حياة القديس البطريرك ألياس الثالث

البطريرك الياس الثالث (1917-1932)
بقلم المطران أثناسيوس أفرام برصوم (1932-2016)، مطران بيروت (1965-2008)

هو ابن الخوري إبراهيم شاكر، وُلد في ماردين عام 1867 ودُعي في المعمودية نصري. درس في مدارس منطقته وأحب صناعة الصياغة، وأُصيب وهو بعد فتى بمرض جلدي مزعج لم يُشفَ منه إلّا بعد أدعية ونذورات من قبل والديه المؤمنين، وقد نذره أبواه إذا هو شُفي أن يقدّماه للرب، وقد شُفي فعلاً والتحق بدير الزعفران القريب من بلدته العريقة وأحبّ حياة الرهبانية التي التحف بمسوحها عام ١889‏ واتّخذ له اسم الياس ورُسم كاهنًا عام 1892، وعُيّن رئيساً لدير مار قرياقس في البشيرية، ومن ثم لمدة سنة لرئاسة دير الزعفران. وقد أظهرت سنوات الضيقات والجوع تلك، مدى غيرته وعنايته بالمحتاجين و لاسيما الأيتام الذين تجاوز عددهم المائة والذين كانوا قد لجأوا إلى دير الزعفران حلال مذابح عام ١895‏ وبعدها، نزولا على رغبة البطريرك عبد المسيح الثاني وكان هذا الدير التاريخي الذي صار مقرًّا للكرسي الرسولي الإنطاكي لأكثر من سبعة قرون، بمثابة سفينة نوح يستقبل المنكوبين والمضطهدين والمطاردين من قبل الظالمين، فيمنحهم حياة الطمأنينة والهدوء ويوفر لهم كل وسائل العيش الكريم، لا سيما بالنسبة إلى القرى القريية منه والتي كان يقطنها السريان المنكود حظهم والذين تعرّضوا عدّة مرات للقتل والنهب والتشريد. وفي عام ١899‏ أوفدته الرئاسة زائراً رسوليًّا إلى مذيات وكانت في تلك الأيام تغصّ بالسريان وفيها الكنائس والمزارات، وكانت الكتلكة وسائر الشيع تُحاول اقتحام قلعتها فتصدّى لهم هذا الأب الغيور ودافع عن حق الأرثوذكسية فيها وصالح المتخالفين والزعامات الفارغة.
وانتقل من ثم إلى النيابة في ديار بكر حيث درس اللغة التركيّة فأجادها ونال إعجاب الذين يتحدثون بها بالولادة كونه وُلد في مدينة لغة أهلها العربية، وكان يُدافع عن المظلومين ويساعد ذوي الحاجة، وفي هذه الفترة بنى جانبًا من كنيسة ميافرقاط المهدّمة فصلّى المؤمنون في هذا الجزء. وفي عام 1908 انتخبته أبرشية ديار بكر ليصير مطرانًا عليها، وقدّمت بذلك طلبًا رسميًّا إلى البطريرك عبد الله الذي رسم الربّان الياس شاكر مطرانًا وذلك في 2/3/1908 باسم مار إيوانيس، وقد وصلتْ إليّ عصا اليد التي كان يحملها في حينه وهي من خشب الأبنوس الأسود وبرأس فضّيّة أنيقة وذلك يوم زرتُ تركيا عام 1971 وقد نُقش تحت الرأس بيت من الشعر لابن العبري يقول: ܚܘܒܟ ܢܓܕܢܝ ܠܡܟܗܢܘ ܠܟ ܥܙܝܙܐ والخ… وسلمتُها إلى البطريركية الجليلة مع بعض المناشير القديمة، طالبًا من الأخوة الأحبار في أحد المجامع بأن يفعلوا الشيء ذاته، حتى يجتمع في البطريركية مع الأيام الأشياء القديمة العائدة إلى الكنيسة فتصير خميرة لمتحف في المستقبل.
وفي عام 19١١‏ أوفد إلى طورعبدين كقاصد رسولي وذلك لإصلاح أحوالها، فتفقد كنائسها وأسّس سبع مدارس ابتدائية في قراها وفي آذار من عام 1912، نُقلت خدماته إلى مطرانية الموصل؛ ولدى وفاة البطريرك عبد الله عام ١915‏ اختير كقائمقام للكنيسة فانتقل على الأثر إلى دير الزعفران والحرب العالمية الأولى في أوجها، ودعا أحبار الكنيسة للإنتتخاب البطريركي فاتتخبوه بطريركاً ورسمه الآباء في احتفال كبير بإسم الياس الثالث وذلك في 12/2/1917 وقد شارك في الإنتخاب الربان افرام اسطفان برصوم مُمثّلًا أبرشيّة القدس والأراضي المقدّسة والذي رقّاه البطريرك الجديد لدرجة الأسقفية السامية ورسمه في العشرين من أيار عام 1918 لأبرشية سوريا ودعاه سويريوس؛ وفي السنة التالية رافق المطران أفرام البطريرك في بعض زياراته وفي مقدمتها استانبول حيث نال البطريرك الجديد براءة السلطان وحيد الدين آخر سلاطنة بني عثمان والنيشان المجيدي من الدرجة الأولى، وأوفد من ثم المطران برصوم إلى مؤتمر السلام في باريس عام 1919‏ حيث قدّم مذكّرة خطية دقيقة ومدروسة تنطوي على الخسائر في الأرواح والممتلكات التي لحقت بالطائفة السريانية الأرثوذكسيّة، وتبيّن من المذكرة بأنّ ثلث الطائفة السريانية الأرثوذكسية أُبيدوا (136‏ ألفاً تقرييًا) إلى جانب الكنائس والأديرة القديمة التي هُدمت وإلخ… وتظاهر زعماء أوروبا الكبار بأنهم يستمعون ولكنّهم في السر كانوا يتقاسمون تركة المملكة العثمانية (الرجل المريض كما كانوا يسمّونها) وما ناله المطران برصوم المتحمس عداوة الأتراك لا سيما الزعماء منهم مثل عصمت انونو الذي خلف أتاتورك في رئاسة جَمهورية تركية والذي هدّد المطران برصوم في نهاية المؤتمر بأن يجرؤ على دخول تركية، فلم تطأ قدم المطران أفرام برصوم أرض تركية منذ ذلك الحين. أمّا البطريرك فإنّه زار بدءًا من عام 1919 ديار بكر والرها وحلب وحَماة ودمشق وزحلة وبيروت ونال التوصيات بالمحافظة على نصارى بيث نهرين، وعند إلغاء السلطنة وإعلان الجمهورية أرسل برقية تهنئة إلى مصطفى كمال الذي إنتتخب كأول رئيس للجمهورية التركية.
وسافر من ثم إلى القدس فدمشق فحلب فأنقرة وقابل أتاتورك شخصيًّا في محطة سكة الحديد، وعاد إلى حلب حيث رسم عام 1923 المطرانين يوحنا عباجي وسمّاه قليميس وذلك لأبرشية دير مار متى والراهب جبرائيل أنطو لدير مار مرقس بالقدس. وسافر إلى ماردين مارًّا بأورفا وديار بكر حيث استُقبِل بحفاوة منقطعة النظير بالنظر للمحبة التي كان يكنها له الناس من جميع الطوائف والنحل ووجد المؤمنون في شخصه كل التعزية. وفي عام ١923‏ حضر إلى دير الزعفران المطران ديونيبسيوس كوركيس الهندي حامل فكرة الإنفصال عن أنطاكية ومعه الكاهنان إبراهيم وزكريا. فاستقبلهما البطريرك برقّته المعهودة وقلبه الكبير، ودعا الراهبين يوحنا كندور والياس قورو ورسمهما مطرانين الأول بإسم إيونيس والثاني باسم يوليوس وأوفد هذا الأخير إلى ملبار كقاصد رسولي مع المطران الهندي و كاهنيه وهو يحمل منشورًا رسميًّا ربط به الهندي حتى إذا تاب وسار بموجب قوانين الكنيسة، أخبر مار يوليوس قداسته ليحلّه وإلّا فلا. وجاء البطريرك الياس إلى حلب حيث قدّس كنيستها الجديدة التي على اسم مار افرام والتي بناها الوجيه السيد سليم عازار في حي السليمانية وذلك يوم الأحد السابع من كانون الأول، وكان يساعده في ذلك مطران الأبرشية مار سويريوس أفرام برصوم، ورسم لهذه الكنيسة كاهناً هو الشمّاس الياس شيلازي، وفي هذا الشهر قدّس أيضاً كنيسة مار جرجس في زحلة – الميدان، وانحدر من ثمّ إلى القدس، حيث أرسى حجر الأساس لكنيسة مار أفرام في بيت لحم وأعاد إصدار مجلّة “الحكمة” ودعم مدرستها وعيّن لها مديراً جديداً هو الأستاذ مراد فؤاد جقّي وشقيقه ميخائيل. وعيّن الربّان يوحنا دولباني ليعلّم الطلاب مادة الدين واللغة السريانية. وفي عام 1927 ذهب إلى شمال العراق حيث بنى عدّة قلالي في دير مار متى الشهير، وقد حدّثني بعض من شاهدوه أو شاركوه في عملية البناء، بأنّه كان يساعد العمّال بيده، وقد حاولوا يومًا إزاحة صخرة كبيرة عن طريق الدير الجبلي (الطبكي) فلم يتمكنوا من ذلك بالنظر لضخامتها، فتقدّم هو من الصحرة الكبيرة وبعد أن رسم عليها إشارة الصليب المقدس، سند ظهره إلى صخرة أخرى مقابل الصخرة الكبيرة ودفعها برجله اليمنى، فتحرّكت ببطء من مكانها ثم انحدرت إلى الوادي بين صيحات الفرح والدعاء لقداسته بطول العمر.
كان، نفعنا الله بمقبول دعاه، بهيّ الطلعة أنيقًا، وقد شوهد عدّة مرات يجلس القرفصاء في صالة المطرانية ويفصّل ثيابه السوداء أو الملوّنة الخاصّة بالقدّاس بيده، وكانت لِحيّته طويلة كثّة مهيبة ونظراته تنم عن ذكاء فطري، يُحبّه الناس من جَميع الطوائف بالنظر لطيبته لا سيما عندما كان يركب صهوة جواده في تركيا وقراها وهو بزيّه الأنيق وابتسامته العذبة ونياشينه العديدة، وكان يُدخن إلّا أنّه أقلع عن التدخين بناء على نصيحة الأطباء بعد إصابته بمرض في القلب. قدّس الميرون ست مرات، ثلاث مرات في دير مار مرقس في أورشليم، ومرّتين في دير الزعفران؛ ومرة في كنيسة الطاهرة في الموصل.
وفي التشارين من عام 1930 دعا إلى عقد مجمع ف دير مار متى حضره معظم آباء الكنيسة وبعض مندوبين علمانيين من الأبرشيّات السريانية وكانت هذه خطوة رائدة دلّت على بعد نظر قداسته في أنّ للعلمانيّين أيضًا دورًا في الكنيسة. وفي هذا المجمع اتُّخذت عدّة قرارات مفيدة، كما أذن باستعمال الموسيقى خلال الخدمات الدينية، وأكل السمك في الأصوام. وخلال وجوده في العراق زاره ذات يوم المفوّض السامي الإنكليزي ونقل إليه دعوة موجهة من فايسروي الهند (نائب الملك) اللورد ايروين لزيارة الهند، ومُحاولة حلّ مشاكلها. علمًا بأنّ الأتراك كانوا قد نزعوا عنه الجنسيّة التركيّة فزوّده الإنكليز بجواز مرور.
إنّ هذه الدعوة في الواقع كانت شركاً هندياً، أراد به خبثاؤهم استدراج البطريرك الطيب إلى عش الزنابير بواسطة اللورد ايروين حى يفاوضوه في موطنهم من موقع قوّة، فإمّا أن يوافقهم على باطلهم وعلى ما صنعه البطريرك المعزول عبد المسيح أو يزعجوه بشكل سافر ووقح. وتبيّن بأنّ معظم الأحبار وفي مقدمتهم المطران أفرام برصوم وأبناء الرعية لا سيما في الموصل التمسوا منه بحرارة بأن لا يلبي هذه الدعوة المشؤومة لا سيّما وأنه يعاني من نوع من أنواع أمراض القلب، إلّا أنّه في النتيجة استعدّ لهذه الرحلة لسبب بسيط هو أنّ التضحية صفة ملازمة لبطا ركتنا العظام، لا سيّما أولئك الذين ذهبوا إلى الهند ورقدوا في ترابها، وكان البطريرك الياس واحدًا من أولئك الأحبار العظام.
كان يوم 6/2/1931 يومًا حزينًا في الموصل، رتّل فيه الكهنة والشمامسة تراتيل الوداع الحزينة بالسريانية وبكوا بحرقة وكأنّهم أحسوا بأنّهم لن يروا راعيهم الصالح ثانية، رتّلوا
ܢܦܩ ܝܘܢܢ ܡܢ ܓܘ ܢܝܢܘܐ ܘܟܪܝܬ ܠܗ܆ ܢܦܩܘ ܢܝܢܘ̈ܝܐ ܡܠܘܝܢ ܠܗ ܘܗܟܢ ܐܡܪܝܢ. ܙܠ ܒܫܪܪܐ ܟܪܘܙܐ ܕܫܪܪܐ ܕܐܦܢܝܬܢ ܡܢ ܛܥܝܘܬܐ ܠܐܘܪܚܐ ܕܚܝ̈ܐ.
ومعناها : خرج يونان من نينوى حزينًا، وخرج أهل نينوى في وداعه مرتلين: إذهب بسلام يا كاروز الحق، لأنّك أعدتنا من الضلال إلى طريق الحياة.
ووقف المودعون وعيونهم مسمّرة على السيارات المتوجهة إلى بغداد حتّى غابت عن أنظارهم فعادوا إلى الموصل دامعين، وفي بغداد زار البطريرك ملك العراق فيصل الأول فاستقبله بحفاوة كبيرة، و كذلك فعل اللورد ايروين في دلهي، ومعظم المسؤولين الكبار، بمن فيهم مهراجات كوتشين وترافنكور، والجميع منحوه الأوسمة الرفيعة كما كانت تقضي عادات تلك الأيام. كان السريان الهنود في تلك الأيام شديدي الولاء للبطريرك الأنطاكي ويعتبرونه المرجع الديني الأعلى لهم، تمامًا مثل البابا بالنسبة إلى الكاثوليك. وكان هذا الولاء سائداً حتّى في أيام انحطاطنا في القرون الأخيرة بسبب الاضطهادات والمظالم، في الوقت الذي كان الهنود يتثقّفون ويتقدّمون ويزدادون عددًا، لذلك اعتنقت قلة من الهنود فكرة الإنفصال لأنّهم الأقوى إكليريكيين وعلمانيين لا سيّما أولئك الذين زاروا ديارنا وعاينوا حقيقة أوضاعنا وهزالنا، فعددنا قليل وأديرتنا ومعاهدنا خالية وخاوية، وأكليروسنا شبه أمّي، بينما الهنود على العكس منذلك عددهم يزداد فهم يتوالدون ومناطق تواجدهم أمينة وهادئة، وهم بطبيعتهم يُحبون العلم بل في وقت من الأوقات كانت نسبة المثقفين من السريان تشكّل أعلى نسبة في الهند، كما أفادنا عام 1964‏ الدكتور زكير حسين نائب رئيس الجمهورية. وتعلّموا كيف يزرعون الشاي والقهوة وحَبّ الهال والمطّاط وكل هذه الزراعات تدرّ عل أصحابها أرباحًا طائلة وبالتالي فإنّ أغنياءهم تزايدوا وترفّهوا. وكانت أبرشياتنا لا سيّما الشمالية منها تدين بالولاء للبطريرك الإنطاكي أيام زيارة البطريرك الياس. وذات يوم وفيما كان البطريرك في دير علواي بأبرشية انكمالي، مُجتمعًا بالمطارنة قورو وعباحي وبولس والرهبان قرياقس تنّورجي ويشوع صموئيل جاء من يخبر البطريرك بأن المطران كوركيس الهندي المحروم قد حضر. كان البطريرك عبدالله قد حرمه بسبب أفكاره الانفصالية ضد رغبة غالبية الهنود، ودخل الصالة وهو يرتجف ويردّد ܡܪܢ ܡܪܢ ܫܒܘܩ ܠܝ ܣܟܠܘܬܝ سيدي اغفر لي جهالتي. وما إن اقترب من البطريرك الذي فوجىء بدخوله مع سائر المتواجدين في الصالة حتّى ركع “وطه شيري” أمامه وهو يردّد هذه العبارة. فما كان من البطريرك إلّ أن مدّ له يديه ورفعه وعانقه قائلاً: لقد حللتك من حرمانك. وطلب من جميع الموجودين في الصالة أن يفعلوا الشيء ذاته، وأن يعانقوه. وسادت الفرحة وتفاءل الكلّ بقدوم الخير والسلام، والواقع بأنّ الأمر لم يكن كما توهّم جانب البطريرك، لأنّ ما كان ييطنه كوركيس الخبيث كان غير ما كان يفكر به البطريرك الياس الطيّب. وقد أثبتت الأيّام ذلك، إذ كان كوركيس بدأ يرصد تحركات البطريرك في زياراته للأبرشيات ويرسل مشاغبيه إلى الكنائس التي كان يزورها وذلك لإفساد مقاصد الزيارة ومراميها، بأن يحيطوا بالمكان ويصيحوا “سماثانم” أي نريد السلام. والله وحده كان يعلم من هو مع السلام الحقيقي ومن هو ضدّه، وما هو مفهوم السلام بالنسبة إلى “كوركيس وطه شيري” وما هو مفهوم السلام بالنسبة إلى البطريرك الطيب القلب. فسلام وطه شيري كان أن يقبل البطريرك بما صنعه البطريرك المعزول عبد المسيح الثاني أي الْحصول على رتبة المفريانية المشابمة لرتبة البطريركية تمهيدًا لإعلان الإنفصال عن البطريركية وبالتالي الاستغناء عنها نهائيًّا، في الوقت الذي لم يكن هذا رأي الغالبية العظمى من الهنود. بينما سلام البطريرك كان رفض كل شيء صنعه البطريرك عمسيح المعزول واعتبار كلّ عمل قام به باطلًا، وبعبارة أخرى شرعنة تلك الأعمال وإصلاحها وذلك بإعادة رسامتهم وكان معظم الهنود مع البطريرك وما يُمثل من شرعية وتسلسل رسولي، وكان كل فرد في هذا الجانب الذي يشكّل الغالبية يردّد قائلاً: “نحن لا نستطيع أن نترك أنطاكية التي جعلتنا أعضاء في كنيسة رسولية منحتنا الخلاص”. لذلك لاحظنا بأنّ كل مُحاولة في جعل جانب البطريرك أن ينتمي إلى الطرف الآخر ولو في محاولة خاطئة لتوحيد الكنيسة كانوا يرفضون ذلك كونها ضدّ قناعتهم، وكانوا عندما يجدون الطريق أمامهم مسدودًا ينتمون إلى الكثلكة قائلين: هذه على الأقلّ كنيسة رسوليّة. وظلّت الأمور تدور في حلقة مفرغة ومرّت السنوات وقوي مع الأيام جانب الإنفصاليين لأسباب قومية وميل الهنود إلى الإنفصال معتبرين علاقتهم بإنطاكية نوعًا من الاستعمار وكانت الدولة الهندية ضمنا مع دعاة الانفصال وتميل إليهم، وتصدر الأحكام في معظم الحالات لصالِحهم.
من العادات الجارية في تلك الأيام أن يكون للبطريرك وحتّى للمطران قواص أو ياور يُختار عادة من الرجال الأقوياء مِمَّن له جثّة ضخمة وشاربان معقوفان، ويرتدي في الحفلات الرسميّة ثيابًا خاصّة مزركشة بالقصب من القمصلة وحتّى الشروال، ويعتمر طربوشًا ويحمل سيفًا وكرباجًا ويسير أمام البطريرك أو المطران. وقد حضر مع البطريرك الياس قوّاصه، إلّا أنّه بعد مرور أسابيع قليلة أُصيب بمرض (الجوري) وهو نوع من الحكاك الهندي المزعج الذي يسلب المصاب به لذّة النوم إلّا أنّه لا يصيب جميع الوافدين إلى الهند، فأنا مثلًا ععشت في الهند أكثر من ثلاث سنوات ولم أُصَب به ولله الحمد.
وإذ ازداد الجوري على القوّاص، التمس من قداسة البطريرك أن يأذن له بالعودة إلى وطنه، وفعلًا عاد، ولحسن الحظّ كان يعيش في تلك الأيام في ملبار شخص طوراني اسمه كبريال صوما حضر إلى الهند قبل قدوم البطريرك بعشر سنوات وتزوّج من هندية سريانية وأنجب منها تسعة أولاد، وكانت له كل مواصفات القواص، فحلّ محلّ القواص القديم ويمتاز عنه كونه كان يتحدّث اللغة المحلية أي المليالم. وذات يوم وبينما كان البطريرك الياس في كنيسة كوربمبدي، ملأ أتباع وطه شيري الكنيسة قبل أن يَحضر البطريرك، ولدى حضوره ضجّوا بالصراخ (سماثانم) فسار البطريرك وحاشيته بهدوء إلى المذبح واستدار وقال للصارخين :ܠܐ ܕܚܠܝܢܢ ܡܢ ܒܝܫܐ ܡܛܠ ܕܡܪܝܐ ܥܡܢ ܗ̱ܘ. ܙܝܢܗ ܕܡܫܝܚܐ ܥܡܢ ܘܒܗ ܟܠܢ ܡܫܬܒܗܪܝܢܢ.
ومعناها أننا لا تتخشى من الشرير لأن الرب معنا. سلاح المسيح معنا وبه كلنا نفتخر.
وإذ لاحظ بأنّهم لن يتركوه يلقي موعظته سار يريد مغادرة الكنيسة ومعه الحاشية. ولاحظ كبريال بأنّ واحدًا من المشاغبين اقترب من البطريرك ومدّ رجله يريد فركشة البطريرك فانّجه نحوه بسرعة ووضع رأسه تحت إبطه وضغط عليه فكاد يختنق فسمع كبريال البطريرك يُخاطبه قائلاً : دعه يذهب، فتر كه كبريال. فسقط الهندي على الأرض، وصار هزءًا وخاف الباقون. إذن لن يرعووا باللجوء إلى مثل هذه الأساليب التافهة والرخيصة في محاولة لإلحاق الإهانة بهذه الشخصية الكبيرة. إلّا أنّ البطريرك الياس استمرّ في تفقّد الكنائس وإلقاء المواعظ والاحتفال بالقداديس من أجل إفادة المؤمنين البسطاء و كانوا الغالبية في تلك الأيام، إلى أن كان يوم السبت 13‏ شباط 1932،‏ وبينما كان يَمشي في حوش كنيسة مار اسطيفانس في قرية أومللور في الجنوب قال للموجودين معه “داخ رأسي” فجاؤوا به إلى سريره وارتمى عليه، وخفّ سكرتيره زكريا شاكر إلى صندوق صغير فيه علبة النشادر الذي كان الأطباء قد أوصوه بتقريبه من أنفه في مثل هذه الحالات، وكان في الماضي يستفيق، إلّا أنّه في هذه المرة لم يتجاوب أبدًا مع النشادر، فاستدعت الحاشية الأطباء القريبين فأفادوا بعد فحصه بدقّة بأنّه توفّي. وهو أول بطريرك يرقد ويُدفن في تلك البلاد البعيدة وهو ابن 65 عامًا، حيث أُقيم فوق ضريحه مقام جليل تحوّل إلى مزار فكنيسة فخمة ودير صغير أقمت فيه أكثر من ثلاث سنوات. أبرق المطرانان عبه جي وقورو فورًا إلى المطران أفرام برصوم مطران سوريا ولبنان في ذلك الحين وطلبا منه أن يُبلغ العالم السرياني بهذا الخطب الجلل وأتبعا البرقيّة برسالة ضافية بالكرشوني تحدّثا فيها بالتفصيل عن حادثة الوفاة وكيف جرت مع حفلة التجنيز التي حضرها جَميع الأحبار والأكليروس والشعب الهندي المؤمن.
وفي ما يلي نموذج من كتابات البطريرك الياس الثالث وهو عبارة عن منشور مجمع دير مار متّى المنعقد في التشارين من عام 1930.
ܒܫܡ ܐܝܬܝܐ ܡܬܘܡܝܐ . ܐܠܨ ܐܝܬܘܬܐ ܕܟܠ ܐܚܝܕ܆
ܐܝܓܢܐܛܝܘܣ ܦܛܪܘܣ ܕܟܘܪܣܝܐ ܫܠܝܚܝܐ ܕܐܢܛܝܘܟܝܐ܆
ܕܗܘ ܐܠܝܐܣ ܬܠܝܬܝܐ ܡ

البركة الرسولية والسلام بالرب يسوع، إلى إخوتنا السادة المطارنة الأجلاء، وأبنائنا نواب الأبرشيات، والخوارنة والرهبان والقسوس والشمامسة الأحباء، وحضرات الوجهاء والأدباء، مع جميع أفراد شعبنا السرياني الأرثوذكسي الأعزاء، الخاضعين
لكرسينا الإنطاكي الرسولي المقدّس المؤيّد من الله حفظكم الرب الإله بغزير بركاته العلوية، بشفاعة السيدة مريم العذراء وسائر الشهداء والقديسين آمين.
بعد افتقاد خواطركم العزيزة نقول: إن السلطان الذي أعطانا إياه الرب للبنيان (2كو13/ 10، قد دعانا مع بعض أعزائنا السادة مطارنة الأبرشيات الأجلاء، إلى عقد مجمع إداري، للنظر في ما طرأ من التغيير والإهمال على بعض قوانين كنيستنا المقدّسة وتسوية حاحاتها ولوضع أنظمة تضمن إصلاح ماهو مفتقر إلى الإصلاح من أحوالنا الطائفية، ولَمّا كانت أحوال الزمان وظروفه الصعبة تَحول دون عقد هذا الاجتماع في سالف الزمان منذ عهد بعيد، ورأينا أن حاجتنا تزداد مع مرور الأيام، أمرنا بعقد المجمع في دير مار متّى بالموصل فاجتمع معنا أخوتنا الموقرون : أثناسيوس توما قصير مطران حلب وتوابعها، ومار سويريوس أفرام برصوم مطران، مطران سورية ولبنان، ومار اقليميس يوحنا عباجي مطران أبرشية دير مار متى سابقاً وولدنا الخورفسقوفس سليمان نائب الأبرشية المذكورة، وتأخّر بقية السادة لأسباب متنوعة، وقد حضر معنا أيضا بناء على دعوتنا بعض أولادنا الكهنة والوجهاء والأدباء مُمثّلي الأبرشيات ليعرضوا حاجات بلادهم ويشتركوا بالأمور الإدارية فقط. وَلَمّا كانت حاجات الكنيسة ومشاكلها كثيرة اكتفى المجمع بست عشرة جلسة قرَّر فيها واحد وأربعين قرارًا إدارياً وأضاف قوانين إلى قانون الرهبانية وسنّ قانونًا للمجالس الملية مؤجّلاً النظر في قانون الكنيسة العام وإنجاز ما تبقى من الأعمال إلى مجامع أخرى تضمّ جَميع الأخوة المطارنة في سائر أبرشياتنا السريانية بعونه تعالى في أقرب وقت مناسب. وها إننا نذيع في الصفحات التالية خلاصة المقررات التي يجب على الشعب أن يطّلع عليها، حاثّين الرؤساء والمرؤوسين في هذا المقام كلًّا حسب رتبته ومقدرته ووظيفته أن ينفذ هذه القرارات، بطاعة كاملة؛ والله سبحانه وتعالى يقدرنا على خدمة كنيسته وبنيانها، ونعمته تعالى لتكن معكم دائما آمين.
(صدر عن دار البطريركية في الموصل في ١١‏ و24 تشرين الثاني 1930)

 

Scroll to Top