خطبة تأبين الوزير السرياني العراقي رفائيل بطي

الخطبة التي إرتجلها مؤبناً الوزير السرياني العراقي رفائيل بطي

 

أيها السادة

لقد مات رفائيل ……

لقد انطفأ السراج , وفيه زيت كثير , وتصوَّح الأقحوان , وهو مليء بالشذى والعبير , بلى , بلى , لقد جفَّ اليراع , ولا زال يندفعُ منه ذياك الصرير , وصمت البلبل الغريد , وفي قلبهِ ألف قافية , وألف نشيد , أجل … أجل , لقد مات .. واحسرتاه رفائيل .

المعركة الطاحنة بين الموت والحياة , قديمة , قدم الموت والحياة , فمنذ انبجست الحياة من قلب الأزل , والموت واقف لها بالمرصاد , يريد إعادتها إلى ضمير العدم , وهي تندفع صعداً , وتتألق توهجاً , وفي كل يوم تسجل إنتصاراً جديداً . وتُرصع في ضمير السرمدية , جهاداً موفقاً مجيداً , وترفعُ أعلامها الخفاقة على هامة الموت , رافعة إلى الملأ الأعلى إعصاراً شديداً . والموت يعيدُ الكرة بعد الكرة حملاته الفتاكة , لينال من صميم الحياة فتراها أبداً بين الكرِّ والفر , ويتقاسمان هذا الوجود . فيأخذ كل منهما ما هو لهُ , ياخذ الموت ما فيه سر الفناء , وتستبقي الحياة ما فيه قوة البقاء , إذاً ما هو نصيب الموت من فقيدنا الكريم ؟ .. وماذا بقي فيه من نصيب الحياة ؟ .

وإنه مسجى أمامنا .. فوالوعتاه , ولا زال يخطب فينا , ويكتب . لقد أخذ الموت جزءَهُ الترابي , ليضمه إلى أمه الأرض , واستبقت لنا منه الحياة درره الغوالي , وهذه بنت الخلود .

أجل ! … إنه مسجى أمامنا وحوله هالة من الهيبة والجلال , بل هالة من الوفاء والقدسية والكمال , بل أشعة متوهجة , هي بقايا الكفاح والتألق والنضال , إنه اليوم وفي هذه اللحظة الرهيبة . أخطب منه بالأمس ! بل هو أكتب ! مما كان عليه منذ عهد بعيد .

فخشوعاً …. خشوعاً أيها الأحياء أمام رهبة الموت .

وهدوءً أيتها العواصف الهوج أمام هيبة السكون .

أجل … ! مات في رفائيل جزءه الفاني , وبقيت لنا منه أجزاءه الخالدة ذخراً كريماً , وتراثاً من العبقرية جليلاً , فإذا وقفنا أمام جثمانه الكريم وهو في لحظاته الأخيرة بيننا , فإننا نقف أمام عاصفةٍ هدأت , وزوبعةٍ من النور خبت , وجدولٍ هدار توقف عن الجريان , فالدموع جفت أمام هول الكارثة , وخفقات القلوب تضاءلت أمام عنف المصيبة , وليس لنا إلا أن نرفع عيوننا إلى جهاده .

الجهاد صفة من صفات الأبطال , ولا يكون الجهاد موفقاً إلا إذا إرتكز على ثلاث دعائم كبرى , الإيمان والشجاعة والإخلاص .

أما الإيمان فهو الركن الأساسي لكل جهادٍ في الحياة , لأنك إن لم تؤمن بالمبدأ الذي تدين به , لا تندفع إلى الجهاد في سبيل نصرته , والشجاعة عندما تنضم إلى الإيمان , تكون وإياها عاصفة جبارة تكتسح أمامها جميع الصعاب التي تعترض المجاهدين المؤمنين . وكلما إتحدَّ الإيمان بالشجاعة , تولد من إتحادهما الإخلاص وهكذا نبني صروح الجهاد على هذه الدعائم الكبرى لها , ونال المجاهدون فيها إكليل الظفر والفخار , وإذا وضعنا فقيدنا على محك هذه النظرية , رأينا بحق جهاده المثمر يقوم على هذه الدعائم , منذ مطلعه إلى لحظة غروبه , فلننظر إذن أولاً إلى رفائيل المؤمن , ثانياً رفائيل الشجاع , ثالثاً رفائيل المخلص .

وبعد أن تحدث سيادة المطران بولس بهنام مفصلاً عن موقف رفائيل من هذه القضايا الثلاث , إختتم خطابه بهذه الرائعة الجميلة الهفهافة :

أيها العراق العزيز … يا أبا الأمجاد والحكماء , والفلاسفة الكبار , يا موطن العباقرة الأشاوس الأحرار , يا موئل الشهداء الأبرار , ضم إلى قلبك العظيم , حكيماً جديداً وفيلسوفاً حراً بل شهيداً , بطلاً أبّر , إنه إبنك البار ووليدك المخلص المغوار , عاش لك , ومات موت الشهداء في سبيلك .

إيه بغداد ……

يا عاصمة الرشيد …. غيّبي بين طيات فؤادك , عبقرياً جديداً , ومجاهداً حراً , وسجلي إسمه الكريم بين أبطالك المناضلين المجاهدين .

في ذمة الخلود … يا رفائيل المؤمن .

في ذمة الأبدية … يا رفائيل الشجاع .

في ذمة الملأ الأعلى .. يا رفائيل المخلص , ورحمات الله عليك , يا منْ كنت إيماناً وشجاعةً وإخلاصاً في إنسانٍ كامل . ( هكذا وردت الجملة الأخيرة في جريدة البلاد ) .

رحمات الله عليك , ولك منا الدموع , يا منْ لم تبكِ في أعظم ضيقاتك , ولك منا الحب الخالد , يا منْ كنت حباً خالداً لوطنك وبلادك … عاش العراق الحبيب .

—————————————————-

نقلاً عن كتاب حياة الملفان مار غريغوريوس بولس بهنام للأب يوسف سعيد

منقول من الموقع الرسمي لمحبي المطران بولس بهنام