Skip to content Skip to footer

2000- مار يعقوب البرادعي والملكة البارة تيودورة

الذكرى المئوية الخامسة عشر لميلاد القديس مار يعقوب البرادعي والملكة البارة تيودورة

بعد تفقد خواطركم العزيزة وإهداء البركة الرسولية نقول:

ها قد رست سفينة حياتنا في ميناء عام الألفين لميلاد ربنا يسوع المسيح بالجسد. ويعتبر بعضنا هذا العام ختام الألفية الثانية بينما يعتبره آخرون بداية الألفية الثالثة ونحن سواء أخذنا بالرأي الأول أو بالثاني، علينا أن نشكر اللّـه الذي أبقانا على قيد الحياة إلى اليوم ونطلب إليه تعالى أن يكون معنا في مشوارنا الجديد في السنين القادمة.

وننتهز فرصة قدوم الصوم الأربعيني المقدس لهذا العام لننصت جيداً ونسمع صوت اللّه الذي نادى به البشر من خلال أنبيائه أولاً وخاصة يونان النبي الذي أمره الرب فذهب إلى نينوى ونادى عليها بالويل والثبور وعظائم الأمور لأن شرّ أهلها كان قد صعد أمام الرب، فآمن أهلها باللّـه ونادوا بصوم ولبسوا مسوحاً من كبيرهم إلى صغيرهم، وافترشوا الأرض والتحفوا السماء وعادوا إلى اللّه تائبين ساكبين الدموع، وهكذا ترحّم اللّـه عليهم فخلصت مدينتهم من الهلاك وصاروا قدوة لجميع التائبين. واللّـه الذي كلّم الآباء بالأنبياء قديماً يقول الرسول بولس كلمنا بابنه الحبيب يسوع المسيح الإله المتجسد الذي نحتفل بكمال الألفية الثانية أو بدء الألفية الثالثة لميلاده بالجسد فهو كلمة اللّـه الذي يصفه الرسول يوحنا بالإنجيل المقدس قائلاً: «في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند اللّـه وكان الكلمة اللّه، والكلمة صار جسداً وحلَّ فينا ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً»(يو1: 1و14) «لأنه هكذا أحبّ اللّه العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية»(يو3: 16) فمن أجل خلاصنا نحن البشر تجسّد كلمة اللّه وفدانا بموته على الصليب وقيامته من بين الأموات. وبدأ رسالته العلنية الجهورية بالجسد بدعوة الناس إلى التوبة بقوله: «قد كمل الزمان واقترب ملكوت اللّـه فتوبوا وآمنوا بالإنجيل» (مر1: 15).

هذا هو ربنا ومخلصنا يسوع المسيح الذي لبس جسدنا وصار واحداً منا وجُرِّب في كل شيء مثلنا ما عدا الخطية وتألم ومات ودفن وقام في اليوم الثالث كما شاء وصعد إلى السماء وجلس عن يمين الإله الآب وأيضاً سيأتي بمجد عظيم ليدين الأحياء والأموات ذلك الذي ليس لملكه انقضاء، كما ينص دستور الإيمان النيقاوي. أجل لقد وعدنا أن يعود إلينا ثانية مع ملائكته بمجد عظيم وظنّ بعضهم أن موعد عودته هو السنة الـ 2000 مع أنه كان له المجد قد أعلن حقيقة موعد مجيئه بقوله: «وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا ملائكة السموات إلاّ أبي وحده» (مت24: 36) وأكّد علينا أن نسهر ونصحو والسهر هو اليقظة الروحية المستمرة المقرونة بالتوبة النصوح واللهج بناموس اللّه وشرائعه والتأمل في تدبير الرب يسوع بالجسد وعمل الفداء وقبوله مخلّصاً لنا. والإيمان بعقيدة مجيئه الثاني التي يلخّصها الرسول يوحنا الحبيب بقوله في سفر الرؤيا: «هوذا يأتي مع السحاب وستنظره كل عين»(رؤ1: 7) ولكن متى يكون موعد مجيئه الثاني، لا نعلم، فعلينا أن نؤمن بما أعلنه لنا الرب يسوع من الحقائق الإيمانية وننتظر بإيمان وشوق مجيئه الثاني. ولنقتدِ بالرسول يوحنا ونقول معه: «تعال أيها الرب يسوع»(رؤ22: 20).

أيها الأحباء: ما أجمل أن ننتهز فرصة قدوم الصوم الأربعيني المبارك لنتوب إليه تعالى ونقرن الصوم بالصلاة وتوزيع الصدقات ليقبل اللّه ذلك منا ويغفر خطايانا ويؤهّلنا أن نكون يوم مجيئه الثاني في عداد الأبرار والصالحين الذين سيقومون قيامة الحياة ويرثون معه ملكوته السماوي.

أيها الأعزاء:

يعتبر عام 2000 للميلاد الذكرى المئوية الخامسة عشرة لميلاد القديس مار يعقوب البرادعي والبارة التقية الإمبراطورة تيودورة. وانطلاقاً من وصية الرسول بولس في رسالته إلى العبرانيين التي تحثّنا لنذكر مرشدينا الذين كلمونا بكلمة اللّه، وأن نتأمل بنهاية سيرتهم ونتمثّل بإيمانهم (عب13: 7)، نصدر منشورنا هذا الأبوي حاثين إياكم على التأمل بسيرة القديس مار يعقوب البرادعي والبارة التقية الملكة تيودورة، مقتدين بجهادهما الروحي وتمسّكهما بالعقائد الإيمانية السمحة بعروة وثقى فقد اختارهما اللّـه ليكونا عمودين متينين صامدين في الكنيسة المقدسة مجاهدين في سبيل الحفاظ على الإيمان القويم الرأي.

فعلى أثر مجمع خلقيدونية عام 451م الذي رأت كنيستنا المقدسة في قراراته الانحراف عن العقيدة التي تسلّمتها من الرسل الأطهار والآباء الميامين، وتبنّت الدولة البيزنطية قرارات هذا المجمع واضطهدت رافضيها وقتلت بعضاً ونفت آخرين ومات غيرهم من شدة الاضطهاد وتشرّد غيرهم. لم يبقَ للكنيسة السريانية في أواسط القرن السادس للميلاد سوى ثلاثة مطارنة. في هذه الفترة العصيبة قيّض اللـه للكنيسة رجلاً هماماً هو مار يعقوب البرادعي أحد قادة الكنيسة السريانية العظام والذي ندر أن يقوم مثله. ففي الزمن العصيب وقاها من محاولة أعدائها القضاء عليها وشجّع أتباعها على صيانة جوهرة الإيمان الأرثوذكسي الذي تسلّمته من الرسل الأطهار والآباء الأبرار. كان قد لبس الإسكيم الرهباني في دير فسلتا القريب من بلدته وأتقن اللغتين السريانية واليونانية وعرف بتقواه واجتراحه المعجزات وكان ناسكاً زاهداً، صار ثوبه الخشن مثل البردعة فسمي بالبرادعي وكان عالماً كبيراً وواعظاً ناجحاً ولاهوتياً قديراً. قصد القسطنطينية فاستقبلته باحترام الإمبراطورة تيودورة ابنة قسيس منبج السرياني وزوج الإمبراطور جوستنيان التي كانت تخدم الأساقفة غير الخلقيدونيين، السريان والأقباط المضطهَدين المنفيين وتساعدهم في ضيقهم. وبهمّتها رُسم مار يعقوب البرادعي مطراناً عاماً سنة 544م على يد مار ثيودوسيوس بطريرك الإسكندرية الذي كان آنذاك منفياً في القسطنطينية، واشترك معه بوضع اليد ثلاثة أساقفة كانوا في السجن. فشمّر مار يعقوب البرادعي المطران العام عن ساعد الجدّ وجال متفقّداً الكنائس ومثبّتاً المؤمنين في سوريا ومصر وآسيا الصغرى وما بين النهرين على العقيدة السمحة والإيمان الأرثوذكسي ورسم سبعة وعشرين مطراناً، ومئات الكهنة والشمامسة. وانتقل إلى جوار ربه في 30 تموز سنة 578م وعيّدت له الكنيسة المقدسة.

أما الملكة البارة تيودورة قيصرة بيزنطية منذ سنة 523 وإلى سنة 548 فقد ولدت عام 500 للميلاد في مدينة منبج السورية، في نفس السنة التي ولد فيها القديس مار يعقوب البرادعي في مدينة تل موزلت التي تعرف اليوم باسم ويرانشهر في تركيا، وأبوه الكاهن السرياني ثاوفيل ابن معنو من قرية كموا في جبل الأزل المحاذي للجزيرة السورية. وتربّت تيودورة في دار أبيها الكاهن السرياني الأرثوذكسي الفاضل في منبج السورية التربية المسيحية الصالحة وتزوّجت من القيصر يوسطينيان حامي إيمان مجمع خلقيدونية الذي تبنّته الدولة البيزنطية، ورغم ذلك فقد بقيت الملكة تيودورة متمسكة بإيمان آبائها السريان الرافضين لهذا المجمع وقراراته، ولم تتمكن عواصف الاضطهادات العاتية وسيولها الجارفة أن تزعزعها عن إيمانها. وعرفت بذكائها ومخافتها اللّه تعالى وساعدت زوجها في حكم البلاد وإدارة شؤون الدولة وأنقذته من مؤامرات حيكت ضده من أعدائه كادت تهلكه. وشرّعت تيودورة النواميس التي تعدّ مفخرة للعالم حتى يومنا هذا.

وفي تلك الفترة العصيبة استضافت الملكة البارة تيودورة في قصرها آباء الكنيستين السريانية والقبطية المضطهدين مخففة عنهم معاناتهم من الدولة البيزنطية ولكنها لم تتمكن من إيقاف الاضطهاد بل عانت وتحمّلت كثيراً من أعداء زوجها الذين اتهموه بممالأة كنيسة زوجته السريانية. وخلّص الرب الملكة تيودورة من المؤامرات التي حاكها أعداء الكنيسة لإهلاكها. وبشجاعتها وعزيمتها الشماء لم تتقاعس أبداً عن المضي قدماً في طريقها المليئة بالأشواك وانتقلت إلى الخدور العلوية فانضمّت روحها الطاهرة إلى أرواح النسوة التقيات في فردوس النعيم، وخاصة روح هيلانة الملكة ابنة قسيس الرها السريانية الأرثوذكسية ووالدة الإمبراطور قسطنطين، ومع أرواح سائر الأبرار والصديقين لتنتظر بإيمان مجيء الرب ثانية فتتّحد روحها الطاهرة مع جسدها وتقوم قيامة الأبرار الصالحين وتنال المكافأة التي أعدها الرب الإله للمجاهدين الروحيين، حيث يتوجون بأكاليل المجد في ذلك اليوم العظيم.

وقد أثبت مؤرّخونا الثقات الأمناء الذين عاصروها وعرفوا أسرتها معرفة تامة، أثبتوا طهر سيرتها ونقاء سريرتها وفي مقدمة هؤلاء المؤرّخ السرياني مار يوحنا الأفسسي الذي كانت له صلات وثقى بأسرتها وعرفها حق المعرفة وكتب عن طفولتها وزواجها بالقيصر يوسطينيان الذي وعد والدها ألاّ يضطرها على تغيير عقيدتها الإيمانية الرافضة لمجمع خلقيدونية وقراراته وقد برّ بوعده. ولم يستطع عدو الحق وعدوّها اللدود المؤرّخ بروكوبيوس إنكار الأمجاد التي بنتها بحكمتها وشجاعتها في عضد زوجها القيصر يوسطينيان ولئن حاول هذا المؤرّخ غير الأمين وغير العادل تشويه سيرتها الفاضلة ولكن صدق من قال: «لا تقوى الغربال على حجب نور الشمس في رابعة النهار».

ويسرنا بمنشورنا هذا أن نحثّ أبناء كنيستنا إكليروساً وشعباً أن يكرّسوا هذه السنة سنة ألفين للميلاد للتأمل بسرّي التجسد الإلهي والفداء العجيبين، وأخذ العبر من جهاد الشهداء القديسين والمعترفين الأبرار الذين حملوا صليب الرب وتبعوه في طريق الجلجلة وتحمّلوا العذاب في سبيل التمسك بالإيمان به طيلة القرون العشرين المنصرمة فكانوا كواكب منيرة شعّ نورها في سماء كنيستنا السريانية الأرثوذكسية وسجّلوا أمجاد جهادهم الروحي بأحرف من نور على صفحات تاريخ الكنيسة والعالم، وفي مقدمتهم المجاهد الرسولي القديس مار يعقوب البرادعي الذي استطاع أن يكشف النوايا الخبيثة للدولة البيزنطية الظالمة التي سلبت سورية ومصر خيراتهما واستغلّت الدين لخدمة المطامع السياسية وشقّت صفوف الكنيسة المسيحية في الشرق لضمان استمرار استعمارها لهذه البلاد المباركة وحاولت طمس معالم الكنيسة السريانية وتشويه تاريخها وإبادة تراثها وحضارتها واتّهمت آباءها بالبدع التي هم براء منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب.

أيها الأحباء:

لنقتدِ جميعاً بالقديس مار يعقوب البرادعي متاجرين بالوزنات الإنجيلية ولنتشفّع به. ولنطوّب الملكة البارة تيودورة التي فضّلت عار المسيح أي حمل الصليب المقدس على كل أمجاد العالم، لتكتب أسماؤنا كما كتب اسمها مع أسماء القديسين في كنيسة الأبكار في السماء.

وبمناسبة الذكرى المئوية الخامسة عشرة لميلادها وميلاد القديس مار يعقوب البرادعي، نأمر أن يتلى منشورنا هذا في جميع كنائسنا السريانية في العالم أثناء قداس يوم الأحد الأول من الصوم الأربعيني المقدس ثم يتلى ثانية يوم الثلاثين من تموز المصادف لعيد القديس مار يعقوب البرادعي. ولتخصص مؤسساتنا الدينية والتربوية والثقافية والاجتماعية ندوات روحية تدرس فيها سيرتهما، ولنقتدِ بهما بالتمسك بالإيمان القويم الرأي ولا نحيد عما تسلّمناه من آبائنا من عقائد إيمانية قيد أنملة، لنستحق مثلهما إكليل المجد الذي يذكره الرسول بولس بقوله عن نفسه: «قد جاهدت الجهاد الحسن أكملت السعي حفظت الإيمان وأخيراً قد وضع لي إكليل البر الذي يهبه لي في ذلك اليوم الرب الديان العادل وليس لي فقط بل لجميع الذين يحبون ظهوره أيضاً» (2تي 4: 7و8( ولتكن هذه الذكرى السعيدة سبب بركة لكم جميعاً والنعمة معكم ܘܐܒܘܢ ܕܒܫܡܝܐ ܘܫܪܟܐ.

صدر عن قلايتنا البطريركية في دمشق ـ سورية

في اليوم الثاني عشر من شهر شباط سنة ألفين

وهي السنة العشرون لبطريركيتنا

جميع الحقوق محفوظة لموقع دائرة الدراسات السريانية ©