“لأنّ رحمتَه قد قويَتْ علينا، وأمانة الربّ إلى الدهر” (مز 117: 2)
بعد تفقد خواطركم العزيزة، نقول:
مع بداية الصوم الأربعيني المقدّس، هلمّ بنا نحتذي بربّ المجد، فننقاد إلى برّيتنا الروحيّة، لنختليَ بأنفسنا ونتفكّر بوجهة حياتنا ورسالتنا وأهدافها، ونتأمّل بعِظَم أمانة الله تجاهنا وتدبيره الخلاصي لأجلنا، ونترفّع عن الجسديّات طالبين ملكوت الله وبرّه أوّلًا (را مت 6: 33؛ لو 12: 31)، ومتذكّرين كلامَه المحيي: “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكلّ كلمةٍ تخرج من فم الله” (مت 4: 4).
يا لعظمة الصوم! إنّه “سلاحٌ أمام الشرّير، وترسٌ نقابل به سهام العدو” (أفرهاط الفارسي، المقالة الثالثة)؛ نستعدّ بواسطته لملاقاة المصلوب عند الجلجثة، والسجود أمام صليبه المقدّس، والتأمّل بآلامه الخلاصية، فنموت معه لنحيا معه (را 2 تيم 2: 11)، ونرتّل مع المرنّم الإلهي داود قائلين: “يا ربُّ، إلى السَّماواتِ رحمَتُكَ، وإلى الغُيومِ أمانَتُكَ. عَدلُكَ مِثلُ الجِبالِ الشَّامِخةِ، وأحكامُكَ يا ربُّ غَمْرٌ عظيمٌ.” (مز 36: 5-6)
أيّها الأحبّاء، نتأمّل في هذا الصوم المقدّس بأمانة الله نحونا، فهو حافظ الأمانة إلى الأبد (را مز 146: 6)، وأمانتُه عظيمةٌ ثابتةٌ في السموات من جيلٍ إلى جيلٍ، لأنّه لا يخون أمانته أبدًا (مز 89: 2 و33؛ 119: 90)، و”إن كنّا غير أمناء فهو يبقى أمينًا، لن يقدرَ أنْ يُنكِرَ نفسه.” (2 تيم 2: 13)
وتظهر أمانة “الله الإله الأمين” بأنّه يحفظ العهد والرحمة لمحبّيه والعاملين بوصاياه إلى ألف جيلٍ (را تث 7: 9؛ مز 111: 5)، ويتمّم مواعيده ولا يرتدّ عنها أبدًا (را مز 132: 11). ولا شكّ أنّ التجلّي الأعظم لهذه الأمانة ظهر على الصليب حيث الفداء وغفران الخطايا، لأنّ الله “أمينٌ وعادلٌ، يغفر خطايانا ويطهّرنا من كلّ إثم.” (1 يو 1: 9).
وهنا، ننظر إلى تاريخنا البشري الطويل، بنجاحاته وإخفاقاته، بصالحاته وطالحاته، بأمانته وخيانته، فنستقي الدروس والعبر لنتابع رحلة غربتنا على هذه الأرض، ونسلك بلا عيبٍ في طريق الربّ. لذلك، يدعونا القدّيس بولس الرسول أن نكون أمناء ونسهر ونصحو (را 1 تس 5: 6)، المحور الذي يخصّص له الرب سلسلةً من الأمثال تبدأ بمثل الخادم الأمين، فالعذارى، والوزنات، وأخيرًا بوصف يوم الدينونة العظمى حيث يذهب الصالحون الأمناء إلى الحياة الأبدية، أمّا الأشرار فإلى العذاب الأبدي (را مت 24 و25).
علينا إذًا، أيّها الأحبّاء، أن نحيا حياةً تُرضي الله، فنحفظ وصاياه، ونزداد تقدّمًا في حسن السيرة، ونصبو نحو القداسة (1 تس 4: 1-2)، ولا نتهاون أبدًا، بل نجتهد في إعلان كلمة الله بأمانةٍ (را إر 23: 28) “غير سالكين في مكرٍ، ولا غاشّين كلمة الله، بل بإظهار الحقّ” (را 2 كور 4: 2).
تتوجّه أنظارنا اليوم إلى كنيستنا المتألّمة في المشرق العزيز، هذه الخادمة الأولى للبشارة، والشاهدة الأمينة في إيصال الإنجيل إلى المسكونة بأجمعها، وفيها انعكاسٌ لصورة استيفانوس رئيس الشمامسة وبكر الشهداء، الذي سار على خُطى الربّ فغفر لمضطهِديه، وبقي أمينًا إلى الموت فنال إكليل الحياة (را أع 7؛ رؤ 2: 10).
ندعوكم أيّها الأحبّاء في هذا الشرق لتثبتوا إلى النهاية (را مت 24: 12(. إنّنا نتألّم جدًّا لألمكم ومعكم، عسانا نفرح لفرحكم في القريب العاجل (را رو 12: 15)؛ نسأل الله أن يقصّر هذه الأيام (را مت 24: 22)، ويمسح كلّ دمعةٍ من عيونكم (را رؤ 21: 4). فيعود الامن والسلام إلى ربوع بلادنا المشرقية وخاصة في العراق وسورية، أرض الآباء والأجداد. كما نصلّي من أجل عودة صاحبَيْ النيافة أخوَيْنا الحبيبَيْن مطرانَيْ حلب المخطوفَيْن بولس يازجي ومار غريغوريوس يوحنا إبراهيم، اللذين دفعا حريّتهما ثمن أمانتهما في السهر على رعيّتهما.
نتطلّع أيضًا إلى كنيستنا في بلدان الانتشار، وهي تنمو وتتزايد بوتيرةٍ سريعةٍ بسبب هجرة أبنائنا المضطَهَدين، فنجدها مُضطَهَدةً ولئن بشكلٍ مختلف. ونرى فيها يوسف البارّ الذي ظلّ أمينًا لإلهه في أرض مصر رافضًا الانحراف عن الطريق القويم، ومجاهرًا: “كيف أصنع هذا الشرّ العظيم وأخطئ إلى الله؟” (تك 39: 9)، فجعله الله يُثمر في أرض مذلّته (را تك 41: 52).
ونرى فيها دانيال النبي الذي ظلّ أمينًا لإلهه في أرض السبي، فحفظ الصوم (را دا 1: 8) وتفوّق على الوزراء في المملكة لأنّه كان فاضلًا وأمينًا، ورفض أن يستبدل عبادة إلهه بالسجود للملك داريوس؛ فكافأ الله أمانته بإنقاذه من الأسود المفترسة في الجبّ، وجَعْلِه ناجحًا جدًّا (را دا 6). لذلك، نحثّكم أيّها الأحبّاء في كنيسة الانتشار على السلوك بلا عيبٍ في طريق الربّ، مجاهدين ضدّ الخطيئة وحافظين جسدكم في القداسة والكرامة (1 تس 4: 1-4)، فلا يستعبدكم مالٌ ولا سلطةٌ ولا مادّةٌ أو عادةٌ غريبةٌ، بل تظلّوا متمسّكين بإيمان الكنيسة وتقليدها، محافظين على المحبّة حارّة في قلوبكم، لتكون سيرتكم حسنةً عند الذين هم خارج الكنيسة (را 1 تس 4: 12)، وتكونوا نورًا في عالمٍ أحبّ الظلمة أكثر من النور، وملحًا لأرضٍ فسد ملحها ورَدُؤَ (را مت 5: 13-16؛ يو 3: 19).
وكم هي عظيمة أمانة كنيستنا الراسخة في الهند: إنّنا نرى فيها اليوم حالة المفريان القدّيس مار باسيليوس شكرالله، ذاك الذي وطأ أرض الهند زائرًا في القرن الثامن عشر فأردته سجينًا مُضطَهَدًا. غير أنّه بقي أمينًا لرسالته، فقام بعد استعادة حرّيّته بتثبيت أبناء كنيستنا هناك على الإيمان القويم، ورسم لهم القسوس وشيّد لهم الكنائس، ورسّخ علاقتهم بالكرسي الأنطاكي.
ها أنتم اليوم، أيّها الأحبّاء في الهند، تُضطَهَدون بسبب أمانتكم للسدّة البطرسية الأنطاكية. ندعوكم للثقة بأنّ “الضيق يُنشئ صبرًا، والصبر تزكيةً، والتزكية رجاء، والرجاء لا يُخزي” (را رو 5: 4-5). نأمل أن يمكّننا الربّ الإله من إنهاء المشكلة القائمة عندكم بأمانةٍ وبما يرضي اسمه القدّوس، فيسود السلام من جديد في الكنيسة في الهند.
ولا يفوتنا التفكّر بالكنيسة الصغيرة الموجودة في كلّ بيتٍ وأسرة؛ إليها نتوجّه بكلّ المحبّة متأمّلين بوالدة الإله مريم ويوسف مربّيه، اللذَين ائتمنهما الله على ابنه الوحيد، فحفظا الأمانة من كلّ أذىً (را مت 2: 13-23)، وربّيا الصبيّ بحسب شريعة الربّ (را لو 2: 21-51). إنّنا ندعو الأزواج ليحفظوا العهد الزوجي المقدّس بأمانة، فيخضعوا بعضهم لبعض في خوف الله (را أف 5: 21)، ويرسموا صورة المسيح والكنيسة في هذا العالم. كما نوصي الآباء والأمّهات بأن يكونوا أمناء في تنشئة أطفالهم على مبادئ الإيمان منذ الصغر، ويحموهم من كلّ تعليمٍ غريبٍ وعادةٍ مدمّرةٍ ومحيطٍ مفسدٍ؛ بل يربّوهم على الثبات في الإيمان، والمثابرة على الصوم والصلاة والتحلّي بالمحبّة الصادقة، فيكونوا قدّيسين في كلّ ما يعملون، لأنّ الله الذي دعاهم قدّوس (1 بط 1: 15). كما ندعو الأبناء والبنات لئلّا يحبّوا العالم ولا الأشياء التي في العالم، بل يصنعوا مشيئة الله فيثبتوا إلى الأبد (1 يو 2: 15 و17). وهكذا تعلن الأسرة متّحدةً: “أمّا أنا وبيتي فنعبد الربّ” (يش 24: 15).
أمّا أحبّاءنا الكهنة برتبهم المختلفة والرهبان والراهبات والشمامسة، فليكن لنا القدّيس البطريرك مار سويريوس الكبير، الذي نحتفل هذا العام باليوبيل المئوي الخامس عشر على لجوئه إلى مصر، مثالًا في الأمانة، إذ بقي متمسّكًا بالإيمان القويم، ساهرًا على كنيسة أنطاكية ومدبّرًا إيّاها حوالي العشرين سنةً من منفاه وأرض غربته في مصر.
وإذّاك، ندعوكم لتحفظوا الوديعة (را 2 تيم 1: 14) على اختلاف أنواعها، فيكون الكهنة منكم – خُدّام المسيح، ووكلاء سرائر الله – أمناء في خدمتهم الكهنوتية (را 1 كور 4: 1-2)، ساهرين على الرعية، ومحافظين على الوصايا والتعاليم الكنسية؛ والرهبان والراهبات أوفياء لنذورهم الرهبانية مجتهدين في مسيرتهم الطويلة نحو القداسة والكمال؛ والشمامسة محافظين “على سرّ الإيمان بضميرٍ طاهر” (1 تيم 3: 9).
أيّها الأحبّاء، فيما نهمّ بالدخول إلى الصوم الأربعيني المقدّس، نحثّكم على تثبيت أمانتكم بالصلاة والصوم والتأمّل بالقراءات المقدّسة الخاصّة التي رتّبتها الكنيسة لهذا الزمن المقدّس. كما نوصيكم أن تكونوا أمناء بتقديم الصدقات، متذكّرين تلك الأرملة التي وضعت كلّ ما تملك في خزانة الهيكل (مر 12: 41-44؛ لو 21: 1-4). ونشجّعكم على عمل الرحمة والمحبّة تجاه جميع الناس، فتكونوا على صورة المعلّم الصالح الذي جاء ليَخدِم لا ليُخدَم (را مت 20: 28؛ مر10: 45)، والذي يصف مار يعقوب السروجي خدمتَه للبشرية بأبياتٍ بديعةٍ فيقول:
ܢܚܶܬ ܗ̱ܘܳܐ ܐܳܣܝܳܐ ܘܗܰܠܶܟ ܒܰܐܪܥܳܐ ܘܰܐܣܺܝ ܟܺܐܒܶܝ̈ܗ̇܆ ܫܩܰܠ ܟܽܘܪ̈ܗܳܢܶܐ ܘܰܥܨܰܒ ܫܽܘ̈ܚܢܶܐ ܘܰܐܦܶܩ ܕܰܝ̈ܘܶܐ.
ܘܰܛܪܰܕ ܫܺܐܕ̈ܶܐ ܘܰܐܚܠܶܡ ܡܰܪ̈ܥܶܐ ܘܕܰܟܺܝ ܓܰܪ̈ܒܶܐ܆ ܦܬܰܚ ܠܰܣ̈ܡܰܝܳܐ ܘܝܰܗ̱ܒ ܚܽܘܠܡܳܢܳܐ ܠܰܡ̈ܡܰܚܰܝܳܐ…
وترجمتها: “نزل الطبيب وجال في الأرض مداويًا أوجاعها، فرفع الأمراض وضمّد الجراح وأخرج الأرواح.
طرد الشياطين وشفى الأسقام وأبرأ البرص، فتح (عيون) العمي ووهب الشفاء للمرضى.
حوّل الماء إلى خمرٍ طيّبٍ فشرب الشعب، وكثّر الخبز للجموع في البرّية فأشبع الآلاف.
وأوقف بثوبه سيلان الدم من المرأة النازفة، ومنح الحياة للسامرية لمّا التقت به.
أخرج الشرّير من (ابنة) الكنعانية المعذَّبة، ووهب الغفران للخاطئة التي دخلت عنده.
قوّم بكلمتِه المنحنيةَ بسبب المرض، وأعطى المخلّع غفران الذنوب والشفاء.
أراد فطَهُرَ الرجل الأبرص من نجاسته، وفتح بالطين (عيون) ذاك الأعمى فأبصر النور.
شفى الرجل الأخرس الأعمى الذي فيه شيطانٌ، وأقام الميت في الطريق وأعاده لأمّه.
خلّص الصبيّةَ من فم الموت وأعادها لأبيها، ودعا لعازر بعد أن أنتن فخرج (من القبر).” (من الميمر 29، طبعة 2017)
ليتقبّل الربّ الإله صومكم وتوبتكم وصلواتكم وصدقاتكم، ويؤهِّلكم لتبتهجوا بعيد قيامته المقدّس ببهجةٍ وسرورٍ وصحّةٍ تامّةٍ، ويرحم أمواتكم المؤمنين، بشفاعة السيّدة القدّيسة العذراء مريم والدة الإله ومار بطرس هامة الرسل ومار سويريوس الكبير وسائر الشهداء والقدّيسين، وكلّ عامٍ وأنتم بخير. ܘܐܒܘܢ ܕܒܫܡܝܐ ܘܫܪܟܐ.
صدر عن قلايتنا البطريركية في دمشق
في الرابع عشر من شهر شباط سنة ألفين وثمانية عشر
وهي السنة الرابعة لبطريركيتنا