Skip to content Skip to footer

الوثيقة الثانية للجنة الدولية-2015

تقرير اللجنة الدولية المشتركة للحوار اللاهوتي
بين الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الأرثوذكسية الشرقية

ممارسة الشركة في حياة الكنيسة الأولى وتأثيرها على سعينا نحو الشركة اليوم[1]

  1. تمكّنت اللجنة العالمية المشتركة للحوار اللاهوتي بين الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الأرثوذكسية الشرقية أن تؤكّد مجتمعةً في الوثيقة المشتركة “طبيعة الكنيسة وتكوينها ورسالتها” (NCMC)[2]، على العناصر الأساسية للاهوت الكنيسة القائم على الشركة، والذي يشمل الأسقفية، والخلافة الرسولية، والجماعية (collegiality) والصدارة، ومكانة المجامع المحلية والإقليمية والمسكونية ودلالتها، بالإضافة إلى رؤية مشتركة لرسالة الكنيسة0 ويشير النصّ أيضًا إلى المسائل الرئيسية التي تتطلّب مزيدًا من الدراسة في هذه المجالات.
  2. في المرحلة الثانية من الحوار، قرّرت اللجنة التعمّق في دراسة “الروابط المنظورة للشركة” (را NCMC رقم 23)، والتي من شأنها أن تُبرِز الشركة بين الكنائس وتعزّزها. تتمحور هذه الدراسة حول القرون الخمسة الأولى من تاريخ الكنيسة. في الواقع، تتّفق كنائسنا على أنّ الاختبار المشترك للشركة قبل تاريخ الانقسام له أهمّية خاصّة في البحث عن استعادة الشركة اليوم. لا شكّ أنّه مِن المستحيل تجاهلُ التطوّرات العديدة التي جرت خلال القرون الخمس عشرة التالية، لكنّ الفترة الممتدّة حتّى منتصف القرن الخامس تبقى مرجعًا فريدًا ومصدر إلهامٍ وأملٍ لنا. فتَمَكُّنُ كنائسنا من عيش الشركة خلال هذه القرون، على الرغم من الاختلافات في المقاربات والتفاسير، من شأنه أن يحثّنا ويشجعّنا في بحثنا الحاضر عن وحدةٍ منظورةٍ في ظلّ التنوّع، بإرشاد الروح القدس. في رسالته العامّة ليكونوا واحدًا (Ut unum sint) (1995)، يؤكّد البابا يوحنّا بولس الثاني من جديد على قبول التنوّع المشروع وأهمّيّته في الوحدة، ويصرّح أنّ “أشكال الوحدة التي كانت قائمةً قبل الانشقاق تمثّل تراثًا من الاختبارات يوجّه مسيرتنا المشتركة نحو إعادة الشركة التامّة” (ليكونوا واحدًا 55). في الحوارات الرسمية وغير الرسمية المتنوّعة التي سبق أن عُقدت بين الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الأرثوذكسية الشرقية، وكذلك في البيانات المشتركة الصادرة عن رؤساء هذه الكنائس، يُعتَبَر في العديد من الأحيان مبدأُ الوحدةِ في جوهر الإيمان والتنوّعِ في التعبير عن هذا الجوهر، هدفًا لحوارنا. بيد أنّه لا تزال هناك اختلافاتٌ تتعلّق بنقاط جوهرية في الإيمان وكيفية فهمها، ينبغي حلّها من أجل تحقيق هذا الهدف في حوارنا.
  3. في سياق دراساتنا وحوارنا، أدركنا أنّ الشركة متعدّدة الأبعاد ولا يجوز حصرها في شركةٍ هرمية رسمية فقط. وفهمنا أنّ الشركة يتمّ التعبير عنها بطرقٍ مختلفةٍ ومتنوّعةٍ وبمسؤوليةٍ متبادلةٍ، في تبادل الرسائل والزيارات، في الليتورجيا (الطقوس) والصلوات، في الشهادة والاستشهاد المشترَكين، في الرهبنة وفي إكرام القدّيسين.

Iأدلّة العهد الجديد

  1. يمكن فهم المصطلح كوينونيا (koinonia)، والذي ترجمته “شركة”، “ترابط، ألفة”، والفعل “اتّصل”، “اشترك”، إلخ.، في العهد الجديد على أنّه ارتباطٌ وثيقٌ يتميّز بالاهتمام المشترك والتبادُل؛ كما يمكن فهمه على أنّه امتلاكُ حصّةٍ أو منحُ حصّةٍ أو مشاركة. إنّ القدّيس بولس الرائد في استخدام هذا المصطلح، يستخدمه ليدلّ بشكلٍ أساسيٍّ على الشركة الدينية بين المؤمنين بالمسيح وتبادل الخيرات الروحية والمادّية بين المسيحيّين والألفة بينهم.
  2. إنّ طبيعة الشركة الشاملة والعالمية التي كرّسها ربّنا يسوع المسيح هي أساسٌ للشركة الكنسية التي نراها في العهد الجديد. كما أنّ الثالوث القدّوس – الآب، والابن، والروح القدس، أقانيم ثلاثة إلهية متميّزة وغير منفصلةٍ في جوهرٍ واحدٍ – هو المصدر والنموذج للكنائس كي تكون في شركة في ظلّ التنوّع (را 1يو 1/1–4؛ NCMC رقم 6–13).
  3. إنّ الشركة الـمُعبَّر عنها في هذا العالم هي استباقٌ للشركة المطلقة التي ستتجلّى في المجيء الأخير (parousia)، حين يتّحد الراقدون والأحياء الباقون على الأرض بشكلٍ كامل مع المسيح (را 1تس 4/17) ويتّحد فيه أخيرًا كلّ ما في السموات وما على الارض (را أف 1/9–10).
  4. المعمودية هي المدخل إلى حياة الإيمان والباب إلى الشركة مع المسيح وكنيسته (را غل 3/26–27). فبواسطة المعمودية، يدخل الإنسان إلى الشركة مع الآب والابن والروح القدس من جهة (را مت 28/19)، ومع الجماعة المتّحدة ببعضها البعض في كل العالم والمؤسّسة على هذه الشركة الثالوثية من جهة أخرى (را يو 17/21). إنّ الشركة مع المسيح تبدأ عند العماد وتتغذّى وتظهر في الاحتفال بالإفخارستيا التي هي السبيل إلى الشركة الكنسية والتعبير الأسمى عنها.
  5. يُعتبَر الرسل وإيمانهم المرجعية والمعيار لنقل إيمان الكنيسة. كما يشهد العهد الجديد على وجود تقاليد كنسيةٍ متعدّدةٍ ذات وحدةٍ أساسيةٍ مصدرُها التقليدُ الرسولي نفسُه المشترك بين جميعها والمتمحور حول أحداث حياة المسيح وموته وقيامته (را 1كور 15/3–4). إنّ كنائس العهد الجديد، وعلى الرغم من تعبيرها عن الإيمان الواحد بطرقٍ مختلفةٍ ومتعدّدةٍ، قد حافظت على الشركة والتواصل بين بعضها البعض.
  6. يمكننا أن نتعقّب في العهد الجديد طرقًا مختلفةً لممارسة الشركة مثل تشاطر الخبرة الرسولية عينها والاشتراك في اختبار التبشير بالمسيح (را غل 2/9–10) وتأسيس كنائس محلّيةٍ جديدةٍ من قِبَل الكنائس القائمة، اهتمام الكنائس الأقدم عهدًا بالكنائس الناشئة باستمرار (را تي 1/5؛ 1تيم 1/3)، جمع التبرّعات وإرسالها إلى الكنائس المحتاجة (را 2 كور 9/11–14)، ممارسة الخدمة الرسولية بشكل تسلسليّ من خلال الخدام المرسومين، الأمر الذي يضمن بقاء الكنائس في شركة (را 1تيم 3/1–7)، تبادل الرسائل (را كو 4/15–16) واستقبال أعضاء الكنائس الشقيقة (را رو 16/1–2؛ 3 يو 5–8) إلخ.
  7. في العهد الجديد أيضًا مؤشّراتٌ على ممارسة الشركة الكنسية من دون حصرها ضمن حدود جغرافية معيّنة. فسلطة الرسل كانت جامعة (عالمية) بطبيعتها. كما أنّ اجتماع الرسل والمشايخ والمعروف بمجمع أورشليم (أع 15) عالج مسائل حول العقيدة والسلوك، تخصّ شركة الكنيسة جمعاء. وإيكال القدّيس بولس لتيطس وتيموثاوس مسؤوليةَ تأسيسِ عدّة كنائس جديدةٍ وتنظيمها (را تي 1/5؛ 1 تيم 1/3) هُوَ مؤشّرٌ على ممارسة الشركة الكنسية في نطاقٍ يتخطّى الكنيسة المحلّية.
  8. تشارك كلّ جماعةٍ مسيحيةٍ محلّيةٍ في حياة وشهادة الجماعات المسيحية كافّةً، في كلّ مكانٍ وزمان، من خلال الإيمان المشترك بالمسيح، المتجذّر والْمُعَبَّر عنه في إعلان الكلمة، وفي الاحتفال بالأسرار، وفي حياة الخدمة والشهادة. بما أنّ الكنيسة المحلّية هي تَـجَلٍّ للكنيسة الجامعة الحاضرة في داخلها، فالكنيسة المحلّية لا توصَف في العهد الجديد أبدًا على أنّها حقيقةٌ معزولة. ذلك أنّ حقيقة الكنيسة الواحدة المقدّسة الجامعة والرسولية تتحقّق بشكلٍ تامٍّ في الكنائس المحلّية ذات الخدمة الرسولية، بشرط أن تكون في شركةٍ مع الكنائس المحلّية الأخرى.

II أوجه التعبير عن الشركة بين كنائسنا في القرون الخمسة الأولى

 

II أ- تبادل الرسائل والزيارات

  1. لقد تمّ الحفاظ على العديد من الرسائل التي تعود إلى الفترة السابقة لعهد قسطنطين والتي تُظهر استمرار الاهتمام ونوع التواصل (بين الكنائس)، الْمُثْبَتَين قبلًا في وثائق العهد الجديد. ومن بين هذه الرسائل، يمكن أن نذكر رسائل اغناطيوس الأنطاكي ورسالة إكليمندوس الأولى إلى أهل كورنثوس وكذلك الرسائل العديدة المحفوظة في تاريخ أوسابيوس.
  2. كانت هناك أسبابٌ عديدةٌ لهذا التواصل، ويبدو أنّ أحدها كان مسألة تحديد العقيدة الصحيحة والتقليدية. فقد أظهر الأساقفة والجماعات المختلفة مسؤوليةً متبادلةً تجاه بعضهم البعض. ومن الواضح، بناءً على المعلومات التي يقدّمها أوسابيوس، أنّ الأساقفة كانوا يتراسلون باستمرار للتشاور حول كيفية حلّ المشاكل، وحول ما كان يُعتَبَر عُرفًا أو تقليدًا عامًّا، إلخ. وكانت هذه الرسائل تُجمع وتُـمَرَّر إلى آخرين. ومن هذه المراسلات، يبدو أنّ الأساقفة الجدد كانوا يكتبون لنظرائهم معلنين انتخابهم.
  3. على سبيل المثال، تُظهر رسالة إكليمندوس الأولى أنّ كنيسة روما مهتمّةٌ اهتمامًا بالغًا وأخويًّا بوحدة الكنيسة في كورنثوس وأنّها تسعى لإعادة السلام والنظام إليها. ولعلّنا نجد في هذه الرسالة أقدم وثيقة مسيحية تُظهر أنّ لكنيسةٍ محلّية اهتمام في الصميم بكنيسةٍ أخرى. وهناك أمثلة أخرى من فتراتٍ لاحقةٍ قليلًا، منها رسالة ديونيسيوس الكورنثي إلى سوتر أسقف روما، ومراسلات ديونيسيوس الإسكندري القلق حيال الانقسام الناتج عن النوباطيّين، والذي كتب رسائل إلى أساقفة أنطاكيا وروما وأرمينيا الكبرى والكاهن نوباطيان في روما، بالإضافة إلى الرسائل بين كيرلّس الإسكندري وكالستينوس الأوّل الروماني في شأن النسطرة.
  4. إنّ الوثائق الموجودة تُظهر أنّ هذا التواصل وهذه الشركة امتدّا إلى كنائس ما وراء حدود الامبراطورية الرومانية وضمّت على سبيل المثال لا الحصر كنائس أرمينيا وبلاد فارس والهند وأثيوبيا. فمثلًا:

‌أ-        بالنسبة إلى أرمينيا، يمكننا أن نذكر الرسائل بين مكاريوس أسقف أورشليم وفارتان كاثوليكوس أرمينيا (في النصف الأوّل من القرن الرابع) المتعلّقة بقضايا طقسية وليتورجية. أضف إلى ذلك تبادل الرسائل بين أكاكيوس أسقف القسطنطينية، وساهاك كاثوليكوس أرمينيا (في العقد الأول من القرن الخامس) بشأن تعليم الحروف الأبجدية الأرمنية في المناطق الأرمنية الواقعة ضمن حدود الإمبراطورية البيزنطية. كذلك أيضًا الرسائل بين بروكلوس أسقف القسطنطينية (في القرن الخامس) وأكاكيوس الميليتيني من جهة، وساهاك كاثوليكوس أرمينيا من جهة أخرى، بشأن نسطور وترجمة الكتاب المقدّس من اللغة اليونانية إلى الأرمنية.

‌ب-   أمّا الكنيسة في بلاد فارس، والتي تمتدّ من طريق الحرير وصولًا إلى آسيا الوسطى والصين، فقد بقيت على اتّصالٍ بكنيسة الامبراطورية الرومانية. وعلى سبيل المثال، في السينودس الأوّل المؤرَّخ له لتلك الكنيسة في سلوقية – قطيسفون (410)، قُرئت رسالةٌ من الآباء الغربيّين أحضرها ماروثا الميافرقيني أحد أساقفة الامبراطورية الرومانية. وقد وقّع الرسالة كلٌّ من بورفيريوس الأنطاكي، أكاكيوس الحلبي، باكيدا الرهاوي، أوسابيوس التلّي، أكاكيوس الآمدي وآخرون. وقد قبل هذا المجمع إيمان مجمع نيقية (325).

‌ج-    بحسب التقليد، كانت هناك علاقة وطيدة تربط كنيسة مالابار بكنائس أنطاكية، الرها، سلوقية-قطيسفون وغيرها. فالعلاقات والاتّصالات التي أقامها المسيحيّون تلامذة القدّيس توما في الهند تشهد على حقيقة أنّ الكنيسة في الهند بقيت في شركةٍ مع الكنائس الأخرى.

‌د-      منذ أن رُسم الراهب فرومنسيوس السرياني، مبشّر مملكة أكسوم، أسقفًا على يد القدّيس أثناسيوس عام 330، حافظت الكنيسة الأثيوبية على علاقتها الأسقفية مع كنيسة الإسكندرية. كما أنّ الشركة مع الكنائس الأخرى مثبتةٌ أيضًا: فعلى سبيل المثال، هناك رسالة من الامبراطور قسطنطين الثاني إلى الملوك الأثيوبيّين يدعوهم فيها إلى قبول الإيمان الآريوسي؛ بَيد أنّ البطريرك الآريوسي الإسكندري تمّ رفضه، ممّا يُظهر إخلاص الكنيسة الأثيوبية لشركة الإيمان.

  1. إنّ حجم التواصل والتبادل بين الكراسي المختلفة يعبّران عن مسؤوليةٍ أخوية؛ وبالتالي، فالتواصل هو وسيلةٌ مهمّةٌ للحفاظ على الشركة. وما يدهش ويلفت النظر بشكلٍ خاصّ هو درجة الشركة التي كانت قائمة في حركةٍ كانت خِلْوًا من إدارةٍ مركزيّةٍ، بعد مئاتِ السنينِ من الانتشار المسيحي في أرجاء الإمبراطورية الرومانية وخارجها. فبحلول منتصف القرن الثالث، كانت غالبية المجتمعات المسيحية في شركةٍ مع بعضها البعض. إنّ الحاجة للشركة تتحقّق من خلال عمليةِ مشاركةٍ وأخذٍ وعطاءٍ بين الكنائس المحلّية.

II ب- المجامع وقبولها

  1. انبثقت المجامع (باليونانية سينودوي، وباللاتينية كونسيليا) من الحاجة إلى ردّ فعلٍ مشتركٍ تجاه بعض المصاعب والمسائل من أجل الحفاظ على الوحدة. وقد عُقدت المجامع الأولى على مستوى أبرشيٍّ وإقليميٍّ ومحلّيٍّ. ولدينا أدلّةٌ واضحةٌ من النصف الثاني من القرن الثالث وما بعد، عن انعقاد اجتماعاتٍ كهذه، في آسيا الصغرى ومصر وسوريا وشمال أفريقيا وبلاد الغال وكورنثوس، إلخ. وقد اتّصفت هذه المجامع الإقليمية والأبرشية الأولى بالاستقلالية والحرّية في المواضيع المتعلّقة بالمنطقة الجغرافية المعنية، وضمّت الإكليروس والعلمانيّين. وكانت نتائج هذه المؤتمرات تُوجَّه إلى الكنائس المحلّية والإقليمية من أجل قبولها، ثمّ تُرسَل إلى الكنائس الأخرى عبر رسائلَ مجمعيةٍ لإطلاعها على المقرّرات. غير أنّ الشركة الكنسية في القرون الأولى كانت تُمارَس في الإيمان والحياة الليتورجية أكثر منها في هيكلية قانونية.
  2. وبينما استمرّ انعقاد المجامع الإقليمية والمحلّية التي دعا إليها الأساقفة، دخلت الكنيسة في الإمبراطورية الرومانية مرحلةً جديدةً من تاريخها مع الإمبراطور قسطنطين. ففي حين جاءت المجامع السابقة كنتيجةٍ لمبادراتٍ أسقفيةٍ، استحدث الامبراطور ممارسةً جديدةً، إذ طلب مشورة الأساقفة للبتّ في الشؤون الكنسية. وبدءًا من قسطنطين، اعتقد الأباطرة بأنّ من واجبهم الحفاظ على الوحدة والسلام داخل الكنيسة، فقاموا بدعوة الأساقفة إلى المجمع محدّدين زمان ومكان انعقاده.
  3. لقد كان قبول المقرّرات العقيدية لمجمعٍ ما في الكنيسة الأولى عمليّةً طويلةً لا تخلو من الخلافات والجدالات، بمشاركة شعب الله بأكمله. وكان الوضع كذلك بشكلٍ خاصّ بعد مجمع نيقية (325) وهو أوّل مجمعٍ يُعقَد على نطاق الإمبراطورية الرومانية كلّها.
  4. وقد صار هذا المجمع مسكونيًا (أي عالميًا) من خلال القبول. ولم تكن عملية القبول الفعلي لمقرّرات المجامع المسكونية داخل الكنيسة تتمّ بمجرّد إعلانها من قبل الإمبراطور. فقد كان إعلانُ السلطة الكنسية لقرارٍ عقيديٍّ أو كنسيٍّ وقبولُها به، يشكّلان فقط جزءًا من القبول. ذلك أنّ عملية القبول ليست فقط عملية شرعنةٍ بل تشمل أيضًا تبنّي الكنائس والمؤمنين للقرارات المجمعية وتجسيدها في حياتهم. وهذا يعني أنّ قرارات المجمع يجب أن تُعلَن رسميًا من قِبَل السلطة الكنسية وأن تُقبَل في قلوب المؤمنين وأذهانهم، وهذا يعني أيضًا أنّ تعاليم المجمع اللاهوتية تحتاج إلى أن توضَّح وتُعمَّق من خلال الحوار والمناقشة، حتّى مع معارضي مقرّرات المجمع في حينه.
  5. في أواخر العصور القديمة، كان مصطلح “مسكوني” باليونانية واللاتينية يرجع إلى الأراضي المسكونة في الإمبراطورية الرومانية. وبما أنّ “المجامع المسكونية” كانت لقاءاتٍ تقتصر على أساقفة الإمبراطورية الرومانية فقط – ولو أنّ أساقفةً من خارج الإمبراطورية الرومانية كانوا أحيانًا يشاركون فيها، من أرمينيا والهند على سبيل المثال – وكانت تُعقد من قِبَل الإمبراطور الذي لا يُعترَف بسلطته خارج نطاق الإمبراطورية الرومانية، فقد كانت العقائد والشرائع الصادرة عن هذه المجامع تسري فقط داخل الإمبراطورية الرومانية. بَيد أنّه كان من الممكن أن تُقبَل في وقتٍ لاحقٍ قرارات مجمعٍ ما في الكنائس التي هي خارج الامبراطورية الرومانية، ومنها على سبيل المثال كنائس أرمينيا وبلاد فارس والهند وأثيوبيا.
  6. ومن خلال عملية القبول المعقّدة هذه، داخل الإمبراطورية الرومانية وخارجها، لقيت بعض المجامع التي عقدها الإمبراطور قبولًا أكثر من غيرها، كمجمعَي نيقية (325) والقسطنطينية (381) وقانون الإيمان النيقاوي – القسطنطيني الصادر عنهما.

III الصلاة والليتورجيا كوسيلتين للشركة والتواصل

  1. إنّ الصلاة هي سمةٌ عالميةٌ للاختبار الديني الإنساني. فالصلاة تربط الماضي بالحاضر، والأحياء بالراقدين. وهي الطريق الأمثل الذي يقود إلى معرفة الله. أما الليتورجيا فهي الصلاة المشتركة للشعب المسيحي المجتمِع، والتعبير الأساسي عن الإيمان المسيحي والعقيدة، وكنز التقليد المسيحي. الليتورجيا مدرسة الحياة المسيحية، ونقطة اللقاء بين الله وخليقته، وفيها تُستَخدم الرموز والأشياء المادية التي هي بمثابة قنواتٍ للنعمة الإلهية وللتواصل.
  2. في سائر الكنائس والتقاليد، تقوم الصلوات الليتورجية المشتركة بالإضافة إلى العبادة الشخصية على نماذج كتابية وتعاليم يسوع بالذات. وتحتلُّ المزاميرُ والأناشيد الكتابية والترانيم مكانةً هامّةً وخاصّة، مع الإشارة إلى وجود ترابطٍ وثيقٍ بين لغة الليتورجيا ولغة الصلاة الشخصية.
  3. تكشف الكتابات المسيحية الأولى عن إجماعٍ حول القواعد اللاهوتية للصلاة، إلى جانب الممارسات الأساسية كأوقات الصلاة، ووضعيّة المصلّي والاتجاه نحو الشرق أثناء الصلاة. ومنذ القرن الرابع، شكّلت الحركة الرهبانية وكتاباتها مصدرًا أساسيًا للتأمّل والمشاركة فيما يخصّ الصلاة الدائمة والدور المركزي للمزامير في الحياة المسيحية. هذا ويجلُّ التقليدُ المسيحيّ مكانةَ الدموع والصلاة الصوفيّة في الحياة المسيحية.
  4. أمّا ليتورجيا الساعات التي تُعيِّن لكلّ يومٍ أوقاتًا محدّدة للصلاة، بالإضافة إلى طقس الإفخارستيا نفسه، فهي تحتوي على سماتٍ أساسيةٍ موجودةٍ في كلّ تقليد. إنّ طقس الإفخارستيا بشكله الأساسي (المؤلَّف من قراءات من الكتب المقدّسة تتبعها تقدمة الخبز والخمر من أجل تقديسهما من خلال ذكر العشاء الأخير واستدعاء الروح القدس)، هو مرتكز العبادة لدى جميع الكنائس. أما تطوّر صلاة القداس، أي الأنافورة، فيعبّر بشكلٍ مميّزٍ عن التبادل بين المراكز الكنسية القديمة وكبار اللاهوتيين، حيث كان كلُّ تقليدٍ يتلقّفُ أفكارًا ونصوصًا من التقاليد الأخرى. وقد لعبتْ كلٌّ من مراكز أورشليم، الإسكندرية، كبادوكية، روما، وأنطاكية/الرها دورًا بارزًا في هذا الإطار.
  5. ثمّة شواهد ضئيلة، لكن مهمّة، تسلّط الضوء على محتوى الصلاة الإفخارستية في الفترة الواقعة بين عشاء الربّ يسوع الأخير مع رسله ونصوص النوافير التي تطوّرت لاحقًا في القرن الرابع. إنّ أقدمَ وصفٍ مكتوبٍ لهذه الصلاة الإفخارستية باقٍ إلى اليوم موجودٌ في الديداخي، وهي عملٌ مدوّنٌ باليونانيّة أُنجز في سوريا في أواخر القرن الأول. وخلال القرن الثاني، فُصل الاحتفال بالإفخارستيا نهائيًا عن العشاء المشترك. ويصف القدّيس الشهيد يوستينوس (توفي 165) الإفخارستيا بعباراتٍ مألوفة جدًّا إلينا اليوم. إنّ وصفه المختصر يُبرزُ أفكارًا شبيهةً بالديداخي وبالتقليد اللاحق: السبح والمجد لأب الكون، والشكر (“بإسهاب”) لأنّنا حُسبنا أهلًا لقبول هذه الأمور من يديه، ويكون الختام بقول الشعب “آمين”.
  6. أمّا ما يُعرف بالتقليد الرسولي لهيبوليتوس، فيوضح كيف كانت الكنيسة الأولى تفهم أساسيات العبادة الإفخارستية بشكل عامّ. هذا الكتاب المؤلَّف باليونانية أصلًا، كان مقروءًا ومستخدمًا على نطاقٍ واسعٍ في الشرق. وتكمن أهميّة التقليد الرسولي في عرضه لأنافورة شبه كاملةٍ، مقارنةً بالنماذج اللاحقة. وتشتمل هذه الأنافورة على عناصر نجدها في كتاباتٍ سابقةٍ عن الإفخارستيا إلى جانب كتاباتٍ أحدث عهدًا: حمد الله على عمل الخلق والخلاص، سردُ العشاء الأخير، الربط بين الاحتفال الحالي والعشاء الأخير من خلال الذكر الليتورجي (anamnesis)، تقدمة الذبيحة الإفخارستية (oblation)، استدعاء الروح القدس ليحلّ على التقدمة وعلى من يشترك فيها (epiclesis)، التماس الثبات للمؤمنين والترنيمة الختامية ثمّ “آمين”.
  7. وقد أنتج التقليد “السرياني الغربي” أنافوراتٍ يونانيةً وسريانيةً كان لها أثرٌ عميقٌ في العالم المسيحيّ الشرقيّ. فنجد القدّيس يوحنا الذهبي الفمّ ينقل أنافورة أنطاكية المعروفة باسم “أنافورة الرسل (الاثني عشر)” المفقودة في اليونانية، إلى القسطنطينية حوالي سنة 389 ويعيد صياغتها مؤلّفًا بذلك الأنافورة التي لا تزال تحمل اسمه والتي هي الأنافورة الأساسية لدى البيزنطيين. وقد أُعيدت صياغتها مرّةً أخرى ونُقلت إلى السريانية باسم أنافورة الرسل الاثني عشر، وهي ما تزال مستخدمةً في التقليد السرياني الأرثوذكسي. أمّا أنافورة القدّيس باسيليوس، والتي يعتبرها التقليد كبادوكيّة المنشأ، فهي أقرب أن تكون سوريّة، وقد أثّرت أيضًا في نشأة تقليد الأنافورات الأرمني. كما نجد في التقليد السرياني الغربي ليتورجية القدّيس يعقوب التي ترتبط أساسًا بأورشليم، لكنّها كانت ذات تأثير أشمل بسبب هويّتها الأورشليمية. أمّا التقليد “السرياني الشرقي” المتمركز في الرها ونصيبين، فقد كان له تأثيرٌ على أنافورة الرسل (أو “أنافورة القدّيس بطرس الثالثة”) المارونية المعروفة باسم شارار. وقد وصل هذا التقليد الليتورجي إلى جنوب آسيا، بفعل البعثات المرسلة إلى الجماعة المسيحية القديمة التي تلمذها القدّيس توما.
  8. منذ القرن الخامس وفيما بعد، أخذت هذه التقاليد تؤثّر على بعضها البعض بطرقٍ مختلفةٍ ومتشابكة، مشكِّلةً مجموعة النصوص الليتورجية المستخدمة في الكنائس المتنوّعة إلى يومنا هذا. فالكنيسة القبطية لا تزال تستخدم الليتورجيا المنسوبة بحسب التقليد إلى القدّيس مرقس الإنجيلي، والمعروفة بليتورجية القدّيس كيرلّس. والكنيستان الأرمنية والأثيوبية تُبرزان بنوعٍ خاصٍ هذا التبادل المتشابك في تاريخهما الليتورجي. ففي الليتورجيا الأرمنية، كما في الرهبنة الأرمنية، تظهرُ تأثيرات سريانية وكبادوكية، وتأثيرًا كبيرًا من أورشليم. أمّا في أثيوبيا، فبالإضافة إلى التأثير الإسكندري القديم، كانت هناك تراتيل مؤلّفة محلّيًا وعددٌ وافرٌ من الأنافورات. وحِفْظُ نصِّ التقليد الرسوليّ بشكله الأكمل باللغة الجعزية، يشهد أولًا على التأثير البعيد الذي كان لهذا النصّ المهمّ وثانيًا على مدى أمانة التراث المسيحي الأثيوبي في الحفاظ على التقاليد الليتورجية.
  9. بمقابل وفرة الأنافورات في الشرق المسيحيّ، لم يبقَ في الغرب إلاّ عددٌ قليلٌ من الأدلّة التي تعود إلى ما قبل القرن السابع. بَيد أنّ ما تبقّى يشهد على أنّ عناصرَ شتّى بل وتعابير كانت مستخدمة في حقبة مبكرة في إيطاليا، تظهر هي نفسها في الأنافورة الرومانية الكلاسيكية، Canon Missae (أو “كتاب القدّاس الروماني”). وتُظهر دراسة دقيقة لِـ كتاب القداس هذا، روابطَ واضحةً بينه وبين التقليد الإسكندري.
  10. لا تملك أيّة كنيسةٍ تقليدًا “صافيًا” لاحتفالٍ إفخارستي متأتٍّ فقط من مصادر محلّية. فإنّ جميع الأنافورات بالإضافة إلى مكوّنات الاحتفال الافخارستي الأخرى، في جميعِ الكنائس، تُظهر الإغناء المتبادل بين التقاليد. ومن هذا المنظار، فإنّ الاحتفال الافخارستي الذي يُعتبَر في الكثير من الأحيان نقطةَ الانقسام بين الكنائس، يمثّل في شكله ونصوصه المحورية أغنى تعبيرٍ عن الشركة والتواصل، وعن الوحدة في ظلّ التنوّع، في حياة الكنيسة الأولى.

IV الاستشهاد كعنصر شركة وتواصل

  1. بعد شهادة العهدين القديم والجديد، بات الاستشهاد مبدأً مسيحيًا أساسيًا وعلامةً طُبعت بها كافّة الكنائس منذ بدء المسيحية. فالشهداء في صُلب الكنيسة. ولنا سحابة من الشهود مقدار هذه محيطة بنا (عب 12/1). الاستشهاد جزءٌ من رسالة الكنيسة. لذلك تُقام الاحتفالات المتبادلة إكرامًا للشهداء في جميع الكنائس الرسولية. تُشيَّد الكنائس على أسمائهم، وتُنقل رفاتهم من صقعٍ إلى آخر في العالم لنَيل البركة.
  2. وقد كان نقل ذخائر القدّيس مرقس من روما إلى الإسكندرية في عام 1968، وذخائر الرسولَين تدّاوس وبرثلماوس إلى أتشميادزين عام 1970، من أبرز عمليات نقل الذخائر في العصر الحديث، والتي اعتُبِرَت وسيلةً لتعزيز العلاقات بين الكرسيّ الرومانيّ والكنائس الشرقية الأرثوذكسية.
  3. الاستشهاد جزءٌ لا يتجزّأ من أبعاد إيمان الكنيسة وحياتها ورسالتها. إنّ شركة الكنيسة تستمدُّ وجودَها من شركةِ الله الثالوث الذي هو مُحِبٌّ ويبذل ذاته، وبالتالي فإنّ هدفها هو عيش المحبّة. وهي شركة شهادة. فالآب يظهرُ كشاهدٍ في كلا العهدين القديم والجديد. وبالتحديد، هو شاهدٌ ليسوع المسيح، الذي بدوره جاء إلى العالم ليشهد للحقّ (يو 18/37). إنّه الشاهد الأمين الصادق (رؤ 3/14). أمّا الروح القدس، روح المحبّة، فيشهد لسرِّ الله العميق، ويعمل من خلال الشهود الذين يلهمهم، ولا سيّما الشهداء. فمن خلال الحبّ حتّى الموت، يشهد الشهداء على الإخلاص الأبدي وبذلِ الله ذاتَهُ بذلًا لامتناهيًا، كما قال السيّد المسيح: “ليس لأحدٍ حبٌّ أعظم مِن هذا: أن يضعَ أحدٌ نفسه لأجل أحبّائه” (يو 15/13). وقد اختير الشهداء من ضمن شعب الله ليشهدوا للعهد الذي يربط الله بشعبه ولكي يثبتوا بطريقة حسّيّة الحقيقة الرائعة: حقيقةَ أنّ “الله محبّة” (1 يو 4/8 و16).
  4. يوحّد الربّ يسوع المسيح، وهو النموذج المثالي لكلّ الشهداء، جميع من يؤمن به في جسدٍ واحدٍ من خلال المعمودية. وكلّ الأعضاء مرتبطةٌ مع بعضها البعض بآلامه. لذلك تؤثّر معاناة الشهداء على سائر أعضاء الكنيسة. إنّ روح المسيح الذي يسكن ويعمل في رأس جسده وفي أعضائه، يجعل من الكنيسة هيكلًا. وللشهداء فيه دورُ إتمام التقدمة. فهم يضحّون بأجسادهم لمجد الله. وقد أُنيطت بالكنيسة ثلاث وظائف أساسيةٍ: ممارسة وظيفة النبوّة بالشهادة، ووظيفة الكهنوت بالليتورجيا، ووظيفة الملوكية بالخدمة.
  5. إنّ كلّ المؤمنين بالمسيح مدعوّون لاستقبال نور المسيح وعكسه للآخرين. وباستطاعة الشهداء، بل من واجبهم أن يدعموا إخوتهم المؤمنين. فمن حياة الشهداء وموتهم يسطعُ نورٌ، يضيء على حقائقَ مركزية في الحياة والإيمان. بفضل النعمة المعطاة له من الله، يحيا الشهيد ويقول بشكلٍ قاطع وغير مشروط: “نَعَم” لمشيئة الله وعمله. وبإمكان إيريناوس أسقف سيرميوم (304) أن يعلن جهارًا أمام مضطهديه: “بالاعتراف الحسن أقدّم ذبيحةً لإلهي الذي لطالما قدّمتُ له الذبائح”.
  6. على جميع أعضاء كنيسة المسيح أن يقدّموا أنفسهم ذبيحةً حيّةً، مقدَّسةً مَرْضيَّةً عند الله (را رو 12/1). والشهداء يتمّمون هذا الواجب بطريقةٍ استثنائيةٍ من خلال الشهادة للإيمان المختومة بالدم، ومن خلال رجائهم المملوء خلودًا (را حك 3/4)، ومن خلال بذل ذاتهم التامّ بموتهم من أجل المسيح.
  7. والاستشهاد يشمل الليتورجيا أيضًا. ففي كلّ سرٍّ، يوحّدنا المسيحُ به وبحياته، وبالأخصّ بموته وقيامته. وبما أنّ الشهداء يدخلون في الحدث الفصحي بشكلٍ فريدٍ، فإنّ لهم رابطًا حيويًا بالبعد السرّيّ للكنيسة. فما يُعبَّر عنه بالرموز في الأسرار يصبح واقعًا حقيقيًّا في حياتهم. وكلّ ما يُمنَح للمؤمنين في المعمودية، يُمنح لغير المؤمنين بالاستشهاد.
  8. منذ فجر المسيحية، والاستشهاد علامةٌ فريدةٌ للشركة. فقد أدركت الكنيسة جمعاء واعتبرت كلّ أولئك الذين استشهدوا من أجل اسم المسيح قبل أن ينالوا العماد، قدّيسين عظماء. والكنيسة بشقّيها الشرقيّ والغربيّ تسمّي ذلك “معمودية الدم”.
  9. لا يرى الآباء في الاستشهاد أمرًا مماثلًا للعماد وحسب، بل يذهب بعضهم إلى القول إنّ فيه من النعم أكثر مما في المعمودية. ومن هؤلاء القدّيس قبريانس الذي كتب: “أيمكن لقوّة العماد أن تكون أعظم أو أكثر فائدةً من الاعتراف ومن المعاناة، عندما يعترف أحدٌ بالمسيح أمام الناس ويعتمد في دمه بالذات؟” (الرسالة 72، 21) ويضيف: “لا يُحرَمُ من سرّ العماد مَن اعتمد بالمعمودية الأمجد والأعظم، معموديةِ الدمّ، تلك التي قال عنها الربّ إنّ ’لي صبغة أخرى أصطبغها‘ (لو 12/50). لكن الربّ نفسه يعلن في الإنجيل أنّ الذين يعتمدون في دمهم ويتقدّسون بالألم يصيرون كاملين” (الرسالة 72، 22).
  10. المعمودية هي الاتّحاد بالمسيح بشبه موته والدفن معه، على حسب سؤال الربّ يسوع المسيح: “لستما تعلمان ما تطلبان. أتستطيعان أن تشربا الكأس التي سوف أشربها أنا؟” (مت 20/22) وقول القدّيس بولس: “لأنّه إن كنّا قد صرنا متّحدين معه بشبه موته نصير أيضا بقيامته” (رو 6/5).
  11. هناك روابط شتّى بين ذبيحة الدم التي يقدّمها الشهداء وذبيحة الإفخارستيا. فالاستشهاد متّصلٌ بشكلٍ وثيقٍ بالافخارستيا من حيث أنّه ذبيحةُ شكرٍ لله على كلِّ منحه، تُعاد من خلاله كلّ هذه المنح لتوضع بين يديه. وقد يكون في ذلك تفسيرٌ محتمَلٌ لممارسة الكنائس الأولى الاحتفال بالإفخارستيا عند قبور الشهداء. إنّ الذبيحة (أو التضحية) هي جوهر العمل الذي يقوم به الرب يسوع المسيح لمجد الآب وخلاص الجنس البشري. فقد “أحبّنا أيضًا وأسلم نفسه لأجلنا قربانًا وذبيحةً للّه رائحةً طيّبةً” (أف 5/2)، ويريد المسيح أن يجذب أتباعه إلى بذل الذات على غراره. فهم باستطاعتهم، بل من واجبهم أن يتعلّقوا بذبيحة المسيح وأن ينجذبوا نحو حركةِ بذلِ ذاته لأبيه، فيصيروا بذلك ذبيحةً حيّةً مقدَّمةً بالمسيح ومعه وفيه، لمدحِ مجدِهِ (را أف 1/12 و14).
  12. إنّ لمفهوم الذبيحة (التضحية) لدى المسيحيين أهمّية بالغة تكمن في حقيقة أنّ (أبناء) شعب الله يتبعون الربّ في محبّته وبذلِ ذاته، وبالتالي يستمدّون القوّة من الاحتفال بذبيحة الإفخارستيا، ذبيحةِ التسبيح، ليكونوا مشابهين للمسيح في حياتهم. ففي نهاية الأمر، يصبح الاستشهادُ التحقيقَ الأكمل لما يستتبعه بذلُ الذات بالكلية، بالنهج على مثال بذل يسوع لذاته كليًا، وهذا من خلال روحه.

V الرهبنة كعنصر شركة وتواصل

  1. إنّ الرهبنة هي أحد المظاهر الأساسية للحياة المسيحية، المشتركة بين الكنائس الشرقية والغربية. وتعود جذور الرهبنة المسيحية إلى السلوك النسكي الذي سلكه أولئك المسيحيّون الأوائل الذين سعوا إلى ممارسة جذرية للوصايا الكتابية الخاصّة بالصلاة والصدقة والصوم والسهر.
  2. وقد عاش المسيحيون النسّاك لقرونٍ في قلب الكنيسة، داخل الجماعات المحلّية، ولم يكونوا في معظم الأحيان يُميَّزون عن المؤمنين الآخرين بالشكل الخارجي. ومع الوقت، اتّخذ النسك مكانةً أرفع وأشكالًا أشدّ وضوحًا، لا سيما مع “أبناء وبنات العهد” (بناي / بنوث قيومو) في التقليد السرياني. وفي إطار هذا التقليد النسكي المسيحيّ القديم والمتأصّل، ظهرت الرهبنة كشكلٍ محدّدٍ من أشكال النسك المسيحي. فهذا الشكل الجديد من النسك المتميِّز عن الحياة العادية ضمن كنيسة القرية أو كنيسة المدينة، هو ما صار يُعرف “بالرهبنة”.
  3. بحسب الرواية التقليدية، يرجع أصل الرهبنة المسيحية جغرافيًا إلى مصر وشخصيًّا إلى القدّيس أنطونيوس الكبير الذي دخل الحياة الرهبانية – بحسب القدّيس أثناسيوس الاسكندري – في سنّ العشرين تقريبًا. وقد حجبت شهرة أنطونيوس حقيقةَ ظهورِ رهبنةٍ سريانيةٍ في القرن الرابع؛ وإنّ الرهبنة في مصر وفي بلاد ما بين النهرين ربطتهما صلةٌ وثيقةٌ منذ البدء. إنّ أوّل مثالٍ معروفٍ في التقليد السرياني هو القدّيس يوليان سابا (توفي 367)، الذي ترك العالم سنة 320 ليمكث في مغارةٍ في أحد الجبال، شرقيّ الرها. وغالبًا ما كان الرهبان الأوّلون مسافرين جيّدين، يتبادلون خبراتهم الرهبانية مع بعضهم بعضًا، ناقلين وجه المسيحية الرهباني إلى مناطق جديدة. أمّا أقدم التقاليد الرهبانية الأثيوبية فتعود جذورها إلى قصّة تسعة قدّيسين وصلوا في أواخر القرن الخامس، قادِمين من مناطق مسيحيةٍ مختلفة. ومنذ القرن الثامن، كان هناك ديرٌ سريانيٌ عامرٌ في منطقة الإسقيط، قلبِ الرهبنة المصرية.
  4. في كنائس الشرق المسيحي، تبقى الرهبنة الشكل الوحيد لحياة التكرّس، وترتبط بالسلطة الأسقفية ارتباطًا وثيقًا إذ ينبغي على الأساقفة أن يكونوا مِن الذين أبرزوا النذور الرهبانية. أضف إلى ذلك أنّ الرهبنة ساهمت كثيرًا في إعطاء روحانية الكنائس الشرقية شكلَها، حيث ما زالت الأديرة وجهةً أساسية للحجّ ومراكز للتجدّد الروحي.
  5. أمّا في الكنائس الغربية، فالرهبنة بروحانيتها وأشكالها تدين بالكثير للحركات الرهبانية في مصر وفلسطين وآسيا الصغرى. وقد نُقِلَتْ هذه الحركات الرهبانية الشرقية وكُيِّفَتْ مع الإطار الغربي، أوّلًا من خلال كتابات القدّيس يوحنّا كاسيان الذي أمضى سنين طويلةً في فلسطين ومصر. ولاحقًا، في القرن الخامس تحديدًا، باتت الأبوفثيغماتا باتروم (أقوال الآباء)، وهي مجموعة نصوص من التقليد الرهباني، إرثًا مشتركًا بين جميع الكنائس في الشرق والغرب. فهي بنسخها المختلفة (المرتّبة أبجديًا أو وفق الموضوع) وترجماتها المتعدّدة (اليونانية، القبطية، الجعزية، الأرمنية، العربية، واللاتينية)، بما فيها النسخة السريانية لفردوس الآباء، تشكّل كنزًا من الحكمة الرهبانية تتقاسمه جميع الكنائس.
  6. كما يُلاحَظ، فإنّ إحدى أروع ميزات الرهبنة المسيحية هي الدمج بين طرق التعبير المحلية ولغة التواصل العابرة للثقافات. ففي بعض الأماكن، خرجت الرهبنة من رحم تقاليد نسكيةٍ مسيحيةٍ قائمة. أمّا الأماكن التي قبلتْ المسيحية لاحقًا، فقد واكبتْ فيها الرهبنةُ حركةَ التحوّلِ إلى المسيحية، أو كانت أداةً في خدمة هذه الحركة، أو أُدخِلتْ بعدها بوقتٍ قصير.
  7. وعلى الرغم من أنّ العالم المسيحيّ في القرنَين الرابع والخامس قد ازداد تنوّعًا في اللغة ووجهات النظر اللاهوتية، ظلّت الرهبنة عنصرًا مسكونيًّا يتجاوز هذه الاختلافات. إنّ هذه الصبغة العالمية للرهبنة، مقرونةً بحقيقة أنّ الأديرة كانت تقليديًا مراكزَ للثقافة اللاهوتية، جعلت من الرهبنة وسيلةً مميّزةً للشركة والتواصل بين الكنائس. فالذين اختلفوا في المجادلات الخريستولوجية في القرن الخامس وتباينوا بشأن قبولهم مجمَعَيْ أفسس (431) وخلقيدونية (451)، نسخوا وحفظوا الكتابات الرهبانية عينَهَا. فالرهبنة إذًا تمثّل طريقًا مميّزًا تمكّنت الكنائس من خلالها أن تتقاسم تراثًا روحيًا مشتركًا، على الرغم من الانقسامات الناجمة عن الاختلافات العقيدية.
  8. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الوضعَ الفريد للرهبنة في الكنيسة سمح للأديرة أن تصبح أماكن مُـميّزة للضيافة والتبادل. وبما أنّه كانت للأديرة علاقاتٌ بكنيستها المحلّية وبأسقفها – مع حفاظها على حدّ معيّن من الاستقلالية المشروعة – وبسبب ما كان لها من روابطَ وثيقةٍ مع جماعات رهبانية أخرى في العالم، فقد لعبت دورًا مميّزًا في العلاقات بين الكنائس والتقاليد المختلفة.

VI إكرام القدّيسين وزيارة الأماكن المقدّسة (الحجّ)

  1. إنّ إكرام الشهداء والقدّيسين وتبجيلهم، وشهرتهم بسبب المعجزات، والتشفّع بهم وإكرام ذخائرهم، وعادة دفن الموتى إلى جانب أضرحة القدّيسين إلخ، نمت وانتشرت منذ القرن الثاني على أبعد تقدير، كتطوّرٍ للعبادة الشعبية في الكنيسة الأولى دون الكثير من الضوابط، باستثناء تدخّل الأسقف على الصعيد المحلّي. وقد أدّى نقْصُ الرقابة حُكمًا إلى نشوء أساطير شتّى، ممّا ولّد في النهاية أشكالًا من الضوابط أكثر مركزيةٍ. وكان تدوين سير القديسين عاملًا رئيسيًّا في نشر إكرامهم، وهذا أنشأ نوعًا أدبيًا جديدًا عُرف بِـسِيَر القدّيسين (هاغيوغرافي).
  2. إنّنا نسمع في القرن الثاني عن إكرام أضرحة الرسل وغيرهم من مسيحيّي الجيل الأوّل. وسرعان ما تلى ذلك إكرامُ قدّيسي الجيلِ الثاني بعد الرسل، أولئك الذين اتّبعوا المسيح خلال الاضطهادات، بتصميمٍ حتّى الموت. إنّ كتاب استشهاد بوليكاربوس، وهو على شكل منشور أرسلتهُ كنيسة سميرنا إلى كنيسة فيلوميليوم، يُعدّ أقدمَ أثرٍ يتناولُ أعمال الشهداء، بعد رواية استشهاد استفانوس في كتاب أعمال الرسل.
  3. وتمثّلتْ المرحلة التالية من تطوّرِ إكرامِ القدّيسين بالتشفّع بهم، إيمانًا بما لهم من دالّة (parrhesia) أمام الله، وهذه فكرةٌ بدأت بالتنامي منذ النصف الأوّل من القرن الثالث. ومع حلول القرن الرابع، نجد طبقاتٍ مختلفةً من القدّيسين تُذكَر في صلوات القدّاس. ومن الممكن أن نذكر العديد من الكتّاب أمثال غريغوريوس النازينزي، وغريغوريوس النيصي، وأمبروسيوس وأغسطينوس، كشهود على هذا المعتقد العامّ الذي سيُدعى فيما بعد بــِ”شركة القدّيسين” (communion sanctorum).
  4. وجاءتْ زيارات الحجّ في القرن الرابع، ولا سيما إلى الأرض المقدّسة، كوسيلةٍ إضافية جمعتْ الكنائس حول مسألة الالتجاء إلى القدّيسين. أمّا السبب اللاهوتيّ وراء إكرام الشهداء والقدّيسين فيندرج، كما أوضحه عددٌ من اللاهوتيّين، في إطار تطوّر فكرة الشركة بين القدّيسين. والاحتفال بتذكارات الشهداء تطلَّب، في الجماعات الكبيرة على الأقلّ، تحديدَ هذه التذكارات في روزنامات كنسية تطوّرتْ لاحقًا لتمسي كلندارات الشهداء (martyrologies) والسنكسارات (synaxaries). وكان يتمّ جمعها في معظم الأحيان من سير الشهداء المحلّية وكانت تخضع للتنقيح باستمرار.
  5. وانتشر الالتجاء إلى القدّيسين في مختلف الكنائس من خلال كتابة سيرهم والحجّ إلى مزاراتهم. وأقدم هذه السير، أي سيرةُ أنطونيوس التي كتبها أثناسيوس، استُخدِمتْ “لإعلان قداسته”، إذا ما أردنا استخدامَ مصطلحٍ متأخِّرٍ. تُصَوِّرُ سيرةُ أنطونيوس أسلوب حياة القديس على أنّه امتدادٌ لحياة الشهداء، وقد شكّلت السيرة نموذجًا للرهبان والراهبات، لا سيّما لناحية النموّ في الحياة الداخلية والجهاد ضدّ التجارب والصلاة. وقد تُرجم هذا العملُ سريعًا إلى لغاتٍ أخرى بما فيها اللاتينية، القبطية، السريانية، الأرمنية، الجيورجية والجعزية، كما واستُخدِم كنموذجٍ لكتابة سِيَرِ رهبانٍ قدّيسين آخرين.
  6. من ناحية أخرى، لعب الآباء الكبادوك غريغوريوس النازينزي وغريغوريوس النيصي، من خلال كتاباتهما، دورًا هامًّا في تطوّر الالتجاء إلى القدّيسين. فقد كتب غريغوريوس النازينزي تقريظًا لكلٍّ من أثناسيوس وباسيليوس مشيدًا بدورهما كبطَلين من أبطال الأرثوذكسية. أمّا غريغوريوس النيصي فقد خطّ سيرة أوّل قدّيسة مسيحية وهي أخته ماكرينا. وقد وضع هذا العمل قداسة المرأة وقداسة الرجل على حدّ سواء، مقدِّمًا للنساء مثالًا يُحتذى به.
  7. هذا واجتذبتْ شهرةُ الرهبنة الشرقية زوّارًا جددًا من الغرب، ومنهم روفينوس الأكويلي الذي ترجم التاريخ الكنسي الذي وضعه أوسابيوس، وحدَّثَه ذاكرًا العديد من مشاهير الرهبان الذي عاشوا في تلك الحقبة ومنوّهًا ببناء الكنائس عند أضرحة الشهداء (II، 27). وقد ساهمت أعمالٌ أدبية أخرى مثل تاريخ الرهبان المصريين والتاريخ اللّوزي لبالاديوس وفردوس الآباء باللغة السريانية، في نشْرِ المثالِ الرهباني للقداسة وتعميم الالتجاء إلى الرهبان القديسين. أمّا الحجّ في المسيحية، وخاصّةً إلى الأرض المقدّسة، والذي بدأ مع هيلانة والدة قسطنطين، فقد ساهم في انتشارِ إكرامِ القدّيسين. إيجيريا الحاجّةٌ الإسبانية التي زارت الشرق بعد هيلانة بخمسين سنة، تركت لنا تقريرًا عن رحلتها إلى أراضي الكتاب المقدس: مصر وسوريا وبلاد الرافدين. أمّا صيت الشفاء الذي اشتهرت به مزاراتٌ كمقام تقلا وميناس ولاحقًا مزارات بعض القدّيسين كسمعان العامودي، فقد عزّز حركةَ الحجّ وأفضى إلى تعاظم شهرة هذه المزارات.
  8. هناك ثلاثة قدّيسون آخرون يمثّلون بشكل خاصّ دورَ القدّيسين في الشركة والتواصل وهم: كوزما ودميان، ونيقولاوس. كان كوزما ودميان شقيقين، طبيبين من مقاطعة كيليكية الرومانية. وبحسب التقليد، فقد مارسا مهنتهما في مرفأ آياس، في مقاطعة سوريا واستشهدا حوالي سنة 287 في عهد ديوقلطيانوس. ومع مطلع القرن الرابع، شُيِّدَت كنائس على اسم القدّيسَين التوأمَين في أورشليم ومصر وسوريا. ولاحقًا، طارت شهرتهما إلى روما حيث شُيّدت إحدى الكنائس تكريمًا لهما وضُمّ اسماهما إلى قديسين آخرين يُجرى ذكرهم في صلاة القدّاس الرومانية. أمّا القدّيس نيقولاوس أسقف ميرا في ليكية (توفّي في 6 كانون الأول سنة 345 أو 352)، فيحظى بإكرام أشمل يصل إلى الكنائس اليونانية واللاتينية والسلافونية.
  9. بدأت عادة إكرام الشهداء في الكنيسة الكاثوليكية في القرن الثاني. ومع انتهاء الاضطهادات في منتصف القرن الرابع، كُرِّم “المعترفون” أيضًا كونهم عاشوا حياةً مسيحية نموذجية. وفي تلك الحقبة، كان المؤمنون عمومًا هم الذين يتبيّنون الشهداء والمعترفين في منطقة معيّنة ويعترفون بقداستهم. ومع حلول القرن السادس، صار الأساقفة المحلّيّون يلعبون دورًا رئيسيًا في الاعتراف بقدّيسين جدد. لم تكن هناك إجراءات محدّدة وحصلت أخطاء عرضية، لكن بقي إعلانُ الأسقفِ قداسةَ أحدهم، هو الإجراء الطبيعي المعتمد في الكنيسة الكاثوليكية على مدى ستّمائة سنة. وكانت آنذاك الشركة الكاملة مع أساقفة الكنائس المحلّية الأخرى، تعني ضمنيًا قبول القدّيسين الذين كانوا قد اعترفوا بهم.
  10. أمّا في الكنائس الأرثوذكسية الشرقية، ففي النصف الثاني من القرن الثاني، كان القدّيسون يُكرَّمون في البداية كشهداء احتملوا العذاب وذاقوا الموت مقدّمين شهادةً لإيمانهم المسيحيّ. وعلى مرّ العصور، صار النسّاك وآباء الكنيسة والعذارى والشخصيات الرئيسية في الكتاب المقدّس يُحسَبون بين القدّيسين وصار يُحتفل بتذكاراتهم. وكان القدّيسون يُعلَنون أوّلًا في محيطهم وفي بلدهم مِن قِبَل المؤمنين الذين عاشوا معهم وشاركوهم أعمالهم، حيث كانوا قدوةً لهم في القداسة. فإنّ القدّيسين بذلوا أنفسهم شهادةً لإيمانهم المسيحيّ وقُدِّروا بسبب قداسة حياتهم وتقواهم وفضائلهم التي عاشوها في سبيل نشر ملكوت الله. وتمّ الاعتراف بقداستهم في العبادة الشعبية، من قِبل السلطة الكنسية المحلّية ليُقام لهم تذكارٌ محلّيّ، ومن قِبل السلطات الكنسية العليا ليُحتَفل بتذكارهم عامّةً في كنيسة معيّنة.
  11. إنّ الحجّ إلى المقامات الروحية أمرٌ متجذّرٌ في السلوك البشري. فعادة اليهود زيارة أورشليم في الأعياد الكبرى معروفةٌ وواضحةٌ في الوثائق. أمّا في المسيحيّة، فقد كان الحجّ في البداية إلى الأماكن المرتبطة بحياة الرب وموته وقيامته. وتعود أقدم التقارير إلى القرن الرابع وما بعد. ومع انتشار إكرام الشهداء والقدّيسين، تحوّلت شيئًا فشيئًا أضرحتهم ومقاماتهم حيث كانت تُحفظ ذخائرهم، إلى مراكز يتقاطر إليها المؤمنون. والعلاقات التجارية الواسعة بين مختلف البلدان، لا سيما بين فلسطين والإمبراطورية الرومانية والهند وأرمينيا وأكسوم، مهّدت السبيل للمسافرين والتجّار المسيحيين كي يحجّوا إلى شتّى المراكز المسيحية.
  12. في تفسير آباء الكنيسة للعهد الجديد، شاع جدًا المعنى الإسخاتولوجي للحجّ كرحلة نحو المدينة السماوية أورشليم. وفي هذا السياق، يرى المسيحيّون أنفسهم كحجّاج وغرباء ونزلاء في هذا العالم، لأنّ السماء موطنهم (را في 3/20؛ 1 بط 2/11؛ عب 11/13) فيحيون حياتهم مثل حجّاجٍ في طريقهم إلى أورشليم السماوية (را يو 14/6؛ مر 8/34).
  13. زار الناس الأماكن المقدّسة راجين أن يتشفّع لهم القدّيسون أمام المسيح، طالبين بركات الذين استشهدوا من أجل الشهادة للإيمان المسيحيّ. وقد ساهم تدفّق الحجّاج المتزايد في ترسيخ الشركة بين الكنائس في مناطق جغرافية مختلفة حيث كان مؤمنو إحدى الكنائس يقومون بزيارات حجٍّ لأماكن مقدّسة تابعةٍ لكنائس أخرى. بالإضافة إلى هذه الأماكن المقدّسة، لا بدّ من التنويه بدور الأديرة التي ساهمت بشكلٍ ملحوظٍ في تزايد مدّ الحجّاج من خلال توفيرها أماكن الضيافة للزوّار.
  14. لم يكن الحجّ إلى الأرض المقدّسة مصدر بركةٍ وتنقيةٍ وتوبةٍ وحسب، بل كانت زيارات الحجّ التي قام بها العلمانيون والرهبان والباحثون والقادة البارزون أيضًا مصدرًا لفهم الطبيعة الجغرافية والتاريخية لأورشليم والمنطقة المحيطة بها، وأعطتهم صورةً مرئيةً عن الأرض المقدّسة؛ وهذه الصورة ألهمتْ أدبًا لاهوتيًا وتفاسيرًا للعهد الجديد ومؤلفاتٍ شعريةً وفنّ الأيقونات ونصوصًا ليتورجية. ومن ضمن الأمور الأخرى التي أسهمت بها هذه الزيارات، انتشارُ كتب صلوات الحجّاج، وكتب القراءات المخصّصة للحجاج كما هو الحال في التقليد الأرمنيّ.
  15. إنّ الحجّ هامٌّ من أجل نمو الأفراد روحيًّا لأنّه يقترن دومًا بالصلاة والتضرّع والصوم والنذور وإكرام القدّيسين والشهداء والمشاركة بالطقوس الليتورجية والتوبة. هذا مِن جهةٍ. ومن جهة أخرى، فهو هامٌّ من أجل الشراكة وانتشار رسالة الكنيسة.
  16. لعبت زيارات الحجّ دورًا مهمًّا في توطيد الشركة والتواصل بين المؤمنين في كنائسنا. فالتاريخ يشهد على أنّها ساهمت على المستوى الشعبي كوسيلةٍ لفهم المسيحيّين القادمين من ثقافات ولغات وتقاليد مختلفة. إلى ذلك، فإنّ بعض آباء الكنيسة العظام، رهبانًا وقادة كنسيّين، جالوا من كنيسة إلى أخرى لزيارة مراكز الحجّ المتنوّعة. فبالإضافة إلى أورشليم، كان المسيحيّون السوريّون على سبيل المثال يحجّون إلى مصر، والمسيحيّون الغربيّون إلى فلسطين؛ أمّا الرهبان الأثيوبيّون فلهم تاريخٌ طويلٌ في زيارة الأديرة في مصر وسوريا.

ملخّص وخاتمة

  1. لقد بحث الحوار بشكلٍ مفصّل في طبيعة العلاقات التي سادت بين الكنائس الأعضاء قبل انقسامات القرن الخامس. وقد تبيّن أنّ الشركة الكاملة التي كانت قائمة بين الكنائس كانت تتجلّى بطرقٍ مختلفة وعديدة عبر شبكةٍ واسعة من العلاقات المبنية على الاعتقاد العامّ بأنّ جميع الكنائس متّفقة في الإيمان الواحد.
  2. وقد ظهرت تعابير الشركة هذه في ستّة مجالاتٍ على الأقلّ: 1) من خلال تبادل الرسائل والزيارات (الرسمية وغير الرسمية) التي تخطّت حدود الإمبراطورية الرومانية؛ 2) من خلال السينودوسات والمجامع التي عُقدت لحلّ المسائل العقيدية والتدبيرية؛ 3) من خلال الصلاة والطقوس الليتورجية المتشابهة؛ 4) من خلال إكرام الشهداء والقدّيسين المشترَكين؛ 5) من خلال نموّ الرهبنة وانتشارها في سائر الكنائس؛ 6) من خلال الحجّ إلى مزارات الكنائس المختلفة.
  3. في تلك الفترة، كانت تعابير الشركة هذه بمعظمها غير رسمية، أي أنّها لم تكن تجري وفق أُطُرٍ واضحة. كما أنّها كانت تتمّ بشكل أساسيّ على المستوى الإقليميّ، دون أن تكون هناك مرجعية مركزية واضحة. فمن ناحية، تنامى في روما شعورٌ بأهمية وجود خدمةٍ أشملَ للشركة والوحدة، لا سيما منذ نهاية القرن الثالث. لكن، من ناحية أخرى، لا دليل واضحٌ على أنّ الكنائس الأرثوذكسية الشرقية قبلتْ بِـمثل هذه الخدمة في يومٍ من الأيام.
  4. إنّ العديد من العلاقات التي كانت قائمة بين الكنائس في القرون الأولى استمرّت حتّى اليوم على الرغم من الانقسامات، أو أُعيد إحياؤها مؤخّرًا. كما أنّ تبادل الرسائل والزيارات بين رؤساء الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية الشرقية قد بات شائعًا. وفي الكثير من الأماكن، صار المؤمنون من مختلف الكنائس يحتفلون بالصلاة معًا أكثر فأكثر، يتعلّمون من بعضهم البعض ويتشاركون بغنى تقاليدهم الخاصّة. ويتضمّن ذلك في أغلب الأحيان التشارك في قصص القدّيسين والشهداء، القيام بزيارات حجٍّ مشتركة وزيارة المقامات المقدّسة لدى بعضهم البعض. كما أنّ هناك تبادلاً متزايدًا بين الجماعات الرهبانية يعيد إلى الأذهان التبادل الذي كان قائمًا في القرون الأولى. بالإضافة إلى أنّ حضور وفود من كنائس أخرى في مناسبات كبرى مثل تنصيب رؤساء الكنائس أو جنّازاتهم، وحضور مراقبين من الكنائس الأرثوذكسية الشرقية في المجمع الفاتيكاني الثاني ومجامع لاحقة في الكنيسة الكاثوليكية، إنّما يذكّر بعادة قديمة مماثلة.
  5. وبالنتيجة فإنّ أعضاء اللجنة يمكنهم أن يلاحظوا بارتياح أنّ التواصل الذي كان قائمًا بين كنائسهم في القرون الأولى قد أعيد إحياؤه إلى حدٍّ كبير. وتبعًا لهذه التطوّرات، فإنّهم سوف يدرسون بإيجابية الاختلافات المتبقّية في العقيدة والممارسة، ويحدّدون مدى إمكانية اعتبار هذه الاختلافات مشروعة ولا تمسّ بجوهر الإيمان. سيكون هذا الموضوع سؤالًا محوريًا عندما سيتناولون أسرار التنشئة في المرحلة القادمة من الحوار. وسوف يسألون أنفسهم إلى أيّ مدى يمكن لإعادة العلاقات التي كانت قائمة في القرون الأولى أن تكون كافيةً لإعادة الشركة الأسرارية التامّة اليوم. وهذا سيشمل التفكير في حينه – من ضمن المسائل الهامّة – في موقع أسقف روما في تلك الشركة، وهي مسألة يُعاد بحثها على نطاق واسع في كلّ الكنائس.

يصلّي الأعضاء وملؤهم الثقة بعمل الشفاء والمصالحة الذي يجريه الروح القدس في وسطهم كي يقود خطواتهم المستقبلية نحو الوحدة.

جميع الحقوق محفوظة لموقع دائرة الدراسات السريانية ©