الموعظة التي ارتجلها في مدينة ” البصرة ” بمناسبة عيد الصعود
” من هو ذا الصاعد من آدوم وثيابهُ محمرة ” .
عجيبة هذه النبوة العظيمة التي تتصور بربنا يسوع المسيح وعظمته الإلهية . عجيبة هذه النبوة التي ترى ربنا يسوع المسيح يُنهي عملهُ الخلاصي في هذا العالم ويتغلبُ على الشر الذي حطم الأنسان منذ أن دخل الشر في قلبه والى ذلك النهار .
عجيبة هذه النبوة ان ترى الإله الظافر مُتصاعداً مُتعالياً من آدوم وثيابه محمرة . إنه لوصفٌ جميل ان نرى الصاعد من آدوم مُخَضبة ثيابه بِدِمائِه السامية وهو يتعالى رُوَيداً رُويداً لكي يجلس عن يمين الآب . النبوات عظيمة جداً وهي تصور كل حادثة من هذه الحوادث التي رأيناها بائنة في أعمال الرب ، بل مصورة كل دقيقية من دقائق حياته منذ ميلاده وحتى صعوده . وصعوده الى السماء كان عملاً عظيماً يؤلِهُ جميع الاعمال التي قام بها ، ويُظفي عليها عظمةً ووضوحاً ويجعلُ المؤمنُ الحق ان يثبت في الايمان وان يتقوى في الرجاء . وخاصة وقد اخبرنا أنجيل المسيح ان الرب يوم صعوده أخذ تلاميذه الى جبل الزيتون ، وكان جبل الزيتون جبلاً محبوباً لديهِ ، نرى ان اعمالاً عظيمةً كثيرة يبدأها الرب يسوع في جبل الزيتون ، وأعظم تلك الأعمال اكتئابه على اوروشليم ، وآلامه الكثيرة التي أظهرها عندما كان يكتئب ، لا على تلك الحجارة العظيمة ولا على ذلك الهيكل الباذخ ، ولكنه كان مكتئباً على شعبٍ لم يستطيع ان يفهم قوته الإلهية أو ان يُدركَ لماذا جاء الى تلك المدينة ! لم يكن يسوع يكتئب على حجارة عالية ولا على ابنيةٍ باذخة لأنها لم تكُن في حساب الروح ، بل إنما هي تدخل في حساب الجسد.
ويلٌ لشعبِ اسرائيل لأنهم هربوا عن الرب وأذنبوا اليه ، فيتعثر ويسقط رؤساؤهم الى الارض ، وتذهب النبوة ويزول الكهنوت وتتلاشى الذبيحة. كل تلك الامور كان يتصورها الرب وقد قال قبل ذلك : ” يا أوروشليم يا أوروشليم يا قاتلة الانبياء وراجمة المرسلين إليها ، كم مرة أردتُ ان اجمع اولادكِ كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا ، لذلك سيُتركُ لكم بيتكم خراباً ” . هذا ما سمعناه من الرب وهو على جبل الزيتون ، وقد سمِعنا امورا كثيرة على جبلِ الزيتون . وأراد لآخر لحظة يقضيها بيننا ليودعنا من جبلِ الزيتون. لذلك رأيناه يأخذ تلاميذه ويصعد بهم الى جبلِ الزيتون بجانبِ بيت عنيا ، ويترآى ايضاً امامهم مكتئباً لأنه سيغادرهم بعد ان اعطاهم قوةً من العُلى ، بعد ان نفخ بهم شجاعة لا تُضاهيها شجاعة في هذا العالم ، بعد ان اوصاهم ان يمكثوا في اوروشليم حتى ينالوا قوةً من العُلى تُمكنهم من نقل الدعوة الإلهية وتجشُمِ ضيقاتٍ كثيرة واحتمال المصائب . إنه على جبلِ الزيتون والاحد عشر حولهُ وهم لا يعرفون لماذا جاء الى هناك . و كأنني ببطرس ويعقوب ويوحنا يعودون بفكرِهِم الى يوم التجلي ، يوم انتخبهم ثلاثتهم فقط لكي يروا تلك الاعجوبة العظيمة ، الرب يتجلى على الجبل وموسى وإيليا يظهران يخاطبانه على يوم صعوده . كأنني بهما ذَكَرا يوم البستان ، بستان جشيماني وهو في سفح جبل الزيتون يوم انتخبهم بالذات ايضاً : بطرس ويعقوب ويوحنا ، لكي يريهم كآبته . فمن الجبل ، جبل التجلي ، من عظمة التجلي الى كآبة البستان والى أنتصار ِ جبل الزيتون . هذه الأمور الثلاثة ذكرها الرسل في تلك اللحظة ولم يكونوا يعرفون ان كل شيءٍ قد أنتهى ، وان عمل الرب قد إكتمل ، والفداء قد أنتصر ، وكُلُ شيءٍ أعطاهُ الرب كاملاً وثابتاً ، غير منقوصٍ لهذا الانسان . يُصور الأنجيلي تلك الحادثة العظيمة ، الرب على الجبل وحوله الرسل ويرفع يديه ويباركهم وبينما هو يباركهم ، ينفرد عنهم ويرتفع الى السماء . إنه لأمر عجيب ان يرتفع الى السماء في هذا الجسم الذي رأيناه بأعيننا ، وسمعناه بآذاننا ، ولمسناهُ بأيدينا . إنه لأمر عجيب أن يرتفع بهذا الجسم ويداه ورجلاه مثقوبه وجنبه مطعون وآثار الألم ، كل ذلك يترآى على ذلك الجبين الإلهي ، وتتم النبوة القائلة : ” من هذا الصاعد من آدوم وثيابه محمرة ؟” الصاعد من آدوم الأرض ، من هذه الأرض المليئة بالشرور ، والمليئة بالموبقات ، الأرض التي ثار ملوكها وحُكامها على الرب وعلى مسيحه قائلين : ” لنقطع عنا قيودُهُما ولنطرح عنا رُبُطَهُما ” ، ويردف النبي ويقول : ” الساكن في السماوات يضحك . الرب يستهزيء بهم ” . هذه ارض آدوم التي عُرفت بظُلم أبناءهاوبشرهم وخبثهم ووقيعتهم.
يرتفع المرتفع منها وثيابه محمرة ويداه مثقوبتان ورجلاه مثلومتان وجنبهُ مطعون بالحربة ، وكل شيء يدل على الدِماء التي سالت من ذلك الجسم الإلهي . هذا ما رأيناه وهو يودع رسله المحبوبين والرسل ينظرون اليه وهو يرتفعُ عنهم وكأني بهم يذكرون حادثة إليشع . إليشع الذي رأى سيده أيليا يرتفع بمركبة نارية ويتوارى عن العيون ويطرح اليه رداء النبوة ، ويمسح إليشع وتهبط عليه روح النبوة ، فيصيرُ في الارضِ بروح ايليا وقوته وعجائبه . أما هُنا فأعظم من ايليا وأفضلُ من إليشع . وإن ارتفع الى السماء ولكن ليس بمركبة نارية كما ارتفع ايليا ، بل ارتفع بجسده الأنساني هذا الذي توحد مع الألوهة ، والذي لم تزلُ يداهُ مثقوبتين ورجلاهُ مخرومتين او مثلومتين وجنبهُ مطعوناً . بهذا الجسم النساني رأيناه يرتفع عنا بشخص الرسل وعيونهم ، والسعادةُ تأخذُ منا كل مأخذ ، والآلام الكثيرة تثورُ في نفوسِنا ، عندما رأينا الرب يرتفعُ عنا ، و نفسهُ قبل أيامٍ كان يقولُ لنا : ” لا أترككم يتامى ” ، والآن يرتفعُ عنا ويتركنا يتامى ، ولكن مواعيدهُ فاصلة وقولهُ بالحرف الواحد ، لم يتركنا يتامى : ” ها أنا معكم منذُ الآن وحتى إنقضاءِ الدهر ، إذهبوا وتلمذوا جميع الأُمم وعمذوهم بأسم الآب والابن الروح القدس ” . هذه كانت كلماته الاخيرة قبل ان يرتفع. وبعد ذلك توارى عن العيون ، والرسل مغبوطون ينظرون الى السماء فإذا بمعلمهم ليس موجوداً ، الحيرةُ تأخذُ منهم كُلَ مأخذ والشوقُ يكاد يختطِفهُم الى السماء ، ولكن أجسادهم الثقيلة تحولُ دون ذلك ، وبينما هم في هذه الحيرة المملة المريرة وإذا بملاكان ينزلا من السماءِ ويقولا : ” أيها الرجالُ الجليليون ، لماذا انتم واقفون ها هنا ؟ يسوع الذي رأيتموه يرتفع هكذا تنظرونه يعود”. هذا هو الامل الباسم الذي يبدد عن قلوبنا جميع الكروب ، ويُعيدُ الينا نفحة الحياة الجديدة بعودة الرب . هكذا نحن ننتظر ذلك اليوم السعيد ، يوم يعود الينا يسوع الناصري بيديه المثقوبتين ، ورجليه المثلومتين وجنبه المطعون . إننا يا أحبائي نتطلع الى ذلك اليوم السعيد يوم يعود الينا يسوع الناصري ونُختطف في الغمام كما يقول الرسول بولس لكي نستقبله هناك . يوم يرفعنا غمام القوة لكي نتحد به في الجو لكي نرتفع من أوضار هذا العالم وننال قوةً جديدة وحياة جديدة . هكذا تصور رسل المسيح وهم يسمعون كلمات الملاك : ” ايها الرجال الجليليون لماذا انتم واقفون ها هنا ؟ يسوع الناصري الذي رايتموه يرتفع هكذا تنظرونه يعود ” . نعم إنهم في املٍ باسم ، وخليقة المسيح في املٍ باسم ، وجميع المؤمنين ينتظرون ذلك اليوم العظيم ، يوم يعود يسوع الناصري كما غادرنا ، يعود الينا لكي يرفعنا من هذا العالم ، ولكي يكون مليكاً عليناكما هو الآن ، لكي يجعل أغلال الشر تتقطع عن نفوسنا ، ويعطينا ثياباً جديداً ، وحياة روحية جديدة . والى يومنا ها نحن بالانتظار وسننتظره في كل يوم وفي كل لحظة ، وسننتظر تلك اللحظة السعيدة حيث يُشرق نوره في المشرق وتظهر علامته الكبرى في المشرق . ويُختطفُ الصديقون لكي يُقابلوهُ في السماء يُقابلوهُ في الجو وهناك يُعانقون جروحه الإلهية التي كانت مَدعاةً للخلاصِِ والفداء . في الجو تُختطفُ كنيسة المسيح لكي تُلاقي ربها وهو عائد اليها بقوةٍ ومجدٍ عظيم وجلالٍ لا تستطيعُ قلوبنا البشرية ان تراهُ الآن . بل لا تستطيع عقولنا البشرية ان تتصوره . إنك صعِدتَ يارب ، وإننا مُشتاقون الى عودتكَ يا إلهي . فعُد الينا يسوع الناصري . إننا بالانتظار في كل يومٍ وفي كل ساعةٍ وفي كل لحظة ، وليُشرق علينا نورك البهي ولتظهر علامة صليبك الغالب في المشرق ، لكي نراها وننسى آلامنا واوجاعنا في هذا العالم . ونِعمةُ الرب تحفظكم وتُبارككُم .
—————————————-
منقول من الموقع الرسمي لمحبي المطران بولس بهنام