القديس الشهيد برلاها
استشهاد القديس برلاها
يقول القديس ساويرس: يبدو لي كأني ارى الشيخ القديس الشهيد برلاها يلقي عليّ نظرة فاحصة ويتهم سكوتي بحمية، وليس فقط على سبيل الحماسة، بل ايضاً بحق عادل. اراء يتهمني هكذا قائلاً: ( الا تسمع ياهذا، الرسول بولس يؤكد قائلاً: (ليس عند الله محاباة) ( رو2: 11)، (كو3: 25). كيف يكون ذلك؟ انك مرتين حتى الان قد عملت مديحاً غنياً للأربعين شهيداً الذين اعطى لهم هذا الهيكل المقدس وإني في نفس الوقت كنت شريكاً لهم وانت لم تهتم بجهادي. انها السنة الثالثة ولم تختصني بكلمة مديح واحدة او تحث مؤمناً على الفضيلة بتبصره وبمعاركي. لا ارغب في المدائح، بل في فائدة إخوتي. قد تعلمت ان ارنم لله الذي له التسبيح في الجماعة مع النبي داود: ( من قبلك تسبيحي في الجماعة العظيمة) (مز22: 25). هذه الجماعة العظيمة التي لا يفوقها في العظمة شيء هي التي سوف تجتمع في يوم الدينونة، حينما نقف كل الخليقة العاقلة في جمع واحد برعدة امام الديان وسوف يقوم مثل ملك محاطاً بحاملي الحراب والملائكة ورؤساء الملائكة وبكل الجيش العقلي. كما هو مكتوب: ( يدعو السموات من فوق والارض الى مداينة شعبه) (مز50: 4)، يعني انه يفصل الذين اكملوا الاشياء السماوية عن الذين مارسوا الامور الارضية، لأولئك يعطي الراحة والإقامة فوق، وهؤلاء يتركهم مثل الارض ينحون الى الاسفل، وبعد ان يخزوا يصلون في نار جهنم.
هذا ما بدأ به القديس ساويرس المقال يبرز لنا بصورة ناطقة ما يدور يخلده عن الصلة الروحية بينه وبين القديس وتجارب المشعر بينهما، ويحسم لنا بحلاء تدريباً ورياضة روحية منزهة عن الامور الارضية ثم يصور لنا رده على الشيخ فيقول: لدى سماع هذه الكلمات اهب لأدافع عن نفسي امام الشيخ المملوء من الايام التي قضاها في الفضيلة والحياة الحقيقية. ان كتاب القانون ذاته يأمرني ان اقف امام الشيخ إكراماً وتبجيلاً لشخصه. ( من امام الاشيب تقوم وتحترم وجه الشيخ وتخشى الهك) (لا19: 32). وفي دفاعي ازجي له في نفس الوقت مديحاً.
اني اعرف يا ابانا انك وانت في جسد هزيل اظهرت قدرة وحمية هادرة وبصبرك قد رفعت هذه الحمية عالياً. لكن ماذا اضع انا الذي تساورني آلاف الهموم؟ اني عاجز تماماً عن ان اغوص في اللغة لمرض هذه المعاني المقدسة بطريقة ممتازة، واخشى ان اراني انقص من قدر فضائلك ولست ارفعها لأني مقتنع بأن بطولة الممالك العظيمة لا نحتاج إطلاقاً الى بهرج الالفاظ البليغة، لكن مجرد التلاوة وحدها كاف لكي يرفع السامعين حتى السماء. وفي الواقع قد اتيت بما كان يجب ان تقوله بلا نقصان، وكانت لك الحكمة والتهيؤ لها بسبب سنك الكبير، وكانت لك صولة الشباب لا يعتريها وهن الشيخوخة في إيمانك وآلامك. اظهرت بصبرك انه ليس لك صلابة الشباب فحسب بل انت اشد صلابة من الماس او أي مادة اخرى، انك اكثر صحة واكثر صلابة من الشباب فهو لا يستطيع ان يتحمل هذه العذابات. حينما سأله القاضي: ماهي المسيحية؟ رد هذا الحكيم بالروح بهذا القول الجامع: ( انها حقيقة التعاليم والاستعداد لحياة مجيدة). ولما اراد القاضي في دهشة ان يتعلم ايضاً: ( ما هو الله الذي يؤمن به المسيحي؟ (قال له انه يتعهد بعبادة الله الآب وابنه الوحيد ربنا يسوع المسيح والروح القدس) لكنه لن يقبل ابداً ان يعبد خلائق. كما يعبدها الوثنيون الجهلاء. عند هذه الكلمة تصور القاضي ان علم اللاهوت عند الصديق جاء مؤيداً لما هو قابع فيه من الخطأ فقال ساخراً: ( انك انت نفسك تخدم الخليقة، وقد اعترفت ايضاً انك بعد الاب تعبد الابن الذي ارسله ضرورة والذي خلقه ابوه نفسه) وقد افحم القديس القاضي الذي كان في سكر عبادة الاصنام يعبد اشياء عديدة وآلهة مولودة في ازمنة مختلفة حسب الروايات، قال: ( تأمل ايها القاضي، إن الله ( الكلمة) مولود بغض النظر عن الوقت وبدون بداية: لانه الكلمة والمجد ولا يمكن ان يحسب مع الخلائق. لان الخليقة ليست نسلاً.
وليرتد الآريوسيون بهذه الكلمات ويعلموا ان افكارهم غريبة عن ايمان الشهداء.
فالتفت حينئذ القاضي الى العذابات، متهزما في هذه النقطة. وعندما جُلد الصديق بقوة، سمعه يقول بأنه لا يشعر بشيء في تلك المعاملة السيئة. وانه بعد ان امر بان يمزقوه بواسطة اظافر العذاب، كان يسمع نفس الكلمات البطولية، مع ان جسد الشهيد كله كان مسلّخاً. وامر القاضي ايضاً ان يعلق هذا الشجاع في المشنقة، وانكسرت عظمة الترقوة بسبب العنف وسقطت العظام الاخرى من مفاصلها الطبيعية، ومع ذلك كان القاضي الذي فقد عقله يطالب بأن يضحي للآلهة، فكان يؤكد بنفس الطريقة انه لا يتألم.
كان القاضي في جنونه بأوامره يتجاسر ويتعدى حدود الطبيعة. فكان يأمر ان يفتحوا راحة يد الصديق وهو معلق في الهواء وان يضعوا فيها جمرا ملتهباً مضافاً اليه البخور، وامر ان يقام مذبح تحته، حتى اذا قلب يده يعتبر انه قدم بخوراً للشياطين. لكن ببساطة يقال له: ( كيف يمكن، ايها التافه)، ان اللحم وقد وعي الام الجسد يميل يده ليحرق بخوراً. ان هذا الامر لا يقدم اتهاماً ضد الشهيد، كما ان احداً لا يقول انه يكرم الشياطين عندما يسقط دمه وهو يسيل من جسده على المذبح بدون ارادته. إن الشهادة في حقيقة الامر هي في موقف الروح الصلب الشجاع وليس بتحميل الجسد ما ليس له، لذلك فإن الذي اسس هذه المعارك المقدسة كان يقول: ( ولا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون ان يقتلوها. بل خافوا بالحري من الذي يقدر ان يهلك النفس والجسد كليهما في جهنم) (مت10: 28). ومع هذا فلما كان الشهيد يعلم بشأن هذه المسألة ان الخير سوف يُفسد مع الشر، ورحضاً لضلال هذا الامر، صبر وابقى يده في وضع ثابت تؤذيها النار ببطء دون ان يغله الجمر.
لنتعلم إذاً نحن انفسنا من هذه اليد غير المتغيرة ان يكون لنا روح صحيح ثابت غير متزعزع. بماذا يجيب يوم الدينونة اولئك الذين ينكرون التقوى ليس فقط بالروح بل ايضاً بأعمالهم الذين انحازوا للتعاليم التي تحتوي على تجديف؟
نرجو ان يد الشهيد هذه، اليد التي تتوج، ان تُعطى للكنيسة بطريقة غير منظورة وكل بركة روحية، فهي في الواقع مليئة بآلاف الخيرات، لانها فازت بشهادتها الخاصة خارج كل باقي الجسد.
في هذه الليلة الصيفية القصيرة، يا ابانا، ذبحت لك هذا المقال المختصر، لان الليلة الصيفية التي للأربعين شهيداً القديسين تتيح لنا ان نتلذذ بالمعارك في حرية تامة وتسترسل في المقال. واذا كنت بصلواتك تخفف همومنا واذا كنت توفر لنا راحة يومية، فربما يكون لنا استعداد لتعليقات علنية وروحية اطول واكثر قبولاً لديك، لمجد المسيح الاله المخلص، له يليق المجد والكرامة والقدرة الى الابد امين.