمق الهواء الذي يعلونا
ومثلما تحدثنا عن الهواء أي السماء ، لنتحدث أيضاً عن أمور أخرى تتبادر إلى الذهن بغية تنوير من يطلع عليها . فنبدأ بالحديث عن هذا التكوين المسمى سماء . ومن ثم عن كل ما نراه يدور فيه . فنقول : أن لفظة “سماء” ليست آرامية أي لغة بين النهرين ، لكنها مستعارة ومأخوذة من لغة العبرانيين ونستعملها منذ زمان بعيد وكأنها من لغتنا . وهذا ما لا يعرفه الكثيرون من المتكلمين أو القراء أو الكتاب . ولكونها مقتبسة فلا فرق بين مفردها وجمعها . وأما من حيث المعنى فتستعمل جمعاً ومفرداً عندنا وعندهم سواسية فنقول عن المفرد سماء وكذلك نقول سماء عن الجميع . وليس بوسعنا أن نغير هذه اللفظة لأنها دخيلة كما قلت وليست من خصائص لغتنا . أما بالنسبة إلى العبرانيين أصحاب اللغة الأولى التي تكلم بها آدم فيستعملونها مفرداً وجمعاً شفهياً وتحريرياً . ففي المفرد يقولون “شوماً ” وفي الجمع “شوماييم” وقد ترجع هذه اللفظة في أسمها وتركيبها إلى كلمة “ماء” . فمفرد الماء عندهم هو “مو” . والجمع ” ماييم ” وهذا يتناسب وصياغة هذه الكلمة من منظر الجو الأبيض – الأسود والماء الذي فوقه المختلط بالهواء والمكون وإياه شيئاً واحداً يحمل لوناً أزرق سماوياً . وهو الذي ندعوه سماء . وهو مركب من الهواء والماء . وهذا هو مفهوم اللفظة المركبة عند العبرانيين . أما عند اليونان الذي يهتمون هم الآخرون بمثل هذه الأمور . فتسمى هذه اللفظة “أورانوس” ويعطي مفهومها عندهم معنى الحد الأعلى ، ونحن نعرف السماء أما بالحد الأعلى كمفهوم اللفظة اليونانية ، أما أنها جسم مركب من الهواء والماء كاللفظة الأخرى المستعملة أعلاه . أو أنها هواء مضغوط وكثيف ومكين وثابت وصاف ونقي ، وهو منتشر فوقنا وغائر وعميق ولونه أسود – أبيض ، ويستقر تحت الهواء الرطب والمختلط كما سبق وقلنا . أما بالنسبة إلى طبيعة وقام السماء وتكوينها ومضمون أسمها ، فقد أوفينا ، كما أعتقد ، حق ذلك من الكلام . أما بالنسبة إلى ما نراه يحدث في هذا الجو أي السماء ، فسنوضح ذلك تدريجياً على قدر المستطاع
نلاحظ مرات عديدة تكوين سحب كثيفة بغتة ، في أعلى هذا الجو النقي الصافي ، دون أن تحتوي على أبخرة رطبة . وتوهجات ترتفع من الأسفل ، قليلة كانت أم كثيرة ، لكنها تثقل وتذوب من جراء ذوبان وجريان ذلك الخليط الرطب الذي فوقه ، نقول : حينما تشب ، بأمر مدبر الكل ، ريح شرقية أو جنوبية ، تظهر في البداية وكأنها حبات الماس ، ولكن بعد أن تزحف نحو الغرب أو الجنوب تدريجياً وتتكاثف السيول الرطبة تأتيها اضافات من هنا هناك ، فتكبر وتشاهد بصورة واضحة ، وتغطي منظر السماء كله ، كما أنها ترى بسهولة عندما تتبدد وتأخذ بالتلاشي وتغيب عن الأنظار ببطء . ويبتلعها الفضاء وتصير كأنها لم تكن بعكس تركيبها الأول . وعندما يأمر المدبر ، وتهب بغتة رياح شمالية وتسوقها نحو الجهة الجنوبية ، يلاحظ نشوء السحب في الجو من الهواء الرطب والمائي الذي هو فوق هذا الهواء الجاف الصافي الذي يحيط بنا ، ويشاهد نشوء السحب من الهواء الرطب والمتخلط . كما يشاهد تلاشيها بنفس الكيفية
ويتكون نوع آخر من السحب في الصيف ، عندما تهب رياح غربية فوق القمم العالية ، فيرتفع الهواء إلى أعلى قمة في سائر الجبال الأخرى حتى طبقة الهواء الرطب المائي . وأنا شخصياً رأيت بأم عيني مرات عديدة ، تكوين مثل هذه في قمة جبل في منطقة انطاكية حيث كنا نسكن . فكانت تتكون في أعلى طبقة الهواء إلى الغرب من تلك القمة العالية على بعد غلوتين أو ثلاث ، من الجبل . وكانت تظهر خفيفة أو كثيفة ، أو كراحة يد الإنسان بحسب تعبير الكتاب وعندما كانت الريح الغربية تقودها نحو القمة تدريجياً . كانت تكبر وتظهر بوضوح أكثر ، وغزارة حتى تغطي الجبل كله وتبلله أحياناً بالمطر الخفيف الذي تحمله . وعندما تحركها الريح نحو الجهة الشرقية ، تأخذ بالتلاشي في الجو تدريجياً كلما ابتعدت عن القمة وعن الهواء الرطب . فتصبح كلياً كأنها لم تكن . ولكي يتفهم الناظر أكثر نقول : بالنظر إلى رطوبة الهواء الذي في القمة العالية ، فأنها كانت تتكون وتشاهد بكثافة ودكنة . وعندما تبتعد عنها ، كانت تتناقص وتتلاشى
وتوجد مع السحب في الجو أي الجلد ، بروق نارية مضيئة ورعود مرعبة وصاخبة . وهي تحدث بأمر الخالق الذي خلقها على هذه الهيئة
فعندما تصطدم الخصائص المضادة الواحدة بالأخرى في الجو ، خاصة أثناء الخريف أو الربيع ، مثل البرودة والحرارة : تتكون صواعق محرقة وقاتلة ومهلكة . كحمى غضب المدبر الذي ينزل لتأديب الخطاة ، أو لتحذير الآخرين كي لا يخطئوا ، وفي الليالي ، تظهر في الجو شهب نارية مضيئة ، وتتطاير في مختلف الجهات كسهام طائرة ، ويسميها الكثير من السذج ، كواكب سيارة . ويحدث مثل هذا أحياناً ولا سيما عندما يريد الله المدبر أن يجري تغييرات في سلطات الشعوب ، وتكون بمثابة تأديب أو تخويف للكثيرين الذين يخشون مثل هذه المناظر . وقد تكون علامة يعطيها لخائفيه كما كتب لئلا يهربوا من أمام السهام . أو بأنواع أخرى خفية قضى تعالى بعدم استقصائها . وتظهر كذلك علامات أخرى مخيفة وراء الشمس في الشرق تحمل أشعة مضيئة وتنبعث منها شبه جداول بيضاء كأضواء ساطعة ، لبعضها شكل المكامح ، وللبعض الآخر شبه الرماح أو شبه ديدان طويلة ، كما يوجد في مؤخرة البعض ما يشبه الكواكب . ويظهر غيرها أو تحتها أو إلى جانبها وكأن لها شعراً . وبناءً على هذا فأن اليونان يدعونها مذنبات أي شعرة وملتحية ودودية . وهي تقف وترى في هذا الجو أي السماء . وتتحرك في جميع أجواء الفلك خلال أيام معروفة ، كما يحسن للمدبر القابض على زمام هذه القضايا كلها . وبارادة المدبر أيضاً تصاحبها أحياناً في الليل أشعة مضيئة تشبه لهيب نار المواقد ، وتقف في إحدى الجهات دون أن تتحرك من مكانها إلى أي اتجاه ، وتظل هكذا بضعة أيام . وقد يكون حدوث هذه الظاهرة من قبل الله لتخويف الناس . أو علامة حدوث أمر ما في المستقبل
لقد تحدثنا بإيجاز عن البروق والرعود والعلامات النارية والأشعة المضيئة التي تظهر في الجو
أما بالنسبة إلى السيول التي تنزل من الجو ساقطة على الأرض فنقول : أن السحب التي تتكون من رطوبة الهواء المائي المختلط بالماء ، كما سبق وذكرت ، تتجلد بواسطة الرياح التي تهب عليها ، وتمتزج الأبخرة الكثيفة بعضها بالبعض ، فتصير أكثر كثافة وتكبر وتكون قطرات كبيرة إلى درجة أن رخاوة الهواء لا يعود بامكانها أن تحملها ، فتنزل ماء كالاسفنج الذي يعصر ، مكونة طلاً ومطراً ورذاذاً ناعماً ورقيقاً ، وأحياناً ، أمطاراً غزيرة ومتواصلة ، وحينما ترتفع تلك السحب إلى الأعلى ويكثر تحتها الهواء البارد وترافقها رياح شديدة ، تحدث فيها بروق ورعود وتتكون فوراً قطع البرد أو برد دقيق . وإذا لم تكن عالية الارتفاع ، وكانت خالية من هبوب الرياح تماماً ، فيتكون منها آنذاك أما ثلج مصحوب بالبرد الشديد القاسي أو مطر ثلجي هادىء ورقيق غزير المياه ، إذا كانت برودتها قليلة
وبالإضافة إلى ما سبقنا فتحدثنا ، نتحدث الآن عن السيول الحلوة والساخنة التي تنزل من الجو في أثناء الصيف . والتي تتكون في الربيع من النباتات الحلوة والغرسات والأشجار ذات الطعم الحلو اللذيذ ، والجذور والزروع والأعشاب . وفي نهاية الصيف والخريف ، تتصاعد إلى الجو من الثمار التي نضجت بحرارة الشمس : عطور كثيفة ومنعشة جداً وطيبة . وتتكاثف وتنضج أكثر بالحرارة المخزونة في الجو الذي تتساقط منه مادة حلوة عسلية تشبه قطرات لينة تسمى المن الأبيض الذي يستقر على أوراق الأشجار على مثال المن الذي انزل الله الذي يعنى بشعب اسرائيل في البرية . وعندما يأمر الله أن تتصاعد من الغبار الذي على الأرض ، أبخرة ممتزجة بذرات التراب ، وترتفع إلى الأعلى حتى تصل الهواء الرطب المائي فتختلط به . يشاهد تراب خفيف ينزل مع المطر ويستقر على الحجارة وأوراق الأشجار ، كما تروي قصص كثيرة مدونة . وقد رأيت بأم عيني كيف أن الله صنع مثل هذا من أجل تأديبنا وتبكيتنا بسبب خطايانا وآثامنا . ولا يزال هناك بعض الناس الأحياء الذين رووا ، كيف شاهدوا ثلجاً أحمر نازلاً من الجو أي السماء . ومعروف أن هذا تكون بالكيفية التي ذكرناها . ويقولون : لما سقط على ثلج آخر سقط قبله ، استمر لونه متميزاً عن ذاك أياماً كثيرة . وحينما يشاء الله المدبر أن يؤدبنا بسبب آثامنا ، يأمر ، فتتصاعد توهجات وروائح سمجة وأبخرة متأتية من أعشاب ضارة وأشياء أخرى من الأرض لها خصائص ضارة ، فتختلط هذه بالرطوبة التي تسبب الرذاذ ، فتنزل على الزرع والقمح في الربيع ، مطراً ضابطاً يشبه الغرين ، ويتساقط على السنابل اليانعة والحديثة النمو والغثة التي لم تسمن بعد ، ويهلك الزروع كي لا تأتي بالقوت . إذ يغطيها وأوراقها وقصبات سنابلها . ولما يجف يصير ذات لون فاسد مثل أدران الزعفران والجدري . ومن المعروف أن العشب يكون مريضاً في عرف الشعوب إذا صار لونه مثل هذا ، فهو كالمرض الذي يطرأ على أجساد الناس ويعرف لدى الأطباء باليرقان أي
وإذ تحدثنا بصورة عابرة عن السيول الرطبة الساقطة من الجو ، يجب ألا يغيب عن بالنا الكلام عن تحركات الهواء المرن والقابل للذوبان ، والرياح التي تتكون بسببه . فليعلم جميع الذين لا يعلمون : أن جوهر الهواء أي طبعه شيء ، وطبع الرياح شيء آخر . ولضرورة البحث تدعو الحاجة إلى إعادة تحديد وتعريف الهواء فنقول : هو جسم رقيق شفاف ومرن ، بل هو أكثر لطافة وشفافية من سائر الأجسام . أما الرياح فليست هواء ، بل هي حركات الهواء إلى هذه الجهة أو تلك ، وانتقاله ومروره من مكان إلى آخر . وليعلم جميع الناس ، السذج منهم وغير المثقفين ، والذين يقرأون أو يسمعون ، بأن الذي يتحرك هو شيء آخر غير حركته وجريانه ، مثلما أن المياه هي شيء آخر غير حركتها وجريانها الذي يشاهد ، أما في الأنهار أو الجداول والقنوات والروافد
: أسماء الرياح
تتكون تلك الرياح أي النسائم حيث يوجد الهواء ، ومن الهواء ذاته عندما يتحرك وينساب ويتنقل من مكان إلى آخر ويتموج كتموج المياه ، ويدفع بقوة الأجسام الأخرى التي تصادفه ، بشكل أو بآخر . كما يروي علماء الطبيعة ويشهد العديد من الناس الذين شاهدوها . فأن الرياح تتحرك بالهواء من الجهات الأربع كما نلاحظ . من الشرق والغرب والجنوب والشمال ، وكثيراً ما يدعونها بأسماء تلك الجهات . ويسميها جميع الناس رياحاً ويعتبرونها رئيسية . وهذا أمر معروف لدى الجميع
فقد اعتدنا أن نقول : رياحاً شرقية وغربية أو جنوبية وشمالية . كما يطلق الناس على الأنواع الثمانية الأخرى من الرياح ، توجد بين الرياح الأربع الرئيسية التي عرفناها . فلكل ريح رئيسية نوعان من الرياح الأخرى تحيط بها من جانبها وتهب بشكل منحرف ومن الزوايا مثل الريح الرئيسية . ولكل من الشعوب تسمياته وأسماؤه أطلقها عليها متخذاً إياها من أمكنة شهيرة أو جبال معروفة . إذ لم تكن لها تسميات طبيعية معروفة ، مثل الرياح الأربع الرئيسية . ولكي لا تبقى مصادرها غامضة نقول : أن الشرقية والغربية أخذت من شروق الشمس على الأرض في الشرق وغروبها في الغرب . وأخذنا تسمية الرياح الجنوبية كما فعل غيرنا من الشعوب من قدماء العبرانيين أصحاب اللغة الأقدم ، حيث أطلقوا عليها هذه التسمية مأخوذة من مدينة تيمن التي شيدها أبناء تيمن ، أو من أولئك المنحدرين من ابن اسماعيل أو المنحدرين من ابن قاطورة ، أو من ابن عيسو ، حيث دعي الثلاثة باسم تيمن . وهي تقع جنوب المكان الذي سكنه العبرانيون . وهكذا يبدو أن هذه الريح سميت جنوبية عند العبرانيين وعندنا نحن الآراميين ، أما الشمالية فلا ندري لماذا سماها قدماء الآراميين كذلك . هكذا سمى الناس الرياح الأربع الرئيسية .
أما الجانبية والمنحرفة ، فأن تسمياتها تؤخذ كما قلت ، من البلدان والأمكنة التي تهب منها . مثال ذلك : رياح ما بين النهرين ، أو الرهاوية أو ريح أرمنية وريح مؤذية وريح صحراوية . وتسميات أخرى كثيرة ومتنوعة ، بحسب ما اعتاد كل واحد أن يسمي . وقد ورد ما يشبه هذا في الكتب الالهية ، وفي كتابات الأقدمين ، حيث أخذت تسميات الرياح من الأمكنة . كتلك الواردة في المزامير ، في قوله عن الله . “اهاج شرقية في السماء وساق بقوته جنوبية وأمطر عليهم لحماً مثل التراب وكرمل البحر طيوراً ذوات أجنحة” . وكتلك التي وردت في المزامير أيضاً . “ومن البلدان جمعهم من الشرق ومن الغرب من الشمال ومن البحر” . ومن المعروف أن صاحب المزامير استعمل كلمة البحر تعبيراً عن الجنوب حيث اعتاد العبرانيون أن يستعملوا كلمة “بحر” بدلاً من “الجنوب” لأن البحر يقع في الجهة الجنوبية من بلادهم . وكذلك ما جاء في أعمال الرسل “هاجت عليها ريح زوبعية يقال لها اوروكليدون” أي مع موج من جهة اوروس هي التي تقع جنوبي الشرق وتجاوره إذا ما انحرفت قليلاً . وقد أوردت الكتب التاريخية وبخاصة اليونانية ، قضايا كثيرة أخرى مثل هذه . وأرى من الضرورة بمكان الاشارة هنا إلى تسميات الرياح الثماني الباقية أي النسائم ، كالتسميات التي وضعها قدماء اليونانيين ، بعد تسميتهم للأربع الرئيسية
فيجب أذن أن نضع ترتيباً مناسباً ومتسلسلاً لهذه الرياح الاثنتي عشرة كما فعل اليونانيون . وها أني أتحدث عن الأربع الرئيسية التي سبق ذكرها . وإلى جانب الثماني الأخرى التي سنتحدث عنها ، وهي بحسب الترتيب : الشرق ثم اوروس وتقع إلى جنوبه وتهب شتاء من جهة شروق الشمس ، والثالثة أورنتوس ، والرابعة الجنوب ، والخامسة ليباناتوس ، والسادسة ليبا ، السابعة الغرب الذي سماه بعض قدماء الكتاب زوفاروس ، الثامنة يافوكوس . التاسعة ترافياس ، العاشرة الشمال ، الحادية عشرة قباقياس ، الثانية عشرة والأخيرة افيلوتيس ، وهي من شروق الشمس صيفاً . هذه هي الرياح العامة في العالم بأسره التي تهب لدى تحرك الهواء وتسمى بأسماء الجهات التي تهب منها
وتهب رياح أخرى كثيرة ومتنوعة . منها ما يهب من جبال عالية مغطاة بالثلوج وتستمر طوال الصيف ، وأحياناً تنحرف في سيرها نظراً إلى وضع الجبال المنحرف . وغيرها تتحرر من الأرض وتندفع صاعدة بشدة ، أو أنها تتصاعد من هوة عميقة . وأخرى سريعة تسبق حدوث الرعود المخيفة . وهذه وقتية . فقسم منها يتكون في الصباح وتكون هادئة ، في حين يهب قسم أخر عصراً فقط ويكون سيرها مستقيماً . وقد تكون هادئة أو عاتية . ويكون سير بعضها دائرياً ، ويسميها الكثيرون زوابع وأعاصير . وكثير من هذه الأعاصير الشديدة والعاتية والمهلكة ، يعزى إلى غضب الله . فهي تدمر حتى الأبنية العالية والراسخة ، وتقتلع النباتات من أصولها ، وتحطم الأشجار الضخمة بقوة عاتية غاضبة . وقد حدث مثل هذا في أيامنا وشاهدنا بأم أعيننا ما خلفته من رعب ومخاوف في نفوس الذين سمعوا ولم يشاهدوا ، تفوق الوصف . وكانت تقلع الأشجار الضخمة وكأنها تقلع نبات السعد من الأرض وتدور بها في الجو ثم تلقي بها على الأرض . وكانت تتدحرج الضخور الكبيرة العسيرة التدحرج مثل الحصى الناعم ، وتجرف كل ما يصادفها كالهشيم اليابس ، حيوانات كانت أم نباتات ، خشباً كانت أم حجارة . وكادت تطيح حتى بالأبنية وتسويها مع الأرض لو سمح المدبر واللطيف بالعباد أن تصطدم بها
وهناك تغييرات أخرى للرياح وهبوب الهواء . فبعضها باردة بحسب أبخرة الأرض وبرودتها ، وتكون الجليد والصقيع والجليد الخفيف المرشوش على الأرض كالرماد ، وأخرى ساخنة وشديدة الحرارة بقدر ما تكونها الشمس من حرارة الهواء ، وهي تنعش الحيوانات والنباتات ، وتربي الزروع والبقول وسائر النباتات على الرض . وقد تتحول هذه أيضاً إلى ضارة وقاضية على كل شيء إذا شاء المدبر ، إذ يأمر أن تهب حارة أو باردة أكثر من المعدل ، تلك التي تحول الماء حجراً وتجمد الأنهار الكبيرة وتمنع جريانها ، وتقضي على ما فيها من الأسماك . وتقتل الحيوانات والطيور والدبابات التي على الأرض . وتيبس الأشجار والنباتات حيث تقضي على ما فيها من طبيعة الإنماء ، أو عندما تكون في الهواء رياحاً مهلكة تولد الأوبئة ، حيث ينتشر الوباء عندما تستنشقها الحيوانات أو البشر فيموتون
: أهمية الهواء في الطبيعة
ولئن تحدثنا عن تحركات الهواء كثيراً ، إلا أننا نعود للحديث عنها ثانية لتكون أكثر فائدة لمن يقرأها ، ويتناول الحديث التعقيب التالي : لماذا اقتضت الضرورة أن يتحرك الهواء بصورة مستمرة ولا يكون مستقراً مثل الأرض ، ويقتصر على رقته وقابليته للذوبان واستنشاقه؟
بهذا الصدد نجيب : أن لتحركه ورقته وذوبانه فوائد جمة . وهي ضرورية جداً لجميع الكائنات الجسمانية
أولاً : لو لم يخلق متحركاً وقابلاً للذوبان ورقيقاً . لما تمكنت الأحياء من استنشاقه بسهولة
ثانياً : لو لم يخلق رقيقاً وقابلاً للذوبان ومتحركاً ليبتعد عنا ويفسح لنا المجال لنواصل سيرنا ، ويملأ الحيز الذي نتركه كلما انتقلنا من مكان إلى آخر ، لما أمكننا أن نتحرك . لأننا وجميع الأجسام الأخرى نتحرك بواسطته ، مثل الأسماك في الماء الذي يتراجع تدريجياً وبسهولة ليملأ الحيز الذي تتركه لئلا يبقى فارغاً . على هذه الصورة كون الله هذا العالم وهيأه بيتاً كبيراً للإنسان الذي كان مزمعاً أن يخلق فيما بعد
ليس فيه مكان فارغ تماماً دون أن يكون فيه جسم ما من أحد العناصر الأربعة . أو أجسام أخرى مركبة منها . مثل الزق المنفوخ الذي صنع كما أسلفنا ، بصورة لا يمكن أن يكون فيه مكان فارغ وهو منعقد وليس بإمكانه أن يسع أكثر مما وضع فيه إلى جانب الهواء . فإذا صادف وأن تحرك ما في الزق ، فأن الهواء الذي في داخله يتحرك ويفسح له المجال ليتحرك داخله بسهولة ويملأ الفراغات التي يتركها داخل الزق . هذا ما يجب أن نفهمه ولا شك ، عن هذا الزق الكبير الذي تنحصر فيه كل الكائنات الجسمانية التي تحتاج إلى مكان تتحرك فيه . وهذا هو ما ندعوه جلداً متيناً وثابتاً بصورة متكاملة وسليمة . وليس فيه مكان فارغ ، كما لا يمكن أن يستقبل شيئاً أكثر مما حصر فيه منذ البداية ، الأمر الصادر عن القوة الخالقة . ومما لا ريب فيه ، أن أي مكان في هذا الكون ، زق الأشياء الجسمية ، لا يوجد فيه سوى جسم واحد . أما التراب أو الهواء أو النار ، أو جسم ما متكون من هذه ، فلا [ يعطي ] أحدهما مكاناً لخدنه ، حيث لا مكان فارغ في هذا الكون ، إلا إذا كان هناك تبادل متعادل وعادل من حيث القوة والمرور . أي عندما تتبادل الأمكنة مع بعضها البعض ، ثم تنفصل عن بعضها البعض وتتراجع دون أن يكون هناك غالب ومغلوب . ويمكن مشاهدة هذا بالعين ، إذا أخذنا إناء فارغاً ذا فوهة ضيقة مثل الإبريق أو الكوز أو قلة زجاجية ، وغطسناه بالماء بقوة ، نشاهد الماء والهواء يتفاعلان في مدخل الإناء الضيق ، فالهواء يحاول الخروج منه ، في حين أن الماء يحاول دخوله ، وكل واحد يحاول احتلال مكان الآخر . وكذلك عندما نلاحظ الحجامين وهم يضعون حجاماً على أجسام الناس حيث لا يوجد ولا يمكن أن يوجد مكان اضافي أو فارغ ، وعندما يتنقل جسم النار الرفيع داخل الحجامة حيث لا مجال لدخول الهواء الرقيق والقابل للذوبان ، لذا كان لا بد أن ينتزع حالاً المكان الفارغ داخل الإناء ليدخل ويملأ اللحم الطري الذي تغلغل بواسطته
وهكذا نرى أن ليس في هذا الكون ، مكان خال . وأن حركة الهواء وذوبانه ورقته أمر ضروري . وبوسعنا أن نعرف أيضاً أهمية حركة الهواء من المياه الراكدة في مكان ما دون أن تتحرك . فأنها تلسن وتصير غير عذبة وصالحة لشرب الناس والحيوانات . فكذلك هو الأمر أيضاً بالنسبة إلى الهواء إذا استقر ولم يتحرك فأنه يفسد ويصبح كريهاً ومسبباً للمرض وغير صالح لاستنشاق الناس والحيوانات . فيسبب ضيق النفس والاختناق ومرض الكآبة وضغطاً في قلوب الذين يستنشقونه
أما إذا تحرك باستمرار ، وكون رياحاً ونسائم منعشة ، وجذب بتحركه البرودة المتكونة من بحار الأرض والرطوبة المعتدلة المتصاعدة من أبخرة المياه ، وحرك الأشياء المختلطة به . وغيبها بالحرارة التي ازدادت به إذ كان هادئاً وجعلته سبباً للمرض وضيق القلب ، وطرد الروائح الكريهة التي أفسدته ، والأمراض التي ولدتها هذه الروائح بواسطته ، فيصبح آنذاك منعشاً ومقبولاً وطيباً ، وشافياً ومقوياً لأجساد البشر والحيوانات ، ويحركها بحركته ، كما يحرك النباتات والأشجار وأوراقها
وعندما يكشفها ويحركها ويتغلغل بينها يغذي وينمي ثمارها ويجعلها لذيذة وذات نكهة طيبة . وعندما يحرك الطيور التي تسبح فيه كما يسبح السمك في الماء ، يبدو سهلاً وسريعاً وقابلاً للاختراق . فلو لم يتحرك لثقل وتعسر ، وبجهد جهيد تتمكن أجنحة الطيور من اختراقه ، ولا سيما الطيور الكبيرة ذوات الأجسام الضخمة . فمن هذه الأشياء وأمثالها تبدو ولا ريب ، ضرورة حركة الهواء والرياح والنسائم التي تتحرك بواسطته . وبالعكس فأن سكونه المكثف وعدم حركته يسببان أضراراً وأمراضاً .
وللهواء تغيرات أخرى في تحريكه للرياح والنسائم ، كما يروي الخبراء العارفون : أن الرياح في هبوبها على البحار ، تختلف عن التي تهب على اليابسة ، والتي تهب على الجبال ، غير التي تهب على السهول . فهي تختلف ف النوع والخصائص والاعتدال . فالتي على ساحل البحر والأماكن الرطبة ، غير التي تهب على الأماكن الجافة والصحراوية . وغيرها هي تلك التي تهب في البلدان الشمالية الباردة ، وتختلف عن التي تهب في الجهة الجنوبية الحارة كبلاد الهند والحبشة . وأن الحديث عن كل التغيرات والأنواع والخصائص المختلفة والمتباينة التي يشير العلماء إلى وجودها أو احتمال وجودها في عنصر التراب أو طبيعة الهواء : هو حديث طويل عريض يفوق الطاقة والعقل . والآن لنسترسل بالحديث دون تحديد ، ونحاول جمع مختلف الأسماء والألفاظ والكلمات الكثيرة ، مما يخص هبوب الرياح ، ونلاحظ أن الله الخالق قد جعل من الهواء محركاً لمختلف الأشياء والأمور الأخرى المرعبة والمثيرة للعجب وغير مدركة وفائقة للوصف . والتي قد تكون أحياناً في خدمتنا ، وأحياناً اخرى لتأديبنا ، وذلك بمقتضى ما يحسن لحكمته وتدبيره العجيب وعمق أحكامه غير المدركة . والشيء الوحيد الذي يجب أن نعرفه هو أن نكتفي بالقول : أن كل ما صنعه حسن وجميل كما ورد في الكتاب المقدس . فالله لم يأت بشيء عبثاً أو غير صالح . وأنه لمن الضروري ولا شك أن الخالق يتحرك فيأمر بتكوين الأسباب الطبيعية الصحيحة والحقيقية لهذه الأشياء حيثما وكيفما شاء . وهذا ليس من شأننا ولا يقع تحت إدراك العقل والمعرفة البشرية . وهذا هو شأننا أيضاً كما أعتقد ، بالنسبة إلى الطبيعة المخلوقة الناطقة برمتها ، والأمور الأخرى العديدة غير المدركة . فهذه كلها ننسبها إلى معرفة حكمة ذاك الذي أوجدها بهذه الصورة ، والذي يدبر الأمور بحسب معرفته وبما هو لصالح الجنس البشري
فمن أجل معرفة الخليقة الثانية الجسمانية والهيولية والتي تقع تحت قوى الحواس ، وأعني بها المادة المركبة من أربعة عناصر هي : التراب والماء والهواء والنار ، ومن أجل معرفة الاختلاف في خصائص كل واحد منها والفصل بينها
ومن أجل تكوين وتثبيت السماء والأرض وما يتوسطهما ، وهو الجزء المكمل لهذا الكون الواسع ، والجمال العجيب الرائع الذي يمجد خلقه
ومن أجل تصفية طبيعة عنصر النار المخلوق والمرتفع ، وظهور النور المنبثق منه واستنارته
ومن أجل تصفية وتطهير طبيعة الهواء ، ذلك العنصر الموجود داخل النار وتحتها
ومن أجل الجلد المتين والثابت الذي كون من هذا العنصر وفيه ، وفصل بين المياه على الأرض وبين التي اختلطت بطبيعة الهواء ، وقد أعدت لتكون محطة متوسطة في الهواء الذي فوقنا الرطب والطري ومرطب حرارة الأثير الذي فوقه ، ومكون السحب
ومن أجل أمور أخرى مدهشة خلقها الله بأمره وإرادته وقوته وتدبير حكمته ، في طبيعة الأرض وطبيعة الهواء الذي نتنقل فيه ، والذي هو فوقنا
من أجل كل ذلك تحدثنا أيها الأخ العزيز محب العلم والحق ، على قدر ما أوتينا من قوة وإرشاد الروح المرشد وواهب المعرفة والكلمة
: كل ما في الكون من صنع الله
ولما كان كلامنا عن هذه الأمور لا يفي بالغرض ، كان من الضروري أن نشفعه بكلام من الكتب المقدسة الموحى بها من الروح لتكون إزراً له ومصداقاً . ولكي تشهد وتعلن بكلمات وتعابير مقتضبة . أن السماء والأرض وما يتوسطهما هي أعمال عظيمة وجليلة لله العظيم الحكيم الماهر ، والخالق القوي والقادر على كل شيء . فلنفعل أذن هذا ، ونهيأ كلامنا للختام كما يقتضي ويتطلب الواجب . فبعد شهادة موسى الرجل الشهير والعجيب والمستحق التصديق التي تقول : “في البدء خلق الله السماء والأرض” ، أرى من الضرورة أيضاً اقتباس شهادات بينة من رجلين آخرين أو ثلاثة ممن لهم كلمة مقبولة ، دعماً لكلامنا . ليس من اجل استنارة وتثبيت وتقوية فكر القراء فحسب ، بل لأمر أهم ، ألا وهو بطلان وتبكيت الذين يهذون ويتجاسرون على القول : أن هذا الكون ، أما ليس مخلوقاً أو أنه أوجد ذاته بذاته ، أو أنه كون من قبل سبعة آلهة هي الكواكب المدبرة التي تتحرك في السماء
وقبل كل شيء نورد شهادة الرجل الكبير والشهير المدعو قلب الله ، الملك والنبي داود الذي أراد أن يعلم العباد كيف يمجدون الخالق . قال : “السموات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه ، يوم إلى يوم يذيع كلاماً ، وليل إلى ليل يبدي علماً… .” “للرب الأرض وملؤها ، المسكونة وكل الساكنين فيها ، لأنه على البحار أسسها وعلى الأنهار ثبتها…” “بكلمة الله صنعت السموات وبنسمة فيه كل جنودها”… الرب “صنع السموات… جلال وبهاء أمامه… قوة ومجد في مقدسه… من القدم أسست الأرض والسموات هي عمل يديك ، هي تبيد وأنت تبقى وكلها كثوب تبلى وكرداء تغيرهن فتتغير” “بسط السماء كالخيمة … الجاعل السحاب مركبته الماشي على أجنحة الريح” … “المؤسس الأرض على قواعدها فلا تتزعزع إلى الدهر والأبد” . ويقول عن الله أيضاً “أسست الأرض وجعلتها ثابتة” . وفي وصيته بالشكر لله يقول : “الصانع السموات بفهم… الباسط الأرض على المياه” . فبهذه الكلمات يشهد داود على عظم عمل الله .
أما سليمان ابنه ووارث ملكه فتحدث بما يشبه تلك وقال : “الرب بالحكمة أسس الأرض ، أثبت السماء بالفهم ، بعلمه انشقت اللجج وتقطر السحاب ندى” . ويقول وهو يتحدث بشخص الكلمة الخالق الذي هو حكمة الله الخالق وقوته : “لما ثبت السماء كنت هناك أنا . لما رسم دائرة على وجه الغمر ، لما ثبت السحب من فوق ، لما تشددت ينابيع الغمر ، لما وضع للبحر حده فلا تتعدى المياه تخمه ، لما رسم أسس الأرض كنت عنده صانعاً” . أما أرميا النبي الذي تقدس من بطن أمه فيقول : “صانع الأرض بقوته مؤسس المسكونة بحكمته وبفهمه بسط السموات” . ويقول زكريا النبي : “وحي كلام الرب على إسرائيل ، يقول الرب باسط السموات ومؤسس الأرض” . هكذا وبهذه الكلمات يشهد رجال الله هؤلاء الملهمون ، على ما صنعه الله خالق الكل
بعد هذه الشهادات الموحى بها من الروح والتي جاءتنا على ألسنة البشر ، نرى من الضروري والمناسب إيراد شهادة الله الخالق نفسه عن نفسه ، وقد جاءت في حوار الله مع الرجل الصديق أيوب ، حيث قال : “أين كنت حين أسست الأرض؟” ، ثم يسأله : “من يحصي الغيوم بالحكمة؟” . وهكذا يكون كلامنا المتعثر تعثر كلام الأطفال ، أيها الأخ العزيز ومحب الحق ، قد تمكن ، بما أعطي من قوة ، من الحديث عن الخليقة الثانية الجسمانية التي خلقها الله الصانع . وهكذا أيضاً أطلعنا الكتاب المقدس بكلمات مقتضبة ويسيرة ، على كيفية تأسيس السماء والأرض . وهذا كان الأسلوب الملائم ، الذي كان عتيداً أن يتحدث عن تشييد صرح ملكي عظيم ، وإذا به يختصر الحديث بعبارة واحدة هي : تم بناء الصرح الملكي دون أن يتطرق إلى كيفية إنشائه وتزيينه
فقد حفظ هذا لحديث آخر…
وهكذا زينا خاتمة كلامنا بشهادات حقيقية عن العمل العظيم الذي أنجزه الله القوي والخالق : من رجال عظماء وذائعي الصيت وممن يستحقون التصديق ، كهنة وملوكاً وأنبياء . أولئك الذين تكلموا بروح الله الذي خلق كل شيء بقوته ، وحرك بحكمته عباده لكي يتحدثوا عن عظمته ويخبروا عن خليقته . ذاك الذي له المجد والعزة والسلطان من جميع أعماله ومن أجلها ، الآن وكل أوان وإلى أبد الآبدين ، أمين
اليوم الثاني
في الارض وفي البحار والجبال والزروع والاشجار التي أمر الله أن تنبت فيها –
مار يعقوب الرهاوي
في الأرض الظاهرة بفضل انحسارها عن المياه
وظهورها يابسة بأمر الله لسكنى البشروفي البحار والخلجان والجزر والبحيرات وما فيها من أنهار .
وفي الجبال الشهيرة والعظيمة وفي الزروع والعروق والأشجار
التي أمر الله أن تنبت فيها
أن الأبنية التي يقيمها الناس في هذا العالم ، أما أن تكون دور سكن خاصة أو مدناً عامة أو هياكل وغيرها من أمثال هذه المشاريع المفيدة ، والمساكن الصالحة للناس . فإذا كان البناء دور سكن للناس ، فأنهم سيولون اهتمامهم قبل كل شيء وفور إنجاز البناء والتسقيف : بتنظيم وترتيب وتزيين كل ما هو ضروري من الداخل . أي أرضيته ، وتسييع جدرانه وتزيين سقفه ، وإنجاز وضبط كل المستلزمات الأخرى التي يحتاجها الساكن . أما إذا كان المطلوب بلدة ، فأن البنائين يولون اهتمامهم ، فور إنجاز بناء السور والدور السكنية ، بتسقيف الشوارع والأماكن العالية ومجاري المياه ، وإنجاز كل ما هو ضروري ومفيد ولائق بسكنى الأهالي . ويخبرنا الكتاب المقدس ، بأسلوب بشري ، وبكلمات موجزة ومقتضبة عن عظمة عمل الله الخالق ، ويقول : “في البدء خلق الله السماء والأرض” إذ جاء بها من العدم إلى الوجود ، معلناً أن الله الحكيم قد أتم بناء هذا العالم وجهزه بيتاً كبيراً ومدهشاً لسكنى الإنسان الذي كان مزمعاً أن يخلقه فيما بعد ، على صورته وشبهه . أنه لعظيم في جماله ، وعجيب بترتيبه وتناسق تكوينه . وبعد أن قال الله كلمته في الأرض التي لم تكن في البدء منظورة أو مكونة ، قال كلمته أيضاً في النور : “ليكن نور” وكان نور ، وجعل الخالق جلداً في وسط هذا الفضاء ، وظلل أفلاكه بالمياه كما قال الروح المرتل ، وفصل بين مياه ومياه ، وجعله مكاناً مضيئاً ومسكناً متقناً ومناسباً شبه صرح ملكي؛ لسكنى الإنسان الملك ولجميع الحيوانات التي خلقت لخدمته . وبهذا كشف عن عظيم اقتدار وحكمة الله المبدع .
: دور كلمة الله في الخلق
وهنا أيضاً يقدم لنا الكتاب : الله الخالق ، كموجد ومنظم ومؤسس لكل ما سبق وخلقه ، حيث يخبرنا ، بأن الله الخالق عندما أراد إزالة ما كان يستر الأرض عن الأنظار ، وأن تجتمع المياه تحت السماء في مكان واحد ، وتظهر اليابسة : أوعز إلى كلمته الخالق بصيغة الأمر ، كما ذكر سابقاً ، نظراً إلى المساواة في الارادة والعمل والكمال وذاتية الازلية والقوة والسلطان : فكان كذلك . وقد ألقى الكتاب المقدس ، ولا سيما الروح ملهمه ، الأضواء على الكلمة الآمرة والفاعلة والخالقة ، التي نطق بها الله الخالق والقادر على كل شيء ، ونفذت دون تأخر . فقد كتب وسلم إلينا من أجل أن ندرك نحن وجميع ذوي العقل الراجح والباحث الذي يستنير بالروح ، ثم تابع كلامه الذي أعلن فيه عن عظمة وقوة الكلمة الخالق ، يمين الأب وقوته ، وقال : “لتجتمع المياه تحت السماء إلى مكان واحد ولتظهر اليابسة ، ودعا الله اليابسة أرضاً ومجتمع المياه دعاه بحاراً ، ورأى الله ذلك أنه حسن”
وهكذا وبهذه الكلمات الموجزة والمقتضبة يخبرنا الكتاب المقدس عن المساواة في الإرادة والعمل لدى الله الأب العقل العظيم الخلاق ، وكلمته وابنه الوحيد الخالق ، فأن الأب أمر أن يكون ، والابن ، من حيث قوته ومساواته للأب بالسلطان ، نفذ الأمر . وأن أمر الأب هذا الصادر إلى الابن المساوي له بالطبع ، لا يشير إلى كونه عبداً أو خادماً ، بل إلى كونه ابناً مساوياً في الكرامة والارادة . ومثله مثل العقل الذي يصدر أمره إلى كلمته . ولا يمكن للعقل البشري الاعتيادي ، أن يدرك هذا إلا على هذا الشكل ، فيقول : أن لكليهما ارادة واحدة . أما إذا قال أحد أن ارادة العقل الوالد للكلمة هي غير ارادة الكلمة ، فمع أن ذلك كاذب ومرفوض ، فهو يبرهن على جنون العقل الذي يقول به . أذن فأمر الأب للابن “لكن” . لا يعني شيئاً سوى مساواتهما في الكرامة والإرادة
يقول : “لتجتمع المياه تحت السماء إلى مكان واحد ولتظهر اليابسة” . أن هذا الكلام الموجز يولد كثيراً من الشكوك ، ويحتاج إلى مزيد من البحث . فلا بد من أن نتساءل مستقصين فحواها : إلى أي مكان أمر الله أن تجتمع المياه؟ فبمقتضى هذا الأمر لم تكن المياه على وجه الأرض ، حتى إذا انحسرت منها المياه وجفت ، ظهرت اليابسة خالية من الرطوبة . أن الأرض كانت محاطة بعمق غمر المياه ، كما يحاط الجنين بالمشيمة داخل الرحم ، حيث كانت تحفظ ذاتها بصلابتها وكثافتها وبشكلها الكروي وثقل طبيعتها . فلم يكن فيها مرتفعات أو أعماق ، ولا جبال أو سهول مختلفة عنها ، ولا كهوف أو وديان . ولم تكن مائلة إلى هذه الجهة أو تلك ، ما خلا ميلها العام نحو جميع الجهات على حد سواء . وهو الناشىء عن كرويتها واستدارتها . لكنها كانت على مستوى واحد مع المياه التي تغمر سطحها . فلم يكن فيها شق في الداخل ولا بروز في الخارج . فعليك أن تعلم هذا أيها السامع محب الحق والباحث الفطن
: الخلقة في سفر التكوين
أن الكتاب بقوله : “غير منظورة” قد حتم بأنها لم تكن مكونة . والحق يقال أن سطحها كان مائلاً إلى كل الجهات لأنها كانت كروية ومستديرة ، وإذ لم تكن جاهزة تماماً ، لم تكن بعد صالحة لسكنى الناس . وذلك ، أولا : لأنه لم يكن بالامكان إزاحة المياه عن سطحها ما دامت مستديرة بهذا الشكل . ثانياً : لم تكن لتصلح اطلاقاً لسكنى البشر والحيوانات ، وهي بهذه الصورة غير منظورة ومغمورة بالمياه ، كما لم تكن لتصلح حتى لنمو الأعشاب والأشجار ما لم تصبح مسطحة بعد انحسار المياه عنها مثل سهول البر . وكما نعلم أن الأرض التي تقع في أسفل الجبل تكون صالحة للزراعة لأنها تميل ميلاً مناسباً نحو إحدى الجهات ، وتستقبل من سفوحها سيولاً رطبة ومياها ونسائم منعشة
هكذا كانت في المياه سابقاً ، إذ لم تكن منظورة ولا جاهزة . أما كونها غير منظورة فلأنها كانت محجوبة بغمر المياه ، وأما كونها غير جاهزة فلأنها مستديرة وكروية . لذلك قال الرب الخالق : “لتجتمع المياه تحت السماء من وجه الأرض ، ولتظهر اليابسة” ، فتكون منظورة وجاهزة وصالحة لاستعمال وسكنى البشر والحيوانات عليها ، ولا نبات وتوليد الزروع والجذور ، ولتغذية وتربية النباتات والأشجار المثمرة . هذا ما سلمه إلينا الكتاب عن الله الخالق ، وللفور غير الكلمة الخالق ، بإيعاز من القادر على كل شيء . شكل الكرة المستديرة والسطحي ، وجعل الأرض تتحرر من المياه ليس بتحديد استدارتها ، فتخرج خارج حدود الكروية ، فتغير الجبال والمرتفعات العالية وحسب ، أنما داخل الحدود النائية أيضاً والشقوق الباطنية والأغور العميقة والشاسعة لاستيعاب المياه التي أمرت أن تجتمع على مساحة الأرض ، بحيث أن القسم الذي برز عالياً من الأرض صار منظوراً ، والقسم الذي غار نحو العمق وغمر ، أعد مكاناً ، كما أمر للمياه التي كانت عتيدة أن تتحول إلى القسم المرتفع . وبموجب الأمر الصادر إليها ، فأن المياه انحسرت وتجمعت على وجه الأرض المرتفعة واستقرت في الأمكنة المنخفضة . أما الأرض التي برزت فأنها تخلصت بعد فترة وجيزة من الرطوبة ، وظهرت يابسة بموجب الأمر الالهي الصادر إليها ، فأضحت في الوقت ذاته جاهزة ، حيث ظهرت فيها جبال عالية ، وكهوف وصخور ناتئة وأغوار ووديان وسهول وفجاج وأراض خصبة ما بين الجبال ، ورواب وهضابات مرتفعة نحو الأعلى ، وأمكنة صالحة ومناسبة لسكنى البشر
هذا كل ما وضحته بإيجاز الكلمة في حديثها عن الأرض ، وإذ كانت غير منظورة وغير جاهزة ، وكيف أنها بأمر من الله الخالق أضحت بغتة منظورة وجاهزة
يستوجب هذا برهاناً مقنعاً للسامعين ، لذا سنخصص له جزءاً من الحديث على قدر الامكان ، ليحثوا الخطى نحو ادراك هذه الأمور عن قناعة . فليأخذ مثلاً أي إنسان عاقل ومفكر وفطن ، قطعة من العجين بمقدار ما تسع كلتا يديه ، وليعجنه ويصنع منه كرة مستديرة ، ثم يضغط بيده على الكرة العجينة اللينة ليجعل لها شكلاً آخر مغايراً لكرويتها الحقيقية . حيث تصبح طويلة نوعاً ما ومسطحة قليلاً عن دائريتها ، ويكون فيها بأصابعه أماكن غائرة نحو الداخل ، وأخرى بارزة قليلاً ومرتفعة نحو الأعلى . على هذا النمط يجب أن يفهم المرء تغيير شكل الأرض . حين ظهرت فيها ، بأشارة قوة الخالق ، مرتفعات وأعماق ، على أثر صدور الأمر بانحسار المياه عنها ، فبرزت متكاملة .
: التجمعات المائية
يقول : “لتجتمع المياه تحت السماء من وجه الأرض إلى مكان واحد” . فبقوله “مكان واحد” أراد أن تجتمع المياه كلها في جانب الأرض المنخفض ، ويرتفع الجانب الآخر ليكون يابسة ، ولم يقصد أن تكون بحراً واحداً أو متجمعاً واحداً ، كما هو معروف ، بل قصد أن تأخذ المياه جانباً واحداً من الأرض كما قلت ، وتترك الجانب الآخر لليابسة … ويقول : “واجتمعت المياه تحت السماء في منجمعاتها”
فأنه قال متجمعات (بصيغة الجمع لا المفرد) ، ثم أضاف قائلاً : “ودعا متجمعات المياه بحاراً ” وهذا ما يبرهن على أن متجمع المياه لم يكن واحداً ؛ ولم يحصر الله المياه في بحر واحد . بل في بحار وبحيرات ومتجمعات كثيرة ، وفي أنهار مختلفة كبيرة وصغيرة ، ويشهد على صحة هذه الأمور ، كل من الكتاب المقدس ، والعمل المنظور ، وأن وجود البحار المتعددة والمختلفة في المعمورة ، أمر واضح ومعروف .
وفي مقدمتها البحر المتوسط الكبير والغزير بالمياه ، وبحسب تعبير الكتاب ، هذا البحر الشاسع الذي يتدفق من جهة المسكونة الغربية من مجمع المياه العام ومصدر كل المياه ، ذاك الذي يسميه اليونانيون أوقيانوس (المحيط) . وكان سابقاً يبدأ من منفذ ضيق من ناحية جزيرة كادير ، ومن أعمدة هرقل نتوءان بارزان عند مدخل جبل طارق الواقعة إزاء أراضي اسبانيا وفي منتصف المسكونة وباتجاه الشرق ، يعرض وينتشر ويتوسع ويسيطر على مساحة من الأرض نحو خمسة آلاف ميل طولاً أو يزيد ، وأربعمائة ميل عرضاً وتنتهي جهته الشرقية عند جبل آمنون الذي أقيمت إلى جانبه مدينة أنطاكية . وعند بلاد قيلقيا وسورية وفينيقية وفلسطين . هذا أول بحر المسكونة البشرية
وفي بحر أدريلي هذا خلجان ، منها الذي يسمى وخليج قيليقيا وكثير غيرها . أما الخلجان الموجودة في جهته الشمالية ، فمنها الذي يمتد بين ايطاليا ومقدونية وذلك المسمى الذي يمتد بين الأدا وتراقية وداخل تراقي و الذي يتفرع من هذا ويمتد بين تراقية وبيتونية ويختلط ببحر ، أو كما يسميه بعضهم . وفي الجهة الجنوبية يوجد خليج الكبيرة الصغيرة
وفيه خمس جزر كبيرة وهي صيقليا وقريطي وقبرص . والجزر وكثير غيرها
أما الجزر الصغيرة فهي : رودوس وكثير غيرها ، لا نذكر جميعها تجنباً للاكثار من الأسماء
والبحر الثاني الذي تركه المبدع الحكيم الضابط الكل ، في هذه المسكونة ، هو المعروف بـ الذي سبق ذكره عندما قلنا أن خليج الدردنيل الذي في البحر المتوسط يختلط به . فهو يمتد من الغرب إلى الشرق طولاً
ويبتدىء من بلاد بالقرب من تراقية ، ويمتد طولاً حتى بلاد بالقرب من جبال قفقاسية ويبلغ طوله نحو ألف وثمانمائة ميل ، وعرضه قرابة ثلاثمائة ميل . وتقع إلى شماله بحيرة لا تصغره كثيراً ، تدعى التي تصب فيها روافد كثيرة من أنهار كبيرة في وفي البلدان الغربية ، ولكثرة هذه المياه ، فأنها تصب في بحر ، وهو بدوره يصبها في البحر المتوسط نظراً إلى صغر حجمه إذ يقع في جنوبه
أما البحر الثالث الذي وضعه الخالق المبدع في المسكونة ، فهو والمعروف أو ، الذي لا تختلط به أي من بحيرات المسكونة ، والذي يمتد هو الآخر من الغرب إلى الشرق طولاً . من الحدود الشرقية لأرمينيا ولبانيا وحتى الحدود الغربية لبلدان ويبلغ طول امتداده قرابة الألف وثمانمائة ميل . أما عرضه ووسطه فقرابة ستمائة ميل . يصب فيه من الجهة الشرقية النهران الكبيران اللذان تنصب فيهما جميع روافد المياه الآتية من جبال . ومن الشمال النهر الكبير المسمى الذي يصب فيه مجرى مياه الأنهار ومجاري مياه الجبال الشمالية الكبيرة ، في بلاد ، وكثير غيرها من الأنهار التي تنبع فيها بصورة مستمرة فتولد رطوبة كثيفة ، وتأتي من جهة الأرض الشمالية . ونظراً إلى كثرة المياه التي تصب فيه وتريد في ملئه ، ينعدم فيه وجود الجزر . وبالكاد ظهرت فيه جزيرتان صغيرتان منذ بدء العالم وحتى الآن ، وهما صالحتين للسكنى
أما البحر الرابع ، أكبر جميع بحار الأرض المأهولة ، فهو المسمى بحر أي الأحمر . الذي يمتد في جهته الشمالية الخيج المدعو العربي الذي اجتازه بنو اسرائيل لدى خروجهم من أرض مصر ، والخليج أي البحر المسمى بحر العيلاميين الذي يتفرع من العربي وينحدر من غرب البحر الأحمر نحو الشمال ، من المكان الضيق عند بلاد الحبشة حتى برية فاران حيث اجتاز بنو اسرائيل . ويبلغ طوله نحو ألف وأربعمائة ميل ، وعرضه من الجنوب نحو أربعمائة ميل ، ومن الشمال قرابة مئتي ميل وربما أقل . أما الخليج العيلاميين أي الفرس ، فيبلغ طوله نحو ألف وأربعمائة ميل اعتباراً من البحر الأحمر نحو الجنوب حتى بلاد بابل حيث يقع النهران الكبيران دجلة والفرات أما عرضه من الجنوب إلى الشمال فقرابة سبعمائة ميل
أما البحر الأحمر الكبير الذي لا يقاس ، فهو ممتد من خط طول الأرض المسكونة مئة وثمانين من الغرب إلى الشرق ، وخط مئة واثنين من بلاد الحبشة حتى بلاد الصين في أقصى شرق المسكونة ، ويبلغ طوله من الغرب إلى الشرق نحو ثمانية آلاف ميل ، وعرضه من الجنوب إلى الشمال قرابة ألفين وسبعمائة ميل في بعض الأمكنة . ويوجد في هذا البحر خلجان كثيرة وكبيرة ، وجزر لا تحصى ، وفيه جزيرة كبيرة قبالة الهند تدعى تبلغ دائرتها نحو أربعة آلاف ميل . وجزيرة جافة بالقرب من الصين تدعى أي الجزيرة الذهبية
ويمتد بحر الأحمر هذا إلى نحو نصف المسكونة ، فهو يمتد عرضاً نحو الجنوب من المكان الذي يتساوى فيه الليل والنهار ، نحو تسعمائة ميل . أما البلاد الواقعة جنوب سواحله الجنوبية فتعرف بـ “المجهولة” من قبل الناس وهي غير صالحة للسكنى على الاطلاق
ونظراً إلى كبر هذه الخلجان البحرية وعددها ونوعيتها ، أرى من الضروري أن نتحدث عن خصائص ومذاق مياهها التي كونتها هي الأخرى حكمة المبدع بأحسن اتقان ، ففي الوقت الذي جعل الله جميع المياه التي أعطاها لاستعمال البشر ، عذبة ولذيذة باستثناء مياه البحار . فهي غير صالحة للشرب إذ جعلها الله المبدع مالحة ، وهو الحكيم والقادر على كل شيء ، فأن الله كون أديم الأرض كله ، وذلك بحسر المياه وجعلها يابسة فصارت عذبة ولذيذة باستثناء بعض المواضع المعروفة ، إذ جعلها مالحة ، لكي تدر على الناس بالملح للتمليح والنكهة
أما بالنسبة إلى أرض قيعان البحار ، وتلك التي تقع على سواحلها من الخارج ، فأنه لم يجعل فيها تربة حلوة وقابلة للتبلل بالماء ، بل رملاً منثوراً غير قابل للتماسك ، أنه مالح ومتين وصلب ولا يتبلل البتة برطوبة الماء . ولهذا فأن الله جعل المياه المتجمعة في البحار مالحة وغير صالحة للشرب . وهي أبداً صافية نقية لا تعكر أو تتغير على الإطلاق ، لدى تحركها أو هيجان أمواجها ، حتى حين يأمر الله البحار أن تهيج وينقلب سافلها عاليها . يقول المرتل “وترتعد الجبال بقوته” . وكما يبدو فأن الله الصانع جعل مياه البحار مالحة ، ليس فقط لأجل تقوية الأرض بملوحتها ، بل أيضاً لتحول دون أن تأسن وتصير ذات رائحة كريهة ، باعتبارها متجمعة وواقفة في مكان واحد ولا… التي في الأنهار عندما تستعر بأشعة الشمس المحرقة ، فأن الله أمر أن تكون صافية نقية وشفافة لتسهل الرؤية أمام السباحين الباحثين في أعماق المياه ليميزوا ما يضرهم فيستعملوا ما يقيهم . لكن الله لم يجعل هذه الملوحة والخاصية الكريهة في طبيعة مياه البحار ، بل بطبيعة الرمل القوي الذي تستقر عليه . ويعرف هذا منالمياه التي تنبع من شقوق الأرض ، فأنها تنفض عنها فوراً الملوحة التي ليست من طبيعتها ، وتكتسب بسهولة عذوبة وخاصية طبيعتها العذبة
وإذ تحدثنا بهذا المقدار عن البحر والبحار ، علينا أن نضيف قليلاً ، فنتحدث عما فيها من جزر . وكما أسلفنا ، فأن الله خلق فيها جزراً كثيرة كبيرة وصغيرة ، لا لسكنى الناس فحسب . بل لأجل أغراض أخرى ، ومستلزمات ضرورية . خلقها وأكثر منها في طول البحار وعرضها ،
أولاً : (وهذا هام ونافع جداً للبشر) فأنهم عندما يجوبون في الخلجان الكبيرة الواسعة ، وتثور عليهم زوبعة ما ، يقصدون إحدى تلك الجزر القريبة منهم . وإذا اشتد الشتاء يشتون فيها فينجون
ثانياً : (وهي منفعة ليست أقل أهمية) . لكي يأخذوا منها الماء والخشب وبعض الاحتياجات الأخرى . لذلك ربط الله البحار الطويلة العريضة ، بواسطة هذه الجزر المتواجدة واحدة تلو الأخرى ، ذات التربة الحلوة والتي تنبع منها مياه عذبة وتنبت زروعاً وأشجاراً . ولم يقتصر الله على تكوين الجزر في بحار المسكونة الهادئة فقط ، بل وفي المحيط الخارجي غير الهادىء الذي لا تصلح سواحله غير الآمنة للتجاوب . فهناك جزر أخرى في هذا البحر الغربي أي المحيط . إلى جانب جزيرة غاديرا التي عند مدخل البحر الأدرياتيكي ، منها ما يمكن للناس أن يدنوا منها ويجوبوا فيها ، ومنها ما لا يمكن الدنو منها على الاطلاق ، كتلك التي تقع مقابل والتي تدعى فهناك جزيرتان هما وقبالة ليبيا توجد جزيرة وأخرى وست جزر تعرف بجزر السعداء ، وتدعى الأولى لا يدنى منها ، تلك التي يسميها الوثنيون جزيرة هيرا ثم والتي في الأدرياتيكي ، وقد سبق الحديث عنها ، وكثير غيرها
أما في البحر المعروف بـ فنظراً إلى صغره ، تظهر فيه جزر كثيرة وصغيرة فوق المياه ، وصخور ناتئة كثيرة ، الأمر الذي يصعب على من يرومون أن يجوبوا فيه ، رفع سواري سفنهم في الرياح والتجواب ، ويوجد في البحر الأحمر ، حوالي جزيرة الكبيرة ، مجموعة جزر صغيرة يبلغ عددها نحو ألف وثلاثمائة وثمان وسبعين . ومنها كبيرة نوعاً ما ، ولها تسعة عشر اسماً واحدة للطيور ، واحدة للماعز
فقد أبرز الله هذه الجزر لتظهر وتشاهد في البحار التي كونها في المسكونة مولياً عنايته بالجنس البشري ، لأن كل ما عمله حسن كما يشهد الكتاب ، ولم يعمل شيئاً عبثاً دون جدوى . فقد أودع للجنس البشري كل ما يحتاج إليه ويساعده ، مثل هذه البحار التي على وجه المسكونة ، لتكون عضداً للناس على سد حاجاتهم الضرورية ، التي يتبادلونها عن طريق تجواب البحار من بلد إلى أخر .
وبإمكاننا الوقوف على هذه الأمور بوضوح من الكتاب المقدس أيضاً ، الذي يتحدث عن سفن حيرام ملك صور ، وسليمان ملك إسرائيل ويقول : منذ كذا زمان كانت تصل من بلاد الافريقان ، أو من بلاد سبأ والهند ، وهي تحمل بضاعة من الحاجيات الضرورية . من جهة ثانية فأن الله أوجد البحار لتقوى بها الأرض وتتثبت وتترسخ . لذا فقد رفع المرتل ترتيلة مجد الله الخالق بقوله : “لأنه على البحار أسسها وعلى الأنهار ثبتها” . ولكي تنضج منها جداول المياه في أغوار الأرض وشقوقها ، وتنبع الينابيع في الجبال والوديان والسهول لشرب الناس والحيوانات والطيور والزروع والنباتات والأشجار . وفي هذا الصدد ، رتل الروح لله قائلاً : “المؤسس الأرض على قواعدها فلا تتزعزع إلى الدهر والأبد ، كسوتها الغمر كثوب ، فوق الجبال تقف المياه ، من انتهارك تهرب ، من صوت رعدك تفر ، تصعد إلى الجبال ، تنزل إلى البقاع إلى الوضع الذي أسسته لها ، وضعت لها تخماً لا تتعداه ، لا ترجع لتغطي الأرض ، المفجر عيوناً في الأودية ، بين الجبال تجري ، تسقي كل حيوان البر ، تكسر الفراء ظمأها ، فوق طيور السماء تسكن ، من بين الأغصان تسمع صوتاً”
لقد تطرقنا بكلامنا الواهن والمتلعثم تلعثم الاطفال ، إلى الحديث عن البحر ، عمل اقتدار الله الخالق ، وعن الخلجان ومجمعات المياه المختلفة التي أمر الله بأن تتكون من المجمع المائي العام ، ووضعها على وجه المسكونة لتساعد الإنسان وسائر الخليقة . وبهذا نكون قد تحدثنا جزئياً وبإيجاز عن عظمة ووفرة وعمل وقوة وحكمة الخالق المبدع . والخالق نفسه الذي كون البحر وخلقه ، نحدث عن عظمته وامتناعه عن امتثال أمر خالقه ، وهو يوجه كلمة تأديب إلى إسرائيل قائلاً : “اسمع هذا أيها الشعب الجاهل والعديم الفهم الذين لهم أعين ولا يبصرون ، لهم آذان ولا يسمعون ، إياي لا تخشون ، يقول الرب : أو لا ترتعدون من وجهي أنا الذي وضعت الرمل تخوماً للبحر فريضة أبدية لا يتعداها فتتلاطم ولا تستطيع وتعج أمواجه ولا تتجاوزها ” . هكذا تظهر لنا كلمة الله ، عظمة البحر المدهشة وقوته وبأسه وكونه عبد ورهن إشارة مكونة ومدبرة
فمن الكتاب المقدس ، ومما سبق وتحدثنا به ، تظهر أهمية ووجوب وجود هذه البحار الكبيرة على وجه هذه الأرض المأهولة . كما يبدو أيضاً أن حكمة وعناية الخالق لم تكون البحار المذكورة فحسب ، بل كونت إلى جانبها بحيرات كبيرة وصغيرة عديدة . كما كون الله على الأرض غدراناً ومستنقعات ، سداً لحاجة البشر وعوناً لهم ، في مختلف الأقطار والأمصار . فمنها يصطاد السمك طعاماً للناس ، وفي البحار يتنقل الواحد إلى الأخر لغرض سد حاجاتهم . ومن البحيرات ما يشكل حصوناً وملاجىء للناس شأن المدن وتنقذهم من الأعداء الغزاة . ومنها ما يستثمره الناس لأغراض متنوعة كثيرة ، نعرض عن ذكرها لئلا يطول الشرح
ومع ذلك أرى من الضرورة التحدث عن بعض البحيرات وما فيها من فعاليات . وبخاصة الشهيرة منها . سواء بالنسبة إلى كبرها أو الفعاليات التي تجري فيها ، فنذكر أسماءها والأقطار التي تقع عليها .
وفي مقدمتها البحيرتان اللتان تزودان النيل وتلك التي تزود نهر الذي يختلط بالنيل . ويضاف إلى هذه ، البحيرات التي يكونها النيل مثل بحيرة مريوط بالقرب من الاسكندرية الكبيرة التي يكونها نهر الأردن . والأخرى الكثيرة السمك التي يكونها الأردن نفسه ، وتسمى جنارث وإلى جانب هذه ، تلك التي يكونها نهر أورناطيس وتلك التي يخلفها نهر دجلة بعد فيضانه ، وتدعى شوشتار وشوشان ، وكذلك بحيرة أرسطيا الكثيرة السمك في أرمينيا الكبرى ، ولا أرى حاجة لذكر أسماء جميع البحيرات فأسبب ضجراً للقارىء والسامع بسبب كثرة انتشارها الواسع في أقطار المسكونة كانتشار الأنهار . وأعتقد أن ما كتب هنا عن البحيرات يفي بالغرض
وإلى جانب البحار والبحيرات ، وفر الله المبدع للمسكونة ، أنهاراً كثيرة تنساب فيها ، تنبع من أغوار الأرض والبحار وتنساب على وجهها ، ومنها ما ينبع من الجبال مما تخلفه الأمطار والثلوج ، فتروي الأراضي الواسعة التي لا ماء فيها . إلا أن فائدتها للبشر لا تقتصر على ري الأراضي العطشى ، بل أن الناس يستغلون العديد والكبيرة منها خاصة للتنقل ، شأن البحار والبحيرات ، حيث يسافرون بواسطتها إلى بعضهم البعض ومن قطر إلى أخر بقصد التجارة ، ومنها ما يمنع الأعداء من غزو الأماكن الآهلة ، فتساعد بذلك المستضعفين وتنقذهم شأنها شأن الحصون والمدن
ومنها ما هو كبير وعريض جداً بحيث يكون بحيرات ، مثل جيحون أي النيل الذي يغمر ويحصن القطر المصري و في بلاد أوربا الغربية و أي فيشون التي تروي بلاد الهند . التي تنساب من بلاد الشيريين الذي يزود الأقطار الشمالية الكثيرة المياه بصورة مستمرة نظراً إلى كثرة الثلوج . وكذلك دجلة والفرات المجاوران اللذان يغمران ويحصنان بلاد ما بين النهرين ، ويرويان بلدان الآشوريين والكلدانيين والعيلاميين
وإلى جانب هذه ، هناك أنهار أخرى كثيرة وكبيرة . فقد أحصى الجغرافيون القدماء أربعين نهراً كبيراً ، ويوجد غيرها من الأنهار الصغيرة ما لا يحصى . وهناك أنهاراً ونهيرات وروافد وغدارن ووديان ، منها ما يجري باستمرار ، ومنها ما يجري في الشتاء فقط
أضف إلى هذا القنوات ومنافذ المياه ومجاريها التي يصنعها الناس المهرة وبابتكار عقولهم ، لغرض سد حاجاتهم ، ليس فقط لشرب الناس والحيوانات والنباتات والزروع ، والضروريات الأخرى التي تناولها الحديث والتي يسعفهم بها عنصر الماء هذا ، بل أن الماء يخدم الناس في شؤون أخرى كثيرة : فهو يسير الأرجاء ، ويقدم خدمته كعبد في غسل العيون والاستحمام ، وفي صناعات متنوعة ، والبناء وأعمال الناس وغيرها من الشؤون التي لا يمكن أن يعيش الإنسان بدونها ، والتي لا تتم إلا بمساعدة الماء . هكذا جعل الله المعني ، الأرض التي كونها بارزة لنرى تنظيمه البحار والبحيرات والأنهار التي شقها فيها وأسال فيها مياها لخدمة البشر ، وجعل إزاء هذه ، كما سبق الكلام ، فجوجاً وأغواراً ملئا بالمياه ، وأماكن تسرق المياه ، بواسطة عروقها ، من الأمطار والرطوبة في الشتاء ، فتكون طبيعتها كالإسفنج اللين الذي يمتص المياه ، تتكون سيولاً ونزوزاً ومروجاً منبتة للأعشاب ، وهذه كلها تكرس لخدمة الجنس البشري
أن الأرض والمياه وكل الخليقة الجسمانية ، تخضع للإنسان ، ولكن ليس بارادتها ، بل كما يقول الكتاب ، بارادة وأمر ذاك الذي استعبدها على أمل الحرية . وهكذا يكون الله الخالق والمبدع والمعني ، قد أعطى الناس من عنصر الماء كل هذا العون والعطايا الضرورية ، تاركاً لهم على وجه هذه الأرض التي أعطيت لسكناهم ، جزءاً منها لاستخدامه . وبهذا ظهر خالقاً ومعنياً بخليقته . وهنا أيضاً يكون كلامنا كعادته متلعثماً تلعثم الأطفال ، وهو يدور عن البحار والبحيرات ومجمعات المياه والأنهار والينابيع ونزوز المياه ، والحاجة الماسة إليها ، للبشر والحيوانات والطيور وكل حي على الأرض ، وعن سقي النباتات والأشجار والزروع والعروق وكل نبتة على الأرض
: أبعاد ومساحة الكرة الأرضية
أما عن مساحة وحجم الأرض التي ظهرت من المياه يابسة ، وجهزت لسكنى البشر ، ولتجوال الحيوانات والطيور والدبابات ، فأننا ، واستناداً إلى ما سمعناه من القدماء الذين مسحوا الأرض وكتبوا بوسائل ابتكرها عقلهم الشبيه بالله ، وسلموها إلينا خطياً ، فنقول : أن الذين أولوا اهتمامهم بهذه الأرض المأهولة وساحوا فيها وكتبوا عنها ، قالوا : أن طول هذه الأرض التي ظهرت من المياه وجهزت من قبل الله لسكنى البشر ، من الغرب إلى الشرق يقدر بنصف مساحة الكرة ، وفي العرض من الجنوب إلى الشمال ، سدس مساحة الكرة ، لتأتي الأرض المسكونة طويلة ، فيبلغ طولها ثلاثة أضعاف عرضها . فقد كتبوا عن طولها بأنه يبلغ من الغرب إلى الشرق مئة وثمانين خطاً ، وهي نصف الثلاثمائة والستين خطاً التي للكرة الأرضية . والعرض من الجنوب إلى الشمال هو ستون خطاً فقط ، وهي سدس الثلاثمائة والستين خطاً . فيكون طول الأرض المأهولة التي ظهرت من المياه ، قرابة ثلاثة عشر ألف وخمسمائة ميل ، وعرضها أربعة آلاف وخمسمائة ميل ، وأنهم يقيسون طولها من المحيط الغربي ، أي من خليجه الذي لا تطأه قدم ، والذي هو خارج جزيرة غاديرا التي تقع على خط طول خمسة في أقصى حد المسكونة الغربي الذي يقال ، منه تبتدىء بلاد اسبانيا وأعمدة هرقل ، حتى بلاد الصين الواقعة شرقي الهند وهي مكان غير معروف وغير أهل . أما العرض ، فيبدأونه من المكان الذي تستوي فيه كرة السماء ولا تنحرف لا جنوباً ولا شمالاً حيث يتساوى هنالك الليل والنهار طوال السنة ، حتى جزيرة تولي الشمالية الواقعة في المحيط الغربي ، وعلى خط طول ثلاثين وخط عرض ثلاثة وستين . وكتب القدماء عن قطبي الأرض المأهولة ، فقالوا أنهما غير مكتشفين وغير صالحين للسكنى ، وهذا ما حسن لله أن يفعله لدى ابداعه إياهما ، حيث جعلهما غير صالحين للسكنى ولا تطأهما قدم ، أما لخلق فيهما مناخاً غير معتدل كي لا يصلحا للسكنى . أو باحاطتهما بشقوق وأغوار جبلية ووهاد سحيقة وأراض غير صالحة للمشي . أو لكثرة ما فيهما من الحيوانات المفترسة والحشرات الفتاكة والقاتلة . ويقسم هؤلاء الكتاب الأرض المأهولة إلى ثلاثة أقسام ويسمونها ، أوربا ، وليبيا ، (افريقيا) وآسيا الكبرى
فأوربا عندهم هي الأرض الواقعة إلى الشمال من البحر المتوسط حتى المحيط الشمالي .
وأطلقوا اسم ليبيا على الأرض الواقعة جنوبي هذا البحر حتى المكان المحترق تحت الشمس والأرض المجهولة التي تقع إلى جنوبها
ويطلقون اسم آسيا على الأرض التي تبتدىء من الحدود الشرقية للقسمين الأولين حتى نهاية شرق المسكونة
وأما شمال آسيا فأرض مجهولة وغير صالحة للسكنى نظراً إلى برودتها الشديدة .
ويوجد في شرق آسيا أرض مجهولة أخرى ، كساها الله بالأغوار والوهاد السحيقة والشقوق ، فلا تصلح هي الأخرى للسكنى
كما حدد الله أرض أخرى مجهولة وغير آهلة ، ومنع البشر من الوصول إليها خشية تيهانهم وهلاكهم ، أو أن يقتلوا بالحرارة الشديدة والعطش ، أو تهلكهم الوحوش والحشرات الخبيثة ، وتقع هذه الأرض جنوب البحر الأحمر ، قبالة كل من آسيا وافريقيا برمتهما جنوباً . وقبالة بلاد الحبشة والتي تعرف بـ .
وفي جهة المسكونة الغربية ، وإلى الشمال من أوربا قبالة بلدان اسبانيا وفرنسا وألمانيا ، كون الله سيولاً جارفة عنيفة آتية من البحر الكبير ، لا يمكن السيطرة عليها أو ركوبها ، ومنع الله المدبر البشر الأشقياء من التنقل فيها عبثاً ودون طائل ، وسعياً وراء حتفهم ، الأمر الذي لا يجوز
وفي شمال اسبانيا ، وفي بحر الأوقيانوس = المحيط بالقرب من اليابسة ، كون الله جزراً صالحة للسكنى ممكن الوصول إليها ، وهي اللتان تسميان
وتوجد قابلة المانيا وفي نهاية المحيط الشرقية ، جزيرة تدعى الكبيرة وهي جزيرة قاحلة . هكذا قسم القدماء المسكونة ، وبهذا المقدار يحددون وضعها وضخامتها
: أهم الجبال وما فيها من معادن
وحيث أن الله كون في المسكونة جبالاً كبيرة وعالية وجعلها بمثابة أحزمة أو حدود تقسم البلدان ليسكنها البشر . وقد قسمها الناس بدورهم إلى ولايات مختلفة وأقطار متعددة . لذا كان علينا أن نتحدث عن هذه ، لكي نتعرف على تنظيم أرضية هذا البيت الكبير الذي شيده الله للإنسان الذي كان مزمعاً أن يخلقه على صورته
وننقلها بصورة أو أخرى إلى أفكار وأفهام الذين سيقرأون أو يسمعون ، ليعطوا المجد لله دائماً ، وهم يبدون إعجابهم بعظمة عمل الله وعنايته وحكمته ومجال صنائعه . بوصفه خالقاً قوياً وقادراً على كل شيء ، ومنظماً حكيماً لكل أعماله ، ومعنياً وحافظاً لكل ما خلق
فقد كون الله المبدع والحكيم في هذه المسكونة جبالاً ضخمة وقوية ، شهيرة وعالية ، بإمكانها أن تغير كمية السحب في أعاليها
ففي أوربا وفي الجانب الشرقي من نهاية المناطق الاسبانية ، توجد جبال كبيرة وعالية تعرف باسم (البيرينية) وتستعمل مفرداً ومؤنثاً . وفي ولايات المانيا الالبية توجد مئات الجبال التي تنبع وتنضج منها روافد نهر العظيم الكثيرة . وتدعى جبال ، وأخرى تدعى و ، وفي جبال التي تدعى والأخرى التي تسمى ، ثمة ثمانية جبال عالية
وفي ليبيا (افريقية) في المنطقة المسماة تينجيتاني ، والأطلس الكبير والأطلس الصغير ، والجبل المدعو جبل الشمس ، وهي واقعة في ساحل الأوقيانوس الغربي ، وجبل ديور والجبال المسماة فوكري
وفي المنطقة القيصرية ، دوردوس ، زالاكوس ، تهاراقي ، سينابي ، بربور أو بدرون ، مادينوبالوس كاراس ، فورايئسوس ، بالوا ، والجبال المدعوة بوزارا
وفي منطقة الافريقيين : أودوس ، وجبال تاميس ، وجبال سيرناكاس ، مامباروس ، وأساليكوس ، روكابابار ، وجبل جوبيتر ، وتيتريبي
وفي منطقة السيرينيين : جبال ثلاثة : قيليا ، تيتيس ، بيكوليكوس
وفي منطقة الاحباش ، ثمة جبال ممتدة من الشمال إلى الجنوب طولاً على امتداد منطقة الأحباش حتى تمر عبر البحيرة الكبرى التي يشكلها النيل ويغذيها ، وهذه الجبال تدعى جبال الأحباش ، وطولها أكثر من ألفين وثلاثمائة ميل
وفي المنطقة عينها ، إلى الشرق ، جبال أخرى ، كارباوس (كارباتوس) وجبال اليفاس إلى شمال خط الاستواء ، جبال فيلي قرب البحيرة في موقع خط الاستواء ، وجبل ماستي الذي يبعد شرقاً خمس درجات عن خط الاستواء
وفي أراضي ليبيا كلها الواقعة من الحدود الغربية لأرض الأحباش وحتى الأوقيانوس الغربي ، جبال شهيرة وعظيمة هي : ما يسمى بجبل أكوي الآلهة (أو : تيدنوكيما) ، ماندروس ، ساكايولا ، كافاس ،
أوزاكارا ، جرجيريس ، روزاديروس ، وجبل تالا ، أورالتيس ، أرانكاس ، وما يسمى كارامينكي فارناكس
وفي المنطقة الخارجية للأحباش المسماة ، أجيسمبا ، ثمة جبال عظيمة وشهيرة ومعلومة : جبل تادكتيروس الواقع تحت خط الاستواء ، يدن ، زافار ، أنيسكي ، بارديتوس ، والجبل المدعو جبل القمر
هذه الجبال هي في ليبيا ، القسم الثاني المأهول من الأرض
أما في آسيا الكبرى ، أي في القسم الثالث المأهول من الأرض ، فثمة جبال شهيرة ومعلومة
ففي منطقة آسيا نفسها ، جبل يسمى ايدا ، سبليوس ، تيمنوس ، دنيديموس ، سبيبلوس ، تمولدس ، ميسوجيس ، كادموس ، فينكس
وفي غلاطية : جبل أوليفاس ، والجبل المسمى نوبيس ، سيليناروم (غيوم السماويات)
وفي منطقة قبادوقيا ، جبال عظيمة هي : جبل أرجيئوس ، أنتناوروس أي سيكوش ، سكورديسكوس .
وبين سيليسيا وقبادوقية ، جبل كبير يسمى ثاوروس (طوروس)
وبين سوريا وسيليسيا ، جبل أمانوس . وفي سوريا ، جبال ببريوس ، كاسيسوس ، ليبانوس ، مسانير ، جبل حرمون ، هيبوس ، الزاداموس
وتختص بلاد ما بين النهرين بالجبال التالية : جبل مازيوس ، الذي يسمى ايشوما ، وجبل سنجار
وبين سوريا وما بين النهرين أي آشور ، قبادوقية وارمينية ، حتى بلاد الماديين ، من الغرب إلى الشرق . يمتد الجبل الكبير المسمى طوروس الذي يربط هذه المناطق
وفي بلاد الماديين جبال عظيمة هي : زاغروس ، يازوتيوس ، أورونيتيس ، كورونوس
وفي البلاد المسماة بالعربية (السعيدة – الخصبة) جبال شهيرة وعظيمة ، في الثغر البحري جبل هيبوس ، كاباياتا ، والجبل المسمى بالأسود ، بريدنوتوس ، سياكروس ، والجبال المدعوة التوأم ، والجبال السود المسماة أرابي . وفي وسط البلاد ، ما خلا الجبال المذكورة ، ثمة أخرى هي : زاميس ، ماريتا ، والمسمى كليماتس أي السلم (سكالا) ، وجبال أخرى كثيرة لا أسماء لها
وثمة جبال في الكرمانيين وهي : الجبل المدور المسمى سميراميس ، وجبال عديدة غير مسماة
وفي ماطية أي آسيا ، ثمة هذه الجبال الشهيرة والعظيمة : الجبل المدعو هيبيسي ، وأخرى سيرواني والمسماة قوقاتية ، وجبل كوراكس . وفي سيكيثيا : جبال سارماطية ، وأخرى يقال لها آلاني ، وأخرى ريميسية ، إضافة إلى جبل أوروسوس ، والمسماة اسبيزئية ، وأخرى باسم تايبرس ، وسويبي ، وآتاريني . وبين سيكيثيا الداخلية والخارجية يمتد طولاً حتى الأرض المجهولة الجبل المسمى عماوس . وفي سيكيثيا الخارجية وفي منطقة سيروم تمتد جبال الأوزاسيين والكاسيين ، والايموديين التي تتصل في منطقة سيروم بالجبال المسماة آينبي ، ايتاغوروس ، أتوروكوراس ، والجبال المسماة ازميري .
وفي منطقة أريا يقوم جبل باغوس ، ويمتد عبر المنطقة المسماة جردوسيا ، جبال تدعى باربيتاني .
وفي بلاد الهند ، في المنطقة التي بين نهر الكنج ، تقع جبال شهيرة هي : أبوكوبي ، جبل ساردوليكس الذي منه يستخرج الحجر النفيس المسمى باسمه ، بيتيكو ، أديسارتوس ، اينديوس ، أوكسينتوس ، والمسماة آرفي . وفي الهند عبر الكنج ، جبل يسمى بيبيريوس . وذاك المسمى مائياتدروس ، والمسماة داباسي . وفي المنطقة التي في بلاد سيروم (الصين) يمتد جبل عظيم يدعى سيماتينوس .
وفي جزيرة تايروباني جبال شهيرة هي الجبال المدعوة غاليبي وماليئا . والجبل الذي ينبع منه أنهار جزر ، أوناس (سواناس . وينساب منه أزانوس وباراسيس .
أن كل ما شرحناه عن الجبال التي وضعها الله في الأرض المسكونة ، إنما اقتبسناه مما كتبه الأقدمون .
أما بشأن تقسيم البلدان والمناطق التي في المسكونة ، فلنا أن نقتبس قليلاً من كتابات الأقدمين . فنقول : أن هذا التقسيم يقوم على اساس تقسيم العائلات البشرية إلى شعوب مختلفة ، أو على أساس الحكام الذين يسيطرون عليها من حين إلى آخر ، فقد قالوا : توجد في أوروبا وهي القسم (القارة) الأول من العالم مناطق منفصلة هي : الجزر البريطانية الواقعة في الأوقيانوس ، هيبريتا والبيون . وثلاث مناطق ، اسبانيا ، بيتيكا ، لوزيتانيا ، تراكونيس ، وأربع مناطق غاليا السلتية (سيلتا غلاطية) : اكويتانيا ، لوغودونيا (ليون) بلجيكا ، ناريونيس ، ثم جرمانيا ، رتيا مع فنديليسيا ، وايطاليا وجزيرة سيرنوس (كورسيكا) ، جزيرة سردينيا ، وجزيرة صقلية ، وسرماتيا ، كيرسونيسوس ، تاوريكا ، لاريجيس ، ميتاناستي أي المهاحرة ، داقيا ، ميزيا العليا ، وميزيا السفلى ، تراقيا ، كيرسونيسوس ، مقدونية ، أبيروس ، أخائية ، بيلويونيسوس وجزيرة كريت .
وتسجل تحت اسم ليبيا المناطق التالية : موريتانيا ، قيصرية ، افريقيا ، سيرينايكا ، مصر ، ليبيا ، أثيوبيا ، جنوبي مصر ، أثيوبيا الخارجية ، التي تدعى أجيزيميا .
أما في آسيا ، القسم الثالث من العالم ، فأننا نميز الولايات والمناطق التالية : بيثونيا ، آسيا ، لوقية ، غلاطية ، بمفيلية ، قبادوقية ، أرمينية الصغرى ، قيليقيا ، سرماطية ، فولكيس ، ايبريا ، البانيا ، أرمينية الكبرى ، جزيرة قبرص ، سوريا ، اليهودية أي فلسطين ، العربية الصخرية ، بين النهرين ، العربية الصحراوية ، بابل ، أسوريا أي آثور ، ميديا ، شوشان ، فارس ، فرتية ، كرمانية الخربة ، العربية الخصبة السعيدة ، هرقانيا ، مارجياني ، باكترياني ، سوكدياني ، ساقي ، سيكتيا في جبل عيماوس ، سيريقي ، أي بلاد السيرقيين ، أرباً أي هريو ، باروباليسدا ، درانجياني ، أراقوسيا ، جد روسيا .
وأقسام بلدان الهند هي : الهند التي هي ضمن نهر الكنج ، والهند التي هي عبر نهر الكنج ، وبلاد الصين ، وجزيرة تابروباني . هذا عن تقسيمات البلدان أو مناطق المسكونة التي بين الجبال .
ويجب ألا نغفل عن الكتابة عن الفوائد التي يجنيها الناس من هذه كلها ، سداً لحاجاتهم الضرورية . ذلك أن لله المبدع والمعني بالجنس البشري لم يأت شيئاً عبثاً لا جدوى فيه ، لا الجبال ولا الصخور الضخمة والناتئة ولا الكهوف ولا الوديان العميقة ، ولا الشقوق والأغوار التي شق بها الله الجبال ، ولا الصحاري الجرداء القاحلة العطشى التي لا تنبت ، ولا أي من الخصائص التي خص بها الله الأرض ، ولا الأشياء التي يعتقد أنها ضارة لا نفع فيها “فجميعها حسنة وصالحة وضرورية ومهمة للبشر بشكل أو أخر ، ولئن كانت فوائدها لم تعرف لحد الآن . إلا أن الكثيرين يعرفون الفوائد والمنافع التي يجنيها الناس من الجبال ولو أن حديثنا لا يشمل هنا جميعاً . فما الحديد والنحاس والذهب والفضة ، وهذه المعادن الأخرى إلا من الجبال والأحجار وتراب الأرض الحقير . من أين الزجاج الصافي ؟ أن لم يكن من الرمل الصلب المتين والجاف الذي لا يتبلل بالماء . من أين الأبنية السليمة الراسخة للناس؟ أليست من الحجارة؟ من أين الكلس . أليس من التراب البري الجاف الذي لا ينمي . ومن الأحجار الجبسية ؟ أوليس من الأحجار السوداء وغيرها تصنع الأرجاء لطحن القمح؟ وينحت الناس جبباً في الصخور لخزن الماء والخمر والزيت . ومن الحجارة أيضاً الأجران والأحواض والمعاصر ومذاود الحيوانات ، والحبوب والأواني لحفظ السمن ولغيرها من الاحتياجات الضرورية ، ونؤخذ الحجارة للبناء ، وأعمدة المرمر التي تزهو بألوان مختلفة وتزين الهياكل وقصور الملوك ، وكثير غيرها من الأمور المفيدة الجيدة . ويطول الشرح لو جمعنا وثبتنا هنا كل فوائد الحجر . وتعتبر الجبال والصخور والحجارة داخل الأرض بمثابة أربطة وأحزمة في أسس بنيانها . وهي كالعظام بالنسبة إلى اللحم . فهي تحمله وتستقر داخله . أو كالشرايين والأوردة التي تشد الجسم كله كالجبال لئلا يتهرا . هكذا هي الجبال والحجارة بالنسبة إلى الأرض ، فأنها تشدها وتقوي تربتها لئلا تتشتت وتتبدد . من هنا تبدو أهمية تكوين الأحجار في طبيعة الأرض .
وكذلك الأمر بالنسبة إلى الجبال التي منها وفيها الحجارة ، كما تبدو عناية المبدع الحكيم الذي أبدعها . فمنها حصون منيعة للناس المستضعفين ، ومنها ملاجىء من الأعداء القابعين على الحدود ، كما ذكرنا أعلاه . ومنها ما أبدع ليكون مجرى ملائماً لجريان الينابيع والأنهار ، بمقتضى حكمة الخالق الذي أعلن للملأ بأنه كان مع الله عندما ثبت ينابيع المياه . يقول الروح : “المفجر عيوناً في الأودية وبين الجبال تجري ، تسقي كل حيوان البر تكسر الغراء ظمأها ، فوقها طيور السماء تسكن . من بين الأغصان تسمع صوتاً” . أذن خلقة هذه الجبال كانت ضرورية من اجل انسياب المياه وتدفق الينابيع والأنهار . وكذلك الكهوف والصخور الناتئة وقمم الجبال العالية ، والشقوق والمغاور التي تحتها ، ضرورية ، يقول الروح : “الجبال العالية للوعول ، والصخور ملجأ للوبار” . وكذلك الوديان والغدران الرطبة الباردة ، والأفجاج السحيقة في الجبال ، هي الأخرى ضرورية لإنماء الغابات وتكثير الخشب ، ومن أجل مساكن آمنة للحيوانات وربض الوحوش فيها . ويقول : “لدى شروق الشمس تتعافى وتربض في مرابضها” . والجبال أيضاً ضرورية لاحتواء الثلوج في الشتاء والتي تستعمل للعلاج في الصيف . أما الأمطار فتتكون وتسقط من السحب على الجبال والسهول . فالتي تسقط على السهول تنفذ تدريجياً . يروي الأرض وتغذيتها وما فيها من زروع ونباتات التي تجذب الرطوبة حتى من الأبخرة التي ترتفع إلى الأعلى بفعل حرارة الشمس . فهي تصعد إلى الجو لتعود فتسقط مرات عديدة من أجل الري . أما الأمطار المتساقطة على الجبال ، فتبتلعها الفجاج والأغوار والتجاويف الموجودة فيها . ثم تنساب إلى داخلها وتتجه نحو أسفلها ، وتكون مصدراً عذباً للشرب عن طريق الغدران التي تتكون منها . وبنفس الكيفية تحفظ الثلوج طوال الشتاء فوق قمم الجبال العالية ، حيث تحول البرودة دون ذوبانها . وتتحول في الربيع إلى مستودعات لري السهول وما فيها . وتنبعث منها خلال الصيف نسائم باردة ورياح منعشة إلى جميع الأمكنة والسهول المحيطة بها . ومن هنا أيضاً تبدو ضرورة وجود الجبال على الأرض . فمن جميع هذه الأمور وغيرها يمكن الوقوف على أهمية وجود الجبال على الأرض
والشيء نفسه نقوله عن الخصائص والأشياء المختلفة الموجودة في الأرض ، والخلجان المتنوعة والجزر التي كونت في بحار الأرض ، التي تجنى منها للبشر فوائد هامة وأحجار كريمة ومختلف الأطعمة اللذيذة ، وهي تهبهم الجواهر ليحتفظوا بها . مثل خلجان الهند ذات الأرض الصخرية غير الرملية الخالية من أغوار الماء . فالذين ينزلون إلى عمقها يستخرجون منها الجواهر . وهنا سيدور الحديث عن هذه الأمور وغيرها مما أبدع ونظم الله الحكيم المبدع والمعنى بالأرض ، إلى جانب تكوين وترسيخ الجبال في الأرض . وفصل الفسح التي تتوسطها ، وتقسيم بحار الأرض وبحيراتها . والجزر التي تركت بادية فيها ، يضاف إليها عمل هام أخر لله في الأرض المأهولة ، ليس أقل شأناً مما سبقه . أن جميع الذين يهتمون ببناء وتنظيم مباني المدن على الأرض ، يتحاشون عن فكر ثاقب وتأمل عميق ، البناء فوق أرض منخفضة أو مستوية أو مسطحة باستقامة واحدة ، وليس لها ميلان إلى جهة ما . ويبنون في أماكن مرتفعة ومائلة إلى إحدى الجهات . ولكي تنصرف بسهولة ، المياه التي تأتيها من الأمطار وفضلات أخرى كروائح الرطوبة القذرة التي تتجمع فيها من الساحات والشوارع ، عن طريق قنوات مناسبة ومنافذ تحفر بصورة صحيحة في الأرض المائلة . وكذلك الذين ينظمون الباحات لا يجعلونها مسطحة تماماً ، بل مائلة إلى إحدى الجهات لتنصرف منها المياه بسهولة دون تعب . وكذلك صانعوا سقوف البيوت ، فأنهم لا يسقفونها مستوية مستقيمة بل مائلة إلى إحدى الجهات لتنساب وتجري منها المياه . والذين يؤسسون الحدائق الخضراء ، فأنهم يزينونها لتكون مائلة لا مسطحة ، لتسهيل جريان الماء فيها وريها بالمقدار الكافي . وعلى نفس المنوال ، فأن الله المبدع والمنظم والمعتني بهذه الأمور كلها ، لم يزن الأرض التي نسكنها بشكل سطحي مستقيم ، بل أنه جعل فيها ميولاً إلى كل الجهات ، بالإضافة إلى الميلان الموجود في استدارة كرتها ، فالأرض ولئن تغيرت بأمر إلهي كما أسلفنا ، عن استدارتها الأولى ودائرتها الكاملة الصقيلة المستوية ، وتكونت فيها جبال وأعماق لتجمع البحار ، لكنها بالرغم عن ذلك ، لم تتغير على الاطلاق عن شكلها الكروي المستدير العام . فهي ليست مقعرة مثل اللفت ، أو رقيقة كاللوح أو مثل الفلق ، بل ما زالت مستديرة وكروية ، وعلى سطحها مرتفعات وأعماق تكونت ضمن شكلها الكروي المستدير ، وأن ميلانها الناتج عن شكلها هذا المستدير ، يبدأ في نتصفها ومن أية جهة كانت ، ويتجه إلى الجهات كلها . ولها أيضاً ميول أخرى تتجه بالتساوي إلى سائر الجهات . فتتوافق مع بعضها البعض أحياناً ، وتختلف أحياناً أخرى . وبعبارة أخرى ، ليس هناك مكان ما في المسكونة صغيراً كان أم كبيراً إلا ويوجد فيه ميلان ملحوظاً كان أم غير ملحوظ ، قليلاً كان أم كثيراً ، يشير إلى أية جهة تنساب بسهولة المياه التي تزداد بهطول الأمطار . وقد جعل الله المبدع الحكيم والمعني هذه الزيادة في الماء ، لكيما إذا فاضت عن الحاجة ، توجه إلى الحقل أو السهل صغيراً كان أم كبيراً . وفي أية جهة كانت فتنساب بسبب ميلان الأرض ، أو أنها توجه إلى نهر قريب وإلى جداول تؤدي بها إلى نهر بعيد ، وهكذا تسلم الواحدة إلى أخرى ، ولما تزداد هذه المياه تشكل جداول ، ويتجمع عدد من هذه الجداول وتختلط بأنهار صغيرة لتصب في نهر كبير مجمع من هذه المياه كلها ، ولا بد أن يقوم النهر بدوره بإيصالها وصبها في البحر ، والبحر لا يمتلىء . وقد شبهه الروح بشكل ما بخالقه ومبدعه ، فهو يغذي بالمياه ، الأرض المأهولة وما فيها من أنهار ، دون أن يفقد شيئاً وهو يعطي ، أو يزيد شيئاً وهو يأخذ ، وشأن الأرض هو شأن سائر الكائنات في خضوعها لله خالقها ، الذي منه تتقبل العطايا . أنها مائلة نحو البحر بصورة دائمية وفي كل الأمكنة ، وترسل إليه الماء الفائض عن طريق الجداول والأنهار . ومنه تمتص المياه عن طريق تجاويف في باطنها ، من ينابيع تتغذى منه . فمن هذه الفعاليات الطبيعية ، والنظرية التي تطرق إليها الحديث عن طريق التشبيه ، يستنتج أن ميلان الأرض نحو البحر في جميع الجهات والأمكنة ، كان ضرورياً لتنساب إليه جميع المياه الفائضة عنها
: النباتات وفوائدها للإنسان
بهذه الطريقة تكونت الأرض ، وظهرت في المياه ، ونظمت لتكون صالحة لسكنى الإنسان . والحيوانات التي تخدمه وتستعبد له . وهكذا رتبت وجهزت أرضية البيت بعد تثبيت أسسه وسقفه وتنظيمها . وبعد الانتهاء من تنظيم أرضية هذا البيت الملكي الذي شيده الله للإنسان ، ذلك الملك الذي كان عتيداً أن يخلقه على صورته : كان من الأهمية بمكان الاعتناء بالحقل من أجل توفير وخزن طعام القاطن والذين تحت عبوديته . وقد فعل الله الصالح والمعني هذا وأنجزه بعناية كبيرة وسخاء وفير : بعد أن خلق الأرض والجبال التي فيها ، وتهدئة هيجان البحار . وقد رتل الروح ما ينسجم وهذا العمل قائلاً : عن الله الخالق : “المثبت الجبال بقوته ، المتنطق بالقدرة المهدىء عجيج البحار وعجيج أمواجها وعجيج الأمم ، وتخاف سكان الأقاصي من آياتك ، وتجعل مطالع الصباح والمساء تبتهج ، تعهدت الأرض وجعلتها تفيض ، تغنيها جداً ، سواقي الله ملآنة ماء تهيىء طعامهم لأنك هكذا تعدها” . بهذا القدر كان اهتمام الله بالأرض بعد تكوينها . ليعد منها وفيها كل قوت ساكنيها ، ويعطيها سلطاناً عظيماً وقوة دائمية ثابتة لا تزول ولا تحول ، لتعطي بسلطتها الذاتية قوتاً جاهزاً لجميع الذين يسكنونها حتى أقاصيها
حيث تمتلىء جداوله ماء فيروونها بغزارة ، ويتناول الروح أيضاً بكلمات يسيرة ، الحديث عن تكوين أرضية البيت وتجهيز قوت ساكنيه . فالكتاب المقدس الذي ألقى الأضواء الأولى على تأسيس البيت ، يتحدث بصورة مناسبة عن تجهيز القوت . هكذا . قال الله : “لتنبت الأرض عشباً وبقلاً يبزر بزراً وشجراً ذا ثمر يعمل ثمراً كجنسه . . ورأى الله ذلك أنه حسن . وكان مساء وكان صباح يوماً ثالثاً ” . من كلمات الكتاب المقدس هذه اليسيرة ، التي فيها يأمر الله الخالق طبيعة الرض لتنمي تلقائياً عشباً يعمل بزراً كجنسه : تظهر لنا القوة الدائمة والثابتة التي أودعها الله فيها . وتكوين طبيعة النمو التي خلقت في كل ما ينمو . فقد أمر الأرض أن تنبت ، ومنحها قوة فاعلة وثابتة . كما أمر العشب أن ينمي بزراً كجنسه ومثاله . وأن قوله : “يبزر بزراً كجنسه” لا يعني سوى تلك القوة التي للوالدين ليلدوا ما هو من طبعهم وصورتهم ليجعلوا لجنسهم تسلسلاً لا نهاية له ، فيبزر كجنسه ومثاله . فما ينمو مهما كان نوعه ، لا بد وأن يحمل بزراً مولداً يحافظ على جنسه ويسلسله لئلا يتلاشى وينقرض جنسه من الأرض . يظهر من هذا أن كل ما ينمو يحتفظ بطبيعة إنمائه في ذاته ، وبالقوة التي تسنده . والبرهان على ما نقول هو عدم انتهاء مفعول هذا الأمر منذ بدء الخليقة وحتى الآن ، لكنه ما زال يعمل بتربة الأرض منذ البدء وحتى الآن ، لتنمي حالما تصلها الرطوبة . هذه الأشياء كلها التي وضعها الخالق في الأرض ، تمت بموجب الأمر الأول
ورب قائل يقول : لقد أنبتت الأرض آنذاك بزراً مولداً بفعل ذاك الأمر ، ولكن الآن فأنها تنبت بزراً ينحدر من ذاك . هذا الكلام صحيح ، لكن الكلام الأول هو الأصح ، وهو أن قوة الله الكامنة في هذا البزر هي التي تنبت . فهذا هو الأصح ، لأنها تنبت هي الأخرى بقوة أمر الله الأول المودعة فيها . ونقف على حقيقة هذا من تسلسل البزور . فإذا حفر أحد حفرة عميقة في الأرض إلى عمق عشرة أو خمسة عشر ذراعاً ، وأخذ تراباً من أسفل الحفرة لم يزرع من قبل ووضعه على سطح الأرض ، فإذا سقط عليه مطر بأمر الخالق ، فأنه ينبت مثل التربة المزروعة ، ذلك أن فاعلية أمر الله الأول لا تدعه عقيماً وغير منتج . الأمر الذي لم يترك الشعراء (وهم غير حكماء) خارج نطاق الحق ، حيث جاء في شعرهم ما يشبه كلمة الحق ، فقالوا : “عندما يقترن المحيط بالأرض تصبح للحال صالحة للولادة ، فتلد أولاداً كثيرين” . ومن المعروف أن الأرض تعطي مما عندها بفاعلية أمر الله الأول ، عندما تختلط بها طبيعة الماء ، فهي لا تنبت بقوة البزور التي فيها
أن هذه الفاعلية والأمر الصادر عن الخالق ، يفرضان على تربة الأرض في مختلف الأمكنة ، أن تنبت وتنمي أعشاباً وزروعاً وأشجاراً تتلاءم وخصائص الأرض ، واعتدال جو ذلك المكان . ففي كل بلد يعطي بسخاء مختلف المواد التي تصلح طعاماً لسكانه وتلائمهم . ففي بلادنا وما جاورها مثلاً ، أعطي للأكل الحنطة والشعير وغيرها من المواد القابلة للطحن ، ثم الكروم لصنع الخمر ، والزيتون لصنع الزيت ، وأشجار أخرى متنوعة ليقتات ويتنعم بها الناس . وفي بلاد الهند التي حرم طبيعة أرضها من انبات مثل هذه أغناها بأنواع أخرى كثيرة ضرورية وهامة للطعام أفضل وأحسن . فنظراً إلى صلاحية الأرض واعتدال المناخ ، أغنى أبناء تلك المنطقة بمادة الرز لطعامهم ، وغيرها من المواد الملائمة كقصب السكر لانتاج مشروب منعش بتذويبه بالثمر ، ومواد تستخلص من السمسم لتزودهم بما يحتاجونه من الزيت ، وأخرى قيمة ذات رائحة ذكية تصلح لعلاج أجساد البشر . وأعطى لبلدان سبأ والعربية الخصبة كالمواد التي أعطاها للهند . أما بلاد الحبشة المحرومة من المواد الموجودة عندنا ، فأن الخالق الحكيم القادر على كل شيء ، وفر لها بحكمة وعناية ، ومن طبيعة تربتها ، مواداً ضرورية مشابهة لتلك الموجودة في الهند ، إذ تلائم طبيعتها ومناخها . كذلك الأمر بالنسبة إلى بلاد السرمطيين والهونيين الغربية الباردة . ففي الوقت الذي حرمت مما عندنا من المواد الغذائية ومما في البلدان الجنوبية الحارة ، فأن الله المعني قد زود أبناء تلك البلاد لأكلهم وشربهم بمواد أخرى مختلفة أفضل وأدسم . وهكذا نلاحظ فاعلية ذلك الأمر الالهي في جميع بلدان هذه المسكونة ، إذ يحرك تربة الأرض لتنمي وتعطي قوتاً كافياً وفيراً لجميع سكان المعمورة . يقول الروح المرتل محدثاً الله : “عين كل أحد تنظر إليك وتترجاك . لترزقها قوتها في حينه . بفيض غزير كاف . ولكل ما يلائمه . أن القضاة يعرفون أن الله هو مدبر الكل . . تعطيها فتلتقط ، تفتح يدك وتشبع إرادة كل حي ، والكل لك ينظرون ” . . “لتعطيهم طعامهم في حينه ، وإذ تعطيهم يقتاتون . وإذ تفتح يدك يمتلىء الكل من طيبك” . هكذا يقيت الخالق كل خليقته . فمنذ البدء أمر هذه الأرض التي أعطانا ، أن تنبت تلقائياً وتعطي قوتاً بسخاء لجميع الذين على سطحها ، مثلما تعطي المرضعة حليباً من جسمها لرضيعها . أذن وكما يفهم مما سبق ، أن تراب الأرض مذ تلقيه الأمر الأول من الخالق وحتى الآن ، هو الذي ينبت وينمي العشب والأشجار المثمرة ، وليس بمجرد تسلسل البزور ، وما زال ذاك الأمر ، قائماً فيه كي لا يضعف وينتهي ولا يعود يعمل وينبت
فهو الذي ما زال ينبت كلاً للبهائم وعشباً لخدمة الإنسان ، “لإخراج خبز من الأرض ، وخمر تفرح قلب الإنسان لالماع وجهه أكثر من الزيت وخبز يسند قلب الإنسان” كما قال الروح المرتل . فذاك الأمر الرباني الشامل لا يدع كمية من التراب مهما كانت قليلة وحيثما كانت ، دون أن تنبت بحسب قوتها وطبيعتها حتى ولئن كانت كلسية وبرية ، فأنها تعطي أشجاراً غير مثمرة وجذوراً يابسة وهزيلة . وإذا كانت الأرض جبلية وصخرية تغلب حجارتها التربة ، تنبت بحسب ضعفها عندما تصلها رطوبة . وإذ كانت في أعالي الجبال حيث تتغلب خاصية البرودة ، فأنها تخضع لذاك الأمر الرباني بقدر ما يجتمع فيها من رطوبة وحرارة . وإذا كانت جزءاً من تراب الأرض ، أو في سياج أو جدار وامتزجت بالرطوبة ، وأشرقت عليها أشعة الشمس ، فأن ذلك الأمر الرباني لا يدعها إلا أن تبدي مفعوله بقدر ما فيها من قوة
ولنا أن نستمع هنا إلى الكلمات اليسيرة التي قيلت عن حكمة سليمان الذي حاول حصر كل ما كان يجول في خاطره بكلمات قليلة . يقول أن سليمان حصر في معرفته كل طبيعة وقوة النباتات والجذور من أرز لبنان وحتى الزوفا الذي ينمو على السياج” . ونفهم من هذا ، أن الله لا يدع حتى تلك الحفنة من التراب التي على السياج ، إلا أن تنبت إذا ما وصلتها رطوبة . وحتى تلك التي على صخرة أو على حافة صخرة صغيرة كانت أم كبيرة ، فأنها لا تحرم النمو بفاعلية الأمر الرباني ، إذا وجدت كمية قليلة من عنصر التراب ، أو شيئاً من الرمل الملتصق به الذي قد يكون قسم منه سخرياً . وإذا لم تكن قادرة على إنماء العشب ، فأنها لا تعدم إظهار لون أخضر يشبه العشب ، وإذا وجد تراب في قعر مجمع ماء واستحال إلى حماة أو طين ، وكانت المياه ضحلة بمقدار ذراع واحد أو ذراعين بحيث يمكن للهواء وحرارة الشمس أن يخترقاها ويجتمعا مع طبيعة ذلك الطين ، فأنه يتحرك بفاعلية ذلك الأمر ، ويكتسب قابلية الإنماء وينبت ما يناسبه ، ويرتفع فوق سطح المياه مثل البردي أو أي نبات أخر يتلاءم والمكان واختلاف تربتها وطعمها . وهذا لا يحدث في المياه العذبة المتجمعة في أرض جيدة بفاعلية ذلك الأمر فحسب ، بل وحتى في مياه البحر المالحة
إذا وجدت تربة جيدة فوق الصخور التي في قعر المياه وفي أمكنة ضحلة حيث يتمكن الهواء وحرارة الشمس من الامتقاء فيها . فحتى هذا لا يعصي الأمر الرباني إذ يكتسب قابلية الإنماء بحسب قوته . وكذلك الاسفنج وهو حيوان يشعر لكنه لا يتحرك من مكانه ، فهو ينمو ويتفرع بين الصخور . وهناك أشياء أخرى تشبهه ، تختلف بمختلف طبيعة الأمكنة والبلدان . ففي بعض الأماكن تنبت التي تنبت شعراً . وفي بلدان أخرى ، ينبت وتنبت الصخور التي في قعر البحار ما يشبه أشجاراً نباتية ذات جسم لين وسهل القطع طالما هو في الماء ، ولكن إذا أخرج من الماء ولمسه الهواء يكتسب جسماً كالصخر يصعب قطعه حتى بالأقلام الحديدية المستعملة لقطع الحجر
هذه الأشياء وما شابهها وما اختلف عنها ، تنبتها وتنميها تربة الأرض الطيبة في أماكن متعددة وأي مكان كان فعندما تجتمع مع طبيعة الماء وغيرها من العناصر ، لا ترضى أن تبقى عالة غير قابلة للإنماء ، بل أن أمر الله الذي صدر منذ البدء إلى الأرض لتنبت عشباً وحشيشاً يبزر بزراً كجنسه ، يحركها لتسرع إلى الإنبات ، لكي يدرك الجميع بوضوح أن مصدر قوة الأرض في الإنماء لدى توفر الرطوبة ، هو ذلك الأمر الأول الذي يهمزها دائماً دون انقطاع . وعندما يضطرم فيها الماء وحرارة الشمس ، تجذب معهما الهواء فتمتزج ببعضها البعض فتنبت وتنمي فوق سطحها بزوراً لاستمرار بقاء كل الأنواع ، وأشجاراً تثمر ثماراً متنوعة تنقذ نوعها وتحافظ عليه . ومنها جهز الخالق والمعني بخليقته قوتاً جسدياً للإنسان هذا الملك الجسداني المحتاج إلى القوت جسدياً . ذاك الذي كان عتيداً أن يخلقه من تراب الأرض ، ومن ثم يرضع ويقتات منها بوصفه مخلوقاً مركباً مرتبطاً بالجسد ، كذلك هو الأمر بالنسبة إلى الحيوانات الجسمانية التي كانت هي الأخرى عتيدة أن تخلق من التراب لخدمة الإنسان ، من أجل الحفاظ على نوعها بواسطة الزروع والثمار التي ينتجها بفعل القوة الطبيعية التي منحها الله الخالق للأرض .
هكذا أمر الله الخالق الأرض لتنبت عشباً يبزر بزراً . ونفذ الأمر على الفور وأنبتت عشباً ينمي بزراً من نوعه . وأشجاراً ونباتات ذات قوة طبيعية لتنمي كلاً بنوعه ، ثماراً تحافظ على نوعه . ويصير العشب مأكلاً للناس الناطقين والبهائم غير الناطقة وللطيور وكل ما يدب على الأرض ، سواء كان رطباً أم أخضر أم يابساً . وكذلك الأشجار فهي لدى نضوجها ، تشكل غذاء للناس والبهائم والحيوانات وطيور السماء وكل ما يدب على الأرض
وهكذا منحت الأرض الوالدة ، بأمر الخالق قوة مولدة وأخرى مربية ، كما منحت هذه القوة لكل نوع يولد منها . لكي تستطيع أن تكون أماً مرضعة ومربية للمولود لتصل به تدريجياً إلى الاكتمال ، كما أمر الخالق المعني . وقد أعطي البشر وجميع الحيوانات وطيور السماء والحشرات ، قوة الأكل بأفواههم وأيديهم . ليتغذوا بارادتهم الحرة ويترعرعوا . وكل منهم تحركه الرغبة تلقائياً نحوه
وقد أعطى الخالق الأعشاب قوة طبيعية ثابتة لتغذي وتربي نفسها بنفسها عن طريق عروقها المتأصلة في الأرض ، حيث تمتص وتنتزع الغذاء من باطن أمها الأرض ، فالتربة النقية الناعمة تشكل بنفسها مع رطوبة الماء الراوية ، غذاء يكون بمثابة حليب أو أي مشرب أخر ، ويدخل فيها الهواء والنار ، فيتكون من هذه العناصر المختلطة بصورة متقنة وغير ضارة ، غذاء متبلاً ممتازاً ومربياً . كالطعام الذي يتبل ويجهز صناعياً لتغذية الناس وتمتعهم . هكذا أعطيت قوة مغذية ومربية للأعشاب والزروع والجذور والأشجار والنباتات التي أنبتتها الأرض
فبعض منها يكتسب هذه القوة المربية في زمن قصير لا يتجاوز الشهرين أو الثلاثة فينمي نفسه بنفسه . وبعضها يحتاج إلى الغذاء مدة ستة أشهر ليصبح أصلاً لاعطاء البذور . وتطول مدة البعض الآخر على الأرض نحو تسعة أشهر حتى يكتمل . أما الأعشاب والزروع التي تدعى العروق فتحتاج إلى نحو سنتين لاكتمالها ، وبعضها يحتاج إلى ثلاث سنوات . فهي تنبت وتترسخ في باطن الأرض في السنة الأولى ، وخلال السنة الثانية تكتمل ، ومن ثم تباشر باعطاء البذور . أما الأشجار فتحتاج جميعها إلى أربع سنوات من التغذية والتربية لكي يقوى عودها وتترسخ في باطن الأرض . وقليل منها تبكر فتعطي ثمراً في سنتها الثالثة ، وغيرها تبدأ في الإنتاج في السنة الرابعة كما جاء عنها في الشريعة الالهية “أن يقدموا قربان شكر لله الخالق من ثمارها في سنتها الرابعة ، ومن ثم يأكلون هم ثمارها . هكذا أودعت قوة مربية من قبل الله ، في الأرض وداخل الأرض ، بعد القوة المنبتة
وهكذا نلاحظ أن النباتات العشبية الصغيرة التي تكون كلأ ، تعطي نتاجاً حينما تصلها حرارة الشمس صيفاً ، وفي نهاية الصيف تجف مع جذورها وعروقها داخل الأرض وتموت تماماً وتصير هشيماً يابساً لذا تسمى حولية حيث أنها تنبت وتكتمل وتثمر ثم تجف وتصبح هشيماً يابساً خلال سنة واحدة . أما النباتات الجذرية ، فلا تموت ولا تجف ، بل تبقى حية داخل الأرض ، بعد موسم الصيف الذي فيه تنفض بذورها وأوراقها ، حيث تستمد غذاءها من جذورها وعروقها الأولى التي ثبتت واحتفظت بالحياة في باطن الأرض . وفي مطلع الربيع تستيقظ وتباشر بإنماء نباتات جديدة . وهكذا تتكرر هذه العملية سنوياً . كما في السنة الأولى ، فتكون بذلك أشبه بالأشجار الكبيرة الحية التي لا تجف ، منها بالحشائش الحولية . أما الأشجار المثمرة فتكتمل وتعطي ثمارها في السنة الرابعة بعد أن تتغذى وتتربى داخل وخارج الأرض فترة ثلاث سنوات كما أشرت . وتلقح هذه الثمار وهي على أغصانها في الموسم الشتوي من السنة ، وتنضج في نيسان الموسم الربيعي ، وتترعرع كما في أحضار أمهات ملتفة بثياب ناعمة تحت أكناف أغصان الأشجار ، وبين الأوراق الغضة المنعشة خلال مواسم الصيف الحارة ، وعندما تنضج ثمارها تماماً تتساقط تلقائياً وارادياً وتلقي بها على الأرض دون عصيان ، أن صح التعبير . وكأنها تنادي الناس وتقول : هلموا والتقطوا هذه الثمار أو الأبناء التي ولدناها لكم ، فقد أعددناها لطعامكم وتمتعكم .
هكذا تعطي الأشجار ثمارها للبشر بحسب أمر الخالق ، ويلقي كثير منها بأوراقها بعد ثمارها ، وبعض الأشجار تعطي الثمار بسهولة ولطف ، في حين يشد البعض الآخر أوراقه لئلا تنتزع عنه . على هذه الصورة خلق الله الخالق المبدع الأرض والأعشاب التي فيها والزروع والجذور والأشجار والشجيرات ، وذلك في أول أمر اصدره إليها لتعطي بذوراً حفاظاً على نوعها ، وطعاماً وتمتعاً للناس ولجميع حيوانات الأرض
ونفذ الجميع أمر خالقها ، فأعطى كل منها بذراً كجنسه وشبهه حفاظاً على طبيعة نوعه التي خلقت فيه . فبعضها تحمل البذور في قمتها أو أغصانها لدى نضوجها ، كالكرنب والفجل والسلق والموخيا والكراث وبعض أنواع البصل ، والحنطة والشعير والباقلاء والعدس وكل المواد القابلة للطحن ، ومعها البقول والبقول البرية ، والشوكية ، ومنها ما تولد بذورها لحفظ نوعها داخل الأرض . مثل الكركم وبصل النرجس البري . وهناك أنواع أخرى من هذا القبيل . وأنواع تشبه البصل تسمى أبصالاً ، وأنواع تزرع بجذورها في باطن الأرض وليس فوقها ، ومنها ما تعطي بذوراً من تحت الأرض ومن فوقها . مثل بذر الحرمل والكرات البري . ومن أمثالها أيضاً ، النعناع والتبل والقصب وغيرها كثير تحمل البذور في قمتها وترسل جذورها إلى أعماق الأرض ، وتولد نباتات لحفظ نوعها
وعلى نفس الغرار تنتج الأشجار ثماراً على أغصانها وتربتها وتسمن بذور ثمارها؛ كل بنوعها ، لأنها تحمل في داخلها قوة لحفظ وانقاذ كيانها ، وذلك بمقتضى قرار الخالق الذي أمر الأرض لتخرج شجراً مثمراً يحمل في داخله بذوره كنوعه وشبهه . فإذا خلق الله الأشجار المثمرة ، جعل البعض أن يغطي بذورها بطبقة شحمية سميكة حفاظاً عليها ، وهذا ضروري وحق للإنسان الذي كان الله عتيداً أن يجعله سيداً لها ومالكاً . ليأكل ويتنعم بها . وأمثال هذه ، التفاح والسفرجل والكمثري والتين ، المكسوة شحماً لذيذاً وطيباً . تقدمه للإنسان كرامة له ، ويوجد في داخلها البذر حافظ نوعها . وتوجد داخل بذر الأثمار قوة طبيعية ثابتة بإمكانها أن تحافظ بصورة تامة على الأنواع ، كل بنوعه . حيث تكون فيه الجذور والعروق والأعناق والأغصان والأفنان والأوراق والأثمار التي تحمل البذور في داخلها . وقد أعطى الخالق بذور بعضها أن تحتمي داخل طبقتين واقيتين للحفاظ الكامل على نوعها ، كالمدن المحتمية بسور وسوير ، مثل الجوز واللوز والفستق والبندق وما شابهها ، فهذه تقدم للناس ما في داخلها من البذور حافظة نوعها تقدمة معتبرة قابلة للأكل ، وقد كونت داخل سورين ، إذ تحتمي داخل قشرة قاسية عفصية قبيحة غير قابلة للأكل ، وداخل جدار خشبي قاس غير قابل للاختراق ، يشبه العظم . هكذا وقى الطبع المبدع بكل أمان ، البذور حاملة هذه الأنواع ، وأعطاها بدورها مأكلاً طيباً للبشر
وقد سور كذلك بمهارة ، العناب والخوخ الشامي والخوخ الفارسي وما شاكلها : بغلافين ، الأول طري وشحمي ، والثاني عظمي قاس ، وجعل الغلاف الأول الخارجي الطري مأكلاً لذيذاً للناس ، والداخلي الخشبي غير قابل للأكل على الاطلاق ، حفاظاً على البذر الطبيعي الذي وضعه في داخله . أما بذرة شجرة الزيتون الفاخر البهي ، فقد حفظها هي الأخرى بغلافين كالتي سبق الحديث عنها ، شحمية وعظمية أكثر قساوة ، وجعل ثمرتها مصدر دسم لكي “بالزيت يبتهج وجه البشر” ، وينمو لحمهم وعظامهم ، وتكتسب أطعمتهم نكهة ، ويستعمل للإضاءة والعلاج وحاجات أخرى مختلفة وضرورية
وإذ جعل الرمان بذوراً طبيعية عديدة ، جمل كل بذرة منها وأحاطها بطبقة طيبة شهية ، وضم جميعها تحت غلاف واحد طري ، حتى إذا ما نمت وكبرت من الداخل ، ارتخى الغلاف ونما هو الآخر تدريجياً ليفسح لها متسعاً من المكان كبيت للسكنى . وقد جعل الله بذور هذا النوع كذلك طعاماً هنيئاً للبشر ، ولحفظ استمرارية هذا النوع وبالإضافة إلى أجناس الأشجار التي سبق ذكرها
وأعطى الله الحكيم والقادر على كل شيء الإنسان بوصفه معنياً صالحاً بالجنس البشري : الكرمة وهي غرسة صغيرة وأضعف الجميع . وأكرم بذرة هذه الكرمة بوضعه إياها تحت غلاف شحمي واحد ذي نكهة وشهي بمنظره وطعمه ، ويكون طعاماً لذيذاً للجنس البشري ، وخمراً يبهج قلب الإنسان كما كتب . وحاجات أخرى قيمة وضرورية . ويوجد في داخل هذه الغلاف ، غلاف صغير عظمي صلب ومضغوط وذو أهمية كبرى ، أوجده ليظهر فيه كرامة وأهمية هذا العمل . ولأن الناس في هذا العالم ، اعتادوا أن يحفظوا بأمان تام واحتراز ، كل شيء ثمين وضروري ، لذلك استحقت بذور العنب الكرمة كل هذا الاهتمام والعناية من الخالق المعني والحافظ . وبهذا نكون قد تحدثنا هنا عن كرامة وأهمية الأشجار ، وما فيها من بذور حافظة نوعها والأعشاب التي تنبت على الأرض بأمر الخالق ، لتكون طعاماً وحاجات أخرى للناس والحيوانات والبهائم والطيور وكل ما يدب على الأرض . وبصدد ذكر الحنطة والكرمة والزيتون نقول : أن الله قد أعطانا من هذه ما هو الأكثر ضرورة لحياة البشر ، أعني الخبز والخمر والزيت ، وأعطى معها سائر المواد الأخرى ، مظهراً غزير صلاحه وعظيم صنيعه بالنسبة إلى كل الأشياء الكبيرة منها والصغيرة
وبحسب روايات بعض من كتبوا ، فقد خلق الله للجنس البشري أثماراً أكبر من التي عندنا في بلاد أخرى نائية – كالهند والحبشة وبلاد سبأ – ولكي نستطيع أن نستوعب هذا ، أوجد عندنا الطرنج (السندي) الذي ينقذ ويحفظ بذره في ثمرته حفاظاً لنوعه ضمن غلاف شحمي كبير وثخين ودسم . ومن الأعشاب التي تنمو على الأرض ، ثمرة البطيخ الحلوة اللذيذة . كل هذه الثمار ، وغيرها كثير أعطانا الله من الأرض التي أمرها بانبات العشب الذي يبذر بذراً لجنسه ، وشجرة تصنع ثماراص تحوي بذرتها كنوعها وشكلها . وتلك التي أنبتت ، بأمر الخالق ، أعشاباً وبذوراً وجذوراً تبذر بذوراً ، كل لجنسه ، وأشجاراً مثمرة ، يعطي كل منها الثمر الذي زرعه ، قوة طبعه بصورة طبيعية ثابتة ، وبامكانه أن يحافظ على تسلسل نوعه الخاص بحسب طبيعته . فكل بذرة تحمل داخل الثمرة ، سواء ثمرة الأشجار أم الأعشاب ، خصائص طبيعتها والقوة التي تحفظ نوعها ، وإذا أراد الإنسان أن يعرف الطبع بالنسبة إلى هذه الأمور ، لا يسعه إلا أن يقول : أن الطبع هو ما وجد في شيء ما بصورة دائمية ثابتة سماه الإنسان قوة أو شيئاً ما مفيداً . فهو أبداً المصدر الأول لتكوين وتثبيت ذلك الشيء . ونظراً إلى ما فيه من خصائص ، بامكانه أن يحرك أي شيء من أجل انبات نوعه ، وأن يحافظ عليه لئلا ينتهي أو يتغير . بهذه الكلمات يعرف الطبع ، وهي توضح قصد الله من قوله : “ليكن شجر مثمر” حيث عنى ذاك النوع من الشجر الذي يحمل بذرة بحسب نوعه . أي البذرة التي تحتوي على قوة انقاذ الذات وتثبيت طبيعة نوعه . ففي بذرة التفاح والسفرجل وما شابهها ، وفي بذور جميع ما ينبت على الأرض : توجد قوة تكوين الطبع الخاص لكل واحد منها . وهكذا أعطى الله الخالق المعني بالجنس البشري ، من الأرض كمن من مرضعة ، ما يكفي من القوت ويناسب البشر والحيوانات التي تعيش معهم على الأرض ، وطيور السماء وكل ما يدب على الأرض ، حيث يفتح يده فيشبع رغبة كل حي ، كما يرتل الروح ممجداً ، فيعطي الحنطة لاستخراج الخبز الذي يسند قلب الإنسان ، والكرمة التي بها يفرح قلب أن يتأكد الجميع بأن الله الأب وجه عبارة “لتكن الأنوار في جلد السماء” إلى كلمته الخالق ، ومن ثم وكما كتب الروح ، نفذ الكلمة الخالق ومبدع الكل ، الاله القوي والقادر على كل شيء والمساوي لوالده في الجوهر ، فخلق الشمس والقمر النورين الكبيرين ، ومجموعات فائقة ومدهشة من الكواكب ، فتحركت بإشارة منه في فلك السماء لتنير الأرض وتفصل بين النور والظلام . وقد تم هذا بفعل الروح المساوي في الجوهر والقوة والخلق للأب المبدع وكلمته الخالق . على هذه الصورة جهز هذا الكون كما يجهز بيت الملوك ، بالأنوار والمشاعل والقناديل ، قبل أن يخلق الإنسان ذلك الملك الذي اتخذه مسكناً . ورأى الله أن كل ما عمل هو حسن كما سلم إلينا الروح الملهم والعارف بالأمور الإلهية
: الشمس لإنارة الأرض
يقول الروح في خلقه الأنوار : “أن الله جعلها لإنارة الأرض والفصل بين النور والظلام ، ولتكون للآيات والأزمنة والأيام والسنين” . بعد استمداد العون من الروح ، نقول كلمتنا ، ترى ما الذي كان يقصده الروح بقوله في اليوم الأول : أن الله قال : “ليكن نور وكان نور” . وما الذي يقصده بقوله هنا : “لتكن الأنوار وخلق الأنوار” ؟ وهل من اختلاف بين نور ونور؟ . وإزاء هذه التساؤلات نود أن نتحدث بالتفصيل التام عن الشمس وبقية الأنوار
فمن المعروف أن الله عندما خلق في البدء السماء والأرض ، خلق العناصر الأربعة في آن واحد ، التي منها تكونت السماء والأرض . وما فيهما . وخلقت في الوقت نفسه خصائص كل عنصر . فإذن خلق مع السماء والأرض ، الماء والهواء والنار وجميع خصائصها . ومن المعروف أن النور يتولد من النار ، أو أنه صفة ثابتة فيها مثل الحرارة ، قابلة للتحرك فوق أو خارج العناصر . كالظلام الذي هو الآخر صفة كامنة في الأجسام القيمة والصلبة والجامدة : كلياً في الأرض وجزئياً في الماء . فهذه خلقت منذ البدء مع العناصر ، ولم يخلق النور فيما بعد مع النار . والظلام المظلل مع الأرض . فالظلام الذي ظلل جسم الأرض ، ظلل جزئيا وبصورة شفافة . فإذن كان النور مع النار منذ البدء ، كما هو الظلام مع الأرض والماء . عندما قال الله : “ليكن نور” كما سلم لنا الروح ، لما قال : “ليكن” أي ليظهر وينجلي وينير ، وكما قال أحد ملافنة الكنيسة القديسين : “أن قوله ، ليكن نور ، يعني أن يتغلغل النور المنبثق العلك وتستخرج من أشجار شوكية في مصر
وكالسائل المعروف بـ الأموتياك المنسوب إلى آمون ملك ملوك مصر ، لأنه يستورد من هناك . وكالحليب الذي يخرج من جذور والسائل أي الافراز المعروف بـ . وكالتي تدعى أي الكثيراء ، وغيرها من السوائل الدسمة والطرية التي تسل من دسامة خشب الأشجار وتنضج على قشرة الجذع الخارجية . وأشياء أخرى ضرورية للبشر تستخرج من الجذور في باطن الأرض . وإلى جانب هذا ، ظهرت صناعة الطب ، وما ابتكره عقل البشر وذكاؤهم بهذا الخصوص . فأنهم يختبرون عن ذكاء ومعرفة ، عروق أعشاب الأرض ويستخلصون عصارة غزيرة هامة ومفيدة من رطوبة أوراقها وقشورها . وفي حالة قلة الرطوبة في أرواق وجذور العروق أو الأعشاب أو الأشجار بحيث لا يمكن استخلاص عصارة منها ، ابتكروا وسيلة أخرى ذكية ، أنهم يأخذون الأوراق والجذور والقشور ويغلونها في الماء حتى تذبل فيجففونها ، فتكون لها نفس الفائدة التي للعصارة . مثل العود الصيني أي الصبر ، وما يسميه الأطباء صمغ عربي ، وغيرها من السوائل والعصارات والمسلوقات المفيدة المستخرجة من أعشاب الأرض والأشجار والعروق .
إضافة إلى هذا ، هناك منافع أخرى كثيرة وضرورية للناس من خشب الأشجار . فهم يصنعون من أخشابها سقوفاً لبيوت سكناهم ، وأدوات لاستعمالاتهم الضرورية المختلفة ، سواء في البيت أم في الفلاحة أم في صنع أدوات وأثاث مختلفة لاستعمال الناس مثل الطاولات والكراسي والصناديق والدواليب والقصع المستعملة للطعام ، وكؤوس الشرب ، وغيرها مثل التي يصنعها النجارون لضروريات الحياة كالمحاريث والجراجير والعجلات وغيرها من الأدوات المفيدة في استعمال الناس ما لو ذكر بالتفصيل لعجزت عنه الكلمة من كثرة الألفاظ والأسماء . فمن أين مثلاً عمل نوح الفلك لانقاذه من ماء الطوفان ، وأبناء بيته والحيوانات والطيور وكل حي يدب على الأرض ، أن لم يكن من خشب الأشجار؟ ومن أين صنع الناس الذين حذوا حذوه في الصناعة : السفن لتجواب البحار الطويلة غير قابلة الاجتياز ، أن لم يكن من غنى أخشاب الأشجار التي أعطاهم إياها من الأرض ، الخالق والمعني بحياتهم ، عندما أمر الأرض أن تخرج أشجاراً مثمرة . فقد قدم الله كل هذه المنافع الضرورية للبشر وكثيراً غيرها من الأشجار المثمرة ، ومن ثمارها وأخشابها ، فلم يترك الخالق الحكيم شيئاً عديم الفائدة كلياً ، حتى الثمار التي لا تؤكل . وحتى الأشجار المعروفة بـ ليست بدون جدوى ، فأن الدبق الذي تفرزه يشكل مصيدة يستفاد منها الصيادون لاصطياد الطيور بطريقة فنية خادعة ، ومن هنا يسمي اليونان ذلك الصيد وحتى ثمرة أشجار دفنه أي
الاستيرين الكريهة والمضرة ، يتخذ منها بعض الناس مصايد ، إذ يسحقونها ويلقون بها في أحواض المياه ليشرب منها السمك فيعمى ويسهل اصطياده . وكذا الحال بالنسبة إلى بقية الأشجار والنباتات والجذور والأعشاب والبذور المضرة التي لا تؤكل . لذا فأن كل ما صنعه الله هو حسن كما جاء في الكتاب المقدس . ويشهد جميع الحكماء وذوو العقل الراجح ، بأن الله لم يعمل شيئاً عبثاً دون أن يفيد العالم بشكل أو بأخر . حتى ولا الخريف القاتل ، ولا تلك النباتات ذوات اللبن المضر ولا البصل البري ، ذلك العرق المحرق ، ولا سقمونيا المميت . فهذه كلها وما شابهها ليست دون أهمية أو فائدة للبشر على اطلاق ، وإذ يعتقد أنها ضارة ومؤذية من ناحية . فإذا بها صالحة ونافعة من ناحية أخرى . حيث يوجد طريق الخير إلى جانب طريق الشر ، كما جاء في الأمثال وفي علم الخير والشر . وهذا وارد في الكتاب المقدس أيضاً . فإذا تأملنا أعمال الله لا نجد شيئاً شراً أو عبثاً . خالياً من المنفعة . بل لا بد وأن يسد حاجة ما من حاجات البشر . فقد أوجدت الحكمة المبدعة ثياباً جميلة البشر من قشور الكتان ، وكذلك بالنسبة إلى نبات القطن . ويصنع من قشرة نبات القنب ، الحبال وحاجات ضرورية أخرى . ولم تهمل همة البشر البردي أو أي نوع من الشجر والأعشاب التي تنبت في الماء مهما كان حقيراً ، دون أن تستخلص منه فائدة أو تسد به حاجة من حاجات الناس ، ولم تستخرج حذاقة المسيحيين الحكيمة والخلاقة مواداً ضرورية للذين يستنسخون فقط ، بل استخرجت منه أيضاً مواداً ضرورية أخرى . ولم يهمل عقل الناس الحكماء الماهرين الخلاق ، أوراق الأشجار وسيقان الأعشاب وأوراقها والجذور وقشرة القنب وأعشاب الطوافة والهشيم اليابس ، إلا واستخلص منها فوائد متعددة ضرورية للاستعمال والتداول ، ولكي يدرك الجميع بأن الله الخالق لم يأت بشيء كبيراً كان أم صغيراً عبثاً لا نفع فيه أو غير حسن . بل أن جميع هذه الحاجات والضروريات خلقت لأجل الإنسان الجسدي المحتاج إلى الأشياء الجسدية ، ولكي تؤول إلى مجد خالقه الحكيم والقادر على كل شيء والمعني الصالح بخليقته ، له المجد والعظمة على كل ما خلق إلى أبد الآبدين ، آمين
اليوم الثالث
في الانوار التي خلقها الله في فلك السماء –
يعقوب الرهاوي
في الأنوار التي خلقها الله في فلك السماء
: مقدمة
أن الله الخالق والمعني بخليقته ، جمل تكوينها بكل ما هو ضروري ونافع ولم يهمل شيئاً مما عرفت حكمته ، أنه من مستلزمات هذه الخليقة المحسوسة والجسمانية ، شأن الذين يبنون ويجهزون بيوتاً ملكي ، فبعد أن ينجزوا الأبنية ، ويزينوا الجدران والأعمدة والسقوف وأرضية البيت ، ويهيئوا النوافذ التي منها يتسرب النور إلى البيوت التي يسكنونها ، فأنهم يولون اهتمامهم بتجميل البيت بما يزينه ويجمله ، من قناديل وسواها من أواني الإضاءة . هكذا أيضاً الله خالق هذا الكون ومبدعه ، والمعني والمدبر بحكمته الإنسان جبلته الذي كان عتيداً أن يخلقه ويبدعه على صورته ، ويقيمه سيداً على هذا البيت الكبير، مبدعاً السماء الصافية العجيبة سقفاً له ، وزينه وجمله بهذا الجو الرائع الصافي المنير بدلاً من النوافذ ، وجعل هذه الرض اليابسة الفسيحة ملائمة للسكن وعيش الحيوانات ، ونظم فيه البحار والأنهار والينابيع بدلاً من القنوات . وإلى جانب هذ ، أهتم بوضع الأنوار فيه بمثابة قناديل ، لتنير ليلاً ونهاراً أمام الملك الساكن والحيوانات التي تخدمه – هكذا سبق الله الخالق وجمل وجهز هذا البيت بكل المستلزمات ، من أجل الإنسان الذي كان عتيداً أن يخلقه صاحباً للمسكن . لذا فقد تابع الروح الذي نطق بلسان موسى قوله السابق قائلاً : “وقال الله لتكن أنوار من جلد السماء لتفصل بين النهار والليل وتكون لآيات وأوقات وأيام وسنين . وتكون أنواراً في جلد السماء لتنير على الأرض . وكان كذلك . فعمل الله النورين العظيمين ، النور الأكبر لحكم النهار ، والنور الأصغر لحكم الليل ، والكواكب ، وجعلها الله في فلك السماء لتنير على الأرض ، ولتحكم على النهار والليل ولتفصل بين النور والظلمة . ورأى الله ذلك أنه حسن ، وكان مساء وكان صباح يوماً رابعاً”
هذا ما نطق به روح الله بلسان موسى الذي كتب عن تكوين هذا الكون وابداعه . وموضحاً أيضاً ابداع الأنوار التي خلقها الله في فلك السماء ، وجعلها في هذا الكون – بيت الجنس البشري – بمثابة القناديل والمشاعل التي توضح في قصور المملكة
ولما كانت هذه الكلمات من روح الله ، استوجب ايضاحها واحدة فواحدة للذين سيقرأونها ، مميطين اللثام عن مفاهيمها الخفية والسرية ، أمام من يعنى بقراءتها من محبي العلم
قال الروح : “لتكن أنوار في جلد السماء” . من هو ترى الذي قال “لتكن أنوار” ، ولمن قيل هذا؟ . يجيب الفكر الباحث المستنير المدرك للحق فيقول : أن الله الأب خالق الكل الذي لا يرى ، والعقل غير المولود أو المخلوق أو المدرك ، قال بصورة سرية إلهية ، لكلمته الخالق المولود منه أزلياً الذي لا بداية له . الإله الأب يقول لأبنه الوحيد الإله القوي والقادر على كل شيء . ولقوته غير المدركة والقادرة على كل شيء ، ولحكمته التي قالت : “كنت معه عندما خلق السماء . . وعندما وضع أسس الأرض كنت معه” . فالله الأب وجه كلامه إلى كلمته الذي هو قوته وحكمته وذراعه ويمينه وشعاعه الأزلي وجوهره ، وهو قوي وقادر على كل شيء وخالق . وقوله : “لتكن أنوار في جلد السماء” كان موجهاً إلى هذا الذي به صار كل شيء . وبغيره لم يكن شيء مما كان . قال الله الأب والده : “لتكن أنوار في جلد السماء” فبقوله “لتكن . . في السماء” أشار إلى مكان وجودها الدائم . هذا ما قاله بصدد مكانها الذي كان يجب أن تنتظم فيه؛ ثم تحدث عن الغاية من خلقها فقال : من أجل الفصل بين الليل والنهار ، ولتكون للآيات (للعلامات) والأزمنة والأيام والسنين . فقد أوكل الفصل بين الليل والنهار إلى كلا النورين ، وحسن له أن يجعل النور الأكبر لحكم النهار ، لأنه الوحيد الذي يستطيع أن يصنع النهار لدى وجوده فوق الأرض . والليل لدى وجوده تحت الأرض . وليس من شأن النور الأصغر أن يصنع نهاراً عندما يكون فوق الأرض ، أو ليلاً عندما يكون تحت الأرض ، وجل ما نستطيع أن نقوله عنه . هو ، أنه يضيء في الليل فقط . لأن نور النهار بكليته هو من النور الأكبر ، لذا كتب ، أن الله عمل نورين كبيرين ، النور الأكبر لحكم النهار والنور الأصغر لحكم الليل ، موضحاً بهذا عدم قدرة النور الأصغر على الإنارة في النهار ، لأن ذلك من صلاحية النور الأكبر ، وأحياناً لا يضيء النور الأصغر حتى في الليل . كذلك أضاف كلمته “الكواكب” لدى ذكر النور الأصغر بأنه لحكم الليل ، مشيراً إلى أن الكواكب تضيء حينما لا يضيء النور الأصغر ليلاً . هذا ما أعلنه كلام الروح عن كون النورين هما للفصل بين الليل والنهار ، لذا فأنهما يفصلان بإنارتهما بين الليل والنهار ، ويظهران لكل من له حاسة النظر ، متى يكون الليل
ثم يتابع الروح حديثه قائلاً : “وتكون لآيات وأوقات وأيام وسنين” . فاستوجب أن يشمل إيضاحنا هذا أيضاً . ولكن قبل أن نفعل يجب أن نسأل عن أسماء الأنوار ليأتي الحديث وافياً وواضحاً . . أن الروح لم يتطرق إلى هذا ولم يدرج لنا أسماءها في الكتاب المقدس ، لكنه اقتصر على القول : النور الأكبر والنور الأصغر . مشيراً بهذا إلى تمايزهما واختلافهما وخاصة بالنسبة إلى حكم كل منهما . أنهما الشمس والقمر كما اعتاد الناس أن يسموهما ، وعنهما قال : ليكونا للآيات والأزمان والأيام والسنين . فقد قال للآيات ، لأن الله خلقهما ليصنعا للبشر : آيات عجيبة ومثيرة . بواسطة الأحداث التي تصادفها بين حين وآخر ، كما يحدث للشمس من قبل القمر عندما يجتمعان ويسيران جنباً إلى جنب ، إذ يقف القمر أمام الشمس ويحجبها عن الناس . أما بالنسبة إلى القمر فعندما يبتعد عن الشمس كثيراً إلى مسافة نصف الكرة ، ويكون ابتعاد الواحد عن الآخر من جهات مختلفة ومعاكسة ، يحرم من نورها . ويظهره لنا القمر ، النور الأصغر ، إلى جانب هذا ، آيات أخرى بتغييراته وبأشكاله التي يشبه بعضها البعض ، التي تتكون بسبب الزيادات والتناقص التي تطرأ عليه بصورة مستمرة . وما خلا هذه ، فأن الشمس والقمر يصنعان آيات أخرى متنوعة ومدهشة . في السماء وفي الجو . فالشمس تكون قوساً مثيراً ومدهشاً يشبه نصف الكرة ، وآيات أخرى يكونها بواسطة السحب التي يدعوها عامة الناس قوس قزح . وهناك آيات أخرى في فلك السماء فوق هذه ، تدعى باللغة اليونانية : ومن آيات القمر ، الطوق المستدير الذي يكونه في السحاب ، وغيره من التغييرات ، والأشعة المتباينة الألوان التي يكونها بواسطة الهواء الرطب ، وفي الزوايا الكثيفة أو الخفيفة التي يشكلها خلال عملية اكتمال نوره أو تناقصه . وفي هذا الصدد أقول : هناك أمور أخرى يتشبث بها بعض من جربوا ، ممن يعتقدون أنهم علماء حاذقون ، ويعلنون عن إمكانهم التنبؤ عن أمور مستقبلية . لكنهم واهمون في اعتقادهم هذا ، ويوهمون آخرين بأنهم يعرفون المستقبل ، لكن بالحقيقة أنهم لا يعرفون ، ولئن يعطون بعض الدلالات عن أمور قريبة الحدوث ، عن الشمس والقمر مثلاً ، وذلك بواسطة التغيرات الشكلية التي تحدث لهما في الجو الرطب أو الجاف الذي يقع تحتهما والقريب إلى الرؤية ، وإذ أدرك بعضهم هذا ، توهموا أنهم يستطيعون أن يعرفوا أموراً مستقبلية ، فينبئون بها . وأحياناً يؤكدونها ، لكن أقوالهم لا تتحقق دائماً ، لأن الله المدبر يغير الأمور متى شاء عدة مرات خلال ساعة واحدة . ويكثر من الآيات المختلفة المدهشة ، في الجو وفي الأنوار نفسها والتي لم تعرف فيها من قبل ، بل لم تكن موجودة ، ولم يشر إليها من قبل . فقد كتب ، ما كتب حق ، أن الله يعمل ما يشاء . وأن الشمس والقمر لا يستطيعان أن يلزمانا على أن نؤمن بما يظهر فيهما أو منهما من اشارات سبق وأنبأ بها ذوو الاختصاص . فالآيات تحدث عندما يحسن ذلك لخالقها المدبر
: الشمس والقمر وتحديد الزمان
. . أما بالنسبة إلى الأزمنة والأيام والسنين فأقول : أن كليهما (الشمس والقمر) وجدا من أجل تحديد الأزمنة بدروانهما حول هذه الكرة . فعندما تدور الشمس في كرة السماء باتجاه الغرب ، تكون في دورة واحدة يوماً بأربع وعشرين ساعة ، وبابتعادها عن الكرة باتجاه الشرق ، وبدورة واحدة حول الكرة ، تكون سنة بأربعة فصول ، وبمدة ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً وربع اليوم أي ست ساعات . وبابتعاد القمر عن هذه الكرة باتجاه الشرق ، وبدورة واحدة حول كرة السماء ، يكون شهراً قمرياً ، وتتم الدورة بـ 29 يوماً وأكثر من نصف يوم . وقد اتخذ العبرانيون واليونانيون من اسم القمر مجموعة شهرية . وحددوا الأوقات بفترات دورانهما حول كرة السماء بابتعادهما عنها…
أما الكواكب الخمسة المعروفة بالتائهة ، فأن أحدها وهو المسمى كرونوس أي المشتري ، يكمل دورته المعاكسة في المدار كله في مدة ثلاثين سنة . وأما المسمى زحل أي بعل فيكمل دورته في نحو 12 سنة . وأما المسمى المريخ فينهي دورته في الفلك بأكمله في خلال سنة وستة أشهر . وثمة اثنان آخران يسميان الزهرة افروديت وعطارد فأنهما يحددان الأوقات [كالشمس] على أساس الفترات السنوية . ويكملان دورتهما المعاكسة بالابتعاد عن مدار الفلك السريع أحياناً ، أو بتقدمها احياناً أخرى . فتصير هي الأخرى مثل الشمس والقمر بالنسبة إلى تحديد الآيات والأزمنة والأيام والسنين ، هذا ما يعنيه كلام الروح القائل : “وتكون للآيات والأزمنة والأيام والسنين”
ثم قال : “وتكون أنوار في جلد السماء لتنير على الأرض” . فبعد أن يقول : وتكون أنوار في جلد السماء ، يضيف : “لتنير على الأرض” . وبهذا يظهر أن الأرض فقط بحاجة إلى انارتهما وليس فلك السماء الموجودة فيه . ولا الله خالقها بحاجة إلى نورها ، ولا خدامه المدعوون قوات سماوية ، حتى ولا المكان الذي وضعت فيه ، هذه هي حقيقة هذا الكلام . لكنها خلقت لتنير الأرض ومن عليها من البشر والحيوانات الذين كان الله عتيداً أن يخلقهم على الأرض . هذا ما قاله الله عن الأنوار التي خلقت في جلد السماء . وقال الروح ، وللحال “كان كذلك” . فعبارة “كان كذلك” يجب ألا نأخذها اعتباطاً ، دون ترو أو امعان ، كما يفعل بعض الوثنيين الغرباء عن معتقدنا فنقول معهم أن الأنوار تكونت من ذاتها فجائياً وتلقائياً ، أو أن نتساءل ، من الذي أوجدها وثبتها في جلد السماء؟ بل علينا أن نتأمل بدقة وامعان بما قاله الروح بعد قوله : “وخلق الله نورين كبيرين” . إذ يجب أن يؤخذ ما قاله أعلاه : “وقال الله لتكن أنوار في جلد السماء” ، وقوله هنا : “وخلق الله نورين كبيرين” ، ببساطة وغباوة ودون ترو ، فنردد ما يقوله اليهود عشوائياً : أنها دلالة وجود أقنوم واحد وليس أثنين كما يقضي الكلام ولا شك . فعلينا أن نعتقد بأن الذي قال : “لتكن الأنوار” هو أقنوم ، والذي عناه الروح بقوله : “وخلق الأنوار” هو أقنوم أخر ، فلم يكن القائل والمنفذ أقنوماً واحداً . وإلا لما كان هناك ضرورة ليقول الروح : “لتكن الأنوار” ، بل كان يجب أن يقال : “لتخلق ولا لتكن الأنوار” ، وأن يكتب الروح : “خلق الله الأنوار” دون أن يتطرق إلى العبارات الأولى
: العالم هرمس وخلقة الشمس
ومن المعروف أن الذي قال “لتكن الأنوار” كان الله الأب خالق الكل ، قالها لكلمته الخالق والقادر على كل شيء ، المولود منه أزلياً والمساوي له في الجوهر والقوة والخلق . وهو الذي خلق الأنوار ، ويعرف مع الأب بالروح القدس . هو الذي خلق الكل وبغيره لم يكن شيء “بكلمة الله خلقت السموات وبنسمة فيه كل جنودها” . هذا هو مفهوم كلام على الأرض بأمر الخالق ، لتكون طعاماً وحاجات أخرى للناس والحيوانات والبهائم والطيور وكل ما يدب على الأرض . وبصدد ذكر الحنطة والكرمة والزيتون نقول : أن الله قد أعطانا من هذه ما هو الأكثر ضرورة لحياة البشر ، أعني الخبز والخمر والزيت ، وأعطى معها سائر المواد الأخرى ، مظهراً غزير صلاحه وعظيم صنيعه بالنسبة إلى كل الأشياء الكبيرة منها والصغيرة
وبحسب روايات بعض من كتبوا ، فقد خلق الله للجنس البشري أثماراً أكبر من التي عندنا في بلاد أخرى نائية – كالهند والحبشة وبلاد سبأ – ولكي نستطيع أن نستوعب هذا ، أوجد عندنا الطرنج (السندي) الذي ينقذ ويحفظ بذره في ثمرته حفاظاً لنوعه ضمن غلاف شحمي كبير وثخين ودسم . ومن الأعشاب التي تنمو علىالأرض ، ثمرة البطيخ الحلوة اللذيذة . كل هذه الثمار ، وغيرها كثير أعطانا الله من الأرض التي أمرها بانبات العشب الذي يبذر بذراً لجنسه ، وشجرة تصنع ثماراً تحوي بذرتها كنوعها وشكلها . وتلك التي أنبتت ، بأمر الخالق ، يعطي كل منها الثمر الذي زرعه ، قوة طبعه بصورة طبيعية ثابتة ، وبامكانه أن يحافظ على تسلسل نوعه الخاص بحسب طبيعته . فكل بذرة تحمل داخل الثمرة ، سواء ثمرة الأشجار أم الأعشاب ، خصائص طبيعتها والقوة التي تحفظ نوعها ، وإذا أراد الإنسان أن يعرف الطبع بالنسبة إلى هذه الأمور ، لا يسعه إلا أن يقول : أن الطبع هو ما وجد في شيء ما بصورة دائمية ثابتة سماه الإنسان قوة أو شيئاً ما مفيداً . فهو أبداً المصدر الأول لتكوين وتثبيت ذلك الشيء . ونظراً إلى ما فيه من خصائص ، بامكانه أن يحرك أي شيء من اجل انبات نوعه ، وأن يحافظ عليه لئلا ينتهي أو يتغير . بهذه الكلمات يعرف الطبع ، وهي توضح قصد الله من قوله : “ليكن شجر مثمر” حيث عنى ذاك النوع من الشجر الذي يحمل بذرة بحسب نوعه . أي البذرة التي تحتوي على قوة انقاذ الذات وتثبيت طبيعة نوعه . ففي بذرة التفاح والسفرجل وما شابهها ، وفي بذور جميع ما ينبت على الأرض : توجد قوة تكوين الطبع الخاص لكل واحد منها . وهكذا أعطى الله الخالق المعني بالجنس البشري ، من الأرض كمن من مرضعة ، ما يكفي من القوت ويناسب البشر والحيوانات التي تعيش معهم على الأرض ، وطيور السماء وكل ما يدب على الأرض ، حيث يفتح يده فيشبع رغبة كل حي ، كما يرتل الروح ممجداً ، فيعطي الحنطة لاستخراج الخبز الذي يسند قلب الإنسان ، والكرمة التي بها يفرح قلب أن يتأكد الجميع بأن الله الأب وجه عبارة “لتكن الأنوار في جلد السماء” إلى كلمته الخالق ، ومن ثم وكما كتب الروح ، نفذ الكلمة الخالق ومبدع الكل ، الإله القوي والقادر على كل شيء والمساوي لوالده في الجوهر ، فخلق الشمس والقمر النورين الكبيرين ، ومجموعات فائقة ومدهشة من الكواكب ، فتحركت باشارة منه في فلك السماء لتنير الأرض وتفصل بين النور والظلام . وقد تم هذا بفعل الروح المساوي في الجوهر والقوة والخلق للأب المبدع وكلمته الخالق . على هذه الصورة جهز هذا الكون كما يجهز بيت الملوك ، بالأنوار والمشاعل والقناديل ، قبل أن يخلق الإنسان ذلك الملك الذي اتخذه مسكناً ، ورأى الله أن كل ما عمل هو حسن كما سلم إلينا الروح الملهم والعارف بالأمور الإلهية
: الشمس لإنارة الأرض
يقول الروح في خلقة الأنوار : “أن الله جعلها لإنارة الأرض والفصل بين النور والظلام ، ولتكون للآيات والأزمنة والأيام والسنين” . بعد استمداد العون من الروح ، نقول كلمتنا ، ترى ما الذي كان يقصده الروح بقوله في اليوم الأول : أن الله قال : “ليكن نور وكان نور” ، وما الذي يقصده بقوله هنا : “لتكن الأنوار وخلق الأنوار” ؟ وهل من اختلاف بين نور ونور؟ . وإزاء هذه التساؤلات نود أن نتحدث بالتفصيل التام عن الشمس وبقية الأنوار
فمن المعروف أن الله عندما خلق في البدء السماء والأرض ، خلق العناصر الأربعة في آن واحد ، التي منها تكونت السماء والأرض . وما فيهما . وخلقت في الوقت نفسه خصائص كل عنصر . فإذن خلق مع السماء والأرض ، الماء والهواء والنار وجميع خصائصها . ومن المعروف أن النور يتولد من النار ، أو أنه صفة ثابتة فيها مثل الحرارة ، قابلة للتحرك فوق أو خارج العناصر . كالظلام الذي هو الأخر صفة كامنة في الأجسام القيمة والصلبة والجامدة : كلياً في الأرض وجزئياً في الماء . فهذه خلقت منذ البدء مع العناصر ، ولم يخلق النور فيما بعد مع النار . والظلام المظلل مع الأرض . فالظلام الذي ظلل جسم الأرض ، ظلل جزئياً وبصورة شفافة . فإذن كان النور مع النار منذ البدء ، كما هو الظلام مع الأرض والماء . عندما قال الله : “ليكن نور” كما سلم لنا الروح ، لما قال : “ليكن” أي ليظهر وينجلي وينير ، وكما قال أحد ملافنة الكنيسة القديسين : “أن قوله ، ليكن نور ، يعني أن يتغلغل النور المنبثق من النار إلى هذا الوسط الذي كان يسوده الظلام” . هذا ما تعنيه عبارة : “ليكن نور” التي نطق بها الله في اليوم الأول . فقد قيلت لكي يفسح المجال أمام النور لينير حلكه رطوبة المياه المنتشرة في الجو ، فيطرد بدخوله المياه التي على الأرض ، الظلام المنتشر على وجه الغمر ، وحيث أن كل العناصر كانت في البدء متداخلة جزئياً مع بعضها البعض ، لم تكن الأرض قد تنقت كلياً من الماء ، ولا الماء من الهواء الممتزج به ، ولا الهواء من بخار الماء ، ولا طبيعة النار من الهواء الرطب الذي تجذبه إليها بواسطة الحرارة المرتفعة نحو الأعلى . لذا لم يكن نور النار كافياً أو متمكناً من اختراق الهواء الممتزج والرطب والقاتم ، لينير الظلام السائد على وجه غمر مياه الأرض ، لذلك قال الله الخالق المبدع : “ليكن نور” أي أن يتسرب من النار فينير ما هو فوق مياه الغمر بعد تنقيته . فمثل هذا النور كان يحيط الأرض من فوق ومن تحت ، ويكون أصباحاً وأماسي في الأيام الثلاثة ، شأن النار التي تنير عن بعد بفعل أشعة نورها
على هذه الصورة اكتملت الأيام الثلاثة ولياليها ، أي بالنور المنبعث عن النار ، حيث كان الظلام المخيم على وجه الماء يدوران باتجاه معاكس لدوران الأرض ، مكونين نوراً للنهار وعتمة لليل ، مع ظلال الأرض المسماة بالظلام . فهذا النور لم يكن سوى شعاع النار المرتفعة ، وكان ينير الجو قبل أن ينحصر ويتجمع بكرة واحدة متماسكة وثابتة . ولما حسن للخالق أن يكون في اليوم الرابع هذه الكرة المضيئة والنقية المسماة شمساً ، وضع نوراً في فلك السماء لانارة الأرض ، وهو النور المنبث من النار والذي صدر إليه الأمر لينير في اليوم الأول ، وهو الشمس نفسها التي كونت في اليوم الرابع . وهكذا يتميز الواحد عن الآخر ، مثلما يتميز شعاع النار الذي ينير عن بعد عنم مصباح ذي نور باهر ، موضوع في الوسط ، فشعاع النور الذي ينتشر في البيت ويلقي فيه أضواء خافتة ، هو غير المصباح أو السراج الذي يجمل النور ، فكم بالأحرى طبيعة النار المنيرة ، فالنور الأول كان مجرد شعاع للنار ، أما الشمس التي خلقت في اليوم الرابع ، فلم تكن شعاعاً من نار ، بل لها طبيعة النار النقية والنيرة ذات الفاعلية العظمى كما سبق البيان عنها . هكذا كانت هيئة الشمس التي خلقت كنور أكبر في اليوم الرابع ، كما قال الروح الملهم ، وفصل نهائياً بين النور والظلام وبين الليل والنهار . فلماذا أذن يقول الروح ، أن الأنوار خلقت في اليوم الرابع؟ أن الجواب المناسب يحتفظ للنظرية العقلية لأنه من اختصاصها
ويتساءل بعضهم عبثاً عن النور والظلام أيهما سبق الأخر في الخلقة ، هل النور أم الظلام؟ نقول بهذا الخصوص : كانت الأرض والنار قد خلقتا سوية ، وأن الأرض خلقت منذ البدء كقول الروح : “في البدء خلق الله السماء والأرض” ، وتلك النار كانت النهاية الخارجية للسماء ، وقد خلقت معها خصائص كل منهما ، فمع الأرض خلق ظلها ، ومع النار نورها ، وظل الأرض هو الظلام ، فمن هنا يتضح عدم جدوى السؤال حول أسبقية النور والظلام أحدهما للأخر ، فلا نستطيع أن نقول أن النور سبق الظلام ، أو الظلام النور ، لأن الأرض والنار لم يسبق أحدهما الأخر في الخلق . بل أن جميعها خلقت وكونت في آن واحد بكلمة الخالق القادر على كل شيء ، ولئن أدرج الروح عملية الخلقة بترتيب ، مراعاة لما اعتاد إليه العالم ، ولضعف السامعين ، وقال : أن الأنوار خلقت في اليوم الرابع .
: طبيعة الشمس
بعد هذا الحديث ، يجدر بنا أن نوضح جوهر أو طبيعة جسم كل واحد من الأنوار ، أي الشمس والقمر والكواكب ، بقدر امكانية الفكر الباحث ، وعن حجم وكبر وشكل اجسامها ، وبعدها عنا وعن بعضها البعض ، ومكان وجودها ووضعها من الكرة التي يسميها الكتاب جلد السماء . وبعد تأمل هذا الموضوع بشكل منطقي نقول : أنها أجسام وليست مجردة عن الأجسام كما تشهد الحواس ، وكما يؤكد الرسول الإلهي بولس الحكيم إذ يقول : “يوجد أجسام سماوية وأجساد أرضية” فأنه يدعو الشمس والقمر والكواكب أجساماً أو أجساداً سماوية . ثم يتابع قوله : “مجد الشمس شيء ومجد القمر أخر ، ومجد النجوم أخر ، ونجم عن نجم يمتاز بالمجد” فأنه يدعو استنارة النور مجداً ، وهي تتفاوت من واحد إلى أخر ، ولكونها أجساماً فأنها صادرة عن العناصر الأربعة الأولى الهيولية التي هي بدورها أجسام . ولما كانت تلك العناصر الربعة الأولى مستنيرة ومنيرة ، ولها مجد ونور يبعث أشعة وأضواء ، كان علينا أن نبحث هادفين ، من كل منها وبتمعن وتفكير عميق ، معتمدين ومسترشدين روح الله خالقها الحق والصالح ، لنعرف من أي العناصر كون كل منها ، هل من عنصر واحد أو عنصرين أو ثلاثة أو من الأربعة ، مستشهدين بالطبيعة الموجودة في كل منها أو الأكثر قرباً إليه . فالشهادة عن الذي هو حار بطبعه ومنير ومحرق وميبس (الشمس) ، تتحقق هكذا : ليس من المعقول والصحيح أن نقول أنه من مادة التراب أو الماء أو الهواء ، إذ لا بد من أن يكون ما قلناه سابقاً هو الصحيح ، وهو أن جسم الشمس أو جوهر قوامها ، نار نقية صافية وكثيرة الاستنارة وفاعلة ومحرقة . فقوامها هو من عنصر النار هذا ، ولا يشترك معه أي من العناصر الثلاثة الأخرى ، فما قلناه أذن صحيح وحري بالتصديق . فأن فاعليته في الحرق تشهد على أنه نار مضطرمة تبعث الدفء إلى الأرض بأضعاف مضاعفة أكثر من تنور متقد أو أتون ملتهب ، وقد تشتعل النار في بعض البلدان كالحبشة بمجرد حرارة وأشعة نور الشمس ، فتتلف وتحرق كل ما يصادفها ، وقد شاهدنا مرات عديدة بأم أعيننا أشعة ساقطة على صفحة مياه صافية باردة أو على فضة مجلية صقيلة . وأن النار تضطرم وتلتهب وتحرق ، ليس فقط المواد اليابسة القابلة للاشتعال بسرعة ، بل وحتى الرطبة منها . فهذه البراهين والشهادات تؤكد الشمس ناراً ، وتشير في الوقت نفسه إلى كبر حجمها الذي لا يتعدى في كل الأحوال حدود المنطق ، ولا يخرج عن نطاق التصديق . ومع هذا فمجرد كونها ناراً لا يكفي لكي تضرم الأرض وتحرقها بفعل حرارتها الشديدة . وهذا أيضاً يشكل دلالة على سعتها وكبر حجمها
الحق يقال ، أنه ليس بامكان أي إنسان معرفة أو إدراك مدى حجمها ، ولئن تجرأ بعض البعيدين عن الحق ، انسياقاً وراء اعتقاد خاطىء ، على أن يجزموا دون تردد ويقدروا كبر وحجم الشمس ، النور الأكبر ، بـ 27 ضعف حجم الأرض . والذين لم يشاءوا منهم أن يبالغوا في كلامهم ، قالوا أن الشمس تكبر الأرض بـ 18 مرة . لقد شط هؤلاء جميعهم في ما يخص حجم الشمس ، وانجرفوا وراء وقاحتهم ، فكتبوا عن حجمها ما كتبوا . بيد أن نخبة من جماعتنا قدروه عن حكمة وفهم ، فقالوا ؛ دون أن يشطوا عن الحق . أن كرة الشمس تكبر الأرض ببضعة أضعاف . ولئن لم يدركوا تماماً حقيقة الأمر . هذا هو جوهر حجم الشمس وضخامتها وشكل هيئتها . فهي ليست طويلة ولا ذات أربع زوايا ، ولا دائرية مسطحة أو رقيقة ، بل أنها دائرية كروية من جميع الجهات ، متساوية تماماً في الطول والعرض والارتفاع ، ومن جميع جوانبها مثل جوهرة مستديرة صافية . هذا هو جوهرها ، وهذا حجمها ، وهذه هيئتها . وهذا كل ما استطعنا تحديده بالنسبة إليها . نكتفي بهذا الحديث البسيط عن حجمها
ولئلا ينتقص مجدها أو نقلل من حجمها ، رأينا أن نزين كلامنا بكلمات الروح ، خالق الأنوار قاطبة ، مع أبيه وكلمته الخالق . لذا كان علينا أن نضيف إلى كلامنا بهذا الخصوص ، كلمات الروح السنية . ففي حين قال موسى أن الله خلق نورين كبيرين في جلد السماء لينيرا الأرض ، النور الأكبر لحكم النهار : أنشد داود المرتل عن السماء وعنه قائلاً : “السموات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه” . وفي حديثه عن عظمة الشمس يقول : “جعل للشمس مسكناً فيها” ، وفي حديثه عن جمال وبهاء السماء يقول : “وهي مثل العروس الخارج من حجلته ، يبتهج مثل الجبار للسباق في الطريق ، من أقصى السموات خروجها ومدارها إلى أقاصيها ، ولا شيء يختفي من حرها” . بهذه الكلمات أشاد الروح بمجد وعظمة الشمس ، النور الأكبر . وهذا ما تحدثنا به
القمر :
ولنا أيضاً أن نقول كلمتنا في القمر بكل دقة وامعان . لكي نبين على قدر الامكان ماهية مادته ، فهو الأخر جسم مثل الشمس ، يشهد على هذا عين الناظر والكلام الرسولي المذكور أعلاه . ولما كان جسماً فلا بد أن يكون من العناصر الأربعة ، أما من جلها أو من كلها . فمن عنصر التراب اكتسب في تركيبه ، البرودة المنعشة التي تتكون فيه لدى ظهوره فوق الأرض ، وفيه قليل من عنصر الماء ، وهي الرطوبة التي تظهر في الزروع والعروق والأعشاب وأثمار الأشجار ، وفيه قليل من طبيعة الهواء الرقيق الصافي ، كما يبدو من رقة جسمه وصفائه ، وفيه أيضاً قليل من النار ، كما يبدو من لونه الأحمر ، ومن استنارته وصفائه . فعندما يمعن المرء النظر في هذه الأشياء ، يقرر أن هذا النور الأصفر المسمى قمراً ، مركب من العناصر الأربعة ، التراب والماء والهواء والنار . وإذا سأل خصم مرتاب ، لا يدرك أعمال الله قائلاً : إذا كان عنصر النار داخلاً في تركيب جسمه ، فلماذا يقال أنه يستمد النور من الشمس لخلو طبعه من النور؟ فليعلم مثل هذا ، أنه يوجد على الأرض أجسام كثيرة يدخل فيها عنصر النار ولا تقوى على الإنارة بفعل تلك النار التي فيها . فالنار مثلاً توجد في الخشب والأحجار ومع ذلك فأنها لا تنير ، وتوجد أيضاً في الحديد والنحاس والفضة ، لكنها لا تقوى على الإنارة بذاتها ، غير أنها لو هذيت وصقلت لاستطاعت أن تتقبل النور من الخارج ، أما من الشمس أو من النار فتضيء قليلاً . كذلك القمر الذي ولئن يدخل في تركيبه قليل من عنصر النار ، لكنه لا ينير من ذاته ، وكل عنصر أو جسم ، باستثناء النار ، لا يقبل نوراً من الخارج ، لا ينير بذاته ، لأن طبيعة الإنارة الذاتية أعطيت للنار فقط من قبل المكون المبدع
وربما يقول الخصم : أن القمر لا يحتوي أي جزء من عنصر التراب ، إذ لا يمكن أن يكون فيه تراب وهو بهذا الشكل من الصفاء واللمعان . لأن التراب هو ضد النور ، وهو مادة غشيمة وكثيفة ، غير شفاف ولا براق ، ولكن ليعلم : أن هنالك أجساماً كثيرة مركبة من عنصر التراب ، ليست فقط صقيلة وبراقة وقابلة لاستمداد النور من الخارج كما تبدو ، بل هي أيضاً رقيقة وشفافة مثل عنصر الهواء ، يخترقها النور بسهولة دون عائق من الداخل ، كما يخترق الهواء دون عائق . لكل من الزجاج الصافي البراق والجبس (الكلس) النقي ، ولا سيما حجر (كرستال) Crystallus
مثل هذه الطبيعة الصافية ، يدخلها النور من أحد جوانبها إلى أخر دون عائق ، مثلما يخترق النور الهواء دون عائق ، ومن خلال هذه الأجسام يمكن رؤية ما هو أمامها . فبواسطة هذه الأشياء نعرف أن الله المبدع والخالق جعل جسم القمر أكثر صفاء ونقاء ، منها ، وذا قابلية كبيرة لاستمداد النور وإنارة الأجسام الأخرى ، بالرغم من وجود نذر يسير من عنصر التراب الكثيف فيه . فقد جمع الله المبدع ما في كل من العناصر الأربعة من صفاء وركب منها هذا النور . ويستطيع الباحث أن يجعل طبيعة الخشب جسماً صافياً نقياً يخترقه النور بواسطة الهواء باستمرار ، وتشاهد فيه عن بعد أشعة مضيئة ، مثلما تشاهد في النار . ولنا مثال في ذلك ، القطرة الصافية النقية التي يفرزها شجر اللوز في الصيف ، فهي مثل عرق يسيل من مادة الخشب الدهنية ، وهي صغيرة لا يتجاوز حجمها حبة عنب أو على الأكثر حبة جوز . فلما يشرق شعاع الشمس على أحد جوانبها ، تبعث أشعة إلى الجانب الأخر مثل الشمس ، وحيث أنها من عنصر الخشب ، فهي تحتوي شيئاً من كل من العناصر الأربعة
من هنا يجب أن يوثق بالكلام الذي تحدثنا به عن هذا النور (القمر) ، بكونه مركباً من العناصر الأربعة ، وليس في طبيعته نور أو إنارة ، وهو يستمد النور من الشمس عندما يسقط على وجهه المقابل لها ، مثل الماء الصافي والحديد الصقيل والفضة البراقة ، فيستنير وينير الأجسام الأخرى . هناك من يقول أن هذا النور ليس مركباً من العناصر الأربعة ، لكن من الماء والهواء فقط ، مجردين إياه من عنصر التراب ، وهذا ما يجعله بالرغم من كبر حجمه ، أن يسير في الفلك وكأنه طائر سريع ، وهو رطب باستمرار عكس يبوسة الأرض ، كما ينكرون علاقته بعنصر النار ، نظراً إلى رطوبته وبرودته المضادتين لصفات النار من حرارة ويبوسة ، وإلى جوهر جسم وتركيب هذا النور ، مثل هذه الاعتقادات المتباينة تكونت لدى بعض القدماء ، إلا أن الحقيقة هي أن الله هو خالق وصانع الكل
أما بالنسبة إلى كبر حجمه أو مساحة دائرته ، فقد قال قوم أنها أربعة آلاف وخمسمائة غلوة ، مستندين بذلك إلى فترات حدوث كسوف الشمس . وبالنسبة إلى شكله ، أكدوا لنا أنه مستدير وكروي مثل شكل الشمس ، إذ لا تليق بالمجوهرات أشكال غير هذه ، لا أشكال طويلة ولا مسطحة ولا مربعة ، بل الشكل المستدير الكروي فقط ، لكي تنير كل الجوانب على حد سواء ، ما خلا الأنوار السماوية التي تبعث هي الأخرى نوراً إلى جميع الجهات دون عائق أو مانع
أما بالنسبة إلى البقع التي تشاهدها العين في جسم القمر الكروي وهو بدر ، أو العلامات السوداء أو المضيئة ، أو مهما شاء المرء أن يسميها فليسمها ، فيقولون أنها أغوار تشبه الوديان الجبلية ، لأن جسمه ترابي صلب وقوي لدخول عنصر التراب في تركيبه ، وهذا ما يكسبه اللون الأسود ، فجسمه كله لماع براق يلتقط النور باستثناء الأغوار العميقة التي تبدو سوداء بسبب الظلل الذي يشكل هذه البقع السوداء في جسم القمر . هذا هو جوهر أو طبيعة كيانه
وبهذا نكون قد بحثنا وأوضحنا حجم وشكل كل من الشمس والقمر وجوهر جسميهما
: الكواكب
ومن الضرورة بمكان البحث في الأنوار الأخرى التي تسمى الكواكب ، وجوهر أجسامها وما إلى ذلك . ومن ثم كيفية الربط ، بصورة غير إرادية ، بينها وبين أحداث هذا الكون التي تؤثر في حياة الناس ، من ولادة ونمو وخصب وجدب ، وغنى وفقر ، وصحة ومرض وسائر ما يتعلق بحياة البشر
فقد توهموا (القدماء) في تقييمهم لهذه الكواكب وزعموا ، أنها آلهة غير مائتة ومدبرة لكل هذه الأمور ، فقسموها وفصلوها عن بعضها البعض بصورة معاكسة ، فأحتفظ كل منها في فلك السماء بأرادة ما وسلطات خاصة ومتنوعة وأماكن ومواضع معاكسة بعضها لبعض ، منها مرتفعة وأخرى منخفضة ، وحاولوا رصدها ولا سيما ما يخص فترات حركتها ودورانها في هذا الفلك العجيب ، عمل حكمة الله الخالق المبدع ، واعتقدوا خطأ ، أنهم أدركوا الحقيقة الناصعة بالاستناد إلى طول أو قصر الفترات المحددة لكل منها والتي رصدت وقررت وسجلت ، وقالوا من باب الحدس والمقارنة وليس من باب الحقيقة والواقع ، أنهم رصدوها ، فجعلوا موضع كل واحد من الكواكب التائهة ، أما في الأعلى أو بالقرب من الحافة الحادة العليا للفلك ، أو في الأسفل بعيداً عنها . وعليه فأما أن يكون ليناً ومتيناً أو حاداً نشيطاً سريع الحركة ، أقل بقليل في حركته من حركة الفلك الشديدة . وقد لاحظوا ، أن صح ذلك ، أن الكوكب المسمى أي المشتري يكمل دورته نحو الوراء حول كرة السماء في ثلاثين سنة دون أن يفترق عن حافتها سوى مرة واحدة فقط طيلة هذه المدة . هذا هو رأيهم حول هذا الكوكب الذي دونوه في كتاباتهم الغثة ، وزعموا أنه فوق كل الأنوار التي في أعلى فلك السماء
كذلك الأمر أيضاً بالنسبة إلى الكوكب المسمى بيل أي زوس (زحل) فقد اعتقدوا أو لاحظوا وقرروا ثم دونوا ، أنه يدور حول كرة السماء بمدة اثنتي عشرة سنة ، في مسار يقع أسفل مسار ، وقالوا عن كوكب المريخ أريس أنه يكمل دورته في سنة وستة أشهر ، مؤكدين أن مساره وحركته هما تحت الآخرين اللذين سبق ذكرهما . أما بالنسبة إلى الشمس والكوكبين الآخرين أعني ذاك المسمى أي الزهرة والمسمى فينوس فأن موقعهما وحركتهما هي بحسب رأيهم تحت هذه الثلاثة . لذا حددوا مدة إكمال دورتها حول كرة السماء بسنة واحدة دون زيادة أو نقصان
هذا ما ذهب إليه القدماء ، أخذا عن الوثنيين ، في ما يخص مواضع ومسارات هذه الأنوار ، وقد قالوا بهذا مستندين إلى فترة دورانها حول هذه الكرة ، لأنهم عجزوا عن الوصول إلى الحقيقة ، ولم يفكروا في أن ينسبوا ذلك إلى الله خالقها ، كما لم يدركوا أن هذه كلها هي من أعماله ، ولم تدرك عقولهم حقيقة مواضعها ومساراتها وحركتها ، لينطقوا بالصدق والحق ، وإذ لم يضعوا هذه الحقيقة أساساً مناسباً ، فلم يتمكنوا من البناء عليها بصورة صحيحة
لذا كان الأجدر بهم أن يدركوا ، أولاً : أن الأولى (الفكرة) هي الأنسب ، فيتبينوا عظمة وقوة وحكمة الله خالقها من هذه الأعمال نفسها ، من ضخامتها واتقانها العجيب . ثانياً : أن يميزوا أن اعمال الله ليست آلهة ولا مدبرة لما في هذا الكون .
ثالثاً : وهذه تلي السابقتين بالأهمية وهي أن يدركوا بما أعطوا من حكمة كبشر ، أن موضع الشمس في دورانها في السماء هو فوق جميع أنوار السماء قاطبة ، كما أنها أكبرها وأسناها سواء بطبعها الرفيع أو كبر حجمها ، وهي بالنسبة إلى المحسوسات كما هو الله بالنسبة إلى المعقولات (ذوي العقول) . وهنا يقول قائل : إذا كان هذا هو شأن الشمس ، فأنه سيكون كذلك ليس فقط بالنسبة إلى نيرات السماء ، بل وسائر المحسوسات الأخرى أيضاً ، ذلك أنه من الواضح أن الله أرفع وأسمى من سائر المعقولات ، التي فيه تستمد الرؤية والثبات . كذلك فأن سائر المحسوسات ولا سيما تلك المنتظمة معها (الشمس) ، تستمد منها الثبات والرسوخ ، كما تستمد منها أيضاً ما تنير به ما هو تحتها على الأرض ، وهي في موقعها في السماء ودورانها أعلى من جميعها وجميع الأنوار الأخرى التي تليها في الموقع والمسار ، وكل منها يتحرك في كرة السماء ، في الفترة التي خصصها له الله خالقه دون أن ينحرف أو يتغير مساره ، فهذه ليست آلهة ولا هي حية وناطقة وذات سلطان وإرادة ذاتية . وقد توهم بعض اليونانيين والكلدانيين بأن لها سلطاناً على الحياة ، وهي التي تدير شؤونها ، معتبرين إياها آلهة ومدبرة هذا الكون وكل ما فيه . في حين أن الله خلقها للآيات والأزمنة كما قال الروح ، وبحسب مقولة الرسول بولس : “تضيئون بينهم كأنوار في العالم متمسكين بكلمة الحياة” . وقد أولها المانويون الضالون بل الأكثر ضلالاً من الوثنيين ، بحسب مفهومهم الباطل الضال ، فقالوا : أن هذه (الأنوار) نفسها هي المتمسكة بكلمة الحياة . وهي تدبر وتنظم الأمور من أجل حياة هذا العالم ، أن تأويلهم هذا باطل وكاذب وليس بحق . فعبارة “متمسكين بكلمة الحياة” لا تشير إلى الأنوار ، بل إلى المؤمنين الحقيقيين الموجودين في مدينة فيلبي
: الأنوار ليست عاقلة
ومن الضروري أن نبحث عن المصدر الذي استند إليه هؤلاء الضالون في زعمهم أن هذه الأنوار هي حية وعاقلة وذات سلطان وإرادة ذاتية ، وزادوا في ضلالهم حين جعلوها آلهة ومدبرة . فهؤلاء الضالون ، إذ رأوا الكواكب الخمسة التائهة تترك بحركتها محطات ، وخسوفات ، وتتمركز في كرة السماء أحياناً دون أن تتحرك ، لا إلى الأمام مع الفلك ، ولا إلى الوراء عندما تبتعد عنه باتجاه الشرق : وأحياناً أخرى تسبق الفلك بحركتها باتجاه الغرب ، وأحياناً تبتعد عنه قليلاً باتجاه الشرق ، وأحياناً تغير اتجاه حركتها ، شأنها شأن العقلاء الذين يعيدون النظر في أمر ما . فعندما لاحظ أولئك الشقاة المعتوهون ، وبلا روية ، ما يحدث ، اعتقدوا أن الكواكب إنما تفعل هذا من ذاتها ومتى شاءت ، فأعتبروها عاقلة وحية وذات إرادة ، لا بل آلهة ومدبرة . في حين أن هذه الحركة والحرية والسلطة الذاتية ليست سوى مخلوقة ، وضعها الله الخالق فيها لكي تتحرك نحو حركة الشمس التي تمدها بالنور والحركة ، كما خلقها الله المبدع هي الأخرى . فأنها لا تتحرك بإرادتها وحريتها الذاتية . مثال ذلك . لو صنع أحدهم آلة متقنة لرفع المياه لدى تشغيلها ، ووضع فيها بعض القطع التي يمكن أن تحركها بصورة مستمرة (أوتوماتيكيا) وبفاعلية تامة ومحكمة . فأنها تنجز تلقائياً . فالظاهر أن هذه (الآلة) عاقلة ، لها سلطة وإرادة ذاتية وتنجز كل الأعمال ، ولكن من الثابت والمعروف أن مهارة الصانع هي التي أبدعت تلك الآلة التي تعمل تلقائياً ، وليس للآلة نفسها أية سلطة وإرادة ذاتية . كذلك الشمس ، قد خلقت لتصنع ما تصنعه بصورة مستمرة ، بواسطة الكواكب التائهة التي تنفذ بحركتها المعاكسة لها . وبمقتضى ما خلقها الله مبدعها من أجله . فلا الشمس هي حية وناطقة وذات إرادة ذاتية ، ولا الكواكب التي تتحرك منها وإليها لتكمل الآيات والأزمان ؛ والتي خلقت لتكتمل بواسطتها وبصورة مستمرة وثابتة ، فلا تتغير أو تحيد عما حتم الله عليها ، أو عن الناموس الكامل وغير المتغير الذي وضعه الله لها ، كما رتل الروح بلسان داود قائلاً : “ناموس الرب كامل يرد النفس ، شهادات الرب صادقة تصير الجاهل حكيماً” ، لكي يعرفوا الخالق من أعماله العجيبة . هذه هي الارادة التي تحركها ، فما يؤثر فيها أذن هو ناموس الرب الذي وضع لها ، وشهادة الرب الصادقة المودعة فيها ، وليست إرادتها الحرة وسلطتها الذاتية أو العقلانية ، كما توهم المنطقيون الذين لا منطق لهم
كما أن الكواكب التائهة ليست هي الاخرى عاقلة ولا مضيئة بطبعها كما ثبت ، بل تستمد النور من الشمس فتتحرك أما إلى الأمام أو إلى الوراء ، أي أما نحو الغرب أو نحو الشرق ، وهي بمجموعها تحت الشمس بموقعها ودورانها . وهذا نفسه يقال عن القمر أيضاً ، فهو ليس ذا طبع منير ، بل يستمد النور من الشمس وينير جهتنا . وهذا ثابت منطقياً من جهة ، ومن البراهين العملية المستمدة من أحداث طبيعية من جهة أخرى ، ومنها . أولاً : الخسوف الذي يحدث له مرتين في السنة وبصورة مستمرة ، ففي كل ستة أشهر يحرم مرة من النور ويدخل في ظلام لفترة طويلة من اليوم ، عندما يكون بدراً وأكثر نوراً . ثانياً : من الاختلافات المرئية في شكل القمر ، أي في زيادة أو نقصان نوره
فمن هذه الشهادات الواقعية يتبين أن طبعه خال من النور ، لذلك نقول : لو كان في طبيعة القمر نور ثابت لا يزول ، أذن لما أظلم وأحمر كالدم وهو في حالة بدر عندما يصادف دخوله ظل الأرض ، ويقابل الشمس طولاً وعرضاً في الجهة العاكسة دون أن ينحرف إلى أحد الجوانب ، حيث يغيب كلياً عن مواجهة الشمس ، يظهر من هذا أن ليس للقمر نور طبيعي لينير نفسه ، لكنه يستمده من الشمس ويعكسه علينا ، وهذا ما يفسر صيرورته مظلماً خالياً من النور لدى غياب الشمس عنه في ظلال الأرض ، ويعرف هذا من اليوم الأول لمولده ، كما هو مألوف لدى العامة ، عندما يبتعد عن الشمس ويرى مساء في الجهة الخلفية في الغرب ، ويضيء قليلاً كخيط رفيع من الجهة الغربية التي كانت فيها الشمس ، ومن الجانب المعاكس لها إذ ترسل إليه النور الذي يظهر فيه في المساء الأول ، وفي المساء الثاني يصبح كحلقة رفيعة ، حتى اليوم الخامس عشر يوم اكتماله . وعندما تتجه زاويتاه نحو الوراء باتجاه الشرق . أو كما يقال : كأنه يشير باصبعه ويطلق إليك صوته قائلاً : أني أستمد نوري من الغرب ، من الشمس التي تنيرني ، فيغطي النور الدائرة كلها في اليوم الخامس عشر وتغدو مستديرة كاملة كقرص الشمس ، وجهها المنير متجه نحو الشمس ، وكأنه ينظر إليك ويقول : أن نوري هو منها . ولما يقترب قليلا من الشرق ويسقط عليه ظل الأرض ، وتنحجب عنه الشمس لئلا يستمد منها النور وهو يدخل حجاب الأرض بصورة معاكسة ومتوازية طولاً وعرضاً ، كما ذكرت أعلاه ، يسوده الظلام تماماً ، حتى يبتعد عن حجاب الأرض نحو الشرق . ولما يأخذ بالتناقص التدريجي يتجه نحو الجهة التي سقطت عليها أشعة الشمس في الشرق حتى يدخل مجدداً بين أشعتها تماماً . فيشاهد نوره من الشرق حيث الشمس وليس من الغرب حيث كان يشاهد خلال مرحلة نموه . فهذه التغيرات والأشكال التي تظهر لنا جلياً ، تؤكد استمداده النور من الشمس ، وخلو طبعه منه . فليعلم الجميع وليشهدوا أن ليس هناك ما له نور طبيعي ثابت سوى الشمس ، النور الأكبر ، وطبيعة النار التي يتكون منها قرص الشمس المنير ، فلا القمر ولا تلك الكواكب غير التائهة الموجودة ضمن هذه الدائرة المعروفة والشديدة الحركة . وهي تتحرك بصورة دائمية ثابتة
نكتفي بهذا المقدار من الحديث حول مواقع وجود الأنوار في فلك السماء وكونها ليست حية وعاقلة أولها سلطة ذاتية ، كما وليست آلهة تدير هذه الأمور كلها ، كما توهم المعتوهون ، ولا يوجد نور في طبيعة القمر والكواكب باستثناء الشمس لكونها من طبيعة النار ، ومنها يستمد الكل نوره فيضيء . وهذه جميعها هي تحت الشمس بموقعها ووضعها
: مدى ارتفاع الشمس
وحيث أننا تحدثنا عن ارتفاع الأنوار الواحد عن الآخر ، وعن مواقعها في فلك السماء ، وبينا أن الشمس هي فوق جميعها بموقعها ووضعها في أعلى السماء . لذلك تقتضي الضرورة أن نتحدث عن مدى ارتفاع الشمس . فنأتي برأي أحد القدماء بهذا الخصوص ، لكي نقرب ذلك إلى إفهام القراء ونحدده بشكل مناسب ومنظم ، فقد اتخذ برهاناً من الأرض حول مدى ارتفاع السماء الذي لا يمكن قياسه ، فقال : لو نصبت الأرض كلها بشكل عمود واحد لما أمكن الوصول إلى أقصى السماء ، لذا فأن موقع الشمس ليس في أقصى الارتفاع ، ولكن مما لا شك فيه أن الوسط الذي تدور فيه هو واسع ويفوق الوصف ، وأن مواقع جميع الأنوار السماوية هي تحتها ، وهذه بدورها أعلى من موقع القمر ، والذي هو في موقع منخفض أكثر من جميعها . فيجب أذن أن نعلم هذا . ومثلما يحجب القمر الشمس عن أنظارنا ، يحجب عنا أيضاً جميع الكواكب التي تصادفه إذا ما واجهها . وإنما يفعل هذا لأن موقعه ووضعه في فلك السماء أقل انخفاضاً منها
: حركة السيارات حول الأرض
ونضيف هنا الحديث عن حركتها حول الأرض طولا وعرضاً ، أي حركة الشمس والقمر والكواكب الخمسة التائهة في كرة السماء . فأن فلك رقيع السماء والكواكب الأخرى غير التائهة التي فيه ، تدور حول الأرض باتجاه الغرب بصورة ثابتة غير متغيرة ، فهي تشرق وتصير في منتصف السماء فوق الأرض ، وتغيب وتصبح تحت الأرض ثم تشرق ثانية ، وهكذا تعمل دون توقف كما أمر مبدعها الحكيم . فالشمس والقمر والكواكب الخمسة التائهة تدور في كرة السماء حول الأرض باتجاه الغرب ، بنفس القوة التي توجه الفلك نحو الغرب . ويبدو أن كلا منها يتحرك إلى الوراء باتجاه الشرق بحركة مدهشة غير متغيرة ، عندما تبتعد عن حافة الفلك الثابتة بمقتضى ما نظمه الخالق ، ويتم هذا على طول الفلك من الغرب إلى الشرق ، بابتعادها عن الفلك بصورة متساوية طولا وعرضاً وبشكل زاوية منحرفة . وتكمل نصف الكرة بارتفاعها نحو الأعلى غرباً ، والنصف الآخر عندما ينحرف مسارها هابطاً نحو الجنوب . وحينما تتحرك الشمس بمثل هذه الحركة المختلفة والمنحرفة وتصير وراء حافة الفلك ، فأنها تكمل هذه الدورة السنوية بثلاثمائة وخمسة وستين يوماً ، وتتبادل خلالها بصورة مستمرة ، فصول السنة الأربعة المتساوية في الزمن ، وهي الربيع والصيف والخريف والشتاء ، وتتولد فيها مناخات ملائمة لحياة كل ذي جسد ، بموجب الأمر الصادر إليها من قبل الخالق عن طريق اليبوسة والرطوبة ، وتنبت في الأرض نباتات وتنمي الثمار – وتنضجها ، وتعدل مناخ الجو بصورة لا تضر بحياتنا ، وهي لا تزال تسير على هذا المنوال الذي خططه الله لها منذ البداية ، ولا تحيد عنه يمنة أو يسرة ، ولا تخرج عنه شمالاً أو جنوباً ، فلا ترتفع أو تنخفض أكثر من المقرر ، بل تسير في مسارها الأول دون تغيير سواء أثناء الشروق أو الغروب ، وهكذا تعيد الكرة بخفة عائدة إلى مدارها كقول الكتاب
أما القمر فيتحرك نفس الحركة المنحرفة والمتغيرة ، طولاً وعرضاً ، فهو يتحرك إلى الوراء مثل الشمس حيث يترك حافة الدائرة ويسير تجاه الشرق . ويكمل دورته الشهرية حول الفلك بتسعة وعشرين يوماً ونصف ، لكنه لا يسير بصورة متوازية مع مسار الشمس ، بل خارجه ، حيث يقطع نصف الكرة شمال مسار الشمس ، والنصف الآخر جنوبه ، ويتقاطع معها ويجتاز هنا وهناك أو يرتفع وينخفض أو يتجه نحو الشمال أو الجنوب . لكن مساره هذا يختلف بين شهر وآخر ، حيث يتقاطع ومسار الشمس في مواقع تختلف عن الأولى ولا يسير في نفس مساره دائماً . وكذلك عندما يبتعد عنها شمالاً أو جنوباً قليلاً أحياناً ، وكثيراً أحياناً أخرى . وهي نفسها تتحرك كالقمر حركات متغيرة ومنحرفة نحو الشمال والجنوب خارج مسار الشمس ، حيث تتحرك طولاً وعرضاً وإلى الوراء نحو الشرق وتتقاطع في عدة أماكن مع مسار الشمس . وكذلك الكواكب الثلاثة التائهة أي المشتري وزحل وعطارد تبتعد عن مدار الشمس كثيراً أحياناً وقليلاً أحياناً أخرى . وكذلك الكوكبان الآخران الزهرة والمريخ ، هما دائماً بالقرب من الشمس أما شرقاً من الوراء أو غرباً . وهذه هي نقاط ابتعادهما عنها . فالأول يقع في خط ثمانية وأربعين ، والثاني في خط ستة وأربعين ، وهما الآخران يتحركان نفس الحركة المتغيرة والمنحرفة طولاً وعرضاً على حد سواء . ويتقاطعان مع مسار الشمس في مواقع مختلفة شمالاً وجنوباً ، خلال ارتفاعهما وانخفاضهما ، شأنهما في ذلك شأن القمر والكواكب الثلاثة الأخرى المار ذكرها . وبهذا نكون قد تحدثنا بما فيه الكفاية عن حركة النور طولاً وعرضاً
: تغيرات تحدثها الشمس في الأرض
والآن ، واستغراقاً منا في حب العمل ، نضيف فنتحدث عن التغيرات التي تحدثها الشمس ، هذا النور الكبير الأول ، في الأرض وما يسكنها في مختلف الأماكن والمناطق سواء كانت شرقي بعضهم البعض أم غربهم أو شمالهم أم جنوبهم ، وذلك بحكمها على النهار الممنوح لها من قبل خالقها . ومثلما قال الروح : أن الله أمر لتجتمع المياه من عن وجه الأرض وتظهر اليابسة ، لكي تصبح ملائمة لسكنى الجنس البشري ، وصالحة لتحرك وراحة جميع الحيوانات التي كانت عتيدة أن تخلق لخدمة الإنسان ، وقد تم هذا من قبل الخالق المبدع كما سبق الحديث أعلاه . وظهرت المسكونة التي على الأرض تحت الجزء الشمالي من دائرة السماء ، إلى الشمال من المنطقة الواقعة تحت منتصف الدائرة ، لكي يكون دوران قرص الشمس باستقامة نحو الغرب خلال السنة كلها لدى شروقها أو غروبها . وهذا يتم بحكمة الخالق الذي شاء أن يخلقها هكذا . فحدوث اختلافات الليل والنهار هو لصالح الناس الذين يسكنون الأرض ، ونظراً إلى ميلانها تحتهم وبزوغ أشعة الشمس فوقهم ، وانحجابها عنهم ، في مختلف مناطقهم ، رتبنا
: حديثنا على النحو التالي
: اختلاف النهار
نتحدث أولاً عن اختلاف النهار (نهر) بالنسبة إلى عرض المسكونة واعتباراً من الجنوب إلى الشمال . ومن ثم نتحدث عن الاختلافات التي تحدث طولاً ، موضحين الاختلافات التي تبدأ من الشرق إلى الغرب
ففي المنطقة التي تقع تحت منتصف كرة السماء كما ذكرت ، وهي المنطقة الواقعة جنوبي الحبشة ، يكون السكان فيها سوداً ومتفحمين أكثر من الفحم ، ومنطقتهم متفحمة لذا تعرف بـ “منطقة حرارة أشعة الشمس غير المعتدلة” . لأن الشمس تضطرم اضطرام أتون النار وتحرقها على مدار السنة . سواء حينما تنتصب فوقها أو ترتفع نحو الشمال أو تهبط نحو الجنوب . وعندما تنتصب الشمس في وسط الكرة ، في المناطق التي يتساوى فيها الليل والنهار ، أي رأس الفلك حيث وضعها الله المبدع منذ البداية لدى خلقته إياها في بداية برج الحمل بحسب مصطلح العامة ، أي في بداية فصل الربيع في نيسان ، أو في بداية فصل الخريف ، أو في مطلع برج الميزان . ولكي استخلص معلومات من الوقت ومن المناطق ، أقول : تتكون ليال ونهر متساوية في الوقت أي اثنتي عشرة ساعة لكل منها ، لجميع سكان الأرض . فالذين يسكنون الأرض المتفحمة المشار إليها ، التي بسبب انبساطها وعدم ميل كرة السماء فوقها دائماً خلال السنة ، تتساوى لديهم الليالي والنهر مدى أيام حياتهم ، حيث لا تطول النهر في الصيف عندما ترتفع الشمس نحو الأجزاء الشمالية لكرة السماء ، ولا تقصر الليالي . وفي الشتاء أيضاً عندما تهبط الشمس في مسارها نحو المناطق الجنوبية ، لا تقصر النهر ولا تطول الليالي ، لأن وضع كرة السماء هناك يكون باستقامة ، وقد وضع كلا قطبيها ، أي أركان الدوائر على استقامة واحدة ، الواحد تجاه الآخر ، نظراً إلى وضع الفلك المستقيم ، لا يعلو أحدهما على الآخر ولا ينخفض عنه ، واحد فوق الأفق الجنوبي أي الخط الذي يفصل بين السماء والأرض في الجنوب . وآخر فوق الأفق الشمالي . وكلما أشرقت (الشمس) وارتفعت من الشرق إلى جميع أرجاء دائرة السماء ، سواء من الأجزاء الشمالية أو الجنوبية ، فأنها تتجه صعداً نحو الغرب مرتفعة إلى السماء دون أن تتجه نحو الجنوب أثناء ارتفاعها عن الأرض .
وهنا نجمل كلامنا بكلمات الروح الحقيقية كخاتمة وسند له ، مؤكدين أنها (الأنوار) مخلوقة ومصنوعة وغير أزلية ، بشهادة ما سبق ذكره وما جاء على لسان موسى القائل “قال الله لتكن الأنوار في جلد السماء . . وعمل الله الأنوار لمعرفة المواقيت . . ولكي تنير الأرض . . وتفصل بين النهار والليل ” . ويشهد الروح أيضاً بلسان داود فيقول : “صنع القمر للمواقيت والشمس تعرف مغربها ، فيجعل ظلمة فيصير ليل فيه يدب كل حيوان الوعر ، الأشبال تزمجر لتخطف ولتلتمس من الله طعامها ، تشرق الشمس فتجمع وفي مآويها تربض ، الإنسان يخرج إلى عمله وإلى شغله إلى المساء” . ويشير إلى كونها وجدت لتشكر الخالق وتظهر للمتأملين مجده فيقول : “احمدوا الرب . . إله الآلهة … .الصانع السموات بفهم . . الباسط الأرض على المياه . . الصانع أنواراً عظيمة . . الشمس لحكم النهار . . القمر والكواكب لحكم الليل . .” ثم يوعز إلى جميع الكائنات بالتمجيد فيقول : “سبحي الرب أيتها الشمس الحق ، أن أنوار السماء جميعها مكونة ومخلوقة ، وليس هذا فقط ، بل أن بعض الغرباء لم يبتعدوا كثيراً عن أشعة النور الحقيقي
فقد جاء في كتاب هرمس قوله : قال الله لكلمته “ليكن شمس” . فأظهر بقوله هذا أنها (الشمس) وسائر الكواكب الأخرى مخلوقة . وقد خلقت من أجلنا ، ليس لخدمتنا فحسب ، بل لكي تسحرنا بجمال منظرها ، وأعدادها الهائلة وأثرها في شكر الله خالقها ومجده . الذي له المجد والعزة والسلطان دائماً . الآن وكل أوان وإلى أبد الآبدين آمين
اليوم الرابع
الحيوانات والزحافات والطيور –
يعقوب الرهاوي
في الحيوانات والزحافات التي أمر الله أن تحركها المياه
وفي الطيور التي أمر فخلقت هي الأخرى من طبيعة المياه
مقدمة
أن الله المعني ، لم يدع حاجة لخليقته إلا وسدها . وكما سبق الحديث ، فأن الملوك الذين يبنون مدناً، لا يقتصرون على اقامة السور والأسواق والساحات ومتطلبات السكن فحسب، بل يهيئون أيضاً أنابيب متينة لمياه الشرب والغسل والاستحمام ، ويصنعون كذلك بحيرات قريبة من المدن لتربية الأسماك طعاماً لسكان المدن ولأجناس الطيور التي تنزع إلى العيش حيث الماء والرطوبة، لكي تكون هي الأخرى قوتاً ومتعة للبشر.
هكذا هيأ (الله) هذه المدينة الكبيرة – العالم – نعمة منه للجنس البشري وإحساناً كثيراً، بعد الأشياء التي سبق وخلقها، أعني السماء والأرض والجلد والهواء والبحار والبحيرات والأنهار والينابيع وغابات الأشجار والشجيرات المثمرة والحشائش والزروع والعروق والمروج ذات الأزهار الزكية الرائحة والمتباينة الألوان والخصائص . فلا البحار ولا الأنهار ولا طبيعة المياه ولا الهواء النقي الشفاف الذي يملأ ما بين السماء والأرض ، تبقى مجردة وخالية تماماً من أي جمال خاص يلائم كل واحد منها، مثل الفائدة الكامنة في طبيعة كل منها لكي تستمر حياة السكان فيه. فقد منح المياه طبيعة تتميز بالثقل والرقة، والهواء طبيعة خفيفة طائرة ، وكلاهما خلقا لخدمة وراحة البشر الذين كانوا عتيدين أن يصيروا سادة هذا العالم . لذلك قال الروح الملهم بلسان موسى في أعقاب ما سبق ذكرهأن الله الخالق أصدر أمره”لتخرج المياه زحافات ذات نفس حية، وليطر طير فوق الأرض على وجه جلد السماء”. وكان كذلك.
تعابير الكتاب تقريب لمفاهيمنا
هنا يتطلب الأمر تفكيرا وتأملاً واستقصاء . حيث يتساءل العقل لماذا أمر الله أن تخرج المياه ما كان يريد اخراجه دون أن يفعل ذلك مباشرة بقوة سلطانه؟ فهو لا يحتاج وسيطاً عندما يريد أمراً ما . فكل ما يريده يتم بمجرد إشارة من إرادته، وقد كتب بهذا الخصوص”لأنه قال فكانت وأمر فخلقت”. هذا ما يتساءله العقل الباحث عندما يساوره شك ويتأمل ويرى في كلمات الكتاب الموحى به من الروح ما يبدو خشونة. فتجيب الكلمة المدركة والعقل الثاقب ويقولأن الله ليس بحاجة إلى أية مساعدة من خلائقه. ولكن نحن هم الذين بحاجة إلى أن نسمع وندرك بالطريقة التي الفناها . كيف تمت أعمال الله كلها، وكيف خلقت ؟ فما كان لنا ذلك. أي أن نسمع وندرك لو لم تكتب قصة خلقها بالأسلوب الذي نفهمه وبالطريقة التي نتعامل بها، فالروح الملهم اتبع أسلوبنا في سرد ما كتب لأجلنا، وعلى مدى إدراكنا. ولم يكن بالامكان أن يستخدم أسلوباً آخر. فعندما قال الله”لتخرج الأرض عشباً وأشجاراً” فأنه لم يفعل هذا حاجته إلى مساعدة الأرض لكي يخلق ما يريد. لكنه فعل ذلك لكي نسمع نحن ونفهم وندرك بأنه خلق ما خلق باقتداره الفائق ، ولئن كتب عنه أنه “أمر الأرض”. فعندما يقول هنا “لتخرج المياه” لا يشير بذلك إلى حاجته إلى مساعدة المياه ليكون ما يريد. لذا سنقول هنا كلمتنا بهذا الشأن بكل وضوح وبساطة ، لنقف على ما يثيره الباحث المتسائل
فالله لم ينطق بأية كلمة من هذه الكلمات ، ولم يكن العمل اعتباطاً . ولم يكن بحاجة إلى أن يقول ثم يخلق. فمجرد التفكير بها كان كافياً ، لأن الفكر هو كمال العمل، لا سيما وأنه لم يكن حتى بحاجة إلى التفكير ، فالله لا يفكر ولا يتأمل الأفكار ليختار ما يحسن له ومن ثم يخلق. لكن بمجرد النطق أو الحركة أو الإشارة الأولى من الفكر إلى ما يريد أن يعمله، يتم ذلك العمل، حتى أن لفظة “الإشارة” لا محل لها هنا ولا أهمية لها، ذلك أن الله لا يشير حتى إشارة لأنه منزه عن العيون والجبين والأيدي وعن كل الأعضاء . فأذن لا معنى هنا لكلمة إشارة. وكذلك أن ننسب إلى الله الحركة الإرادية هو الآخر أمر زائد، فإرادته ليست شيئاً متميزاً عن ذاته. وكذلك قولناأنه بقوة سلطانه يفعل ما يشاء ، فهو الآخر زائد ولا قيمة له. فعندما يتأمل المرء بدقة يكتشف أن هذه الأمور لا تنسب إلى الله، فكل ما نطلقه عليه من كلمات وألفاظ ، إنما هي لنا، وهي مناسبة لإطلاقها علينا فقط. ولا تتناسب أن تطلق عليه أبداً، ولا شأن له بها. لكن ما الذي نفعله عندما نريد أن نتحدث عنه أو عن أعماله ! ليس بمقدورنا أن نتحدث أو نقول أو نسمع الآخرين أو نسمع نحن من الآخرين ، إلا بما أعتدناه من الكلام. فأننا نضطر إلى استعمال الأسماء أو الأفعال أو الألفاظ الأخرى عندما نتحدث عنه. وهذا نفسه يفعله الروح. فأنه يتعامل بنفس الكلمات التي نستعملها في سرد القصص. لذا فقد كتب هذا وكأنه يتلعثم معنا باعتبارنا أطفالاً، فيوضح لنا، وبأسلوبنا ما هو فوق إدراكنا. أما الواقع فليس كذلك
وبناء عليه، فأن الله لم يقل “لتخرج الأرض أو تخرج المياه” ، لكونه ليس بحاجة إلى أن ينطق أبداً ، لكن الكلام أدرج بهذا الشكل من أجلنا . فلو لم يكتب الروح هكذا ، أمر الله أن يكون كذا، وقال الله، ليكن كذا ولتخرج الأرض عشباً ، ولتخرج المياه زحافات ذات نفس حية، ولو لم نسمع هذا بأسلوب ما ألفناه ورأيناه في كتابات الكتاب وهم منا، كيف كان لنا أن نعرف شيئاً عن الله أو عن أعماله ، وندرك أن كل ما نراه هو خليقة الله وليس أزلياً. فلا نضلن مثل الشعوب التي توهمت بأن هذا العالم هو أزلي بذاته وسرمدي ولم يخلقه الله، فقد أهتم موسى كثيراً ليطلع الناس على هذه الأمور. وأن الروح الذي نطق فيه، أراد خاصة أن يوضح للناس ويعرفهم بأن السماء والأرض وكل ما فيهما هي عمل الله وليست أزلية، ولم تتكون تلقائياً ، كما أنها ليست سرمدية وغير مخلوقة كما أوهم الثلاب المارد البشر ليضلهم عن الله خالقهم. أذن ، هذا كان سبب استعمال الكلمات بهذه الصورة . فقد قيل “قال الله لتخرج الأرض ولتخرج المياه” لكي ندرك الله وأعماله بسهولة ، ونعرف بأنها به كانت وليست أزلية ، وأن الروح لا يقصد بقوله”قال الله لتخرج المياه… ولتخرج الأرض” أن الله أوعز إلى خليقته لتساعده في الخلق، بل ليظهر أن الله يصدر أمراً فيخلق ما يشاء ومتى شاء دون جهد، والكل يطيع أمره، وليس من يعصي إرادته، ويمكن تفسير عبارة “لتخرج الأرض…. لتخرج المياه” هكذا ، أن يكون في الأرض عشب وأشجار، وتكون في المياه زحافات ذات نفس حية وطيور، فهذا هو العقل الممعن تجاه الفكر المتشكك الذي رأى في ما كتب أمراً اعتباطياً
العناصر الأربعة
ونحن أيضاً بدورنا نعقب على عبارات الروح هذهوقال الله لتخرج المياه زحافات ذات نفس حية، وطيوراً تطير على الأرض ، على وجه جلد السماء”. فنعالج شكل آخر في قوله “لتخرج الأرض… لتخرج المياه” . فلنعلم أنه ولئن اقتصر الأمر على الأرض فقط. “لتخرج عشباً” فذلك لأن الأرض وحدها كانت منظورة في ذلك الحين الذي فيه نبت العشب والأشجار فيها. أما العناصر الثلاثة الأخرى، الماء والهواء والنار، فلم تكن منظورة بعد. فأن العشب والأشجار التي تنبت في الأرض ليست وليدة هذه الأرض (التراب) فحسب ، بل تشترك معها بقية العناصر أيضاً. فمن الواضح أن عناصر الماء والهواء والنار تدخل مع التراب في تركيب العشب الذي من الأرض، وخشب الأشجار، وتشترك في إنمائها. فإذا كانت الأرض وحدها منظورة حينذاك ، ذكرت لوحدها. وعلى نفس الغرار، قوله”لتخرج المياه زحافات… وسمكاً … وطيوراً… ” فلأن المياه فقط كانت منظورة حينذاك، ولم تكن العناصر الثلاثة الأخرى، التراب والهواء والنار موجودة لدى ولادة هذه الحيوانات ، علماً بأن طبيعة التراب موجودة مع الماء، وكذلك الهواء والنار، وعليه فهي تدخل في تركيب الأسماك والحيوانات الأخرى التي خرجت من المياه . فلا يجوز أبداً أن يظن أحد ما أن لحم وعظام وجسم الأسماك والطيور مركبة من الماء فقط، ولا تشترك معها العناصر الثلاثة الأخرى، التراب والهواء والنار، وقد اعتدنا ، والعالم كله أيضاً، أن نقولأن العشب والجذور والأشجار والشجيرات تنبت من الأرض دون أن نشير إلى أسم أحد العناصر الأخرى. ونقول عن الأسماك ، أنها من الماء فقط، لذا فقد نهج الكتاب أسلوبنا وراعى عاداتنا . وأنه لأمر معروف أن العشب الذي يتولد وينمو في الأرض ، وكذلك الأشجار وكل النباتات التي تتولد من العشب، هي مركبة من العناصر الأربعة. والأسماك وكل الحيوانات تتولد من الماء، وكذا الأمر بالنسبة إلى طبيعة الطيور. فالكتاب يقتصر على ذكر العناصر المنظورة والمعروفة فقط، تمشياً مع ما هو مألوف في العالم الذي ينسب نمو البذور والأشجار إلى التراب، وولادة الأسماك والطيور إلى المياه
كلمة الله
ونعقب على كل ما سبق الحديث عنه، متسائلين ومدفوعين بمحبة العلم والحق. ترى من هو القائل “ليكن كذا” ، فنجيب أنفسنا متسائلين أيضاً وقائلين ، ترى من هو الذي نفذ فيما بعد الأمر الصادر؟ . لقد تلت الكلمات المدرجة أعلاه أي “وقال الله الذي أمر لتخرج المياه”، كلمات أخرى هي”وخلق الله التنانين العظام وكل ذوات الأنفس الحية الدبابة التي فاضت بها المياه كأجناسها، وكل طير ذي جناح كجنسه، ورأى ذلك أنه حسن”. وباركها الله قائلاً”أثمري وأكثري واملأي الأرض”. فمن هو الذي أمر أن تخرج المياه، ومن الذي نفذ؟. من المعروف ، وكما سبق الكلام عن الخلائق الأخرى ، أن الذي أمر هو اقنوم والذي نفذ أقنوم آخر. وهنا أيضاً ينبغي أن نفهم الأمر هكذا. أن الله الأب أمر باعتباره رأس كل ما يصدر عنه، وكل شيء هو منه. والكلمة الذي منه نفذ، وهو الآخر رأس كل شيء مع أبيه والروح المساوي لهما في الجوهر والمجد والخلق. وهنا أيضاً يجدر بالفكر الباحث ومحب الحق أن يقولإذا كان الأب بالابن ، والابن بالأب ، ولهما إرادة واحدة، ومتساويان بالنسمة (النفس) و (الذات) ، ولهما سلطان واحد. فكيف يجوز أن يقال أن واحداً يأمر والآخر ينفذ الأمر؟. علماً بأن القول أن واحداً يأمر وآخر ينفذ ما أمر به، لا يشير إلى كونهما متساويين في الكرامة ، بل أن من يأمر كأنه يفعل ذلك كرئيس، والذي ينفذ كأنه مستعبد وبدرجة أدنى من الرئيس ، لكي ينفذ ما أمر به. نقولأن هذا الكلام يصح علينا نحن، أما بالنسبة إلى الله. فأن للأوامر وتنفيذ الأوامر مفهوماً آخر. فلما يأمر الأب، فأن الابن والروح أيضاً يكونان قد أمرا معه في نفس الوقت ، وعندما ينفذ الابن ويعمل ما أمر بعمله فأن الأب والروح القدس، مكمل يكونان أيضا ينفذان معه فلهؤلاء (الأقاليم) أزلية واحدة وإرادة واحدة وعلى هذا المقياس يكون الأمر واحدا بالنسبة إليهم وكذلك تنفيذه وإتمامه فإذا قيل عن واحد انه أمر فالثلاثة يكونون قد أمروا وإذا قيل عن واحد انه يعمل شيئا ما فثلاثتهم هم الذين يعملون فهذه الأمور كتبت بصورة سرية من قبل الإله الروح ليس من أجل أن يظهر اختلاف ما بين الذي يأمر والذي ينفذ ولكن لكي نتعلم بها نحن بأن الاقانيم تختلف عن بعضها الأمر الذي لم يكن بالإمكان أن يدركه الناس أو يعتقدوا به فالقول أن واحدا يأمر وآخر ينفذ يظهر بأكثر وضوح أن سلطانهم واحد وإرادتهم واحدة ولا يفهم منه الاختلاف في الجوهر والسلطة وقولنا أن الله الأب أمر لتكون الأعمال يعني أن الله الكلمة نفذ ما أمر به ليس بصفة مستعبد أو أدنى بل كمساو في الإرادة وغير مخالف ومساو بالكرامة والسلطة
الحيوانات المائية
وهكذا وبلحظة تم من قبل الله الصانع ما أمر به من قبل الله الخالق (لتخرج المياه زحافات ذات نفس حية وطيورِا تطير على الأرض) ويقول خلق الله حيتانا أي تنانين عظاما وكل نفس تدب الأمور التي إفاضتها المياه بجنسها فبهذا الأمر يبق شيء من طبيعة المياه حيثما وجدت دون أن يثمر أو يلد لحظة سماعه الأمر وتنفيذه إياه فإفاض نفسا حية ومتحركة بإمكانها الحفاظ على نوعها ففي البحار الشاسعة التي لا تسبر أغوارها كانت تتوالد حيتان كبيرة أي تنانين ولا أدري ما الذي أسميها وقد ذكرها الروح المرتل وهو يأمرها مع سائر الخليفة لتسبح الخالق مع ذوي النطق قائلا (سبحي الرب يا كل الأرض وكل اللجج) ويبدو من كلامه أن هذه لا تستطيع أن تعيش الا في أعماق البحار نظرا إلى ضخامتها كما أن اله الجميع وهو يخاطب أيوب ويذكره بعظائم أعماله العجيبة, يقول عن جنس هذه الحيتان أو التنانين. أنك تستطيع أن تصطاد هذا التنين الهائل بالشبكة وتشد بالرسن مبلعه. ويشهد له الكتاب بأنه ملك حيوانات المياه، وقد جعل سخرية لملائكة الله بسبب ضخامته وقوة بأسه. وتروي قصص بعض الغرباء شهود عيان ، أن طول بعض هذه الحيوانات التي أفاضتها المياه يبلغ نحو مئتي ميل وتكثر في أغوار البحار الكبرى التي لا تجاب والمعروفة بالمحيطات والتي هي خارج نطاق المسكونة . وأن بحار المسكونة الهادئة والمستغلة ، أفاضت هي الأخرى حيوانات كبيرة وصغيرة تسبح وتجوب فيها، كل بنسبة ما فيه من مياه ، وبمقتضى خصائص ومناخ بيئته. ويولد كل منها من جنسه وبحسب طبيعته، الدلافين والأسماك الكبيرة ومختلف أنواع الأسماك الأخرى من كل جنس، التي يولد كل منها كجنسه للحفاظ على نوعه، منفذاً أمر الخالق الذي أمرها أن تثمر وتكثر وتملأ مياه البحار
وإلى جانب هذه، فهناك زحافات لا يحصى عددها، ومختلف أنواع الحيوانات التي لا نعرف عدد أنواعها ولا أسماءها ونعجز عن وصفها ، لا سيما وأن البحار ليست بقريبة منا، ونحن لم نعتد رؤية هذه الأنواع لكي نعطيها أسماء حتى ولا لدى الأمم الأخرى الساكنة بالقرب من البحار ، أي اليونانيين والمصريين والرومان والعيلامين والهنود. وكان جدير بهؤلاء أن يضعوا أسماء وتسميات متميزة لكل نوع من الأسماك والزحافات والحيوانات البحرية، لكونهم قريبين من البحار . أما بالنسبة إلينا فنكتفي بما قاله الروح عنها “البحر الكبير الواسع الأطراف، هناك دبابات بلا عدد، صغار حيوان مع كبار، هناك تجري السفن، لوياثان هذا خلقته ليلعب فيه”
هكذا أفاضت مياه البحار أنواعاً مختلفة من الحيوانات الزاحفة. فليس هناك أي شعب يعرف جيداً أنواع وأسماء جميعها، وكما يقول البعض ، فأن أعداداً كبيرة منها تعرف بأسماء الحيوانات والطيور التي على الأرض ، أما بسبب التشابه بين أجسامها أو مسلكها أو لأسباب أخرى ويقال أيضاً أن بعض حيوانات الماء تسمى خنازير وكلاباً، أو حماراً وأرنباً ونسراً وباشقاً ويمامة وعقرباً وحية، وغيرها من أنواع الزحافات التي نعرفها . وقد تكون تسميتها بأسماء الحيوانات البرية سليمة ، نظراً إلى تشابهها بالصفات والعادة. ومعروف عن الأسماك عامة التي تتوالد في البحار ، أن لها أسناناً تحت شفاه أفواهها مثل وحوش البر، أما الأسماك التي تعيش في الأنهار والمياه العذبة فلا يوجد لها. هكذا فأن الله، بأمر واحد، جعل المياه تثمر وتلد. وسواء كانت قليلة أم كثيرة فلا بد وأن تثمر وتلد إطاعة لأمر الخالق. وكذلك الأنهار والبحيرات ، فهي الأخرى بمقدار كميتها وبالنسبة إلى صفاتها وطعم مياهها، أولدت وأخرجت مثل مياه البحار أسماكاً مختلفة وزحافات، وأنواعاً أخرى كثيرة لا تحصى ولا تعرف أسماؤها. أمثال السلور والمرمريج والحنكليس
وإلى جانب هذه، هناك أجناس صدفية، مثل السلاحف والسرطان والحلزون والودع وأنواع أخرى كثيرة غير مسماة . وهذا ما تفعله أيضاً كل من ينابيع المياه الصغيرة والجداول والسواقي ومجمعات المياه وسيول المياه الصغيرة . فأن وجد في هذه قليل من الماء لا تتأخر عن تنفيذ الأمر. وكل منها يولد ويثمر ويفيض بالنسبة إلى دورته وطبيعة وكمية مياهه ومكانها. ومنها ما يؤكل مثل – أني أستعمل هنا الأسماء والتسميات الغربية – وهناك الأسماك الصغيرة، والصغيرة جداً . وهناك أيضاً الضفادع وغيرها من الأجناس الأدنى منها. فلا يبقى أي مكان رطب، مهما كان صغيراً ، دون أن يثمر، أما برغشاً أو بقاً أو حشرات أخرى صغيرة وحقيرة، وهي الأخرى تخضع لأمر الله القائل، لتخرج المياه زحافات ذات نفس حية. فالكل يخضع، والكل يولد، والكل يخرج بقدر مستطاعه والقوة المعطاة له من الخالق . فقد أثر ذلك الأمر في طبيعة المياه لكي تثمر وتولد وتخرج ذات نفس حية في البحار والأنهار ومجمعات المياه والينابيع . ولم يكن تأثير الأمر آنياً فقط، بل ما زال أثره سارياً ، فهو يطلب إليها لتكمل ما خلق فيها عن طريقه
طرق الولادة والتربية
ولنتحدث الآن عن تنوع طرق الولادة والتربية لدى هذه (الحيوانات) فأن مجمل ما نعرفه أو ما تسلمناه ممن سبقوا وعرفوه هو أن المعنيين الذين اجتهدوا أن يختبروا ويشاهدوا ويتعلموا ويدونوا في الكتب. يقولون عن الأسماك أنها لا تولد بزواج الذكور والإناث. ولا تحبل الإناث بشيء تستعيره من الذكور، كما هي الحال بالنسبة إلى حيوانات البر. لكن هناك حباً لبعضها البعض مقترناً بالشهوة كما يقال ، فتنجذب نحو بعضها البعض في الوقت المناسب دون أن تتزاوج جسدياً كالحيوانات والطيور أو كزحافات الأرض. إلا أن أجسادها تلتحم بدافع الحب والشهوة ، وتختلط الذكور والإناث وتزحف أجسادها جنباً إلى جنب بمحبة وتتزاحم وتتدافع وتحتك جوانبها ببعضها، فتدفأ الإناث فتحبل وتملأ كيساً دموياً بالبيض بكمية لا تحصى . ولما يحين الميعاد المحدد لها من قبل الخالق، تجتمع الذكور والإناث مرة أخرى في الأمكنة المناسبة للحفاظ على الوليد ، في مكان تكون المياه فيه هادئة، وليس فيه جرف لئلا يجرف بيضها، وحيث لا يوجد طين أو حمأة لئلا يغور فيها فيتضرر ويغدو غير صالح للتوليد. فتتواعد الذكور والإناث وتجتمع في مثل هذه الأمكنة بدافع الحب نفسه، ويقترب الذكر من الأنثى لغاية التوليد فيحتك بها ويحرضها على التوليد وإزاء ذلك ترمي الأنثى بيضاً من بطنها فيلقحها الذكر، وكل البيض الذي يصله منى الذكر ينشق فوراً ويخرج الأسماك التي تكونت فيه داخل بطون أمهاتها ، فتكتسب الحياة . أما التي لا يصلها المنى فلا تلد أبداً. وإذ تتوالد الأسماك في المياه ، فأن بعضها ينمو في المياه دون أن تقتات من حليب جسد الأمهات مثل الحيوانات ، ولا مثل أولاد الطيور، تتلقى طعامها من أفواه أمهاتها التي تجتهد فتجمع من بذور الحقل. او مثل التي تربي أولادها بالبق والذباب وهوام الأرض، لكن ساعدها يشتد أولاً برطوبة المياه ثم تتربى ويغدو الكثير منها طعاماً لوالديها، حتى تكبر وتقوى وتقتات بالتي هي أصغر منها. هذا ما يقوله العلماء عن ولادة الأسماك وتربيتها. لذا تتوالد بكثرة لتغطي بكثرتها غذاء والديها، والحفاظ على نوعها . ويبقى بعضها أبداً طعاماً للبعض الأقوى، حيث يأكل هذا ما هو أصغر، في حين أنه يصير طعاماً لما هو أكبر وأقوى منه. ويقال أن أصناف السلور والحنكليس وجميع التي تتوالد في الطين، تتغذى وتتربى بالطين نفسه بمقتضى ترتيب الخالق. فهي الأخرى مثل السمك تأكل بعضها، وتؤكل من قبل البعض الآخر
وبحسب ما يقوله العلماء الذين أخذ الواحد عن الآخر، أن هنالك بعض أجناس السمك أو من حيوانات الماء على كل حال، تحملها أمهاتها في بطنها زمناً محدداً ، فهي لا تتكون داخل البيض وتولد، بل في أحشاء البطون وفي أجساد أمهاتها. فتتكون وتكتمل في بطونها من دون بيض، مثل أولاد حيوانات البر التي أعتقد أن لها طرقاً متنوعة لتغذيتها وتربيتها ويقال أيضاً أن أولاد السرطان والسلاحف وجميع ذوات الأصداف، تتكون بطرق شتى، وجميعها تتوالد عن طريق التزاوج كما هي الحال بالنسبة إلى حيوانات البر، ولكن لا توالد كلها على نمط واحد. فهناك ما يضع البيض أولاً مثل الطيور، ثم تتكون الأولاد داخلها ، ومثال هذا السرطان وتمساح الماء. وهناك ما تحبل مثل الحيوانات وتلد أولاداً متكاملين وتربيها بطرق مختلفة ، بعضها داخل المياه، والبعض الآخر في البر على الأرض خارج المياه. وهكذا توجد اختلافات في طرق حمل وولادة وتربية الحيوانات المائية. ونحن نجهل أضعاف ما نعرفه لأنها لم تذكر أمامنا، وقد يعرف آخرون أكثر منا وبصورة أسهل. وإلى هنا نكون قد تحدثنا بقدر المستطاع عن الحيوانات المائية وولادتها وتربيتها وأنواعها المختلفة
في الأسماك
ولنتحدث عن هيئة وشكل السمك الذي خلقه الله لأجسامها. وعن تكوينها وملائمة شكل قشرتها ورؤوسها وآذانها وزعانفها, أي أجنحتها وأذنابها, وكيف أنها كونت من قبل الخالق الحكيم بشكل ينسجم وعيشها داخل الماء وللسباحة فيه بسهولة, كالطيور في الهواء, وعن تراكم العظام الصغيرة التي كونت لها في لحمها الطري, كما نتحدث أيضا عن الحيوانات البرية التي خلقها الله المبدع, والطيور التي تطير في الهواء والزحافات التي تدب على الأرض, كل بحسب ما أعطي له من الله من سلوك وتصرف, فقد جعل لكل منها أعضاء يسهل بها تحركها. فللحيوانات الأرجل الكبيرة والجلد والشعر, وللطيور أجنحة وريش ورقبة متينة وطويلة, وللزحافات الأرجل الصغيرة والكثيرة. أما للسمك فلا شيء من هذا القبيل, بل جعل لها رأسا دائريا وفما ملموما أصغر وأمتن قليلا من الرأس, وجسما عريضا من الوسط أكثر من رأسها وذنبها أي مؤخرتها الدقيقة والمتينة, على هذه الهيئة خلقها الله لكي تمتد بسهولة عندما تسبح في المياه وتسير فيها وتنتقل من مكان الى آخر مثل الحيوانات التي تسير على الأرض بأرجلها. وقد جعل لها أجنحة في جنبها وذنبا دقيقا يشكل هو الآخر زعنفة أي جناحا في مؤخرتها لكي تساعدها على السباحة في الماء كالأشرعة والسكان بالنسبة إلى السفينة, وتدير جسمها بسرعة حيثما تشاء, سواء على جنبها أم نحو الأمام أم نحو الوراء. فقد زودتها طبيعتها بهذه الأمور لسهولة تحركها في الماء, كما زادت فزودتها بالقشور المساعدة المتراصة في جسمها والملتصقة بشكل ملائم ومتجهة من الأمام إلى الوراء لتنزلق بواسطتها لدى سباحتها. وليس من الوراء إلى الأمام لئلا تعيق جسمها عن السير, وبدلا من الشرايين والأوردة جعل في لحمها طبيعة الثبات والقوة, وكثافة العظام الصغيرة التي تمسك بشدة رخاوة جسمها الرطب. وزاد فجعل في العظام شبه صنارات ماسكة لئلا تنتزع من لحمها بسهولة. كل هذه الأمور تفعلها الطبيعة التي خلقها الله الخالق للأسماك التي تسبح في المياه كما تسبح الطيور في الهواء, لكي تتحرك داخلها بسهولة ومرونة, وتنجو من الخطر عندما تشاء أو تشعر به, حيث أن الله منحها فهما غريزيا لتميز الضار والعدو, فتحذر منه وتنجو بنفسها, ذلك أن الله أولى اهتمامه لخليقته برمتها, فليس هناك في الخليقة من لا يحظى بعناية الله
لنتحدث أيضا عن أمور أخرى زودتها بها الطبيعة التي خلقها الله فيها, منهاأن الله جعل في داخل جميع الحيوانات والطيور والزحافات, عضوا يتقبل الهواء الذي تستنشقه بفمها وتحيا به حيث يدخل إلى هذا العضو المعروف بالرئتين وهو طري كالإسفنج تملأه الثقوب. وبهما أيضا تتمكن وهي تستنشق, بإخراج أصوات من حناجرها. إلا أن الله لم يزود أصناف السمك كلها بهذا العضو. إذ لم يخلق لها رئة في داخلها. فهي لا تستطيع أن تستنشق الهواء كما تستنشقه الحيوانات ، وبذلك لا تستطيع أن تخرج صوتاً من أفواهها أو حناجرها. فهي بلا صوت مدى حياتها. وإذا خرجت من الماء لتتنفس الهواء بأفواهها يدخل إلى بلعومها، وللحال تختنق به، كما يختنق الناس والحيوانات بالماء عندما يدخل رئاتهم. فالأسماك لا تستطيع أن تدخل الهواء إلى داخلها، لأنها لا تمتلك رئة، ذلك العضو الداخلي الذي يستقبل الهواء ، مثلما أن البشر والحيوانات لا يستطيعون تقبل مياه كثيرة في بطونهم أو أفواههم ، لأن آذانهم ليست مفتوحة على أفواههم كالسمك . فالسمك يستنشق الماء بدلاً من الهواء، إذ تفتح أفواهها ، وتخرجه بسرعة من آذانها لئلا يدخل إلى بطنها ، لأنها تختنق وتهلك إذا دخل الهواء بطنها، مثلما أن الإنسان والحيوانات إذا دخل بطنهم ماء أكثر من حاجتهم لاطفاء عطشهم ، فأنهم يهلكون ويفقدون الحياة نهائياً . هكذا أذن جهز الله كل واحد ما يلائم حياته ويصونها
وهناك أنواع من (الحيوانات) التي تعيش في الماء، لها مزايا كلا النوعين. فأنها تمتلك رئة العضو القابل للهواء . فلا يضرها الهواء وهي تستنشقه لدى خروجها من الماء. وتمتلك أيضاً مزايا ومكونات السمك، فلا يلحق بها ضرر عندما تنزل إلى الماء وتتجول في داخله دون أن يلحق به ضرر. هذه الأمور كلها صنعها الله المبدع الحكيم لمختلف أنواع الأسماك التي في المياه. وإذ حرمها استنشاق الهواء بفمها وبطنها ، فأنه جعلها ، وبمنتهى الحكمة ، ألا تتمكن من الحياة وهي تعيش في الماء ، دون مساعدة الهواء ، شأن البشر والحيوانات والطيور الذين ولئن لا يستطيعون أن يأخذوا الماء بكثرة من أفواههم وفي بطونهم مثل السمك، إلا أنهم لا يستطيعون الحياة دون الماء. هكذا السمك أيضاً ولئن لا تقوى على اقتبال الهواء في داخلها كالبشر، إلا أنها لا تستطيع العيش في الماء دون مساعدة طبيعة الهواء. فقد جعل الله في داخلها نفاخة بلا فم مملوءة هواء بصورة دائمية مثل زق مغلق مملوء هواء، يطوف عليه بسهولة ، السباحون الذين يمتطون زقاقاً منفوخة ويطوفون فوق الماء، لذا تكتسب الأسماك قوة بارتفاعها من العمق إلى الأعلى، حيث تدفعها إلى الأعلى نظراً إلى خفتها ولصعوبة بقاء الهواء في الماء. من هنا نعلم ، أن الأسماك ولئن لا تستطيع استنشاق الهواء، غير أنها مركبة هي الأخرى من العناصر الأربعة كما أسلفنا. فلا تستطيع الحياة في الماء دون مساعدة الهواء، وهكذا تكون الطبيعة قد زودتها بكل هذه الأمور، إذ لم تحرمها الاشتراك بالحواس الخمس ، فهي تنظر وهي داخل الماء وتسمع وتتذوق وتحس، وهي ولئن لا تستنشق الهواء، لكنها تمتلك حاسة شم الرائحة وتتجه حيث توجد الرائحة طلباً للطعام ، سواء كانت الرائحة متأتية من داخل الماء أم من خارج الماء، إذ تمتزج قوة الرائحة بالماء وتخضع لحاستها . على كل حال، فهي تمتلك حاسة الشم، بل وتشترك في الحواس الخمس، أن لم يكن بصورة كلية كالحيوانات ، فبصورة جزئية. فقد منحها الخالق المبدع منها بقدر ما تحتاج إليه، من أجل حياتها
لذلك يجب أن يتطرق الحديث والبحث إلى قوة ذلك الأمر القائل”لتخرج المياه كل ذي نفس حية”، خشية أن يبقى شيء منها لا يتناوله البحث، حتى تلك التي يدعوها مبتكرو السماء الحيوانية، التي تنمو وتترعرع بين الصخور داخل مياه البحار، منها الإسفنج مرجانة ، وغيرها كثير على شاكلتها . فأن أمثال هذه تتحرك بفعل أمرين ربانيين، الأولذاك الذي قال فيه “لتخرج الأرض عشباً”، والآخرهذا الذي يلزم المياه “لتخرج ذات نفس حية” فالأول صدر إلى طبيعة التراب لتخرج عشباً، والثاني صدر إلى طبيعة الماء لتخرج ذات نفس حية. وحيث أن طبيعة التراب الذي فوق الصخور البحرية كانت ممزوجة مع مياه البحار التي تعلوها، لذا خضعت لكلا الأمرين على حد سواء ، فباعتبارها تراباً ، تلقت أمراً لتخرج عشباً ، وباعتبارها ماء، لتخرج ذات حية حساسة. فقد خضعت وتحركت وسمعت شيئاً ما مختلطاً وعجيباً. وهكذا أعطي التراب طبيعة مبدعة وفاعلة ليلد ويخرج ما ينبته التراب مثل العشب في حين أن جذوره متغلغلة في الصخور داخل الماء كالنباتات . فهو يمتلك إحساساً وحياة منحت له من قبل طبيعة المياه التي أمرت فأخرجت نفساً حية. وهكذا حدث وولد هذا المزيج الذي يجب أن يدعى حيواناً لأنه يمتلك الإحساس ، ومن حيث أنه متأصل في الأرض ولا يتحرك من مكانه، استوجب أن يسمى نباتاً . ومن حيث اختلاط وتركيب كلا المسميين ، تمت تسميته الحيوان النباتي من قبل اختصاصي التسميات والكتاب اليونان الذين كتبوا عن هذه الأمور وعن كل ما في المياه ، سواء كانت سمكاً أم سلوراً أم حنكليساً الذي يولد في الطين، أم صدفيات أم برمائيات أو حيوانات نباتية . أو ما أشبه ، هذه كلها خلقها الله المعني بالإنسان لتكون في خدمة وتحت سلطة الجنس البشري، للطعام ومعالجة الأجساد أو لغيرها من الاستعمالات الضرورية
فمنها أنواع صالحة للأكل وهي لذيذة جداً. ومنها ما هو غير صالح للأكل اطلاقاً، نظراً إلى كثرة نتانتها ولحمها الكريه، مذاقاً ورائحة، وتوجد مثل هذه بين الحيوانات البرية أيضاً. ويكون لحم بعضها قاتلاً لآكليه، ومنها ما لا يؤكل، لكن لحمها يفيد للعلاج ولغيره من الاستعمالات الأخرى. ترى من أين هذه المزيجات والعقاقير الناجعة لمعالجة أجسام البشر والحيوانات التي تستخلص من باطن الأرض، أن لم تكن من زحافات المياه ومن الأسماك، ولا سيما من التي في مياه البحر، وأسمح لنفسي أن أقولأن فوائد هذه الحيوانات المائية لا تقتصر على معالجة الأجساد فقط، بل تستغل أيضاً لصناعة العطور التي تنتج كل أنواع العطور الفاخرة ذات الرائحة الممتازة، وقد اكتشف نوع منها يفوق بطيب رائحته الزكية، طيوب العالم كلها. ويقول الاختصاصيون، أن هذا النوع من الأسماك يصعد من بحر الهند. وهناك أنواع أخرى من الحيوانات المائية ذات فوائد متعددة . للمعالجة والعطارة، فهي تدخل في حرفة الصباغة وغيرها من الحرف الأخرى، فمن أين الأصباغ الفاخرة الراقية الأرجوانية اللون التي تصبغ بها ثياب الملوك؟ أن لم يكن من دم حلزونيات البحار الذي يفوق منظر جماله جميع ألوان وجمال زهور الأرض ورياحينها . من أين مهنة تركيب العقاقير والأطعمة اللذيذة التي يحذق بها الناس؟ من أجل إثارة البطن الشرهة ؟ أن لم يكن من لذاذة لحم الأسماك والزحافات المائية الطيب والمتنوع اللذة. ترى لماذا أجهد نفسي بكل هذا الحديث عنها؟ فأن كل أنواع الحيوانات البحرية وجدت صالحة وذات فوائد جمة متعددة الجوانب وضرورية للناس، وبهذا تتأكد شهادة الروح التي قيلت فيها”ورأى الله أن ذلك حسن، فباركها الله وقال لها، أثمري واكثري واملأي المياه في البحار”. ويمكن تفسير كلمة “حسن” بكلمة صالح ومفيد . فإذا كانت كلمة الله تشهد لها بأنها مفيدة، وباركها . فجميعها صالحة ومفيدة وضرورية للناس. فلم يخلق الله شيئاً منها مهما كان صغيراً دون جدوى على الاطلاق . ولئن ظهر لنا جهلاً ، أن بعضها ضار ولا فائدة منه، نكتفي بهذا الحديث عن الأسماك وغيرها من الحيوانات المائية
الطيور والماء
أما بالنسبة إلى أمر الله الصادر إلى طبيعة الماء والقائل”لتخرج المياه زحافات ذات نفس حية” مع الأسماك والحيوانات المائية، فيبدو أنه يشمل اخراج جنس آخر أيضاً ، إذ اضاف عبارة “وليطر طير فوق الأرض على وجه جلد السماء”، فعلينا أذن أن نتحدث عنها بقدر ما يمد به الروح كلمتنا القاصرة الضعيفة من العون والاستنارة
يقول “لتخرج المياه زحافات ذات نفس حية، وطيوراً تطير فوق الأرض على وجه جلد السماء”. فكيف التعقيب على هذا؟ أن الطيور أيضاً تخرج من الماء. نعم يقول الروح، فإذا كانت تخرج من الماء، فأن المعقب يتساءل لماذا لم تعش هي الأخرى في الماء كالأسماك ؟ بل مثل الحيوانات فوق الأرض ؟ أنها لجسارة حقاً ممن يحاول أن يكون وصياً لله، فمن ترى “أدرك عقل الرب أو من كان له مشيراً” . من أدرك عظمة أعماله أو من فهم خفاء أحكامه؟ “فالسرائر لله وحده، يقول الروح، والمعلنات لنا ولبنينا” . وأضيف فأقول من المعروف أنه يدعو “بنينا” جميع البشر الذين لم يعطوا بعد القوة الكامنة في خليقة الله. بل الأشكال الظاهرة لأجسام جميع الكائنات المحسوسة فقط. فأننا نراها رؤية العين، أما كنهها الحقيقي ، فلم تدركه عقولنا بعد. كما لم ندرك أسباب خلقتها، ولا استطعنا معرفة معناها الخفي. يقول الروح المرتل “أرى السماء عمل أصابعك”. أما البشر فلم يروا فيها بعد سوى لون منظرها الأسود والعميق. لذلك ليس من شأننا أن نتساءل ونقوللماذا خلق الله القادر على كل شيء الطيور من الماء كالأسماك دون أن يدعها تعيش في الماء مثلها. وليس من اللائق أن نشك ونبحث عن مثل هذه الأمور، وإلا لوجب أن نشك فنتساءل ، لماذا لم يخلقها من الهواء وقد كانت عتيدة أن تتحرك فيه؟ ولو انها خلقت من التراب، لقيل أيضاً ، لماذا خلقت من التراب في حين أعطيت أن تطير في الهواء؟. كل هذه الأمور ممكن التشكك فيها. لكن علينا ألا نعترض بسببها على الله القادر على كل شيء دائماً. وهو يعمل كل ما يشاء كما كتب ، وحيثما وكيفما شاء ومن أين شاء. وليس هناك من يعارضه ويقول لهماذا تفعل؟. وأن رغب أحد في التشبيه يقولأن السمك والطيور كونت من الماء، أما لتشابه تصرفها، فتلك في الماء وهذه في الهواء، حيث أن الطيور تسبح وتشق الهواء كما يشق السمك الماء ويسبح فيه، وأما لأن كليهما تلد أولادها بوضع البيض وليس كالحيوانات
ولنقل كلمة متزنة وبعيدة عن الانتقاد أن الله خلق الطيور من الماء ليظهر مدى اتساع نطاق حكمته وعظمة اقتداره . والأصح ، وهذا هو المبدأ الحقيقي ، هو أن هذا من شأن من يخلق وليس من شأننا . فأنه لأمر طبيعي، أن الطيور خلقت وتخلق من المياه بموجب أمر الخالق. ولم يشر إلى هذا ما كتب عن بدء الخليقة فقط ، بل هناك حديث آخر، للروح الالهي جاء في الكتاب المقدس، وهوعندما اشتهى الشعب الجاهل أكل اللحم في البرية ، أمر الله أن تساق من البحر الأحمر سلوى بأعداد كبيرة لا تحصى بحيث تكفي لاشباع ربوات شعب اسرائيل التي لا تحصى، أياماً كثيرة فمثلما أن هذا دليل قاطع على أن الله جعل طبيعة المياه مولدة للأسماك، كذلك جعلها أن تخرج طيوراً. يقول”لتخرج المياه ذات نفس حية، وطيوراً تطير فوق الأرض” لكي لا يقتصر الجمال على طبيعة الماء فقط، بل يكون لطبيعة الهواء النقي كذلك جمالها الخاص، تكتسبه مما تتجول وتسبح وتحيا وتبتهج فيه. شأن السمك في المياه. هكذا صدر الأمر فكان ، يقول”وخلق الله تنانين هائلة وكل نفس تدب”. هذه التي أخرجتها المياه كلا بجنسه، وكل طير يطير كجنسه
يبدو من هذا، أنه منذ البداية تميز كل نوع وحدد جنسه. فأن المياه أخرجت كل نفس تدب كجنسها ، وكل طير يطير كجنسه. فقد ميزت هذه العبارة وحددت كل جنس ، ليس بالنسبة إلى الحيوانات المائية فحسب، بل إلى الطيور أيضاً . ففي بادىء الأمر فصلت بين جنسين. تلك التي تسبح وتعيش في الماء، وجنس الطيور التي تطير في الهواء. وقد تفرعت من هذين الجنسين أصناف متعددة ومتنوعة من أسماك وغيرها. كما سبق وأوضحنا بقدر المستطاع
أنواع وأصناف الطيور
أما الطيور فنوعان رئيسيان ، ذوات الريش التي تعرف بـ “منفصلة الأجنحة”، وذوات الأجنحة الغشائية. وهذه تنقسم إلى أنواع لا تحصى ، وذوات الريش الكثيف تنقسم بدورها إلى نوعين رئيسيين، تلك التي تسمى بحسب العرف ، طيوراً جارحة وهي شرهة وآكلة اللحوم، وتلك التي تدعى طيوراً أليفة وهي تأكل العشب وتقتات وتعيش على بذور الأرض، وهي بدورها تنقسم إلى أنواع كثيرة لا تحصى ، كبيرة وصغيرة ، ذات ألوان وأشكال مختلفة، ولا يشبه بعضها البعض. وتنقسم ذوات الأجنحة الغشائية ، هي الأخرى إلى أنواع كثيرة ومتباينة لا يشبه بعضها بعضاً أبداً
هكذا أمر ففصلت أجناس الطيور وأنواعها منذ البداية، وهي تتناسل وتعيش منفصلة ، كل بحسب جنسه ونوعه حتى النهاية، وكل منها يفعل ما طبع عليه، ويقتات على ما أعطاه الخالق المعني به. يقول”تنتظر منك أن تعطيها طعامها في حينه، فتعطيها فتقتات، وتفتح يدك فتشبع”. فهي لا تستفيد فقط من الطعام المحدد الذي يسد حاجتها بمقتضى ما أعطاها الخالق المعني، بل تتصرف مدى حياتها على الأرض وفي الهواء، بمختلف أنماط الحياة التي قسم لها المبدع والمنظم بما يناسب كلا منها، من تزاوج وحمل وولادة وتربية الأولاد في مناخات ومناطق وبلدان تنسجم مع حياتها، حيث تصنع لها فوق كهوف عالية وشامخة، ورؤوس الصخور التي لا تطال، بيوتاً وأعشاشاً آمنة لتربية وحماية أولادها، أمثال العقاب بأنواعه والغواص بأجناسه وما شابهها. وتشيد غيرها أعشاشاً فوق المباني العالية الشامخة، وتربي أولادها بكل أمان دون خوف . مثل النسور واللقالق والحدأة وغيرها من التي تتصرف نفس التصرف ، فتجلب ما يصلح لاطعام أولادها ونموها. فالنسور تصطاد الأرانب والطيور من حجول ويمام وبوم البر، واللقلق يصيد الحيات والضفادع وفئران الحقل . والحدأة تصيد فراخ الطيور وتخطف ما يصادفها من انواع اللحوم. وتلك التي تقصد الأماكن التي تكثر فيها المروج والمياه من أجل التوالد وتربية أولادها، مثل الكركي التي تذهب كل سنة إلى بلدان والسرامطة، أما السنونو فيأتي من مصر ومن الحبشة إلى بلاد سورية حيث يلد ويربي أولاده داخل بيوت الناس بأمان ودون خوف. وغيرها من الطيور تصنع لها أعشاشا على أفنان أشجار الحقول البسيطة، فتلد وتربي أولادها . دون خوف ، وهي حذرة جداً. مثل العصافير التي تلد في شقوق جدران بيوت الناس
ومن الطيور الضعيفة ما تتربى في المغاور والأمكنة الخفية وفي أعالي الاسوار والكهوف الحادة ورؤوس الصخور، وتصنع لها أعشاشاً من الطين تشبه الشقوق وتلد أولادها وتربيها على الأرض ، في الجبال والحقول ، دون خوف. وغيرها أليفة جداً ، تألف الإنسان وتسكن مع الناس وتأكل في بيوتهم ، وتلد وتربي أولادها بكل أمان ، مثل الوز والدجاج والحمام والدراج وسائر الحيوانات التي تألف الناس.
ومن الطيور، ما أعطاها الله حجماً كبيراً مخيفاً لكنها قليلة الذكاء وصغيرة العقل، حتى انها تضع بيضها على التراب على قارعة الطريق وتتركها فتدوسها أرجل الناس والحيوانات فتحرم الأولاد كما حرمت الفهم، ومثالها الطير الهندي الذي يسميه العبرانيون كنفي شباحيم أي الرخ أو الطير الجميل . وتلك التي ورد ذكرها في حديث الله مع أيوب على شكل سؤال قائلاً “.. أنك تستطيع أن تقوم أمام النعامة الكبيرة والتي تأتي طائرة .. وتترك بيضها وتحميه في التراب وتنسى أن الرجل تضغطه أو حيوان البر يدوسه. تقسو على أولادها كأنها ليست لها، باطل تعبها بلا أسف لأن الله قد انساها الحكمة ولم يقسم لها فهماً عندما تحوذ نفسها إلى العلاء تضحك على الفرس وعلى راكبه”. كذلك النعامة ، الطائر الراجل ، فقد حرمها الله من الطيران نظراً إلى كبر جسمها ، حيث لم يعطها أجنحة طبيعية تتناسب وجسمها، فهي الأخرى تضع وتربي فراخها على التراب، مشاركة في الحقارة جميع الحيوانات الحقيرة . وهناك أنواع أخرى من الطيور، لا تقوى على الارتفاع في الطيران بعيداً عن الأرض نظراً إلى كبر جسمها، فهي الأخرى تبقى دائماً ذليلة على الأرض. وتقتات على حشرات الأرض وهوامها ودبيبها الحقير، حيث لا قوة لها لتبتعد في طيرانها ، مثال ذلك البجع البري الذي يقتصر في طعامه على العقارب وما يشابهها
ويجب ألا يفوتنا الحديث عن ذلك الصنف الفريد والمتميز والمتغير الذي يصنف مع الغرباء السود أي جنس الغرباء، فأنه طائر غير طاهر وشره، ويقال أن بيتها ذكوراً وإناثاً وهي تضع البيض وتفقسها وتربيها مثل بقية الطيور ، لكنها لا تتزاوج كالطيور، لكنها لا تتزاوج كالطيور، فلم يشاهدها أحد من الناس تتزاوج كسائر الحيوانات والطيور. ويجب ألا يوضع موضع السخرية ما يقال عنها ، من ان الذكر يمس فم الأنثى بشيء من الحب والشهوة فتقبل منه الحبل بهذه الصورة وتضع بيضاً وتخرج فراخاً فتتربى وتحافظ على نوعها. فهذه كلها وما شابهها، القبرة والغربان والبلق وغيرها من أنواع القبرة تتوسط بين الطيور الجارحة والطيور، فهي كالجارحة تأكل لحماً، وكالطيور تأكل عشباً وبذوراً
وهناك أيضاً الطاووس ، هذا الطائر المتعجرف بسبب جمال ريشه وما فيه من جمال طبيعي، وهو في الوقت نفسه مجنون وشبق، وبسبب تصرفه هذا، لم يعتبره الكتاب المقدس طاهراً بل نجساً، علماً وكما يقال، أن لحمه لذيذ أكثر من سائر الطيور
وهناك طيور أخرى تعيش دائماً في المروج والأنهار وشواطىء البحيرات والأماكن الرطبة. وتعشش فيها وتلد وتربي فراخها وتغذيها كما تتغذى هي أيضاً من الأسماك والحشرات المائية الصغيرة . وأمثال هذه، القبح ، وتلك التي تقتنص السمك والعلجوم ونسور الماء وما يشبهها كثير. وكذلك تلك التي تسمى وديك الماء وغيرها كثير من التي تعيش في الماء وهي أقرب إلى البرمائيات ، وهي تقتات بالأسماك والحشرات المائية مدى حياتها. وبسبب عيشها في الماء ، فقد جعلت الطبيعة أغشية أرجلها غير مشقوقة وأصابعها غير منفصلة عن بعضها البعض، لكي تشق بها الماء وتسبح.
وهناك ما يعيش في الغابات والمناطق المكتظة بالأشجار لكونها ضعيفة ، وفيها تبني أعشاشها وتلد وتربي بنيها . ومنها ما تعيش حياة دنيئة جداً، ولا تأتمن على حياتها بترك الغابات لئلا يصادفها ما يفتك بها، وهي كثيرة الغناء حيث تتكرر مناغاتها بعضها لبعض بألحان متناسقة وألفاظ تشبه ألفاظ الناطقين (الناس)
طبائع وعادات الطيور
أما عن الطير الحذر والخائف في آن واحد فنقول أنها لا تهدأ عن العناء حتى وهي تحتضن بيضها وتحمي نفسها وعشها من المعادي . وهناك طيور أخرى تعيش بصورة دائمية على سواحل البحر. وأحياناً تسبح فوق أمواج البحر وكأنها على الأرض
فبمثل هذه الحياة زودتها الطبيعة ؛ وهي تبني أعشاشها على سواحل البحر حذراً وخشية ، فتلد وتربي ، ويذكر بعضهم طيراً صغيراً وضعيفاً يسميه اليونان نسر الثريا يضع بيضه في الشتاء على رمال سواحل مياه البحر ، وحين يتساقط عليها المطر وتهب الرياح ، يحتضنها ويحميها فتفقس عن فراخ فيربيها . ويقول الخبراء الذين يكتبون ويتحدثون عنهاأنها في خلال أسبوعين تضع بيضاً وتخرج أولادا وتربيها وتطيرها. وأن عناية الله بخليقته تمنع هبوب الرياح في البحر خلال هذه الأيام، فلا تتلاطم فيه الأمواج أو تثور اللجج سواء فيه أم على سواحله ، وذلك من أجل أن تصان فراخ نسر الثريا . وإذ أدرك البحارة سبب ذلك الهدوء ، أطلقوا أسم نسر الثريا على تلك الأيام
وهناك طيور أخرى تتواجد دائماً على الجداول وقنوات المياه والأماكن الرطبة، وتحفر في الطين وتتغذى على دود الأرض فقط، وهناك ما تتوالد وتتربى في الأقطار الحارة مثل الحبشة ، ويسميها بعضهم ببغاء فهي الأخرى ذات صوت رخيم نظراً إلى يبوسة أجسامها ومتانتها وقلة أكلها ، ويروى عنها أنها تتعلم بعض الكلام ، وهذا ما ذكره كثير من الخبراء الذين شاهدوها شخصياً . ويوجد منها أنواع كالتي تعرف بالوروار، فأنها تصنع شقوقاً داخل الأرض في جرف التراب ، والتلال المطلة على الأنهار حيث تبني أعشاشها وتلد وتربي، وتقتات بالنحل والذباب وما شابهها
وهناك طيور أخرى شرهة ونحيلة لذا فأنها تبني أعشاشها في القبور والأماكن النتنة، فتلد وتربي وتقتات بالمأكل القذرة. وأمثال هذه، الهدهد والشقراق وما شابهها من ذوات الرائحة النتنة
ومن الطيور ما تحب الظلام ولا تبصر إلا في الليل ، وأمثال هذه، ما يسمى الرخم وقد اشتق أسمها مما تلفظه ، والبوم، الطيطوي وما شابهها كثير. ولكن هناك ما هي أكثر حباً بالليل والظلام، وهي الخفاش ذات الأجنحة غير المشقوقة، كما وليست من ذوات الأجنحة الغشائية ، لكنها جلدية الجناح لأن أجنحتها ضمن جلدها، وكل طعامها من البرغش والبق . وهذه ولئن كانت من جنس الطيور ، وتطير في الجو كسائر الطيور لكنها تتميز وحدها بمزية خاصة لا شبيه لها لدى أي نوع من الطيور، وهي وجود أربع أرجل لها لا رجلين كالطيور، ولا تتوالد بالبيض بل بنيها في بطنها مثل الحيوانات ذوات الأربع الأرجل وتضعها متكاملة وترضعها حليباً من جسمها وتربيها كبقية الحيوانات. وحيث أن لها أسناناً وأربع أرجل كالحيوانات والزحافات، فمن الحق والعدل أن تسمى فئراناً طائرة. وألا تنسب إلى جنس الطيور
وإلى جانب ما تم الحديث والبحث عنه، من أنواع الأطعمة ، وحمل وولادة وتربية وحياة الطيور المتنوعة وفي مختلف المناطق، نقولأن هنالك ما تعيش فرادى إلى أن يحين وقت تزاوجها ، فيولد منها زوج واحد. أمثال اليمام المتصفة بالعفة. يقول الخبراء عنها، إذا مات أحدهما وظل الآخر فأنه يصون عفته مدى حياته، ذكراً كان أم أنثى، ويبقى في حالة انتظار شريكه دون أن تكون له شركة أبداً مع أي كان. وهناك ما يسير رفوفاً رفوفاً مثل الحجل والورشان. وغيرها تتجمع بكثرة وتهاجر مثل جيوش الجراد التي لا تحصى . وكذلك تتجمع بمجاميع كبيرة تلك التي تدعى أي السن / الحسون التي تحط بمجاميع على الزيتون والزروع. وكذلك ضرب من القطاة التي تأتي بمجاميع إلى زروع الفلاحين ، والعصفور الملون المسمى سمرمر أو عصفور مادي، (ربما لأنه يأتي من مادي) . الذي يرسل من قبل الله للقضاء على الجراد عندما يرأف بالبشر الذين يلحقهم التأديب، فتأتي بمجاميع كبيرة وجيش لا يحصى ، فتأكل دون شبع وتقضي على الجراد وتبيده تماماً، وتخرج أصواتاً وتثور كالأبطال المقاتلين الذين يفتكون بأعدائهم
وهناك من الطيور ما جعلها الله قصيرة العمر، وجعل غيرها طويلة العمر، فيقال أن العقاب والحمام من ذوات الأعمار الطويلة أكثر من سائر طيور الأرض، وقد تعيش نحو مئة عام في هذا العالم. وتختلف الطيور بعضها عن البعض في الطيران وفي غيره من الأمور التي نعجز عن إدراكها أو إحصائها أو سردها هنا واحداً فواحداً
ولكن لا بد من تسجيل اختلاف واحد هام ورئيسي بين الطيور بحسب ما ميزها الله، وقد كتبه الروح بواسطة موسى واضع الناموس، عندما ميز المأكل الطاهرة من النجسة. وقد جاء هذا التمييز في سياق كلامه التالي”وهذه تكرهونها من الطيور، لا تؤكل ، أنها مكروهةالنسر والأنوق والنسر قناص السمك، والحدأة والباشق على أجناسه وما شاكلها. والبوم والطيطوي والرخم والشقراق وما شاكلها ، واللقلق والبجع والهدهد والباشق والباز وكل أجناسها وما شاكلها
والعقعق والوروار وكل أجناسها وما شاكلها ، والطاووس والكركي وفورفوريون أي الوروار وكل أجناسها ، السنونو والزرزور وما شاكلها ، والهدهد بأنواعه والخفاش ، وكل دبيب الطير الماشي على أربع فهو مكروه لكم. وهذا تأكلونه من جميع دبيب الطير الماشي على الأرض وهذا منه تأكلونالجندب على أجناسه، والحرجل على أجناسه وما شاكلها مما لها أرجل كبيرة تقفز بها غير الأربع التي تسير عليها ، وما إلى ذلك، كل دبيب وجنس الطير له أربع أرجل مكروه لكم”
هذا هو التمييز الكبير والاختلاف الرئيسي الذي أشار إليه الروح الملهم ، واضع الناموسبين أصناف الطيور التي خلقها الله على الأرض لتطير في الهواء.
وندرج هنا بالتفصيل وعلى قدر المستطاع ، الطيور الطاهرة ، ولئن لم يوردها الكتاب، وهيالحمام واليمام والورشان والقطاة والحجل والسلوى والسمانة والوز والبط المائي وديوك الماء وجميع الطيور المائية المشابهة لهذه ، وديوك السلام والدراج واللقلق وجميع أصناف العصافير، وكل الطيور الصغيرة التي تأكل العشب وتلتقط البذور . لقد اخترنا هذه النماذج ووضعناها هنا ولئن لم يذكرها الكتاب الالهي، فهي تتميز وتختلف، كما قيل ، عن الطيور المعروفة بالجارحة التي تأكل اللحوم، الشرهة والخاطفة والقاسية على الطيور مثل المحاربين والقتلة. فالتي يسميها الكتاب طيوراً هي تلك التي تأكل العشب والبذور ، وللطيور صفة مميزة أخرى تكمن في هيئة جسمها. فأكلة اللحوم الشرهة، لها مناقير معقوفة وحادة وقاطعة مثل السكين لكيما تقضة على الفريسة بسهولة. ولها مخالب حادة وطويلة لتخترق وتبقر بطون فرائسها . كما تختلف باقي الطيور عن هذه بمنظرها ، وبطبيعتها وشكل أجسامها
الذكاء عند الطيور
أما عن كيفية تصرف الطيور فنقوللقد منح الله الخالق قسماً منها بعض الفهم. فهناك أصناف مختارة وذكية من الجدير أن تكون لها مكانة لدى الذين يميزون الصالح من الطالح . يقول الكتاب عن الطيور “ ان اللقلق في السماء يعرف ميعاده ، واليمام والكوكي والسنونو طيورو البر ، تعرف وقت دخولها “ ، ووقت الدخول عند المتاب هو وقت هجرها الى المناطق الحارة لدى حلول الشتاء ، وكذلك وقت عودتها الى مناطقها الأصلية . وهذا أمر معروف زوجدير بالذكر . فان معرفتها تشبه المعرفة التي يكتسبها الناس بالفكر الفاحص
الحجل
ويجدر الحديث أيضاً عن الحجول التي يقال عن ذكورها، أنه إذا رأى الاناث وقد وضعت فراخاً كثيرة وهي تلاطفها وتفخر بها وقد أحاطت بها، يمتلىء غيرة وحسداً، فيذهب سراً إلى عش الاناث ويسرق من بيضها ، ويجمع في عشه بيضاً كثيراً ويجلس عليها ويحتضنها حتى تفقس . فلما تخرج من البيض وتكبر ويشتد ساعدها ، تترك العش فارغاً لدى سماعها صوت أمهاتها، ويقصد كل منها أمه. وربما كان هذا مثالاً ومؤشراً للناس إلى أن كل عمل اثم يؤول إلى العبث. يقول الكتاب المقدس بهذا الخصوص “حجلة تحتضن ما لم تبيض محصل الغنى بغير حق” . ويقال عن الأنثى أن حيلتها لا تقل عن حيلة البشر. فعندما تكون فراخها ما تزال عاجزة عن الطيران، وتود أن تأخذها إلى مكان ما لاطعامها ، فإذا صادفت إنساناً ما في طريقها وهي تسير معها، فأنها تصيح بهدوء وتسير بشكل يوحي إليها أن تهرب وتختفي. أما هي فتتغافل بخداع وتسير وكأنها مريضة وعرجاء، باسطة أجنحتها على الأرض وتبدو وكأنها ستسقط هنا أو هناك من جراء ضعفها ، بقصد أن يركز عليها ذاك الذي صادفها ويغض النظر عن فراخها حتى تتفرق هنا وهناك وتختفي في مواضع لا ترى ولا تكتشف
اللقلق
أما بخصوص ما دونه علماء الطبيعة عن اللقالق ، فأنه جدير بالثناء والاعجاب سواء من جهة فهمها أم عقلها أم عدالتها ، فأنها تبكت وتدين الذين يحتقرون آباءهم وأمهاتهم. فيقول هؤلاء الذين كتبوابعد أن يطعمها آباءهم ويربوها بكل رعاية حتى يكتمل نموها وتصبح متساوية لآبائها في الجسم وترافقها إلى البرية بعد التدريب على الطيران بضع مرات وليومين أو ثلاثة أحياناً . وتجلسها كما اعتادت هي أن تجلس ، تخرج (الأبناء) إلى البرية وتأتي بالطعام مكافأة للتي ولدتها وربتها ، فتطعمها بكل وقار واحترام ، كما سبق واقتبلت منها طعامها. ويقال أيضاً أنها (الأبناء) تسند (الآباء) في شيخوختها بأجنحتها لدى طيرانها معها في الجو، وتدفئها بجناحيها وهي راقدة في أعشاشها . لذلك فقد لقبها علماء الطبيعة بالطيور العادلة، ووصفوا كل مكافأة صالحة يقدمها الأبناء العقلاء للآباء بـ “اللقلقية” . ويروى عن غيرتها الحميدة وحكمها العادل الذي لا يحابى ، والذي يثير اعجاب وثناء الجميع ، أنها إذا صادف وأن بنى زوج من البواشق وآخر من اللقلق أعشاشها بالقرب من بعضها ، ويضع كل منها بيضة في عشه، وصادف أيضاً أن خرجت جميعها إلى البرية وابتعدت ، وجاء شخص ما وأخذ بيضة من بيض الباشق ووضعها بين بيض اللقلق، فحينما تخرج الفراخ ويأخذ ريشها بالنمو، وتميز سواد الفرخ الغريب عن بياض أفراخ اللقلق، ترى ماذا يحدث ؟ وماذا يفعل الذكر الجدير بالثناء والإعجاب ؟ إنه يجمع لقالق كثيرة ويريها ما حدث في عشه من اختلاف الطبيعة، الأمر الذي يشير إلى خيانة زوجته، فيصدر كل من أولئك حكماً عادلاً وعجيباً يشبه ما يصدر البشر من الأحكام ، فأنها تغار بشدة وتهجم على تلك الأنثى وكأنها قد زنت متعدية حدود الطبيعة ، فتقطع لحمها وتمزقه وتفتك أيضاً بذلك الوليد الغريب الذي وجد في عشها ، فبهذا المقدار تظهر استقامة وعدالة اللقلق، أكثر من الحكام البشر المرائين
هجرة الطيور
وماذا يقول المرء عن تنظيم الطيور وحذرها، وهو يراها تضاهي البشر المفكرين. فهي تبني أعشاشاً وتربي أولاداً في أماكن كثيرة وبعيدة الواحد عن الآخر في المدن والقرى وفي الأشجار والجبال والأنهار. وعندما يحين وقت هجرتها إلى مناطق حارة في الجنوب لتشتي هناك، لا يذهب كل بمفرده أو بمجاميع صغيرة ، بل أن جميع التي توجد في قطر واحد الذي فيه تضع بيضها وتربي أولادها وتمضي صيفها ، تهاجر سوية. حيث تقضي يوماً في مكان ما وأحياناً أسبوعاً كاملاً إذا اقتضى الأمر لتتجمع على شاطىء نهر ما أو مرج أو أي مكان ملائم لتجمعها ، حتى يجتمع الكل فتهاجر الضعيفة مع القوية، والفتية مع البالغة، حيث لا يفقد أو يتأذى أي منها . فهي تنتظر بعضها البعض ليلا حيث تبيت، وتتواعد وتحط بكل حذر على الأشجار ، وعندما ترحل فسوية مثل أرتال الجيش ، وسوية تحط أيضاً وعندما تبغي الرحيل فأنها تصوت بقرع مناقيرها شبه بوق الجيش. وهكذا ترحل سوية بكل هدوء وحذر ، وتغير أمكنة نزولها وتحط فيها في الوقت المقرر. وفي فجر كل يوم تقتات بما تجده في هذه الأمكنة ، ثم تواصل رحيلها بحذر ونظام حتى تصل إلى المكان الذي تشتي فيه. فالتي تمضي صيفها وتتوالد في سورية وما بين النهرين ، تشتي في منطقة البحر الميت المتفرغ من نهر الأردن. نظراً إلى حرارة المنطقة وسهولة تأمين الطعام من الضفادع المتواجدة هناك بوفرة، ومما يروى عنها، أن القبرات تجتمع سوية لدى رحيلها وتشيعها بالحب ومحبة الغرباء.
القبرة
وإذا كنا قد تحدثنا بما فيه الكفاية وبحسب المستطاع والوقت، عن نظام وحذر وفهم وذكاء هذا الصنف من اللقلق ، يجدر بنا ألا نهمل الحديث عن صنف القبرة، فنذكر ما تمتلك من المزايا الحسنة كحبها لأولادها واهتمامها بهم. يروى عنها، أن لها اهتماماً بتربية أولادها وحراستها أكثر من سائر الطيور، ليس فقط في صغرها عندما تكون في الأعشاش بعد، بل وحتى لدى مغادرتها إياها وطيرانها، فانها ترافقها لكي تطعمها وتقيها شر الأعادي، وتظل تساعدها فترة طويلة حتى تتأكد من انها لم تعد بحاجة إلى مساعدة والديها ومربياتها
الكركي
أما بالنسبة إلى الاهتمام والمساعدة المتبادلة، فنقدم الكركي مثالاً لذلك، لا سيما خلال فترة نومها أو هجرتها إلى الغرب أو عودتها . وهنا لا يسع الإنسان إلا أن يمجد الخالق المبدع الذي أودع فيها مثل هذا الذكاء والفهم لكي تساعد من ذاتها بعضها البعض دون أن يحثها أحد على ذلك . فعندما تنام في الليل تختار الأمكنة الآمنة تكون في حرز من الأعداء، وفي الغالب تبيت في الجزر إذا اقتربت من الأنهار لكي تشعر بدنو العدو وهو يهيج الماء. وإذا باتت في السهل وفي الأماكن المكشوفة ، فأنها تبيت مجتمعة لكي تتسنى لها رؤية العدو عن بعد. فينام بعضها دون خوف لأن البعض الآخر تجول حولها وتحرسها وتؤمن لرفاقها نوماً مطمئناً تنتهي فترة نوبة الحراس وتريد أن تنام تصرخ بصوت عنيف وتوقظ غيرها وتعطيها مكانها ونوبتها، أما هي فتنام مع البقية . وعندما تريد أن تترك المكان وتطير لفترة طويلة ، سواء لدى هجرتها أم عودتها وحيث أنها بصعوبة وجهد تشق الهواء أثناء طيرانها ، لذلك لا تطير كل على حده بصورة مشوشة وعدم انتظام. بل زرافات زرافات مجتمعة مع بعضها وبصورة منظمة وغير مشوشة ، إذ يطير الواحد تلو الآخر بصف مستقيم كالحبل الممدود، ويترأس الصف أحد الأقوياء ويشق الهواء الكثيف فيتبعه الباقون بسهولة دون عناء كثير، وأحياناً يقود ويساعد صفين مختلطين ، وإذا ما تعب بسبب شقه للهواء، يترك المكان ويسلمه إلى الذي يليه ويصطف آخر لكي يرتاح من عنائه. وهكذا يظهر جلياً ، أن لصنف الكراكي ذكاء وفهماً أعطيا له غريزياً من قبل الخالق المبدع.
الوز
ومن الطيور ما أخذت أحساساً كبيراً من عند الله الخالق لدى خلقتها. أو أن الطبيعة زودتها بهذا أما بسبب خوفها من العدو أو زيادة في الحذر
الوز والعقاب
يروى عن الوز، أن له شعوراً في الليل أكثر من جميع الطيور الموجودة عندنا، فهو سريع اليقظة لدى نومه ويشعر بأي شيء يتحرك، وينطبق هذا أيضاً على صنف البوم الكريه عندنا، وهناك أصناف أعطتها الطبيعة سابق إحساس كصنف العقاب الشره. فإذا لم تكن الطبيعة قد زودتها بمثل هذا الإحساس ، فما الذي ينبئها أذن وهي في مرابعها في الكهوف بمكان الجثث الملقاة على بعد ، في نفس اللحظة التي تلقة فيها تلك الجثث؟ إذ أنها تصل إلى هناك فوراً. ثم من يعلمها مسبقاً بأن الجيوش تتهيأ للقتال فتسرع نحوها قبل بضعة أيام مرات عديدة، حيث تطير في الجو فوق الجيوش ، وهي بذلك تنبىء ذوي الألباب بما سيحدث
اليوم الخامس
في البهائم والوحوش وكل زحافات الأرض –
يعقوب الرهاوي
: مقدمة
أن الذين يبنون قصور الملوك، ويعدونها بعناية تامة من أجل راحة وكرامة الملك العتيد أن يسكنها، فأنهم ، إلى جانب ما يعدون من الحاجات والمستلزمات ، يهيئون أيضاً بهائم لخدمة الملك وراحته، وحيوانات لتذبح طعاماً له ولأهل بيته، واكتمالاً لأطايب مائدته، وأحياناً يأتون ببعض الوحوش البرية للمتعة والخدمة والمساعدة في الصيد، كذلك أيضاً، الله خالق هذا الكون البارع والقادر على كل شيء، ذلك المهندس الحيك والمعني بخليقته ومدبرها ، وبخاصة ذلك الجنس الذي كان عتيداً أن يخلقه بعد كل ما خلق، ويسلطه على جميع خلائقه المنظورة والجسمانية، بعد أن يكون قد زين الأرض بنباتات الأعشاب والزروع والعروق والشجيرات والأشجار ، وبجمال كل من طبيعة المياه والهواء، بما تحويه المياه من السمك والزحافات ، وطيور تطير فوق الأرض في جلد السماء. ثم أراد أن يزين الأرض بزينة أخرى هامة بديعة ونفيسة أكثر من الأولى، على اعتبار أن الحي المتحرك هو أفضل مما ليس فيه حياة أو حركة. فقد كانت مزينة بالنباتات والأشجار وبما هو محسوس وغير متحرك، وهو الآن يزينها بالحيوانات ذات نفس حية وذات احساس وحركة ، تمشي وتسعى على الأرض . فقبل أن يخلق الإنسان ، أراد أن يخلق ما هو لخدمته ومنفعته من بهائم وحيوانات ووحوش، الموجودة حالياً على الأرض حيثما يسكن البشر. لذا قال الكتاب “لتخرج الأرض ذوات أنفس حية كجنسها ، بهائم ودبابات ووحوش الأرض كأجناسها. وكان كذلك”. وهذا أيضاً يدعونا إلى الاعجاب بعظمة قوة الله الخالق، الذي بكلمة وباشارة قوته فقط، بخلق كل هذه بسهولة ودون عناء، ويأتي بها من العدم إلى الوجود
يقول الروح: “أن الله أمر الأرض لتخرج ..” ثم يشهد قائلاً : “فكانت كذلك للحال”. فالعبارة اللاحقة في هذا الكلام تشير إلى أن كل شيء قد تم بموجب ما أمر الله أن يكون ، ولا يقوى على مثل هذا العمل سوى قوة الخالق. لذا فأن الروح رتل قائلاً “قال فكانت. وأمر فخلقت” فقوله أذن “لتخرج الأرض” كان يعني ، لتكن هذه من الأرض أو في الأرض فكانت كما قال. فأن الذي أمر الأرض فتكونت من ذاتها، بامكانه أن يأمر وتخرج منها أشياء أخرى في لحظة ودون تأخير، فهي لا تستطيع أن تعصي أمره. لذا كتب أولاً: “أنه قال لتخرج الأرض”، ثم أردف “وكان كذلك” فبمثل هذه السهولة يخلق الله “لتخرج الأرض نفساً حية كجنسها ، البهائم والدبابات ووحوش الأرض كجنسها.. وكان كذلك”. فأنه أمر الأرض التي لا نفس لها أن تخرج ذوات أنفس حية. والتي لا حياة لها ولا تتحرك ، أن تخرج أحياء متحركة. لذا فأن قوته جديرة بالاعجاب . فلو كانت الأرض حية وذات نفس لما كانت جديرة بالاعجاب بهذا المقدار، إذ يأمرها الله لتخرج أنفساً حية، ذلك لأن كل الأنفس الحية تلد، فلو كانت الأرض حية لما استحقت الاعجاب لو ولدت أحياء، ولكن الشيء العجيب الذي يشير إلى قوة الله العظيمة هو أن يأمر أرضاً لا حياة فيها ولا نفس فتخرج نفوساً حية. وهذا (يشير) إلى أن ما كان في العدم من بهائم ووحوش ودبابات تدب على الأرض . جاء بها إلى الوجود، حيث أخرجتها الأرض بأمر منه. ومن المعروف أن هذه هي وليدة العناصر الأربعة وليس عنصر التراب فقط
: تحليل لبعض آيات الخلق
ترى ما الذي ينبغي أن نبحثه هنا أيضاً، ثم نتأمل في ما كتب فيما بعد؟ يقول “وخلق الله حيوانات الأرض كجنسها والبهائم كجنسها، وجميع دبابات الأرض كأجناسها.. ورأى الله أنها حسنة”، يجب ألا يعتقد أحد وهو ينظر إلى ترتيب الكلام، بأن البهائم أقدم من الوحوش، والدبابات التي دبت على الأرض هي الأخرى أقدم من الوحوش. فأن هذا مجرد ترتيب للكلام الذي جاء فيه ذكر البهائم أولاً ومن ثم الدبابات وأخيراً الوحوش، ولكن في العبارات التالية، أبعد هذا الاعتقاد. إذ وضع الوحوش في المقدمة ومن ثم البهائم، وآخر الكل الدبابات، حيث قال “حيوانات الأرض كجنسها، والبهائم وجميع دبابات الأرض كأجناسها” فقد أظهر بما كتبه في الحالتين الأولى والثانية، أنه (الله) خلق جميعها كقادر على كل شيء بكلمة قوته في آن واحد، وليس هناك ما سبق الآخر في تكوينه. فأن هذه العبارات كتبت ورتبت بما يتماشى مع ما هو مألوف بالنسبة إلى طاقتنا، التي تنجز الأشياء واحداً بعد الآخر وليس كلها في آن واحد. ومن المعروف أن هذه الأشياء كلها كونت دفعة واحدة، وليس فيها ما سبق خدنه. فلا البهائم سبقت الوحوش ولا الوحوش سبقت دبابات الأرض . ومن هنا استوجب البحث في هذا (الموضوع) أيضاً
يقول في العبارات الأولى “قال الله لتخرج الأرض نفساً حية، بهائم ودبابات ووحوشاً” وفي العبارات التالية يقول “وخلق الله حيوانات الأرض كجنسها”. وبهذا أوضح الروح الذي كتب هذه، أن الأرض ليست هي التي أخرجت هذه (الحيوانات) ، بل أن الله الخالق هو الذي خلقها بفاعلية أمره. وهنا أيضاً يوجد تمييز في أقنوم اللاهوت المساوي في القوة والأزلية، بين الذي أمر الأرض أن تخرج وبين الذي نفذ ما أمر به. لكن الروح دون ذلك بشكل رمزي سري نظراً إلى طفولة اليهود وضعفهم (في الادراك)، فالله الاب بقوله “لتخرج الأرض ..” كان معروفاً بأنه رأس كل شيء وخالق الكل، وهو ذلك العقل العظيم الذي ولد منه أزلياً كلمته المساوي له في الأزلية والمجد والخلق دون انفصال أو ألم. أما عباراته الأخيرة التي يقول فيها “وخلق الله حيوانات الأرض كجنسها”، فكان المقصود بها كلمة الاب الأزلي وابنه الوحيد، ذاك الذي هو قوته وذراعه وحكمته . وهو الآخر خالق الكل، وبه ومع الاب والروح القدس، كونت الخلائق كلها، سواسية ، المنظورة منها وغير المنظورة، وقد أقام وأبدع هذا العالم كخالق حكيم كما رتل الروح : “بكلمة الله خلقت السموات، وبروح منه كل قواتها”. هذا هو الله خالق الكل. وقد كتب الروح قائلاً: “خلق الله حيوانات الأرض كجنسها والبهائم كجنسها، وكل دبابات الأرض كأجناسها”. أنه خلق وميز كل واحدة بميزات نوعها وجنسها. وعلى ضوء الكتاب نقول: أن الله الخالق ، خلق أجناس الحيوانات الثلاثة هذه في اليوم السادس قبل أن يخلق الإنسان لتكون في خدمته ولفائدته وحاجته من أطايب الطعام وغيرها من الفوائد التي فصلها الكتاب بأسماء معروفة وتسميات خاصة. وسنفصلها نحن أيضاً ولا سيما في ما يخص تسمياتها المختلفة وخصائصها المتميزة
: أصناف البهائم
لقد اعتاد الكتاب والناس على حد سواء ، أن يدعوا بهائم. الحيوانات ذوات الأربع أرجل آكلة العشب، وبخاصة تلك التي تألف الإنسان وتستأنس له. وترضخ لعبوديته. لذلك يسميها اليونانيون بقراً ، بدلاً من تسميتها “بهائم”
وتدعى بهائم بصورة رسمية وحقيقية كل من : الفيل وذي السنامين والجمل والثور والحمار والحصان. فهذه تسمى بهائم. استعارياً أو عملياً، لكونها عبيداً للإنسان حقاً
وكذلك تلك التي ندعوها ماشية، أعني الغنم والماعز وصنف الخنازير ، هذه كلها يستعبدها الإنسان. هذه هي البهائم من الحيوانات ذوات الأربع أرجل وآكلة العشب. أما التي تعيش مع الإنسان دون أن تخضع له فهي: حمار الوحش، والغزال والظباء وتيس الجبل ومعز الجبل الذي يسمى الوعل، والتيس البري واليحمور ، والريم ووحيد القرن، هذه هي حيوانات آكلة العشب المعروفة لدينا والتي تعيش في مناطق سكنانا. ويوجد أخرى كثيرة من آكلة العشب في أقطار أخرى، كما أعتقد، لا بل أجزم، غير معروفة لدينا، كما ونجهل أنواعها وأسماءها. وأن احدى فصائل حيوانات الأرض ذوات الأربع أرجل، هي ما تسمى بالحيوانات آكلة العشب، والفصيلة الثانية هي المدعوة: الوحوش، وهي حيوانات آكلة اللحم، وهي خاطفة وقاسية على نظرائها، وقد تبحث حتى عن الإنسان المتسلط عليها. ومن أصنافها وأسمائها: الأسد، الدب، النمر، الفهد، الذئب، الضبع، ابن آوى، الثعالب ، النمس (دويبة كالنسور) وما شابهها
وتلك الموجودة في أقطار أخرى غير معروفة لدينا، ولا نعرف حتى أسماءها. وهناك بعض آكلة اللحم تألف الإنسان، مثل الكلب رفيق الإنسان والقط . وكذلك ما يتوسط آكلة اللحم وآكلة العشب، مثل خنازير البر والدعلج والأرانب ، وما يسمى بالقرود، وربما هناك أنواع أخرى صغيرة بين آكلة اللحم، أو ما بينها وبين آكلة العشب، مثل التي تدعى أيل الجبل وهي تعيش بين الأشجار ، وغيرها من أمثالها، وأصغر غير معروفة لدينا التي تنتمي إلى كلا فصيلتي الحيوانات ذوات الأربع أرجل، من آكلة العشب وآكلة اللحم
: الصنف الثالث : الدبابات
أما الصنف الثالث الذي سمي دبابات تدب على الأرض ، فأن أنواعه كثيرة ومختلفة ولا تحصى ، ولا تعرف أسماؤها وتسمياتها. وأول هذه الأنواع هو ذات الأربع أرجل مثل الوحوش والبهائم ، وهي تحبل وتلد مثلها. ومن أمثالها: الخلد والفئران وابن عرس، وربما هناك ما يشبهها ولا نعرفها ، وبينها نوع آخر من ذوات الأربع أرجل كالنوع السابق. فهو لا يحبل ويلد أجنة متكاملة حية، لكنه يضع بيضاً كالطيور ويحضنها. فتخرج منها أبناء أحياء حاملة نوعها ، وأمثال هذه، الورل والعضايا والتمساح والضب والحرباء أي نوع من الحرباء الذي يسميه اليونانيون أسد الأرض. وهناك نوع ثالث لا أرجل له البتة، ويضع بيضاً ويسمى حية، وتعم هذه التسمية سائر أنواع الحيات. أما النوع الرابع الكثيرة الأرجل فمنها العقارب والشبث وجميع التي تعيش مثلها في التراب ، وبه تولد أنسالاً لأجناسها
ونوع الدبابات الخامس هو النمل والحشرات الصغيرة، وهي الأخرى تضع بيضاً في التراب وتولد بنين وتربي من أجل تسلسل جنسها
وهناك أيضاً نوع سادس من الدبابات له فروع كثيرة وهو مختلف الأجناس ، أمثال القانصة المسماة ثيران الأرض، وتلك المدعوة عناكب المستمد اسمها مما تصنعه من نسيج وهي الأخرى أنواع وأشكال مختلفة ، وتلك المسماة أسد الذباب . واضافة إلى هذه هناك نوع سابع يضم سائر أنواع وأجناس الجراد والحرجل وما شابهها. فهي الأخرى تضع بيضاً في التراب وتولد بنين وتربيها وهي من حشرات الأرض، وفي الوقت نفسه من الحشرات الطائرة في الجو، لذا تطلق عليها كلا التسميتين ، أي دبيب الأرض وطير السماء
وهناك نوع ثامن بين هذه، يلد جراداً زحافاً أي دوداً، وبأشكال كثيرة ومتباينة، ويرمي بكثير من الفضلات وهو يزحف ، ومن ثم يكشط جلده ويطير، لذا فأنه يعتبر وسطا؟ً وثنائي الحياة، حيث أنه يحصى مع كلا الدبابات والطيور ، وهذه كلها رباعية الأجنحة ، ومنها ما تكون أجنحتها خفيفة، ومنها ما هي ظاهرة دائماً وليس لها غطاء. فجميع هذه الأنواع التي أحصيناها توجد في صنف الدبابات ، وكثير غيرها موجودة في أقطار الأرض المختلفة لا يدركها عقل الإنسان لكثرتها ولاختفائها في الأرض. وقد جعل الله الخالق والقادر على كل شيء. صنفي أجناس الحيوانات ذوات الأربع أرجل التي سبق ذكرها، تحتوي على أنواع أخرى كثيرة، ما خلا التي ذكرت في أطار عديدة وبعيدة ، لأننا نجهلها ولم نألفها ، إذ ليست مدونة لدينا ولم ترد لها أسماء في لغتنا . فهذه كلها أوعز أمر الله الخالق والقادر على كل شيء، أن تخرجها الأرض
ومن الملاحظ أن تأثيره ما زال قائماً يفعل نفس الشيء عندما وحيثما يشاء، سواء بقصد التأديب أم لفائدة ما. فهو الذي، بعمق أحكامه الإلهية، يعرف ما يجب أن يصنعه . فعندما يحسن له فأنه يأمر الأرض فتخرج بلحظة واحدة جراداً كثيراً أو فئراناً لا تحصى، تأديباً للناس وردعاً لهم ، إما سناً أو جندياً أو قملاً أو صرصوراً أو شيئاً آخر. وأن كان رحمة بهم فيرسل السلوى أو طيوراً أخرى طعاماً لهم. ندرك ونفهم من هذه الأمور، أن مفعول أمر الله الأول ما زال، يرافق الأرض، ويضغط عليها لتخرج حيوانات للحال إذا شاء، وأن لم يشأ أن تخرج بالطريقة الأولى، فتقيم النسل بطريقة الولادة دون أن تضعف طبيعتها . هذه هي فاعلية الأمر الذي صدر إلى الأرض لتخرج حيوانات ، مثل الأمر الصادر إلى السماء لتدور وإلى أنوارها لتنير الأرض، ومثلما أن تلك لا تهدأ من الدوران ، هكذا أيضاً فأن الأنواع التي خلقت بفعل الأمر الأول، لا تحرم النسل المستمر الذي يحفظ طبيعتها . وقد قدمت كلمة الله السماء وما فيها من أنوار، وفصلي الصيف والشتاء برهاناً على ذلك
ولما كان الحديث قد تطرق بصورة عابرة إلى مثل هذه الاختلافات (في الحيوانات) التي أخرجتها الأرض، لذا استوجب أن نبدأ من جديد فنتحدث عن كل منها بقدر المستطاع، وبها ندلك على عظمة اقتدار خالقها، وتشعب حكمته غير المدركة
يوجد بينها اختلافات عديدة وأشكال متنوعة لا يشبه بعضها البعض، سواء في فترات حبلها أم ولادتها وتربيتها، أم في اختلاف أنواع طعامها ، أم في مدة حياتها أم في خصائص رغباتها. وكذلك في عمالها وفي أمور أخرى كثيرة ومتنوعة لا يشبه بعضها البعض
: الفيل
يقال في صنف الفيل : أن مدة حملها في بطون أمهاتها سنتان ، ولا تكتمل حضانتها إلا في السنة الثانية عشرة. ومثلما أن فترة حملها تختلف عن سائر الحيوانات ، هكذا أيضاً فأن فترة حضانتها تأخذ وقتاً طويلاً يتناسب وضخامة جسمها، فأن الله الخالق والقادر على كل شيء، نظم مدة حياتها بالقياس إلى فترة حملها وحضانتها وضخامة أجسامها. ويقول الخبراء ، أن الله أمد حياتها إلى ما يقارب الثلاثمائة سنة
وقد رتب الله أيضاً أن يخضع للإنسان هذا الحيوان الضخم ، بل جبل اللحم كما سماه بعضهم نظراً إلى ضخامته، ولكن مهما بلغ من الضخامة فهو ذليل أمام الإنسان، ولا يستغله الناس للركوب وحمل الأثقال فحسب ، بل يصحبونه معهم في الحروب ضد الأعداء ، حيث يروضونه على القتال والانتقام من الأعداء أكثر منهم، إذ يسقونه خمراً ممزوجاً بلبان ويسكرونه حتى يجعلوه يركض نحو كتائب المحاربين بغضب واندفاع لا يستهان به، وبذلك يكون قد أزر أصحابه. ويقول الخبراء الذين وقفوا على عادات الفيلة، أن لها خبرة متميزة في الحروب. وأنها تستطيع أن تميز أصحابها من الأعداء مهما اشتبك الفريقان أو سقط الواحد فوق الآخر أو تتبع الواحد الآخر، فتندفع بشراسة وتدوس أولئك وتقضي عليهم، في حين تجتاز أصحابها بنفس الاندفاع ولكن دون أن تلحق بهم أي ضرر، أو تدوس أياً منهم. ويقال أن الفيل لا يحارب بأرجله فقط، بل أيضاً بشفته الطويلة (الخرطوم) وبأنيابه التي على جانبي وجهه، حيث ينطح بها الأعداء ويشقهم، ويبسط شفته إلى الأمام أو اليمين أو اليسار فيصطادهم بها ويقربهم إليه ويطرحهم أمام رجليه لكي يدوسهم ويقتلهم . فقد جعل الله شفته بمثابة أيد له ، ليس فقط في حربه مع الأعداء ، بل وحتى عندما يحتاجها لتناول الطعام. ففيها يأخذ ما يأكله ويقربه من فمه، وبها أيضا؟ً يجرع الماء أو أي شيء آخر، وبها يأخذ من الأرض ما يريد أخذه، وقد جعل له رقبة قصيرة ومنكمشة ومربوطة بالقرب من أكتافه، لكي تكون شفته القليلة الأذى قريبة جداً من أرجله، وتتردد تحت نابيه المخوفين بشجاعة ودون خوف ، هكذا خلق الله الفيل وحصنه من كل جهة لكي لا يلحقه أذى من الأعداء بسهولة ، وقد وشحه من الخارج بجلد ثخين وسليم، يليه لحم كثيف مشتبك بالأوردة لئلا يبقر بسهولة بضربة من الخارج، وبسبب كثرة لحمه وثقله، جهزه الله بأرجل مستقيمة لا تنحني شبه أعمدة ، وليس له مفاصل أبداً لكي يتمكن من احتمال ثقل الأحمال دائماً إلى جانب ثقل جسمه، ولم يخلقه الله قادراً على أن يركع أو يتكىء مثل بقية حيوانات الأرض، إذ أن أعصاب أرجله لا تقوى على رفع جسمه الضخم وانهاضه بسهولة عندما يتكىء . لذا فأنه لا يتكىء حتى على الأرض . ولكن عندما يريد أن ينام ويرتاح قليلاً ، فأما أن يسند جسمه على أشجار قوية راسخة أو على الحائط ، لذا فأنه موضع الدهشة لدى الإنسان وهو يتأمل قوته وفهمه من جهة وخضوع إرادته من جهة ثانية، ففي حين زوده الله الخالق بضخامة فائقة وقوة الجسم، وحصنته الطبيعة ببأس وصحة وفهم متميز لا ينقص كثيراً عن فهم ذوي النطق، فأنه مستعبد وخاضع للإنسان ، لا يقوى على العصيان والتمرد بالاتكال على ضخامة جسمه أو شدة بأسه، لكنه يخضع لعبودية الناس كلما أمروه ، ولو شاء لاستطاع أن يحرر نفسه ويصير سيد ذاته. وعندما يحاول الباحث أن يكتشف الحقيقة الكامنة وراء خضوعه ، يرى أن سبب هذا الخضوع لا يعود إلى إرادته هو، بل ينسب إلى الله خالقه القادر على كل شيء الذي أقام الإنسان – صورته، رأساً ومتسلطاً على الخليقة المنظورة كافة، وله يستعبد الفيل، خضوعاً منه لأمر الخالق ولئن كان أضخم وأقوى منه
: الجمل
وعلى نفس الطريقة يستعبد للإنسان كذلك ذلك الحيوان الجميل المنظر والبهي المدعو ذا السنامين الذي يزهو بقامة رفيعة وطويلة، وبشعر كثيف ذي لون جميل، وبسنامين منفصلين ومتساويين طبيعياً ، يشبهان بحجمهما راكبين متساويين على متن حيوان ما. وبأرجل مستقيمة ومتوازية مثبتة تحت جسمه كأعمدة راسخة، وبرقبة طويلة عالية ومتشامخة ، رتبتها الطبيعة بما يتناسب وحجم جسمه، وبرأس ملك الأعضاء مزين بحواس حية ملائمة، وعليه تاج من شعر أنيق. أن هذا ولئن هو أقل من الفيل قوة وحجماً ، غير أنه يفوقه كثيراً جمالاً وتشامخاً بجسمه وأعضائه، وهو لا يرفض الرضوخ للبشر الذين هم أقل منه قوة، اطاعة منه لأمر خالقه الذي جعله أن يخدم الإنسان صورة الله الخالق وملك الجميع . وهكذا يستعبد هذا أيضاً للناس بكل أمانة ودون أية ضجة، حتى إذا شاءوا وضعوا زماماً في أنفه واتخذوه مركوباً لهم ووضعوا عليه حملاً ثقيلاً منهكاً ، كما يفعلون بالنسبة إلى بقية الحيوانات التي تستعبد لهم
كما تخضع لعبودية الإنسان جميع الجمال التي تنتمي إلى جنس ذي السنامين ولئن لا تنحدر من نفس النوع، والتي تكثر بطريق الصدفة، في بلاد العرب، ودعاها الجميع بهذا الاسم المميز (الجمال العربية). وقد صار هذا اسمها الخاص الثابت. وقد احتال بعضهم بطريقة غير شرعية، رغبة منهم في زيادة ما يخدمهم ، فزوجوا النوعين، فنتج نوع يختلف عن كليهما يسمى الهجين ويتصف بالخبث والخداع ، وهو حاقد وقاتل ويقترف جرائم كثيرة ، فأنه ولئن يخدم أصحابه من دون إرادته، إلا أنه لا يحتمل منهم سوى القليل نظراً إلى غباوته الزائدة، فهو يحقد عليهم لفترة طويلة ولا ينسى شره وخبثه حتى ينتقم من الذين ضربوه. هذه صورة من شر الجمال ولا سيما تلك الهجينة ، واعتقد أنه بسبب هذا اعتبره الكتاب الإلهي من الحيوانات غير الطاهرة ولئن ينتمي إلى فصيلة آكلة العشب وليس إلى فصيلة الوحوش آكلة اللحم النجسة برمتها
: الثور
وإلى جانب هذه، فأن الله قد وضع تحت عبودية الإنسان وفي خدمته، الثور ذلك الحيوان الأليف الطاهر، الذي تقول فيه كلمة الله مثنية “حيث الغلال الكثيرة
اليوم السادس
الانسان الذي خلقه الله على صورته –
يعقوب الرهاوي
في الإنسان
الذي خلقه الله على صورته ووضعه كعالم كبير
وعجيب وسط هذا العالم الصغير
مقدمة :
أن الله الصالح والحكيم والقادر على الكل وخالق الكل ، والصانع والمعني والمُدبر لكل ما يصنع ، الذي يرى خليقته ويعرفها قبل أن يخلقها : إذ أوجد العالم ، لم يوجده دون سبب . وحتى أولئك الذين يقومون بعمل ما في هذا العالم ، فأنهم لا يقدمون عليه جزافاً وبدون معنى أو سبب . فإذا كان البشر المخلوقون والمتغيرون والمتذبذبون في آرائهم ، والذين هم دائماً تحت وطأة اضطرابات العقل ، لا يقال عنهم أنهم كثيراً ما يأتون عملاً عبثاً لا حاجة لهم به ، فكم بالحري الله الخالق الحكيم وناظر الكل ، الذي خلق بمعرفة حكمته ، وعمل بقوته المبدعة والقادرة على كل شيء ، يجب ألاّ نقول عنه أنه يخلق أو يأتي عملاً عبثاً دون سبب مبرر أو دونما حاجة إليه
فإذا كنا قد جزمنا بهذا ووافقنا عليه ، علينا أذن أن نبحث بإمعان الفكر وبشكل لائق ، عن السبب المبرر الحقيقي الذي دعا صلاح الله الخالق إلى أن يخلق هذا العالم المنظور ، بما فيه من اتقان وجمال السماء والأرض وما يتوسطها . وأية حاجة كانت له لكي يخلق السماء والأرض ويأتي بها إلى الوجود . فالله خالقها لم يكن أبداً بحاجة إلى بيت يسكن فيه ، ولا هو محتاج الآن أيضاً إلى سكن ، ذاك الذي يقول عنه النبي في مكان ما بكل هدوء ، كمن يتحدث عن شخصه : ” قال الرب ، ألست أملأ السماء والأرض ، فأين البيت الذي تبنون لي ”
وكما هو معروف وواضح أن الله الخالق ، ذلك العقل الكبير والأول ، لم يكن بحاجة إلى بيت مادي ليسكنه ، وكذلك العقول الثانوية أي القوات السماوية غير الهيولية ، الذين خلقوا على صورته ، لم يكونوا كذلك بحاجة إلى بيت للسكن لأنهم ليسوا ماديين حتى يحتاجوا إلى بيت مادي ، لكنهم عـقول لطيفة تشبه خالقها نوعاً ما ، ولا يمكن أن تحصرهم أجسام . وقد تحصر الأجسام أجساماً أخرى وتكون بحاجة إلى بيوت مادية لسكناها ، أن كانت سكاناً لا أمكنة سكن . أما العقول وكل ما ليس بجسم ، فلا يمكن للأجسام أن تحصرها كما أسلفنا . وهي ليست بحاجة إلى بيوت ومساكن مادية . وإذا كان الله الخالق الخفي وغير المنظور ، غير محتاج إلى هذا البيت ، وكذلك العقول التي خلقت على صورته وشبهه ، أي جميع القوات الملائكية لم يكونوا هم أيضاً بحاجة إليه ليحتموا فيه ، كما لم يكونوا بحاجة إلى الأرض ليمشوا عليها ، ولا إلى الماء ليشربوا ، ولا إلى الهواء لاستنشاقه من أجل تقويم حياتهم ، ولا إلى الشمس والقمر والكواكب لتنير لهم فيميزوا الليل والنهار ، فمن الواضح والمعروف أذن أن هذا البيت لم يوجد إلا من أجل الإنسان الذي كان الله عتيداً أن يخلقه على صورته ، بعد إكمال خلقة هذا العالم ، ليكون بمثابة قصر الملوك الذي يعد مسبقاً للملك . من أجل راحته وسكناه وسائر الذين ينحدرون منه . ومن أجل الحيوانات التي خُلقت مسبقاً لخدمته . والطيور والدبابات التي خلقت على الأرض من أجله
هذا هو سبب خلقة العالم الذي سبقت خلقته من أجل راحة وحاجة الإنسان وما معه من الحيوانات والطيور والدبابات التي تدب على الأرض ، فمن أجل هذا الذي كان عتيداً أن يؤتى به إلى الوجود ويقام من قبل الله ، ملكاً ومتسلطاً على جميع الكائنات الجسمانية ، سبق واعد قصر الملوك هذا
الثالوث والخليقة
فقد سبق إعداد كل الأشياء التي في هذا العالم ، كما نوهنا أعلاه ، وقد جاءت متكاملة ، ولم يعد هناك شيء لإكمال إعداد قصر الملوك هذا ، ما خلا مجيء الملك الساكن… بعد هذا يقول الروح الملهم : ” وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا فيتسلطون على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم وعلى كل الأرض وعلى جميع الدبابات التي تدب على الأرض ” . وهنا لا بد وأن تأخذنا الدهشة من لطف الله الصالح الرحيم الذي لا يوصف ، نحو الإنسان ، حيث نلاحظ من هذه الكلمات الأولى الممهدة لوجوده ، أنه يعطيه كرامة أعظم من سائر الكائنات المحسوسة التي خلقها قبله . فقد كتب عنها كلمة ” لتكن ” فقط ، فكانت . أو ” لتخرج الأرض ” أو أنه يأمر المياه كذا فتخرج ما كان يريد
أما بالنسبة إلى خلقة الإنسان فقد كتب الروح الملهم كلمات تشبه الانتقال الفكري والمقدمات التي يستعملها البشر في أعمالهم . فعبارة ” لتصنع الإنسان كصورتنا وشبهنا ” التي فاه بها الله هي بمثابة انتقال فكري لديه وهذا يوحي بأن الله فكر فيما لو يخلق الإنسان أولا . فلو لم تكن هذه هي الغاية من هذه الكلمات ، أذن لما كان هناك حاجة لله أن يسبق ويفكر في ما يريد أن يعمله . فليس عنده سبق الأمور ثم الندم . وهو ليس بحاجة كذلك إلى مستشارين يشيرون إليه . فقد كتب ” من سبق وعرف فكر الله أو من كان له مشيراً ” . فما هو أذن القصد الذي تضمنه قول الله القائل ” لنصنع الإنسان على صورتنا كشبهنا ” ؟ ، لِمَ لم يقل ما قاله عن سائر الكائنات ، فكانت ؟ إذ كان يقول عن الإنسان مثلا ، ليكن الإنسان فيكون فور صدور الأمر دون أي ارتباك . فقد قال عن بقية الكائنات ، كما سبق الحديث ، ” لتكن ” فكانت ، ولدى قوله ” ليكن كذا ” . كان الكاتب يضيف فيما بعد ويقول : وعمل الله كذا . أما بالنسبة إلى الإنسان فلم يقل ” ليكن الإنسان ” بل ” لنعمل إنساناً ” وبهذا أظهر بصورة واضحة جلية ، أن قوله هذا ليس موجهاً إلى ذاته كما اعتاد بعض الناس أن يفعلوا ، بل كان موجهاً إلى شخص آخر ، أذن لم يقل ذلك لذاته ، ولم يكن ذاك الذي قال ” لنصنع الإنسان على صورتنا ” نفسه ، بل كان معه شخص أو شخصان ، وله أو لهما قال ” لنعمل الإنسان ” . ومما يثبت قوله ” لنعمل ” عبارة ” على صورتنا وشبهنا ” . فلو أن القائل كان اقنوماً واحداً ، ولم يكن إزاءه آخر وآخر ، لما قال ذلك أبداً ، لأن الواحد ليس بحاجة إلى أن يقول ” لنعمل ” ، لكنه يعمل بصمت . حيث لا يوجد أمامه من يكلمه ، ولو تكلم لقال فقط ، لأعمل إنساناً على صورتنا وشبهنا
فلو كان مفرداً لقال على صورتي وشبهي وليس بصيغة الجمع ، على صورتنا وشبهنا . وحيث أن الفعل ورد بصيغة الجمع ، وكذلك الأسماء فيما بعد ، إذ يقول ” على صورتنا وشبهنا ” بصيغة الجمع وليس المفرد ، لذا فالمقصود كان كلمته الخالق الذي إليه أشار سليمان في سفر حكمته ” عندما أسس السماء كنت أنا معه ” . وروحه القدوس المساوي لهما بالأزلية والسلطان والقوة والإرادة . قال الله الأب غير المنظور ورأس الكل ” لنعمل الإنسان على صورتنا وشبهنا ” مستعملاً الأسماء والأفعال كما اعتدنا نحن البشر أن نفعل . فمن الواضح أن ليس هناك من يعمل صورة وشبهاً لله الذي لا شبه له وهو غير منظور أو مدرك ، ولا صورة له أو شبه إطلاقا ، سوى كلمته الوحيد الذي يسمى بل هو ابن كوليد مساو في الجوهر والسلطان والإرادة والقوة والفعل . فهذا هو صورته الذي يتمثل به ويرى ، الصورة التي تشير إلى اقنومه وشعاع مجده كما جاء في القول الرسولي . فلهذين قال الله ” لنصنع الإنسان ” وبسبب ذلك قال ” على صورتنا وشبهنا ” بصيغة الجمع وليس بصيغة المفرد . ولكن ليس في اللاهوت أقانيم متعددة ، الذي بسبب صلاحه شاء أن يخلق الإنسان . لذا قلت أن الألفاظ ” لنعمل ” و ” على صورتنا وشبهنا ” لم تأت بصيغة الجمع . وكذلك فعل ” لنعمل ” والأسماء التي تلته توحي وكأنها تنسب إلى كثيرين ، حيث قيل ” على صورتنا كشبهنا ” وليس ” على صورتي كشبهي ”
يمكن التعبير عن هذا كالآتي : أن اقنومي الكلمة والروح اللذين وجه إليهما فعل ” لنعمل ” كانا ثابتين في الله الأب القائل ، وهو ثابت فيهما . أذن لم يكن بحاجة ليقول لهما ” لنعمل الإنسان على صورتنا ” بل لم تكن هناك أية حاجة للنطق بهذا . ولكي أوضح بجلاء أكثر حقيقة مفهوم هذا الكلام أقول : أن الله لم ينطق بهذا الكلام إطلاقاً ، إذ لم يكن اللذان وجه إليهما الكلام بحاجة إلى أن يقال لهما هكذا ، لكن الروح الملهم أوردها في الكتاب على هذا النحو من أجلنا ، لكي نستطيع أن ندرك سرية وخفاء أعمال الله . فمن هذه الكلمات التي أوردها الروح الملهم عن تكوين الإنسان ، يتضح لنا أن اللاهوت الخالق الواحد الأزلي هو ثلاثة أقانيم مقدسة . كما تتضح الكرامة التي أولاها الله للإنسان أكثر من سائر الكائنات المحسوسة التي سبق وخلقها من أجله
قال الله ” لنعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا ويتسلطون على سمك البحر وطيور السماء ” . ففي هذا القول تعبير واضح عن أن الله لم يخلق إنساناً واحداً بل كثيرين وهم جميع أبناء الجنس البشري . فهو لم يقل ” لنعمل الإنسان ويتسلط ” بل ” لنعمل الإنسان ويتسلطون ” . وفي اللغة العبرية لم ترد الكلمة ابن الإنسان بل إنساناً علماً بأن كلمة ” إنسان ” باللغة العبرية لا تأتي بصيغة المفرد بل الجمع . وهذا يدل على أن الله خلق جميع الجنس البشري سوية بشخص آدم وحواء اللذين خلقهما أو جبلهما منذ البداية . ولا أدري ماذا أقول ، فأن اسم ” آدم ” بالذات له مدلول جماعي يشمل الجنس البشري برمته ، ولا يعني شخصاً واحداً . ومما يثبت هذا ، ما كتب عنهم يوم خلقتهم ” ودعا اسمهم آدم ” . فمن اسم آدم إذن ، ومن كلمة ” إنسان ” وكلمة ” يتسلطون ” الواردة بصيغة الجمع وليس المفرد ، يتأكد لنا أن الله خلق جميع الجنس البشري بشخص آدم وحواء اللذين خلقهما أولا ، وأمر أن يتسلطوا على سمك البحر وطير السماء والبهائم وكل الأرض . لقد قال الروح الملهم في مطلع كلامه ، أن الله تكلم عن تكوين الإنسان وأظهر كرامته الفائقة أكثر من سائر الكائنات المحسوسة التي خلقها من اجله . ثم يستطرد فيقول : وخلق الله الإنسان ، على صورة الله خلقه ، ذكراً وأنثى خلقهما وباركهما الله قائلاً : ” اثمروا وأكثروا واملئوا الأرض وأخضعوها وتسلطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم وعلى كل الدبابات التي تدب على الأرض ” . فبهذه الكلمات الأولى يقول الروح الكاتب ( الملهم ) أن الله قد تكلم عن خلقة الإنسان ، وأظهر كرامته التي تفوق كرامة جميع الخلائق المحسوسة التي خلقها من أجله
ثم يواصل قوله : وخلق الله الإنسان ، على مثال الله خلقه ، ذكراً وأنثى خلقه . وباركهم الله وقال له : انموا واكثروا واملئوا الأرض وأخضعوها ، تسلطوا على سمك البحر وطير السماء والبهائم وجميع الأرض وكل الدبابات الدابة على الأرض فمن هذه الأقوال يعرف الأمر عينه . . أي اختلاف أقانيم اللاهوت ، اقنوم الذي قال أولا ” لنعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا ” وأقنوم من عمل الإنسان . وأقنوم من عمله على صورته . يقول : أن الله خلق الإنسان ، على صورة الله خلقه . فالذي خلقه والصورة التي خلق عليها ، ليسا اقنوماً واحداً بل اثنين . وكذلك الكرامة والسلطان اللذان منحهما الله الخالق للإنسان
وهذا نفسه قاله الروح عنه بلسان داود الذي أظهر بنشيده سمو كرامته وسلطانه ” من هو الإنسان حتى تذكره وابن آدم حتى تفتقده وتنقصه قليلا عن الملائكة ، وبمجد وبهاء تكلله ، تسلطه على جميع أعمال يديك ، جعلت كل شيء تحت قدميه ، الغنم والبقر جميعها ، وبهائم البر أيضاً وطيور السماء وسمك البحر السالك في سبل المياه ” . بهذا أظهر الروح الملهم والمرتل مجد الإنسان الفائق أكثر من سائر الكائنات المحسوسة ، والسلطان الذي أعطاه الله على جميع ما خلق على الأرض ، كما يبدو أيضاً من العبارات التي تظهر أقانيم اللاهوت ، ومن العبارات التي قيلت فيه ، ومما قاله له الله لدى مباركته إياهم . لكي بهذه كلها يعرف الإنسان قولا وفعلاً بأنه أكرم من سائر الكائنات المحسوسة . ومن أجله خلقت على هذه الصورة . لكي تكون لسكناه وراحته وطعامه ، وللحيوانات التي تعيش معه والتي خلقت لأجله وللطيور وكل الدبابات الحية
الإنسان روح وجسد
لقد أظهر لنا موسى في أقوال الكتاب المقدس الإلهية ، عظمة العقل الذي منحه الله للإنسان الذي به صار صورة له وشبهاً ، كملك ورئيس لجميع ما خلق على الأرض . وحيث أن هذا ( الإنسان ) صنفان مختلفان كما يبدو ، وهو مركب وغير بسيط ، ومنظور وغير منظور في آن واحد ، ومحسوس وعاقـل في آن واحد ، وجسماني وهيولي ، وروحي دون جسم . لذلك استوجب أن يكون الحديث عنه ذا بعدين مختلفين وليس ذا بعد واحد بسيط . فلنتناول بالحديث كلا من هذين البعدين على حدا بما يتناسب والترتيب المطلوب . ومن اللائق أن يأتي في الأول الحديث عن الجانب المنظور لهذا الحيوان المركب ، ومن ثم عن جانبه الخفي وغير المنظور وطبيعته غير المحسوسة وغير المادية ، أعني الروحاني والعاقل ، وذلك بقدر ما يتيسر لمن هو محصور في الجسد أن يتحدث عن طبيعة غير جسدية ولا مادية التي للإنسان المخلوق على صورة وشبه الله غير المنظور . فهذا هو جسدي وروحي في آن واحد جسماني ومادي ، روحي وعقلاني
جسد الإنسان
لنتناول الحديث أولا عن جسدانيته لأن الهيئة المنظورة للجسد ، هي بمثابة مسكن لطبيعة النفس غير المنظورة ، وأن هذا الإنسان المخلوق المنظور ، يرى وكأنه عالم ما صغير ضمن هذا العالم الشاسع الذي سبق ذكره ، وتناوله الحديث . وقد أوجده الله الخالق وجعله بمثابة قصر ملكي للإنسان الملك الساكن . . وحيث أن هذا العالم ذو أهمية نظراً إلى تكوينه العجيب الذي يفوق تكوين الأول . فأننا نود أن نسميه “العالم الكبير “ الذي وضع في العالم الصغير . فأنه التأمل الممعن الدقيق ، يرى مشابهاً للعالم الكبير من عدة جوانب . إذ توجد هيئته طبقات مختلفة ، عليا وسفلى ومتوسطة . وقد أقامتها حكمة خالقها المبدع بشكل مفيد ومناسب يشبه نوعاً ما التناسق الموجود ما بين السماء والأرض ، لتكون مسكناً متقناً وملائماً للإنسان ذي العقل الراجح ، حيث جعله الله مسكناً يلائم ساكنه الإنسان ، في وسط هذا العالم الكبير
بعد هذا الحديث الذي تطرقنا فيه إلى تكوين الهيئة المنظورة للإنسان لنتحدث كاشفين القناع عنه ، مبتدئين بأقوال الروح المقدسة والإلهية الواردة في الكتاب الإلهي . فقد جاء فيه عن الإنسان ما يلي “وجبل الرب الإله آدم تراباً من الأديم – أو كما جاء في تقليد آخر ، تراباً من الأرض – ونفخ في أنفه نسمة الحياة ، فصار آدم نفساً حية “ . فالكتاب المقدس تناول الجبل الكريم للإنسان ، صورة الله ، بعبارات قليلة وموجزة . أما الحديث الفاحص والمستقصي فأنه يتناول موضوع عملية جبل الإنسان . بالطريقة التي سلكها بالنسبة إلى خلق الحيوانات والطيور والأسماك وكل الدبابات التي خلق الله على الأرض ، وكما فعل أيضاً بالنسبة إلى الأعشاب والزروع والعروق والأشجار والنباتات ، فأن الله لم يخلق هذه من التراب أو الماء فقط ، ولئن جاء في الكتاب المقدس هكذا ، ذلك لأنه تصرف بحسب العرف المألوف عند الناس . لكنها كونت من العناصر الأربعة التراب والماء والهواء والنار . فمن هذه كلها ركب الله وبني جسد الإنسان ، وليس من عنصر التراب فقط كما يفهم من معناه ، ومن الكلام الذي وجهه الله للإنسان بعد أن أخطأ “أنك من التراب وإلى التراب تعود “ فهو لم يكن من التراب فقط ، وليس إلى التراب وحده يعود جسد الإنسان لدى انحلاله ، بل أنه ركب من العناصر الأربعة لدى خلقته ، وسيعود أيضاً إلى أربعتها مرة أخرى عندما ينحل بعد موته
مميزات الجسم البشري
ونظراً إلى وجود اختلافات في هيئة الجسم البشري ، لنتحدث عنها بإيجاز ، هذه الاختلافات التي أوجدتها الذات الخالقة في هيئة جسمه ، كصفات ظاهرة ومتميزة أكثر من سائر حيوانات الأرض ، ولكي تؤشر في الوقت نفسه إلى الكرامة الفائقة والرئاسة التي أعطيت له من خالقه . وسيتناول الحديث ما يتيسر عن تكوين خلقته مشيراً إلى كل من الأعضاء التي فيها الاختلافات التي بها يتميز ويختلف خاصة عن بقية الحيوانات
أولاً – الصفة الأولى التي ميزت بها الطبيعة الإنسان هي ، أنها أعطت كل الحيوانات التي تمشي أربع أرجل ، أما هذا ( الإنسان ) فرجلين فقط ، وإذ جعلت لكل الحيوانات أظلافاً مستديرة ، فللبهائم أظلاف صلبة ومتينة كالحجر والخشب ، وللوحوش أظلاف رخوة ومشقوقة وفعالة . أما للإنسان فراحات طرية ولحمية متينة وممتدة نحو الأمام مثل قاعدة الأعمدة الطويلة ، لها أصابع وأظافر في نهايتها وأعقاب تسندها من ورائها
ثانياً – وقد أعطت الجسم البشري صفة أخرى هي : أن جميع البهائم تضع أرجلها الأمامية التي فيها الركب تحت بطونها عندما تجلس عليها ، واضعة ركبها أمامها . وكذلك تفعل الوحوش عندما تجلس على أرجلها الخلفية وتستند على الأمامية وكأنها تستند على الأيدي . أما الإنسان فأنه يحني ركبه إلى الأمام ، عندما يركع على ركبتيه لكي يسجد لخالقه ، أو عندما يجلس على أوراكه واضعاً ركبه أمام يديه لتكون له بمثابة مائدة أو عندما يقضي بها سائر حاجاته
ثالثاً – ومن صفات الجسم البشري ، أن للإنسان أظافر رقيقة ومسطحة ولينه ومستديرة نوعاً ما ، في حين أن لجميع الوحوش أظافر طويلة ورفيعة بطبيعتها
رابعاً – ومن صفات الإنسان أنه يمسك بيديه كل ما يريد ، وبهما يعمل ويسد كل حاجاته ، ولئن كان لبعض الوحوش أن تمسك بيديها وبشكل أو آخر ما تريد ، كالأسد والكلب والدببة والقردة التي هي أقرب شبهاً بالإنسان من جهة يديها ورجليها
خامساً – ومن صفات الإنسان التي تدل على كونه سيداً ، أنه الوحيد الذي لا يوجد له غطاء طبيعي لجسمه ، مثل الحيوانات التي لها غطاء طبيعي يغطي جسمها ، وذلك ليبرهن على أنه سيد كريم ومتسلط على جميعها ، وكمبدع ذكي يستطيع أن يبتكر بعقله ويعد ثياباً مفيدة ومناسبة من الغنم والماعز وغيرها ، ويرتديها متى شاء ، ويستر بها عورته أو يتدفأ بها أو يتزين بها ، ومتى شاء ألقاها عنه من اجل راحته وهيبته
سادساً – ومن صفات الإنسان ، وجود الأثدية في صدره وبالقرب من قلبه ، في حين أن الطبيعة جعلت أثدية الحيوانات جميعها بين رجليها
سابعاً – ومن صفات الجسم البشري المميزة والظاهرة ، القامة المستقيمة والبسيطة التي أعطته إياها الطبيعة من دون سائر حيوانات الأرض ، بشبه صرح عال وقائم يرتفع بين أبنية كثيرة أوطأ منه ، ويرى فوقها كمن له سلطان عليها ، ولكي يكون نظره دائماً نحو السماء ، حتى إذا تأمل أعمال الله وأخذ بجمالها وعظمتها ، أدرك منها بالتخمين والتقدير ، ما يمكن أن يدركه الوثنيون ، ويعـرفوا قوة خالقهم وحكمته
ثامناً – ومن صفات قوام وهيئة جسم الإنسان ، وجود وجه مستدير ورأس كروي مهيب ، ولئن يوجد بين الحيوانات غير الناطقة ما له شبه بوجه الإنسان أو استدارة رأسه ، مثل الأسد والنمر والفهد وما يشبهها أن وجد
تاسعاً – ومن صفات الإنسان ، بالإضافة إلى ما ذكر ، نمو الشعر في أصل أفخاذه لستر عورته رغم الاختلاف في نمو قامات جسمه ، وكذلك في أباطه أو بعدها ، ويكون ( الشعر ) أيضاً علامة لكمال القامة فينمو الذقن على وجه الذكور أو تحت أفواههم من أجل الجمال ، ولكي يكون علامة رئاسة الرجل على المرأة . وتنمو الأثدية على صدور الإناث علامة شهوة الزواج نحو الرجال لتكون أدوات صالحة وملائمة تنبع غذاءً مفيداً لأطفال الجنس البشري
عاشراً – وأفضل كل صفات الجسم البشري ، أن يكون رأسه دائماً فوق جميع أعضاء جسمه ، في حين أن جميع الحيوانات تحني رؤوسها نحو الأسفل مبرهنة بوضوح على أنها مستعبدة للإنسان ، وهو ملكها والمتسلط عليها
الحادي عشر – ومنها أن يكون له شعر فوق رأسه كتاج ، يظهر بموقعه وجماله رئاسة الإنسان على جميع حيوانات الأرض ، في حين أن جسده خال من الشعر
الثاني عشر – وينفرد الإنسان بصفة ظاهرة ومتميزة وهي بياض شعره في مرحلة شيخوخته ، ليس فقط شعر الرأس والذقن ، بل ذلك الشعر النادر أيضاً الموجود في جسم الإنسان
هذه هي الاختلافات والصفات المتميزة والظاهرة التي منحتها الطبيعة لجسم الإنسان حينما أبدعه الخالق ، لكي يتميز بها عن سائر الحيوانات على الأرض . وربما لو أمعن الإنسان – بدافع حب العمل المتواصل – في البحث ، لاكتشف صفات أخرى في تكوين جسم الإنسان غير موجودة في الحيوانات غير الناطقة التي أبدعها الخالق على الأرض
لقد استوفى الحديث حقه بما أوتي من قوة ، من جهة هيئة الجسم البشري ، البيت والمسكن الأرضي الذي أعده الله الخالق لسكنى الإنسان الحقيقي الذي خلقه على صورته ، أو العالم الكبير ضمن الصغير ، أي هذا العالم ، أو العالم الصغير الذي كون ضمن العالم الكبير الذي يرى ويحدد بوجود السماء والأرض وما يتوسطهما . وليعتبره أي واحد كما يشاء ، ويطلق عليه اسماً يناسبه ، أما إنساناً خارجياً أو بيتاً طينياً ، أو قميصاً لحمياً ، أو ثياباً بالية أو إنجازاً مركباً زائلاً ، أو لا أدري ما أسميه ، حيث يرد في الحديث على مثل هذه التسميات
وكذلك من جهة الصفات الطبيعية والظاهرة التي يتميز بها ويختلف عن سائر الحيوانات والطيور والدبابات التي تدب على الأرض ، يقال عنه ما يقال ، هذا هو البيت الصغير الذي أعده الله الخالق للعقل – الإنسان الحقيقي الذي خلقه على صورته لكي يسكن فيه ضمن العالم – هذا البيت الكبير الذي تكون من السماء وما فيها
وكذلك من جهة هذا الإنسان المخلوق الذي دعي عالماً صغيراً ضمن الكبير ، أو عالماً كبيراً . وكذلك من جهة ما فيه من عجب إذ خلق وأوجد في العالم الصغير . هذا ما حدد عن خلقته وهيئته وتكوين أعضائه ، وما فيه من اختلافات
العقل
ولنتحدث عن الإنسان الداخلي أي العقل الذي خلقه الله على صورته وشبهه كما تسلمناه من شريعته . وذلك بقدر ما أعطينا من قوة الكلام ، وقد نتجاسر ونحاول الحديث أكثر من قوتنا عما يسمو عن إدراكنا ، ومن المناسب أن نبدأ حديثنا من الأعلى
أن الله الخالق القوي والقادر على كل شيء ، ذاك الذي له القوة أن يعمل كل ما يشاء وما يوافق مشيئته ، ذاك الذي نقل بسهولة الكائنات ، المنظورة منها وغير المنظورة من العدم إلى الوجود بمجرد كلمة من اقتداره وإشارة من إرادته ، وإذ خلق العقول غير الهيولية الثانوية شبه العقل الكبير الأول : ذاته ، وجعلهم أنواراً ثانوية مثل نور أوليته الأكبر والأول ، وأعطاهم سلطة ذاتية بطبيعة خلقتهم العاقلة المجردة تماماً من أي ارتباط أو خضوع مادي : أراد أن يخلق ويكون بصورة عجيبة ، وعلى صورته وشبهه عقلاً آخر مثلهم ، له منذ خلقته ، سلطة ذاتية وحرية ، وأن شاء أنقذ نفسه بنفسه لدى من هو شبه مثاله دون أن يهلك ولئن كان ساقطاً تحت وطأة المادة ، ويوبخ العقول التي أظلمت وصارت بإرادتها أضداداً للنور خالقها . هكذا ولهذا السبب ، ولكي يظهر الله مصدر صلاحه وقوة اقتداره وغنى حمته ، رغب في أن يخلق هذا الإنسان العاقل قريباً للملائكة غير الجسمانيين أو الماديين ، فدعا وحرك ذاته ليخلق العقل البشري أي نفس الإنسان ، على صورته وشبهه ويخلطه بطين مادي جسماني ويجعلهما دهشة وأعجوبة ، وهما بهذا التركيب والاقتران ، ينظران إلى جميع العقول الناطقة الملائكية التي سبقته في الخلقة . ولكي يكون كلامنا واضحاً وصريحاً ويستمد قوة الإيضاح من الكتاب المقدس ، نعود ونقتبس ثانية في حديثنا عن خلقة النفس ، أقوال الله نفسها عن خلقة الإنسان التي وجهها إلى من هم منه ومعه خالقو الكل مثله ، حين أراد أن يظهر نور مجده ومعرفته الكاملة في خلقته للإنسان كشيء عظيم ومحبوب لديه جداً ، والتي اقتبسناها أعلاه
قال الروح موحي الكتاب المقدس : أن الله ، بعد أن خلق هذا العالم وكونه ، قال عن الإنسان الذي كان عتيداً أن يخلقه : ” لنعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا . ويتسلطون على سمك البحر وطيور السماء وعلى البهائم وكل الأرض ، وعلى جميع الدبابات التي تدب على الأرض ” . هذا ما كتب وسلم إلينا الروح على لسان الله خالق الإنسان . ثم يقول الروح : ” وخلق الله الإنسان ، على صورة الله خلقه ، ذكراً وأنثى خلقهما وباركهما الله قائلاً : انموا واكثروا واملأوا الأرض ، وكونوا أسياداً عليها ، وتسلطوا على سمك البحر وطيور السماء وكل البهائم وكل الأرض ، وكل الدبابات التي تدب على الأرض ” . فقد سبقنا وأوردنا أعلاه أقوال الله هذه ، لكي نظهر فيها الكرامة التي خلق بها الإنسان أكثر من سائر الحيوانات التي سبقت خلقتها على الأرض . ونوردها هنا أيضاً لنظهر بوضوح من هو الذي خلق على صورة الله وشبهه ، جسد الإنسان أم نفسه ؟ وما هي صورة النفس وشبهها بالله ؟ . لقد قال : ” لنعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا ” . فإذا أخذنا هذه الأقوال الإلهية والسرية بشرياً وبحسب كلامنا المألوف ، نجد أن لا صورة لله ولا شبه ، وأي شبه نستطيع أن ننسبه إلى جوهر طبيعة مجردة تماماً عن الجسم ، لا يرى ولا يدرك ، وغير قابل للتأمل أو الوصف ، ولكن يظهر ويفهم من هذه ، أن طبيعة الإنسان الجسمانية والهيولية ليست على صورة الله وشبهه الذي لا صورة له ولا شبه ، بل طبيعة النفس العاقلة غير الجسمانية وغير المنظورة التي منها كانت النفس . وهذا أيضاً أمر يصعب علينا أن نفكر فيه أو نتحدث عنه ، أي أن نقول : أن العقل هو الذي خلقه الله فيها على صورته وشبهه مثل سائر عقول الملائكة . وإذ نسمع باسم الصورة والشبه ندرك أن الله الخالق خلق العقول الناطقة وغير الهيولية واللطيفة أي القوات الروحانية شبيهة لفضائلها وحسناتها ، وكذلك العقل البشري أي النفس بمقدار ما يمكن تشبيه الطبيعة الخارجية المخلوقة بطبيعة خالقها غير الخارجية وغير المدركة
صفات الله والإنسان
وحيث أننا أسميناه ما لله (صفات ) فضائل وحسنات ، إذ لا ندري ماذا وكيف نقول عنها ما لم نستعمل الأسماء والتسميات الخاصة بنا . كما لا نعرف الحسنات التي نعتقدها في الله والتي بها صور وطبع العقل البشري ، حتى قيل أنه صورة الله وشبهه
أولاً – بعد أن نفكر وندرك أن الله أزلي ومنذ الأبد ولا بداية له ، ولا تدركه مخلوقاته ، نقول : أنه عاقل وغير منظور ولا جسم له ، وبخاصة عاقل وغير مدرك ولا يطاله العقل ، ولئن يمكن تصوره بعض الشيء والإلماح إليه وإذ خلق الله الخالق العقل بدافع صفاته التي بها يقال أنه صورته ، لذا قيل عن العقل أنه عاقل ، وهو غير منظور ولا جسم له
ثانياً – يقال عن الله ، وهو كذلك ، أنه غير متناه ولا مدرك نهائياً ، حقيقياً وبصورة كاملة . وبهذا أيضاً شبه الله العقل البشري وجعله صورة له ، فيقال عنه هو أيضاً أنه غير متناه ولا مدرك بشكل أو آخر ، إذ لا يمكن أن نحصره أو نتحراه دون أن نضل
ثالثاً – يقال : عن الله ، وهو كذلك . أنه لطيف وسهل وحاذق ويرى كل شيء . وقد تشبه العقل البشري بهذه أيضاً لدى خلقته ، وبهذه نفسها يقال عنه أنه صورة الله وشبهه ، لأنه هو الآخر لطيف وسهل وحاذق بطبعه ويرى كل شيء بالخيال
رابعاً – يقال : عن الله ، وهو كذلك ، أنه صالح وعادل ، إذ له وحده الصلاح الذي يسمو عن الكل . لهذا قال هو ( المسيح ) ” ليس صالح إلا الله وحده ” ، الذي له من طبيعته العدل والبر الذي يفوق الجبال علواً كما يرتل . لذلك قال لأبيه ، أنك عادل يا أبتاه ، والعالم لم يعرفك . وبهذا أيضاً شبه العقل البشري أي طبيعة النفس . ومن هذه الناحية أيضاً يقال أنه صورة خالقه ، ويدعي هو الآخر صالحاً وعادلاً بعض الشيء ، إذا ما سعى بقدر إمكانه وأتقن التشبه بشبهه ولو جزئياً
خامساً – يقال : عن الله ، وهو كذلك . أنه قوي وجبار وقادر على كل شيء . وبهذه أيضاً صور الله وشبه العقل البشري ، لذا أودع فيه غضباً وغيرة كحافزين مشجعين للشجاعة ، وبها أيضاً يقال أنه صورة خالقه جزئياً . كما يقال عن الناس أيضاً أنهم صور الله وأشباهه عندما يرون أنفسهم أقوياء بإرادتهم ويحملون ثقل الضعفاء
سادساً – يقال : عن الله ، وهو كذلك . أنه رحيم ولطيف بالبشر . وبهذا أيضاً شبه العقل البشري بخالقه واكتسب صورته ، وبها أيضاً يقال أنه صورة الله ، وبسببها جعل له ناموس طبيعي ليحب قريبه كنفسه ، ويتصف بالرحمة هو الآخر جزئياً إذا شاء أن يتقن صورته ويحب قريبه كنفسه ويرأف بأخوته . لذلك قال المسيح لتلاميذه : “كونوا رحماء كما أن أباكم هو رحيم “
سابعاً – يقال : عن الله ، وهو كذلك ، أنه حكيم بطبعه وعارف كل شيء . وهذه أيضاً وضعها الله الخالق في العقل البشري ، وطبعه عليها وصوره بها . ويقال تشبيهاً أنه بسبب هذه يدعى عارفاً وحكيماً جزئياً ، ويشترك معه عندما يتأمل بتمعن شبهه ويتقبل منه أشعة المعرفة والحكمة ، ويتأمل بما هو موجود
ثامناً – يقال : عن الله ، وهو كذلك ، أنه طاهر وقدوس ومنزه عن كل دنس ونجاسة بصورة تامة تسمو عن الجميع . وقد جعل الله العقل البشري شبهاً بهذه ، فيقال عنه هو أيضاً أنه طاهر وقديس بحدود وبقدر ما يمكن للمخلوقين . إذا ما اجتهد بكل قوته وطهر نفسه من الدنس والنجاسة جسداً وروحاً
تاسعاً – يقال : عن الله ، وهو كذلك ، أنه غير شرير ولا خاطئ ويبغض الشر والاثم . وقد طبع وثبت هذه أيضاً في العقل البشري المشبه بصورته ، وجعله هو الآخر أن يبغض الشر ويبغض الاثم ، لذا يقال عنه أنه صورة وشبه الله ولو في هذه فقط ، لأن له ضميراً في ذاته قاضياً يبغضها حتى عندما ينحرف ويميل إليها بإرداته
عاشراً – يقال : عن الله ، وهو كذلك . أنه هادئ وديع ومسالم وطويل الأناة ولم تذكر له إساءة ، ولا يكن حقداً ولا يضغن ، وبالحقيقة فأن الله قد جعل العقل البشري صورته ومثاله في هذه أيضاً ، ويمكنه أن يصورها في ذاته لو شاء فيكون صورة وشبها لله بها ، حيث يرى هادئاً وطيباً ووديعاً ومسالماً وطويل الأناة ، ولا يذكر الإساءات أو يكن حقداً لأخوته . لذا قال السيد المسيح ، ذلك الهادئ والوديع والمسالم ، لتلاميذه “انظروا إلي وتعلموا مني فأني وديع ومتواضع القلب ، فتجدون راحة لأنفسكم “
هذه هي صور تشبيه العقل البشري وتمثيله بصورة الله خالقه . والتي بها يقال عن كلا نفس الإنسان وعقله ، أنهما صورة وشبه الله خالقهما . وسوف نتحدث عنهما بإيجاز زيادة في الإيضاح لمن يرغبون أن يتعلموا
إن صور تشبيه العقل البشري بالله هي : أن يكون مثل خالقه عاقلاً وغير منظور وغير ذي جسم ولا متناه ، وغير مدرك ، ولطيفاً وحاذقاً وسهلاً ، ويرى كل شيء بالخيال عن بعد . وفي الصلاح والعدل والاقتدار والشجاعة والرحمة واللطف والمعرفة والحكمة والفهم ، الذي يتطلب في أعمال الله ، والطهر والقداسة والابتعاد عن الدنس وقذارة الجسد والروح ، وعدم الإساءة ، وعدم الاثم ، والهدوء والوداعة والمسالمة والطيب وطول الأناة ، وعدم ذكر الشر أو الحفيضة ، أضف إلى هذه ، إقامة الله إياه رئيساً ومتسلطاً على جميع الكائنات المحسوسة ، وإعطاؤه السلطان الذاتي والحرية الشخصية ، وجعله إياه أن يكون حيث لا يرى ولا يعرف أين هو ، ويكمل جميع أعضاء جسمه . ويؤثر وينظم ويحرك جميعها سوية متى وحيثما شاء . مثلما أن الله يكمل كل مخلوقاته ويؤثر فيها وينظمها ويحركها سوية متى وحيثما شاء . وهو غير مدرك ولا متناه ، ولا يعرف أين يوجد . وإلى جانب هذا ، وما يفوق كل هذه شبهاً ، كونه ينظر دائماً إلى مثاله ويستنير به ، ويرجع إلى شبهه ويندمج به مثل نور السراج الذي يؤخذ من اللهب ثم يعود ويندمج به من جديد ، ورغم أنه مخلوق وله بداية ، فقد جعل غير ماءت وغير فاسد ولا نهاية له إلى الأبد . هذا هو التشبيه الكامل للعقل البشري بالله خالقه . وهذه هي صورة النفس البشرية الحقيقية والرئيسية والثابتة لمثلها الخالق
في النفس
لقد اطلعنا الكتاب المقدس من خلال الأقوال التي اقتبسناها عن خلقة الإنسان : على السلطان الذي أعطي له من خالقه على سائر الخليقة المحسوسة . ومن الضروري أن يشمل كلامنا هنا ، الحديث عن اتحاد وتركيب هذا الإنسان . وعن هذا أيضاً يجب أن نقتبس من الكتاب المقدس ، ونضعه أساساً لما سنقوله فيما بعد . قال الكتاب الإلهي بهذا الصدد : ” وجبل الـرب الإله آدم تراباً من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حية… ” . فقد أخبرنا في الأولى ، أن الله خلق الإنسان على صورته وشبهه ، وفي هذه علمنا ماهية الجسد البشري المخلوق ، أي بيت الإنسان ، وماهية نفس الإنسان الحقيقي ، وأضاف موضحاً ، فدعا الجسد تراباً ، وأخبرنا في الوقت نفسه من أين أخذه الإله جابله ، وأعطى النفس اسما مناسباً – نسمة حية . وهنا لم يقل : ” خلق ” كما فعل في الأول ، بل ” جبل ” . وأن كلمة “جبل “ تظهر بوضوح بأن الجسد البشري هو طين مجبول من تراب الأرض والماء . يقول “جبل تراباً من الأرض ، ونفخ في انفه نسمة حية “ . فمن المعلوم أن الخالق استعار الجسد من الأرض التي سبقت خلقتها . أما نسمة الحياة فقد أضافها إلى الجبلة من عنده ، فقد سمى روح الله ، النفس التي خلقها الله على صورته وشبهه ، نسمة الحياة . لذلك أضاف فيما بعد قوله ، وكان الإنسان نفساً حية ، وبتأثيرها يتحرك الجسد الذي اتحدت به . أما قول الروح “ونفخ في وجهه “ فمعناه ، ومثلما يحدث عندنا ، أن الذي ينفخ في وجه قريبه ، يرسل إليه من ذاته ولسلطانه نفخة الريح إلى وجه من يتقبلها وليس من مكان آخر ، هكذا أيضاً وضع الله الخالق في خلقته للإنسان ، نفساً حية من ذاته بكل تشابهها ، يضاف إليها أنها حية صادرة عن الحي والمحيي ومانح الحياة ، وعاقلة من عاقل ، وغير مائتة ممن هو غير ماءت . فإذن النفس الناطقة والعاقلة التي لا جسم لها هي من الله الخالق العاقل الذي لا جسم له . ولا يشهد على هذا كتاب الروح الإلهي المقدس فقط ، بل هنالك أيضاً رجل من العبرانيين عالم وحكيم ومعروف ، سمى جميع النفوس ، بنات الله ، ليس لأنه وجدها فقط عاقلة من عاقل ، بل وإلى جانب هذا ، رأى أن محبة أبيها نحوها هي أضعاف محبة الأباء هنا للأبناء والبنات
ولا أجد بأساً من دعم كلامنا بأقوال بعض الوثنيين من كلدان ويونانيين ممن هم خارج حظيرتنا ، التي تؤيد الحق وتثبته . قال بعضهم في حديثهم عن الإله بيلوس مشبهين إياه بما لنا : أنه هو الذي خلق هذا العالم ، فعندما كون وميز السماء والأرض وما يتوسطهما ، انتقل للحال إلى عمل الإنسان كما نقول وكما فعل موسى وكتب ، وكتبوا بصورة رمزية وبما يتناسب ، هكذا “أن الإله بيلوس هذا عندما قطع رأس نفسه عجن في التراب الدم الذي سكب وجبل الناس ، لهذا فأنهم عقلاء ومشتركون بالحكمة الإلهية : أما بيلوس الذي يسمى زوس فقد فصل السماء والأرض عن بعضهما عندما قطع الظلام من وسطه ، والحيوانات التي لم تتحمل قوة النور هلكت ، والحيوانات التي لم تهلك – كما يبدو هنا – هي قوات الثلاب والشياطين المتمردة الذين صاروا أضداداً لله خالقهم . يقول عندما رأى بيلوس مكاناً خرباً وفارغاً ومثمراً – يبدو أنه يقصد الأرض – أمر أحد الآلهة ليقطع رأسه ويعجن تراباً بالدم المنسكب ويخلق بشراً وحيوانات بإمكانهم احتمال الهواء ، ثم أكمل بيلوس نفسه ( خلقة ) الكواكب والشمس والقمر والكواكب الخمسة التائهة ”
فهذه تشكل بمفهومها تشبيهاً تقريبياً نوعاً ما لما نقوله نحن ، وليست بعيدة كثيراً عن كلمة الحق ، فهي الأخرى تخبر وتؤكد على تكوين جزء من البشر من الله ، وهم عقلاء لأنهم من الله العاقل ، وأصلهم من الله ، كما قال وأكد واحد آخر منهم ، وأنهم يشتركون في الحكمة الإلهية ، ومن العدالة أن يكون المشتركون في حكمة الله ، صورة الله . أن الذين يتعاملون منا بالكلمات المألوفة ، لا يرون في قطع الله رأسه وانسكاب الدم منه الذي عجنه بالتراب وجبل البشر ، سوى أن الله وضع جزءاً منه في جبلة البشر لكي يشتركوا في المعرفة والحكمة ، حكمة الله التي يشترك فيها البشر العقلاء وذوو الفهم والذكاء ، أولئك الذين صاروا على صورة الله العاقل وشبهه باقتبالهم النفخة الإلهية . فما الذي ترى يجب أن يعتقده الإنسان حقاً فيها ، سوى كونها روح الله القدوس منعش ومحيي جميع النفوس الحية والناطقة ، ومنير جميع العقول الناطقة ، ذاك الذي تسميه الكتب هو الآخر حكمة الله ، ولئن كان كثير من ملافنة الكنيسة ، مفسري كلام الله في الكتب المقدسة يؤولون عبارة ” نفخ في وجهه نسمة الحياة ” التي قالها الروح عن جبل الإنسان ، بأنها تعني تكوين النفس ، استناداً إلى كونها وضعت فيما بعد عبارة ” وصار الإنسان نسمة حية ” . بيد أن الطوباوي كيرلس الذي أخذ المزيد من روح الله ، الملفان الكبير ومخزن كلام الروح ، أول عبارة “نفخ في وجهه نسمة “ بشركة الروح القدس . وقد أكد هذا وثبت العبارة بقوله الصريح ” أن النفخة التي نفخها الإله في آدم صورت الإنسان تصويراً ” ويقول ” ونحن نرى ونقول أيضاً أنها شركة الروح القدس ”
فإذا كانت نفخة الله هي التي صورت الإنسان تصويراً بحسب تأكيد هذا الرجل الروحاني الذي أكد كونها شركة الروح القدس ، فقد ظهر جلياً ، أن هذه هي الصورة الحقيقية والشبه الحقيقي بالله الذي خلقنا على صورته والذي بواسطته تكون دائماً للعقل البشري الناطق والمفكر ، شركة وفاعلية الروح الإلهي ، الذي ينير دائماً الأنفس الناطقة المتشبهة بالله وينقي ويطهر عقولها باستمرار ، لكي تقتبل أشعة معرفة الله ، لأن الله خلقنا ذوي سلطة ذاتية ، ولنا إرادة حرة دائمة تتجه حيثما شئنا ، سواء أمال فكرنا نحو الصالحات أم نحو الشر . وأن الخالق المدبر لا يسيرنا بالقوة ولئن يرغب في خلاصنا ، ويعيننا على ذلك في كل ظرف ومناسبة . فإذا طهرنا نحن بإرادتنا الحرة ، عقولنا كالمرأة لنقتبل في ذواتنا نور شركة الروح الإلهي ، نكون حقاً صور الله كما خلقنا . ولكن أن أفسدنا فكرنا وغضضنا الطرف بإرادتنا عن أشعة نور المعرفة الخالق ، وعن أشعة نور وصايا الله ونواميسه ، وملنا نحو الشهوات الجسدية ونحو متاهات ظلام هذا العالم ، نكون قد حكمنا على أنفسنا بأننا لسنا صورة الله كما خلقنا ، ونظهر أنفسنا بأننا بعيدون وغرباء عن شركة وفاعلية الروح الإلهي الذي أعطيناه لدى خلقتنا . هكذا أعطى الله الصلاح للإنسان لدى خلقته إياه ، وكان صلاحاً غير ثابت أو راسخ ، لأنه لم يثبت في الطبع بل وضع في الإرادة التي تلتقط الصلاح مثل الصورة ، لذلك فهو مهزوز فينا؛ نظراً إلى إرادتنا السيئة الميالة نحو الشرور منذ طفولتها ، وبسبب الخطيئة المسيطرة علينا ، وهو بلا عيب من حيث اتحادنا بالصالح ( الله )
لقد ظهر من كلمة الحق التي سلمها إلينا الروح الإلهي في الكتاب المقدس ، ما الذي تعنيه صورة النفس وشبهها بالله ، وما هي الصور التي تكمل العقل وتصونه بعيداً عن العبث والفساد . كما ظهر أن الأشياء التي دمجها الله في خلقته للإنسان بصورة عجيبة ، تختلف عن بعضها البعض وهي غير متساوية في الجوهر والطبيعة ، وذلك لكي يظهر قوته وحكمته وغنى صلاحه غير المحدود ، ويثير دهشة جميع العقول الناطقة التي سبقت خلقتها ، لهذا الاندماج غير المدرك ، فقد دمج الروح ، روحاً وطيناً لا لطبيعة الأثير ، بل للطبيعة العاقلة غير الجسمانية التي دمجت معاً وركبت تركيباً عجيباً مثيراً للدهشة ، طبيعة واحدة مركبة من أربعة أجسام ، أي من التراب والماء والهواء والنار ، منظورة وملموسة وذات أبعاد ثلاثة . وقد جمع الله وركب بحكمة ومهارة طبيعة أخرى روحية عاقلة وغير هيولية ، وخلق حيواناً مركباً وعجيباً – الإنسان – من طبائع مضادة ولا تشبه العنصر ، هذه التي كانت بعيدة عن بعضها البعض ومختلفة بأشواط غير محدودة . فقد قربها وركب منها طبيعة واحدة مركبة ومتحدة دون تبلبل أو تغيير ، ووحدت بشكل عجيب يفوق الوصف لكي تكون واحداً حقاً ، وتكون صفات كل منها حقيقية للمركب كله ، ولئن تحافظ على عدم امتزاجها . فقد جمع الله معاً ، منذ بداية هذا العالم ، الطبيعة المنظورة وغير المنظورة ، لكي يسبق فيمهد الطريق ، كما اعتقد للسر العظيم ليجعله قابلاً للإيمان به وتقبله عندما يتم . وإذا صح هذا هنا ، فأن الباحث المستقصي عن الخفايا ، يستنتج من الكلام عن تكوين وتركيب هذا الكيان المركب – الإنسان – بأنه سر ، لأن الله العارف بالأمور قبل حدوثها ، سبق فرأى أن الإنسان الذي خلقه وركبه من مواد مختلفة لا يشبه بعضها البعض ، سيخطئ ويسقط وسيبتعد عنه الجنس البشري برمته . وسينزل ويخلي نفسه من أجل إيجاد وخلاص صورته ، لذا سبق واتخذ رمزاً ومثالاً لطريقة وسر مجيئه ، من تركيب الإنسان من الطبائع المختلفة ، لكي يكون شبهاً ودليلاً مناسباً لاتحاد طبيعته مع الطبيعة البشرية التي سبق وخلقت على صورته وشبهه ، وسبقت وركبت هي الأخرى من الطبائع المختلفة التي لا تشبه بعضها . وبهذا أصبحت رمزاً ، لتقوم دليلاً على اتحاده وتركيبه بها . الأمر الذي كان مزمعاً أن يفعله من أجل خلاصه
ولقد سبق واتخذ سر اتحاد الإنسان رمزاً وإشارة إلى اتحاد الله مع هذه البشرية ، باتحاد النفس مع الجسد ، ليكون صورة ودليلاً واضحاً وجلياً على اتحاد الله الخالق مع الإنسان بالجسد لدى مجيئه من أجل خلاصه . لذا ، عندما جاء خالق الإنسان وأكمل الرمز ، لم يتخذ الباحثون في أسرار الكنيسة للبرهان على تأنس الله واتحاده بجسد الطبع البشري ذي النفس ، سوى تركيب الإنسان الذي تم من طبائع متباينة ، وقد سبق وأشار بهذا إلى جميع الطبائع المتباعدة والمختلفة معاً في الخالق والمخلوق ، فتجتمع مع بعضها البعض وتكون طبيعة متحدة وأقنوماً واحداً متحداً وغير منقسم ، أقنوم واحد للمسيح الرب ، الإنسان والإله ، واتحاد تام للإله الإنسان الذي تم باتحاد عجيب غير منفصم ، وإذ كان إلهاً بسيطاً صار إلهاً متحداً من أجل خلاص الإنسان المتحد
هكذا سبق الله الخالق ، واتخذ رمزاً ودليلاً على اتحاده مع جسد ذي نفس ، باتحاد صورته مع الجسد الحي . لأن نحن الذين صرنا بشراً ذوي نفوس كصورته ، إذ استعبدنا لشهوات الجسد صرنا جميعاً جسدين ، فكان من الضرورة أن يتحد الإله العاقل الذي لا جسد له ولا جسم فيصير ذا جسد من أجل خلاص وتحرير الإنسان من شهوات الجسد ، إذ يجعله روحانياً وإلهياً باتحاده به ويعطيه أن يسمى إلهاً كما اشتهى ورغب من قبل عندما خدعته الحية عدوه . هكذا ركبت طبيعة إنسان من هذه المضادات ، من التراب والروح ، من النفس والجسد ، ومن كونه منظوراً وغير منظور ، من الحساس والعاقل ، من الجسماني والروحاني ، من زائل وماءت ومن غير المائت إلى الأبد ، وهذا هو سر تركيبه
وبالإضافة إلى هذه الأسرار التي كشفها الحديث وجلاها بوضوح ، نتحدث الآن عن تركيب الإنسان الذي يدهش إخوانه العقول الروحية والناطقة الذين إذ يدهشهم تركيبه يمجدون حكمة الخالق . ولكي يمثل اتحاده الله مع الجسد ، ويشير الكلام بدقة وإمعان إلى أن هناك سراً آخر أبدعه الخالق الحكيم ، سنتناوله بالحديث أيضاً
حيث أن الكلمات التي نطق بها غريغوريوس اللاهوتي الحقيقي هي الهام إلهي ، وهي الأكثر مقدرة على وصف هذا السر ، لذا سنقتبسها هنا لكي نؤيد بها رأينا . قال في مكان ما وهو يتحدث عن حلقة الإنسان ، هكذا “لما كان العقل والحس قد انفصلا عن بعضهما البعض منذ مدة ، وانحصر كل منهما ضمن حدوده ، وظهرت فيهما عظمة الكلمة خالقهما ، فكانا المشيدين الصامتين بعظمة عمله ، ودعاة ذوي أصوات صارخة ، فلم يكن بعد امتزاج بينهما ولا اتحاد . أي شيء من تلك الأشياء المضادة ، وهذا دليل كلمة أعظم ، وغنى الطبيعة ، كما لم يكن غنى صلاحه قد ظهر بعد . فلما أراد الكلمة المبدع أن يصنع حيواناً واحداً من كليهما ، أي من الطبيعة المنظورة ، خلق الإنسان . إذ أخذ الجسد من المادة الموجودة من قبل ، ووضع من ذاته الحياة التي تعرف بالنفس العاقلة وصورة الله كعالم ثان ، يقيم الكبير في الصغير على الأرض ملاكاً آخر ، وساجداً متحداً ، وناظراً للخليقة المحسوسة ، يقف على سر العاقل ، ملك كل ما على الأرض ، يستمد سلطته من فوق ، أراضي وسماوي ، زمني وغير ماءت منظور وعاقل ، يتوسط العظمة والوضاعة ، له روح وجسد على حد سواء ، الروح من أجل النعمة ، والجسد من أجل الرفعة . فتلك لكي يستمر بواسطتها ممجداً ولي نعمته وهو يكرم بالعظمة ، أما هذه فلكي يتألم ، ولكي يتذكر ويتأدب عندما يتألم . حيوان يوجد هنا ويتنقل إلى مكان آخر . وختام السر ، أنه يتأله بجنوحه نحو الله . إلى هذا يقودني قبس ضئيل من حقيقة سناء الله ، فأرى وأحب . وهذا جدير بالذي يحل ويربط في آن واحد . بل ويربط بشكل أرفع وأعظم “
بهذا ظهر السر الثالث ، حيث أن النفس الناطقة والمفكرة ، عندما ترى ضعف الجسد البشري الذي اقترنت به وتشعر بشهواته ، وكأنها شهواتها ، لارتباطهما معاً ، وينالها العقاب بسبب الشهوة ، وتدرك زعزعة الأمور هنا وعدم ثباتها ، تهرب مما لا ثبات له أو بقاء وتنضم إلى الأشياء الباقية الثابتة التي لا نهاية لها ، لتنقذ خفتها من ثقل من اقترنت به بموجب قصد الله الذي قرنهما معاً لكي يخلصا معاً كذلك . بسبب صورته التي انطبعت وصورت فيهما . أما السر في تركيب الإنسان واتحاد النفس بالجسد معاً الذي يظهر قصد الله الخالق الذي قرنهما لهذه الغاية فأننا نوضحه كالآتي
الحياة
بما أن كلمة ” الحياة ” وسمعها لا تفهم بسهولة وليست على نمط واحد ، كما أن قواها ليست كلها واحدة ومتساوية في كل مكان ، لذلك فأننا سنبذل بعض الجهد بهذا الصدد . يطلق الوثنيون كلمة ” الحياة ” على البشر الناطقين والحيوانات غير الناطقة ، وكذلك على الأشجار والشجيرات ، وباختصار نقول : أنهم يطلقونها على كل شيء ، له قوة التغذية والنمو ، وله نفس . وعلى الأشجار والشجيرات وعلى كل شيء له قدرة النمو من الأرض وإنتاج زرع يحافظ على جنسه كما قال الكتاب المقدس . ويقولون ، أن القوة الغذائية والقوة النامية هما واحدة . ومن الواضح أنه لو لم تكن له قوة غريزية ترفعه وتعد القوت من التراب والماء والهواء والنار ، حتى إذا دخل إلى جوفه تغذى به وأضاف إلى جسمه فينمو ويكون أغصاناً وأوراقاً : لما دعوه ذات نفس ، كما يدعون كذا الخشب اليابس والأحجار التي لا تتغذى ولا تنمو . وبما أن هذه تتغذى وتنمو وتضيف إلى جسمها ، لذا يقولون أنها حية ويؤكدون على وجود نفس فيها ، ولكن ليس نفساً كاملة ، بل من حيث أن لها نفس القوة الغذائية والنامية
القوى الإنسانية
أما بالنسبة إلى الحيوانات والطيور والدبابات التي تدب على الأرض فيقولون أن لحياتها قوتين ، الأولى : المغذية والنامية كالتي للشجيرات ، والأخرى قوة الحس والحركة التي تدلل على أنها حية ، لذا يسمونها ذات نفس ويؤكدون على أن لها نفساً ليس كنفس النباتات غير المتكاملة والتي لها قوة واحدة فقط . كونها أكثر كمالاً منها . ولها قوتان في آن واحد . القوة المغذية والنامية ، والقوة الحسية والمتحركة ، لكنها ليست كاملة . ويقولون أن لنفس هذه ( الحيوانات ) غضباً وشهوة ، لذا فهي تشتهي الآكل وتطلبه بل وتخطفه ، وتهدد وتغار وتميل إلى الانتقام . أما عن الإنسان فيقولون ، أن له ثلاث قوى وحياة – ونحن أيضاً نؤيد هذا – القوة المغذية والنامية كالتي للنباتات ، والقوة الحسية والحركية كالتي للحيوانات ، والقوة العاقلة والمفكرة التي أعطيت له كهبة من الله خالقه ، باعتباره خلق على صورته وشبهه ، لذلك نقول أن للإنسان نفساً متكاملة ، مؤكدين أن لنفسه القوى الثلاث ، فلهذه النفس غضب وشهوة وفكر منطقي . وليس غريباً أن نصفها بمركبة أفلاطون المؤلفة من حمارين وسائسهما . ولهذا الإنسان المركب شهوة كالتي للحيوانات والتي بسببها يتزوج مثلها لاقامة النسل ، ويشتهي وينتزع الطعام مثلها نظراً إلى رابطهما الموحد . ثم هناك الشهوة نحو الصلاح نظراً إلى نمو النفس والجسد جنباً إلى جنب ، وكذلك الغضب الذي به يغار ضد الاثم ويكره الشر ، لأن كليهما مربوطان تحت مركبة ناطقة ومفكرة كربط الحمير بالمركبة ، وهي قابضة على زمام إدارتها كسائس حكيم وقوي ، وكمساعدة للنفس ، لا بل يبدو أن الله أعطاها هي الأخرى لذاك المركب من أجل استمرار وحفظ الحيوان المركب – الإنسان – ولا يمكن للإنسان أن يتحرك نحو الانتقام من الشر دون غضب ، ولا نحو اقتناء الصالحات دون رغبة أو شهوة . لذا فأن كلتيهما منحتا من الخالق الحكيم لتقويم النفس مع الفكر المتأمل المدبر . لكيما يكون الفكر بالنسبة إلى الغضب والشهوة مثل السائس بالنسبة إلى الحمير والمركبة . فيسير ويجاهد بنجاح في ميدان هذا العالم دون أن يسقط إطلاقا . ومثلما يشتهي ويريد الله خالق الإنسان ، ومانح الإكليل لجهاد الجنس البشري برمته . هكذا طبعت النفس على كل الفضائل ، فكانت صورة الله خالقها ، وهكذا ركب الإنسان من ضدين ، النفس والجسد ، فصار ذا حياة مركبة موضوعة في الوسط وقريبة من كل من الحيوانات غير الناطقة والمائتة ، والقوات الروحية العاقلة والناطقة وغير المائتة
وحيث أننا تحدثنا بما أوتينا من قوة ، ولئن بتلعثم ، عن هيئة الجسم البشري ، أي الإنسان الخارجي ، وعما فيه من تغييرات وخصائص معروفة ، وعن تكوين النفس وتشبيهها بالله ، وعن اتحادها العجيب وارتباطها بالجسد المركب الزائل ، داعمين حديثنا بأقوال الروح الإلهي القوية والطاهرة ، يجدر بنا الآن أن نتحدث عن النفس بإسهاب أكثر ، ونبين بقدر الامكان ، ماهية النفس وماهية العقل ، وهل أن العقل شيء آخر غير النفس أم لا ؟ . وما هي خصائص النفس المتميزة والمعروفة التي لا تنسب لأي طبيعة أخرى غريبة ، بل إليها فقط
تحديد النفس
إن لفظة ” النفس ” الواردة في قاموس لغتنا النهرية ، أي الآرامية ، هي مقتبسة من اللغة العريقة ، ولا ندري أصل هذه اللفظة ومدلولها لدى اليونان الحكماء وذوي المصطلحات الكثيرة ، لأن تشبيه اللفظة بكلمة ” برد ” جاء نتيجة للهذر الكثير والجهالة ولو اعتمدنا ما أقره أولئك الأغبياء وغير الحكماء وغير المستقرين ، من أن الأنفس إذ بردت من خدمتها المستمرة وقيامها الحار النشيط أمام خالقها ، سميت ” منفصلة ” أي باردة . لذلك فأنها فصلت وأقصيت وتغربت عن الله خالقها وعن الأرواح غير الهيولية والعاقلة والحارة ، لتسكن هذا العالم ، لأنها التزمت بالارتباط مع الجسد الثقيل الصلب والمليء أوجاعاً وآلاماً ، والزائل والمائت ، على كل حال ، ومهما دعيت ووصفت ، سواء ” المنفصلة ” أو نفساً أو لفظة أخرى ، فمن الضروري التحدث عن ماهيتها ، معطين عنها تعريفاً محدداً وواضحاً ، كما ونتحدث بقدر الإمكان عن الطبيعة غير الجسمانية بكلمات تصدر عن جسم
فالنفس هي جوهر مخلوق حي ذاتي الحركة ، وإذ هي عاقلة ومن دون جسم ، أعدها الله خالقها للارتباط بالجسد ، وليس العقل شيئاً آخر غير هذه ، أو طبيعة أخرى مغايرة وغريبة عنها . لكن هذا – كما سنحدده بقدر الإمكان – هو العين العاقلة القابلة للنور العاقل والمرشدة للنفس ، يرى بالخيال والتشبيه الممعن ، الأمور البعيدة كأنها قريبة . هذا هو موقع العقل من النفس ، فبواسطته ترى النفس ما ترى ، وبه تسمع باعتباره حاسة البصر أو السمع للجسم كله ، وبه أيضاً تتذوق أو تشتم أو تمس الأشياء التي تقترب منها ، ومثلما أن العين أو الأذن ليست ذات طبيعة أخرى أو غريبة عن طبيعة الجسد ، هكذا أيضاً العقل ليس غريباً أو شيئاً آخر سوى طبيعة النفس . أننا استعملنا مصطلح “النفس والعقل “ بالرغم من وجود مدلولات كثيرة تشير إليهما ، لأن عنصر “النفس “ أي العقل – قوام الإنسان “ – هو أكثر وضوحاً وانتشاراً ، وهذا ما تصبو أن يوجد فينا فيعطينا شبه الله خالقها ، الذي بسببه يقال أننا صورة الله ، فالله الخالق الذي يشبه صورته هذه ، هو عاقل وغير منظور وغير جسماني ، والنفس أيضاً أي العقل – صورته – هي الأخرى عاقلة وغير منظورة وغير جسمانية ، وهي موضع تعجب من قبل جميع ذوي العقول المبصرة والمفكرة . هذه هي طبيعة النفس ، وهذا هو العقل عين هذه ( النفس )
صفات النفس والعقل البشريين
أولاِ – إن صفات النفس الإنسانية الناطقة هي الآتية : أولاً : – أنها الوحيدة التي تتعامل مع الفكر الفاحص من دون سائر العقول المخلوقة الناطقة . فأن الله والملائكة غير الهيوليين ، وحتى الأبالسة الماردين ، لا يفكرون ، وليسوا بحاجة إلى التفكير فيما إذا ينبغي عمل هذا الشيء أم لا . فأنهم يعـرفون بمجرد نظرتهم إليه ، إذ لا يوجد حجاب أمام طبيعة العقل . فإذن من صفات النفس البشرية وحدها ، أن ترى إذا كان ينبغي أن تفعل هذا الشيء أو لا تفعله وذلك عن طريق الانتقال الفكري والتمحيص
ثانياً – ومن صفات النفس أي العقل البشري . لما كان العقل مرتبطاً ذاتياً بالجسد البشري المتحد به ، فأنه يتخيل فكرياً فيرى ويصور في ذاته الأمور البعيدة عنه كأنها قريبة منه . فيغدو وكأنه يسافر ويتنقل دون أن يبتعد عن مكانه . في حين أنه ملازم لمسكنه – الجسد – ولا ينفصل أو ينتقل من بيته . فأنه يرتفع بسرعة نحو السماء ، وبسهولة يهبط على الأرض ، ويغطس في لجة البحر ويغوص دون خوف ، ويطوف أرجاء العالم دون عناء ، حيث يرى ويبحث بإمعان كل الأمور . ويتأمل ويدرك بدقة كل أعمال الله خالقه
ثالثاً – ومن الصفات المتميزة والظاهرة للنفس المفكرة أي العقل البشري : عندما ينام الجسد البشري المرتبط بها ويركن إلى الهدوء ، ويرتاح هو الآخر معه لارتباطهما ببعضهما ، يكون كالإنسان المحصور في بيت مظلم لا يهدأ عن متاهات التفكير ، فيتحرك هو الآخر ويتيه في الخفاء محاولاً أن يرى ويزور ما كان يريد أن يراه ويزوره في يقظته ، ولئن اعتقد بعضهم أن لبعض الحيوانات غير الناطقة كالكلاب مثلاً ، شيئاً من هذا القبيل ، أي أنها ترى أحلاماً وتتخيل جزئياً ما تراه في اليقظة
ومن صفات النفس البشرية الناطقة ، أنها تتألم بآلام جسدها وتشقى في الأمراض والأوجاع معه وتتعذب مثله في الضيقات ، لأنها مرتبطة معه إرادياً وطبيعياً ، ولئن كانت غير متألمة بطبيعتها ، ومتسامية عن كل ألم ومرض ، وهي رصيفة تلك الروحانية غير الهيولية وغير الجسمانية ، البعيدة عن كل ألم أو ضيق ، والتي تتمتع بالنعمة المليئة بالأطايب والمسرات
وإلى جانب هذه ، فللنفس الناطقة والمفكرة أي العقل الذي فيها ، صفة أخرى ، هي كرهها للشر والخطيئة والاثم ، ومحبتها للصلاح والعدل والفضيلة ولئن تزل وتخطئ وتنحرف نحو الآلام والأمراض ، ولها أيضاً أن تتوب عن زلاتها إذا ما أخطأت ، تطلب الغفران من خالقها الرحيم ، وهو بدوره ، كمحب للبشر ، يمنحها هذه الهبة والقوة والتوبة والمغفرة
بالإضافة إلى فضائل صورته ، أعطى الله الخالق العقل البشري ، أن يتحرى من ذاته المعارف ويكتشف الأمور الضرورية والنافعة متشبهاً ، على قدر الإمكان ، بالله خالقه ومثاله
عظمة العقل العجيبة
عندما يتأمل ويبحث فكر الناس العقلاء الباحثين ، في الكائنات التي سبق الله وخلقها من أجله ، ويأخذه العجب العظيم : يستوجب عليه أن يمجد الله الخالق المبدع الذي وهبه كل هذا الفهم والحكمة لدى خلقته إياه . أو من أجل أعماله العظيمة والعجيبة ، أي السماء والأرض وما فيهما . ترى من لا يأخذه العجب وهو يرى إبداعات العقل البشري المدهشة التي تفوق الوصف . أقول هذا بالنسبة إلى أنواع ومقاييس الصناعات المتقنة التي تظهر في الأبنية المختلفة ، وإنشاءات المدن والهياكل والحمامات ذات المغاور المختلفة المتعددة الصيفية منها والشتوية . وفي صناعة الهندسة التي تظهر في الأدوار السفلى والعليا والوسطى ، الظاهرة منها والخفية ، وتقاسيم الشبابيك وزخرفة الأبواب والاواوين المتنوعة والسقوف المتباينة ، والأبنية ذات الحيطان المنقوشة والصور المتنوعة على الأحجار الكريمة اللماعة ، وأحياناً في البلاط اللماع ، وأحياناً في الذهب والفضة والزجاج الثمين البراق ، وفي مواد أخرى مختلفة وزاهية . من لا يندهش لإعداد وتركيب الأنابيب وقنوات المياه التي ابتدعتها واخترعتها عقول حاذقة لمهرة الناس في هذا العالم ، ترى من لا يندهش عندما يرى الصناعات التي يأتيها الناس الحاذقون بواسطة النار ، وعندما يرى المواد المتنوعة المستخرجة من الأرض ، الذهب والفضة والنحاس والحديد والزنك والرصاص والزجاج وغيرها من المواد . وما يصنع منها من أشياء وحاجيات ضرورية . من لا يندهش وهو يرى الصناعات التي اخترعها العقل البشري بواسطة الماء والهواء لفائدة البشر واستعمالاتهم ، أحجار وأخشاب مصنعة تخدمهم بأتم استعداد . أو الذين يعدون الطعام بواسطة المكاييل ( الغربال ) وغيرهم يرفعون الماء الضروري للسقي من الآبار والبرك العميقة بالمكائن والوسائل الأخرى ، وأحياناً يخرجونها من أعماق أنهار جارفة لا تسير جديرة بالدهشة . وكذلك طرق استخدام الهواء التي اكتشفها الإنسان من أجل حرفة الموسيقى والأغاني المتنوعة ، في الأرغن المصنوع مثلاً وغيره من الآلات الصالحة لمثل هذه الأمور . ترى كيف نعبر عن دهشتنا واشادتنا بما توصل إليه العقل البشري بمعرفته ، من المصنوعات المدهشة المختلفة من الحجر والخشب والجلود والعظام المأخوذة من الحيوانات ، ومن طين الأرض الحقير ومن أغصان وأوراق الأشجار وسائر الأعشاب والعروق المتنوعة ، وماذا عن اكتفاء الإنسان من الثياب مما ابتكره من الصوف وشعر الحيوانات ، ومن قشور أعشاب الأرض ومن أمعاء الديدان ، فهذه الأمور التي تدعو إلى الدهشة ، تدعو في الوقت نفسه إلى الثناء والعجب . كما تستحق الذكر أيضاً ، إبداعات المعرفة البشرية في أنواع النسيج المختلفة والثياب والأغطية المتقنة المتباينة العدة والمصنعة بحكمة . يقول الكتاب الإلهي بخصوصها – أننا نعزز كلامنا بالكلمات الذهبية بدلاً من كلمات الرصاص ، أو بعبارة أنسب ، لأن كلمات الروح تشد كلامي الهش – قال الله لأيوب : ” من وضع في الطخاء حكمة ، أو من أظهر في الشهب فطنة ” ، ” من أعطى النساء فطنة النسيج ومعرفة النقش ” . يقول الله هذا مظهراً به بعض المعرفة الفاعلة التي أوجدها في العقل البشري . وما هي جديرة بالإعجاب والثناء أكثر من هذه ، والتي بها ترفع التسابيح لخالق الإنسان ومعطي الحكمة للعقل البشري : إبداعات رجال الفطنة المهرة في الفلاحة . من فلاحة الأرض إلى جمع الغلال والثمار وخزنها . وأنا بدوري أتساءل عن هذه الأمور على غرار قول الله : ترى من الذي أودع الحكمة في خفايا الإنسان ، ومن أظهر في شهب العقل البشري فطنة؟ من الذي أعطى البشر كل هذه الحكمة والمعرفة لكي يعرفوا أن ينظموا شؤون الفلاحة ويجمعوا محصول الزرع ، والحصاد والدرس ، ويتقنوا خزن الخمر والزيت . وأضيف فأقول : من أعطى مثل هذه المعرفة وهذه القوة للذين يجوبون البحر بالسفن ، أو أولئك الذين ينجزون أعمالاً ما بواسطة المياه الكثيرة ، لكي يعرفوا كيف يهيئون لهم ، بطريقة حكيمة ، مراكب خشبية فوق المياه ، ووسائل ومعدات أخرى ، يقتنصون بها مساعدة الرياح ، ويسيطرون بذلك على هيجان وقساوة البحار ، ويطاون مخاوف أعماق الغمر؟
لقد توصل العقل البشري إلى كل هذه الأمور باكتشافاته ، وأمور أخرى كثيرة وعجيبة ورائعة تفوق الوصف ، استطاع أن يعدها ويتقنها بمعرفة ومهارة ، والبحث وانتهاز الفرص ، ليس فقط المفيدة منها ، بل والمضرة الآثمة أيضاً ، كتلك التي صنعها الناس وأعدوها لصنع الأسلحة لمحاربة بعضهم البعض ، وكالتي اخترعها الأعداء المقاتلون لمهاجمة المدن ، وكتلك التي صنعها أهالي المدن للدفاع ضد المهاجمين ، ولم أطيل الشرح ، فأعدد اختراعات حكمة العقل البشري الذي وجد في خلقته صورة وشبهاً لله الذي بهذا أظهره أنه فعلاً مثال صورته . فالله يعمل كل ما يشاء ، والعقل البشري يعمل بفطنة كل ما اكتشفه بصلئيل الفنان الماهر مشيد خيمة الشهادة ليكون شاهداً على اختراعات العقل البشري ، وحيرام الصوري الذي يثني عليه الكتاب الإلهي ، والذي صنع جميع أدوات النحاس لبيت الرب بحسب توصية ورغبة سليمان بن داود ملك إسرائيل . وفنانون آخرون ماهرون أتوا أعمالاً عجيبة جديرة بالثناء في بلدان متعددة ومناطق مختلفة ، واشتهروا في هذا العالم بسبب أعمالهم واختراعاتهم العجيبة ، التي هي نتيجة الحكمة والمعرفة ، مثل فيداس ودادلوس وغيرهم من الصناع الحاذقين . أنه لتطفل منا أن نأتي على ذكر أمثال هؤلاء ومن اشتهروا بالاختراعات
نتطرق هنا إلى ما هو ضروري فقط فنقول : لقد منح الله الخالق العقل البشري حكمة واستنارة بهذا المقدار في ما أتاه من اختراعات وأعمال ، حتى بلغ إلى أن يصب بشكل مناسب ، أعمال الطبيعة وخلائق الله ، ليس فقط بالأقلام التي بها نصنع تماثيل الناس والحيوانات والطيور ، من النحاس والحديد والذهب والفضة ومواد أخرى كثيرة ، بل من طين الأرض الحقير المجبول ، ومن مزج وتركيب الكلس والجبصين ومواد أخرى ، وإضافة إلى هذه ، نماذج من الأدوية والألوان المختلفة ، وقد تقدم بعضهم في أصالة الفن حتى أنهم خدعوا حاسة البصر لدى البشر والحيوانات ، نظراً إلى التشابه الحقيقي التام
حياة الإنسان وولادته
على هذه الصورة خلق الله العقل البشري ، وثبت فيه حكمة مقارنة ومفكرة ومدركة ، ومزجه بطين مركب ، متغير وزائل ، ومن تركيب هذه ، كون هذا الإنسان المنظور وغير المنظور الذي يقال عنه أنه شبه وصورة خالقه ، وهكذا أعده لينمو شيئاً فشيئاً ويتقدم نحو الأمام ويكتمل ماراً بمختلف القامات ، وكاشفاً تدريجياً عن المعرفة والحكمة التي غرست فيه . ولما كنا قد ذكرنا نمو هذا الإنسان المنظور ، في سياق قصته ، استوجب أن نعطي هذه الناحية أيضاً ، وبحسب الترتيب ، ما تحتاجه من الحديث . وكذلك لفترة الحياة التي حددها لها الخالق كما سبق ذكره ، فقد جاء في الكتاب الإلهي : أن الله خلق الحيوانات والنباتات ذكراً وأنثى يوم خلقها ، وأن الإنسانين الأولين اللذين خلقهما من التراب وكونهما من الأرض ، قد جمعهما جسداً واحداً وإرادة واحدة ، شأنهما شأن سائر الحيوانات والطيور ذات نفس حية ، بواسطة الزواج واتحاد الذكور والإناث بالشهوة والحب والقاء الزرع البشري من الرجل ، والدم من المرأة ليقيموا نسلاً لجنسهم داخل رحم المرأة . على هذا النمط رتب الله الخالق أن يتسلسل ويتكاثر الجنس البشري . لذا قال لهم : “أثمروا واكثروا واملأوا الأرض وكونوا أسياداً عليها “ . هكذا حدد الله المبدع الحكيم أن تتم صياغة وتركيب الإنسان الحي داخل رحم رطب لحمي وطيني الذي هو حجرة الطبيعة البشرية ، مثل غطاء النباتات النضرة في جوف الأرض الرطبة الطينية ، لأن قوام الإنسان وتركيبه هو من العناصر الأربعة : التراب والماء والهواء والنار . وربما بسبب هذا حدد الله الخالق المبدع الحكيم أربعين يوماً لاكتمال الجنين في الرحم ، مقسماً ومحدداً لكل من العناصر الأربعة بالتساوي عشرة أيام كاملة . وهذا ما يسلم به أيضاً علماء الطبيعة الحاذقون ، وكذلك جماعة من ملافنة الكنيسة القديسين الذين حددوا العدد أربعين يوماً لاكتمال صورة وهيئة وقوام الجسد البشري داخل رحم المرأة الحامل . ومن المعروف أنه منذ بدء الحمل يعجن ويتحد معاً النفس والجسد من أجل تركيب قوام طبيعة الإنسان المركبة . وحيث أن كليهما كانا معاً داخل الرحم ، فأن الجسد يتغذى ويزداد نمواً ويكتمل ظاهرياً وتدريجياً ، أما النفس فهي خفية وغير منظورة . وله قوة غريزية واحدة للحياة فقط حتى اليوم الأربعين ، وهي المسماة المغذية والنامية . لذا فأن الجنين لا يتحرك ولا يشعر حتى ذلك اليوم . وبعد اليوم الأربعين حيث تظهر وتنمو في الجنين قوة الحس والحركة ، يعرف عند ذاك بكونه حساساً ومتحركاً ، ويحرك نفسه داخل رحم أمه مثل يوحنا بن زكريا الذي ارتعش في بطن أمه اليصابات في الشهر السادس كما يشهد الروح المبشر . هذا هو حال الجنين في الرحم ، حيث يتغذى وينمو بالقوة الغريزية ، ويحس ويتحرك بالقوة الحية حتى الشهر التاسع ، حيث يكتمل الحمل البشري . هكذا حدد الله أن يتم حمل الإنسان وولادته خلال تسعة أشهر ، ولئن يطرأ أحياناً طارىء على الطبيعة فتنقص المدة المحددة من الخالق أو تزيد
هكذا تحدد وثبت زمن الحمل البشري في البطن ، وهكذا يكتمل الجسد البشري داخل أرحام الأمومة ، وهو يحمل كلا القوتين النفسيتين اللتين تظهر أفعالهما فيه ، واللتين أشرنا إليهما أعلاه . أي القوة الغريزية والقوة الحية ، دون أن تظهر فيه قوة النطق والتفكير الذي يعتبر نفس الإنسان الحقيقية المتكاملة . وهكذا يولد الإنسان بعد الحمل في البطن مدة تسعة أشهر ، ويخرج إلى هذا العالم التعيس المليء بالجرائم… وهكذا ينمو تدريجياً وبصعوبة وتحفظ ، كما تظهر أيضاً النفس الناطقة والمفكرة مع نمو جسدها ، حيث يدركها المعنيون تماماً من أعمالها ، وينظرون إليها وإلى أعمالها ببصائرهم . وهكذا يبدو نمو هذا ( الإنسان ) صعباً بهذا المقدار ، ويأخذ مدة أطول وأكثر من سائر حيوانات الأرض ، كما أنه أكثر كرامة بخلقته من سائر الكائنات المحسوسة ، ومن هذا يدرك كل واحد جيداً ويتحقق من الكلام القائل ، أن أكرم وأحب شيء هو الذي يكتسب بجهد وصعوبة . هكذا يولد الإنسان حيث يتغذى من جسد أمه بواسطة حليب أثدائها حتى السنة الثانية من عمره أو أكثر . توجد بعض الحيوانات التي تنتصب على الأرض فور ولادتها على رجليها وتسير مع أمهاتها . أما الإنسان فحتى بعد مضي سنتين بالكاد يستطيع تثبيت أرجله ليسير على الأرض . وفي حدود السنة الرابعة ، أكثر أو أقل قليلاً لدى بعضهم ، تظهر النفس الناطقة ذاتها بواسطة الكلام الذي يخرج ، والحركات والإشارات الجزئية التي تظهر بداية أعمالها وما في طبيعتها من قوى . وإلى أن ينمو الإنسان حتى السنة السابعة ، وله تفكير بسيط ومرن ، طاهر وبعيد عن كل شر ، ولا يدرك حتى عري جسده الذي كان لآدم ، الإنسان الأول وامرأته حواء . خلال فترة حياتهم السعيدة الخالية من الألم والضيق ، الحياة المقدسة الطاهرة التي يسميها الكتاب الإلهي رمزياً ، فردوس النعيم . هذه هي حال الإنسان في الأسبوع السنوي الأول من حياته ، حيث لا وجود للشر فيه ، ولا تحسب له خطيئة من قبل الله ديان الأحياء ، كما لا يدان حتى من الشرائع الموجودة هنا ، ولا من تلك التي هناك نظراً إلى حكم الله العادل ، لذا فأن سن السنوات السبع الأولى لا تصلح كثيراً للتربية والتعليم ، ولا أن تربى بقضيب التعليم ، ولكن يجب أن يقرب منه قضيب التحذير والتخويف من الأمور المضرة ، وفي الأسبوع السنوي الثاني من الحياة البشرية ، يظهر بجلاء اكتسابه الطبيعي لقوة النطق والتفكير المنسوبة إلى النفس العاقلة . وهذه هي السن الملائمة للتربية والتي تخضع لقضيب المربي ، كما أن الذنوب تحسب لمن في هذه السن ، وكذلك ما يقضي به الحكام من عقاب
النمو والبلوغ
أن الفتى الذي بلغ السنة الخامسة عشرة ، وقد اجتاز الأسبوع السنوي الثاني ، يكون أكثر صلاحاً لاقتبال التربية والعلم اعتباراً من السنة السابعة وحتى الخامسة عشرة ، حيث أن فكره لم يتدنس بعد بالشهوات التي تستوجب عقاباً من الموجهين . فقد قال سليمان في مطلع أمثاله عن سن الفتى هذه ” لنعطي الجهال حكمة والفتيان معرفة وفكراً ” . فلمثل هؤلاء يناسب إعطاء المعرفة والفكر ، لأنهم مثل الشمع الطري ، لهم استعداد تام لتنطبع فيهم بجدية صورة الفضيلة وتنقش فيهم المعرفة والحكمة ، لذلك دعي الذين هم في الأسبوع السنوي الثاني من حياتهم أحداثاُ . وتكون سن الأسبوع السنوي الثالث من حياة الإنسان ، أي من السنة الرابعة عشرة وحتى الحادية والعشرين ، مهزوزة وتنتفض بسهولة لريح الشهوات وتميل نحو مختلف النزعات بدون استقرار . وهي بحاجة إلى تغطية تامة وحرص دائم . فأنه ينمو وينضج دون سقوط في فترة الأسبوع السنوي الثالث ، وليس من العسير إصلاحه واقتباله التأديب وهذا شأنه أيضاً في الأسبوع السنوي الرابع . وعندما يكمل الإنسان الأسابيع السنوية الأربعة ، ويبلغ العقد الثالث ، يكون قد بلغ ملء قامة الرجال يعرف… … ويصبح أهلاً للرئاسة وإدارة الكثيرين إذا كانت لديه المعرفة والحكمة . هكذا ينمو الإنسان ، وهكذا يرحل عن حياة هذا العالم بأعمار متباينة ، أي رجلاً كاملاً أو في منتصف العمر أو في الشيخوخة ، لكي ينتقل إلى العالم الآخر بمقتضى أمر خالقه ، حيث أن الحياة حددت له بسبعين سنة أو ثمانين كقول الكتاب . قال ذلك الروح المرتل بلسان النبي موسى عندما كان يطلب إلى الله من أجل شعب إسرائيل ويترجاه أن يغض النظر عن خطاياهم خلال سنيهم التي هي سبعون سنة وبالكاد ثمانون سنة . هذا هو التحديد الأخير لفترة حياة البشر
عمر الإنسان
وأود أن أقول شيئاً آخر وأنا أنظر إلى فترة حياة رؤساء الآباء الأولين الطويلة الواردة في الكتاب الإلهي التي امتدت لدى معظمهم إلى نحو تسعمائة سنة أو أكثر ، كما يشهد الكتاب المقدس . بالنسبة إلى الذين ولدوا من الملائكة أبناء الله الذين شكوا ونكثوا عهدهم مع الله ، واتخذوا نساء من بنات قايين وولد منهم رجال مقاتلون وعملوا شروراً كثيرة على الأرض : فقد روى لنا الكتاب المقدس أن الله قال عنهم : ” لا تسكن روحي في هؤلاء الناس إلى الأبد لأنهم بشر ، بل تكون أيامهم مائة وعشرين سنة ” ، في حق هؤلاء فقط أصدر الله هذا الحكم وليس في حق سائر الجنس البشري الذي جاء فيما بعد . أنه لأمر واضح وظاهر أن الكتاب دون وروى عن حياة بعض رؤساء الآباء أنها امتدت بعد الطوفان إلى نحو ستمائة سنة وإلى سبعمائة أو أكثر بالنسبة إلى البعض الآخر . وكذلك زاوس اليوناني طاغية الكريتيين الذي ناهزت حياته السبعمائة سنة كما تروي مدونات وروايات المؤرخين اليونانيين . إضافة إلى هذا نقول : لا زالت حتى الآن حياة بعض الناس الهنود طويلة أكثر من سائر الشعوب ، تمتد إلى ثلاثمائة وخمسين سنة أو أربعمائة سنة ، ومعظمهم يعمرون حتى مائتي سنة أو مائتي وخمسين . أما في البلاد العربية الخصيبة فيعيشون حتى المائة والثلاثين سنة ، ويبدو أن بعضهم حتى الآن ما زال يشملهم تحديد الله للمئة والعشرين لحياة الذين أثموا قبل الطوفان ، وليس جميع الجنس البشري ، سواء في ذلك الزمان أو بعده
ويجب أن نتحدث عما هو موجود الآن . ففي البلدان الغربية مثل اسبانيا وفرنسا ( غاليا ) ، وفي البلدان الجنوبية ، سومطرة وسيفيثية بالكاد ومع الشيخوخة تمتد حياة الناس إلى نحو ستين سنة ، ويستنتج من هذا ، أن لمناخات المناطق تأثيراً على الشيخوخة وطول حياة الناس ، مع تحديدات الله التي تحدثنا عنها ، ولكن يجب أن ندرك أن أمر إطالة حياة البشر على الأرض وكيف ومتى تنتهي أيام حياتهم ويرحلون من هنا ، منوط بارادة الله ، لأنه يولي اهتمامه بجميعهم على حد سواء ، لا بل وبكل واحد بصورة خصوصية ، وبحياتهم وخروجهم وانتقالهم
اتحاد النفس بالجسد
وحيث أن الحديث تناول بما فيه الكفاية ، خلقة الله للعقل البشري ، وما وهبه خالقه من معرفة وحكمة ، واكتشافات العقل وأعماله المدهشة ، وقوام الإنسان وتركيبه من نفس وجسد ، وتسلسله عن طريق الزواج والحمل والولادة والنمو ، وعن مختلف سني أعماره وعدد سني حياته ، يجب ، لا بل من الضرورة ، أن نضيف فنتحدث عن اتحاد النفس بالجسد ، فمثلما أنها تحافظ على طبيعتها وخصائصها بدون امتزاج أو تبلبل أو اختلاط أو انصهار ، وبعيداً عن كل تغيير أو تبديل ، كذلك الجسد فأنه مستقل ومحافظ على خصائصه دون امتزاج أو تبلبل أو تغيير ، نظراً إلى وحدتهما الحقيقية وتركيبهما الكامل . وكلاهما يشكلان وحدة باطنية غير منقسمة بصورة متشابهة ومتساوية وكأنها كلها شيء واحد بسيط وغير متغير ، فهكذا تنسب إلى النفس آلام الجسد وكأنها من صلب طبيعتها ، وتنسب إلى الجسد خصائص النفس وكأنها من صلب طبيعته ، فينسب إلى النفس جوع الجسد وعطشه ، وشهوة الأكل والشرب ، والتعب والمرض والضعف والشعور بالبرد والحر وغيرها ، فيقال عنها أنها تجوع وتعطش وتعاني المرض وتضعف وتتألم . وكذلك الجسد فأنه يهيج ويخاف ويفزع ويكتئب ويفرح ويفلح ويهش بنشاط للشجاعة والجبروت ، هذه كلها تنسب إليه وكأنها من طبيعته وصادرة عنه وليست النفس هي مصدرها . ومثل هذه الأعمال لا تؤكدها النفس والجسد فقط عن طريق الأعمال المنظورة التي يأتيانها ، أو العامة وتقليدهم الذين هم الآخرون يؤكدون ذلك ، ولا الحديث المألوف الذي يدور حولها . ولكن الكتاب الإلهي أيضاً يشهد ويعلم هذه كلها ، نهجاً على ما اعتادت إليه العامة . إذ يقول الروح المرتل : “اشبع الله النفس الجائعة “ و ” بالحديد قيدت نفس يوسف ” . والذي يسرق لكي يشبع النفس الجائعة . اسرق ، يقول سليمان : في حين أن النفس لا تجوع ولا تشبع بالطعام الجسدي ولا تقيد بالحديد ولا تتألم بسبب أي من هذه الأمور التي تنسب إلى الجسد فقط . ولكن هكذا ينسب أو يكتب كل ما هو للجسد على النفس ، وما هو للنفس على الجسد ، نظراً إلى وحدتهما الحقيقية والطبيعية التي عملها لهما الله خالقهما ، والتركيب الذي يوفق بينهما في الوقت الذي هما بعيدان كثيراً الواحد عن الآخر سواء بالطبيعة أم بالخصائص المختلفة والمضادة ، بما هو منظور أو غير منظور ، بالحس والتعقل ، بالجسد والروح ، بالجسم ومن دون جسم . هكذا وحد الله خالقهما ، الكلمة الخالق ، النفس والجسد في وحدة حقيقية طبيعية وعجيبة وفائقة الوصف في حين أنهما شيئان مختلفان في الهدف وغير متساويين لبعضهما في الجوهر
وهكذا فأن المبدع الحكيم والقادر على كل شيء ، سبق وأعدهما متناسبين الواحد للآخر ، ينسب ما لأحدهما للآخر ويجعله وكأنه له . ولئن يظن الخصوم بأنهما لا يشبهان بعضهما ، سواء بالصفات أو الآلام أو أي شيء آخر . أو الأسماء أو الكلمات التي تشير إليهما . فأنه ( الله ) عمل هذه بحكمة وبشكل رمزي في آن واحد ، حيث سبق وأعطى صورة موضحة ورمزاً مشابهاً لسر تجسده ، فقد مهد الطريق وأعطى دليلاً على ما قيل عنه من كلام . فمثلما اتحدت النفس البسيطة والعاقلة مع الجسد المركب المحسوس اتحاداً طبيعياً دون امتزاج أو تبلبل ، ونسب كل منهما لنفسه ما هو للآخر دون أن يعترض أحد ، أو يشك في هذا ، لأن العرف والكتاب يشهدان ويوافقان على هذا كما بينا . هكذا اللاهوت البسيط العاقل الأزلي وغير المخلوق ، عندما اتحد طبيعياً وحقيقياً بالناسوت المركب والمحسوس والمخلوق ، باتحاد طبيعي وأقنومي عجيب لا يحد ، دون امتزاج أو تبلبل أو تغيير ، حيث أعطى ما هو للناسوت ، ونسب إليه ما للناسوت . تشهد على هذا أقوال الإنجيل المقدسة . وليس هناك من يعترض أو يشك من العقول التي تشترك بالمعرفة ، فبكل عدالة تنسب إلى ناسوته القوات والأعمال العجيبة التي كان المسيح يصنعها من شفاء المرضى وطرد الشياطين واقامة الموتى ، وأن آلام ناسوته ترتقي وجوباً إلى لاهوته ، الجوع والعطش ، النوم والتعب ، الارتباك والضيق ، الحزن والخوف ، وكذلك الألم والصلب والموت وجميع الأشياء الأخرى المنزهة عن الملام والخطيئة . وكل روح هي من الله ، تسلم وتعترف بهذا وتعرف يسوع المسيح الذي جاء بالجسد
الهدف من خلق الإنسان والمصير
إلى هنا ينتهي الحديث المختصر والمحدود الذي قيل عن هذه ، وفيه الكفاية لمن يعي كيف يسمع ويعترف . أما الآن فلنوجه حديثنا نحو هدفه . ونقول بلطف ، كل ما يدور من كلام من جهة الإنسان ، وأن ما يدور عنه هو ولا شك ضروري إذ يدور حول حياته في هذا العالم ، وضرورياته فيه ، ولماذا وضع فيه ، وحتى متى يدع الله الإنسان في هذا العالم ؟ وعن موته وانحلاله منه ، وعن بعث جسده من التراب ، وقيامته ، وعن يوم دينونة الجنس البشري برمته ، وعن المجازاة المعروفة والمعترف بها التي تعطى من قبل العدالة لمن يستحق من المدركين والمعترفين ، والتي تسميها الكتب المقدسة ملكوت السماء وجحيماً وناراً . عن هذه الأمور يدور الكلام في ما يخص الإنسان
ما هو ضروري للإنسان
لقد أعطي الإنسان ، مسلكاً في هذا العالم الذي جاء إليه ، وقد أباح له الله المعني والمدبر – أوضح كلامي هنا بأقوال الكتاب الروحي – أن يعمل في أرض اللعنات التي طرح فيها ليأكل خبزاً من عشب الحقل بعرق وجهه ، حيث يجني منها بالتعب والعناء والعذاب ما هو ضروري ونافع له فقط . فقد قال له : ” أنك تأكل منها بالآلام والأوجاع طيلة أيام حياتك ، وتنبت لك شوكاً وحسكاً ، وتأكل عشب الحقل ، بعرق وجهك تأكل خبزك حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها ، لأنك تراب وإلى التراب تعود ” . لقد قرر الله للإنسان وأباح له فقط الضروريات التي تخص مسلكه في هذا العالم ، وهذه الضروريات هي : أن يبني له بيوتاً من الأرض ليسكنها مع البهائم التي تخدمه ، وبها يتقي برد الشتاء القارص ، والحر في الصيف ، ويجمع منها القوت الضروري له ولبهائمه ، ويتزود منها بالأشياء الضرورية لسد حاجاته ، مثل الحديد والنحاس وأمور أخرى تشبهها ، ويعمل له ثياباً وكسوة منها ومن الحيوانات التي فوقها ، ليتدفأ بها في زمن البرد ويغطي عري جسده ، إجلالا للطبيعة وتخلصاً وتهرباً من العهارة
هذه هي كما يبدو ، الأشياء التي أباح بها الله سرياً للإنسان ، من أجل سكناه على الأرض ومسلكه في هذا العالم . ولكي أجمل كلامي بكلام رجل حكيم أورد هنا ما يلي : ” أن العناصر الأساسية لحياة الإنسان هي الخبز والماء والكساء ، والبيت لستر عورته ” ، وبناء على قول هذا الرجل الحكيم ، فأن البيت والثياب هي ضرورية لستر عورة الإنسان ، وليس من اجل الزينة والتبجح الفارغ والباطل الذي لا طائل تحته؛ إذ يزين باطلاً قبل سكانه ، ببلاط ذهبية وأحجار براقة لماعة ، وجهد لا جدوى منه . ولكي نعطي لكلامنا إيضاحاً أكثر عن هذه الضروريات ، لا بد من إضافة شيء آخر هنا مناسب وضروري ، من أقوال هذا الرجل الحكيم . فقد قال بهذا الصدد ما يلي : ” أن رأس كل الأشياء الضرورية لحياة الناس هو الماء والنار والحديد والملح ولب الحنطة والحليب والعسل وعصير العنب ، والزيت ، وأدوات الغطاء والملابس ” ، ويضيف سارداً أشياء أخرى مناسبة جداً ، ليظهر أن هذه كافية للأتقياء وخائفي الله الذين لا يطمعون في أمور زائدة ، ولئن يسعى الجشعون بجشع وراء أمور أخرى ، فأنه يقول : أن هذه كلها خلقت صالحة للصالحين وخائفي الله ، ولعنة وشراً للأشرار والأثمة . هذه فقط كانت الأشياء الضرورية لسكنى الناس في هذا العالم ، أما الذهب والفضة وما يشبهها ، فقد وجدت كنتيجة للطمع الشديد ، وأثارت على الجنس البشري بل وحياته برمتها حروباً ومظالم وغيرها من الشرور الكثيرة ، فأن جميع حاجات الإنسان قد سدت ولم ينقصه شيء حتى ولو لم تكتشف هذه ، فليس هناك كلمة واحدة تشير إلى اكتشاف الذهب والفضة قبل الطوفان ، حتى ولا ذكر لها إطلاقا . ومع ذلك لم تكن حياته في هذا العالم تنقصها حاجة ، ولم تكن له حاجة ماسة إلى الذهب . أذن فليكن معلوماً : أن اكتشاف هذه ليس فقط دون فائدة ، بل هو ضار ومسبب للشرور ، وأن محبة المال هي أم وأصل كل الشرور كما دعاها القول الرسولي
لماذا الإنسان في العالم ؟
إلى هنا يكون الحديث قد أوضح بإيجاز الأمور الضرورية لمعيشة الناس ، أما لماذا وضع الإنسان في عالم العذاب والعناء والأمراض ، بعد سقوطه وخطيئته؟ وعلى أية قاعدة تقرر هذا . وحتى متى يخضع لحكم هذا القضاء؟ . فسنوضح هذه الأمور الآن بصورة سريعة . فالإنسان لم يرسل إلى هذا العالم ليمكث فيه أو يسكنه إلى الأبد ، بل من أجل أن يؤدب فيه كالطفل في مدرسة التربية وتمحى خطيئته وذنب آدم وعصيانه بالكامل ، ولكي يدرك عندما يتأدب ، أن هذا العالم هو حقاً غابة البكاء وليس مسكناً ، وساعة أحلام غير مستقرة أو مستمرة وليس كمال الأشياء ، وإذا اعترف بهذا ، غض نظر تفكيره عما هو هنا ، وإذ ينظر نحو خالقه منتظراً خلاصه ، فإنه يتشبث ويصمد دون تزعزع ، على رغبة ومحبة الأمور الثابتة والباقية . هذا هو السبب الذي من أجله طرد الإنسان ووضع في هذا العالم . وقد امتد حكم القضاء بهذا المقدار حتى شمل الجنس البشري ، لكي يعيش سوية وهو شقي ومعذب بشرور هذا العالم ، في الحمل والولادة والتربية والضيقات والأوجاع والنزعات والآلام والأمراض وضعف الشيخوخة ، ومن ثم بالموت وفساد الجسد ، والبقاء في الأرض حتى اكتمال عدد المختارين المفرزين الموجودين في كيان الإنسان منذ خلقته ، المعنيين والمعروفين لدى الله خالقهم ، منذ بداية وجود الإنسان . وحين اكتمال هذا العدد ، سينقطع فوراً نسل الجنس البشري وتتوقف مسيرة هذا العالم التعيس الشقي . وهذا هو سبب تيهان وغربة الجنس البشري الشقي في هذا العالم
هذه هي حياة الإنسان في هذا العالم ، لذا فأنها ستكتمل فيما بعد الموت والفساد في القبور ، وانحلال وتلاشي أعضاء الجسد في الأرض ، وتبديد عظامنا في الهاوية كما يقول المرتل . فسيرسل الجسد إلى التراب بقرار من الله ، ومن هناك ينتقل كل من العناصر إلى ما هو من جنسه ، الماء والهواء والنار ، حتى يبقى التراب وحده حقاً على الأرض مثيله في الجنس . أما النفس فستنتقل أما عند أنفس الصالحين مع جموع الملائكة القديسين ، أو عند أنفس الأثمة مع زمر الأبالسة المتمردين ، كل واحد بحسب حكم الله الصادر بحقها حتى يأتي وقت قيامة الجنس البشري كله والدينونة والمجازاة العادلة المقضية على كل واحد بحسب أعماله . وبموجب مسلكه وأفعاله هنا . وبهذا يكون الحديث قد شمل كل هذه الأمور ، وتأكد بشهادة الرجال القدامى والمحدثين ، آبائنا مثبتي الكنيسة المتبحرين الصادقين والجديرين بالثقة الذين علموا وسلموا إلينا
البعث والقيامة
وحيث أن الحديث تطرق إلى البعث والقيامة ، استوجب أن نتوسع قليلاً بشأنها ، فنتحدث عن الأمور الهامة مشيرين إلى الأقوال الصادقة التي قيلت فيها ، والأقوال المزيفة التي يجب ألا تقبل . إذ ليس لجميع الذين يعترفون ببعث الأموات وقيامة الأجساد من التراب ، آراء صائبة فيها . لذا ولكي يكون كلامنا عنها واضحاً ومستنيراً ، رأينا أن نضع نصب أعيننا أولاً اختلاف الآراء بشأنها بالترتيب المناسب مع العدد المشير إليها . ومن ثم الكلام الصادق والصائب ، إلى جانب الشهادات المقبولة ، مضيفين ما يناسب من أقوال الروح الإلهي ، إسنادا وتأكيداً لكلامنا بخصوصها
أولاً – لقد خاصم قوم من الهراطقة اليهود المعروفين بالصدوقيين ، المسيح ، منكرين حدوث قيامة الأموات ، وقالوا في حالة حدوثها يكون الزواج بين الرجال والنساء أمراً ضرورياً . إلا أن المسيح برده ، سفه هذه الهراطقة وأبطلها قائلاً لأولئك الضالين : ” أنكم تضلون لأنكم لا تعرفون الكتب ولا قوة الله . تعلمون أنه في القيامة لا يتزوج الرجال نساء ولا تكون النساء للرجال ، بل يكونون كملائكة الله في السماء . هكذا هم ”
ثانياً – وقال آخرون بجنون : أن الأجساد في القيامة تكون روحية أثيرية ، لا أجساداً كثيفة ذات احساس ثابت وسليم ، ودعماً لرأيهم يستشهدون بقول بولس القائل : ” وأن كنا قد عرفنا المسيح حسب الجسد ، لكن الآن لا نعرفه بعد ” ، ويدعون بأن أجسادنا أيضاً ستكون مثل جسد المسيح في القيامة . فهؤلاء يدحضهم قول الرب لتلاميذه : ” المسوني واعرفوا أن ليس للروح لحم وعظام كما ترون لي ” . فإذا كان للمسيح بعد القيامة لحم وعظام ملموسة ، فهي ليست أثيرية أو روحية ، بل جسم سليم وقائم يحتوي على العناصر الأربعة ، وإذا دعموا قولهم بدخوله والأبواب مغلقة ، فليعلموا أن هذا يدخل في نطاق أعماله الإلهية الخارقة للطبيعة ، وليس لأجسادنا أن تدخل بعد القيامة والأبواب مغلقة . أما قول بولس فلا يشير إلى أن جسد المسيح ليس لحماً بعد القيامة ، بل إلى أن جسد الرب لا يخضع بعد قيامته من بين الأموات إلى الشهوات الجسدية الطبيعية التي كانت له قبل القيامة . وآخرون يهذون عن قلة العقل ويقولون : سوف لن تكون للأجساد ، الهيئة التي كانت لها قبل القيامة ، ويتساءلون عن ضلالة ، ما الحاجة إلى أن تكون لهم أيد وهم لا يعملون شيئاً . لماذا تكون لهم أرجل وهم ليسوا بحاجة إلى المشي ؟ لماذا تكون لهم أعضاء التناسل وهم لا يتزوجون ؟ أنهم يقولون هذا لأنهم لا يدركون أن ذاك الذي أهله الله ليشترك في صورته مهما كان كبيراً أو صغيراً ، لا يدعه يهان أو يهلك . ولا يفكرون بما كتب ، بأن كل ما خلقه الله هو حسن . فإذا كان حسناً ، كل ما خلقه الله الذي هو أكثر علماً وحكمة . أذن فأعضاء الإناث قد خلقها الله مكون الطبيعة ضرورة وهي حسنة ، إذ استحقت هي الأخرى لشركة صورته . لذا فلا تترك للفساد لتهلك وتصير وكأنها لم تكن ، لكنها ستستقر في أماكنها لدى تجديد الأجساد البشرية ، وسيبقى أيضاً شكل الجسد الذكري ، وشكل الجسد الأنثوي ، وسيظل الرجل رجلاً والمرأة امرأة ، فالمسيح بقوله : “يكونون كملائكة الله لا يزوجون ولا يتزوجون “ لا ينفي وجود رجال ونساء ، بل يشير فقط إلى أنهم لا يتزوجون . لذا ، وحيث أن جميع الأجساد البشرية اشتركت في صورته ، فأنها ستقوم كاملة بهيئاتها وأعضائها الكبيرة والصغيرة دون أن يطرأ عليها نقص ما .ويبعث من جديد صفاء الطبيعة ونقاؤها الكامل ، متحرراً من كل الشهوات والعيوب ، ومن كل الزوائد والنواقص . ولم أطيل الكلام وقد تجمله كلمات رسولية قليلة ألهمها الروح ، تلك التي بها تظهر الأمور الحقيقية والسليمة . قال بولس الإلهي في قيامة الأجساد البشرية : “تزرع بفساد وتقوم بلا فساد ، تزرع بهوان وتقوم بالمجد ، تزرع بضعف وتقوم بقوة ، يزرع جسد نفساني ويقوم جسد روحاني ، هناك جسد نفساني وجسد روحاني “
هذا ما قاله الروح الرسولي في الأجساد البشرية ، حيث يسمى جسداً نفسانياً ، الجسد الذي له جميع الشهوات الجسدية والنفسية كالجوع والعطش والنوم والمرض وما شابهها ، والغضب والشهوة والتشوش ، الخوف والضيق ، وسائر شهوات النفس الأخرى ، وهذه كلها تخص ذاك المركب . أما الروحاني فهو الذي قد تحرر من كل هذه . ثم يستطرد الرسول قائلاً : ” لا يستطيع اللحم والدم أن يرثا ملكوت السماء ، ولا الفاسد يرث عدم فساد ” ، فهو يسمي الجسد المستعبد للشهوات الجسدية والنفسية لحماً ودماً وفساداً . أما ملكوت السماء فقد سماه عدم الفساد ، وهو ما سيمنح الله للذين يحبونه . ثم يقول : ” لا نرقد كلنا أي نموت ، بل كلنا نتغير ” ، ويشير هنا إلى تحرير الأجساد البشرية من الشهوات . ولما أراد أن يظهر ماهية مفاعيل القيامة وقوتها ، قال : ” أن هذا الفاسد سيلبس عدم فساد ، وهذا المائت عدم الموت ، فيتم القول المكتوب : أن قد ابتلع الموت بالغلبة . فأين شوكتك أيها الموت ، وأين غلبتك أيتها الهاوية ؟ ”
فقد أوضح الروح الرسولي بهذه الكلمات صراحة ، أن تحريراً كاملاً من جميع الشهوات الجسدية والنفسية سيتم للأجساد البشرية في القيامة من بين الأموات وبتسميته دائين كبيرين هما الفساد والموت ، يكون قد أخرج وحرر جميع الأجساد التي ستقوم من بين الأموات ، من سائر الشهوات . لذا فأن الأجساد ستتحرر في القيامة من جميع شهوات الجسد ، وليس من هيئة أعضائها التي أعطتها إياها الطبيعة بأمر خالقها . فهذا هو شكل قيامة الأجساد البشرية بموجب إعلان الأقوال الإلهية
” لما وصل الكاتب ، أي المعلم الحكيم ، إلى هنا ، انتهت حياته وانتهى حديثه ، فأكمل البقية الأسقف جاورجي أسقف العرب والطائيين وبني عقيل الذي في عهده تمت كتابة هذا الكتاب وهذه اللوحة أيضاً “
الدينونة
لنتحدث الآن عن الدينونة التي ستتم – كما ذكر – بعد البعث وقيامة أجسادنا من القبور ، فنذكر أولاً أن الكثيرين اعتادوا جهلاً ، تسمية الدينونة عقاباً ، قياساً بالذين يصدرون قرارات حكم ضد البعض ويقرنونها بالعذابات والضيقات والآلام المختلفة ، بسبب إجرامهم وشرورهم المتنوعة ، لذا يقولون : أن فلاناً أصدر مرات كثيرة أحكاماً قاسية ومريرة ضد المتهم الفلاني ، أو أن الحاكم الفلاني لم ينصف كثيراً المتهم الفلاني الذي مثل أمامه . وتوجد هنا وهناك في الكتاب المقدس ، عبارات توحي بالظن بأن ما حدث هو حقيقة . كالتي قالها يعقوب أخو الرب في رسالته الجامعة : ” لأن الحكم هو بلا رحمة لمن لم يعمل رحمة ، وكما قال الرسول بولس وأشعيا : ” لأنه بنار يدين الرب ويمتحن بها كل جسد ” . وكما جاء في إنجيل يوحنا على لسان مخلصنا : ” الذين عملوا الصالحات إلى قيامة الدينونة ” . أنه فحص واستقصاء وامتحان يجريه الديان مع بعضهم عما اقترفوه ، ومع البعض الآخر عما عانوه واحتملوه من الغبن والمظالم . والدليل على هذا هو ، أن أياً كان يستطيع ، لو شاء ، أن يجد في الكتب الإلهية ما لا حصر له منها ، ويقارن بين الأمور الصغيرة والكبيرة ، ومنها شهادة الكتاب ، وما أمر الله قضاة بني إسرائيل بواسطة أشعيا النبي قائلاً… ، وكذلك … و… كما نبه الله مراراً ، وأيضاً وما قاله داود ، وما قاله داود وأرميا . وكذلك . . ما قاله داود . والكثير مما هو على غرار ذلك
بيد أن الشهادة الأكثر وضوحاً على حقيقة هذا ، ما قاله الروح المرتل نفسه بشأن الأثمة الكاملين الظاهرين ، ” لذلك لا تقوم الأشرار في الدين ” . فإذا كانت الدينونة عقاباً وعذاباً كزعم بعضهم ، فكيف يقول “لا يقوم الأشرار للدينونة “ أي العذاب؟ . فهذا لا يتناسب ، ولكن المعروف أنه قال هذا بالنسبة إلى الأشرار الذين تميزوا من البطن ، فمثل هؤلاء لا يستحقون حتى أن يقوموا في الدينونة مع الصالحين . فأن أعمالهم لا تحتاج إلى بحث وتمحيص أمام الديان ، لأنها مكشوفة ومفضوحة أمام كل واحد . لذا فأن دينونة الله العتيد للجنس البشـري عادلة ومستقيمة
وسيكون امتحان وفحص وتمحيص بعد البعث وقيامة أجسادهم من الموت . ويتم ذلك بحسب اعتراف وأقوال كل واحد بشكل ملائم وعادل جداً . ومثلما يحدث في هذا العالم بالنسبة إلى الذين حصلوا على رئاسات عليا أو دنيا ، ويودون تسليم بعض السلطات لمن هم أدنى منهم ، أي يقيمونهم وكلاء على بيوتهم وأعمالهم ، أما كمأجورين أو كعبيد أن حدث ، أو أحياناً كأبناء . وكما اعتادوا ، عندما تنتهي المدة المقررة ، أو عندما يرغب الرؤساء ويحسن لهم أن يمثلوا أمامهم للمقاضاة والامتحان ، أي التمحيص والفحص والحساب ، في ما أسلم لكل منهم واؤتمن عليه ، هكذا الله أيضاً رئيس الرؤساء وملك الملوك وسيد السادات ، مزمع أن يمتحن ويدين ، أي أن يفحص ويبحث مع كل الناس ، في كل الأشياء التي أسلمهم إياها وائتمنهم عليها ، وقد سبق فكر مهم إذ منحهم إياها وعن تصرفهم منذ اليوم الأول لخلقتهم وحتى اليوم الأخير يوم بعثهم ، ليس فقط بالنسبة إلى ما ذكرناه وسردناه ، مما فعل ، بل أيضاً بالنسبة إلى أمور أخرى لا تحصى . وإذ فعل الله هذا ، لا لكونه محتاجاً إلى الدينونة والفحص ليعرف أعمال وأفعال البشر ، لأنه هو الذي يعرف خفايا القلب ، وهو فاحص الكلى والقلوب كما هو مكتوب ، وكل شيء مكشوف وظاهر أمامه ، من أعمال وأقوال وحتى حركات الفكر . ولكن ليظهر للملائكة والناس على السواء ، أنه يدين المسكونة بحق والشعوب بالاستقامة ، ويجازي بعدل كل إنسان بحسب مسلكه وثمار أعماله كما تصرح الكتب الإلهية : ” معروف هو الرب . قضاء أمضى . الشرير يعلق بعمل يديه ” . ثم ” لأنه لا ينسى المسكين إلى الأبد ، رجاء البائسين لا يخيب إلى الأبد ”
من المعلوم لدى العارفين ، أن ما ينسب إلى الله بأنه يجلس على كرسي القضاء ويدين ويفحص ويمتحن ويختبر أعمال الناس وأفعالهم ، إنما ينسب إليه بحسب اصطلاحنا نحن البشر ، كما كتب عنه أيضاً هنا وهناك في الكتب المقدسة في العهد القديم والجديد ، وكما يكتب عنه الآخرون ، أو كما ينسب هو إلى نفسه ، فلا يوجد هناك أو عنده كرسي أو مجلس ملموس ، أو دينونة وامتحان بمعناه الحرفي ، بل ما يليق بالله من سلطان غير هيولي ودينونة معينة وامتحان عقلي ، وهو وحده يعرف كيف سيكون ، لا بد وأن سيكون حقيقة لا كذباً . كما تشير وتنادي كتب جميع الأنبياء والرسل المقدسة . والأكثر وضوحاً وجلاء رب الأنبياء والرسل نفسه يسوع المسيح العتيد أن يدين الأحياء والأموات عندما يظهر في مجيئه ، كما كتب بولس . ذاك الذي هو ديان الحق كما رتل داود ، ذاك الذي صرخ في الإنجيل المقدس بلسان يوحنا قائلاً : ” أن الآب لا يدين أحداً بل أعطى الحكم كله للابن ” ، ثم يستطرد : ” وكما أن للأب حياة بذاته ، هكذا أعطى الابن أن تكون له الحياة بذاته ، وأعطاه سلطاناً أن يدين ”
أولاً – إن هذا الديان هو ابن الإنسان الذي ستظهر علامته في المساء ، والعتيد أن يرسل ملائكته مع بوق كبير ويجمع مختاريه من الرياح الأربع من رأس السماوات وحتى رأسها الآخر
ثانياً – هذا هو الديان ابن الإنسان العتيد أن يأتي بمجد أبيه مع ملائكته القديسين ليجازي كل واحد كأفعاله
ثالثاً – هذا هو الديان الذي ستقوم ملكة التيمن أمام عرشه في الدين لتحاكم جيل اليهود وتدينهم
رابعاً – هذا هو الديان الذي سيقوم أمامه رجال نينوى ومعهم جيل اليهود ليحاكموه ويدينوه
خامساً – أن هذا الديان والسيد الصالح هو الذي يشد وسطه ويتكئ عبيده الصالحين ويتقدم ويخدمهم إذ يراهم وقد شدوا أوساطهم وأناروا مشاعلهم منتظرين مجيئه من العرس
سادساً – هذا هو الديان الذي أقام على بيته ذلك العبد الأمين الحكيم ، ليعطي الطعام في حينه ، وعندما يراه يعمل هكذا ، يعطيه الطوبى حيث يقيمه على كل ماله
سابعاً – هذا الديان ، هو ذلك الرجل الغني الذي كان له وكيل… ولأنه كان يبدد أمواله دعاه سيده وقال له أعطني حساب وكالتك لأنك لن تستطيع بعد الآن أن تكون لي وكيلاً
ثامناً – هذا الديان ، هو ذلك الرجل الذي إذ أراد أن يسافر ، دعا عبيده وأعطاهم وزنات ، ولدى عودته سيثني على الذين تاجروا بها حسنا ويدخلهم إلى فرحه ، أما العبد الشرير الكسول الذي طمر وزنته ولم يتاجر بها فيخرجه إلى الظلمة البرانية ويداه ورجلاه مشدودة
تاسعاً – هذا هو الديان الذي يأتي في منتصف الليل مع الصراخ ، ويدخل معه إلى خدر العذارى الحكيمات اللواتي أضأن مصابيحهن
عاشراً – هذا هو الديان ابن الله الذي سيعترف أمام أبيه الذي في السماء بكل من يعترف به أمام الناس ، ومن أنكره من الناس ، ينكره هو الآخر أمام أبيه الذي في السماء
الحادي عشر – هذا الديان هو المسيح الذي نحن جميعاً عتيدون أن نقف أمام عرشه الرهيب عراة مطمئنين ليجازي كل واحد بجسده بحسب ما عمل ، صالحات كانت أم سيئات
الثاني عشر – هذا الديان هو ابن الإنسان الذي ، إذا ما جاء بمجده وجميع ملائكته القديسين معه ، يجلس على عرش مجده وتجتمع أمامه جميع الشعوب ، ويميز بعضهم من بعض كما يميز الراعي الخراف عن الجداء ، ويقيم الخراف عن يمينه والجداء عن يساره ، ويوجه للذين عن يمينه العبارة المفرحة قائلاً : ” تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملك المعد لكم منذ إنشاء العالم ” . أما الذين عن يساره فيقول لهم : ” اذهبوا عني أيها الملاعين إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته ”
هذه كلمة موجزة عن الدينونة والامتحان ، أي البحث والفحص الذي سيجريه الديان للجنس البشري بعد البعث وقيامة أجسادهم من القبور
مجازاة الصالحات والسيئات
والآن من الضروري أن نتحدث باختصار عن مجازاة الصالحات أو السيئات الواردة في كلام الديان ، والتي ستعطى من الديان العادل لكل واحد بحسب ما يستحق ، تلك التي تدعى حصراً ملكوتاً وجحيماً
يزعم البعض أن مجازاة الصالحات أي التمتع بالخيرات الذي سيتم للصالحين والأبرار في العالم الآتي ، سيدوم إلى الأبد نظراً إلى أن صلاح الله ورحمته غير متناهية وغير قابلة للتحديد ، والتي بها يعطينا أكثر مما نستحق من خيراته وأنعامه . أما مجازاة السيئات أي العقاب والعذاب الذي سيأخذه الآئمة والبغاة بسبب أعمالهم الشريرة ، فلا يستمر إلى ما لا نهاية ، بل سيكون ونهاية للعذاب ، وفور ما يتعذب ويتطهر كل واحد بما يستحق ، فيدخل الجميع إلى ملكوت السماء ، وبذلك يتم ما قاله الرسول الإلهي ، حينئذ سيكون الله “إله الجميع “ . إذ ليس جديراً بمكاييل الله العادلة ومقاييسه المستقيمة أن يتعذب الإنسان في ذلك العالم إلى الأبد وبلا نهاية ، من أجل مدة قصيرة يخطئ خلالها في هذا العالم . علماً بأن فترة العالم برمتها هي قصيرة قياساً بطول فترة العالم الآتي غير المتناهية ، وأن يتنعم الصالح إلى الأبد إلى ما لا نهاية ، بمقدار ما يأتيه من نعمة الله ولطفه
إن ملافنة البيعة الفقهاء القديسين جميعهم ، يعلمون ويرشدون ويخالفون هذه الفكرة والعقيدة الباطلة ، أي تلك تزعم بأن للعذاب نهاية ، مستشهدين بقول الرب الذي أوردناه بعد الفصل الأخير القائل : ” ويذهب هؤلاء إلى العذاب الأبدي والصالحون إلى الحياة الأبدية ” . ومن المعروف أن عبارة ” إلى الأبد ” تنطبق هنا على الفريقين بلا حد ولا نهاية . وأن مجازاة الأعمال الصالحة تدعى ملكوتاً ، أما مجازاة الأعمال الشريرة فجهنم النار . ويعرف الفهماء أن هذه التسميات اقتبستها الكتب الإلهية من عرفنا ، إذ لا يوجد في هذا العالم أعظم وأسمى وأرفع كرامة ونعيماً وشهرة مما للملوك وأبناء العائلة المالكة ، لذا فأن الكلمات المدونة ، في محاولتها نقل إلينا ما نستطيع سماعه ، دعت حصراً عظم وسمو الخيرات المعدة للقديسين وصانعي الصالحات التي ستكون في العالم العتيد : ملكوتاً . وحيث أنه ليس في هذا العالم ما هو أقسى وأكثر إيلاماً من الأحتراق بالنار ، لذلك فأن الكتاب ، في محاولته التعبير لنا بقدر المستطاع عن شدة الألم والعذابات المريرة وقساوتها المحفوظة للأثمة وصانعي الأثم في ذلك العالم ، دعاها مجتمعة ، جهنم النار ، وإذ أراد مخلصنا أن يطلعنا ، كما أعتقد ، على الاختلافات الكثيرة بالنسبة إلى الكثرة والقلة ، والزيادة والنقصان ، الموجودة في مجاراة الصالحات والسيئات ، قال : أن كل واحد سيجازى بحسب أعماله . وكما جاء في مكان ما من إنجيل يوحنا : ” في بيت أبي منازل كثيرة ” ، فالاختلافات كثيرة بالنسبة إلى الكثرة والقلة والزيادة والنقصان ، في صالحات هذا العالم وسيئاته ، أي مسراته وضيقاته ، كما نلاحظ من الأعمال نفسها
ومثلما نؤمن ونعترف نحن المسيحيين ، بأن هناك مجاراة للصالحات والسيئات في العالم الآتي ، وهي غير زائلة ولا نهاية لها ، بحسب تعليم وشهادة الكتب الموحى بها من الروح ، هكذا أيضاً تصورها وقال بها بعض الوثنيين الذين ليس لهم رجاء القيامة كقول الرسول . فقد دعوا مجازاة الأعمال الصالحة ، جزر السعداء وبقاع اليزيوس ، وكما أعتقد ، فأنهم قالوا بهذا لأنهم سمعوا منا أي من كتبنا تذكر الفردوس . أما مجاراة الأعمال الشريرة التي سيتحملها أولئك الذين عاشوا بالأثم ، فدعوها جحيم . ويقولون أن هو مكان متوسط في غاية الظلمة ولا أشعة فيه ، يكونون فيه وكأنهم غارقون في الطين ويمتصون ماء . وفيه يتعذب الأثمة . هو نهر أكثر برودة من الكل يتعذب فيه جميع الخطاة . هو نهر يغلي أكثر من الكل ، يسقط فيه ويتعذب جميع الأثمة . وأعتقد أن هذه الفكرة اقتبسها الوثنيون من سفر دانيال النبي حيث ذكر فيه : “نهر نار جار “ الذي هو أعظم رعباً ورهبة من هذه العذابات وغيرها من الهذيانات الوثنية . فإذا كان قليميس الروماني الذي تتلمذ لبطرس رئيس الرسل يهذي برأيه ويشكك لما كان وثنياً ، لأنه لم يكن يدري ما الذي سيحدث بعد موته . إذ كتب عن نفسه في المقال الأول من كتابه ما يلي : كنت أقول : إذا كانت تلك تسبب لي ضيقاً أكثر من هذه ، أذن علي أن أحتمل هناك أشياء قاسية لأنني لم أتصرف بالعدالة والبرارة ، وأني أسلم ، بما يقول بعض الفلاسفة عن مثل وأمكث معاقباً في الهاوية إلى الأبد .
وقد أطلقت كتب الوثنيين ، كما ذكرنا أعلاه ، هذه التسميات على العقوبات والعذابات والظلمة . أما كتبنا المسيحية فقد دعتها الهاوية التحتانية ، البارنية ، بكاء وصرير الأسنان ، دوداً لا يموت ، ناراً لا تنطفىء ، نهر نار ، جهنم نار
أما الأطايب والتنعمات المعدة للأبرار والتي دعاها الوثنيون جزر السعداء ، وبقاع الفردوس كما قلنا ، فنسميها نحن المسيحيين : جنة النعيم ، جنة المسرات ، الخدر الذي لا يزول ، العرس الذي لا يحول ، مظال النور ، منزل الأطايب ، مسكن الأفراح ، الأماكن الشهية ، ملكوت السماء . ومن المعلوم وكما قيل وكتبنا ، أن العذابات والتنعمات دعيت كذلك تمشياً مع عرفنا ومصطلحاتنا نحن البشر ، كل شعب بحسب تقليده واختلاف لغته ، وليس لكونها مادية . فالعقل البشري لا يستطيع أن يدرك كمية وكيفية وماهية مجازاة الشرور ، ولا كمية وكيفية وماهية مجازاة الصلاح ، بل أنها مثل مرآة ولغز قبل أن نعرف كما عرفنا ، وبحسب القول الرسولي : ” العين لم تر ، والأذن لم تسمع ولم يخطر على قلب إنسان ما أعده الله للذين يحبونه ” . كذلك هو الأمر بالنسبة إلى ما يعده للذين يبغضونه ، ولكن هذا أمر لا بد من حدوثه ، حيثما يأخذ كل واحد جزاء أعماله وأمانته من الديان العادل ، الذي هو ملك الكل وسيد الكل وإله الكل مخلصنا يسوع المسيح
خاتمة
هذه كلها في ما يخص العلة الأولى والخالقة ، الأزلية والقادرة على كل شيء ، وغير المخلوقة ، التي هي الإله الواحد ضابط الكل الذي يفهم بوحدانية الجوهر ، ويدرك في الوقت نفسه ويمجد بثلاثية الأقانيم : ففي مقال ما من الكتاب الأول تحدثت أيضاً عن الخليقة التي جاءت إلى الوجود بواسطة العلة الأولى . فتلك غير منظورة وظاهرة ، أما هذه فمنظورة ومحسوسة . وفي كتابنا هذا الثاني في مقالات سبع بذلت جهداً بقدر المستطاع وبحسب طاقة تفكيري الطبيعية ، يا بني محب الله قسطنطين ، يكفي لاستنارتك وفائدتك ، ولجميع الذين سيصادفونه في المستقبل . سائلاً إياك وإياهم ، أن تقدموا أولاً صلواتكم عوضاً عن ضعفي للجهد الذي بذله حسب طاقته . ومن ثم إذا لاحظتم هنا وهناك في الكلام عن الخليقة ما يخالف تعليم بعض ملافنة البيعة القديسين ، فلا تلوموني ، فأن كلاً منا تحدث عن الخليقة بحسب إدراكه واعتقاده ، وبما رآه ملائماً لطبيعة الأعمال ، وأن ما نستفيد من الحديث عن الخليقة ، كما يقول الملافنة القديسون ، هو أن ندرك الحقيقة ، وأن لا يكون هنالك خطر أن أخطأنا . أما في ما يخص الحديث عن اللاهوت أي ملء الألوهية ، أو أي حديث عن الإيمان ، فأني عارف وواثق بأني لم أجرؤ أن آتي بشيء جديد أو غريب ، ما خلا بما نطق به الروح القدس ، وتحدثت به كتب الأنبياء والرسل المقدسة ، والملافنة المقتدرين بالله ، فإياه تبعت أنا الصغير وسلمت به وأسلمته إليك وللآخرين لتقرأوه . وهذا هو الأفضل بالنسبة إلي وإلى كل محب الحق المبين
نصلي كخطاة ، ونتضرع للثالوث الأقدس غير المخلوق والأزلي والمساوي في الجوهر ، الذي منه تمنح كل حكمة ومعرفة وفهم ، وتقدم لخليقة الملائكة الناطقة كلها ، وخليقة البشر ، كل مثلما يستحق وبقدر ما يستحق . لكي يعطينا المعرفة والحكمة في كل شيء بحسب الدعاء الرسولي . حتماً إذا ما استنرنا به واسترشدنا بالقول والأفعال يؤول ما أتيناه إلى فائدتنا وخلاصنا وعوننا والآخرين ، من أجل كرامة… وكرامة… هنا وفي العوالم الآتية في كل ساعة والآن وفي كل أوان وإلى أبد الآبدين آمين
ديباجة الختام
أنتهي المقال السابع من ” الأيام الستة ” أي تكوين الخلائق . تأليف المطران يعقوب أسقف مدينة الرها . المجد للآب الذي ساعد والابن الذي قوى ، والروح القدس الذي آزر . آمين
أنتهي هذا الكتاب في الساعة السادسة من يوم الخميس في الثامن من شهر آذار ، عام ألف ومئة وثمانية وأربعين بالتقويم المكدوني ( 837م ) . كتبه الخاطئ المحتاج إلى رحمة الله ، والضعيف والشقي ديوسقورس ، الكاتب… والقس في الوظيفة ، وأتوسل إليك أيها القارئ أن تخشى الله وتصلي من أجلي ، بجاه محبة الغربة
لمجد وعزة وجلال وعظمة الثالوث الأقدس المساوي في الجوهر ، الأب والابن والروح القدس . أهتم ووضع هذا الكنز الروحي ، إكراما له ومن أجل فائدته وجميع محبي الله الذين يرغبون في … الله من أجل أسمه القدوس اجتهد ووضع ، ليكافأه الله برأفته : الحسنات والصالحات في هذا العالم وفي العالم الذي لا يزول : المتعة مع القديسين ، والراحة في مظال النور له… ولصاحب الكتاب ويكتب أسمه في سعر الحياة في أورشليم السماوية . ويصنع الراحة والذكر الصالح لموتاه ، ويرش عليهم طل الرحمة يوم ظهوره من السماء بصلاة والدة الإله مريم البتول وجميع القديسين آمين
يا ابن الله ، وابن البتول مريم ، المسيح الإله الحقيقي ، ترحم على الكاتب… القس ديوسقورس وأهله برحمتك أن يقف أمامك باسفرار الوجه يوم دينونتك العادلة
“ الأيام الستة “ مار يعقوب الرهاوي