Skip to content Skip to footer

الوثيقة الأولى للجنة الدولية-2009

اللجنة العالمية المشتركة للحوار اللاهوتي
بين الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الأرثوذكسية الشرقية

طبيعة الكنيسة وتكوينها ورسالتها[1]

 

  1. تشكّلت اللجنة العالمية المشتركة للحوار اللاهوتي بين الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الأرثوذكسية الشرقية مِن قِبَل السلطات الكنسية العليا المعنيّة، والمشاركون في هذا الحوار هم الكنيسة الكاثوليكية مِن جهة، وعائلة الكنائس الأرثوذكسية الشرقية مِن جهة أخرى، والتي تضمّ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، الكنيسة الرسولية الأرمنية (كاثوليكوسية عموم الأرمن، إتشمياتزين المقدّسة)، الكنيسة الرسولية الأرمنية (كاثوليكوسية كيليكية، أنطلياس)، كنيسة التوحيد الأثيوبية الأرثوذكسية، الكنيسة السريانية الأرثوذكسية الملنكارية، وكنيسة التوحيد الإريترية الأرثوذكسية.
  2. أُعِدّ جدول أعمال اللجنة المشتركة بواسطة لجنة تحضيرية اجتمعت في روما (2003)؛ وانعقد الاجتماع الأوّل للّجنة المشتركة في القاهرة (2004) وخُصِّص لاستعراض العمل المسكوني الهامّ الذي تحقَّق بين الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الأرثوذكسية الشرقية خلال العقود الأخيرة، على صُعدٍ شتّى، في الحوار الرسمي وغير الرسمي على حدٍّ سواء. وقد أولِيَ اهتمامٌ خاصٌّ للبيانات المشتركة الموقّعة في تلك الحقبة وللاتفاقات المشتركة، بين أساقفة روما ورؤساء بعض الكنائس الأرثوذكسية الشرقية. كما تدارس أعضاء اللجنة المشتركة الموادّ والخلاصات التي توصلّت إليها على مرّ السنين بعض المؤتمرات الأكاديمية والحوارات غير الرسمية، كالتي رعاها مجلس الكنائس العالمي، ومجلس كنائس الشرق الأوسط ومؤسّسة برو أورينتي. ومن بين هذه المصادر، حُدّدت عناصرٌ أساسية حتّى تتم ّدراستها والتعمّق بها وبلورتها.
  3. في المرحلة الأولى، ركّزت اللجنة المشتركة عملها على مسائلَ تتعلّق بطبيعة الكنيسة وتكوينها ورسالتها. وتمثّل هذه الوثيقة خلاصةً لبعض الأفكار والاستنتاجات الأساسية التي انبثقت عن اجتماعات الحوار وبشكلٍ خاصٍّ اجتماع روما (2005) حول “مفهوم الكنيسة كشركة”، واجتماع إتشمياتزين المقدّسة (2006) حول “السلطة داخل الكنيسة”، واجتماع روما (2007) حول “رسالة الكنيسة”. تجدر الإشارة إلى أنّ عددًا من المسائل المذكورة في جدول أعمال اللجنة المشتركة والمتعلّقة بالإكليزيولوجيا (عِلم الكنيسة) لم تتمّ دراستها ومناقشتها بعد وسوف يتمّ تناولها في مرحلةٍ لاحقة.
  4. يشكر أعضاء اللجنة المشتركة سلطاتهم الكنسية لأجل التفويض الذي نالوه منهم، ويشرّفهم أن يقدّموا في هذه الوثيقة بعض ثمار أعمالهم المشتركة، وملؤهم الأمل والصلاة أن تكون أداةً مساعِدَةً وخطوةً واعدةً نحو الأمام على طريق استعادة الشركة الكاملة مِن خلال الوصول إلى الوحدة التامّة في الإيمان.

I– سرّ الكنيسة

  1. تتشارك عائلة الكنائس الأرثوذكسية الشرقية والكنيسة الكاثوليكية في هذه العناصر المكوِّنة للشركة: إنّهما تعترفان بالإيمان الرسوليّ كما هو معاشٌ في التقليد ومُعبَّرٌ عنه في الكتب المقدّسة وفي المجامع المسكونية الثلاثة الأولى (نيقية 325 – القسطنطينية 381 – أفسس 431) وفي قانون الإيمان النيقاويّ – القسطنطينيّ[2]؛ إنّهما تؤمنان بيسوع المسيح كلمة الله المتجسّد، الذي هو إلهٌ حقيقيٌّ وإنسانٌ حقيقيٌّ في الوقت نفسه؛ تكرّمان القدّيسة العذراء مريم باعتبارها والدة الله (ثيوطوكس)؛ تحتفلان بالأسرار السبعة (المعمودية، التثبيت/الميرون، الافخارستيا، التوبة/المصالحة، الكهنوت، الزواج، ومسحة المرضى)؛ تعتبران المعمودية ضروريةً للخلاص؛ بالنسبة إلى الإفخارستيا، تؤمنان بأنّ الخبز والخمر يصيران جسد يسوع المسيح ودمه الحقيقيَّين؛ تؤمنان بأنّ الكهنوت ينتقل بواسطة الأساقفة بالخلافة الرسولية؛ بالنسبة إلى طبيعة الكنيسة الحقيقية، فكلاهما تؤمنان بـ”كنيسةٍ واحدةٍ، جامعةٍ، مقدّسةٍ، رسوليةٍ”، بحسب قانون الإيمان النيقاويّ – القسطنطينيّ.

I– أ- الثالوث الأقدس والكنيسة كشركة

  1. إنّ كلمة “كنيسة” (ekklesia) تدلّ على جماعة المؤمنين المدعوّين مِن الله الآب بيسوع المسيح في الروح القدس. والعلاقة الوثيقة بين المؤمنين والثالوث الأقدس وكذلك بين المؤمنين أنفسهم، يُعَبَّر عنها في العهد الجديد بالمصطلح اليونانيّ كوينونيا (koinonia) الذي يعني “الشركة”. يُصرّح القدّيس يوحنا لقرّائه قائلًا: “الَّذِي رَأَيْنَاهُ وَسَمِعْنَاهُ نُخْبِرُكُمْ بِهِ، لِكَيْ يَكُونَ لَكُمْ أَيْضًا شَرِكَةٌ (كوينونيا) مَعَنَا. وَأَمَّا شَرِكَتُنَا (كوينونيا) نَحْنُ فَهِيَ مَعَ الآبِ وَمَعَ ابْنِهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ” (1يو 1: 3). أمّا القدّيس بولس فيبارك أهل كورنثوس مصلّيًا هكذا: “نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَمَحَبَّةُ اللهِ، وَشَرِكَةُ (كوينونيا) الرُّوحِ الْقُدُسِ مَعَ جَمِيعِكُمْ” (2كور 13: 14)[3].
  2. يشتمل مصطلح كوينونيا على بُعدَين أساسيَّين: 1) الشركة العامودية التصاعدية لجميع المؤمنين مع الله الآب بالرب يسوع المسيح في الروح القدس و2) الشركة الأفقية لجميع المؤمنين مع بعضهم البعض في كلّ الأوقات والأماكن؛ أمّا شركة الكنيسة الواحدة على الأرض وفي السماء فهي شكلٌ خاصّ من أشكال هذه الشركة الأفقية. وبغياب أحد هذَين البُعدَين، لا تكون الكنيسةُ كنيسةً.
  3. توضّح صورة الكرمة والأغصان اليوحنّاوية بشكلٍ رائع، هذَين البُعدَين العاموديّ والأفقيّ للشركة الكنسية. فمصدر الشركة بين أعضاء الكنيسة ونموذجها هو شركتهم مع يسوع: “اُثْبُتُوا فِيَّ وَأَنَا فِيكُمْ” (يو 15: 4). وفي الوقت نفسه، تأخذ هذه الشركة شكل المحبّة، ومصدرها ونموذجها الشركةُ الموجودة بين الآب والابن: “كَمَا أَحَبَّنِي الآبُ كَذَلِكَ أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا. اُثْبُتُوا فِي مَحَبَّتِي” (يو 15: 9).
  4. إنّ أصل الجماعة الكنسية هو في الله الآب، الذي منه تأتي “كُلُّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ” (يع 1: 17). إنّه يدعو شعب الله سويّةً بواسطة العهد المقدّس، وبهذا الشكل أسّس علاقةً بينه وبين شعبه وبين بعضهم البعض. إنّ رسالةَ الابن والروح القدس حيالَ الكنيسة متأصّلةٌ في الآب. فالآب هو مَن يُرسل ابنه الوحيد والروح القدس إلى العالم. والابن يصلّي لأبيه مِن أجل وحدة رُسُلِه على غرار وحدته مع الآب: “كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ” (يو 17: 21ب). فكلّ شيءٍ في حياة الكنيسة ورسالتها موجَّهٌ لمجد الآب كَي ما في النهاية “يَكُونَ اللهُ الْكُلَّ فِي الْكُلِّ” (1 كور 15: 28).
  5. إنّ الشركة الوثيقة بين المؤمنين والثالوث الأقدس وأيضًا بين المؤمنين أنفسهم هي ثمرة المصالحة التي تمّت بذبيحة يسوع على الصليب: “لأَنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا، الَّذِي جَعَلَ الِاثْنَيْنِ وَاحِدًا، وَنَقَضَ حَائِطَ السِّيَاجِ الْمُتَوَسِّطَ أَيِ الْعَدَاوَةَ. مُبْطِلًا بِجَسَدِهِ نَامُوسَ الْوَصَايَا فِي فَرَائِضَ، لِكَيْ يَخْلُقَ الِاثْنَيْنِ فِي نَفْسِهِ إِنْسَانًا وَاحِدًا جَدِيدًا، صَانِعًا سَلاَمًا، وَيُصَالِحَ الِاثْنَيْنِ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ مَعَ اللهِ بِالصَّلِيبِ، قَاتِلًا الْعَدَاوَةَ بِهِ” (أف 2: 14-16).
  6. إنّ تصوير الكنيسة كجسد المسيح تُسلِّط الضوء على الرباط الوثيق بين المسيح وأعضاء الكنيسة. فالمسيح هو رأس الكنيسة التي هي جسده. وكرأسٍ لها، هو يحبّها ويضع نفسه لأجلها ويَقوتُها ويعتني بها بحنانٍ (را أف 5: 22-30). إنّ أعضاءه متّحدون “فيه” وهو “فيهم” (غل 2: 20)؛ إنّهم معمّدون “إليه” (1كور 12: 13)، يتألّمون “معه” لكي يتمجّدوا أيضًا “معه” (رو 8: 17). إنّه رأس السلطة الذي يجب أن يكرّمَه ويطيعَه كلُّ الجسد (را كو 2: 10)، وهو أيضًا “رَأْسٌ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ لِلْكَنِيسَةِ، الَّتِي هِيَ جَسَدُهُ، مِلْءُ الَّذِي يَمْلأُ الْكُلَّ فِي الْكُلِّ” (أف 1: 22-23).
  7. طوّر آباء الكنيسة في الشرق والغرب على السواء المعنى الكنسيّ للشركة. وكثيرٌ منهم يربطون وحدة الكنيسة بوحدة الأقانيم الإلهية وبوحدة جسد المسيح وبالإفخارستيا. فالقدّيس كيرلّس الاسكندري (444+)، على سبيل المثال، يكتب عن وحدة أعضاء المسيح أنّه “بواسطة جسدٍ واحدٍ، يبارِكُ (المسيح) أولئك الذين يؤمنون به ويَجعلهم ملتحمين به وببعضهم البعض، وذلك الجسد هو خاصّته. فمَن ذا يستطيع أن يَقسِمَهم ويفصلهم عن هذا الاتّحاد المتبادل […] حين يكونون مرتبطين سويّةً في وحدةٍ مع المسيح بواسطة ذلك الجسد الواحد المقدّس؟ جميعنا نشترك في خبزٍ واحدٍ، وهكذا نصير جميعًا جسدًا واحدًا: فالمسيح لا ينقسم. لذلك فإنّ الكنيسة تُدعى ’جسد المسيح، وكلّ فردٍ هو عضوٌ منه‘ بحسب مار بولس. لأنّنا كلّنا متّحدون بالمسيح الواحد، بواسطة جسده المقدّس الواحد وغير المنقسم، لكوننا نأخذه في أجسادنا. […] فإذا كنّا جميعًا متّحدين مع بعضنا البعض في المسيح، وليس فقط مع بعضنا البعض بل مع ذلك الذي يسكن فينا مِن خلال جسده، فإنّه أمرٌ جليٌّ بالطبع أنّنا جميعًا واحدٌ، سواءٌ مع بعضنا البعض أم مع المسيح، لأنّ المسيح هو رباط الوحدة لكونه الله وإنسان في الأقنوم الواحد عينه.”[4]
  8. إنّ الروح القدس، الْمُرسَل بواسطة الابن مِن الآب (يو 15: 26) يُعطي الحياة والوحدة والحركة لجسد المسيح الواحد بأكمله (را غل 4: 6). لذلك فإنّ آباء الكنيسة قارنوا دوره في الكنيسة بالدور الذي تؤدّيه النفس التي هي المبدأ المحيي في الجسد البشري. إنّ الروح، بالإضافة إلى كونه ساكنًا في المؤمنين ويدبّر الكنيسة ككلٍّ، هو أيضًا مبدأُ وحدةِ الكنيسة. فهو يعمل بطرقٍ شتّى لبناء الجسد بالمحبّة، محقّقًا وحدة الكنيسة بتنوّع أعضائها وخدماتها.

I– ب- صفات الكنيسة

  1. الكنيسة واحدةٌ لأنّ أصلها هو في الأقانيم الثلاثة لله الواحد، الآب والابن والروح القدس. والكنيسة أيضًا واحدةٌ لأنّ مؤسّسَها هو يسوع المسيح الذي لم يؤسِّسْ كنائس عديدةً بل كنيسةً واحدةً (را مت 16: 18)، والذي له قطيعٌ واحدٌ (را يو 10: 16؛ 21: 15) وجسدٌ واحدٌ (را رو 12: 5؛ 1كور 12: 27؛ كو 1: 18؛ أف 1: 23) وعروسٌ واحدة (را أف 5: 27). الكنيسة واحدةٌ أخيرًا لأنّها هيكلُ الروح القدس الواحد الذي يبنيها ويحرّكها ويقدّسها. وكما كتب غريغوريوس التاتيڤي (1346-1409)، “تُنعَت الكنيسة بالواحدة ليس لأنّها في مكانٍ واحدٍ، بل لأنّها واحدةٌ بالإيمان ودعوتُها لها رجاء واحد، ولديها أمٌّ واحدةٌ، وولادتها مِن رَحِمٍ واحدٍ هو جُرن المعمودية، ولديها طعامٌ واحدٌ هو الكتب المقدّسة، وجسدٌ واحدٌ ودمٌ واحدٌ هما جسد المخلّص ودمه، ورأسٌ واحدٌ وتاجٌ واحدٌ ولباسٌ واحدٌ نلبسه هو المسيح”[5].
  2. إنّ الروابطَ الأساسيةَ للوحدة داخل الكنيسة يضمنها الاعتراف بالإيمان الواحد الـمُسلَّم مِن الرسل والاحتفال المشترك بالأسرار والخلافة الرسولية مِن خلال سرّ الكهنوت. والوئام الأخويّ داخل الكنيسة محفوظ بفضل المحبّة التي “هِيَ رِبَاطُ الْكَمَالِ” (كو 3: 12-14)، وبالشركة في الرجاء الواحد (را أف 4: 4).
  3. لم تخسر الكنيسة أبدًا الوحدة التي هي مِن جوهرها، ولَئِن انقسم المسيحيّون بانشقاقات عديدةٍ واختلف فهمُهم لتلك الوحدة. ولذلك فالمسيحيّون مُلزَمون بالاستجابة كما ينبغي إلى صلاة الربّ يسوع “لِيَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِدًا” (يو 17: 21) وبإصلاح رباطات الشركة المنقطعة بينهم.
  4. الكنيسة مقدّسةٌ لأنّ المسيحَ يحبّها كعروسٍ له وقد وضع نفسه مِن أجلها “لِكَيْ يُقَدِّسَهَا، مُطَهِّرًا إِيَّاهَا بِغَسْلِ الْمَاءِ بِالْكَلِمَةِ، لِكَيْ يُحْضِرَهَا لِنَفْسِهِ كَنِيسَةً مَجِيدَةً، لاَ دَنَسَ فِيهَا وَلاَ غَضْنَ أَوْ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ، بَلْ تَكُونُ مُقَدَّسَةً وَبِلاَ عَيْبٍ” (أف 5: 25-27). الكنيسة مقدّسةٌ أيضًا بسبب موهبة الروح القدس، روح القداسة الذي يسكن فيها لمجد الله.
  5. إنّ قداسة الكنيسة هي هبة مِن الله مرتبطةٌ بإيمان الكنيسة وتعليمِها العقائديّ والاحتفالِ بالأسرار والخدمة الرسولية، حتّى وَإن كانت قداسة أعضائها الذاتية والشخصية غيرَ تامّةٍ وبحاجةٍ إلى أن تُكتَسَب. تجمع الكنيسة الخطأة المشمولين بخلاص المسيح، الذين لا يزالون في طريقهم نحو القداسة الشخصية. وهكذا، فإنّ القدّيس بولس يخاطب “أحبّاءَ الله الذين في روميةَ الـمَدعوِّين ليكونوا قِدِّيسِينَ” (رو 1: 7) ويحيّي الكورنثيّين باعتبارهم “الْمُقَدَّسِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، الْمَدْعُوِّينَ ليكونوا قِدِّيسِينَ” (1 كور 1: 2)؛ ومع أنّه يعتبر جماعة كورنثوس مقدّسة، غير أنّه يدين الخطايا التي ارتكبها بعضُ أعضائها (را 1كور 5: 6).
  6. الكنيسة جامعةٌ لأنّ المسيحَ حاضرٌ فيها ولأنّه كلّفها برسالةٍ للإنسانية جمعاء. وبالتالي فإنّ الجامعيّة (الشمولية) تعني بالاتّفاق مع الجميع أو بالحفاظ على التواصل مع الكلّ. بحسب كيرلّس الأورشليمي فـ”الكنيسة تُسمّى جامعة لأنّها منتشرة في العالم كلّه، من أقاصي الأرض إلى أقاصيها؛ ولأنّها تعلّم تعليمًا شاملاً معصومًا عن الخطأ جميعَ العقائد التي يجب على البشر التوصّل إلى معرفتها، عن الأشياء المنظورة وغير المنظورة، السماوية والأرضية؛ ولأنّ الجنس البشري بأسره يخضع لها في شؤون الدين: الحكّام والمحكومون، العلماء والجهلاء؛ ولأنّها تعالج وتشفي عمومًا جميع أنواع الخطايا التي تُرتكب بالنفس والجسد؛ وتملك في ذاتها كلّ ما يمكن تسميته فضيلة، بالقول أو بالفعل، وجميع المواهب الروحية.”[6] وعلى حدّ قول يوڤهان الأوتزوني (650 – 728)، “تُسمّى الكنيسة جامعةً لأنّها تجمع شعوب العالم كافّةً، في طاعةٍ مستنيرةٍ بالمعمودية في الجرن، ومُصوّرةٍ ومولودةٍ في ميراث الله بتقديس الروح القدس”[7].
  7. لا تدلّ فكرة الجامعيّة بأيّ شكلٍ على تماثلٍ مبتذل بل على العكس؛ ففيما تُؤصِّلُ الكنيسة جذورَها في أرضيةٍ ثقافيةٍ واجتماعيةٍ وبشريةٍ متنوّعةٍ، فإنّها تعتمدُ عباراتٍ لاهوتيةً مختلفةً للتعبير عن الإيمان عَينِه وتتفاوت فيها مظاهر التدابير الكنسية والطقوس الليتورجية والإرث الروحيّ، في كلّ بقعةٍ مِن العالم. وإنّ هذا الغنى ليُظهِرَ جامعيّة الكنيسة الواحدة بأبهى تجلّياتها.
  8. الكنيسة رسوليةٌ لأنّها مبنيّة على “أساس الرسل”، الشهودِ الذين اختارهم وأرسلهم المسيحُ نفسه (را أف 2: 20؛ أع 1: 8؛ 1كور 9: 1؛ 15: 7-8؛ غل 1: 1). تحفظ الكنيسةُ وتُسلِّمُ، بمعونة الروح القدس الساكنِ فيها، التعليمَ الذي استلمتْهُ مِن الرسل (را أع 2: 42، 2تيم 1: 13-14). والقدّيس بولس يحثّ الجميع بقوله “اثْبُتُوا إِذًا أَيُّهَا الإِخْوَةُ وَتَمَسَّكُوا بِالتَّعَالِيمِ الَّتِي تَعَلَّمْتُمُوهَا، سَوَاءٌ كَانَ بِالْكَلاَمِ أَمْ بِرِسَالَتِنَا” (2تس 2: 15). وما زالت الكنيسة تتعلّم مِن الرسل وتسترشد بهم، عبر الأساقفة المرسومين بحسب الخلافة الرسولية والكهنة والشمامسة.
  9. إنّ استمداد الخدّامِ المرسومين لسلطتهم مِن الرسل والرسل مِن المسيح، حقيقةٌ يؤكِّد عليها بشدّةِ القدّيس كليمنضس الروماني في نهاية القرن الأوّل[8]. فمنذ البدايات، كان الاعتقاد بأنّ الدرجة الأسقفية تخلق رابطًا تاريخيًّا بين الكنيسة في زمن الرسل وكنيسة اليوم. لذلك، فإنّ الكنيسةَ تعلّم أنّ السيامةَ التي تتمّ في سياق الخلافة الرسولية هي وسيلةٌ وضمانةٌ للتسلسل الرسولي في عمل الرعاية وفي نقل النعمة.

I– ج- النموّ نحو الشركة التامّة

  1. تتضمّنُ الشركةُ التامّةُ وتقتضي الوحدةَ في الإيمان وفي الحياة الأسرارية وفي الخدمة الرسولية. ويجب بالتالي ضمان الوحدة الكنسية برباطاتٍ منظورةٍ للشركة وهذه الرباطات تشمل الإيمانَ الـمُستَلَمَ من الرسل والاحتفالَ المشترك بالأسرار وبخاصّةٍ الافخارستيا، وممارسةَ الخدمةِ الرسولية.
  2. إنّ الشركة الافخارستيّة والشركة الكنسية مرتبطتان ارتباطًا جوهريًّا ببعضهما البعض. فما دامت هناك خلافاتٌ أساسيةً في مسائلَ إيمانيةٍ وطالما لم تُستعَد روابط الشركة بَعدُ بشكلٍ تامٍّ، فإنّ الاحتفالَ سويّةً بإفخارستيا الربّ الواحدة هو أمرٌ غير ممكن. من الجيّد أنّه مِن خلال الحوار المسكونيّ، تمَّ إحرازُ تقدّمٍ ملحوظٍ بين الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الأرثوذكسية الشرقية نحو فَهمٍ مشتركٍ للعناصر الجوهرية في الإيمان، سِيَّما في مجال الكريستولوجيا. على الرغم مِن عدم التوصّل حتّى اليوم إلى إجماعٍ كاملٍ حول المسائل الإيمانية، الأمر الذي مِن شأنه أن يسمحَ بالاحتفال المشترك بالافخارستيا، فإنّ هذا التقدّم في التفاهم العقائدي يبشّر بالمزيد مِن التقارب ويستحقّ أن يولى اهتمامٌ خاصٌّ.
  3. إنّ الجميع متّفقون على أنّ الانقسام الحاليّ بين المسيحيّين هو عثرة للعالم ويجرح الوحدةَ التي وهبها الله لكنيسةِ المسيح. لذلك فإنّ البحث عن الوحدة المسيحية هو استجابةٌ لدعوة المسيح “لِيَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِدًا كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضًا وَاحِدًا فِينَا لِيُؤْمِنَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي” (يو 17: 21). يتحمّل المسيحيّون كافّةً المسؤولية التي يلقيها الله على عاتقهم، لدعم استعادة الوحدة التامّة والمنظورة فيما بينهم. إنّ الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الأرثوذكسية الشرقية تواظب في فروض صلواتها وأيضًا في احتفالاتها الليتورجية، على الصلاة مِن أجل الوحدة المسيحية. ويجدر بالتراث الكنسي المتأصّل بشكلٍ خاصٍّ في الزمن الرسولي والقرون المسيحية الأولى، والذي تشترك فيه هذه الكنائس بشكلٍ كبيرٍ، أن يُنيرَ وَيُلهِمَ دربَها المشتركَ نحو استعادة الشركة التامّة عبر تحقيق الوحدة الكاملة في الإيمان.

I– د- نقاطٌ أخرى تحتاج للمزيد مِن الدراسة والمناقشة

  1. إنّ الكنيسة الكاثوليكية، وبسبب العناصر الكنسية المشتركة العديدة التي تربطها بمسيحيّين آخرين، تستخدم عبارة “شركةٌ حقيقيةٌ ولو غير كاملةٍ” وعبارة “درجات الشركة” في الإشارة إلى العلاقة بهم. بالنسبة إلى الأرثوذكس الشرقيّين، تحتاج هاتان العبارتان الإكليزيولوجيّتان إلى المزيد مِن التوضيح. فالكنائس الأرثوذكسية الشرقية، إذ هي في شركةٍ تامّةٍ فيما بينها في الإيمان والأسرار، تشير إلى وحدتها بمصطلح “عائلةُ الكنائس”. مضمونُ هذه الطريقة في التفكير بالشركة بين الكنائس تحتاج لمزيدٍ مِن التوضيح بالنسبة إلى الكاثوليك. وتبقى الشركة التامّة هي الهدف الأساسي للعمل المسكونيّ لجميع كنائسنا.
  2. وإذا كانت الشركةَ التامّةَ لا تزال متعذّرةً لأسبابٍ تاريخيّةٍ أو قانونيةٍ، فإنّ مِن شأن التقارب المتزايد في المسائل الإيمانية أن يسمحَ بتحقيق المزيد مِن الاتّفاقات اللاهوتية والراعوية بين الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الأرثوذكسية الشرقية، وبخاصّةٍ مِن خلال الإجابة إلى الاحتياجات الـمُلحّة لجماعاتهم، حيثُ يَعيشون معًا. وفي سياق هذا المسعى، على كنائسنا أن تعالجَ المسائلَ المتعلّقةَ بالاعتراف المتبادل بالمعمودية والزيجات المسيحيّة المختلطة.

II– الأساقفة في الخلافة الرسولية

II– أ- الأساقفة

  1. إنّ فهمنا للأساقفة والخلافة الرسولية يقوم على مصفّ الرسل في العهد الجديد. فربّنا يسوع المسيح اختار رسله ليكونوا شهودًا مفوّضين بالشهادة لحياته ورسالته وقيامته (را لو 24: 46-48؛ أع 1: 21، 3: 15). وكان عليهم أن يتابعوا خدمته ورسالته في العالم (را يو 20: 21؛ أع 1: 8). وهكذا فإنّهم يشكّلون أساسات الكنيسة (را أف 2: 20)؛ أرسلهم ليعلنوا البشرى السارّة لجميع الأمم في العالم (را مت 28: 19) ومنحهم سلطان الحلّ والربط (مت 18: 18). إنّ خدمتهم كانت فريدة وانتهت مع نياحة آخر الرسل. في الوقت عينه، فإنّ الرسل حرصوا على أن تستمرّ بعد انتقالهم الرسالة التي أوكلها إليهم المسيح وذلك مِن خلال معاونيهم المباشَرين والأشخاص الثقاة[9].
  2. لقد كانت الخدمة الراعوية والسلطة في عهد الرسل تُمارس مِن خلال مواهبَ وخِدَمٍ متنوّعةٍ (را رو 12: 4-8؛ أف 4: 11؛ في 1: 1؛ عب 13: 7؛ تي 1: 5-8) وانتظم هذا التنوّع تدريجيًا في ثلاث درجاتٍ هي: الأساقفة والقسوس (الكهنة) والشمامسة. ويقدّم القدّيس إغناطيوس الأنطاكي في مطلع القرن الثاني إثباتًا على هذه الخدمة الثلاثية حيث يعتبر أنْ لا غنى للكنيسة عنها[10]. إنّ الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الأرثوذكسية الشرقية قد حافظت على هذا النظام الثلاثي المكوَّن من الأساقفة والقسوس (الكهنة) والشمامسة كأساسٍ للهيكلية الرسولية وخدمة الكهنوت في الكنيسة.
  3. إنّ الأساقفة هم خلفاء الرسل في رعاية الكنائس. وبهذه الصفة، هم مسؤولون عن أن يشهدوا للتقليد الرسولي وأن يحافظوا عليه في كنائسهم مِن خلال الحفاظ على الشركة في الإيمان الرسولي والإخلاص لمتطلّبات الحياة المسيحية كما علّمها الرسل.
  4. ينال الأساقفة خدمتَهم بواسطة سرّ الكهنوت مِن خلال الصلاة ووضع الأيدي أثناء الاجتماع الإفخارستي. وبسيامته، يُقام الأسقف رأسًا لكنيسةٍ محلّيةٍ أو لأبرشيةٍ ويصير ممثّلًا لتلك الكنيسة المحلّية أو الأبرشية في شركة الكنائس على الصعيد العالمي. إنّ القاعدة لرسامة أسقفٍ جديدٍ تحتّم مشاركةَ ثلاثة أساقفةٍ على الأقلّ، فضلاً عن موافقة السلطة العليا لكنيستهم[11]، وذلك لضمان أن يكون الأسقف الجديد مُسامًا في خطّ الخلافة الرسولية وللدلالة على انضمامه إلى مصفّ الأساقفة الذي هو امتداد لمصفّ الرسل. إنّ وظيفة الأسقف في الكنيسة هي جماعيّة بطبيعتها.
  5. إنّ خدمة الأسقف (episkopos) هي نوعٌ مِن الإشراف (episkopé) وتشمل تعليم جماعة المؤمنين وتقديسها وتدبيرها. يكتب القدّيس بطرس في رسالته الأولى عن الربّ يسوع المسيح: “رَجَعْتُمُ الآنَ إِلَى رَاعِي نُفُوسِكُمْ وَأُسْقُفِهَا (حارِسُها، Episkopos)” (1بط 2: 25). كلّنا يُدرك أنّ مصدرَ كهنوتِ الأسقفِ هو كهنوت الربّ يسوع المسيح الذي هو رئيس كهنةٍ عظيم (را عب 4: 14-16). الأسقف هو صورة المسيح الخادم بين إخوته؛ يتابع بقوّة الروح القدس التبشيرَ بالإنجيل وخدمةَ الأسرار وقيادةَ الجماعة المسيحية نحو النموّ في الشركة مع الله. وبترؤّسه الاحتفال بالإفخارستيّا، يتجلّى بأتمّ بيانٍ هذا الدور المتعدّد الوجوه الذي يقوم به الأسقف.
  6. إنّ خدمة الأسقف كرأسٍ لأبرشيّته ضروريةٌ لحياة الكنيسة وهيكليّتها ووحدتها. وبين المواهب والخدمات التي يُقيمها الروح القدس، تُعدّ الخدمة الأسقفية خدمةُ رئاسةٍ مِن أجل ضمّ الجماعة إلى الوحدة. ويعتبر القدّيس اغناطيوس الأنطاكي أنّ الأسقفَ وجماعةَ المؤمنين مرتبطون بعضهم ببعضٍ بشكلٍ جوهريٍّ، فيحثّ أهل إزمير بقوله: “اتّبعوا جميعكم الأسقف كاتّباع يسوع للآب والمتقدّمين كاتّباعكم للرسل، أمّا الشمامسة فاحترموهم كناموس الرب. لا يفعلن أحدٌ منكم شيئًا يتعلّق بالكنيسة بدون إرادة الأسقف. سرّ الشكر هو السرّ الذي يتمّمه الأسقف أو من أوكل إليه ذلك. حيث يكون الأسقف هناك يجب أن تكون الرعية كما أنّه حيث يكون المسيح هناك تكون الكنيسة الجامعة.”[12] إنّ الكنيسة المحلّية تتمحور حول الأسقف الذي يبني وحدة الكلّ ويضمن وجود مِلء الكنيسة في هذه الوحدة. وبخاصّةٍ، عندما تجتمع الكنيسة حول أسقفها للاحتفال بالإفخارستيا، فإنّها تجسّد كنيسةَ المسيح الواحدة المقدّسة الجامعة الرسولية.

II– ب- الخلافة الرسولية

  1. تجد الخلافة الرسولية معناها في سرّ الكنيسة كشركة. وبالتالي، فإنّ خلافة الأساقفة الرسولية لا يُمكن حصرها بمسألةِ أفرادٍ خدّامٍ يُنظَر إليهم بمعزلٍ عن جماعة المؤمنين. إنّ كلَّ خدمةٍ في الكنيسة مؤسّسةٌ في الأصل على الخدمة الرسولية، أي على دعوةِ وسلطةِ الشهودِ الذين رأوا المسيح القائم من الموت. إنّ الأساقفة الـمرسومين بوضع الأيدي هم علامةٌ ووسيلةٌ لتسلسل الخلافة الرسولية التي تُفهَم أساسًا على أنّها أمانةٌ للإيمان وللعمل الرسوليَّين الـمُسلَّمَين مِن الرسل.
  2. الأسقف هو الضامن الأوّل للرسولية في كلّ كنيسةٍ محلّيةٍ. فبسيامته أسقفًا، يصير خليفةً للرسل في كنيسته، مهما كانت مرتبةُ كنيسته أو امتيازاتُها بين الكنائس الأخرى. إنّ وظيفته هي أن ينقلَ تعليم الرسل فيما يخصّ المسائل الإيمانية والحياة المسيحية، وأن يشاكلهم في حياته كلِّها[13]. ومِن خلال الروح القدس، عليه أن يحافظَ على إيمان الرسل ويقود كنيستَه بالشهادة لهذا الإيمان.
  3. إنّ الخلافة الرسولية للأساقفة لها دلالةٌ تاريخيةٌ ونُهيويّة على حدّ سواءٍ، مِن خلال ربط أيّة جماعةٍ كنسيةٍ بجماعة المؤمنين الأولى والجماعة النهيوية. فمِن الناحية التاريخية، إنّ الأساقفة الـمُسامين في سياق الخلافة الرسولية هم ضمانةٌ لبقاء الكنيسة أمينةً للإرث الرسولي، وَلِما سلّمه الرسل عن أعمال يسوع وتعاليمه (را أف 2: 20). ومِن الناحية النهيوية، فَهُم يمثّلون الرسلَ بكونهم المصفّ غير المنقسم الذي يحيط بالمسيح في مجده، مصوّرين الدعوة النهائية لاجتماع جميع الأمم والشعوب في أورشليم الجديدة، أي جماعة الأيام الأخيرة (را مت 19: 28؛ رؤ 21: 14). إنّ أيّ فهمٍ تامٍّ للخلافة الرسولية الخاصّة بالأساقفة ينبغي أن يشمل البعدين التاريخي والنهيويّ، كما يلتقيان في الاحتفال الليتورجي بالأسرار الكنسية لا سيّما في الاحتفال بالإفخارستيا.
  4. وبما أنّ الأساقفة هم خلفاء “الرسل” ويرثون رسوليّة “الاثني عشر”، فالخدمة الأسقفية في الكنيسة هي جماعية بطبيعتها. فالربّ يسوع دعا “الاثني عشر” وانتدبهم كوحدةٍ، كرمزٍ إلى شعب الله الجديد المجتمِع حول المسيّا، كالبقية المجمّعة مِن الأسباط الاثني عشر، كباكورة إسرائيلَ الجديد الذي يبقى إلى الأبد. وهكذا فإنّ أهميّةَ أيّ فردٍ عضوٍ في المصفّ الرسولي تَكمُنُ فقط في كونه يشكّل إلى جانب الآخرين مجموعة “الاثني عشر”.
  5. لقد ضمن الرسل رباطَ الوحدة بين الكنائس المحلّية المنتشرة في مختلف المدن والمناطق. وقد تجلّى ذلك بأوضح صورة في مجمع أورشليم (را أع 15). بالتالي، فإنّ جزءًا أساسيًا مِن ممارسة السلطة الجماعية للأساقفة يكمن في الحفاظ على الوحدة الكنسية والسعي إليها.

III– السينودسية / الجماعية والصدارات

III– أ- الكنائس المحلّية / الأبرشيّات وأساقفتها

  1. إنّ الكنيسة كشعب الله وجسد المسيح وهيكل الروح القدس، مدعوّةٌ لعيش العبادة (leiturgia) والشهادة (martyria) والخدمة (diakonia). وفي سبيل تلك الرسالة، تلتمس الكنيسة وتتلقّى مِن الثالوث الأقدس كلَّ وسائط النعمة الضرورية، مِن خلال قراءة الكتب المقدّسة والاحتفال بالأسرار والثبات في تقليد الكنيسة الحيّ. كلّ هذه الهبات والمهامّ معمولٌ بها في الكنيسة المحلّية/ الأبرشية. مِن خلال المعمودية في الكنيسة المحلّية / الأبرشية، ينضمّ المؤمن إلى الكنيسة الواحدة المقدّسة الجامعة الرسولية. إنّ كلّ كنيسةٍ محلّيةٍ / أبرشيةٍ هي كنيسةٌ بشكلٍ حقيقيٍّ وكاملٍ، لا سيّما حين تجتمع تحت رئاسة أسقفها للاحتفال بالإفخارستيا.
  2. إنّ كلّ كنيسةٍ محلّيةٍ/ أبرشيةٍ في شركةٍ مع أسقفها هي تحقيقٌ ملموسٌ لسرّ الكنيسة، وتتّسم بكلّ الصفات التي يحبو بها المسيح كنيسته بواسطة الروح القدس. ومِن خلال أسقفها، تبقى كلُّ كنيسةٍ محلّيةٍ/ أبرشيةٍ أيضًا في شركةٍ مع الأساقفة والمؤمنين في الكنائس المحلّية/ الأبرشيات الأخرى، سواءٌ أكان على الصعيد المعاصر، مع جميع الكنائس الحالية، أم على امتداد التاريخ، مع كنائس جميع العصور. في الواقع، لا يمكن أن تقوم أيّة كنيسةٍ محلّيةٍ/ أبرشيةٍ وتوجد بنفسها، بل فقط مِن خلال الشركة مع سائر الكنائس المحلّية/ الأبرشيات الأخرى، يمكنها أن تشكّل ملءَ جسد المسيح الكنسيّ الواحد.
  3. على مرّ التاريخ، تمّ التعبير عن الشركة بين الأساقفة، على مستوى الأسرار: مِن خلال الاحتفال المشترك بالإفخارستيا وحضور الواحد رسامات الآخرين أساقفةً، وكذلك على  المستوى الأخوي: مِن خلال تبادل الرسائل، والزيارات المتبادلة بين الكنائس وعقد السينودوسات / المجامع الأسقفية. وتاريخُ الكنيسة كلّه حافلٌ بالمجامع والسينودوسات الّتي صوَّرتْ بشكلٍ ملموسٍ الشركةَ بين الأساقفة على الصعيد المحلّيّ والإقليميّ والعالمي.
  4. إنّ الشركة في الإيمان وفي الحياة الأسرارية بين الكنائس المحلّية/ الأبرشيات تقتضي الإبقاء على طابعها الخاصّ والمحافظة عليه. إنّ الوحدة التي نتصوّرها لا تعني بأيّ شكلٍ من الأشكال ابتلاعَ كنيسةٍ لأخرى أو هيمنةَ كنيسةٍ على أخرى. هذه الوحدة هي في خدمة كلِّ كنيسة من الكنائس لمساعدتها على أن تعيش مِنحَها التي نالتها مِن الروح القدس بشكلٍ أفضل.

III– ب- العلاقة بين السينودسية / المجمعية والصدارات

  1. تتجلّى الشركة بين الأساقفة وتتحقّق مِن خلال أمرين: ممارسة السينودسية/ المجمعية والصدارات في الكنيسة. فمنذ القرون الأولى، جُعِلَ تمييزٌ وتراتبيةٌ بين الكنائس الأقدم تأسيسًا والكنائس الحديثة التأسيس، وبين الكنائس الأمّ والكنائس البنات[14]، وبين كنائس المدن الرئيسية وكنائس الأرياف. وبالنسبة إلى بعض المناطق الجغرافية، تمّ التعبير قانونيًا عن هذا التمييز وعن هذه التراتبية في القوانين التي حدّدتها المجامع الأولى[15]. وأقرّت النظم القانونية للأساقفة الجالسين على كراسٍ متروبوليتية أو رئيسيةٍ، بمكانةٍ وامتيازاتٍ في حياة الكنيسة المجمعية. وهكذا، ظهرَتْ في التاريخ كراسي رؤساء الأساقفة، المطارنة، كبار الأساقفة، الجثالقة والبطاركة، الذين تمتّعوا بصدارةٍ مُعيّنةٍ بين أساقفة منطقتهم[16].
  2. إنّ السينودسية/ المجمعية والصدارات مرتبطةٌ ببعضها البعض ارتباطًا جوهريًّا. وهذا الارتباط يُعبَّر عنه جليًّا في تراث الكنيسة المشترك، ومثالٌ على ذلك القانون الـرابع والثلاثون من قوانين الرسل: “يجب أن يعرف أساقفة كلّ أمة، الأول (protos) فيما بينهم، ويعتبروه رئيسًا لهم، ولا يُقدِموا على أمرٍ خطيرٍ بدون رأيه، بل ليدبّر كلّ أسقفٍ منهم شؤون أبرشيته خاصة. ولا يُقدِمَن الأول على شيء، بدون مشاورة الجميع، وبذلك يتمّ اجتماع الرأي، ويتمجّد الله بالرب في الروح الروح القدس.” [17] يشير هذا القانون إلى الترابط الجماعيّ والتراتبيّ بين أساقفة منطقةٍ ما و”الأوّل” (protos) بينهم. وهذا الترابط يوضّحه القانون السادس من قوانين مجمع نيقية[18].
  3. إنّ الأساقفة الكبار “المتصدّرين” في منطقتهم لهم دورٌ إداريٌّ ورقابيٌّ وقضائيٌّ بين إخوتهم الأساقفة وذلك مِن أجل الوحدة. إنّ دورهم ضروريٌّ أساسًا مِن أجل صَونِ وتعزيزِ الوحدة بين الكنائس المحلّية/ الأبرشيات في منطقةٍ ما وفيما بين أساقفتها. غير أنّه لا ينبغي أن يتصرّف أيُّ “متصدّرٍ” كقائدٍ منفردٍ أو مستقلٍّ نوعًا ما عن الجسد الأكبر المؤلَّف مِن الأساقفة والمؤمنين، والذي ينتمي إليه. هو جزءٌ مِن شعب الله وجزءٌ مِن السينودس الذي يرأسه.
  4. تظهر السينودسية / المجمعية والصدارات بطرقٍ مختلفةٍ وعلى غير مستوىً في حياة الكنيسة. وقد صيغَتْ هذه الطرق والمستويات بأشكالٍ مختلفةٍ في التقليد الكاثوليكي وفي التقليد الأرثوذكسي الشرقي، سواءٌ في الماضي أم في الحاضر.

III– ج- المعنى الإكليزيولوجي للمجامع

  1. للسينودسات/للمجامع جذورٌ عميقةٌ في العهد الجديد (على سبيل المثال أع 15) وفي حياة الجماعات المسيحية الأولى. وهي نابعةٌ من جوهر الكنيسة ذاته الذي هو الشركة. فالسينودسية/الجماعية هي بُعدٌ ثابتٌ في حياة الكنيسة، حتّى في الفترات التي لا تُعقَد فيها سينودسات/مجامع. فعلى الكنيسة أن توجَدَ دائمًا وفي كلّ مكانٍ كشركةٍ حيّةٍ بين كنائس محلّية، قادُتُها يعانقون بعضهم بعضًا في الإيمان والمحبة.
  2. السينودسات/المجامع هي علاماتٌ على الحضور الديناميكيّ للروح القدس في الكنيسة. ففي ختام مجمع أورشليم، كتب الرسل في رسالتهم للمسيحيّين في أنطاكية: “قَدْ رَأَى الرُّوحُ الْقُدُسُ وَنَحْنُ أَنْ لاَ نَضَعَ عَلَيْكُمْ ثِقْلًا أَكْثَرَ غَيْرَ هَذِهِ الأَشْيَاءِ الْوَاجِبَةِ” (أع 15: 28). كلّما عقد الأساقفة سينودسات/ مجامعَ سويّةً ليتشاوروا ويشرّعوا كرعاةٍ مسؤولين، فإنّهم يعبّرون عن طبيعة الكنيسة المَبنِيَّة مِن الروح القدس كشركة. ولكنّ المجامع، بما أنّ لها أيضًا بعدًا بشريًا، فإنّها بحاجةٍ إلى قواعدَ عمليةٍ للدعوة إليها وتنظيمها وترؤّسها.
  3. إنّ البعد السينودسي/ المجمعيّ للعمل الأسقفي تجلّى بشكلٍ خاصٍّ في المسائل التي كانت تعني غيرَ كنيسةٍ محلّية أو سائر الكنائس المحلّية ككلٍّ. ومنذ العصور الأولى، نُظّمتْ في كلّ منطقةٍ عدّةُ أنواعٍ من السينودسات/ المجامع: محلّية وإقليمية. كان يمكن أن تُعقَد لأسبابٍ شتّى وفي ظروفٍ مختلفة، كما أنّ أشكالها قد تختلف بحسب تفاوت الأماكن والأوقات. وقد أُسِّسَتْ حديثًا في الكنيسة الكاثوليكية هيئاتٌ أسقفيةٌ على الصعيدين الوطني والإقليميّ. بَيْدَ أنّ المبدأ التوجيهيَّ ما برح هو نفسه، ألا وهو تفعيل سرّ الكنيسة كشركةٍ، مِن خلال العمل المشترك بين الأساقفة، تحت رئاسة مَن يعتبرونه الأوّل بينهم.
  4. تهدف السينودسات/المجامع (المحلّية والإقليمية والعالمية) إلى الحفاظ على إيمان الكنيسة وإلى بناء الكنيسة كشركةٍ على الصعد كافّة وفي جميع المجالات (الإيمان وقواعد السلوك والأسرار والليتورجية واللاهوت والكرازة والخدمة diakonia)، كما تضمن الإجماع في التعليم وقواعد السلوك. ولهذا الإجماع بُعدان: بعدٌ تعاقبيّ مع تقليد الكنيسة غير المنقطع وبعدٌ تزامنيّ مع مجموع الكنائس كافّةً في وقتٍ معيّنٍ.
  5. إنّ السينودسات/ المجامع هي في الدرجة الأولى لقاءاتٌ للأساقفة. الأسقف الذي يترأّس الاحتفال بالإفخارستيّا يترأّس أيضًا حياةَ الجماعة المحلّية، وهو بالتالي يمثّل كنيسته في اجتماعات السينودسات/المجامع. ويمكن للكهنة والشمامسة والعلمانيّين أن يلعبوا دورهم الخاصّ في الحياة السينودسية/المجمعية للكنيسة وفي عملية صنع القرار، لكنّ القراراتِ النهائيةَ تبقى منوطةً بالأساقفة الذين يصدّقون على أعمال السينودسات/ المجامع.
  6. في المجامع المسكونية التي انعقدت بالروح القدس عند الأزمات، اتّخذ الأساقفة سويّةً قراراتٍ حول مسائلَ إيمانيةٍ وسلوكيةٍ، وسنّوا قوانينَ من أجل تثبيتِ تقليدِ الرسل في ظروفٍ هدَّدَتِ الإيمانَ أو الوحدةَ أو عملَ التقديس الذي تقوم به الكنيسة عمومًا، وعرَّضتْ للخطر وجودَ الكنيسة نفسها وأمانتَها ليسوع المسيح. إنّ كنائسنا تتّفق على السلطة العليا للمجامع المسكونية التي تمثّل المرجع الأخير في صنع القرار والتعليم في المسائل الإيمانية والسلوكية.

III– د- نقاطٌ أخرى تحتاج إلى المزيد من الدراسة والمناقشة

  1. تتّفق كنائسنا مبدئيًا على تطبيق الصدارة والمجمعية على المستويَين المحلّي والإقليمي، لكنّها تختلف حول مسألة كيف يمكن أن تُطبَّق هذه المبادئ على الصعيد المسكونيّ. إنّ الكنيسة الكاثوليكية تؤكّد على الحاجة إلى خدمة بطرسية في الكنيسة، يُمارسها أسقف روما في سبيل ضمان شركة الكنائس الخاصّة في أنحاء العالم. أمّا الكنائس الأرثوذكسية الشرقية، فمن جهتها، ليس لها مركزٌ واحدٌ للشركة المسكونية، بل تعمل على أساس نموذجِ الاستقلالية والمسكونية مع الإيمان العقيديّ المشترك. إنّ لجنتنا تعتزم دراسة هذَين النموذجَين بشكلٍ أوفى مِن أجل تحديد القواسم المشتركة بيننا والاختلافات التي لا تزال عالقة.
  2. إنّ الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الأرثوذكسية الشرقية تقبلان معًا دساتيرَ إيمانِ المجامع المسكونية الثلاثة الأولى وقوانينها (نيقية 325 والقسطنطينية 381 وأفسس 431). إنّ بعض الدساتير العقائدية أو القوانين التدبيرية التي صدرتْ عن مجامعَ لاحقةٍ لدى كِلا الجانبَين، تنتمي في الواقع إلى التعليم المشترك بين كنائسنا (كإدانة الهرطقة الأوطاخية)، لكن لا كلّها. وفي ما يتعلّق ببعض دساتير الإيمان المجمعية التي قسَّمَتْ كنائسنا في التاريخ، فقد وُقِّعتْ حديثًا اتّفاقاتٌ مشتركةٌ بين الكنيسة الكاثوليكية وأكثر من كنيسة من الكنائس الأرثوذكسية الشرقية[19]. ومِن أجل توضيحِ مسائلَ تتعلّق بالمجامع المسكونية، تعتزم لجنتنا التعمّق في قضايا مثل معايير تحديد المجامع المسكونية، عدد هذه المجامع، سلطة هذه المجامع بالنسبة إلى الكنائس التي لم تكن جزءًا منها، الطابع الملزِم للقوانين والحرومات الصادرة عن المجامع الأولى (بما فيها المجامع المحلّية والإقليمية) وطريقة حلّ نقاط الخلاف المتعلّقة بالدساتير المجمعية التي قسّمَتْنا تاريخيًا.
  3. إنّ قبول القرارات المجمعية هو جزءٌ مِن العملية السينودسية/ المجمعية التي تهدف إلى رصف الجماعة المسيحية في بناء الاتفاق الجماعي في الرأي. كما أنّ قبول القرارات ودساتير الإيمان يتمّم هذه العملية، وإن كان من المسلّم به أنّ الأساقفة المجتمعين في السينودسات/ المجامع لهم أن يعلّموا بسلطانٍ، بحكمِ إرساليّتهم وسلطتهم الرسولية، حتّى قبل اكتمال عملية القبول. فإنّ هذه العملية لا يمكن للأفراد أو للسلطات تحقيقها بمعزلٍ عن بعضهم البعض، بل يجب أن تكون فعلَ شركةٍ، يشمل الجماعة المسيحية بأسرها بالإضافة إلى رعاتها. وإنّ لجنتنا تتطلّع إلى مواصلة التفكير والمناقشة في مسائل تتعلّق بمفهوم القبول. هل يمكن التفريق في عملية القبول بين ما هو جوهر الإيمان وما هي تعابيره في مختلف التقاليد الكنسية والمدارس اللاهوتية، بين ما هو عقيدة وما هي آراء لاهوتية؟ كيف يمكن أن نحدّدَ إيماننا المشترك ونقبله معًا، على أنّه “ما آمن به الجميع، في كلّ مكانٍ وعلى الدوام”، بحسب قاعدة منصور دو ليرانس[20]؟ وماذا عن دور الروح القدس في عملية القبول؟

IV– رسالة الكنيسة

  1. إنّ الكنيسة تبشيريةٌ بطبيعتها، ورسالتها تنبع مِن الوصية الختامية في الإنجيل بحسب متّى: “فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ” (مت 28: 19). وكما أُرسِل الربُّ يسوع المسيح ليُعلنَ ويحقّقَ ملكوتَ الله، أَرسلَ هو الكنيسةَ لتُعلنَ بشارة ملكوت الله بين الشعوب. إنّ الربَّ نفسه الذي يَمكثُ مع أتباعه، يعملُ معهم ومِن خلالهم (را مر 16: 20) مِن أجل إكمال رسالته بين جميع الشعوب إلى انقضاء الدهر.
  2. إنّ الأمرَ بالتعميد “بِاسْمِ الآبِ وَالاِبْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ” (مت 28: 19) هو في صُلبِ وصية الربّ. ومِن خلال الإيمان والعماد، يدخل المسيحيّ في سرّ موت المسيح وقيامته: “فَدُفِنَّا مَعَهُ بِالْمَعْمُودِيَّةِ لِلْمَوْتِ حَتَّى كَمَا أُقِيمَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ بِمَجْدِ الآبِ هَكَذَا نَسْلُكُ نَحْنُ أَيْضًا فِي جِدَّةِ الْحَيَاةِ” (رو 6: 4). ما يبدأ بالمعمودية ينمو تدريجيًا في الاحتفال بأسرار الكنيسة الأخرى ومِن خلالها. بالإضافة إلى ذلك، تمنح الأسرار نعمة الروح القدس لكلّ مؤمن فرديًا وكذلك لجميع المؤمنين جماعيًا. 
  3. إنّ جميع أعضاء الكنيسة مدعوّون للمشاركة في الرسالة التي أوكلها الله للكنيسة، كلٌّ بحسب حالته. ومع أنّ إعلانَ الإنجيل موكلٌ رسميًّا للأساقفة والكهنة والشمامسة، إلّا أنّ المسيحيّين أجمعين مدعوّون للتعاون معهم في هذه الرسالة. فعلى المسيحيّين العلمانيّين بنوعٍ خاصّ تقعُ مسؤوليّةُ الشهادة للمسيح في حياتهم العائلية وفي التزامهم الاجتماعي والمهنيّ، وفي نشاطاتهم الثقافية والسياسية.
  4. إنّ حياةَ الكنيسة الليتورجيةَ هي أيضًا موجّهةٌ نحو التبشير بملكوت الله ونَشرِه. فالكنيسة تخدم الملكوت بطرقٍ شتّى ليس أقلّها مِن خلال صلاتها، لأنّ الملكوت هو بطبيعته عطيةٌ مِن الله كما تُذكّرنا الأمثالُ والصلاة الربّانية التي علّمنا إيّاها يسوع (را مت 6: 10).
  5. كما أنّ الربّ يسوع المسيح غسل أرجل تلاميذه في العشاء الأخير، هكذا الليتورجية والخدمة مرتبطتان ببعضهما البعض. فقد طلب الربُّ مِن رسله أجمعين أن يحذوا حَذوَه: “لأَنِّي أَعْطَيْتُكُمْ مِثَالًا حَتَّى كَمَا صَنَعْتُ أَنَا بِكُمْ تَصْنَعُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا” (يو 13: 15). وأدرجَ الربُّ العديدَ مِن الأعمال ضمنَ الخدمة، مثل تقديم الطعام والشراب والمأوى وتوفير الكِساء وزيارة المرضى والسجناء. إنّ مفهوم الخدمة يتضمّن المعنى الكامل للمحبّة المسيحية العاملة نحو الآخرين: “الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هَؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ فَبِي فَعَلْتُمْ” (مت 25: 40) وبغير أنشطة الخدمة والمحبّة هذه، لا يمكن أن يكون هناك تبشيرٌ بإنجيل يسوع المسيح.
  6. على الرغم مِن الفرح الملازِم لإعلان الإنجيل، فإنّ الشهادة غالبًا ما تكون مصحوبةً بالألم والمعاناة كما يُستدَلّ من كلمة الشهادة (martyria) ذاتها. لقد كان الربّ يسوع واضحًا تجاه كُلفة التلمذة عندما انتدبَ تلاميذه للشهادة له (را مت 10: 16-42). وإنّ المسيحيّين في العالم أجمع عاشوا ظروفًا مأساويةً جدًّا، ليس في الأزمنة الغابرة وحسب، بل في العصر الحديث أيضًا، باذلين حياتهم للمسيح حتّى سفكِ الدم. وتاريخُ العديد مِن الكنائس مُسطَّرٌ بِلَونِ الشهادة الأحمر. وإشعاعُ الشهادة يُثبِتُ انتصارَ الله على قوى الكراهية والشرّ، بل ويحمل أيضًا الوعدَ بحياةٍ جديدةٍ وبثمرٍ للكنيسة جمعاء. فالشهادة martyria تستمدّ قوّتها مِن صليب المسيح إذ أنّه “إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلَكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ” (يو 12: 24). إنّ الشهداءَ في كلّ زمانٍ ومكانٍ، الواقفين أمام عرش الحمل، سيكونون أيضًا مجدَ الكنيسة في ملكوت الله الأبدي (را رؤ 7: 13-17).
  7. إنّ الالتزام بالعمل المسكونيّ هو مِن صلب رسالة الكنيسة جمعاء، وينسحب على جميع أعضائها. فالتبشير بإنجيل المصالحة مِن قِبَل مسيحيّين لا يزالون منقسمين فيما بينهم، يُضعفُ شهادتَهم. وبات من الضروري العملُ من أجل الوحدة المسيحية كي تكونَ شهادتُنا المسيحية وعملُنا التبشيري أكثر فعاليةً. علاوةً على ذلك، فالجهود من أجل الوحدة هي بحدّ ذاتها علامةٌ على عمل المصالحة الذي يجريه الله في وسطنا. لذلك يجب على المسيحيّين المثابرة من أجل إيجاد سُبُلٍ ووسائلَ جديدةٍ للتعاون الوثيق فيما بينهم، في حَمْلِ رسالتهم المشتركة، رسالةِ الأنجلة، على قدر ما تسمح لهم ظروف الزمان والمكان والثقافة.
  8. إنّه لَمِن المؤسف أنّ الاقتناص جرّح الرسالة المسيحية. فَعِوضَ الشهادةِ لمحبّةِ الله لجميع الشعوب بحسب الإرسالية، جرتْ محاولاتٌ لاستقطاب مسيحيّين آخرين بوسائلَ تتناقض والمحبّة. وبدلاً من تعزيز التضامن المسيحيّ، أضرّ الاقتناص به، من خلال استخدام وسائل تحايليّة لإجبار أعضاء الكنائس الأخرى على تبديل ولائهم. وعِوَضَ أن تصيرَ الشهادة المشتركة حقيقةً وأن تتعزّز باستمرارٍ، فإنّها تصبح مهدَّدةً ومشوّهة: “إنّنا نرفض كلّ صور الاستلال من كنيسةٍ إلى أخرى، بمعنى أن يسعى أشخاصٌ لإزعاج الكنيسة الأخرى، وذلك بضمِّ أعضاءٍ جددٍ إليهم من هذه الكنيسة، بناءً على اتّجاهات فكريةٍ أو بوسائل تتعارض مع مقتضيات المحبة المسيحية أو مع ما يجب أن تتميّز به العلاقات بين الكنائس. ينبغي أن يوقَفَ هذا الخطف بكل صورة أينما وجد. وعلى الكاثوليك والأرثوذكس أن يجاهدوا من أجل تعميق المحبة، وتنمية التشاور المتبادل، وتبادل الرأي والتعاون فى المجالات الاجتماعية والفكرية”[21].
  9. إنّ نشاط الكنيسة التبشيري يفترض أنّ لجميع الأشخاص الحقّ في اتّباع وجدانهم وأنّ لديهم الحرّية الدينية التي تُفهم على أنّها “حقّ جميع الأشخاص في السعي إلى الحقيقة والشهادة لها بما تمليه عليهم ضمائرهم. وتشملُ حرّيةَ الاعترافِ بيسوع المسيح ربًّا ومخلّصًا وحرّيةَ المسيحيّين بالشهادة لإيمانهم بالمسيح، قولاً وعملاً. إنّ الحرّيةَ الدينيةَ تنطوي على حقّ الشخص في اعتناق دينٍ ما أو تبديل دينه و’إظهار ذلك في التعليم والممارسة والعبادة والالتزام‘ بعيدًا عن أيّ إكراهٍ من شأنه أن يسيء إلى هذه الحرّية”[22].
  10. إذا سألَ مسيحيٌّ لأسبابٍ وجدانية، وهو مقتنعٌ بالحقيقة وحرٌّ مِن كلِّ ضغطٍ، الدخولَ في شركةٍ تامّةٍ مع كنيسةٍ أخرى، فمِن الواجب احترام ذلك على أنّه تعبيرٌ عن الحرّية الدينية. ففي مثل هذه الحالة، ليس بالضرورة أن تكونَ المسألةُ اقتناصًا بالمعنى السلبي للكلمة، هذا المعنى الذي يجب رفضه دائمًا. وبالمقابل، لا ينبغي أيضًا استغلالُ مفهوم الحرّية الدينية لتبرير أعمال الاقتناص.
  11. إنّ التنديد بالاقتناص غير كافٍ. فرعاةُ كنائسنا ومؤمنوها بحاجةٍ لأن يواصلوا تهيئة أنفسهم لشهادةٍ مسيحيّةٍ مشتركةٍ صادقةٍ، عبر الصلاة معًا والتربية الدينية المشتركة، والاحترام المتبادل في الخطاب الدينيّ، والتنسيق في الأنشطة الراعوية، والخدمة المشتركة (diakonia) في الحقلَين الإنساني والاجتماعي. لذا مِن المهمّ جدًّا أن يكونَ هناك تواصلٌ متواترٌ ومنتظمٌ بين الأساقفة الكاثوليك وسواهم من الرؤساء الدينيّين الكاثوليك من جهة، ونظرائهم الأرثوذكس الشرقيّين من جهة أخرى.

الخلاصة

  1. إنّ أعضاء اللجنة المشتركة يشكرون الله لتمكّنهم مِن إعداد هذه الوثيقة الّتي تُظهر مساحةً واسعةً من الاتّفاق بين الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الأرثوذكسية الشرقية، حول مسائل أساسية تتعلّق بمفهوم الكنيسة. وهم يتوقّعون ويلتزمون بأن يكون القيامُ بالمزيد مِن الدراسة والمناقشة بناءً على قاعدة هذه الوثيقة الصلبة، ممكنًا في ما خصّ المسائل الباقية على جدول أعمال اللجنة (راجع جدول الأعمال). بعض هذه المسائل يظهر في خطّة العمل الأصلية التي وضعتها اللّجنة المشتركة، والبعض الآخر تم تحديده في الوثيقة التي بين أيدينا. تعتزم اللجنة مواصلةَ عملِها على مجمل هذه المسائل، بحسب الترتيب الأفضل الذي مِن شأنه أن يسهّلَ تعميقَ التفاهمِ المتبادل والشهادة المشتركة، على طريقنا نحو الشركة الكاملة، مِن خلال الوصول إلى الوحدة التامّة في الإيمان. إنّنا لمتّكلون على نعمة الله في مسعانا هذا ونرفع هذه الوثيقة إلى أصحاب السلطة في كنائسنا للنظر فيها وإجراء ما يلزم.

روما، في 29 كانون الثاني 2009

[1] بعد أن قدّمت المجلة البطريركية في عددها السابق 53، 2015، ص 65-88، ترجمةً للوثيقة الثانية التي أصدرتها اللجنة المشتركة للحوار، بعنوان: “ممارسة الشركة في حياة الكنيسة الأولى وتأثيرها على سعينا نحو الشركة اليوم“، يسرّ المجلّة أن تنشر في هذا العدد ترجمة عربية (غير رسمية) للوثيقة الأولى التي أصدرتها اللجنة المشتركة، نظرًا إلى أهميّتها على الصعيد المسكوني.

[2] في النص اليوناني الأصلي.

[3] الترجمة العربية للنصوص الكتابية مقتبسة عن ترجمة فاندايك.

[4] كيرلس الإسكندري، تفسير إنجيل يوحنا، 17: 20-21، الكتاب 11، الفصل 11.

[5] Gregory of Datev, Book of Questions, “Why the Church is one?”, St. James Printing House, Jerusalem, 1993, p. 533.

[6] كيرلّس الأورشليمي (314-387)، العظات، تعريب الأب جورج نصور، أقدم النصوص المسيحية، سلسلة النصوص الليتورجيّة 2، الكسليك 1982، 18: 23، ص 368.

[7] Yovhan of Otzoun, Armenian Classical Authors, Volume VII, Armenian Catholicosate of Cilicia, Antelias, Lebanon 2007, p. 96.

[8] Cf. 1 Clement 44.

[9] را أع 20: 28؛ رسالة أهل رومة إلى أهل كورنثوس (كليمنضوس الأولى)، 42-44.

[10] “على الجميع أيضًا أن يحترموا الشمامسة كالمسيح يسوع والأسقف كصورة للآب والكهنة كمجلس الله ومصفّ الرسل. بدون هؤلاء لا توجد كنيسة.” (إغناطيوس النوراني، الرسالة إلى أهل تراليان، 3: 1، في الآباء الرسوليون، تعريب المطران الياس معوض، سلسلة آباء الكنيسة 1، منشورات النور 1970، ص 120)

[11]  مجمع نيقية، القانون الرابع: “يجب الاعتناء للغاية، بأن يُسام الأسقف من قبل أساقفة المقاطعة كلّهم. وإذا تعذّر ذلك، لضرورة قاهرة، أو لأسباب طارئة، أو لبعد المسافات، فينبغي أن يجتمع ثلاثة أساقفة على الأقلّ في مكانٍ واحد، لشرطنته، بعد أن يوافق الغائبون كتابةً. أمّا تثبيت ما أُنجِز، فيعود أمره، في كل مقاطعة، إلى المتروبوليت.” (الأب ميشال أبرص – الأب أنطوان عرب، المجمع المسكوني الأول نيقيا الأوّل، 325، سلسلة تاريخ المجامع المسكونية والكبرى 2، بيروت 1997، ص 314)

[12] إغناطيوس النوراني، الرسالة إلى إزمير، 8: 1-2، في الآباء الرسوليون، مرجع سابق، ص 135-136.

[13]  راجع إيريناوس أسقف ليون، ضدّ الهرطقات، الكتاب الرابع، 26: 5: “حيث أودِعتْ مواهبُ الله، هناك ينبغي تعلّم الحقيقة، أي وسط الذين فيهم تجتمع الخلافة في الكنيسة منذ الرسل، واستقامة السلوك التي لا مأخذ عليها ونقاوة الكلام التي لا فساد فيها.”

[14] أي الخارجة من كنف الكنيسة الأمّ، المتفرّعة منها أو التابعة لها (المترجم).

[15] على سبيل المثال، مجمع نيقية، القانون السادس: “فلتُحفَظ العادات القديمة في مصر وليبيا والمدن الخمس، في أنّ لأسقف الإسكندرية، السلطان والرئاسة على كلّ هذه الأقاليم؛ وعلى ما هي عليه العادة من جهة أسقف روما أيضًا. ولتُحفَظ كذلك في أنطاكية وبقية المقاطعات، امتيازات كلّ كنيسة وحقوقها القديمة.” (المجمع المسكوني الأول نيقيا الأوّل، 325، مرجع سابق، ص 314)

[16]  في عصور الكنيسة الأولى، تأسّستْ صدارات مناطقية داخل الإمبراطورية الرومانية (في روما، الإسكندرية وأنطاكية، على سبيل المثال)، وكذلك خارج حدود الإمبراطورية الرومانية (في أرمينيا، جيورجيا وألبانيا القوقازية، على سبيل المثال)؛ وفي العصور الحديثة، تأسّستْ صدارات مناطقية في بلدان مختلفة (في أثيوبيا والهند، مثلاً).

[17] المجمع المسكوني الأول نيقيا الأوّل، 325، مرجع سابق، ص 395.

[18] “وليكن معلومًا لدى الجميع في كلّ مكان، أنّ كلّ من يصبح أسقفًا دون موافقة المتروبوليت، فإنّ المجمع الكبير هذا لا يعتبره أسقفًا. على أنّه إذا عارض أسقفان أو ثلاثة لأسبابٍ شخصية، انتخابًا أجراه سائر الأساقفة، بطريقة قويمة منسجمة وشرائع الكنيسة، فليكن انتخاب الأكثرية ثابتًا.” (المجمع المسكوني الأول نيقيا الأوّل، 325، مرجع سابق، ص 314).

[19] على سبيل المثال، الاتفاقات الخريستولوجية الموقّعة بين الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة القبطية الأرثوذكسية، والكنيسة السريانية الأرثوذكسية، وكنيسة ملنكارا السريانية الأرثوذكسية، وكنيسة ملنكارا الأرثوذكسية السريانية.

[20] English translation from The Commonitory, Chapter II n. 6, Nicene and Post-Nicene Fathers of the Church, Vol. 11, p. 132. 

[21] راجع البيان المشترك الذي وقّعه البابا بولس السادس والبابا شنوده الثالث، في 10 أيار 1973.

جميع الحقوق محفوظة لموقع دائرة الدراسات السريانية ©