تفسير الصلاة الربيّة
لأبينا المغبوط المفريان
مار باسيليوس شمعون الطورعبديني (+1740)
بعونه تعالى وبالاتكال عليه وبالرجاء الّذي لا يخيب بالثالوث الأقدس
الآب والابن والروح القدس الإله الواحد الحقّ،
أشرع بكتابة مقالة، أعني خطبة أشرح فيها الصّلاة الربيّة
مع تفسير أمثلة أخرى تابعة لها.
إخوتي وأحبّائي،
صالح هو الاعتراف للربّ والترنيم لاسم الربّ العليّ([1])
على غرار داود نقول: «عظيمٌ هو الربّ ومُسبّحٌ جدًّا».([2])
عظيمة قوّة الصّلاة الّتي علّمها الربّ لوكلاء الإيمان بشرط أن يصلّيها الإنسان بإيمان. إنّ القوّة العظيمة التي لكلّ الأسرار مكنونة فيها. فهي أشبه بسلّم يصعد به الناس إلى السماء. وتشبه أيضاً شجرة باسقة شامخة، أصلها مغروس في الأرض ورأسها يلامس ذرى الأعالي السّموية، ومن ثمارها يقطف المؤمنون الحقيقيون كافّةً فتتغذّى نفوسهم روحيًّا. وهي مثبِّتة الميلاد الثاني الّذي بالتبنّي، فتجعل إخوة كثيرين للمسيح، وتقيم للذين يؤمنون بها ويصلّونها شركة معه بميراث الآب السموي في الملك والمجد والجلال السرمدي الّذي لا يزول.
يا إخوتي،
إنّ كثيرين قد أفاضوا في الكتابة عنها وفسّروها، وجنَوا منها ثماراً طيّبة لذيذة وأذاقوها لكلّ إنسان. وأنا أيضاً الخاطئ الضّعيف، ارتأيتُ أن ألتقط، كمحوّش بعد قاطفين، بعض الخصل وأضعها أمام أحبّائي بالمسيح ليتلذّذوا بها. في البداية، نتوجّه نحو أصل الشّجرة لنرى كيف نُصبَت، كيف بدأت تُغرس في قلوبنا، ومن أين تكوّنت أصول جذورها في حين أنّها لم تكن قد ظهرت بعد.
قيل إنّه «إذ كان ربّنا يسوع يصلّي في موضعٍ، لمّا فرغ قال له واحدٌ من تلاميذه: يا ربُّ علّمنا أن نصلّي كما علّم يوحنّا أيضاً تلاميذه».([3]) ونقول: ماذا كانت صلاة يوحنّا؟ أظنّ أنّها كانت هذه؛ لما كان يصلّي بلسان العالم بأسره، كان يتضرّع قائلاً:
أيّها الربّ القدير، أهّلنا لأن نكون أبناءً لك وإخوةً لابنك الحبيب، وكن لنا أباً بواسطة سماع صوتك.
أيّها الابن الوحيد والمسجود له، ارفَع خطايانا فنصير إخوةً لك وأبناءً لأبيك بواسطة لمس جسدك.
أيّها الرّوح القدس اسكُن فينا فنشترك بك بواسطة رؤية أقنومك.
أيّها الثالوث الأقدس الواحد في الجوهر ارحمنا.
هذه الصّلاة كان يصلّيها يوحنّا حينما كان يناجي اللّه في البريّة، كل أيّام حياته، فمن بدايته افتقده الثالوث الأقدس: الآب بشّر بالحبل به بواسطة الملاك، وامتلأ من الروح وهو في البطن، والابن حيّاه بالسلام عليه. وبما أنّه شعر بالثّالوث الأقدس شعوراً وثيقاً، لذلك فقد كان يتأمّل به على الدّوام، حتّى سمع بأذنيه، رأى بعينيه ولمس بيديه: أي سمع صوت الآب ورأى الرّوح ولمس الابن. أوّلاً شعر ثمّ اشترك به (بالثالوث) فأشركنا جميعاً معه أيضاً بالأمور التّي اشترك بها. عندما نُرشَم باسم الثالوث الأقدس، نصير شركاء الثالوث: أبناءً للآب، مسكنًا للروح وإخوةً للابن. لذلك كان من الضّروري لدى الرب أن يعلّمنا أن ندعو أباه «أبانا» عندما نصلّي.
- تُقسم الصّلاة إلى ثلاثة أنواع:
1ـ التضرّع من أجل (مغفرة) الخطايا.
2ـ الطلبة والتماس العطايا.
3ـ العِشرة (الشركة) العذبة بدالّة.
إذاً الصلاة السامية والربيّة هي صلاة العِشرة، وهذه لها تسعة قوانين ضرورية ينبغي حفظها، ومن ثمّ يبلغ الإنسان إليها. وهي: المعرفة، الإيمان، المحبّة، الرّجاء، التجرّد، الصّوم، التواضع، الطاعة، الصبر، وأخيراً الصلاة الّتي هي ختام القوانين التسعة، وبها يتمّ كمال العَشرة.
أوّلاً المعرفة: إن كان الإنسان لم يعرف اللّه حقّ المعرفة، كيف يمكن أن يؤمن به؟ وإن لم يؤمن به، فكيف يحبّه؟ وإن لم يحبّه، فكيف يكون له رجاء به؟ وإن لم يكن له رجاء به، كيف يتجرّد من كلّ شيء ليقتنيه؟ وإن لم يتجرّد الإنسان فإنّه لا يصوم. وإن كان لا يصوم، فكيف يتواضع؟ وإن لم يتواضع، فإنّه لا يكون مطيعاً. وإن كان لا يطيع، فإنّه لا يصبر. وإن لم يصبر، فإنّه يعجز عن أن يصلّيَ صلاةً وأن يعاشر اللّه بدالّة.
فالصّلاة إذاً عِشرة مع اللّه وقليلون هم الّذين يعرفون هذه العِشرة. والإنسان لا يؤهَّل لهذه الصلاة إلاّ من بعد حفظه لهذه القوانين التسعة. وإن كان الإنسان لا يدخل من هذه الأبواب التسعة لينتهي إلى الملك فهو لا يستحقّ العِشرة معه. ومن تحدّث عن حالة الملك وعن سجاياه وهو لم يدخل أبوابه، ضلّ. لأنّ الملك حبيسٌ في خدره داخل هذه الأبواب التسعة، وإن لم يدخل الإنسان من خلالها، لا لقيه ولا تأهّل لعشرته. وإن لم يرسل الإنسان هذه الهدايا التسع قبله إلى الملك، لا تكون له دالّة عنده بل ولا يراه.
وهذه القوانين يتولّد واحدها من الآخر: وهكذا من المعرفة يتولّد الإيمان، ومن الإيمان المحبّة، ومن المحبّة الرّجاء، ومن الرّجاء والتجرّد الصّوم، ومن الصّوم التواضع، ومن التواضع الطّاعة، ومن الطاعة الصبر، ومن الصبر الصلاّة. وهذه هي العشرة آلاف التي قيل في الإنجيل إن بها نلاقي العدوّ الزاحف علينا بعشرين ألفاً([4])، مواجهين الطيش والضلال بالمعرفة، الشك والكفر بالإيمان، الحقد والبغضاء بالمحبّة، فتور العزيمة واليأس بالرّجاء، الاهتمام بالدنيويّات ومحبّة المال بالتجرّد، الشّراهة والزنى بالصوم، الخيلاء والكبرياء بالتواضع، التمرّد والعناد بالطاعة، الشدائد والأوبئة بالصبر، الشيطان وجنوده بالصلاة.
وهذا هو سلاح اللّه الّذي تكلّم عنه الرسول قائلاً: أن نكون منتعلين المعرفة، حاملين الإيمان والتّرس([5])، مولعين بالمحبة، ساعين بالرجاء، متقشّفين في التجرّد، متسلّحين بالصوم، بسطاء في الطاعة، متسربلين بالصبر. وعندما يضربنا أعداؤنا، آنذاك نستلّ فوراً الصّلاة سيفاً ذا حدّين، نشهره بوجوههم، ونواجههم مستخفّين بحياتنا، مستندين في اتّكالنا على المعونة التي من أبينا السّموي. حينئذ نرى أعداءنا مصروعين وساقطين، وأمّا نحن فقائمون ومنتصبون([6]) وبالنّصر مكلّلون.
وإنّي لأظنّ يقيناً أنّ هذه هي الفضائل التّسع الّتي كان واحد من الإخوة المتوحّدين متحلّياً بها، وهمّ ليقتني صلاة العِشرة الدائمة مع اللّه، إلاّ أنّه بتنقّله الدائم من موضعٍ لآخر، فقدَ الفضائل التّسع الّتي كان متحلّياً بها. وبالتّالي، هذه هي الصّلاة الربية والسامية الّتي تتمّ بحفظ قوانينها.
عندما علّمنا ربّنا أن نصلّي، هو أيضاً كُتب عنه، إنه كان يصلّي، حيث أنّه حفظ بنفسه قوانين الصّلاة هذه، وعرف أن يخلّصنا، وأيقن أنّه قادرٌ على دحر عدوّنا، وحزن علينا وأحبّنا، وأمل أن يكون لنا رجاءٌ به. عندئذٍ تجرّد وصام واتّضع أمام عبيده، وأطاع أباه حتّى الموت، موت الصّليب كما يقول الرّسول([7]). تحمّل كلّ الآلام وأثناء ذلك كان يصلّي دائماً. إذاً علامات الصّلاة هي هذه القوانين، وبها تتمّ الصلاة. وبهذه الصّلاة نصير أبناءً للّه.
والآن نأتي لنرى كيف علّمنا الربّ أن نصلّي. يقول: أمّا أنتم فمتى صلّيتم قولوا:
أبانا
اسم الأبوة يُقسم إلى ثلاثة أقسام: عام مستعار، شكليّ، خاصّ.
عام: حيث أنّه أبٌ للجميع.
شكلي: خاصّ بالذين يتعرفون عليه ولكنّهم لا يعملون مشيئته.
خاص: خاص بالذين يحفظون وصاياه ويتمّمون مشيئته، المخلّصين بدم ابنه ـ هذا المعنى هو الأسمى وبه يتمسك الحكماء ـ والّذين يصبحون إخوة للابن وشركاء معه في ميراث الآب. جديرٌ بنا إذاً أن نتمسّك بهذا المعنى، وأن نتبع هذا الآب ونرنو نظرنا إليه. نلقي عليه همَّنا وهو القادر على كلّ شيء، يعرف ما ينفعنا وما يصلح لخلاص حياتنا، شرط ألاّ يكون لنا رجاء بشيء آخر سواه، لا بالعالم ولا بحكّامه، لا بمقتنياته ولا بغناه، لا بجنس ولا بأقرباء ولا بآباء جسديّين. وإنّما لنكن كالأيتامٍ الذين لا أم لهم. فهم كلّما تضايقوا بأي شكل كان، يصرخون ويدعون أباهم. فإن تضايقوا من الجوع، قالوا الآية: «أعطنا خبزنا كفافنا»، وإن من الخطايا: «اغفر لنا ذنوبنا وخطايانا»، وإن بسبب الشرير والعدوّ: «نجّنا من الشرّير»، وباقي الطلبات الواردة في هذه الصلاة الرّبّانية.
وهكذا يليق بنا أن نكون كالأيتام الذين لا أم لهم، كما قيل: «إنّ أبي وأُمّي قد تركاني والرّبّ يضمني»([8]). وأيضاً: «عليك أُلقيت من الرّحم من بطن أُمّي أنت متكلي» ([9]). أي أبي وأمّي الجسديان قد تركاني، إذاً أنت متكلي من أحشاء أمّي المعمودية، وعليك أُلقينا من رحم أمّنا المعمودية المقدّسة. ويشبّهنا يوحنا بأولاد الأفاعي. والأفاعي تقتبل الزرع بواسطة الفم، وما إن تولد حتى تنهش بطن أمّها وتخرج حيّة. وهكذا كالزرع ننزل في فم المعمودية. وحينما نخرج نأكل بطنها ثمّ نخرج، ومعنى ذلك أنّنا نأكل أي نقتبل حياة وقوة ونعمة الروح القدس الّذي حلّ في المعمودية، ونولد أحياء، بينما أمّنا المعمودية تموت بعد أن نأخذ منها قوة وحياة، وهي بقيت([10]) فارغة منهما أعني مائتة. إذاً، قبلنا قوة وحياة بشكل كامل من الأمّ ولكنّنا بقينا يتامى بدون أمّ. أمّا الآن فنحن مضطرون أن نلقي همّنا على أبينا، ذلك الّذي من زرع فمه قبلتنا أمّنا المعمودية بواسطة صوته الذي نادى من فوق: «هذا هو ابني الحبيب الّذي به سررت».([11]). فإن كنا حقاً قد صرنا إخوة مع المسيح بالمعمودية التي ولدنا منها على حدّ سّواء، فإنّ ذلك الصوت الّذي نادى به الآب شاملٌ لنا جميعاً، وقد صار من أجلنا أكثر مما للمسيح، لأنّ الابن لم يكن محتاجاً لأن يُعرف من قبل الآب ولا حتى الآب كان محتاجاً لأن يُعرف من قبل الابن، وإنّما كانا يعرفان بعضهما البعض. ولكنّنا نحن الّذين كنّا بحاجة إلى ذلك الصوت حتى إذا ما ولدنا من الأمّ المعمودية نتعرف إلى أبينا بواسطة الصوت الصارخ نحو كل واحد منّا شخصياً: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت»، مؤكّداً بواسطة صوته على أننا أبناؤه ومن زرعه، لا من زرعٍ الغريب الذي هو الشيطان وأبو الكذب ذاك الذي زرع في أمنا الأولى (أي تناسل معها) وزنى بها، ولم يكن ثمّة أب معروفٍ لنا قطّ. لذلك كنّا قبلاً عبيداً وأبناء زنى، وأمّا الآن فلسنا كذلك بل أحرار، أولاد أحرارٍ وأبناء الآب السماوي، إخوة للمسيح وورثة معه سويّةً، في كلّ ما هو للآب السموي.
ونعرف الآب لأنّه صرخ: «هذا هو ابني». وهو أيضاً يعرفنا لأنّنا ندعوه أبانا، ونصنع مشيئته، فهو أبونا الحقيقي ونحن أيضاً أبناؤه، أولئك الأبناء الّذين لا من دمٍ، ولا من مشيئة جسدٍ، ولا من مشيئة رجل بل من اللّه وُلدوا، كما هو مكتوب.([12])
من هنا، ينبغي علينا أن نكون مطيعين لأبينا، حافظين لوصاياه ومتمّمين لمشيئته، لكي كلّما تضايقنا بأي نوع كان ودعوناه، يستجيب لنا على عجلة ويهبّ لعوننا ويساعدنا.
ولا نكوننّ غير مطيعين وعصاة، وغير خاضعين لأبينا كأولئك الّذين قيل عنهم: «يا أولاد الأفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي»([13])، وكأبناء المعصية، أولئك الّذين يستقر عليهم غضب اللّه كما هو مكتوب([14]). أعني أنّه متى سلكنا في العصيان، غَضَب الدينونة محفوظ لنا، عندما يقول لنا: «اِذهبوا عني يا ملاعين إلى النار لأني لا أعرفكم»([15])، وبإنكاره لنا أنه لا يعرفنا، يورثنا جهنّم عوضاً عن الميراث مع ابنه. وبما أنّنا لم نسمع وصاياه مثل ابنه، فإنه لا يمنحنا الميراث معه. وبسبب عملنا مع غريب الّذي هو الشيطان، سنُجازى إذاً معه ونرث جهنم.
ولكنّه في هذا حرّرنا من العبودية، لنكون مطيعين لكلماته وحافظين لوصاياه ومتمّمين مشيئته، فنصير أبناء ميراثه. ومتى صرنا كاملين في هذه الأمور، نستحق الدالّة العظيمة معه، ونعمته تحفظنا وتسترنا دائماً وتشجّعنا وتعزّينا. وكلما أراد الشيطان أن يعيقنا بسبب حسده لنا، يرى إلى أي «درجة بنين» قد ارتفعنا، وأما نحن فنقوم على الفور وبسرعة ونرفع عيون قلبنا إلى فوق ونبسط أيدينا إلى العلاء هاتفين بقلب خاشعٍ وقائلين: أبانا. فما إن يسمع الشيطان هذه الكلمة «أبانا» حتّى يحنق مغتاظاً ويتعذّب مريراً بتمزّق القلب ويصرّ بأسنانه علينا، ولكنّه يقشعرّ ويرتعد ويرتجف من أبينا الذي ندعوه إلى معونتنا. لذلك يعجز عن محاربتنا علناً غير أنّه يظلّ يحثّنا وينازلنا إلى أن ينتزع منا علّة إرتخاء وإهمال، فيبرّد عزيمتنا ويضجرنا لئلا نجتهد وندعو أبانا لمعونتنا دائماً، متخذّاً العلّة منا ومحارباً إيّانا بها. إلاّ أنّه يتحيّر أيّ أب يا ترى ندعو «لأنّي أنا أيضاً أب»، فنضيف نحن:
الّذي في السماء
وبغتةً، يولّي الأدبار ويتأهّب للفرار مرتجفاً عندما يرى أنّنا ندعو الآب الذي في السماء، ذلك الّذي بإشارته سقط يوماً كالبرق هو وسائر قوّاته، عندما رفع عقبه على ابنه وخال أن يقصيه عن مجده. من أجل هذا، نزل الابن وتشبّه بنا بالجسد الّذي أخذه منّا، لكي ينتقم أيضاً من الشيطان ثانيةً. وحيث أنّه جُرِّب منه وقهره، يُبيّن لنا ويعلّمنا كيف نقهره، مشجّعاً إيّانا أن ندعو أباه «أبانا».
عندما يرى الآب أنّ ابنه يشبهنا ـ لأنه كلما دعوناه قائلين: «أبانا الذي في السموات» فكأنما ابنه هو الذي يدعوه ـ نحتجب كلّنا في ناسوت واحد مع ابنه لأنّ ناسوت الابن جُعلَ كسلّم نصعد عليه إلى ذلك الآب الّذي كان بعيداً عنّا، وهذا هو السلّم الّذي تراءى ليعقوب في بيت إيل([16]). ولكن حيث أنّه ليس بالناسوت وحده نظهر للآب أنّنا نشبه ابنه، ولكن بالطاعة وحفظ وصاياه وتتميم مشيئته؛ فلنشبه الابن بالطاعة وليس بالناسوت فقط. وإلاّ فهوذا جميع الناس يشبهون ابنه في الناسوت. ولكن انظر كيف أجاب ربّنا تلك المرأة التي رفعت صوتها من الجمع وقالت: «طوبى للأم التي ولدتك وللثّديين اللّذين أرضعاك»([17])، أمّا هو فوبّخها قائلاً: بل طوبى للّذين يسمعون كلمة اللّه ويعملونها!([18]). وأيضاً: هوذا أمّك وإخوتك خارجاً يطلبونك([19]). فماذا قال: من هي أمّي ومن هم إخوتي؟ …لكن من يصنع مشيئة أبي هو أمّي وأخي وأختي([20]). وأيضاً: «طوبى لصانعي السّلام لأنّهم أبناء اللّه يُدعَون»([21]).
عندما نصنع سلاماً ووئاماً مع الآب بطاعة كلامه وحفظ وصاياه، ونتمّم مشيئته، فإنّنا بذلك نصير إخوةً للابن ومقتفين لآثاره، ونبدو للآب أنّنا نشبه ابنه، ويُشركنا معه في ميراثه. ولكن بشرط أن نؤمن بأنّ كلّ ما نسأله من الآب باسم الابن، أو من الابن باسم الآب، بضميرٍ طاهرٍ منزّه عن ملامة عدم الطاعة وحفظ الوصايا، نناله حسب كلمة الربّ ـ وهي صادقة لنا دون شكّ ولا ارتياب ـ لأنّه من الطاعة وحفظ الوصايا تتولّد الدالّة والإيمان: «لأنّ كل من يقرع يُفتح له، وكلّ من يدعو يُستجاب، وكلّ من يطلب يجد، وكلّ من يسأل يُعطى»([22])
إذا كان فكره واثقاً من أعماله، عندئذٍ يتقدّم باطمئنان إلى مثل هذه الدالّة وإذا به يشترك مع الآب السموي كابنٍ يصنع كلمة أبيه ويتمّم مشيئته، وأبوه يحبّه أيضاً ويسلّمه كل ما هو له، بشرط ألاّ يعصيه في شيء. وعندما ينظر الآب، يرى صورة عقل ابنه قد صفت كالمرآة بواسطة حفظ وصاياه ـ وصورة الآب نفسها ومثاله صافيان بالطبيعة ـ وعندما يرى الآب أنّ لا شبيه له سوى ابنه، والابن يرى أنّه لا شبيه له سوى أبيه، وكلاهما يريان أنّهما متشابهان، حينئذٍ فإن العقل النقيّ الصافي بواسطة حفظ الوصايا يصرخ جهراً ويقول: «أنا في أبي وأبي فيّ([23])، وأنا والآب واحد([24])» مثل كلمة ربّنا ومخلّصنا. وينعم العقل برتبة حالته الأولى كاملاً وتامًّا على شبه خالقه.
هذه هي منزلة أبناء الآب السموي، وإلى هذه الكرامة الرفيعة والسامية يبلغون، وهذا هو ميراث الآب السموي. وعلى شرط هذا الميراث وهذا الإتمام من قبله، والطاعة وحفظ الوصايا منّا بواسطة أعمالنا الصالحة، نقدّس اسم أبينا ونقول:
ليتقدّس اسمك
إذ يطيب له تقديسنا، أن نقدّس اسمه، أكثر من تقاديس السرافيم وتسابيح الملائكة، لأنّه لم يتعب بالملائكة كما تعب بنا، مثلما قيل: «بكلمة الربّ صُنعت السّموات، وَبِنَسمةِ فيهِ كُلُّ جنودها»([25]).أمّا نحن فليس كذلك، بل: «جبلتَني ووضعتَ عليّ يدَكَ»([26]) وأيضاً: «هلمّوا نعمل الإنسان على صورتنا» ([27]).
وهو يتحدّث هنا عن «عملٍ»، لأنّه كان مزمعاً أن يعمل عملاً عظيماً حتّى تُنجز الصّورة بالكمال فتصبح مثله. يقول: «تعالوا نعمل» فيظهر اتّفاق مشيئة الثالوث في بداية الأعمال، لكي عند إنجاز العمل، يتمجّد أيضاً بالمساواة الثالوث ويتقدّس في عمله. فإنّه لا يُثنى على التقديس والحمد في بداية العمل كما يُقدَّس ويُمجّد ويُحمد في نهاية العمل. والآن، في نهاية العمل، واجبٌ التقديس لأبينا بأن نقدّس اسمه، ذلك أنّنا لا نقدّس اسمه بدون تعب ومجّاناً مثل تقاديس الملائكة الّتي هي مجّانية وبدون تعب، ولكنّ تقاديسنا مُبتاعة بغلبة دم ابنه أي بثمن دم ابنه الوحيد، ذاك الّذي من أجل خلاصنا أسلمه إلى الموت. فواجبنا ألاّ نهدأ عن تقديس الآب بابنه، والابن بأبيه وروحه القدّوس.
وأيضاً، «ليتقدّس اسمك» أي من الخلائق بأسرها إذ ترى أنّنا خطاة وترابٌ غير صالح وقد صرنا لك بنين. وقد أهّلتنا ولئن كنا غير مستحقّين، إلى البنوّة الّتي تحبّها وترغبها بنعمتك وبمراحمك الغزيرة.
«ليتقدّس اسمك» بقداسة حواسّنا وأعضائنا بجملتها، كما قيل: «كونوا قدّيسين لأنّي أنا قدّوس فأسكن فيكم»([28]). وقيل أيضاً: «من يحفظ وصاياي…، أنا والآب إليه نأتي وعنده نصنع منزلاً»([29]).
«ليتقدّس اسمك»: في كلّ مرّة نقدّس شيئاً ما نقول أوّلاً «باسم الآب» فيتقدّس اسم الآب بواسطة ذلك الشيء الّذي يُقدَّس.
وأيضاً «ليتقدّس اسمك» بنا وبأعمالنا الصّالحة، لكي تظهر أمام النّاس فيقدّسوا ويسبّحوا «أبانا الّذي في السّموات».
«ليتقدّس اسمك» لأنّه مهما كنّا ضعفاء وبسطاء، والشّيطان شديد بأس ويزأر كالأسد لافتراسنا متلهّفاً لهلاكنا، فإنّه يعجز عن الاقتراب منّا حين يرى قوّة اسمك العظيم تحيط بنا كالسّور المنيع، ونحن مسلّحون ضدّه باسمك وندعو بثقة قائلين:
ليأت ملكوتك
«ليأت ملكوتك» لمعونتنا، أي أنّه يدعو المعرفة ملكوتاً، ويعني لتأتِ معرفتك الإلهية والرّوحية لكي نعرف بواسطتها إرادتك ونحفظ وصاياك ونتمّم مشيئتك. والملكوت في الإنجيل يُقسم إلى أربعة معانٍ.
أوّلاً المعرفة الروحية التي يحوزها القدّيسون هنا وهُم ما زالوا على قيد الحياة. إنّ الملكوت بمعنى المعرفة الروحية هذا، تطابقه الآية: «لأَنْ يَمُرَّ جملٌ من ثقب الإبرة أيسر من أن يدخل الغنيّ الملكوت»([30]) لأنّ من يهتمّ بشيءٍ ما، لا يقدر أن يدخل المعرفة الرّوحية، ولكن الّذي يتجرّد عن كلّ همٍّ العالم، هو يدخلها، و«ملكوت السّموات يُغْصَبُ»([31])، وأيضاً: «الملكوت في داخلكم»([32])، أي المعرفة. «ليس أحدٌ يضع يده على المحراث، وينظر إلى الوراء، يصلحُ لملكوت اللّه»([33])، ويشبه الملكوت كنزًا مُخفىً([34])، ويشبه الملكوت حبّة خردلٍ([35]) ولؤلؤة كثيرة الثمن([36])، والملكوت هو لمثل هؤلاء الصّغار الّذين لا يهتمّون، و«طوبى للمساكين بالرّوح لأنّ لهم الملكوت»([37])، «لكن اطلبوا أوّلاً ملكوت الله وبرّه»([38])، «…قد أُعطي لكم أن تعرفوا سرّ الملكوت»([39])، «كلّ كاتبٍ تتلمذَ لملكوت السّموات يُشبه رَجُلاً ربَّ بيتٍ يُخرجُ من كنزه كُلَّ جديدٍ وقديم»([40]). هذه وأمثالها تُشابه وتُطابق معنى «المعرفة الروحية»، أحد المعاني الأربعة الّتي ذكرناها سابقاً.
وأمّا المعنى الثّاني فهو مجيء ربّنا وتُدعى بشارتُه المحيية ملكوتاً، ومثال ذلك: «قد اقترب منكم الملكوت»([41]) و«اكرزوا قائلين إنّه قد اقترب الملكوت»([42])، «ويُكرز ببشارة الملكوت هذه في كلّ المسكونة»([43])، «الأصغر في الملكوت أعظم من يوحنّا»([44])، «كلّ من يسمع كلمة الملكوت ولا يفهمها»([45])، «يشبه ملكوت السّموات إنساناً زرع زرعاً جيّداً»([46])، «يُشبه ملكوت السّموات خميرةً أخذتها امرأةٌ وخبّأتها في ثلاثة أكيالِ دقيقٍ»([47])، «يُشبه ملكوت السّموات شبكةً أُلقيت في البحر»([48])، «يُشبه ملكوت السّموات رجلاً خرجَ مع الصّبح ليستأجر فعلةً لكرمه»([49])، «إنّ ملكوت اللّه يُنزع منكم، ويُعطى لأمّة تعملُ أثماره»([50])، «يُشبه ملكوت السّموات إنساناً ملكاً صنعَ عرساً. وأرسلَ عبيده ليدعوا المدعوّين إلى العرس»([51]). وأيضاً: «تغلقون ملكوت السّموات قدّام الناس»([52])، هذه وسائر الآيات الأخرى المشابهة والمطابقة لها.
أمّا بالمعنى الثّالث، فتُطلق كلمة الملكوت على قيامة الربّ من بين الأموات. وكما اقترب ملكوته من موضع الأحياء كذلك اقترب من مثوى الأموات: فقد كَرز بالقيامة وقام بمجدٍ ونصرٍ كبيرٍ. وهذه بالأَولى ينبغي أن تُدعى ملكوتاً، والأقوال التي تطابقها هي: «الحقّ أقول لكم: إنّ من القيام ههنا قوماً لا يذوقون الموت حتّى يرَوا ابن الإنسان آتياً في ملكوته»([53])، وأيضاً «وأقول لكم: لن أشرب بعد الآن من نتاج الكرمة هذا حتّى ذلك اليوم الّذي فيه أشربه معكم جديداً في ملكوت اللّه»([54])، «طوبى لمن يأكل خبزاً في ملكوت اللّه»([55])، «ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا يكون لملكه نهاية»([56])، «وكان هو أيضاً ينتظر ملكوت اللّه»([57])، «وكانوا يظنّون أن ملكوت اللّه عتيدٌ أن يظهر في الحال»([58])، «مُباركة المملكة الآتية، مملكة أبينا داود»([59])، مشيراً إلى مجيء الملكوت الآتي بقوّة وغلبة على الموت، وأكل وشرب معهم مجدّداً بعد قيامته([60])، مع سائر الأقوال المطابقة لهذه.
والمعنى الرّابع للملكوت هو ملكوت ما بعد القيامة والدينونة، ويرثه الأبرار مكافأةً عن أتعابهم. ومثال ذلك: «ليس كلّ من يقول لي «يا ربّ، يا ربّ» يدخُلُ ملكوت السّموات»([61])، «حينئذٍ يضيء الأبرار كالشّمسِ في ملكوت أبيهم»([62])، «قُلْ أن يجلس ابناي هذان واحدٌ عن يمينكَ والآخر عن يسارِك في ملكوتك»([63])، «إنّ العشّارين والزوانيَ يسبقونكم إلى الملكوت»([64])، «يُشبه ملكوت السّموات عشر عذارى»([65])، و«تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت»([66])، «خيرٌ لك أن تدخل ملكوت اللّه أعورَ»([67])، «من لا يقبل الملكوت مثل ولدٍ فلن يدخله»([68])، «لأنّ أباكم قد سُرَّ أن يعطيكم الملكوت»([69])، و«مملكتي ليست من هذا العالم»، «ولمّا رجع بعد ما أخذ المُلك»([70]). مع سائر الأقوال المطابقة لهذه.
على هذا النّحو، قسِّمْ الملكوت إلى أربعة معانٍ لكي ينجلي لكَ بسهولة وببساطة تفسير كلّ واحد منها بدون خطأ وعلى حدة. فإن كُنتَ تُداخل تفسيرها في معنى واحد، فستختلف فيما بينها، وستبدو كما لو أنّها قيلت بشكل مبلبل وبدون ترتيب. فذاك الملكوت الّذي نقول عنه في الصلاة الربية: «ليأتِ ملكوتك»، نريد به المعرفة، كما قيل بالربّ لسليمان الفتى أثناء تولّيه حديثاً الحكم على مملكته: ادخل أمامي إلى الهيكل([71]) و«كلّ ما تسأله منّي أعطيك». فصلّى سليمان أمام الربّ وقال: «أيّها الربّ إلهي هبني معرفةً أسوس بها، وأحكم على شعبك اسرائيل»([72])، فحسنت صلاته في عيني الربّ، وملأه من روح الحكمة والفهم، حتّى أنه لم يقم في الملوك مثله لا قبله ولا بعده([73]). ومثال ذلك: «اطلبوا أوّلاً الملكوت وكلّ شيء يُزاد لكم»([74])، لأنّ كلّ شيءٍ تابع للمعرفة الرّوحية المميِّزة. وإنّ إوغريس، واحد من الكاملين والعلماء، يبرهن جليًّا هو وأقرانه، في كتبهم بأنّ الملكوت هو معرفةٌ روحيّة.
هكذا، إن لم نعرف مشيئته فكيف نعملها؟ بيد أنّنا نسأل أوّلاً المعرفة ومن ثمّ «لتكن مشيئتك». فينبغي أن نطلب أوّلاً هذه المعرفة من أبينا السّموي، لكي ندحض بوساطتها كلّ معرفة تتصدّى لمعرفته. وعندما نحكم بها، تنجلي لنا مشيئته ونتمّمها كما يحسن لديه. فمتى مُنحنا هذه المعرفة، نتسلّط على جميع حيل إبليس الّتي تنفضح مكشوفةً أمام ناظرَينا. وبواسطتها نحتال نحن أيضاً على كلّ خداع الغدّار، ويهرب كل مكره واحتياله من أمامنا كما يتبدّد الظلام من أمام النور، وكما يذوب الشمع قدّام النار([75]). وهكذا تتسلّط هذه المعرفة، ونتسلّط بها على كلّ ما يضرّنا ويؤذينا، وعلى كلّ ما يصلح لنا وينفعنا. وهذا هو السّلاح الماضي الّذي وهبنا إيّاه أبونا لنتسلّح به أوّلاً ضدّ الأعداء، كما يجب ويليق بأبناء الملك السّموي، لكي لا يُعيَّر أبونا الممجَّد بسببنا، كوننا مفتقرين إلى السلاح وإلى معدّات القتال. فعندما يرانا أعداؤنا مجرّدين من معدّات السلاح، يتسلّطون علينا ويغلبوننا، مُوشّحين إيّانا سلاحَهم الّذي هو المكر والخداع والحيلة لنَتدبّر بها. وعندما تُوافي المنيّة، تزول وتتلاشى مثل شبكة العنكبوت المنسوجة والمعلّقة في الهواء، الّتي تتمزّق من هبّة ريحِ طفيفة، كما هو مكتوب: «الحيل لا تثبت أمام الربّ»([76]).
وبهذا الشّكل، يجب علينا أن نطلب دوماً وبدون هوادة هذه المعرفة أي أن يمنحنا أبونا السموي الملكوت. ونحن بأمسّ الحاجة أن نسأل هذه المعرفة قبل أيّ شيءٍ آخر. فإن سألناه أي شيءٍ آخر، لا يرتضي بنا ولا يقبل بنوّتنا، نظير الابن الّذي يطلب من أبيه اللآلئ فيما يجهل قيمتها، أو عندما يسأل شيئاً مؤذياً يشتهيه، فكيف يُعطيه ذلك الشّيء؟ ولكن بالأَولى يُفهمه المعنى([77])، ويهبه معرفة كلّ شيءٍ: ما يصلح وما يسيء، الغالي والرخيص، ويُنبئه بكلّ شيءٍ عن مشيئته ومَرضاته، ما يستحسنه وما يسرّه. فمتى رأى الآب أنّ الابنَ قد اكتمل بمعرفته، ورأى أنّ كلّ ما يَسُرُّ الابنَ ويروق له أن يعمله، هو نفسه ما يستحسنه أبوه، بل لا يعمل إلاّ ما يُرضي أباه، إذ ذاكَ يتأكّد الآب ويعلم أنّ كلّ ما يسأله الابن منه، هو لرضاه وكما يحسن لديه، وهو جدير بالثقة، فيأتمنه حينها على كلّ ما هو له مدبّرًا ومُنظِّمًا كلّ شيءٍ كما يحلو له.
إذاً حريٌّ بنا أن نطلب هذا الملكوت أي المعرفة حتّى ننالها، لكي نصير بها حكماء وندرك بواسطتها كلّ ما هو حسب رضا ومشيئة الآب، فنعمله ونتمّمه بنفسنا، بالطاعة اللاّئقة بأبناء الآب السمويّ. وبعد أن نطلب مجيء ملكوته لمعونتنا أي معرفته، نضيف حينئذٍ ونقول أيضاً:
لتكن مشيئتك كما في السّماء كذلك على الأرض
انظروا كيف يريد أنّ ما يسرّه في السّماء يكون متمّماً بنا على الأرض. فلا يكون أنّ الآب استحسن شيئاً ما في السّماء وسُرّ أن يكون بنا على الأرض، ونحن نعمل ونتمّم على الأرض شيئاً آخر خلاف ما يسرّ الآب في السّماء. ولكن نعمل ونتمّم على الأرض كلّ شيء يُسرّ به أبونا في السماء كما يرضاه ويستحسنه، وما خلا ذلك لا تُسرّ به نفسي([78]) كما قيل.
كذا ينبغي ألاّ تكون لنا مشيئة أخرى عدا مشيئة أبينا السمويّ، حيثُ نوحّد مشيئتنا بمشيئته، تثبت إرادته وتبقى إرادتنا، نحذف كليًّا مشيئتنا لتوجدَ مشيئته فينا كاملةً، على مثال ربّنا الّذي كان حين يصلّي للآب، يعلّمنا ويقول: «يا أبتاه، لتكن لا إرادتي بل إرادتك»([79]). غير أنّه لم يكن محتاجاً إلى أن يصلّي ولكن ليعطينا نحن المعوزين قُدوةً وتعليماً. لكيما عندما نتعرّض لأيّ ألمٍ كان، نصلّي ونقول: «أبانا الّذي في السّموات بإمكانك أن تجيز عنّا هذا الألم، ولكن لتكن لا مشيئتنا ولئن حياةً كانت، وإنما مشيئتك ورضاك حتّى ولو كانت موتاً». حيث أنّنا نخضع لما يُرضي الآب ولو كان يُضايقنا، ولا نخضع لرغبتنا ولئن بدت لنا مريحةً. ذلك أنّه لا يضمر لنا شرًّا لمعرفته ما هو خير ومناسب لخلاص حياتنا، عالماً بضعف طبيعتنا، مثلما تقيّد ابنه بضعفنا. ولكنّه سلك حسب مسرّة الآب، وتمّم مشيئته حسب مرضاته وكما حسن لديه، في حين لم يكن له أيّة مشيئة أخرى خلا مشيئة الآب. لذلك قيل له: «اجلِس عن يميني حتّى أضع أعداءك موطِئًا لقدميك»([80])، أي تحت سلطان ناسوتك الضعيف.
وهكذا نحن الضّعفاء إن كنّا نحفظ وصاياه ونتمّم مشيئته بواسطة طاعتنا لكلامه، فإنّه حينئذٍ يضع كلّ شيءٍ موطئاً لأقدامنا الضّعيفة. ندوس الشّبل والتنّين([81]) والحيّات والعقارب([82]) ولا يضرّنا شيءٌ. والأرواح أيضاً تخضع لنا([83])، ونتحرّر من كلّ قوّة الخطيّة([84])، وأبواب الجحيم لا يمكنها أن تقوى علينا([85]). ونصير أبناء عدم الفساد وعدم الألم، لأنّ هويّتنا مشابهة لهويّة ابنه الوحيد والحبيب ذاك الّذي ترتعد وترتاعُ من زجره([86]) الأعالي والأعماق وكل ما فيها. ونمسي كالملائكة القدّيسين والخدّام الّذين يعملون مشيئته.
وهذه هي مشيئة الآب: أن نسلك حسب إرادته وأن نخضع لمشيئته كما علّمنا ابنه الحبيب. ذلك أنّ الابن يعرف أباه، بماذا يرضى وكيف يستحسن أن نكون أمامه، لكي يرفعنا إلى الشركة مع ابنه في ميراثه، ويورثنا ويمنحنا ما قد خُلقنا من أجله. لهذا احتجنا إلى أن يظهر للملأ ذلك المحجوب في حضن أبيه، وأن يتشبّه بنا، ويُظهر لنا ويعلّمنا كلّ ما يُسرّ به الآب ويُرضي مشيئته الصّالحة لأنّه عارفٌ فكر الآب ورضاه. وبغية أن يعرّفنا ويعلّمنا، صلّى وقال: «يا أبتِ،… لا مشيئتي، بل مشيئتك!» وقال لنا أيضاً: خاطبوا أبي قائلين: «أبانا»، و«لتكن مشيئتك كما في السّماء كذلك على الأرض».
رأيتَ كيف أنّ كل تدبيره هو قدوةٌ وتعليمٌ لنا نحن البشر. إذ لا تفسير لتصرّفاته إلاّ تعليمنا لكي نتصرّف هكذا على غراره. حيث أنّه يوصينا أن ننهجَ هكذا وأن نحفظ وصيّته لا بالكلام فقط، بل بالعمل، ذلك أنّ الوصيّة لا تفسير لها، وإنّما تفسيرها هو حفظها بالعمل. وهو يوصينا ألاّ تكون لنا مشيئة على الأرض ولكن أن تكون مشيئتنا في السّماء وفي ناموسه الّذي به نلهج نهاراً وليلاً([87])، دون أن تكون لنا مشيئة على الأرض، كالآية القائلة: «اطلبوا ما فوق، اهتمّوا بما فوق لا بما على الأرض»([88]). فإنّه لو لم يأتِ الابن ويعلّمنا، لما كان بوسعنا أن نطلب وأن نهتمّ بما فوق، أي بما هو حسب مشيئة الآب، كما هو مكتوب: «عرّفني طرقك، واهدِني في سبلٍ مستقيمة»([89])، «عرّفني الطّريق الّتي أسلك فيها… علّمني أن أعمل رضاك»([90])، «وعرّفني يا ربّ رضاكَ»، مبيّناً أن كل تدبير ربّنا هو قدوةٌ وتعليمٌ، فإذا ما تمّمنا مشيئة الآب، تمّم الآب أيضاً كلّ مشيئتنا، مثلما قيل: «الربّ قريبٌ لكلّ الّذين يدعونه، الّذين يدعونه بالحقّ. يعمل رضا خائفيه»([91]). فكما أنّ الابن تمّم كلّ مشيئة الآب، كذلك الآب عمل وتمّم مشيئة الابن، كما هو مكتوب: «لأنّ الآب يحبّ الابن ويريه جميع ما هو يعمله… لأنّه كما أنّ الآب يقيم الأموات ويحيي، كذلك الابن أيضاً يُحيي من يشاء. لأنّ الآب لا يُدين أحداً بل قد أعطى كلّ الدينونة للابن… وأعطاه سلطاناً أن يدين أيضاً… يسمع جميع الّذين في القبور صوته، ويخرجون منها»([92]).
ولا غرو في أن يعمل المساوي للآب في الجوهر هذه القوّات بما أنّه تمّم مشيئة أبيه، ولكن العَجب العُجاب أنّه عندما يعمل الترابيّون مشيئة الآب ويحفظون وصاياه، يعملون مثل هذه القوّات بل وأعظم منها([93])، ويجلسون أيضاً على الكراسي، ويُسلّطهم كالابن ليدينوا أسباط اسرائيل الاثني عشر([94]). إلاّ أنّ الابن لم يكن محتاجاً إلى هذا السّلطان، وإنّما نحن من كان يعوزنا هذا السّلطان، لذلك فقد نزل ليرفعنا ويرقى بنا. ولا يتمّ لنا هذا إلاّ إذا فعلنا مشيئة الآب السّموي. إن كان هو غير المحتاج يقول: لا أستطيع أن أفعل شيئاً من نفسي، بل مشيئة الّذي أرسلني([95])، فما أحرانا نحن الّذين بمسيس الحاجة إلى كل شيء، ألاّ نعمل شيئاً من تلقاء نفسنا بل مشيئة أبينا!
….. ([96])
ولكن نحن من نهمل إلى حينٍ، ثمّ نعود ونخضع لمشيئة أبينا السموي، ونصلّي ملتمسين منه أن تتمّ مشيئته فينا دائماً، كما في السّماء كذلك على الأرض. فيكون من بعد أن تمّمنا مشيئته وحَسُنّا في عينيه وسُرَّ بِنا، أنّنا نضطرّ لكي نكتسب بعض القوّة أن نلقي عليه همّنا، وكلّ رجائنا واتّكالنا، وألاّ نتّكل على أنفسنا أو فعلنا أو عملنا أو برّنا، ولكن شأننا شأن أناسٍ يعرفون أن بوسع أبيهم أن يُقيتهم دون تعبٍ أو عناء. وهو نسمة وحياة الجميع. ولئن كنّا ضعفاء قاصرين، إلاّ أننا نلقي عليه همّنا وهو القادر على كلّ شيءٍ وهو الّذي يُدبّرنا ويُعيلنا بحسب مشيئته.
وبذلك يعلّمنا الابن أن نسأل القوت من الآب لئلاّ نهتمّ بقوت جسدنا، بل أن نعمل بسهولةٍ مشيئة الآب، فنكون عراةً متجرّدين عن الغمّ والهمّ والتفكير بحياتنا. ولكن أن يكون فكرنا وهمّنا تتميم مشيئة الآب. وبالمقابل، يهتمّ الآب بقوتنا ولباسنا واستمرار حياتنا. فإن كان الآب لا ينسى صنفاً واحداً بسيطاً مهملاً من الخلائق فيه نسمة الحياة، إلاّ ويدبّره ويُغذّيه ويعتني بحياته أقصى الاعتناء، فما أحراه أن يهتمّ باستمرار حياتنا نحن أبناءه، حافظي وصاياه وفاعلي مشيئته! ولكن ينبغي علينا أن نسأله غذاءنا في الصّلاة، لئلاّ نكون كأناسٍ يجهلون قدرة أبيهم، بل نطرح أمامه ضعف طبيعتنا كأناسٍ لابسي الجسد ونصرخ قائلين:
أعطنا خبزنا كفافنا اليوم
بهذه الطلبة الّتي علّمنا إيّاها، طرح ونزع عنّا ثقل الحِمْل الكبير، حِمْلِ الهمّ والقلق، لكي نصير سريعين وصالحين لقبول حِمل حفظ وصاياه وتتميم مشيئته. ولكن إذا كان لنا اهتمامٌ بشيءٍ ما، فإنّ وصاياه لا تُكمّل بحسب رضاه ومسرّته، ذلك لأنّنا لا نستطيع أن نحمل حِمْلَين أي حِمل الهمّ وحمل الوصايا. ولكن إذا طرحنا أحدهما، فإنّنا نستطيع أن نحمل الآخر بسهولة كما قال: «ما أضيق الباب وأكرب الطريق»([97]) أي أمام الّذين يحملون الهمّ والقلق، وللّذين لا همّ لهم قال: «لأنّ نيري هيّنٌ وحملي خفيفٌ»([98]).
وبذلك يعلّمنا أن نطلب على مقدار حاجتنا يوماً بيوم، وأيضاً: «لا تهتمّوا للغد([99])، «انظروا إلى طيور السماء، وتأمّلوا زنابق الحقل»([100]) حاثًّا إيّانا على الاتّكال عليه والرّجاء به، لنصير كأبناءٍ أصحاب ميراث أبيهم، الّذين لا يعملون حساب الأيّام مع أبيهم كالعبيد والأجراء الّذين أجرهم محدّد بحسب خروجهم إلى العمل والشغل، أو كالأجراء الّذين يترقّبون متى ينقضي النهار وتغيب الشمس، بل كالأبناء النشيطين لإيجاد عملٍ من أجل راحة ورضى أبيهم، وكأرباب العمل والشّغل لا كالأجراء([101]). لذلك فهو يعلّمنا أن نطلب الزاد اليوميّ فقط لا أكثر كأبناء البيت الّذين مبيتهم المسائي اليومي هو في منزل والدهم.
لذلك لا ضرورة لأن نطلب منه أكثر من حاجتنا يوماً بيوم. فإن كان يُعطينا قوت اليوم، ومبيتنا المسائي عنده، ومن عشائه الجاهز نأكل، لمَ يكون اهتمامنا بأكثر من يوم، مثل التقاط المنّ الإسرائيلي يوماً فيوماً([102])؟ إذاً يجب ألاّ نهتمّ بشيءٍ مطلقاً، بل أن يكون همّنا هو العمل له.
إذا كان الإنسان يهتمّ بأن يُشبع الغرباء والعبيد والأجراء ولا يتركهم يجوعون لأنّهم مرتبطون بالعمل له، فكم بالحريّ يهتمّ بأبنائه المحبوبين والعزيزين عليه والمربوطين تحت نير عمله؟.
هكذا ينبغي أن نتوكّل على الآب الحامل همّنا في كلّ شيء، ونجتهد في العمل له وخدمته، مكمّلين عمله دون نقص بحسب رضاه ومسرّته. عندئذٍ يدخل ويُتكئنا ويتمنطق ويخدمنا كما قيل([103]).
وأيضاً «أعطنا خبزنا كفافنا اليوم» مثل أناسٍ خارجين إلى الحرب، فيأخذون زاد اليوم فقط، لئلاّ يهتمّوا بشيءٍ. فمتى اندلعت الحرب، وجيش الأعداء مُحيطٌ بهم، لا يكون لديهم همٌّ آخر سوى الضربات، فلا يحيد نظرهم إلى شيءٍ هنا وهناك، ويتراخون ويولّون الأدبار فارّين، عندئذٍ تُعيَّر قدرة أبيهم. لكنّ ربّنا ـ المجد لنعمته ـ تشبّه بنا وجُرّب وقهر الأعداء، وعلّمنا وسيلة الانتصار لكونه مقاتلاً ماهراً وحكيماً يتمتّع بكل مهارات الحرب والظفر. وأمرنا ألاّ نهتمّ بشيءٍ لا بالفعل ولا بالفكر، فإنّ مصارعتنا ليست مع دمٍ ولحم بل مع الرّؤساء وسلاطين هذا العالم المظلم، ومع الشيطان([104]) الروحيّ الذي يشرب دم النفوس. فينبغي علينا أن نتبع تعليم هذا الحكيم، لأنّه عليمٌ بما يُرضي ويحسن لدى أبيه، وبأمور العدوّ: أي حيله ومكائده الّتي يُمكنه إهلاكنا بها.
وهكذا يجب علينا أن نقف بشجاعة، وأن يكبر ويزيد ويطول اتّكالنا عليه، مثل شعر شمشون النّذير، لئلاّ نتراخى مثله فيتسلّط علينا أعداؤنا ويوثقونا ويحلقوا رجاءنا مثل شعره، ويفقأوا عينينا الناظرتين، ألا وهما المعرفة والفطنة، ويوثقونا بعمل الرّحى الّذي هو الهمّ والتفكير بأمور كثيرة، وبعمل الأسنان الطاحنة. وإذا اهتممنا أكثر، نجد أنفسنا أنّنا نحسد إخوتنا مع أنّهم يسلكون حسناً، لا بل نغويهم ونقرنهم بسلوكنا والتواطؤ معنا، مثل الآية: «لِتَمُتْ نفسي مع الفلسطينيّين»([105]). انظرْ كم كانت قوّة شمشون معروفة عندما لم يكن شعره محلوقاً بعد، وإلى أيّ عملٍ شقيّ انتهى بعدئذٍ! هكذا، ما دام رجاؤنا بالآب غير منقطع مثل شمشون الجبّار، نستطيع كلّ شيء، واسم جبروتنا يُكرز في كلّ مكانٍ تحت السّماء، وبدون رجاءٍ لا نستطيع عمل شيءٍ أبداً.
فإن أصبحنا مجرّدين عن كلّ همّ، فإنّنا مثل الربّ سنُقتاد بالرّوح القدس. والشيطان الّذي يحاربنا بالهمّ نرشقه بواسطة كلمات الربّ كما لو كانت أنصالاً([106])، مثل: «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان»([107])، وبرجائنا واتّكالنا على أبينا السّموي مع التواضع نصرع وندوس شموخه وكبرياءه.
وبعد أن نكمل في الاتّكال عليه والرجاء به، حينئذٍ ننظر إلى طبيعتنا الضعيفة الساقطة، المنحرفة والخاطئة، ونشاهد نفسنا الممرّغة بالخطيئة، وضميرنا يوبّخنا على ما بدر منّا. ولكنّنا باتّكال راسخٍ وبرجاءٍ حقيقيٍّ صادقٍ، نتذلّل أمامه ساقطين على وجوهنا، قائلين بانسحاق:
واغفر لنا ذنوبنا وخطايانا
لو لم يكن قد غفر لنا خطايانا، لما كان يعلّمنا أن نخاطبه هكذا. وهنا ثبّت الآية: «اِقرَعوا يُفتح لكم، ادْعوا فأستجيبُ لكم، واطلُبوا تَجِدوا، واسألوا تُعطَوا» ([108])، ويقول لنا أيضاً: «آمنوا أنّ كلّ ما تطلبونه في الصّلاة مؤمنين تنالونه»([109])، كما لو كنتم قد نلتموه حالاً.
وهكذا فلتكن لنا ثقةٌ ورجاء به، لأنّه لا يفتأ يدعونا: «هلّموا خذوا كلّ ما تريدون»، مثل طبيبٍ يبغي معاينة الجرح فقط، وبعدئذ هو يعرف دواءه. لذا واجبنا أن نكشف له جرحنا، وهو يعلم عندئذ ما يلزمنا، أي أن نسلّم له من صميم القلب مشيئتَنا فقط، وعندها يُجيب سؤالاتنا ويُكمّل طلبتنا دون أدنى جهدٍ آخر.
ينبغي علينا أن نستفيد من «تسليم المشيئة» هذا، لأنّه ولو كنّا قاصرين كليًّا عن فعل أيّ شيء، وعاجزين عن الوقوف على أقدامنا بسبب شللِنا بالخطايا، نسلّمه مشيئتنا فقط، وهو يأخذ إعاقتنا على منكبيه، ويرفعنا إلى أبيه فرحاً بنا مع ملائكته كما قال([110]). وهو يريد فقط أن نحضر أمام بابه، وكلّ ما نطلبه نلقاه منه. ولو كان مُعرضاً عن إعطائنا بسخاء، لما كان يُعلّمنا ويقول: قولوا لأبي أن يغفر لنا ذنوبنا وخطايانا.
إذاً، فإنّ ذلك الغنيّ هو بأمسّ العوز إلينا، لكي نحتاج نحن إليه. ولكي يَسدّ عوزه يرومُ أن يمنح صدقةً. فلنسأل فقط ولننل. وهو لا يطلب ثمنها بل يمنحها مجانًّا، لنكن مستعدّين لنيلها وحسب. يُريد أن يُظهر لنا بحر مراحمه الطافح وليس فقط بحسب حاجتنا، وإلاّ فأيّ عملٍ جهيد قدّم اللصّ حتّى سبق جميع الأبرار؟ وأيّ عناء قدّمت الخاطئة حتّى فاقت المعمدان في الملكوت؟ ففيما كان هو يهرب لعدم استحقاقه لنعليه، كانت هي تضمّ رجليه؛ هو يمسك يديه عن سيور حذائه، وهي تقبّل الرّجلين والجسم بفيها.
وليس هذا وحسب، ولكنّه معروضٌ أمامنا في كلّ حين لنأكل جسده المقدّس ونشرب دمه الزكيّ ونحن، إن بكّتنا ضميرنا على خطايانا، خطاة نظير تلك الخاطئة. ولكن من أجلنا نحن الخطاة المحتاجين قد جاء، وليس من أجل الأبرار غير المحتاجين. وكلّ عمل التدبير العظيم هذا الّذي عمله، كان من أجلنا نحن الخطاة. سعى وراءنا ليصالحنا مع أبيه، فللأبرار أعمالٌ أمّا نحن فلا. غير أنّه لا يطالبنا بأن نعطي أباه شيئاً عوض غضبه علينا، بل أن نعترف أمامه فقط ونقول: «أبانا، أخطأنا إلى السّماء وقدّامك([111])، واغفر لنا ذنوبنا وخطايانا». فإن كان ثمّة دَين علينا، فقد وفاه الابن بدمه. وكلّ ما للآب علينا، الابن كفيلُنا يوفيه عوضاً عنّا.
فلنسر فقط في أعقاب الابن الّذي جدّ في طلبنا ودعانا سالكاً أمامنا يعلّمنا كيف نتكلّم مع أبيه، وماذا نطلب منه وماذا نسأله، وبمثل أيّة كلمات مرضيّة نتلفظ أمامه، وما هي الأمور الّتي تسرّه، لأنّه عارفٌ بمجمل قضيّة المصالحة الّتي يرضاها الآب. وهو يعدنا: أنا أوفي دينكم، وأقيم لكم عهداً بدمي. تعالوا معي باطمئنان فأدخل معكم عند أبي وأنا حاملٌ وفاءَ دينكم. أجلس عن يمينه وأتشفّع إليه من أجلكم. ذلك أنّه ليس عبثاً ولا جزافاً أدخل أمامه وأنا فارغ اليدين، ولكن أقدّم له ذبيحةً مرضيّةً بلا عيبٍ من أجلكم: الآلام، الإهانة، البصق، اللطمات، الجلدات على ظهري، المسامير التي في يدي ورجليّ، جنبي المفتوح وفمي المملوء خلاًّ ومرارة، وموتي على الصّليب. أدخل قدّامكم عند الآب وأنا حاملٌ هذه الآلام الثّمينة. فمن أجل هذه الآلام، لو كانت خطاياكم كصبغ القرمز، يبيّضها لكم كالثّلج([112]). لذلك، كونوا مطمئنّين كأناسٍ أُرسِلتْ أمامهم هدايا جليلة وعطايا كريمة إلى الملك، ويعلمون أنّه لا يُسرّ بهم الملك سروراً وحسب، بل تصير لهم دالّة وكرامة عنده مع طلاقة الوجه. ويحوزون منه على منحٍ عظيمةٍ، ويُشركهم معه بكلّ ما هو له وذلك بجاه آلام ابنه الوحيد. فعندما يتأكّد الأمر بالنّسبة إلينا، يجب علينا أن نخرّ قدّامه باطمئنان سائلين مغفرة خطايانا.
ولكن ماذا يعلّمنا ويقول أيضاً: من بعد قولنا اغفر لنا ذنوبنا وخطايانا، يُضيف:
كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا
فيربطنا باتفاق هذا شرطه: إن لم نغفر للمذنبين إلينا لا تُغفر لنا خطايانا. انظرْ أيّة آلام جسيمة وأيّ موت مرير وأيّة ذبيحة ثمينة قُدّمت لأجلنا، وهو لا يطلب منّا عوضها شيئاً، فقط أن نغفر للمذنبين إلينا. هذا فقط ما يطلبه منّا ثمن دمه. وإن لم نلبِّه، فإنّ أباه لن يغفر لنا جهالتنا. فعندما يرى الآب دم ابنه الثمين مسفوكاً ويتشفّع متوسِّلاً لأجلهم، ويرى أنّ ابنه يسألهم شيئاً زهيداً صغيراً بسيطاً وحقيراً لا قيمة له البتة بالنّسبة إليهم، مُستطاع لديهم ببساطة وسهولة، ليس ذهباً ولا فضةً، لا تعباً ولا عناءً، لا كدًّا ولا جهداً، لا صوماً ولا صلاةً، لا سهراً ولا سجدات، لا عرقاً ولا دمعاً، لا حروباً ولا معارك، لكنّه يطلب كلمةً صغيرةً تولد وتخرج من الفم بدون عناء ثمناً لجميع آلامه ودمه الثمين. فعندما يرى الآب أنّنا حتّى هذه الكلمة لا نتنازل أن نعطيها، لا يتنازل هو أيضاً ليغفر لنا خطايانا، وهو ليس فقط لا يغفر لنا خطايانا وإنّما يمتلئ غضباً على قساوة قلوبنا هذه كلّها، ويديننا أيضاً باستقامة ويطالبنا بدم ابنه بعدلٍ. فابنه قد رفع خطية كلّ العالم وصعد إلى الصليب. ويريد أيضاً أن يغفر لنا خطايانا الجسيمة كلّها، بينما نحن لا نغفر للمذنبين إلينا هفواتهم الصغيرة بكلمة صغيرة.
فانظُرْ كيف يريد بعد ذلك أن يحاسبنا قائلاً لنا: «أيّها العبد الشرّير والكسلان، ..أما كان ينبغي أنّكَ أنتَ أيضاً ترحمُ رفيقَكَ كما رحِمتُكَ أنا وكلّ زلَّتك تلك غفرتها لكَ». ويسلّمه إلى المعذّبين ويأمر بأن يُلقوه في السجن حتّى يوفيَ كل الدّين الّذي عليه([113]). أي أنّ الآب يُريد أن نوفي الدم الثّمين الّذي لا يوفى، دم ابنه الوحيد. فيسلّمنا للجلاّدَين، الضمير والندامة التي تمزّق بلا هوادة، ويُلقياننا في سجن جهنم، حتى نوفيَ الدم الّذي لا يوفَى.
ما تألّم الابن وما شعر بآلامه، كما يتألّم لعدم مغفرتنا لإخوتنا المذنبين، إذ يرى أنّنا لا نكرّم ولا حتّى بشيءٍ صغيرٍ وزهيد دمَه الزكيّ وكأنّ كلّ تدبيره الخلاصي كان عبثاً ومجّاناً بالنّسبة إلينا، لأنّه يعرف أنّه إذا لم نغفر لإخوتنا، لا تُغفر لنا جهالتنا. إذاً، فهو بعدلٍ يُجازينا حينما يرى أيضاً أنّنا ما عرفنا قيمة دمه بواسطة هذه الطلبة الصغيرة التي يطلبها منّا، وما أكرمنا دمه قدّام أبيه بواسطة هذه الموهبة الصّغيرة الّتي سألنا إيّاها بفمه الأقدس.
قبل على عاتقه هذا التدبير كلّه واحتمله بنفسه، وبعدئذ أخذ يدور على أبواب بيوتنا كمن أضناه الطّوى، ويطوف متسوّلاً في شوارعنا طالباً كسرة خبز كفاف معيشته، كقوله: «جائعاً كنتُ فلم تُطعموني، وعطشاناً كُنتُ فلم تَسقوني»([114]). إذاً، بعدلٍ سنُشجبُ بواسطة تلك الكلمة القاسية والمرّة التي ستُقال لنا: «اِذهبوا عني يا ملاعين إلى النار لأني لا أعرفكم([115]). فهذه الأمور تتمّ بالفعل لا بالكلام فقط إن كنّا لا نرحم بعضنا البعض، بينما هو على الصّليب يسأل نقطة ماءٍ صغيرةً ليرطّب ظمأه، وإذا لم نعطه إيّاها، فذلك عنده أمرّ من المرّ الّذي سقوه إياه.
اسمَعْ مثلَ الغنيّ([116]) وانظر كيف رجعت طلبته الصّغيرة فارغةً لأنّه لم يرحم «ابن جنسه»([117]). طلب نقطة ماء شحيحة محاولاً اغتنام الفرصة، فلو أُعطيَتْ له وقتئذٍ كان سيعود ويطلب ما هو أكبر منها. وإن لم تُعطَ له هذه النقطة الشحيحة الصغيرة، عندها يتأكّد الأمر لديه أنّ الرّجاء مقطوع. هكذا أيضاً ربّنا ـ المجد لنعمته ـ يمتحننا أوّلاً بالأمور الصغيرة، فإن كان قلبنا غليظاً في الصّغيرات، لا يعود ويتابع بالأمور الكبيرة. وعندها يعرف أنّنا لا نستأهله، والّذين ليسوا أهلاً يُرسلهم إلى الظّلمة الخارجيّة حيث البكاء وصرير الأسنان([118]). ذلك أنّنا كنّا نسكن في الظّلمة لأنّ قلبنا كان مليئاً بالحقد على إخوتنا. والحقد والظّلمة والعتمة تكون في القلب الّذي يضمرها. وحيث توجد الظّلمة هناك يكمن جيش الأعداء، يحتالون ويتآمرون متشاورين بالسّوء على المذنبين إليهم ومُبغضيهم.
أيّ قلبٍ يسكنه الشيطان، لا يسكن اللّه فيه. لأنّ اللّه لا يُعاهده كُرسيّ المَفاسِدِ كما هو مكتوب([119]). والنّور لا يشارك الظّلمة([120]). ولا عدل في أنّ قلباً خلقه أحدهم من أجل سكناه، يأتي آخر ويسكن فيه. ولكن العدو لا يسكن فيه عنوةً، وإنّما نحن ندعوه بإرادتنا. وإن أردنا أيضاً نُخرجه دون عائقٍ أو مقاومة. حيث أنّنا لا ندعوه هو، ولكن بواسطة سحابة الضغينة المظلمة يدخل ويسكن فينا لأنّه بطبيعته ابن الظلام وفي الظلام يسكن دائماً، وحيثما يوجد ظلٌّ وظلامٌ لا يخلو ذلك المكان منه بدون شكّ. من أجل ذلك، يريد ربّنا ـ المجد لنعمته ـ أن يحرّرنا من الظّلمة فنصير أبناء النور، ويكون مسكنه منوَّراً ونقيًّا من القتام والضغينة الّتي تُظلم بؤبؤ العقل والمعرفة.
وماذا يقول لنا أيضاً؟ إذا كُنتَ تُقدّم قُرباناً وتذكَرتَ أنّ أخاك يضمر لك حقداً ما، فاتركْ قربانَكَ على المذبح، واذهبْ أوّلاً اصطلِحْ مع أخيكَ. وحينئذٍ تعالَ وَقَدِّمْ قُربانَكَ([121])، مبيّناً بذلك بأنّه لا القربان ولا الصّلاة يُقبلان إن لم ينقِّ الإنسان قلبه من الحقد المظلم. وأيضاً: وكلّ قريةٍ أو مدينةٍ لم يقبلكم أسيادها، اخرجوا وانفضوا الغبار اللاّصق بأرجلكم منها شهادةً عليهم. الحقّ أقول لكم ستكون لسدوم يوم الدين حالة أكثر احتمالاً ممّا لها([122]).
وهو يعلّم ويعمل بنفسه: فقد خرج من مدينة العالم ولم يقبلوه، وليس أنّهم لم يقبلوه وحسب بل وعلّقوه على خشبة. وقد تقدّم ليُسلم نفسه إلى الموت، وليصير قرباناً وذبيحةً لأبيه الممجَّد. هناك تذكّر الآلام الّتي أذاقه إيّاها أسياد المدينة. عندئذٍ شرع بإعطائنا قدوةً كالمرآة نحدّق بها ويقول: «يا أبتاهُ اغفِرْ لهم لأنّهم لا يعلمون ماذا يفعلون»([123])، غير واضعٍ حدًّا للغفران إطلاقاً، لا في الموت ولا عند الرمق الأخير. وكأنّه يريد أن يلاقي أباه ببشاشة القلب، ووجهه غير مكفهرّ من العذابات وآلام طريق الدم الّتي صادفته. وإلى هذه القدوة كان يشخص اسطفانوس وهو يصلّي لأجل راجميه، هو وجميع الصدّيقين الّذين وُجدوا في العالم، إذ كانوا ينفضون غبار الحقد من أرجل قلوبهم ويتركون الدينونة للّه ديّان الكلّ، ويغفرون زلاّت المُذنبين إليهم.
إن كنّا حقًّا هيكل اللّه، وروح اللّه يسكن فينا([124])، فحريٌّ إذاً بمسكن اللّه أن يكون طاهراً، مقدَّساً، نقيًّا وصافياً، ليكون لائقاً بسُكنى ذلك الطاهر والكليّ قدسه. من أجل هذا، يُعلّمنا الآن أن نقول لأبيه: «اغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا» لئلاّ نتجاسر أن نقف أمامه ونحن ممتلئون حقداً على إخوتنا، بل أن ننقّيَ قلبنا من الحقد ونغفر لإخوتنا من صميم القلب جهالاتهم. ولكن بأيّ وجهٍ نسأله الغفران في حين أنّنا نحن لم نغفر؟ وإذا تجاسرنا وسألنا قائلين: كما نحن غفرنا، ولكننا لم نغفر، ماذا يُجيبنا قائلاً؟ «فليكن لكم كقولكم»، غير مُرجعٍ طلبتنا فارغةً. هوذا إن غفرنا، نكون كمن قد غفرت خطاياهم منذ زمن، وإن لم نغفر نكون كمن لم ينالوا الغفران البتة من قبل ولن ينالوه.
وهنا، سلَّمَنا الربّ أحجيةً صعبة، وفي الحالتين كلتيهما نجني ضرراً: إن صلّينا دون أن نغفر فذلك خسارةٌ لنا، وإن كففنا عن الصّلاة، نخسر أكثر فأكثر. قد جَعَلنا بين فخّين: إن تحرّكنا قدماً فسقوطٌ، وإن إلى الوراء فانكسار. ولا يستطيع إنسانٌ أن يميلَ يمنةً أو يسرةً من تحت هذه المصيدة الّتي ألقاها علينا. قيّدنا هنا وليس لنا أن نتحرّك إلى إحدى الجهات إن لم نغفر من صميم قلوبنا كلّ ما لنا عليهم. وحينئذٍ ننجو دون أيّ أذى أو ضرر. وإلاّ فماذا يعني: «اغفر لنا كما قد غفرنا» إذا كان ضميرنا يبكّتنا أنّنا لم نغفر؟ فهذا أيضاً كذبٌ قدّام الآب: أن نعترف غير صادقين ونقول أنّنا قد فعلنا شيئاً في حين أنّنا لم نفعله. وهذا من عمل الشيطان السّاكن في حقد قلبنا أن يجعلنا شهود زورٍ أمام أبينا السّموي.
لذلك علّمنا ربّنا وأوصانا بحرصٍ شديدٍ عالماً أنّنا لو كنّا نعمل البرّ نهاراً وليلاً طوال حياتنا دون أن نغفر زلاّت بعضنا البعض، فإنّنا لا نستحقّ الصّفح عن خطايانا، ولا نستحقّ أيضاً الرّحمة في يوم الدين. مثلما قال: وتبدؤون تقرعون الباب وتصرخون: يا ربُّ يا ربُّ افتحْ لنا. حينئذٍ يُجيبكم: لا أعرفكم. تباعدوا عنّي يا فاعلي الظّلم([125]).
انظر كيف أنّه اعتبر كلّ عمل البرّ ظلماً، حيث أنّهم كانوا كاملين بالعمل، ولكنّهم لا رحموا بني جنسهم ولا غفروا لهم زلاّتهم، لذا فإنّهم لا يُرحمون. أدعو «فاعلي الظّلم» الّذين قضوا طوال حياتهم في البرّ ولكنّهم كانوا يشهدون زوراً أمام أبيه. من أجل ذلك، اختفى كل عملهم بسبب الظّلم الّذي كان الآب يراه فيهم. كان يطلب أن يغفروا للمذنبين سبعين مرة سبع مراتٍ في اليوم([126]) وأمّا هم فلم يعملوا واحدةً من هذه. إذاً، سيُطردون بعدل من قدّام بابه. انظر كم كانوا كاملين: باسمه كانوا يُخرجون الشّياطين، وكانوا يصنعون قوّات وعجائب([127])! ولكن لأنّهم لم يتحلّوا بالرأفة والحنان والرحمة، لم يستحقّوا الرحمة بحسب الآية: «لأن على الرحماء تكون الرحمة»([128])، وأيضاً: «أريد رحمة لا ذبيحة»([129])، و«كونوا رحماء كما أنّ أباكم الّذي في السّموات أيضاً رحيم»([130])، ذاك الذي يُنزل المطر ويُشرق شمسه على الأشرار والأخيار سويّةً([131])، إن لم تغفروا زلاّت إخوتكم من صميم قلبكم، لا يغفر لكم أبوكم الّذي في السموات زلاّتكم([132]).
إخوتي، ليس يطلب منّا أن نعطيه شيئاً صعباً، وإنّما فقط أن نمنح المسامحة أو أن نسأل المسامحة من بعضنا البعض، وهو يعفو عن خطايانا.
انظروا كيف وكم نستحقّ جهنّم إذ ليس لنا البتّة ما يُرضي الله: لا صومٌ ولا صلاة كما ينبغي، لا رحمة ولا شفقة، لا عمل فضائل ولا برّ. وإن لم توجد هذه أيضاً لدينا، أن نغفر للمذنبين إلينا بكلمة صغيرة، فلا شكّ قد أصبحنا ورثةً لنار جهنّم. إذا كنّا لم ننجح في الأمور الصّغيرة، مَن يأتمننا على الكبيرة؟ وإن كنّا قد هربنا من أمر صغير، فكيف نفعل ما هو أعظم؟ ليس هذا وحسب، بل ونستعدّ لنُعاقِب بعدلٍ المذنبين إلينا. هوذا بذلك لم نعد أبناء الآب السموي، ولا إخوة للمسيح، ولا شركاء الروح القدس.
انظُر إلى أيّ درجة من الوقاحة القاسية قد بلغنا، في زمن العدالة فيه متوقّفة كليًّا ولا تتحرّك بأي شكلٍ من أشكالها وحركاتها، ساكنة ونائمة في سريرها، ملتحفة بغطاء الرأفة، كيلا تتراءى للمذنبين والخطاة ريثما يحين وقتها لتستيقظ!
انظُرْ كم احتمل الابن آلامه وتخضّب شخصه بالدم، ثمّ جلس عن اليمين يتشفّع لأجلنا كي يغفر الآب جهالتنا، بينما نحن الأشقياء نطلب أن نتعامل مع بعضنا البعض بعدالة!
ليس الآن زمن العدالة بل زمن النعمة. زمن العدالة انقضى بمجيء الربّ: حين كانت العين بالعين والسنّ بالسنّ([133]). والآن ماذا؟ من سخَّركَ ميلاً واحداً فاذهبْ معه اثنين([134])، من ضربك على خدّك فحوِّلْ له الآخر أيضاً([135])، ومن أخذ رداءَكَ فلا تمنع عنه ثوبكَ، والمستدين منك لا تطالبه([136]). مثلما في الشتاء ليس لا بيدر ولا فصل للتّبن عن الحنطة، كذلك في زمن النعمة لا مجال فيه لإيفاء العدالة أو العمل.
سيف العدالة موضوعٌ في غمده، فما لنا وله حتّى نستلّه؟
العدالة متوارية عنا كيلا تشاهدنا. فإلى أين نركض أمامها لكي ترانا؟
أمام النعمة وتعزياتها لم نصمد، فكيف نحتمل الوقوف أمام العدالة؟
ما لنا والعدالة الّتي يرد ذكرها في وقتٍ ليس وقتها؟
إنّنا نهرب من تعزيات النعمة وأحضانها، ونلجأ إلى حموّ العدالة وغضبها، تلك المتضمَّنة رحمتها في غضبها كما هو مكتوب.
إن كنّا لا نستطيع أن نلبّي النعمة بالأمور الصغيرة التي تطالبنا بها، كيف لنا أن نلبّي الأمور الكبيرة التي تقتضيها منّا العدالة؟
وإن كانت أمورُ النعمةِ السهلةُ صعبةً علينا، فما أكرب إذاً مصاعب العدالة وأمرّها وأحزنها بالنسبة إلينا!
قبلات النعمة لم نحتملها، فكيف نصبر على جلدات العدالة القاسية والعذابات الأليمة، والبكاء وصرير الأسنان؟
من الصّغائر البسيطة الزمنيّة لم ندنُ، فكيف ندنو من العظائم العسيرة الباقية إلى أبد الآبدين؟
الآن ينبغي علينا يا إخوتي أن نتألّم لأجل هذه، ونركض بكلّ قدرتنا ونغفر للمذنبين إلينا، ونخرّ أمام أبينا ونسأله ألاّ يُدخلنا في مثل هذه التجارب الّتي لا تُحتمل، بل ونتضرّع بانسحاقٍ قائلين:
لا تُدخلنا في تجربة
يعلّمنا الربّ أن نصلّي ونقول لأبيه ألاّ يُدخلنا في تجربة، لأنّه يعرف صعوبة التجربة، فالّذين يخرجون من التجارب سليمين بغير أذى قليلون. لذلك فهو يُريدنا أن نكون مستعدّين إذ نطلب من الآب دوماً ألاّ يُدخلنا في التجربة كما قال: «صلّوا لكي لا تدخلوا في تجربة»([137]) أي ألا نكون متكاسلين ومتراخين في زمن غياب التجربة، بل مستعدّين قبل الدخول فيها حتّى إذا ما دخلناها ننفذ منها باستعداد وسهولة ودون عناءٍ. وهكذا فلنكن مستعدّين ومصلّين في زمن انتفاء التجربة، ونحن نصلّي ونتضرّع ونسأله ألاّ يُدخلنا في تجربة لأنّنا لا نقدر على احتمالها. نحن نخاف من التجربة الآتية علينا. وعادة الخائفين ألاّ يتراخوا ولكن أن يستعدّوا ويسهروا، لئلاّ تباغتهم التجربة على غفلة، وهم ساكنون ونائمون وعندئذٍ بالكاد بجهد كبير يخرجون منها.
- والتجارب تُقسم إلى ثلاثة أنواع:
الأولى: من فعل الناس الظالمين والأسياد المستعبدِين غير الرّحماء. وهذه تُصيبنا بسبب خطايانا من أجل تأديبنا.
الثانية: نسقط فيها بسبب شهواتنا، كما قال الرّسول: «لا يقُل أحدٌ إذا جُرِّبَ إنّي أُجرَّبُ من قبل اللّه… ولكنّ كلّ واحدٍ يُجرَّبُ إذا انجذبَ وانخدع من شهوته»([138])، وأيضاً: «بل اشتهوا شهوة في البرية وجرّبوا اللّه في القفر([139])، طعامهم بعد في أفواههم، فصعد عليهم غضب الله»([140]).
الثالثة: وهي تحدث بسماح من قبل اللّه من أجل امتحاننا مثل أيوب وسائر الصدّيقين. كما قيل: «…حينما تقعون في تجارب كثيرة ومتنوّعة، عالمين أن امتحان إيمانكم يُنشئ صبراً.. لكي تكونوا تامّين وكاملين غير ناقصين في شيء»([141]).
وربّنا يسوع نفسه تقيَّد بثلاثتها: وفي كلّ واحدة منها جُرِّبَ ثلاث مرّات ممهّداً الطريق أمامنا ملقّناً إيّانا كيف نتصرّف لننجو من عسر التجارب.
المرّة الأولى للتجربة الأولى كانت عندما شاهد أنّ هيرودس الظالم قد قام عليه ليُهلكه. وبما أنّ الأطفال كانوا حتماً سيُقتلون حتّى لو لم يهرب، حسن لديه أن يهرب بالرّغم من أنّهم سيُقتلون، مثلما يهرب الإنسانٍ من أمام المستعبدين، يترك عائلته أمامهم ويُخلّص نفسه. وهكذا يُبيّن لنا أنّه في حال وقوع تجربة، علينا أن نهرب ونخلّص نفوسنا ولئن بقيت عائلتنا. وإذا مكثنا، ماذا عن الجسد؟ نتخلّى عنه([142]) فنخلّص النفس مع إيمانها.
والمرّة الثانية كانت عندما قام عليه اليهود ليرجموه، أمّا هو فاجتاز في وسطهم واختفى([143]).
وفي المرة الثالثة أراد أهل الناصرة أن يطرحوه من حافّة جبل مدينتهم فاجتاز أيضاً في وسطهم وتوارى عنهم([144]). وحيث أنّهم أرادوا أن يقتلوه سرًّا، هرب واختفى مع أنّه قد أتى للاستشهاد والموت، لكن لا سرًّا، بل أراد ذلك علناً وهو معلّق على ذروة العود، لكي يمتثل إزاء كلّ البرايا، ولئن أبدى في ذلك خيبةً وضعفاً، ولكنّهما كانتا أعظم من الخسارة: فالخيبة التي لا تخسر، ليست خسارة بل نصر.
أمّا التجربة الثانية، فهي اقتياده بالروح القدس إلى البريّة، عندما أراد أن يصوم ليُحارب ثلاثاً تجارب الشهوات الثّلاث. وتقدّم منه المجرّب وتصارع معه، فغلب الرب المجرّب في هذه المرّات الثلاث أيضاً.
والتجربة الثالثة هي بسماح من قبل اللّه ومثال ذلك كان عندما أراد اللّه الآب أن يمتحن ابنه. فحينما قربت التجربة وتحتّم عليه الأمر، ولا سبيل إلى الاستعفاء، سقط على وجهه ثلاث مرّات، يتضرّع بانسحاق وابتدأ يحزن ويكتئب، وجعل يشعر بالرهبة ويُصلّي بشجن. وصار عرقه كقطرات دمٍ، لكي يجيز الآب عنه كأس الموت إن أمكن. وإن لا، فلتكن إرادة الآب. هكذا قال في المرّات الثّلاث، فرأى أنّه لا يُطيع أباه الّذي سُرّ به أن يكون ذبيحة عوضاً عن البرايا. عندئذٍ أسلم نفسه بإرادته فأمسكوه دون أن يهرب أو يختفي كما في السابق. لقد امتحنه الآب بتجربة الموت كمن يريد أن يشاهد انتصار ابنه.
في التجربة الأولى، أظهر ضعف طبيعتنا لأنّه لبس الضعيف. لكنّه يريده أن يعتاد شيئاً فشيئاً ليتقوّى وليتمكّن من احتمال التجارب الكبيرة. هرب بادئ الأمر لأنّه لم يكن قد قبل الروح بعد، ولم يكن قد سمع صوت الآب، مبيّناً بذلك أنّه بدون قبول الروح القدس، لا نستطيع احتمال التجارب. ومن بعد أن قبل الرّوح، اقتيد بالروح واحتمل تجربة البرّيّة وأحرز نصراً. ثمّ صبر على تجربة موت الصّليب الصعبة والمرّة كما قيل: «لأنّه في ما هو قد تألّم مجرَّباً يقدرُ أن يُعينَ المجرّبين»([145])، مرقّياً طبيعتنا الّتي لبسها، كيما نتعلّم نحن أيضاً أن تكون درجة طاعتنا لأبيه مثله، حتّى الموت.
وهنا نقول إنّ التجربة التي يأمرنا أن نبتهل إلى أبيه ألاّ ندخل فيها، هي التجربة التي تُصيبنا بسبب معاصينا، لأنّنا نغضبه دوماً بالخطايا. عندما يعلّمنا أن نطلب الخلاص منها: «لا تدخلنا في تجربة»، يريد بذلك: لا تُدخلنا إلى التأديب بسرعة، ولكن تمهَّلْ علينا فنوفيكَ([146])، أي نراضيك. ولعلّه بسبب هذه الطلبة يتحنّن علينا ويرضى بنا، نظير ذلك المديون الّذي طلب منه أن يُمهله، وترك له كلّ دينه. فهذه التجربة وهذا التّأديب اللّذان يُصيباننا بسبب معاصينا مرّان جدًّا. فحينما يسقط إنسانٌ في هذه التجربة، يكتئب جدًّا لعلمه بأنّه يستحقّها ويستوجبها. ويُظلم عقله، ويضطرب تفكيره مجترًّا المرارة، ويتقسّى قلبه، يحزن ويكتئب ويتنهّد بحسرة قاطعاً رجاءه باللّه، حيث يعلم أنّه إن دعاه، ليس من مجيب. ولا يتأمّل فيه حتّى في تفكيره، إذ أنّ الشيطان يسيطر عليه ويُبكمه أيّ إبكامٍ لئلاّ يخطر ذكر اللّه بباله. وهذا جزاء الّذين ينسون اللّه في زمن راحتهم.
ينبغي علينا يا إخوتي أن نهرب منه في زمن الراحة، وذلك أن نسأل الآب ليتمهّل علينا ريثما نهرب ونخلص، بعد أن يُنذرنا الابن أن نهرب كما أُنذر هو في الحلم بواسطة الملاك وهرب. وإذا ما أفلتنا من هذه التجربة، فإنّنا نُجرّب أحياناً بتجربة أخرى من شهواتنا. والرّوح القدس الّذي يُرافقنا يُعطينا القوّة لكي ننتصر عليها رويداً رويداً. عندها، إذا حدث واعترضتنا تجربة أخرى، نكون كالّذين تمرّسوا وتسلّحوا بالتجارب السابقة، فنحتمل بسهولة الأصعب منها. ولأن الإنسان يعلم أنه بعمله البر تعترضه التجارب، فيحتملها بفرح وهو نيّر الفكر نقيّ السريرة. ويعلم أنّه يُمحص بواسطتها فلا يتضايق منها أبداً، كجميع الصدّيقين الّذين كانوا يحتملون التجارب ويصبرون على شتّى المحن، وهم فرحون ومسرورون بالإيمان وبرجاء المكافأة الصالحة والجزيلة.
لكنّ هذه التجربة هنا ليست هكذا، بل ما يفوق التأديب الخارجي، هو أنّ تفكيرنا يبكّتنا وضميرنا يديننا من داخلنا. ولكنّنا عندما ننبذ فكرنا، ونستخفّ بضمائرنا، ونخطئ دون أن نتوب، ولا نصلّي لكي ننجو من التجربة، لذلك تكون هذه التجربة ممزوجة بالموت. إذا وقعنا فيها، بالكاد يخرج منها واحدٌ من ألفٍ حيًّا.
من هنا، ينبغي علينا دائماً أن نصرخ مع داود: «يا رب لا توبّخني بغضبك، ولا تؤدّبني بغيظك»([147])، ولو لم يُقصّر الربّ أيّامها لم يخلص جسدٌ([148])، وكلّ عمل الشرير موجود فيها، وهي الحبل الّذي خنق به يهوذا نفسه، حيث أنّه لم يصلّ مثل كيفا من بعد أن أنكر فخلص منها. هذه هي الفأس الموضوعة على أصل الشّجر([149]) الّتي بها قُطع آدم وحوّاء من بين أشجار الفردوس. فهو قد تمهّل عليهما عندما سألهما وتكلّم معهما، وأعطاهما فرصةً ليطلبا الخلاص دون جهدٍ كبير، وهما ما يزالان في راحة وطنهما، بيد أنّهما أهملا هذه الطّلبة في وقت الراحة، ممّا جعلهما يسقطان في تجربة الخروج من الفردوس.
اذهب اسأل وانظر إلى أين انتهى الأشقياء، وبأي عمل عظيمٍ خلصوا. من أجل ذلك يا إخوتي، لا نملّ أبداً من الصلاّة والطلب إلى أبينا السموي ألاّ يُدخلنا في هذه التجربة حسب تعليم مخلّصنا، لأنّه يعرف أنّ كل عمل الشيطان ساكنٌ فيها، وجاثمٌ يزأر على باب الخطيئة كأسد يريد الافتراس، ملتمساً هلاكنا ومتعطّشاً إلى دم نفوسنا. لذلك، من بعد قولنا لا تُدخلنا في تجربة، نضيف:
لكن نجّنا من الشرّير
يعلّمنا أن نطلب النجاة من الشرّير لأنّه يعرف أنّ عنده حيلاً كثيرةً، وأنّه مرافقنا مرافقة الظلّ للجسم. لا يسكن و لا يهدأ من أن يصلي الفخاخ، وينصب الشراك، ويفرش المصايد، ويوسع الشّقوق، ويحفر الوهاد، ويرتّب العثرات، ويهيّئ الأحداث، ويبذّر الحقد، يزرع الكراهية، يقيم العداوة، يجعل الحروب أعنف والقتالات أشدّ، يهيّج الشهوات، يُغمّ القلوب ويُحزنها، يشوّش الأفكار ويُضجرها، يُظلم النيّات ويعتِّمها، يسقي المرّ، يُملِّك التراخي، يبعث على التواني، يُبدع الضلال، يلقّن الغشّ، يقطع الرّجاء، يؤدّي ويقود إلى الهلاك. هذا هو فعل الشيطان وأجناده. هذا هو عمل ابن الهلاك. وهكذا هم نشيطون حتّى أنّهم لا يهدؤون من عمل كهذا ولا رفّة رمش عين.
يا إخوتي، إنّنا نسكن على هذه الأرض بين هذا الشوك والعلّيق. وإنّنا يا أحبّائي مطروحون وسط أشواك عوسجة قابضة علينا، مأسورون تحت سلطان هؤلاء الأجناد الهوائيّين، وسلاطين هذا العالم المظلم، واقعون بين أيديهم وقوع الكرة في أيدي الصبيان، يرموننا ويقذفوننا هنا وهناك ويُنهكوننا ويستهزئون بنا.
وهكذا يربطنا هذا الفرعون الرّوحيّ تحت عبودية «مصر» الضلال. فلو لم تأت قوة الآب السموي الشّديدة وذراعه الرفيعة لنصرتنا، ولو لم يضمنا ويخلّصنا بافتقاده العزيز القويّ، لبرحنا في عبودية مصر «الحسيّة» حتّى الموت الأبدي، وما فتئنا محاصرين في تلك العبودية الرّوحيّة إلى أجيالٍ وأجيال ليس لها انقضاء.
ويحي أنا الشقي الكسلان، من ينجّيني من هذا المُتسلّط الآن؟
من يخلّصني من عنف آبائه في المستقبل؟
ليت العدم تلقّاني ولا طالني صرعه العتيد!
بمن نلوذ يا إخوتي، ومن لنا سوى أبينا السّموي نضرع إليه ليأتي لنصرتنا، ويُعيننا وينجّينا ويخلّصنا من الشّرّير عدّونا؟
انظُرْ ماذا يقول: صراخ اسرائيل صعد إليّ وتذكّرتُ ميثاقي مع ابراهيم واسحق ويعقوب([150])، مبيّناً أنّه إن لم يصعد صراخنا إليه لا يأتي لنصرتنا، ولا يذكر حتّى ميثاقه معنا.
لذلك يا أحبّائي ينبغي علينا ألاّ نهدأ من الصراخ نحوه دائماً لينجينا من الشرّير، وأن نكون كطفلٍ يتيمٍ يُؤذيه مُضايقوه فيصرخ نحو أبيه. فما إن يسمعوه قد دعا أباه حتّى يلوذوا بالفرار ويتركوه، فيُفلت منهم.
هكذا يجب أن نصرخ نحوه دائماً دون فتور قائلين: نجّنا من الشرّير مُؤذينا. حينئذٍ يهرب الشرّير ويتركنا، وبذلك نُفلتُ منه لأنّه يرانا ندعو أبانا السموي لمعونتا ولكي يُنجّينا منه. وهو يعرف أنّه عاجزٌ عن أن يُقاوم قوّته. حينئذٍ يولّي الأدبار هارباً. ولولا أنّ قدرة أبينا تُرافقنا أثناء صراخنا نحوه، لما كان بوسعنا الإفلات من فخاخ الشرّير ومصائده. وكما كانت قوّة العبرانيّين على الشعوب تشتدّ برفع يدي موسى وعصاه، وبتراخيهما كانوا يضعفون([151])، كذلك أيضاً بقدر ما لا نتهاون برفع صراخنا إلى الآب تشتدّ قوّتنا، ولا نضعف أبداً.
نجّنا من الشرّير لأنّ قدرته أشدّ من قدرتنا، وقدرتكَ أشدّ من قدرته.
إليكَ نلتجئ وبقدرتك نستغيث، ونعلم يقيناً أنّنا لا ننجو من الشرّير، وإنّما عليك نحن متّكلون وإيّاك ترجو نفوسنا.
باسم أبوّتك نلوذ كيما باسمكَ نفوقه قدرة. وكلّما دعونا أبانا الّذي في السّموات تُبادرنا مراحمك سريعاً، وتصلنا قوّتك، فنبلبل عساكر الشرّير المحيقة بنا، نمزّق مصايده ونحطّم فخاخه، فيلتحف بالخجل والخزي. وباسمك نُعضد ونتسلّح ضدّ أجناده.
حينما يتشامخ ليأتي علينا وسيفه مستلّ كجُليات، نخرج نحن عليه باسمك نظير داود، كما هو مكتوب: «هؤلاء بالمركبات وهؤلاء بالخيل أمّا نحن فاسم أبينا نتقوى. هم جثوا وسقطوا أمّا نحن فقُمنا وانتصبنا»([152]).
وأيضاً: خلّصنا من فم الأسد لنخبر إخوتنا باسمك([153])،
من أجل اسمكَ، أيضاً إذا سرنا في وادي ظلّ الموت لا نخاف شرًّا لأنّك أنت معنا([154]).
وبكَ تفرح قلوبنا لأنّنا على اسمِكَ القدّوس اتّكلنا([155])
بك ندحر أعداءنا وباسمك ندوس مُبغضينا، لأنّنا لسنا على قوسِنا متكلين ولا على سيفنا ليُخلّصنا([156]).
اكتنفتنا الأمم وأحاطوا بنا مثل النحل. انطفؤوا كنار الشوك، وباسمك أبيدهم([157]).
إن كنّا أبناءك، احفظنا باسمك.
لا يغلبنَّنا الشرّير ويخطفنا من بين يديك،
لا يعيِّرن قُدرتك. لا تثبت مشيئته وتبقى مشيئتك. «لكن نجّنا من الشرّير» لأنّنا باسمك ندعو. وعندما يحيطون بنا كالنحل، ندعو «أبانا» وقوّة اسمك تدركهم، ويعثرون ببعضهم البعض، يسقطون ويعجزون عن القيام.
حينئذٍ نرى غلبة قوّة اسمك ونكتشف ضعف طبيعتنا، ونقدّم لك الشكر قائلين: «ليس لنا يا ربّ ولكن لاسمك أعطِ مجداً»([158])، ونرتّل بحزنٍ وندهش من هذا الانتصار ونعجب من عظمة قوة اسمك، فنشكر بدون كلل أو ملل قائلين:
لأنّ لك الملك
وهذا يعني لا كالنّاس المتّكلين على قوّتهم وبرّهم ولكن لأنّ لك الملك أي المعرفة الروحيّة الّتي علّمنا ابنك أن نسألها منك لتأتي لنصرتنا حيث أنّنا قد سألناها وأتت لنصرتنا وعرفنا أنّك أنت يا ربّ قد ساعدتنا؛ المعرفة التي قبلناها من الروح القدس في المعمودية. فأخذنا ذلك السّلطان وذلك الملك، وتسلّطنا على الشرّير وأجناده.
إذاً لك الولاية والملك أي المعرفة كما قيل: «منّي كانت المعرفة والأعجوبة»([159])، ونحن بسلطان هذه المعرفة استنرنا واحتلنا على مكر واحتيال خادعنا، وبها صرنا حكماء وبوداعة نجونا منه، بحسب الآية القائلة: «كونوا حكماء كالحيّات وودعاء كالحمام»([160])، فكما أنّه يأتي إلينا بالمكر والحيلة، كذلك نحن نخرج عليه ونواجهه بحكمة ووداعة بواسطة المعرفة الروحية، متّشحين بسلاح الرّوح ومتدثّرين درع البرّ، وسيفنا، اسم الآب، مسلولٌ ومشهورٌ في وجوههم، كالآية القائلة: «باسم الرب دعوتُ([161])، عوننا باسم الربّ([162])».
إذاً له الملك وله الولاية وله الغلبة وبه نحن كائنون وقائمون، وبه نتحرّك في كلّ أعمال الفضيلة والشمائل، وباسمه القدّوس نطأ كل القوّات، ونطارد الشيطان وقوّاته كما هو مكتوب: «بك اقتحمتُ جيشاً وبإلهي تسوَّرتُ أسواراً»([163])، ومكتوب أيضاً: «مباركٌ الربُّ صخرتي الّذي يُعلّم يديّ القتال وأصابعي الحرب»([164]).
انظُرْ كيف أنّه لو لم يعلّمنا لما عرفنا التغلّب على الشيطان عند اشتباك القتال معه. يقول «اليدان والأصابع» ويقصد بهما أنّه علّم الأعمال والأفكار أي أن نصارع بدون هوادة بالأعمال والأفكار، ولا نُتيح له مجالاً ليحلّ ويرتاح فينا. هكذا فلنصارع بشجاعةٍ بيدينا وأصابعنا، فيرتفع صوت صراخنا إلى أبينا مدوّياً مرعداً في ذرى الأعالي طارحاً الذّعر في جميع طغمات الملائكة والجنود الرّوحيّة. فيَحدث بينهم ضجيجٌ واضطرابٌ حين يشاهدون كرسيّ الآب يهتزّ من صوت الصّراخ الهاتف: أبانا، والآب يركب بعجلةٍ مع ابنه وروحه القدّوس سويّة على المركبات، ويتحرّك نازلاً سريعاً كالبرق لنجدة صوت صراخنا.
عندها ينذهل الرّوحانيّون ويقلقون، وبقوّة تحليقهم السّريع يحاولون الاقتراب من الملك. زمرٌ تزحم وتنافس بعضها البعض هابطةً، وقبل أن يصل الملك يطلبون ويأخذون بحرصٍ الثأر من أعدائه كما هو مكتوبٌ: «ملاك الربّ حالٌّ حول خائفيه وينجّيهم»([165]).
فإن كان عندنا نحن البشر أنّه إذا وقع أحدٌ في أيدي اللّصوص وأطلق صيحةً يحنّ كلّ إنسانٍ ويحزن لأجله، فيُعجّل إلى بيته ويركب فرسه ليلحق باللّصوص الّذين أمامه، وحتى الّذين على الأقدام فإنهم يركضون أيضاً حاملين معدّات القتال دون شفقة مُدافعين عنه حتّى الموت، ولئن كان هذا الّذي أمسكه اللّصوص غريباً وغير معروف، فكم بالحريّ إذاً يغضب الآب السّموي مع جنده عندما يسمع صوت تضرّعات أبنائه الأحبّاء الّذين سُرّ بهم وهم يُعانون من عداوة أعدائه؟ والجند الغيورون تعتريهم الغيرة والنخوة ويمتلئون غضباً ضدّ أعدائنا، لا سيّما عندما يُشاهدوننا نُلطم منهم دون رحمة ولا شفقة، وصوتنا ينطفئ من التضرّعات الّتي ندعوهم فيها لكي يأتوا لنصرتنا وعوننا، ويسمعونا نقول: «اقضِ لي يا اللّه وخاصم مخاصمتي مع أمّة غير راحمة ومن الناس الغاشّين والظالمين نجّني([166])» وأيضاً «خاصمْ يا ربُّ مُخاصميَّ. قاتلْ مُقاتليّ. أمسِكْ مجنًّا وترساً وانهضْ إلى معونتي. وأشرعْ رمحاً وصدّ تلقاء مُطارديّ. قُل لنفسي خلاصكِ أنا([167])». فعندما يروننا مطروحين في جهاد كهذا، معرّضين لمثل هذا الخطر، بأي صوتٍ يا ترى يصرخون بأعدائنا؟ وبأيّة صيحةٍ مُرعبة ومخيفة يصدمونهم، فيشدّدوننا ويشجّعوننا، ويسحقون أولئك ويُذلّونهم أمامنا؟ وعندئذٍ نحوّلُ حواسّنا وأفكارنا إلى القوّات نظير يشوع بن نون ونقول: «ها الربّ إله إسرائيل يُحارب عنّا. تشدَّدوا وتشجّعوا ولا تخافوا([168])». هناك تتعاون الحواس والأفكار ومع يشوع بن نون أي العقل يُطاردونهم([169])، ويكون العقل في يقظة يصل اللّيل بالنّهار على غرار يشوع حتّى يُثأر كليًّا من أعدائه. حينئذٍ يلتفت إسرائيل، العقل مع الحواس، فيراهم مصروعين، ساقطةٌ عن جانبه ألفٌ وربوات عن يمينه([170]).
أحبّائي، لنا مثل هذا الأب مع أجناده لعوننا: «الربّ نوري وخلاصي مِمَّن أخاف. الربّ حصن حياتي ممّن أرتعب… إن نزل عليّ جيشٌ لا يخاف قلبي. إن قامت عليّ حربٌ ففي ذلك أنا مطمئنّ([171])» الربّ مُعيننا وعوننا باسم الربّ. هكذا، علينا ألاّ نهدأ من التّرنيم والحمد والتسبيح دائماً مع داود النبي قائلين: «حسنٌ هو الحمد للربّ والترنّم لاسمك أيّها العليّ([172])، أخضعت الشّعوب تحتنا والأمم تحت أقدامنا([173])» ونحن ندهش من القوّة الملازمة لضعفنا! كم كنّا ضعفاء وبأيّ استعباد طغاة كنّا مكبّلين! والآن نرى كيف أنّهم باسم الآب يُصرعون أمامنا ويخضعون لنا، هذا إن كنّا نعرف حقًّا لمن هي هذه القوّة الّتي تُحيطنا.
إلى ذلك، مع اعترافنا وقولنا «لك الملك» نُضيف أيضاً:
والقوّة والمجد إلى أبد الآبدين
يمكن للمُلك أي المعرفة المقترنة بالقوّة، أن يفعل كلّ ما يريده لكن بحسب قوّته. والقوّة يتبعها المجد ولكن بحسب العمل.
وهذه القوّة تكون إمّا مؤقّتة كمعرفة البرايا والمخلوقات، أو أبديّة سرمديّة مثل معرفة الله خالق الكلّ.
فإن كانت معرفة البرايا والمخلوقات تتبعها القوّة، والقوّة يتبعها المجد بحسب عملهم، فكأنّهم يقولون إنّ كلاًّ من شمشون الجبّار البأس، وجوليات الجبّار وعوج ابن الجبّار، والجبابرة المشاهير، مع سائر الأبرار والصدّيقين الّذين تجبّروا بالبرّ وحازوا اسماً وشهرةً، يتمجّد ويتعظّم بحسب جهده وعمله، ولئن كان بعضهم يتمجّد بأمجاد زمنيّة وآخرون بأمجاد أبديّة. فكدّ وعمل كلّ واحدٍ منهم يُمجّده ويُعظّمه، بحسب قوّته في عمله.
فكم بالحريّ يُحكى بالمجد عن قوّة معرفة ذاك الّذي «تحدّث السّموات بمجده، والفلك يخبر بعمل يديه! يوماً إلى يومٍ يُذيعُ كلاماً وليلٌ إلى ليلٍ يُبدي علماً. لا قول ولا كلام لا يُسمع صوتهم… من أقصى السّموات خروجها، ومدارها إلى أقاصيها ولا شيء يختفي من حرّها»([174]) وهو القادر على كلّ شيءٍ، وكلّ ما يريد الربّ يفعله.
هو واهب البأس للأقوياء ومانح الجبروت للجبابرة، وبمعرفته وببأسه يتمجّد ويتعظّم كل العقلاء والأعزّاء والأقوياء!
هو الّذي ينزل الأعزّاء عن الكراسي ويرفع المتّضعين والبؤساء من المزبلة([175]) إلى الكرامة والعظمة!
لذلك له الملك والقوّة والمجد إلى أبد الآبدين!
وله تجب التسابيح والمدائح والتقاديس مع التباجيل!
ذاك الّذي عجبُ عملِ معرفتِه اللاّمحدودة وبأسِه القادرِ على كلّ شيء، يحرّك كلّ البرايا لتسبّحه وتبجّله، دون سكون أو انقطاع، مُعلنةً مجد جلال ملكه، مبشّرةً ببهاء مجد جلاله، معرّفةً بني البشر قدرتَه ومجد جلال ملكه، ذاك الّذي ملكه ملك كلّ الدهور وسلطانه في كلّ دورٍ فدور([176]). يا من لا تقدر البرايا وفاء مجده، ولا تقدر أو تتّسع لشكره.
ذاك الّذي يُسبَّح بذاته، ومُسبّحٌ بسُبحه، ويُسجد له، ومسجود له في فلك قوّته، يُبجّل ومُبجَّلٌ في قوّته، يُكرم ومُكرّم حسب كثرة عظمته، يُقدّسُ وقدّوس في قُدْسِه، يُبارَكُ ومُباركٌ في جلال مكانه.
ذاك الّذي يحدّث البوق بمجده، ويهتف صوت الصّور بحمده، الرباب والعود أعماله، الدفّ والرّقص يُخبرون بحكمة حكمته، الأوتار والمزمار تنطق بعجب خلقه، صنوج التّصويت تعرّف رحمة لطفه، صنوج الهتاف تصرخ ببرّ عدله، وكلّ نسمة تسبّح اسم لاهوته([177]).
ذاك الّذي تجب له التسابيح والتماجيد والتباجيل، لتثليث أقانيمه ووحدة طبيعته، وله يليق السجود والشّكران إلى أجيال أبد الدّهور، ولتغزر مراحمه على الشعراء والقرّاء والسّامعين والكتّاب والحافظين، بصلاة والدة اللّه مريم وجميع القدّيسين دائماً أبداً. آمين.
انتهى وللّه المجد الّذي لا ينتهي
الهوامش:
([14]) ـ أف 5: 6 لا يغرّكم أحد بكلام باطل لأنّه بسبب هذه الأمور يأتي غضب اللّه على أبناء المعصية.
([15]) ـ مت 7: 23 و 25: 41 ولو 13: 25ـ27،
([17]) ـ لو 11 : 27: «طوبى للبطن الّذي حملك والثّديين اللّذين رضعتهما»
([18]) ـ لو 11: 28 : «أمّا هو فقال بل طوبى للّذين يسمعون كلام اللّه ويحفظونه».
([20]) ـ مت 12: 40-50: «ثمّ مدّ يده نحو تلاميذه وقال ها أمّي وإخوتي. لأنّ من يصنع مشيئة أبي الّذي في السّموات هو أخي وأختي وأمّي».
([22]) ـ مت 7: 7ـ8 : «اسألوا تُعطوا. اطلبوا تجدوا. اقرعوا يُفتح لكم. لأنّ كلّ من يسأل يأخذ. ومن يطلب يجد. ومن يقرع يُفتح له»
([23]) ـ يو 14: 10 «ألست تؤمن أنّي أنا في الآب والآب فيّ»
([25]) ـ مز 33: 6: ترجمة أخرى «…وبروح فمه…»
([26]) ـ هكذا في الترجمة السريانية الفشيطتا أمّا في الترجمة العربية فيقول: «حاصرتني (طوّقتني) وجعلتَ عليّ يدك» مز 139 : 5.
([27]) ـ تك 1: 26 «لنصنع الإنسان على صورتنا كشبهنا»
([28]) ـ 1بط 1: 16، أح 11: 45، 19: 2
([29]) ـ يو 14: 21ـ24، 1يو 3: 24.
([30]) ـ مت 19: 24، مر 10: 25: «إنّ مرور جملٍ من ثقب إبرةٍ أيسر من أن يدخل غنيّ إلى ملكوت اللّه»
([31]) ـ مت 11: 12 أي «يُؤخذ بالجهاد»
([32]) ـ لو 17 : 21: «لأن ها ملكوت الله في داخلكم»
([37]) ـ مت 5: 3: «طوبى للمساكين بالروح فإنّ لهم ملكوت السّموات»
([39]) ـ مت 13: 11: «لأنّه قد أُعطي لكم أن تعرفوا أسرار ملكوت السّموات»
([40]) ـ مت 13: 52 «…يُخرج من كنزه جُدُداً وعُتَقاءَ»
([41]) ـ لو 10: 9: «قد اقترب منكم ملكوت اللّه»
([42]) ـ مت 10: 7: «وفيما أنتم ذاهبون اكرزوا قائلين إنّه قد اقترب ملكوت السّموات»
([44]) ـ مت 11:11: «ولكنّ الأصغر في ملكوت السّموات أعظم منه»
([54]) ـ مت 26: 29: «وأقول لكم إنّي من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديداً في ملكوت أبي»
([57]) ـ لو 23: 51 (هو يوسف الّذي من الرّامة).
([58]) ـ لو 19: 11: «وكانوا يظنّون أن ملكوت اللّه يوشك أن يظهر في ذلك الحين»
([60]) ـ أع 10: 41، لو 24: 43.
([64]) ـ مت 21: 31 : «…يتقدّمونكم إلى ملكوت اللّه»
([71]) ـ يقصد خيمة الاجتماع الّتي كانت حينها في المرتفعة التي في جبعون، حيث دخلها سليمان ورأى هذا الحلم وطلب عقلاً فهيماً ليميّز ويحكم (2أخ 1: 3،6)
([72]) ـ 1مل 3: 5 ـ 9، 2 أخ 1: 10
([73]) ـ 1مل 3: 10ـ14، 2 أخ 1: 11ـ12
([74]) ـ مت 6 : 33: «لكن اطلبوا أوّلاً ملكوت اللّه وبرّه وهذه كلّها تُزادُ لكم»
([76]) ـ مز101: 7، مز 5: 6ـ7، أي 5: 12ـ13
([77]) ـ ترجمة أخرى ممكنة: الشريعة، القصد، القانون، الحكم…
([79]) ـ مت 26: 39، 42، مر 14: 36، لو 22: 42
([84]) ـ يو 8: 32ـ36، كو 1: 13
([92]) ـ يو 5: 20 ـ 22، 27 ـ 29
([95]) ـ يو 8: 28، 5: 19، 7: 16ـ17
([96]) ـ أحجمت إدارة المجلة البطريركية عن إيراد بضعة أسطر في هذا الموضع لعدم ملاءمتها للنشر.
([101]) ـ الترجمة اللفظية: كالذين لهم هما العمل والشغل، وليسا لآخرين.
([104]) ـ أف 6: 12 ، بلاير : شيطان، غول
([109]) ـ مت 21: 22، مر 11: 24
([111]) ـ مثل الابن الضال لو 15: 21
([115]) ـ مت 7: 23 و 25: 41 ولو 13: 25ـ27
([117]) ـ تعبير سرياني يعني ابن جنسه، الإنسان
([122]) ـ مت 10: 14، لو 9: 5، لو 10: 11
([125]) ـ لو 13: 25 ـ 27، مت 25: 10 ـ 12، 7 : 21 ـ 23. ترجمة أخرى: فاعلي الإثم، الكذب، الزور…
([126]) ـ مت 18: 21 ـ 22، لو 17 : 4
([129]) ـ هو 6: 6، مت 9: 13، 12: 7
([132]) ـ مت 6: 15، 18: 35، مر 11: 26
([133]) ـ مت 5: 38، خر 21: 24، لو 6: 20
([136]) ـ لو 6: 29ـ30، مت 5: 40،42
([137]) ـ مت 26: 41، مر 14: 38، لو 22: 40
([151]) ـ خر 17: 11 : وكان إذا رفع موسى يده أن اسرائيل يغلب وإذا خفض يده أن عماليق يغلب.
([159]) ـ مز 139: 6 عجيبةٌ هذه المعرفة
([165]) ـ ترجمة أخرى: يُعسكر ملاك الربّ حول متّقيه وينجّيهم مز 34: 8