المقال 89 عن السامري الصالح

المقال 89

السامري الصالح

 

لقد تألمت كثيرا بروحي، وكان جرحي عميقا، كنت في غمرة من الالام، حينما رأيتكم في الاحد السابق، تستمتعون بغير اكتراث الى تلاوة الإنجيل المقدسة الإلهية، وتمرون على قوة الكلمة التي سمعتموها بأذانكم فقط، دون ان يكون قلبكم حاراً في نفس الوقت بتلك الاقوال. ولكني كي لا اجعل كلمتي مؤلمة بإصراري منذ البداية على اللوم، فإني مذكركم اولاً بما تُلى، وعلى قدر استطاعتي، اشرحه لكم بمقدار، ثم اصل بذلك الى اتهامي إياكم، باقتيادكم بالإقناع الى ما هو كامل كأخوة، وليس بالتهجم عليكم كمذنبين كما يفعل المدعي العام.

لتر ما تضمنته كلمات الانجيل ولتفهم المعنى الذي تنطوي عليه. سأل ناموسي وهو المتأمل في وصايا ناموس موسى الذي يعد بتعليمها الذين لا يعرفونها، سأل يسوع يجربه قائلاً: (ماذا اعمل لأرث الحياة الابدية)(لو10: 25).

وبعد ان قال له مخلصنا: (ما هو مكتوب في الناموس، واضاف: (كيف تقرأ؟)(لو10: 26). لكي يبين له غروره، لانه كان يقرأ للآخرين وهو لا يفهم، قام بكبرياء وتلا الوصايا بلسانه، فاغرا فاه قائلاً: (فتحب الرب الهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوتك)(تث6: 5).

(فإذا سمعتم لوصاياي التي انا اوصيكم بها اليوم لتحبوا الرب الهكم وتعبدوه من كل قلوبكم ومن كل انفسكم)(تث11: 13).

(لا تنتقم ولا تحقد على ابناء شعبك بل تحب قريبك كنفسك. انا الرب)(لا19: 18).

بعد ان كرر هذه الوصايا بروح العجرفة، امره يسوع إلهنا الطبيب الحكيم، وهو يستعمل الوداعة مع العتاب، بأن يفعل بما قال. (فقال له بالصواب اجبت. افعل هذا فتحيا.)(لو10: 28).

ولكن الناموسي كان يسأل من جديد وكأنه يحتج بأنه يريد ان يتعلم. (ومن نعتبره قريبا ينطبق عليه امر الناموس ان يحبه الانسان كنفسه؟) حينئذ رد يسوع بمثل قائلا:

(انسان كان نازلا من اورشليم الى اريحا فوقع بيد لصوص فعروه وجرحوه ومضوا وتركوه بين حي وميت. فعرض ان كاهنا نزل في تلك الطريق فرآه وجاز مقابله. وكذلك لاوي ايضا إذ صار عند المكان جاء ونظر وجاز مقابله. ولكن سامرياً مسافرا جاء اليه ولما رآه تحنن. فتقدم وضمّد جراحاته وصبًّ عليها زيتا وخمرا واركبه على دابته وأتى به الى فندق واعتنى به وفي الغد لما مضى اخرج دينارين واعطاهما لصاحب الفندق وقال: (اعتني به ومهما انفقت اكثر فعند رجوعي اوفيك)(لو10: 30-45).

قل الان دون ان تنظر اليًّ بعينين شريرتين فاحصتين، ايها الناموسي، من هو قريبك، او من اصبح قريبا لمن كان محتاجا الى العناية من اجل الاعمال ذاتها؟

فانك كثيرا ما تظن فعلا عن جهل ان الذي يشترك معك في نفس الديانة او نفس الجنسية هو قريبك، اما انا فإني اقول واعين ان الذي يشترك في نفس الطبيعة البشرية هو قريبك. كما رأيت ان من كان يتفاخر بقيمته لاوي ويقوم بوظائف الخدمة الكهنوتية ويمارسها حسب الناموس، ومن يفخرون ايضا- كما تفعل انت- بمعرفتهم الوصايا الالهية، لم يفكروا ان ذلك الذي هو من نفس جنسهم، ذلك العريان المغطى بالجراح التي لا شفاء منها، ملقى على الارض، على وشك ان يموت في لحظة، كان انسانا!! لكنهم احتقروه كأنه حجر او قطعة من الخشب المرفوض. بخلاف السامري الذي كان لا يعرف وصايا الناموس، الذي اشتهر بينكم بالغباء والجهل. وهكذا تكلم الحكيم: (الجالسين في جبال السامرة وفلسطين والشعب الجاهل الساكن في سخيم)(حكمة يشوع50: 26). لقد عرف هذا السامري الطبيعة البشرية وفهم من هو القريب، من كان بنظركم ايها القضاة بعيدا جدا صار قريبا جدا لهذا الذي يحتاج الى العلاج. فلا تقصر تعريف القريب في اليهودية فتظن بمقاييس ضيقة ان آباء جنسك، كما يقول إشعياء النبي هم وحدهم اقرباء، لان كل شخص نبسط عليه روح المحبة هو القريب.

(اليس ان تكسر الجائع خبزك وان تدخل المساكين التائهين الى بيتك اذا رأيت عريانا ان تكسوه وان لا تتغاضى عن لحمك)(إِش58: 7).

وطبقا لهذا المعنى البسيط المائل امامنا، يكون لكلمات المثل الذي نحن بصدده، هذا المغزى وهذا التفسير المتفق مع الكلمات ذاتها: فلا ننظر نظرة سطحية فقط، إذ انه توجد تأملات عميقة وروحانية جدا لمن يستطيعون ان يتأملوا العبارات بطريقة روحية، على قدر إدراكهم. لان كل واحد من هذه العبارات مفعمة بالمعاني، فتبين الامثال عددا من الاشياء الواضحة المفهومة للجميع، فنجذب السامعين، ومن ناحية اخرى تخفي عددا كبيرا من المعاني المختلفة فتثير الرغبة في البحث عنها.

لذلك كان التلاميذ انفسهم معتادين ان يقولوا لمخلصنا: (فسّر لنا مثل زوان الحقل)(مت13: 26). وقال بطرس ايضا: (فسّر لنا هذا المثل)(مت15: 15). ومرة اخرى ايضا، سأل التلاميذ نفس التلاميذ: (لماذا تكلمهم بأمثال. فأجاب وقال لهم لانه قد اعطى لكم ان تعرفوا اسرار ملكوت السموات. واما لأولئك فلم يعطِ)(مت13: 10-11).

فبمناسبة هذا المثل الذي امامنا الذي نعتزم شرحه، لنركض نحو الناحية الروحانية لهذه المعاني المخفية، سائلين الروح الالهي الذي يوزع لكل واحد العطايا الخاصة كما يشاء، ان يكشف لنا على قدر ضعفنا عن الافكار النافعة، وان يجعل الذين يتدبرونها ينتفعون بها دون ان يفت في عضدهم إرتفاعها.

( ولكن هذه كلها يعملها الروح الواحد بعينه قاسما لكل واحد بمفره كما يشاء) ( 1كو 12: 11).

كيف ساق اليهم هذا المثل؟ (إنسان كان نازلا من اورشليم الى اريحا فوقع بين لصوص فعروه وجرحوه ومضوا وتركوه بين حي وميت)(لو10: 30).

لم يقل مخلصنا (كانوا نازلين) بل قال (إنسان كان نازلا) ان المسألة مسألة البشرية جمعاء. فبالحقيقة بسبب تعدي آدم للوصية قد سقطت من مسكن الفردوس العالي المرتفع الهادئ الذي دعي لذلك بحق اورشليم، ومعناها سلام الله، الى اريحا التي هي مدينة في وادٍ منخفض يخنقه الحر.

فهو يعلمنا ان حياة الاهواء في هذا العالم تفصل عن الله، وتجر نحو الاسفل، وتسبب الاختناق بحرارة الشهوات المخزية، تنتج القلق وتدني الى الموت.

بعد ان سقطت البشرية الى هذا الدرك، وبعد ان انقلبت وانجذبت الى اسفل، وانقادت رويدا رويدا الى هوة السقوط، هاجمها جميع الشياطين فجردوها من ثياب الكمال على نحو ما تفعل عصابة من اللصوص لم يتركوا لها بقية من قوة او مسحة من الطهارة او العدل او الحكمة او أي شيء مما يمثل الصورة الالهية وهكذا وتدت بجراح الخطايا المختلفة المتكررة، قاتل الشياطين البشرية وتركوها بين حين وميتة.

وهذا بالحقيقة يبين جيدا ما اختص به هذا المثل من عمق تدركه بالتأمل، لان من عادة اللصوص والسراق ان يحدثوا اولا الاصابات والجروح حتى يجردوا الجريح من ملابسه، ليس هناك في اغلب الاحيان ما يدعوهم الى إحداث إصابة بعد ذلك. ولكن الشياطين وهم بمثابة اللصوص لا يستطيعون الى ذلك سبيلا ما لم يرفعوا عنه ثياب الفضائل اولا. وبعد ذلك يجرحونه بدون شفقة حتى الموت، لذلك قال ربنا بحكمة: (فعرّوه وجرحوه)(لو10: 30).

فعندما كانت البشرية ملقاة على الارض، وما هي الا دقات حتى تفقد الوعي وتنتهي، رآها الناموس المعطى بواسطة موسى وهذا في الواقع ما يشير اليه بعد ذلك بالكاهن وباللاوي ايضاً، لان الناموس هو طبيب الكهنوت اللاوي. رآها من ناحية اخرى كان ينقصه النشاط والقوة فلم يستطيع ان يجلب الشفاء الكامل، ولم يقم البشرية التي كانت ملقاة على الارض، ولأنه كان ينقصه النشاط، بدأ تبعا لذلك نحو هذه المسيرة بدون نتيجة.

ويقول بولس الرسول: ( الذي هو رمز الوقت الحاضر الذي فيه تقدم قرابين وذبائح لا يمكن من جهة الضمير ان تكمل الذي يخدم)(عب9: 9).

(وليس بدم تيوس وعجول بل بدم نفسه دخل مرة واحدة الى الاقداس فوجد فداء ابديا)(عب9: 12).

لذلك لم يقل ربنا: (ان الكاهن واللاوي بعدما رأيا الرجل بين حيّ وميت ملقى على الارض) (جازا عنه)، لكنه قال: (فعرض ان كاهنا نزل في تلك الطريق فرآه وجاز مقابله وكذلك لاوي ايضا اذ صار عند المكان جاء ونظر وجاز مقابله)(لو10: 31-32).

كلاهما لم يتخطّ الرجل فيتركه جانبا دون ان يراه، بل وقف امامه ورآه وفكر في شفائه ولمسه، ولما وجد انه غير قادر على شفائه وقد غلبته خطورة جراحاته أي الاهواء، حينئذ رجع الى الوراء راكضا. وهذا هو ما تظهره عبارة: (جاز مقابله).

واخيرا يقول: (ولكن سامريا مسافرا جاء اليه ولما رآه تحنن فتقدم وضمّد جراحاته وصبّ عليها زيتا وخمرا واركبه على دابته واتى به الى فندق واعتنى به)(لو10: 33-34).

هنا يدعو المسيح نفسه بحق سامريا. يخاطب ناموسياً يفتخر في ذاته كثيرا بالناموس، اهتم بأن يبين بقوله انه ليس الكاهن ولا اللاوي وعلى وجه العموم ليس الذين كانوا يعتقدون انهم يسلكون حسب وصايا موسى عندهم القدرة، بل هو ذاته الذي اتى لكي يكمل ارادة الناموس مبنيا بالوقائع ذاتها من هو القريب بالحقيقة، وما تنطوي عليه العبارة (تحب قريبك كنفسك)، وهو الذي كان اليهود يقولون له شاتمين: (السنا نقول حسنا انك سامريا وبك شيطان)(يو8: 48). وهو الذي كانوا يتهمونه كثيرا بتعّدي الناموس.

وبمعنى اخر لا احد يرى في تسمية المسيح بالسامري ما هو غير جدير، ولو انها تبدو بطريقة ما انها تسمية غير مناسبة لجلاله الاقدس.

فحينما اسر شلمنصر الاشوري شعب إسرائيل ونفساء عند نهر (مادى) كما هو مكتوب في سفر الملوك الرابع، ارسل من بابل بعض الاهليين بدلا من الاسرى واسكنهم تلك المدن. وكانت الاسود تفتك بهم لانهم لم يكونوا يعيشون طبقا لعادات الاجداد كما عاش الذين يسلكون حسب ناموس موسى، فأرسل رجلا من بين الاسرى وكان من الكهنة، لكي يعلمهم تلك العادات. وهكذا احتل البابليون تلك المدن مسمين انفسهم سامريين لأنهم حراس البلد.

(في السنة التاسعة لهوشع اخد ملك اشور السامرة وسبي اسرائيل الى اشور واسكنهم في ملح وخابور نهر جوزان وفي مدن مادى)(2مل17: 6).

(واتى ملك اشور بقوم من بابل وكوش وعوّا وحماه و سفروايم واسكنهم في مدن السامرة عوضا عن بني اسرائيل فامتلكوا السامرة وسكنوا في مدنها. وكان في ابتداء سكنهم هناك انهم لم يتقوا الرب فارسل الرب عليهم السباع فكانت تقتل منهم. فكلموا ملك قائلين. ان الامم الذين سبيتهم واسكنهم في مدن السامرة لا يعرفون قضاء الله الارض فأرسل عليهم السباع فهي تقتلهم لأنهم لا يعرفون قضاء إله الارض.

(فأمر ملك اشور قائلا إبعثوا الى هناك واحدا من الكهنة الذين سبيتموهم من هناك فيذهب ويسكن هناك ويعلمهم قضاء اله الارض. فأتى واحد من الكهنة الذين سبوهم من السامرة وسكن في بيت إيل وعلمهم كيف يتقون الرب)(2مل17: 24-28).

ومن ذا الذي يعارض في ان المسيح هو الحافظ الحقيقي لكل الارض وانه مالك الكون، (وبه نحيا ونتحرك ونوجد)(اع17: 28).

ويجب ان نعلم ان البعض يقولون ان ثمة وقائع اخرى من اجلها دعا سكان سامريين، فلقد احتلوا جبل السامرة، بعد ان اشتراه ملك اسرائيل بوزنتين من الفضة من شاهر صاحب الجبل كما هو مكتوب: (واشترى جبل السامرة من شاهر بوزنتين من الفضة وبنى على الجبل ودعا اسم المدينة التي بناها باسم شاهر صاحب الجبل السامرة)(مل 16: 24).

ومع ذلك نريد ان نستخلص من هذه الكلمة معنى يليق بما نحن ماضون في شرحه، فلا نناقش موضوع المعنى المتغير او السبب الذي من اجله كانت هذه التسمية، فهذا السامري الذي كان في الطريق، وهو المسيح، قد رأى اذا الجريح على الارض. واتخاذه طريقة هو بالذات لكي يفتقدنا.

(مبارك الرب إله اسرائيل لانه افتقد وصنع فداء لشعبه)(لو1: 68). (بأحشاء رحمة إلهنا التي بها افتقدنا المشرق من العلاء)(لو1: 78)

نحن الذين من اجلنا نزل على الارض واقام معنا. انه لم يرَ فقط، لكنه عاش مع الناس، حينما تأنس بالحقيقة بدون استحالة بطريقة تفوق كل تصور. لان من شان الاطباء الحقيقين ان يعيشوا صحبة مرضاهم ولا يبتعدوا عنهم قبل شفائهم.

وهكذا كان ايضا يسكب النبيذ، أي الكلمة التي تعلم، وتضمد القروح. وقد اعطانا فعلا لنشرب نبيذ التوبة، كما يقول النبي في المزامير: (اربت شعبك عسرا، سقينا خمر الترنح)(مز60: 3). ولم تكن بالحقيقة لنستطيع تحمله صرفا، لان خطورة الجراح الخبيثة وحالتها التي لا شفاء منها كانت لا تتحمل مثل هذا اللذع، ولذلك خلطه بالزيت.

كان ايضا يأكل مع العشارين و الخطاة، وكان يقول الفريسيين الذين كانوا ينحون باللائمة، يتهمونه وينتقدون: (فاذهبوا وتعلموا ما هو. اني اريد رحمة لا ذبيحة. لأني لم آت لادعوا ابرارا بل خطاة الى التوبة)(مت9: 13).

وقد حمل على دابته من كان موضوع مثل هذا الاهتمام. بالحقيقة كما هو مكتوب: (والانسان في كرامة لا بيت يشبه البهائم التي تباد)(مز49: 12). (انسان في كرامة لا يفهم يشبه البهائم التي تباد) (مز49: 20).

فقد جلب الانسان على نفسه هوى الشهوات الدنسة حتى اظهر المسيح بعد ان جعل نفسه باكورة جنسنا، وهو الذي لا يعرف خطية، اولا في ذاته اننا ارتفعنا وسمونا فوق الاهواء الحيوانية، ردسناها بأقدامنا.

(لكن احزاننا حملها واوجاعنا تحملها ونحن حسبانه مضروبا من الله ومرذولا) (اش 53: 4). (لانه في ذاته يحملنا: لأننا اعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه) (اف 5: 30).

وفضلا عن ذلك قد اتى به الى الفندق، (فتقدم وضمّد جراحاته وصب عليها زيتا وخمرا واركبه على دابته واتى به الى فندق واعتنى به) (لو10: 34).

وهو الكنيسة التي اصبحت تستطيع ان تستقبل و تأوي كل الناس. فإننا لم نسمع حسب ضيق الظل الناموسي والعبادة الرمزية: ( لا يدخل عمّوني ولا موآبي في جماعة الرب) (تث 23: 3).( في ذلك اليوم قرأ في سفر موسى في آذان الشعب ووجد مكتوبا في ان عمّونيا و موآبيا لا يدخل في جماعة الله الى الابد)  (نحميا 13: 1)، بل تسمع: فاذهبوا وتلمذوا جميع الامم وعمدوهم باسم الاب والابن والروح القدس) (مت 28: 19) وايضا: ( بل في كل امة الذي يتقيه ويصنع البر مقبول عند) (اع 10: 35).

وبعد ان اتى به الى الفندق، (اعتني به ) ( لو 10: 34).

أي بعد ان تشكلت الكنيسة من اجتماع الامم التي كانت تموت في عبادة الآلهة العديدة، اصبح المسيح نفسه هو الساكن فيها ويسير، كما هو مكتوب، ويمنح كل نعمة روحية.

( فأنكم انتم هيكل الله كما قال الله اني سأسكن فيهم واسير بينهم واكون لهم إلها وهم يكونون لي شعبا) (2كو 6: 16).

ويتبع ذلك انه ايضا اعطى دينارين لصاحب الفندق، (وفي الغد لما مضى اخرج دينارين واعطاهما لصاحب الفندق) (لو10: 35)، ويُفهم من هذا انه يرمز للرسل وكذلك للرعاة والمعلمين الذين خلقوهم، حينما صعد الى السماء بعد ان خلوهم الامر بالاهتمام بصفة خاصة بالمريض. واضاف قائلا: ( اعتن به ومهما انفقت اكثر فعند رجوعي اوفيك) (لو10: 25).

ويسمى العهدين القديم والجديد دينارين. الاول مُعطى بواسطة ناموس موسى والانبياء، والثاني بواسطة الاناجيل وتعاليم الرسل، وهما كلاهما ملك الله الواحد، وكالدنانير يحملان صورة واحدة لهذا الملك العلي، ويطبعان نفس الصورة الملكية في قلوبنا ويثبتانها بالكلمات المقدسة، لان الناطق بها هو بالحقيقة ايضاً روح واحد.

ليهلك ماني وقبله مركسيون الكافرين الذين يقسمان هذين العهدان بين آلهة مختلفة! فان هذين الدينارين كانا لملك واحد وقد اعطاهما المسيح في نفس الوقت وبنفس الشرف الى صاحب الفندق. وتسلمها رعاة الكنائس المقدسة، ونموهما بتعاليمهم باتعاب واعمال، وصرفوهما وبالأحرى زادوهما بصرفهما، لانه هكذا المال العقلي، لا ينقص بالصرف بل يتضاعف ويزداد حينما يأتي ربنا في اليوم الاخير، سوف يقول كل واحد: ” يا رب قد اعطيتني وزنتين ” هوذا بعد ان صرفتهما عن نفسي، قد ربحت اثنتين آخرين زدت بهما القطيع وضاعفته، وسوف يرد عليهم المسيح قائلاً: ( نعما ايها العبد الصالح والامين. كنت امينا في القليل فأقيمك على الكثير. ادخل الى فرح سيدك) (مت 25: 23).

فبعد ان قرأت قديما كتقليد الاباء . آتى الى موضوع اللوم، فقد دعاكم الواعظ مناشدا إياكم ان تقدموا قطعا صغيرة من القماش لأجل مجيء المسيح المرهوب، لمنفعة العناية بمرضى البرص وإراحة اجسادهم التي دبت فيها العفونة والرائحة الكريهة مثل قبل متحرك او المرضى بأي مرض آخر.

بالاختصار لم يظهر على أي احد منكم انه سمع هذا النداء، إلا ان تكون إمرأة او اثنتين عن طريق الصدفة قد القت قطعا وبقايا قذرة من ملابس قديمة مستعملة و ممزقة جدا، وحكمت انها ترضى الناموس وتقي بالالتزام المعتاد لكنها تصرفت في رياء وكأنها قدمت اقمشة.

ومع ذلك فبعد الناموس والانبياء، لم يتركنا المسيح جانبا، فبينما لم يكن لدينا رجاء وكنا في عداد من هم قاب قوسين او ادنى من الموت، نزل من العلا واشترك في ذات الجوهر فيما عدا الخطية وارتضى ان يتأنس بدون استحالة، فيقبل ايضا موت الصليب والقبر والنزول الى الجحيم، بينما هو بطبيعته الله، تحمل كل هذا بتأنسه، ومر بطريقة فائقة بكل هذه الحالات ليقيمنا نحن الذين سقطنا، (تبددت عظامنا عند فم الهاوية) (مز 141: 7) كقول داود النبي.

لم نكن نستطيع ان ننهض وكنا مدفونين اسفل، حتى اننا لم نكن نستطيع فقط ان نرفع اعيننا نحو السماء، كما يقول بولس الرسول: (بعد ان نزل الى اقسام الارض السفلى) (اف 4: 9). اخرج منها الذين لم يكن لهم رجاء في الخلاص قط، حينما اقترب جدا من البعيدين.

لذلك يسأل الناموسي مبيناً له عظم محبته الفائقة: ( فأي هؤلاء الثلاثة ترى صار قريبا للذي وقع بين اللصوص) (لو 10: 36).

اما نحن الذين نسمع هذه الكلمات، او بالحري الذين حسبنا مستحقين لها، فلم نعطه قطعة واحدة من قماش حتى القماش المستعمل. مع ان الذي يسأل هو نفسه الذي يقول: ( الحق اقول لكم بما انكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الاصاغر فيَّ فعلتم) (مت25: 40).

قل لي انما نعلن ان يسوف الرجل الذي من الرامة اهل لمثل هذه الكرامة، ذلكم هو الذي طلب من بيلاطس ان يسمح له بدفن جسد يسوع المحيي وغطاء بأكفان من الكتان! وننسى اننا نحن ايضا إذ لنا امكانية الحصول على نفس الشرف ونفس الكرامة مثله او اكثر منه، في كل مرة يكون في استطاعتنا  ان نريح المسيح المجروح، فإننا نحرم انفسنا هذه الهيبات الممتازة ونرفض فضلا عظيما.

لكن اذا قام بيننا ملك إذن لكنا نعطيه كل الملابس التي في منازلنا وايضا الملابس الحريرية التي نخرجها من الخزائن لهذه المناسبة، حتى يرتديها ويمشي عليها ويستعملها بلا لياقة فتحمل ايضا معه، وذلك املا في بعض الكرامة الزمنية والمسيح ملك الارواح العلوية والسلاطين والقوات السمائية، الذي يتقدم إلينا مجروحا في كل جسده بأن يعطى ملكوت السموات لأجل قطعة صغيرة من القماش، يذهب دون ان نصنع من اجله شيئا. انظروا الى جسامة جهلكم وطبيعته واقبلوا نحو ابناء جنسنا المعذبين.

لا يقل لي احد ان اليوم الذي كان يحب فيه ان نلقي قطع القماش قد معنى! اذا كان ثمة وصية في الناموس ان يعملوا الفصح في الشهر الاول عند العبرانيين، وكان يمكنه ان يقدم ذبيحة الفصح في الشهر الثاني، (تكلم بني إسرائيل قائلا. كل إنسان منكم او من اجيالكم كان نجسا لميت او في سفر بعيد فليعمل الفصح للرب في الشهر الثاني في اليوم الرابع عشر بين العشاءين يعملونه. على فطير ومرارة يأكلونه) ( عدد 9: 10- 11). فكيف يعقل حينما يكون الامر متعلقا بالشفقة ومساعدة الفقراء، الا يكون الوقت لائقا ومناسباً، فتمتع عن فعل ما يليق وكأن الوقت قد مضى، بينما تقول الكتب المقدسة: ( لا تمنع الخير عن اهله حين يكون في طاقة يدك ان تفعله لا تقل لصاحبك اذهب وعد فأعطيك غداً وموجود عندك) (ام 3: 27- 28). ( لا تفتخر بالغد لأنك لا تعلم ماذا تعلم ماذا يلده اليوم) (ام 27: 1).

لا تؤجلوا اذن كلماتي الى السنة القادمة، بل تصوروا ان اليوم هو يوم الاحد الماضي. وليقدم كل واحد منكم قطعة القماش المعلقة في رقبته المستعملة عادة كمنديل، وأنتِ ايتها المرأة، افرحي المسيح بإعطائكِ الملابس التي تحملينها على يدكِ. هذه الاشياء فعلا لا تساوي سوى القليل، لكنها تعطى جزاءً سمائياً وتنجي من كل مرض ومن كل جرح وانتم انفسكم واولادكم الذين يهمكم جدا خلاصهم، كما اعلم. لأنكم ان عدتم الى بيوتكم بدون هذه القطع من القماش المذكورة، فسوف يكون المسيح ذاته رب الملائكة داخل مساكنكم.

بعد ان تصنعوا ذلك، لا تظنوا انكم عملتم شيئا عظيماً، فإن جدعون احد قضاة إسرائيل، بعد ان غلب المديانيين او الإسرائيليين الذين حملوا السلاح ضده، قال ايضا بعد النصر للذين خلصهم واصطفوا معه في الحرب: ( اطلب منكم طلبة ان تعطوني كل واحد افراط غنيمته. لانه كان لهم افراط ذهب لانهم اسماعيليون. فقالوا اننا نعطى. وفرشوا رداء وطرحوا عليه كل واحد افراط غنيمته) (قض 8: 24-25).

هؤلاء اعطوا مثل هذه الكمية من الذهب لرئيس المعركة. وذلك حينما كانوا قد اصطفوا معه في المعركة، لانهم نجوا من عبودية زمنية، فهل يكون شيئا عظيما بالنسبة لنا ان نعطى قليلا من قطع القماش للمسيح الذي خلص جنسنا كله من المخادع ومن الشياطين الاعداء الذين لا يمكن مصالحتهم الحقودين، وكسب المعركة التي ما كنا نستطيع ان نكسبها، واعترفت القوات السمائية انه عاد من المعركة منتصراً، حينما صعد الى العلا بعد الآلام الخلاصية والقيامة، كقول المزمور: (ارفعن ايتها الارتاج رؤوسكن وارتفعن ايتها الابواب الدهريات فيدخل ملك المجد من هذا ملك المجد. الرب القدير الجبار الرب الجبّار في القتال) (مز24: 7-8).

فعلا قد هزم بصليبه امير الظلام والشر وجنوده الاشرار واشهرهم جهاراً كما يقول بولس الرسول، وغطاهم بالمهانة.

(اذ محا الصك الذي علينا في الفرائض الذي كان ضدا لنا وقد رفعه من الوسط مسمّراً إياه بالصليب. إذ جرّد الرئاسات  والسلاطين اشهرهم جهاراً ظافراً بهم فيه) (كو2: 14-15).

له يليق التسبيح والسلطان مع الآب والروح القدس الآن وكل اوان والى دهر الداهرين امين.