أولاد الله وأولاد الجسد

أولاد الله وأولاد الجسد

المولود من الروح روح هو والمولود من الجسد جسد هو . يو3: 6

 

أجل إن أولاد الله هم الذين ولدوا من الروح ولا يفكرون إلا بالروح , ولا يتبعون إلاّ أهواء الروح , وأما أولاد الجسد فهم الذين ولدوا من هذا العالم ويسيرون في فيافي هذا العالم ووراء غرورهم , هم الذين يبتعدون عن الله وعن كلامه هؤلاء هم أولاد الجسد أما أولئك فهم أولاد الروح .

ولكن لنسألنَّ ثانية كتاب الله عن الفرق ما بين هؤلاء وأولئك , أن أولاد الله ثلاث ميزات كبرى تميزهم عن أولاد العالم وهي :

1- أنهم ولدوا من الإيمان : قال الرب لنيقوديموس يجب عليكم أن تولدوا من ذي قبل , لأن المولود من الروح روح هو والمولود من الجسد جسد هو يو 3 : 6

ولم يقل الرب هذه الكلمات لذلك الفريسي فقط ليسمع بل لكل فريسي في هذه الحياة ولكل إنسانٍ في هذا العالم وفي هذه الحياة . أجل إن أولاد الروح هم الذين يولدون من الإيمان ثم يسيرون فيه خطوة فخطوة ولا يحيدون عنه أنملةٍ , ولنبحثنَّ الآن عن أولاد الله كي نرى صفاتهم , كي نرى اعمالهم ومقامهم .

هناك في أور الكلدانيين يخيم ظلام الوثنية الكثيف , فيعبد البشر الأصنام ويضحون قرابينهم لآلهة صماء , ولم يكن هناك من يفكر أن إلهاً يوجد , ولم يكن من يفكر أن دعوةً ستهبط لتميز أولاد الله عن أولاد الجسد .

غير أن هناك فتى واقفاً كتمثال أمام أحد تلك الآلهة يقدم ضحيةً وإذ به يسمع صوتاً من أعالي السماء : إبرام إبرام أترك أرضك وأرض آبائك وهلم أذهب إلى الأرض التي أريك إياها , فتكون لك ولنسلك من بعدك .

فتى وثنياً لم تشرق عليه شمس الأديان , ولم يكن للإيمان مكان في قلبه ولكنه حالاً ترك كل شيء وتبع ذلك الصوت , حالاَ ولد من الإيمان وأصبح بواسطته ذلك الجسد ابناً لله , ابناً للروح , ابناً للخلود , ترك كل شيء وذهب وراء ذلك الصوت الذي دعاه , ولكن إلى أين ؟

كان هناك سراج واحد ينير له الطريق هو سراج الإيمان , ذلك كان يقود إبرام من أرض جدودهِ إلى أرض غريبة , ولنعملنَّ الآن مقابلة بين ذلك الفتى وبين كل منا , ذلك الفتى لم يُرى أباه إلاّ ويعبد الأصنام ومع ذلك ترك كل شيء ذاهباً وراء الصوت الذي دعاه , أما نحن الذين ولدنا في الإيمان ونحن الذين ذقنا عذوبة الإيمان , ونحن لا زلنا على هذه الأرض مظلمين بعيدون عن الله , أجل الله يدعونا مراراً ولكننا لا نصغي إليه لا لشيءٍ إلاّ لأنه لا يوجد للإيمان محل في قلوبنا .

إننا أولاد الروح كما تصرح كتب الله والكنيسة , ولكن لنكن أولاد الله بالحقيقة , يجب علينا أن نلبي صوت الإيمان حالما يدعونا مثل إبرام , عندما تبدل قلبه وسكنه الإيمان .

إليك أيها القلب يا من استنرت بالروح القدس ونلت عذوبة المعمودية , إليك هذا القول والصوت فاتبع صوت الإيمان إن أرض الآباء هي أرض الخطية والذين يتبعون الإيمان يصلون حتماً إلى أرض الروح , أرض الإيمان , أرض الخلود وهؤلاء هم اولاد الله , هذه الميزة الأولى لأولاد الله .

وهناك الميزة الثانية , وهي يجب على الذين يسمعون صوت الإيمان أن يسيروا بخطى مسرعة وراء الإيمان خطوة فخطوة , ولنتبع خطوات إبراهيم نراه يترك حران ويذهب إلى أرض الميعاد , هذا هو ابن الإيمان خطوة فخطوة , أما أنت يا من ولدت في الإيمان ألم يحنْ لك أن تفكر ؟ وفكر الآن أن تترك أرض الجسد والخطية فتتمشى وراء الإيمان ولا شك أنه سيبلغ بك أرض الميعاد وهي السماء حيث تعاين الله , إن إبراهيم ذلك الفتى الوثني لم يفهم شيئاً عن كلام الإيمان , ومع ذلك نراه يطيع أمره ويذهب حيث يدعوه , فيعِدهُ الله بتكثير نسله ليرث أرض الميعاد , ولم يكن الله ليعدَّ له شعباً ليرث أرض الميعاد وحسب بل ليَعِدّ له شعباً للسماء ليرثها , وهذه الميزة الثانية .

أما الميزة الثالثة : فهي احتمال الضيقات لأجل الإيمان , هوذا تلاميذ المسيح تلاميذ الإيمان على الأرض جامدون لا يريدون أن يتحملوا شيئاً لأجل الإيمان , مع أن رسل المسيح وتلاميذه الأولين تعبوا وعرفوا وجدّوا , وكانوا يخدمون الإيمان , يخدمون الكنيسة , يخدمون الله , أما نحن في هذا العصر فلا زالت خدمتنا حقيرة لا تستحق شيئاً .

كان الإيمان فيما مضى قوياً في قلوب أولاد الكنيسة , فنرى الرجل المسيحي ينزل إلى أرض الجهاد فيضحي بكل شيء , بكل غالٍ ونفيس لا لشيءٍ إلاّ لأجل الإيمان , أما في هذا العصر الذي نسميه عصر النور بل عصر التوحش فنحن بحاجةٍ إلى خدمات كثيرة لكي نصبح أولاد الروح أولاد الله .

ولنرى القديس بولس الرسول ينطق بلسان المؤمن فيقول : مَنْ سَيَفْصِلُنَا عَنْ مَحَبَّةِ الْمَسِيحِ؟ أَشِدَّةٌ أَمْ ضِيْقٌ أَمِ اضْطِهَادٌ أَمْ جُوعٌ أَمْ عُرْيٌ أَمْ خَطَرٌ أَمْ سَيْفٌ؟…….. فَإِنِّي مُتَيَقِّنٌ أَنَّهُ لاَ مَوْتَ وَلاَ حَيَاةَ ، وَلاَ مَلاَئِكَةَ وَلاَ رُؤَسَاءَ وَلاَ قُوَّاتِ ، وَلاَ أُمُورَ حَاضِرَةً وَلاَ مُسْتَقْبَلَةً ، وَلاَ عُلْوَ وَلاَ عُمْقَ ، وَلاَ خَلِيقَةَ أُخْرَى ، تَقْدِرُ أَنْ تَفْصِلَنَا عَنْ مَحَبَّةِ اللهِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا. ( رو 8 : 35 – 39 )

هذا هو كلام المؤمن نيابة عن كل من يريد أن يكون مؤمناً حقيقياً يضحي لأجل الإيمان ولنتأمل في حياة ذلك البطل القديس بولس إنه لم يكن له في هذه الحياة شيء ولكنه كان قوياً بالإيمان قوياً بجهاده , فعندما أشرق في قلبه نور الإيمان كان المسيح يحتاج إلى بولس واحد وقد وجده لكي يثبت الإيمان ويضحي لأجله , ولكننا الآن لا نحتاج إلى بولس واحد بل إلى كثيرين كثيرين مثل ذلك البطل ليثبتوا الإيمان في قلوب الناس لكي كل من يسمع الكلام الحي , كل من يسمع الوعظ يسير مسيرة طاهرة ويتتبع خطوات الإيمان .

كان الجهاد مفتوحاً على مصراعيه , لأن كنيسة الله كانت تحتاج إلى جهادٍ وتضحيةٍ وكان الكثيرون يقدمون على هذه الخدمة الهينة , لديهم حباً بالإيمان وبالمسيح وبكنيسته وهؤلاء هم أولاد الإيمان .

ولنعد مرة أخرى لنرى من هم أولاد الجسد , المولود من الجسد جسد هو , اجل إن أولاد الجسد هم الذين لا يفكرون إلاّ بالجسد وكيف يطعمونه وكيف يلذذونه بلذات هذه الحياة , أما الروح فيتركونها وشأنها جائعة ساغبة , فهم لا يقرأون كتب الله لكي يفهموا شيئاً من إرادة الله , أولئك هم أولاد الجسد , ولنسأل الإنجيلي يوحنا فيخبرنا عنهم : نرى الرب واقفاً يريد نشر تعاليم الروح فيغيّر الذين يؤمنون به من جسديين إلى روحيين ويرفعهم إلى فردوس الروح , فردوس الخلود , نعم كان الرب واقفاً وجموع كثيرة من اليهود يتبجحون بنسبهم الذي يرتقي إلى إبراهيم بالجسد ولكنهم بالروح بعيدين عن إبراهيم , بالجسد كانوا من نسل إبراهيم اما بالروح فإيمان إبراهيم كان بعيداً عنهم وقد رسم إبراهيم صورة لمجيء السيد المسيح ومات ورقدّ على رجاء الإيمان والقيامة , أما أولئك اليهود الذين كانوا يدعون أنهم أولاد إبراهيم , لم يكن محل في قلوبهم يملأه إيمان إبراهيم لأنهم رغم تلك التعاليم والأمور التي سمعوها شاهدوها بأم عينهم لم يؤمنوا ولذلك وبخهم الرب وقرّعهم قائلاً : لو كنتم أولاد إبراهيم لعملتم أعمال إبراهيم ولكنكم أولاد الشيطان ……

وأنتم مثله تريدون قتلي . أجل إنهم كانوا أولاد الجسد لذلك وبخهم الرب قائلاً : لو كنتم أولاد إبراهيم لعملتم أعماله , وقد قال القديس بولس الرسول أنهم ليسوا أولاد إبراهيم لأن أولاد إبراهيم هم أولاد الموعد , أولاد الإيمان ولكنهم أولاد الجسد هذه الميزة الأولى لأولاد الجسد .

اما الميزة الثانية لأولاد الجسد هي انهم يتركون الروح , يتركون الصوم , يتركون الصلاة , يتركون الخدم العامة لكي لا يقيدون العالم , ويقبلون على جسدهم يطعمونه ويلبسونه وينعِّمونه وكان الأحرى بهم وهو مسكن الروح أن يوقفوه عن عند حدِّ الاعتدال , والرب يأمرنا قائلاً :إليَّ أيها الفتى أريد روحك مزينة بالفضائل وهلمَّ إليَّ وإن أراد الإنسان أن يعتني بجسده فلا بأس عليه لأن كتاب الله لا يمنع ذلك , ولكن يجب أن تقوي الروح قبل ذلك لتستعين على أعمال جسدنا , ولنصغي إلى الرب فيقول لنا : اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه وهذه كلها تزداد لكم , أجل إننا إذا ما اعتنينا بتزيين أنفسنا بالفضائل فكل شيءٍ يزاد بعدها لنا هذا .

أما الميزة الثالثة والكبرى فهي التجديف على الروح القدس يقول الرب في الإنجيل المقدس : كل الخطايا تغفر لبني البشر ولكن من جدف على الروح القدس فلا يغفر له , ولنعلمنّ الآن ما هو التجديف على الروح القدس ليس هو إلاّ التمادي الكامل في الخطايا واليأس على الإنسان الخاطئ فيفصله عن الله يأسه وقنوطه فيسحقه تحت أقدامه القاسية , وكتاب الله فيبت لنا في هذا الأمر , هناك إخوان في الأرض هما قايين وهابيل , يقتل الكبير الصغير ولكنه لم يفكر بالحياة , لذلك رفضه الله وضربه ضربةً قاضية كما عمل القاتل الأسخريوطي , ولكن إذا كان أمثاله هؤلاء تتنبه ضمائرهم ويقنعون أفكارهم ويرجعون إلى نفوسهم طالبين الصفح والغفران ويرجعون عن غيِّهم ليسوا مجدفين على الروح القدس إذ لم ينكروا النعمة . ولنتأملنَّ داؤد يقول : قلباً نقياً أخلق فيَّ يا الله وروحاً مستقيماً جدِّد في داخلي … هذا ما يقوله أولاد الله , أولاد الخلود , أولاد الإيمان .

عن الخطاة لا يهلكهم الرب إلاّ عندما يتمادوا في الخطايا وييأسون من الغفران , لأن مجيئه كان لخلاصهم لذلك يقول الرب له المجد : لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى , لم آتِ لأدعوا الصديقين إلى التوبة بل الخطاة …. ولهذا أتى المسيح لينشلنا من هذه الحياة إلى الحياة الخالدة وهناك السعادة والغبطة .

إن من يقاوم كنيسة المسيح يجدف على الروح القدس , لأن الكنيسة هو الروح القدس بعينه , فبالتالي يكون قد جدف على الروح القدس , وكذلك من لا يؤمن بالكنيسة يجدف على الروح القدس , وبالتالي يكون هؤلاء أولاد الجسد .

والآن علمنا من هم أولاد الله ومن هم أولاد الجسد , والآن نطلب إلى الله أن يؤيدنا على الإيمان والسير حسب مرضاه وذلك لمجد اسمه اللهم آمين فآمين .

—————————————–

العظة التي القاها الملفان مار غريغوريوس بولس بهنام ، عندما كان راهبا ومديرا للمدرسة الاكليريكية الافرامية ، سنة ١٩٤٧م في مدينة الموصل ، تجدونها أدناه بخط المرحوم الشماس ابراهيم ميشاخ على شكل صورة ، والذي كان خطاطاً ماهراً ، أعتاد ان يسطر بيده بعض الكتب الطقسية لكنيستنا السريانية الارثوذكسية .. ونحن إذ نذكر هذا الانسان المعطاء بمداد من الفخر والأعتزاز، والذي خدم كنيسته المقدسة بما انعم الله عليه من موهبة نادرة ، ترك لنا ايضا مخطوطة للأناجيل الاربعة تجدها في كاتدرائية مار أفرام في الموصل ، نطلب من الرب ان ينيح نفسه في فردوس النعيم صحبة الابرار والقديسين ….

منقول من الموقع الرسمي لمحبي المطران بولس بهنام

%d bloggers like this: