قال الرسول يعقوب: «قاوموا إبليس فيهرب منكم» (يع 4: 7)
أيها الأحباء:
لقد بدأ الصراع العنيف بين قوى الخير وقوى الشر منذ خلق الله الإنسان على صورته كمثاله، وغرس له فردوس عدن ليتنعم فيه، وأقامه سيداً على سائر المخلوقات، فحسده على سعادته هذه ابليس الذي كان أحد الملائكة المقربين ولكبريائه ومقاومته الله تعالى سقط وأتباعه من السماء، وانقلبوا إلى كائنات شريرة أعداء لله وللبشر، وخدع ابليس أبوينا الأولين، وأسقطهما في خطية الكبرياء والشراهة، فطردا من فردوسهما إلى أرض الشقاء. ومما يزيد خطر هذا العدو اللدود أنه كائن غير مرئي في حد ذاته، سره الاختفاء، وقوته عظيمة فبامكانه أن يؤثر في عقل الإنسان محاولاً خدعه بالكذب، فإذا انصاع له الإنسان وصدّقه وقع في الخطية، ويظهر بعمله من خلال كائنات أخرى، كما فعل في الفردوس حيث تقمص الحية التي كانت أحيل جميع حيوانات البرية (تك 3: 1) فأسقطت أبوينا الأولين في الخطية. كما يظهر ابليس أيضاً من خلال التجارب التي تطرأ على البشر بسماح من الله تعالى، كما جرى لأيوب الصدّيق. وغاية ابليس من كل ذلك، أن يسقط الإنسان في الخطية، والخطية هي التعدي على ناموس الله، وبالتالي تجعل من الإنسان الخاطئ عدواً لله، وصديقاً لإبليس وجنده الذين هم أخطر أعداء البشرية، لأنهم كالذئاب الخاطفة التي تأتي بثياب حملان، لتفترس القطيع. ولا يكتشف أمرهم إلا بعد أن يكونوا قد أهلكوا العديد منه. ومما يزيد الطين بلّة، أن ابليس يوهم بعض الناس، ويضللهم، فيعتقدون بأنه لا وجود له، وبذلك يتخلص من مقاومتهم إياه. لكن الكتاب المقدس يؤكد لنا وجود هذا المخلوق اللعين، ويكشف لنا النقاب عن حيله وخبثه، فهو شخص حقيقي غير هيولي أي مجرد عن المادة، ويدعوه الكتاب بالشيطان، أي المقاوم، كما يسميه ابليس، أي المشتكي زوراً، لأنه يشكو الله إلى الناس (تك 3: 1 ـ 5) ويشكو الناس إلى الله (أي 1: 9 ـ 11) (رؤ 12: 10) ويطلق عليه الكتاب المقدس أيضاً اسم الشرير وأسماء أخرى مماثلة، ولكي يحمينا الله منه، أعلنه عدواً لنا بقوله تعالى للحية التي تقمصها ابليس في الفردوس: «وأضع عداوة بينك وبين المرأة، وبين نسلك ونسلها، هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه» (تك 3: 15) فهذه العداوة تقي الإنسان مواقع التهلكة وتحذره من عدوه ابليس.
وقد علّمنا الرب يسوع أن نصلي للآب السماوي قائلين: «لا تدخلنا في تجربة لكن نجنا من الشرير» (مت 6: 13) والرسول بطرس ينبهنا لكي نصحو ونسهر لأن ابليس خصمنا كوحش كاسر يجول ملتمساً من يبتلعه هو. ويؤكد علينا الرسول بطرس بأن نقاومه راسخين في الايمان (1بط 5: 8 و 9). كما أن الرسول يعقوب في آية موضوعنا يحثنا قائلاً: «قاوموا ابليس فيهرب منكم»(يع 4: 7). نعم.. لقد خلق الله الإنسان ناطقاً أي عاقلاً يميز بين الخير والشر، ويعرف الحلال من الحرام، وله الحرية المطلقة بأن يختار ما يشاء فيكافأ على عمل الخير، كما أنه يعاقب على عمل الشر، وحيث أن الحرب الضروس القائمة بين الإنسان وعدوه ابليس مستمرة عبر الدهور والأجيال، وقد انتصر ابليس على الإنسان في جولات كثيرة، وخضع لسلطانه أغلب البشر، وعرّضوا أنفسهم لغضب الله تعالى، وهلكوا حتى أن الرسول بولس يقول بهذا الصدد: «إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله»(رو 3:23) وقال الرب يسوع: «لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية»(يو 3: 16). فالله تعالى ولئن يبغض الخطية ولكنه يحب الخاطئ ولا يريد له الهلاك، لذلك قال تعالى على لسان النبي حزقيال: «فإذا رجع الشرير عن جميع خطاياه التي فعلها وحفظ كل فرائضي وفعل حقاً وعدلاً فحياة يحيا لا يموت» (حز 18: 28) وحيث أن الإنسان عجز عن خلاص نفسه، شاءت الارادة الربانية منذ البدء أن يتجسد الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس ويفدي الإنسان بدمه الثمين، وكما تخفى ابليس في الفردوس إذ تقمص الحية، شاء الله تعالى أن يحجب ابن الله لاهوته بالناسوت الكامل الذي أخذه من العذراء مريم، لذلك لم يعرفه ابليس على حقيقته، ولكن على أثر صعوده من الماء بعد أن اعتمد من يوحنا في الأردن، وبينما كان يصلي، انشقت السموات وهبط الروح القدس مثل حمامة واستقر على هامته، وسمع صوت الآب من السماء قائلاً: «أنت ابني الحبيب الذي به سررت»(مر 1: 11) حينذاك ساورت ابليس الشكوك في حقيقة شخصية المسيح يسوع، ولما أصعد يسوع إلى البرية من الروح القدس بإرادته ليُجرَّب من ابليس، وصام أربعين نهاراً وأربعين ليلة، وجاع أخيراً (مت 4: 1 و 2) انتهزها ابليس فرصة سانحة ليكتشف بها هوية الرب يسوع، ويتحقق من شخصيته، هل هو يا ترى إنسان بار، دعي ابن الله لتقواه؟ أم هو حقاً ابن الله بالطبيعة؟ فتقدم ابليس إلى الرب يسوع وجربه بالتجارب الثلاث الرئيسية التي يتعرض لها الإنسان عادة وهي الشراهة ومحبة المجد الباطل أي الكبرياء ومحبة المال وسائر مقتنيات الدنيا الفانية، ويلخصها الرسول يوحنا بقوله: «إن أحب أحد العالم، فليست فيه محبة الآب، لأن كل ما في العالم شهوة الجسد، وشهوة العيون، وتعظم المعيشة، ليس من الآب بل من العالم، والعالم يمضي وشهواته، أما الذي يصنع مشيئة الله فيثبت إلى الأبد» (1يو 2: 15 و 17).
يقول بعض المفسرين إن البرية التي أصعد إليها يسوع كانت برية التيه حيث كان موسى (خر 24: 18) وايليا (1مل 19: 8) قد صاما فيها. ويذكر بعضهم أنها كانت برية يهوذا حيث يوحنا المعمدان يكرز بالتوبة. ويقتصر متى الرسول على ذكر التجارب الثلاث الأخيرة، ويفهم من كلامه أنه جرّب بها بعد انتهاء صومه، ولكن يُفهم من كلام مرقس (1: 12 و 13) ولوقا (4: 1 ـ 13) بأن الرب يسوع كان يجرّب من ابليس طيلة الأيام الأربعين التي صامها، وكانت التجارب عديدة ومتنوعة، فكرية وعملية إلى جانب التجارب الثلاث الأخيرة التي امتازت في شدتها، والتي ظهر فيها المجرب للعيان.
أجل لقد صام الرب يسوع بالنيابة عن البشر ليعلمنا أن نصوم، وليكشف لنا سر الأسلحة الروحية التي بها نغلب ابليس، إذ قال مرةً لرسله عن جنسٍ من الشياطين: «وأما هذا الجنس فلا يخرج إلا بالصلاة والصوم» (مت 17: 21).
فبعد أن أكمل الرب يسوع صومه، ظهر له ابليس في البرية بهيئة إنسان أولاً، جاء بصفة صديق، وتظاهر بمحبته والشفقة عليه، إذ رآه يكاد يموت جوعاً في تلك البرية التي لا يمكن أن يجد فيها الإنسان طعاماً، ولفت نظره إلى الحجارة التي كانت تظهر وكأنها أرغفة خبز «فتقدم المجرب إلى يسوع وقال له: إن كنت ابن الله فقل أن تصير هذه الحجارة خبزاً. فأجاب وقال: «مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله»(مت 14: 2 و 4) هذه التجربة القاسية شبيهة بتجربة أبوينا الأولين بالأكل من الثمرة المحرمة، وهي الشرك الذي ينصبه ابليس للإنسان عادةً ليشككه بمحبة الله له، وعنايته به. وجواب الرب يسوع للمجرب يعلمنا بأن نبتعد عن الشراهة، فإن أبوينا الأولين، أكلا من الثمرة وماتا أدبياً، وبذلك دخل الموت الطبيعي إلى العالم، ورشح الإنسان للموت الأبدي أيضاً. وأن سقوط الإنسان الأول في هذه التجربة، حوّل فردوسه إلى برية جرداء، حيث طرد إلى أرض الشقاء، ليشقى فيها، وليأكل خبزه بعرق جبينه، أما الرب يسوع فقد انتصر على المجرب، وحوّل برية العالم إلى فردوس النعيم.
أما في التجربة الثانية، فقد ظهر ابليس للرب مثل ملاك، أخذ الرب إلى المدينة المقدسة وأوقفه على جناح الهيكل، وقال له: «إن كنت ابن الله، فاطرح نفسك إلى أسفل، لأنه مكتوب أنه يوصي ملائكته بك، فعلى أيديهم يحملونك، لكي لا تصدم بحجر رجلك. فقال له يسوع: مكتوب أيضاً لا تجرب الرب الهك»(مت 4: 5 ـ 7) وهذه تجربة محبة المجد الباطل والكبرياء والافتخار بما يناله الإنسان من نجاح وقوة روحية أو جسدية في هذه الحياة الدنيا، وقد استعمل ابليس أقوال الكتاب المقدس لغرض شرير، وبنية رديئة، وأجابه الرب داحضاً إياه من تعاليم الكتاب أيضاً، فكل من يستغل آيات الكتاب المقدس فيفسرها بما يوافق آراءه الفائلة، وعقائده الباطلة، يكون قد تشبّه بابليس.
أما التجربة الثالثة أيها المؤمنون، فقد كشف بها ابليس عن حقيقته فظهر بهيئة قبيحة، مفتخراً بخزيه معلناً بأنه ابليس «وأخذ يسوع إلى جبل عالٍ جداً، وأراه جميع ممالك العالم ومجدها، وقال له: أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي. حينئذ قال له يسوع: اذهب يا شيطان، لأنه مكتوب للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد، ثم تركه إبليس وإذا ملائكة قد جاءت فصارت تخدمه»(مت 4: 8 ـ 11) من هذه التجربة نتعلم أن الذي يسمع لإبليس في الأمور الصغيرة، ينقاد حتماً إلى درك التهلكة، حتى أنه يستعبد لإبليس، تاركاً عبادة الله، فإبليس يعتبر نفسه معادلاً لله، ويدّعي كاذباً أن ممالك العالم هي له، أن العوالم كلها قد خلقها الله، وتسير بموجب الناموس الذي وضعه لها تعالى، وإذا كان قد أعطى الحرية للإنسان، فإن بعض الناس يستغلون هذه الحرية ويتمرغون بالشهوات، ويستعبدون لإبليس، فلا يعني ذلك أن إبليس قد أُعطيَ العالم كله. وهذه التجربة هي تجربة محبة المال والجشع والطمع وتحصيل ذلك بالطرق المشروعة وغير المشروعة، وحذرنا الرب يسوع من هذه الرذيلة بقوله: «لاتقدرون أن تحبوا الله والمال»(مت 6: 24 و لو 16: 13) ويقول الرسول بولس: «محبة المال أصل كل الشرور»(1تي 6: 10) وهكذا أخزى الرب يسوع ابليس، ودحره، وظفر به، فهرب إبليس من أمام وجه الرب، فجاءت الملائكة وصارت تخدمه. ونازل إبليس الرب يسوع في جولة أخيرة عندما دخل في حنان وقيافا ويهوذا وغيرهم فاشتركوا في صلب الرب يسوع وبصلبه سحق يسوع رأس الحية الدهرية إبليس اللعين وقصم ظهره وهشّم أضراسه، وأعطانا الغلبة عليه، حتى أن طفلاً صغيراً برسمه إشارة الصليب على وجهه بإيمان يدحر الأبالسة كلها «فشكراً لله الذي يعطينا الغلبة بربنا يسوع المسيح»(1كو 15: 57).
أيها الأحباء.. في أيامنا هذه العصيبة، نحن في حرب شديدة مع إبليس وجنده. وبهذا الصدد يقول الرسول بولس «فإن مصارعتنا ليست مع دم ولحم بل مع الرؤساء، مع السلاطين، مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشر الروحية في السماوات»(أف 6: 12) الذين يحاولون أن يشككونا في حقيقة محبة الله لنا، ويريدون أن يقنعونا بأنه لا يرعانا ولا يعتني بنا، كما أنهم يحاولون أن يعثرونا بصدق وعوده الالهية لأتقيائه. ولكننا إذا ما التجأنا إلى الرب بإيمان إبّان المحن القاسية والمصائب الصعبة، والأزمنة العصيبة، فإنه يخلصنا من التجارب. فما علينا إلاّ أن نصلّي ونصوم لنغلب إبليس وجنده.
إنها لفرصة ذهبية ثمينة أيها الأحباء، تتيحها لكم الكنيسة المقدسة كل عام في مثل هذه الأيام، بفرضها عليكم التمسك بالصيام الأربعيني المقدس وأسبوع الآلام المحيية، لتكون هذه الأيام ميداناً لمقارعة إبليس ودحره بالصلاة والصيام وتوزيع الصدقات على المعوزين والفقراء والمحتاجين. «واله السلام سيسحق الشيطان تحت أرجلكم سريعاً»(رو 16: 20) على حد تعبير الرسول بولس الذي يحثّكم أيضاً قائلاً: «فاثبتوا ممنطقين أحقاءكم بالحق، لابسين درع البر، حاذين أرجلكم باستعداد إنجيل السلام، حاملين فوق الكل ترس الايمان الذي به تقدرون أن تُطفئوا جميع سهام الشرير الملتهبة»(أف 6: 14 ـ 16). وصلوا دائماً الصلاة الربية بإيمان طالبين من الله الآب ألا يدخلكم في التجربة لكن لينجيكم من الشرير (مت 6: 13) وأن تقاوموا إبليس ليهرب منكم (يع 4: 7) وتأتي الملائكة فتخدمكم.
تقبل الله صومكم وصلواتكم وصدقاتكم، وأهّلكم لكي تحتفلوا بعيد قيامته المجيدة من بين الأموات وأنتم بأحسن حال وأنعم بال، والنعمة معكم. ܘܐܒܘܢ ܕܒܫܡܝܐ ܘܫܪܟܐ
صدر عن قلايتنا البطريركية
في السادس من شهر آذار سنة ألف وتسعمائة وأربع وتسعين
وهي السنة الرابعة عشرة لبطريركيتنا