في الموسيقى الكنسية
رضى أئمة الدين إدخال اللحون إلى بيعة الله لأسباب ثلاثة : أولها مناهضة ألحان الوثنيين وأصحاب البدع، التي حاولوا بها إفساد قلوب الناشئة عقيدة وأدباء فعارضوها بأشعار جزلة دينية قضت على الأشعار الفاسدة. وثانيها الاستعانة بها على النشاط في عبادة الله ودفع الملل عن المصلين في أثناء تلاوة الفرض المُطوَّل. وثالثها تنبيه الحواس إلى إدراك معاني الصلاة، لأن المصلين إذا ما ترنموا أو سمعوا الترتيل استوعبوا معاني ما يرتلون، وكان ذلك أسرع إلى أذهانهم وأوقع في نفوسهم وأعمق في قلوبهم وادعى إلى الخشوع، وكان للأئمة في هذه الطريقة بداود النبي صاحب المزامير وجوقته المرتبة. فجروا في ميدانه وعلى نهجه صنعوا ألحاناً لها نغم حسنة مؤلفة بعضها إلى بعض على نِسَب متعارفة وذلك بعد المجمع النيقاوي. وأول من شدا بها عند السريان القديس مار أفرام، وعند اليونان القديسون غريغوريوس النزينزي فقورلس الأورشليمي فاياونيس الذهبي الفم، وتابعهم من السريانيين مار اسحق ومار رابولا ومار بالي وجماعة الفخّارين، فالقديسون يعقوب السروجي وسويريوس الأنطاكي اليوناني ويعقوب الرهاوي، وناظموا التراتيل المسماة عند اليونانيين بالقوانين ونقّلتُها وغيرهم ممن احتذى مثالهم على تراخي الأيام، فصاغوا الألحان وأحكموا صنعتها وتفننوا فيها. فوقعت خير موقع وبلغت من المصلين كل مبلغ، لأن جُلّ فروضنا السريانية منظومة شعراً ( 1 ).
واتخذ السريان واليونان الألحان ثمانية من الأول إلى الثامن وسمّوها ” أكاديا ” فيها الحار والبارد والرطب واليابس، وفيها اللحن المطرب والمحزن والمذلّل والمنبه والمنشط، يتناوبون منها في كل أسبوع نغمتين متقابلتين فالأول يقابل الخامس وهكذا. وجعلوا لكل عيد موسم مشهور وحالة لحناً خاصاً به ينطبق عليه كل الانطباق ( 2 ) وتخيّروا لها الأصوات الطبية الرخيمة، وجعلوها بين صفّين يتناوبان ترتيلها ويتراجعان، وأقاموا للصف رأساً يراعي نظامها من أحذق الكهنة أو الشمامسة وأمهرهم في الألحان – وحسن الإيقاع والمساوقة من نتائج تناسب الأصوات – فبلغوا فيها من الإحكام الغاية.
واشتهر من رؤساء الصفوف في حدود سنة 1218 الربان أبو الفرج ابن اليشاع، كان حاضر الذهن كثير الحفظ عن ظهر قلبه فنقيث الفروض على مدار السنة، على ما ذكر ابن العبري في تاريخه الكنسي (مج 1 ص 637).
وأبدع ألحاننا وأحسنها صوغاً وأحكمها صنعةً، التخشفتات والقاثسمات والمعبرانات والمداريش، وهي من صدور الأناشيد وأوائلها. ولأكثرها مدّات وليّات وعطفات ونبرات وما إليها، ولها شجاً ورقةً، وذهب للسريانيين بها صيت وذكر، خصوصاً أهل ديار بكر والرها، وهم يأخذونها بطريقة التقليد ولما لم يقيدوها بعلامات وضوابط ذهب الدهر بقسم صالح منها، غير أنه أبقى بقية كافية ( 3 )
1- قال العلامة انطون التكريتي : إن الذي دعا مار أفرام إلى نظم الأغاني الروحية والميامر، هو أن برديصان كان قد نظم أغاني وقَّعها على لحون لذيذة ضمنها أقولاً تفسد المعتقد القويم والأخلاق، فعلقت بأذهان الشبان السذج، فجاء مار أفرام بالأغاني النقية القدسية فتغلبت عليها، ومن هنا نشأ الترتيل الكنسي المقدس. وكان القديس غريغوريوس اللاهوتي أيضاً قد نظم أشعاره نقلاً لضلال الأريوسيين، ودحضاً لما قام به القيصر يوليانس الجاحد إذ كان يمنع المسيحيين مطالعة أشعار اليونانيين الوثنيين، ولم يستطع أئمة الدين أن يفطموا نفوس الناس عن الغناء واللحون بعد ما تعودوه من المضللين – وقال ابن الصليبي ونظم مار سويريوس المعانيث رداً على الشعراء وأغاني سوسطيوس اليوناني، وألف مار أياونيس السطيخارات نقضاً لأغاني الآريوسيين التي كانوا يصطادون بها الأغرار. وعلى هذه الصورة دخلت القوانين والبواقي إلى البيعة.
2- قال القس يعقوب المارديني في كتاب دعوة القسوس في الألحان الثمانية ” الأول والخامس للأفراح والثالث والسابع للأحزان والرابع والثامن لجهاد الشهداء. والثاني والسادس المذلّل ” هذا ما ورد في الباب التاسع والأربعين (ص 216) من كتاب مجموع أصول الدين للشيخ الرئيس مؤتمن الدولة أبي اسحق ابن الفضل ابن العسل القبطي. أما كتاب دعوة القسوس فمفقود إلا أربع قصائد في الخمرة الإلهية وُجدت في بيروت، وأما مؤلفه فأحسبه من كتاب القرن الثاني عشر. وفي قوله نظر فإن اللحن المذلل هو الخامس ويستعمل في الصوم والتوبة، وكذلك الرابع ويستعمل أيضاً في عيد بشارة العذراء وأما الثاني والسادس فمنبهّان ومنشطان واختص أولهما بعيد الغطاس وثانيهما بعيد التجلي.
3- انظر كتاب معرفة الفصاحة لانطون التكريتي، المقصد الأول من المقابلة الخامسة (ص 76 – 79) والفصل الرابع من الفصول العشرة لابن الصليبي رداً على الشماس يشوع (ص 74 -75) وكتاب الكنوز ليعقوب البرطلي الفصل 38 من المقالة الثانية والأيثيقون لابن العبري (ص 65 – 72)
المصدر : اللؤلؤ المنثور، ص 54-56