مقدمة المؤلف
مقدمة المؤلف†
بعد حمد الله تعالى، أقول:
شاء الرب يسوع فاختارني أنا الضعيف الضئيل، ودعاني لخدمته، فلبيت الدعوة، وأرسلني منذ شرخ شبابي لأعطي عبيده الطعام في حينه (مت 24: 45)، وأبسط أمامهم مائدة الكلمة الحية، وأرويهم من ماء الحياة. ومن جملة المسؤوليات الروحية التي وضعها الرب على عاتقي أن أعظ المؤمنين به. ففي عام 1954 وهي السنة الأخيرة من مرحلة دراستي في مدرسة مار أفرام الإكليريكية في مدينة الموصل بالعراق مسقط رأسي، ابتدأت أعظ في كنيسة العذراء الداخلية التي كانت تدعى كنيسة (الطاهرة) أو كنيسة (القلعة) إحدى كنائسنا الخمس في مدينة الموصل يومئذ، وهي كنيسة آبائي التي كان بينها وبين دارنا قاب قوسين أو أدنى في محلة (حوش الخان) وقد نلتُ سر العماد المقدس فيها، وخدمت مذابحها المقدسة في صباي كشماس صغير، وقد ابتدأت فيها خدمة الوعظ بإيعاز من أستاذي الجليل مطرانها المثلث الرحمة الملفان مار غريغوريوس بولس بهنام الخطيب المصقع والواعظ المفوّه. وقد اشتهر شعبنا السرياني الموصلي بإيمانه وتقواه وشغفه بسماع المواعظ. وإنني لمدين لهذا الشعب المبارك بتشجيعه إياي على الوعظ وبذلك نمت موهبة الوعظ فيَّ في سن مبكرة، وابتدأت أعير اهتماماً كبيراً بتهيئة مواعظي احتراماً للسامعين، وتقديراً لهم، وسعياً للوصول بهم إلى الهدف الأسمى الذي نتوخاه من رسالة الوعظ وهو خلاص النفوس، وقد تعودت على الصلاة إلى اللّه ليعضدني تعالى ويُمدني بقوة منه وحكمة، ولينير روحه القدوس ذهني لأبذل قصارى جهدي بدراسة موضوع الموعظة جيداً، وأقوم بتقسيمه إلى أجزاء وأختار الآيات المناسبة من الأسفار المقدسة، أستشهد بها لدعم الحقائق الإيمانية والعقائد السمحة، وأستعين بتعاليم آبائي السريان الميامين وشروحهم النفيسة للكتاب المقدس. ويشغل موضوع العظة ذهني بل يحيا معي فترة كافية من الزمن وتسرع نبضات قلبي عندما أكون على أهبة إلقاء العظة على ظهر قلبي. ولغتي في الوعظ سهلة سلسة وأتوخى دائماً البساطة والوضوح، وأتجنب التعقيد والألفاظ الغريبة غير المتداولة وغير المستساغة، محاولاً توصيل الحقائق الإيمانية والمبادئ الروحية إلى أذهان السامعين بسهولة قدر الإمكان.
وقد تعوّدت أن أسأل اللّه تعالى بصلاة حارة كي يضع في قلبي وعلى لساني الكلمات المناسبة المؤثرة في النفوس لتدخل هذه الكلمات الروحية إلى القلوب فتتطهر وتتوب إليه تعالى، وبذلك أكون قد بلغت الغاية المنشودة من الوعظ، ألا وهي خلاص النفوس. وفي هذا المضمار أسعى لخلاص نفسي أولاً لئلا ينطبق عليَّ القول: «أعلّم الناس ولا أتعلّم وأعظ ولا أتعظ» فكنت ولا أزال أعظ نفسي قبل أن أعظ الناس، وأطلب إلى الرب أن يملأ قلبي محبة للّه وللقريب وإيماناً به تعالى وثقة بالرب يسوع الذي وعد سائر خدامه الأمناء بأن يرسل إليهم روحه القدوس ليذكرهم بتعاليمه ويصون أفكارهم وألسنتهم من الخطل والزلل، فكنت أطلب إليه أن ينعم عليَّ بإصلاح نفسي قبل أن أسعى إلى إصلاح نفوس السامعين.
وبما أن أسلوبي في الوعظ هو غالباً عدم كتابة نص الموعظة بكامله مسبقاً، والاكتفاء بكتابة عناوين أقسامها الرئيسة، لذلك فقد فقدتُ أغلبَ عظاتي في عهد رهبنتي ومطرنتي، ولم يبقَ منها سوى ما سجله بعض الهواة لأنفسهم، وبخاصة مواعظ الجمعة العظيمة وبعض الأعياد الكبيرة. أما بعد أن تبوأتُ الكرسي البطريركي الأنطاكي بالنعمة لا بالاستحقاق عام 1980 فقد كان بعض أبنائي الروحيين، يسجلون مواعظي على أشرطة تسجيل (كاسيتات) في المناسبات ثم يفرغونها على الورق وهكذا نشرت قسماً منها على صفحات المجلة البطريركية الغراء وبخاصة تلك التي كانت تذاع عبر إذاعة دمشق، كما نشرتُ بعضها في كتاب بجزئين طبع الجزء الأول منهما عام 1984 والجزء الثاني عام 1988 تحت عنوان (حصاد المواعظ).
وبعدما أسستُ عام 1990 رهبانية العذارى باسم (راهبات مار يعقوب البرادعي) اهتمت بناتي الروحيات الراهبات الفاضلات بإشراف رئيستهن الأم حنينة هابيل بتسجيل أهم مواعظي على أشرطة تسجيل (كاسيتات) أثناء إلقائي إياها على ظهر قلب، وتفريغها على الورق، فتجمع لديَّ عدد وافر من العظات والخطب التي ألقيتها في عدة مناسبات رأيتُ أن أنشر نخبة منها باسم (من بيدر المواعظ) في سلسلة أنوي إصدارها تباعاً، ويتضمن الجزء الأول منها وهو الذي بين يديك أيها القارئ الكريم مقدمة لاهوتية ضافية بموضوع الأعياد المسيحية ومواعظ مختارة لمناسبات الأعياد المارانية (السيدية) أي أعياد الرب الكبيرة، ولبعض هذه الأعياد أكثر من موعظة، خاصة لعيدي الميلاد والقيامة، وسيتبع هذا الجزء إن شاء اللّه أجزاء أخرى متتالية تتضمن مواعظ الأعياد المارانية (السيدية) الصغيرة، وأعياد السيدة العذراء مريم، والشهداء والقديسين، وآحاد الصوم الكبير وشتى المناسبات الروحية على مدار السنة الطقسية السريانية وكلها معدّة وجاهزة وتنتظر دورها في الطبع وذلك لفائدة الإكليروس السرياني وخدام مراكز التربية الدينية والشعب المؤمن. نسأل اللّه تعالى أن تؤول هذه المواعظ إلى خلاص النفوس وأن تكون سبب بركة للقارئ الكريم آمين.
إغناطيوس زكا الأول عيواص
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق
بحث في الأعياد
بحث في الأعياد
بحــث فــي الأعيــاد
العيد في المفهوم المسيحي هو فرصة روحية، ووقت تعيّن الكنيسة المقدسة موعده ومناسبته، وتفرض على المؤمنين إحياءه والاحتفال به بعدم مزاولة الأعمال الدنيوية العادية، والانصراف إلى الصلاة، وإقامة الشعائر الدينية إكراماً للّه تعالى، وتذكاراً لمنحه الإلهية التي سكبها على المؤمنين، والتأمل بالمناسبة التي خُصّص يوم العيد لأجلها.
وقد أخذت الكنيسة المسيحية سنّة الاحتفال بالأعياد من الكنيسة الموسوية، حيث ذكرت أسفار العهد القديم، أن اللّه نفسه قد فرض على شعب موسى أعياداً ليهيئ لذلك الشعب أوقاتاً يرتاح بها من أعماله العادية، ويتفرّغ خلالها للأمور الروحية، ويتأمل بأعماله تعالى ونعمه الغزيرة وعجائبه الباهرة، في سبيل خلاص ذلك الشعب (خر 12: 24) وليذكر في أجياله اللاحقة مراحم اللّه وإحساناته على الأجيال السابقة وعنايته بهم (خر 12: 2) وبذلك يُواصل الصالحون من البشر حفظ شريعة اللّه (خر 13: 8 ـ 16) ولا ينسون فرائضه إذ يذكرون رعايته الدائمة للبشر ومحبته ويتّخذونه مثالاً لهم بالمحبة، ويعبّرون عن مشاعر الود الصافي بعضهم لبعض بمساعدة الفقير واليتيم والمحتاج.
فالأعياد إذن وضع إلهي، وترتيب سماوي، فرضها اللّه على بني إسرائيل، وأمر بحفظها والاحتفال بها، وحذّر من إهمالها، كما أنه تعالى عاقب من لم يراعِ حرمتها (عدد 15: 23و26). فقد جاء في سفر اللاويين ما يأتي: «وكلّم الرب موسى قائلاً، كلّم بني إسرائيل وقل لهم مواسم الرب التي فيها تنادون محافل مقدسة هذه هي مواسمي، ستة أيام يُعمل عمل، وأما اليوم السابع ففيه سبت عطلة محفل مقدس، عملاً ما لا تعملوا، إنه سبت للرب في جميع مساكنكم» (لا 23: 1 ـ 3) وقد خصّص اللّه تعالى هذه الأعياد له بقوله: «هذه مواسمي وأعيادي» (لا 23: 1 ، 37) وقال تعالى عن أحد هذه الأعياد ما ينطبق على سائر الأعياد بقوله: «وكل نفس تعمل عملاً ما ففي هذا اليوم عينه أبيد تلك النفس من شعبها»(لا 23: 30).
وأول أعياد العهد القديم هو العيد الأسبوعي السبت الذي ذكر في سفر التكوين أن اللّه استراح فيه وباركه (تك 2: 3) وجاء في سفر الخروج أن اللّه أمر شعب موسى بحفظه (خر 20: 8).
وثاني هذه الأعياد هو عيد الفصح، الذي هو أكبر الأعياد وأهمها عند اليهود (خر 12: 42 ولا 23: 4) فيه يذكرون إخراج الرب آباءهم من أرض مصر فيحفظونه سنوياً ليلاً، وهذه الليلة ذكرت في سفر التثنية (16: 1) حيث قيل: «احفظ شهر أبيب (نيسان) واعمل فصحاً للرب إلهك لأنه في شهر أبيب أخرجك الرب إلهك من مصر ليلاً» فهذا العيد يُعدّ تذكيراً لهم بمراحم اللّه عليهم وتخليصه إياهم من العبودية وكذلك تخليص أبكارهم من الموت لعبور الملاك المهلك عن بيوتهم الملطّخة بدم خروف الفصح، وضربه كل أبكار المصريين (خر 12: 1) وكان خروف الفصح هذا رمزاً لحمل اللّه الرافع خطايا العالم، المسيح يسوع المذبوح لأجلنا ولأجل خلاصنا على حد تعبير الرسول بولس القائل: «لأن فصحنا أيضاً المسيح، قد ذُبح لأجلنا»(1كو 5: 7).
وثالث هذه الأعياد هو عيد الأسابيع أو عيد الحصاد (خر 34: 22 ولا 23: 15 وتث 16: 6 وحز 23: 16) ويسمى أيضاً يوم الباكورة (عد 28: 26) وعيد الخمسين (أع 2: 1) ويقع عند نهاية حصاد القمح، وكان مناسبة لتقديم الشكر للّه على الحصاد الذي تُقدّم باكورته للّه تعالى ويقع هذا العيد في اليوم الخمسين من عيد الفصح، وهو رمز إلى عيد العنصرة المسيحي الذي حلّ فيه الروح القدس على تلاميذ الرب، وعلى أثر خطاب مار بطرس، آمن بالرب ثلاثة آلاف نفس كانوا باكورة المؤمنين يوم ميلاد الكنيسة.
ورابع هذه الأعياد هو عيد المظال ويسمى أيضاً عيد الجمع لوقوعه في نهاية موسم الحصاد، وعند اجتناء الأثمار في آخر السنة (عدد 19: 12 وخر 23: 16) وهو أحد أعياد اليهود الكبرى (لا 23: 24 ـ 43) ويذكرهم بارتحال آبائهم في البرية وسكناهم في المظال، وفيه يخرج الشعب من أماكن سكناهم ليقيموا في مظال مصنوعة من أغصان الشجر ومنصوبة على أسطح الدور، وفي الدار الخارجية للهيكل وفي الأزقة وعلى الجبال المجاورة لأورشليم. وهذا العيد هو سبعة أيام للرب، وفي اليوم الثامن منها اعتكاف وراحة وعبادة في محفل مقدس عظيم (لا 23: 39 و 19: 37).
وخامس هذه الأعياد هو عيد تذكار هتاف البوق (لا 23: 24).
وسادس هذه الأعياد هو عيد الكفارة (عد 19) وهو من أعيادهم المهمة أيضاً نهى اللّه فيه الشعب عن كل عمل وأمر بإذلال النفس قائلاً: «أما العاشر من هذا الشهر السابع فهو يوم الكفارة محفلاً مقدّساً يكون لكم تذللون نفوسكم وتقرّبون وقوداً للرب، عملاً ما لا تعملون في هذا اليوم عينه لأنه يوم كفارة للتكفير عنكم أمام الرب إلهكم (لا 23: 24 ـ 29) وفيه كان الحبر الأعظم يدخل إلى قدس الأقداس ويكفّر عن خطاياه وخطايا الشعب كافة.
وسابع هذه الأعياد هو عيد رأس الشهر (عدد 28: 11).
وثامن هذه الأعياد هو عيد الفوريم: الذي وضع تذكاراً لنجاة الشعب اليهودي من دسيسة هامان بواسطة مردخاي واستير (اس 9: 20 ـ 32) ودعي بالفوريم لأن هامان سحب (فوراً) أي قرعة ليناسب يوما لإجراء مقصده الرديء (اس 3: 7).
وتاسع هذه الأعياد هو عيد التجديد، وقد وضع هذا العيد تذكارا لتطهير الهيكل وبناء المذبح وطرد الأعداء على يد يهوذا المكابي (1مك 4: 52 ـ 59) وكان ذلك سنة 164 ق.م وقد ذكر هذا العيد مرة واحدة في الإنجيل المقدس (يو 10: 22).
هذه أهم الأعياد التي فرضت من اللّه على اليهود بترتيب طقوسها وكيفية ممارستها، ذكرناها ههنا لنثبت أن الأعياد وضعها اللّه قديماً ، وأنه تعالى قد أمر بحفظها بقوله لشعب النظام القديم: «فتحفظون كل فرائضي وكل أحكامي وتعملونها. أنا الرب»(لا 19: 37). وحذّر الرب الشعب من إهمالها، وهدّد بالعقاب الصارم لكل من لا يصون حرمتها بقوله: «وكل نفس تعمل عملاً ما في هذا اليوم عينه أبيد تلك النفس من شعبها» (لا 23: 30) وقد حفظ شعب النظام القديم هذه الأعياد حتى ظهور الرب يسوع وهو نفسه أظهر قبوله لها بحضوره بعضها، وبممارسته الفروض التي كانت تقام فيها (مت 26: 17 ومر 14: 13 ولو 2: 41 ويو 2: 13).
فالرب مثلاً قد كمّل عيد الفصح مع تلاميذه بموجب السنّة الموسوية (مت 26: 19). وقد حضر في الهيكل في عيد التجديد (يو 10: 22) وحضر في عيد المظال (يو 7: 37و38) ولم تفرض أعياد اليهود هذه على المسيحيين، ولذلك ساغ للرسول بولس أن يقول لهم: «فلا يحكم عليكم أحد في أكل أو شرب أو من جهة عيد أو هلال أو سبت التي هي ظل الأمور العتيدة» (كو 2: 16) وقد تمت بذلك نبوة النبي هوشع عن الأمة اليهودية على لسان الرب القائل: «وأبطل كل أفراحها وأعيادها ورؤوس شهورها وسبوتها وجميع مواسمها»(هو 2: 11).
وبعد صعود الرب إلى السماء ابتدأ الرسل الأطهار يعيِّدون أعياد التدابير الإلهية من تجسد الفادي وفدائه البشرية. وأهم هذه الأعياد وأولها هو عيد قيامة الرب يسوع من بين الأموات في فجر الأحد والرسول بولس يقول بهذا الصدد: «لأن فصحنا أيضاً المسيح قد ذُبح لأجلنا إذاً لنعيد ليس بخميرة عتيقة
ولا بخميرة الشر والخبث بل بفطير الإخلاص والحق» (1كو 5: 7و8). ولما كان الرسول بولس في أفسس أسرع إلى أورشليم ليحتفل بعيد العنصرة بقوله: «ينبغي على كل حال أن أعمل العيد القادم في أورشليم»(أع 18: 21) وكذلك لما كان في آسيا وعد مؤمني كورنثوس بالذهاب إليهم بعد أن يعيّد عيد العنصرة (1كو 16: 8) فمن هذا يستدل على أن الأعياد مأمور بها في العهد الجديد، ومصرّح بممارستها وأن الاحتفال بها كان في أوقات معيّنة. ومما هو جدير بالملاحظة أن جميع الكنائس الرسولية في العالم تعتقد بالأعياد وتحتفل بها، وإذا كان الرب يسوع قد مارس بنفسه إبان تجسّده أعياد العهد القديم، أفلا يجب علينا من باب أولى أن نحافظ كل المحافظة على أعياد العهد الجديد التي هي أتمّ وأفضل حتى لا ننسى محبة اللّه لنا وإحسانه إلينا لأن الأعياد تذكّرنا بمِنَحٍ ملأت الأرض، وبركات من رحمة اللّه المتجسّدة في شخص الفادي العجيب، وتقدم للمؤمنين جيلاً بعد جيل دروساً بكيفية مؤثرة تضرم في قلوبهم نار الغيرة الدينية وتبثّ فيهم روح التقوى والتعبّد لله.
وقد شهد موسهيم المؤرخ البروتستانتي بأن الأعياد كانت وما تزال تمارس في الكنيسة منذ العصر الرسولي بقوله: «إن مسيحيي القرن الأول اجتمعوا للعبادة في اليوم الأول من الأسبوع، اليوم الذي استرجع فيه المسيح حياته ويظهر على أنهم كانوا يحفظون يوماً دينياً آخر لتذكار حلول الروح القدس على الرسل».
وقد زادت حقيقة تمسك الرسل بالأعياد وضوحاً في أوامر الرسل وقوانينهم، وإن جميع المسيحيين يحتفلون بالأعياد منذ فجر المسيحية وإن اختلافهم في تعيين موعد يوم عيد الفصح الذي توصّلوا إلى حل له في مجمع نيقية عام 325 خير برهان على تمسّكهم بالأعياد منذ بدء المسيحية.
يـوم الأحـد
يـوم الأحـد
يــــوم الأحــــد
فرضت الكنيسة المقدّسة منذ فجر وجودها يوم الأحد كيوم للرب، لأنه ذكرى قيامة الرب يسوع من بين الأموات. وحرّمت فيه الأشغال، وأمرت أن يكرّسه المؤمنون للتأمل بوصايا الرب، وتعاليمه، وعجائبه، وسائر أحداث سيرته في الجسد. وفي كل يوم أحدٍ تحتفل كنيستنا المقدسة في طقوسها الكنسية بقيامة الرب.
وعبر الدهور أضافت الكنيسة المقدّسة إلى يوم الرب، الاحتفال بأعياد مارانية أي سيدية، وهي أعياد الرب أيضاً من ذلك عيدا الميلاد والعماد اللذان كانت الكنيسة تحتفل بهما في يوم واحد، هو السادس من كانون الثاني وفي الربع الأخير من المائة الرابعة اتفق آباء الكنيسة على الاحتفال بعيد الميلاد في الخامس والعشرين من شهر كانون الأول وخصّصوا اليوم السادس من كانون الثاني للاحتفال بعيد العماد (الغطاس) على ما ذكر القديس سويريوس موسى ابن كيفا مطران بيت كيونا وبارمان في خطبته في عيد الميلاد. وعيد ختانة الرب، وعيد صعود الرب إلى السماء. وبهذا الصدد يكتب العلاّمة مار غريغوريوس ابن العبري (1286+) في كتابه الهدايات الذي يحتوي على قوانين الكنيسة ما ترجمته: «لا يحلّ للمؤمنين البيع والشراء في يوم الأحد المقدس، والأعياد المارانية (السيدية)» ويقول أيضاً «لا يجوز لأحدٍ أن يؤوي إلى بيته غريباً لا يحترم يوم الأحد والأعياد([1])» ونص القانون الثالث والعشرون من القوانين الكنسية للقديس مار يعقوب الرهاوي (708+) ما يأتي: «لا يحلّ للمؤمنين أن يبيعوا ويشتروا شيئاً في يوم الأحد المقدس وفي الأعياد السيدية، ولا يجوز أن يسافر أحد في طريق إلاّ إذا كان في مكان خال أو في صحبة كثيرين أو في أعمال ضرورية أو بغصب الحكام أو لعوارض أخرى اضطرارية([2])».
وفي عصور لاحقة وُضِعت تذكارات القدّيسين لغايات حميدة ونافعة. والكنيسة في كتب طقوسها، تميّز بين الأعياد المارانية السيدية فتسمّي الأولى عادًا أعياداً، وتفرض على المؤمنين البطالة فيها، وتكرّسها للعبادة وعمل الخير. أمّا تذكارات السيدة العذراء، والشهداء، والقدّيسين التي تسمّيها الكنيسة دوكإنا أي التذكارات، لم تفرض فيها الانقطاع عن العمل سابقاً. ولكن هذه التذكارات تأخذ أهمية كبرى في الكنائس المحلية التي شيّدت على اسم صاحب الذكرى. وفرضت في بعضها البطالة مع مرور الزمن.
يوم السبت خاص بالشعب اليهودي:
كان اليهود وحدهم دون سائر الأمم مكلّفين بحفظ يوم السبت، وحفظ المواسم والأعياد اليهودية، وسائر فرائض الكهنوت الموسوي وأحكامه، ووصفت هذه الفرائض بأنها أبدية كقول الكتاب لليهود: «فريضة دهرية في أجيالكم» (لا 3:17 ولا 6: 18و20 ولا 7: 34و 16: 29و34 وعد 25: 10 و18: 23) والمفهوم بالفريضة الدهرية الأبدية هو أن هذه الفريضة تدوم بديمومة الشريعة التي فرضت ضمنها. وقد فرض اللّه على شعب موسى: 1ـ تقديس أيام معيّنة أي السبت، والأعياد، والهلال. 2ـ الذبائح. 3ـ شريعة الحلال والحرام في أكل اللحوم. 4ـ الختان.
أما السبت فقد فرضه اللّه على شعب موسى يلتزمون بحفظه كيوم عطلة، وذكر كفريضة لأول مرة في حادثة إعطاء اللّه لهم المنَّ في البرية حيث كلّم اللّه موسى قائلاً: «ها أنا أمطر لكم خبزاً من السماء… ويكون في اليوم السادس يهيئون ما يجيئون به فيكون ضعف ما يلتقطونه يوماً فيوماً… ثم كان في اليوم السادس أنهم التقطوا خبزاً مضاعفاً… فقال موسى هذا ما قاله الرب: وغداً عطلة سبت مقدّس للرب… ستة أيام تلتقطونه وأما اليوم السابع ففيه سبت لا يوجد فيه، انظروا أن الرب أعطاكم السبت… فاستراح الشعب في اليوم» (خر 16: 4 ـ 8 و22: 30).
وضمن الوصايا العشر التي أعطاها اللّه لشعب موسى قال له: «أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية، لا يكن لك آلهة أخرى أمامي… اذكر يوم السبت لتقدّسه، ستة أيام تعمل وتصنع جميع أعمالك، وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك، لا تصنع عملاً ما أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك…» (خر 20: 1 ـ 3 و8: 10). وقال موسى لشعبه: «الرب إلهنا قطع معنا عهداً في حوريب… نحن الذين هنا اليوم جميعنا أحياء فقال: أنا هو الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية… احفظ يوم السبت لتقدّسه، كما أوصاك الرب إلهك. ستة أيام تشتغل وتعمل جميع أعمالك، وأما اليوم السابع فسبت للرب إلهك، لا تعمل فيه عملاً ما… واذكر أنك كنت عبداً في أرض مصر فأخرجك الرب إلهك من هناك بيد شديدة وذراع ممدودة لأجل ذلك أوصاك الرب إلهك أن تحفظ يوم السبت» (تث 5: 2و6و12 ـ 15).
من هذه الآيات المقدّسة وغيرها، نعلم أن اليهود وحدهم كلّفوا بحفظ يوم السبت اليهودي، تذكيراً لهم بمراحم اللّه عليهم، وتخليصه إياهم من العبودية، فأراد اللّه أن يجعل هذا الخلاص ذكراً في أجيالهم، ليذكروا دائماً نعمته العظمى عليهم، ويجعله عهداً أبدياً بينه وبينهم، طالما بقي ناموس موسى وكهنوته الطقسي بتسلسله الشرعي، وطالما بقيت ذبائح هذا الناموس سارية المفعول، وطالما بقيت جداول أنساب ذلك الشعب محفوظة سليمة وصحيحة، وقد تبلبلت تلك الجداول وفقدت، وضاعت الأنساب بعد مجيء السيد المسيح، إذ كانت قد وجدت لتكون شاهدة على حقيقة مجيء المسيح، فشهدت بأن يسوع الناصري هو المسيح المنتظر، وأنّه من نسل داود، وفيه تمّت النبوات، وقد ذكر الإنجيل المقدس نسبه في الجسد. وبعد خراب أورشليم على يد طيطس عام 70م تبلبلت الأنساب وفقدت جداولها، وزالت الذبائح ومعها زال الكهنوت الموسوي أيضاً، وانتهت الفروض الموسوية، فانتهى معها العهد الأبدي.
ومن دراسة حالة اليهود في عهد السيد المسيح، نعلم أنهم في أجيالهم كلّها أخطأوا في كيفية حفظ يوم السبت، ونسوا الغاية من فرضه، فالله يريدنا أن نخصّص سبعَ وقتنا للاستراحة، لأن جسد الإنسان يحتاج إلى راحة، لذلك خصّص اللّه للإنسان يوماً في الأسبوع يرتاح فيه وهو سُبعُ وقته، كما خصّص اللّه للإنسان الليل لراحة جسده من أتعاب النهار. ويريدنا الرب خلال راحتنا الجسدية الأسبوعية أن نعبده تعالى بالروح والحق، ونمجّده ونشكره على أنعامه الكثيرة علينا.
وقد حفظ الرب يسوع (يوم السبت) إذ جاء ليكمّل الناموس لا لينقضه(مت 5: 17) ولكنه علّمنا كيف يجب أن نحفظ يوم الراحة بقوله: «إن السبت جُعل لأجل الإنسان لا الإنسان لأجل السبت»(مر 2: 27).
لذلك جاز لنا أن نعمل في يوم الراحة أعمال الرحمة، فقد أبرأ الرب يسوع في يوم السبت إنساناً كانت يده يابسة (مت 12: 10) وشفى المرأة المنحنية (لو 13: 10 ـ 14) وفتح عيني الأعمى (يو 19: 1 ـ 7) وشفى المستسقى (لو 14: 2) وفي يوم السبت قطف تلاميذه السنابل وأكلوا (مت 12: 1) وهذا ما كان يناقض تعاليم آبائهم وقوانين الفريسيين، فأراد اليهود قتل السيد المسيح لأنه نقض السبت (يو 5: 16) حسب ظنهم.
وكان السبت لدى اليهود فريضة طقسية أكثر منه وصية أدبية. فأُلغي كيوم راحة بإلغاء الناموس الطقسي لديهم.
وألغى المسيحيون يوم السبت وسائر الأعياد اليهودية ونتيجة لذلك يوصي الرسول بولس أهل كولسي بقوله: «فلا يحكم عليكم أحد في أكل أو شرب أو من جهة عيد أو هلال أو سبت التي هي ظل الأمور العتيدة»(كو 2: 16 ـ 17). فالرسول بولس يعلن هنا حقيقية بطلان الفروض الناموسية الموسوية في المسيحية.
يوم الأحد هو يوم الرب:
واتّخذت الكنيسة منذ العصر الرسولي اليوم الأول من الأسبوع أي «يوم الأحد» يوماً مقدّساً ودعته يوم الرب، وأعلنته يوم راحة للإنسان، وكرّسته لعبادة اللّه وتمجيده وعمل الخير فيه. ذلك أن الرب يسوع قام فيه من بين الأموات (مت 28: 1) وظهر لتلاميذه الأبرار في اليوم ذاته ست مرات محققاً لهم قيامته (يو 20: 19 ـ 26) ولم يكن عبثاً تكرار ظهوراته لهم أيضاً وهم مجتمعون في العلّية في يوم الأحد الذي تلا أحد القيامة، كما كان قد دخل أورشليم يوم الشعانين يوم الأحد، وحلّ الروح القدس على التلاميذ وملأهم قوة وحكمة يوم الأحد، وآمن بالمسيح في ذلك اليوم ثلاثة آلاف نفس دفعة واحدة (أع 2: 41) وإذا صحّ التقليد القائل أن السيد المسيح قد ولد يوم الأحد يكون قد اختتن يوم الأحد، كما أنه اعتمد يوم الأحد. وهكذا اتفق التلاميذ على حفظ يوم الأحد وتعيينه للعبادة منذ قيامة الرب يسوع من بين الأموات في هذا اليوم المبارك (يو 20: 19 ـ 26) وبهذا الصدد قال أحد آباء الكنيسة بالسريانية قولاً دخل الطقس الكنسي ويرتل بعد ظهر كل يوم أحد وهو: رب ؤْو يومؤ دحدبشبا، طوبوؤي لاينا دنُطر لؤ بؤيمنوةا، دبؤ قم مرن من قبرا وآوديو عممًا بابا وببرا وروحقودشا ؤّ حد ءلؤا÷
وترجمته: عظيم هو يوم الأحد، فطوبى لمَن يحفظه بإيمان، فإن فيه قام الرب من القبر وآمنت الشعوب بالآب والابن والروح القدس هللويا الإله الواحد.
ودعي يوم الأحد يوم الرب، وجاء ذلك أولاً في سفر الرؤيا بالنص اليوناني حيث قال يوحنا «كنت في الروح في يوم الرب»(رؤ 1: 10) وبما أن مفهوم المسيحية منذ بدئها بأن يوم الرب هو يوم الأحد لذلك فالترجمات اللاتينية والسريانية والقبطية ترجمت عبارة (يوم الرب) بـ «يوم الأحد».
وكان الرسل الأطهار وسائر تلاميذ الرب الأبرار يجتمعون في هذا اليوم لكسر الخبز والاشتراك في الأسرار المقدسة، وسماع كلام اللّه والوعظ والإرشاد (أع 20: 7). ولذلك أمر الرسول بولس المؤمنين أن يجتمعوا في هذا اليوم المبارك، ويجمعوا الصدقات لسد احتياجات الإخوة القديسين قائلاً: «في كل أول أسبوع ليضع كل واحد منكم عنده خازناً ما تيسّر حتى إذا جئت لا يكون جمع حينئذٍ»(1كو 16: 2) «إذاً يحلّ فعل الخير في يوم الراحة» (مت 12: 12). ولذلك يكون تقديس يوم الأحد: أولاً ـ بالبطالة أي بالامتناع عن ممارسة كل عمل غير ضروري، وترك مباشرة الحِرف والصنائع والبيع والشراء والنزهات الدنيوية وسائر الأعمال غير الضرورية. ثانياً ـ بحضور القداس الإلهي وسماع كلمة الله، أي بالقيام بأعمال العبادة وممارسة الأعمال التقوية. ثالثاً ـ بعمل الخير محبّة بالله والقريب.
وفي كتابات الآباء المسيحيين في القرون الأولى نقرأ في الديداكي أي تعليم الاثني عشر رسولاً([3]) وصية ذكرت في الفصل الرابع عشر منه تقول: «أما يوم الأحد فهو يوم الرب، تجتمعون فيه لكسر الخبز والشكر، بعدما تعترفون بخطاياكم، ليكون قربانكم نقياً وليكفّ عن الاجتماع بكم من يخاصم أخاه حتى يصالحه لكي لا تتدنّس تقدمتكم».
وفي طقوس كنيستنا السريانية منذ القرن الرابع خُصّصت فصول من الكتاب المقدس لكل يوم أحد، موزّعة على آحاد السنة، تتلى في بدء الاحتفال بالقدّاس الإلهي. كما نظمت الكنيسة كلندارها على أساس الآحاد، كآحاد قبل الميلاد، وآحاد الصوم الكبير، وآحاد بعد القيامة والخ… وبناءً على ما كانت تمارسه الكنيسة من تقديس يوم الأحد، اصدر الإمبراطور قسطنطين الكبير في 7 آذار سنة 321 أمراً بإبطال الأعمال في يوم الأحد حتى تعليم الجنود. كما منع الإمبراطور ثيودوسيوس الصغير حضور المسارح وملاعب الخيل وكل وسائل الطرب يوم الأحد، وذلك سنة 425. إن قرارات الملوك هذه تدل على ما كان للكنيسة من تأثير على المملكة فنفّذت المملكة قرارات الكنيسة، وإن آباء الكنيسة الرسوليين سجّلوا في كتاباتهم إلغاء يوم السبت، واتّخاذ الكنيسة يوم الأحد كيوم الرب، ومن ذلك ما قاله القديس مار إغناطيوس النوراني الشهيد (107+) في رسالته إلى أهل مغنيزيا: «إن الذين يعيشون تحت نظام الأشياء القديمة، اعتنقوا الرجاء الجديد، فلا يحفظون السبت أبداً، بل يوم الأحد، اليوم الذي فيه طلع نجم حياتنا بفضل الرب وموته، (وقيامته) هذا السرّ الذي ينكره كثيرون وهو ينبوع إيماننا»([4]). وقال يوستينوس الشهيد (167+) في احتجاجه عن المسيحيين الذي بعث به سنة 140 إلى الإمبراطور أنطونيوس بيوس أنه «في يوم معين يدعى الأحد، كان من عادة المسيحيين القدماء، سواء كانوا ساكنين في مدن أو قرى، أن يجتمعوا في مكان واحد. وكانت تقرأ بقدر ما يسمح الوقت تقارير الرسل أو كتابات الأنبياء. وبعد أن ينتهي القارئ كان المترئس يقدم خطاباً حاثاً هؤلاء المجتمعين على متابعة الأشياء الحميدة التي قرئت، وكان الجميع إذ ذاك يقفون ويقدّمون صلوات. وبعد نهاية الصلاة كان يُؤتى بخبز وخمر ممزوج بماء، ويوضعان قدام المترئس الذي يقدّم صلوات وشكرانات عند نهايتها يقول الشعب آمين. وكانت تلك العناصر المقدّسة توزّع حينئذ وتُناول إلى كل واحد، وقسم منها كان يرسل إلى الغائبين»([5]).
هكذا أبطل الرسل عطلة يوم السبت واتّخذوا يوم الأحد يوما مقدساًً للرب، وذلك بسلطان إلهي نالوه من الرب، وبترتيب إلهي، وإلهام رباني، وبهذا السلطان أيضاً كانوا قد أقدموا على إلغاء الختان وإحلال المعمودية محله، حتى ساغ للرسول بولس أن يقول: «لأنه في المسيح يسوع لا الختان ينفع شيئاً ولا الغرلة، بل الإيمان العامل بالمحبة»(غلا 5: 6) مع أن ما قيل عن الختان في العهد القديم، مطابق لما قيل عن السبت إذ قال الله: «ويكون عهدي في لحمكم عهداً أبدياً، وأما الذكر الأغلف الذي لا يختتن في لحم غرلته فتقطع تلك النفس من شعبها إنه قد نكث عهدي » (تك 17: 14). أما عن السبت فقيل: «سبوتي تحفظونها لأنها علامة بيني وبينكم في أجيالكم فتحفظون السبت لأنه مقدّس، من دنّسه قتلاً يقتل، فيحفظ بنو إسرائيل السبت ليصنعوا السبت في أجيالهم عهداً أبدياً» (خر 31: 14 ـ 17). فبالسلطان الرسولي الذي به أبطل الرسل عهد الختان الأبدي، أبطلوا أيضاً عهد السبت الأبدي. (أع 15: 18).
ولا غرو في ذلك، فليس ثمة ذكر للسبت في موعظة الرب يسوع على الجبل (مت 5و6و7) ولا ذكر للسبت في جواب الرب يسوع للشاب الذي سأله قائلاً ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟ فعدّد له الوصايا دون أن يذكر له وصية حفظ السبت (مت 19: 16) مما يدل على عدم ضرورة حفظها لنيل الحياة الأبدية. وفضلاً عن ذلك، فإن قرار المجمع الرسولي الأول الذي عقد في أورشليم عام 51م كان خالياً من ذكر السبت (أع 15: 18).
هكذا أبطلت وصية السبت واتّخذ المؤمنون في المسيح يوم الأحد يوماً للرب مقدساً يحتفلون فيه بذكرى قيامة الرب من بين الأموات.
الأعياد المسيحية الأخرى:
إلى جانب وجوب احتفالنا بيوم الرب أي يوم الأحد، نحن ملتزمون بالاحتفال ببقية الأعياد المسيحية التي تقسم من حيث رتبتها وأهميتها إلى:
1ـ أعياد مارانية أي سيدية وتدعى بالسريانية عادًا مُإنُيِا وهي أعياد الرب يسوع فيها نذكر أعماله الخلاصية، وفي ممارستها نتأمل صورة تدابيره الإلهية، وكأننا نرسمها أمامنا بصورة ناطقة. مكرّسين يوم العيد لعبادته له المجد ولذلك فهي أعياد إلزامية تلزم فيها البطالة على المؤمنين كما يجب فيها حضور القداس الإلهي.
2ـ تذكارات وتسمى بالسريانية دوكإنا وهي أعياد وتذكارات السيدة العذراء مريم وبعض الشهداء الأبرار والقديسين، والعديد من هذه التذكارات يعتبر أعياداً في الكنائس المحلية المشيَّدة على أسمائهم أو في مناطق استشهادهم أو جهادهم الروحي.
وتقسم الأعياد المارانية (السيدية) إلى قسمين أ: كبيرة، ب: صغيرة. فالكبيرة هي من وضع الرسل الأطهار وتلاميذهم الأولين([6]) وهي: 1ـ عيد البشارة، 2ـ عيد ميلاد الرب يسوع بالجسد، 3ـ عيد الغطاس أي عماد الرب يسوع في نهر الأردن على يد عبده يوحنا، 4ـ عيد الشعانين، 5ـ عيد القيامة، 6ـ عيد الصعود، 7ـ عيد العنصرة أي حلول الروح القدس على التلاميذ. أما الأعياد المارانية (السيدية) الصغيرة فهي: 1ـ عيد ختانة الرب يسوع، 2ـ عيد تقدمة الطفل يسوع إلى الهيكل، 3ـ خميس العهد وهو خميس الفصح، 4ـ ويضاف إليها أيضاً عيدا الصليب والأحد الجديد، وهذه الأعياد كلها إلزامية. وفيما يلي نتكلّم عن كل منها باختصار.
أولاً: الأعياد المارانية (السيدية) الكبيرة وهي سبعة:
1ـ عيد البشارة: وهو ذكرى بشارة الملاك جبرائيل للقديسة مريم العذراء بحبلها بمخلص العالم الرب يسوع المسيح (لو 1: 26 ـ 38). وتُعد هذه البشارة أول تدابير عمل الفداء، ومقدمة عهد الحرية والتخلّص من نير العبودية لإبليس ومن ربقة الخطية والموت الأدبي. وقد تسلّمت الكنيسة الاحتفال بهذا العيد من الرسل أنفسهم واحتفلت به منذ القرن الأول للميلاد([7]).
ويقع هذا العيد في 25 آذار، وهو من الأعياد الثابت حسابها في التقويم الكنسي، وقد يقع خلال أيام الصوم الأربعيني في وأسبوع الآلام وحتى في جمعة الآلام المحيية العظيمة، فيجب الاحتفال فيه بالقداس الإلهي فيه لأنه أصل الأعياد السيدية وأولها ـ ونحن السريان عادة لا نحتفل بالقداس الإلهي أيام الصيام إلا في يومي السبت والأحد وأربعاء نصف الصوم وارتفاع الصليب وسبت البشارة أي النور. ولكن لأهمية عيد البشارة يجب أن نحتفل بالقداس الإلهي فيه حتى ولو وقع في يوم جمعة الآلام المحيية، ونعيّد للبشارة متناولين الطعام الصيامي، ثم نبدأ بالاحتفال بطقس الصوم أو أسبوع الآلام أو الجمعة العظيمة موشّحين الكنيسة بالسواد علامة الحداد كالمعتاد.
وقد فصَّل البشير لوقا حوادث البشارة العظيمة في الإصحاح الأول من الإنجيل المقدس الذي كتبه.
2ـ عيد الميلاد: وهو ذكرى ولادة الرب يسوع المسيح بالجسد، في مغارة بيت لحم (لو 2: 1 ـ 13).
وقد احتفلت به الكنيسة منذ فجر المسيحية، وأثبت مار سويريوس الكبير (538+) قِدَمه على ما ذكر ابن كيفا (903+) وكانت أكثر كنائس الشرق تحتفل به في السادس من كانون الثاني مع عيد الغطاس وفي القرن الرابع عمّ تعييده في 25 كانون الأول وبقي عيد الغطاس في 6 كانون الثاني.([8])
3ـ عيد الغطاس: (الدنح) وهو ذكرى عماد الرب يسوع على يد عبده يوحنا المعمدان في نهر الاردن. ودعي بالسريانية دنحا ـ أي عيد الدنح أو الظهور الإلهي، لظهور الثالوث الأقدس الأقانيم الثلاثة الإله الواحد على أثر عماد الرب يسوع (مت 3: 13 ـ 17 ومر 1: 9 ـ 11 ولو 3: 21 ـ 23).
ويقع هذا العيد في السادس من شهر كانون الثاني وهو قديم العهد.
4ـ عيد الشعانين: وهو ذكرى دخول السيد المسيح إلى أورشليم راكباً على أتان وجحش ابن أتان (مت 21: 1 ـ 11 ومر 11: 1 ـ 11 ولو 19: 29 ـ 40 ويو 12: 22 ـ 25). ويقع هذا العيد في الأحد السابع من الصوم الكبير وهو الأحد السابق لعيد القيامة المجيد.
5ـ عيد قيامة الرب يسوع: من بين الأموات (مت 28: 1 ـ 4 ومر 16: 1). ويقع في الأحد الثامن من الصوم الكبير ولأهميته يسبقه أسبوع الآلام والصوم الأربعيني، وقد اختلف المسيحيون منذ فجر النصرانية في تعيين موعده، وعقدت مجامع محلية في أماكن عديدة لبحث هذا الخلاف، منها مجمع في ولاية الرها وفي فلسطين وبلاد البنطس، قررت أن يكون العيد يوم الأحد([9]). وقد وضع مجمع نيقية المسكوني الأول عام (325) حداً لهذا النزاع، وقرر أن يُحتفل بعيد القيامة في الأحد الذي يلي السبت لتمام بدر نيسان، ووضع المجمع قاعدة مضمونة لحساب العيد، وأعطي أسقف الاسكندرية الصلاحية ليعلن إلى عامة المسيحيين موعده لكل سنة([10]) معتمداً في تعيين موعده التقويم اليوليوسي الذي كانت الدولة تتبعه منذ فرضه يوليوس قيصر في السنة 46 قبل الميلاد. ولأهمية هذا العيد الدينية، واحتراماً لمقام قيامة الرب يسوع من بين الأموات، كان الملوك الرومان يعفون عن المجرمين فيه([11]).
وقد نشب الخلاف ثانية في صفوف الكنائس المسيحية في تعيين موعد عيد القيامة عندما اعتمد فريق منها الحساب الغريغوري أجراه البابا غريغوريوس الثالث عشر في السنة 1582. وما يزال الخلاف قائماً، وأبدى بعض رؤساء الكنائس والمؤسسات الكنسية في أيامنا هذه نية طيبة في محاولة توحيد مواعيد الاحتفال بالأعياد الدينية، فكان مجمعنا الأنطاكي السرياني الأرثوذكسي المقدس المنعقد في حمص غضون شهر تشرين الثاني من عام 1954 قد قرر بأكثرية الآراء قبول الحساب الغربي لعيد الميلاد والأعياد التي تتبعه بالتقويم السنوي. واعتبر اليوم الثاني من شهر كانون الأول شرقي، اليوم الخامس عشر منه. وأصدر الخالد الذكر البطريرك افرام الأول برصوم منشوراً في اليوم نفسه لكي تسلك الكنيسة فيما بعد بموجبه في جميع الأعياد، واستثنيت أبرشية القدس وكنيسة مصر، وأما حساب الصوم الكبير وعيد الفصح فهما باقيان على حاليهما. ونشكر اللّه الذي ألهم رؤساء الكنائس في أيامنا هذه فاخذوا يسعون إلى توحيد موعد عيد القيامة أيضاً وبهذا الصدد قرر مجمعنا المقدس المنعقد في دمشق في جلسته العشرين بتاريخ 11/11/1981 ما يأتي: «يرى المجمع أن يبقى موعد الاحتفال بعيد القيامة على وضعه الحاضر، ولا يجد مانعاً من بحث توحيد موعد الاحتفال به مع سائر الكنائس في الشرق الأوسط على أساس الاحتفال به سنوياً يوم أحد في غضون شهر نيسان الغربي أو يوم أحد في أي موعد يُتّفق عليه مسكونياً»([12]).
6ـ عيد صعود السيد المسيح إلى السماء وجلوسه عن يمين اللّه الآب (مر 16: 19و20 ولو 24: 50 ـ 53 وأع 1: 9 ـ 12). ويقع بعد أربعين يوماً من عيد القيامة وقبل عشرة أيام من عيد العنصرة. وهذا العيد قديم العهد أيضاً وقد عيّدته أكثر الكنائس قبل القرن الرابع وذكره مار أفرام السرياني (375+)([13])
عيد العنصرة: هو ذكرى حلول الروح القدس على تلاميذ الرب في العلية بعد صعود الرب يسوع إلى السماء بعشرة أيام وبعد قيامته من الأموات بخمسين يوماً. ولذلك يدعى أيضاً بالفنطيقسطي أي عيد الخمسين (أع 2: 1 ـ 4).
ثانياً: الأعياد السيدية الصغيرة. وهي أربعة:
1ـ عيد الختان: وهو ذكرى ختان الطفل يسوع (لو 2: 21 ـ 24) بعد ميلاده بثمانية أيام على حسب ناموس موسى، ويقع هذا العيد في الفاتح من شهر كانون الثاني وهو رأس السنة المسيحية الجديدة. وتبدأ السنة المسيحية بعيد الختان وليس بعيد الميلاد، لأن بدء حياة الإنسان في نظام العهد القديم هو يوم ختانه الذي فيه يقطع عهداً مع اللّه أن يكون في عداد المؤمنين به والمتمسكين بوصاياه، أما الأيام التي تقع بين يوم ميلاده ويوم ختانه، فلا تحسب من أيام حياته. فالرب يسوع الذي ولد من امرأة وولد تحت الناموس، أكمل الناموس، وطقسياً بدأت حياته بالجسد في يوم ختانه(غلا 4: 4).
2ـ عيد تقدمة الطفل يسوع إلى الهيكل في المدينة المقدسة، حيث حمله شمعون الشيخ على ذراعيه (لو 2: 22 ـ 32) ويقع في الثاني من شهر شباط، وهو قديم العهد بدأت بتعييده الكنيسة في القدس ثم أخذت عنها ذلك بقية الكنائس المسيحية([14]).
3ـ خميس الفصح أو خميس العهد: وهو ذكرى تسليم الرب يسوع سر جسده ودمه الأقدسين إلى تلاميذه ليلة آلامه (مت 26: 26 ـ 29 ومر 14: 22 ـ 25 ولو 22: 19 ـ 20). ويقع في اليوم الخامس بعد عيد الشعانين.
4ـ عيد التجلي: وهو ذكرى تجلي الرب يسوع على الجبل أمام ثلاثة من تلاميذه الأطهار هم بطرس ويعقوب ويوحنا، وظهور موسى وإيليا معه (مت 18: 1 ـ 13 ومر 9: 2 ـ 13 ولو 8: 28 ـ 36) ويقع في السادس من شهر آب.
ويضاف إلى الأعياد السيدية الصغيرة الأحد الجديد وهو ذكرى ظهور السيد المسيح لتلاميذه بحضور توما أحد رسله (يو 20: 24 ـ 29) ويقع في اليوم الثامن من عيد القيامة. وعيد الصليب الذي يقع في 14 أيلول. ولمار يعقوب الرهاوي (708+) رسالة في هذا العيد يوضّح فيها أنه يجهل واضع هذا العيد وزمانه وسببه ولم يقف على ذلك في تاريخ أو كتاب. وكل ما يعلم أنه عيد جرت عليه الكنيسة من عهد عهيد بحسب التقليد القديم([15]) والأغلب أنه نشأ في العقد الرابع من المائة الرابعة في القدس أولاً ثم أخذ يعمّ الكنائس. وقد تجدد ترتيبه في القرن السابع وخُصص لتذكار إعادة ذخيرة خشبة الصليب إلى القدس بعد أن سلبها كسرى ملك الفرس عام 625 ومكثت في حوزته مدة أربع عشرة سنة فأعادها هرقل ملك الروم إذ انتصر على ملك الفرس في الحرب.
إن المجمع الأنطاكي السرياني المقدس المنعقد في دير مار متى في الموصل من 11 ـ 25 تشرين الأول عام 1930 قرر «تحويل بعض الأعياد إلى تذكارات بشرط أن تبقى الأعياد السيدية والمكانية كما كانت». كما قرر المجمع المقدس المنعقد في حمص عام 1932 وجوب حفظ يوم الرب الذي هو الأحد بكل دقة حسب الأمر الإلهي كذلك الأعياد المارانية (السيدية) الكبيرة والصغيرة.
وفيما عدا الاحتفال بالأعياد السيدية فقد خصصت الكنيسة منذ أواسط القرن الثاني للميلاد أياما للاحتفال بتذكارات السيدة العذراء مريم والشهداء ثم سائر القديسين الذين انهوا حياتهم على الأرض متمسكين بالإيمان، وقدّموا شهادتهم بالمسيح بالأعمال الصالحة وختموها بسفك دمهم الطاهر على مذبح محبة اللّه. فاعتبرتهم الكنيسة قدّيسين انتقلوا إلى كنيسة الأبكار في السماء وتشفّعت بهم. وفي غضون القرن الرابع شرعت تشيّد على أسمائهم الكنائس الفاخرة، وتزيّنها بصورهم على ما أثبت مار غريغريوس النوسي([16]).
واستندت الكنيسة في عقيدة إكرام العذراء والشهداء وسائر القديسين إلى تعاليم الكتاب المقدس فقد قال الرب يسوع لتلاميذه: «الذي يسمع منكم يسمع مني والذي يرذلكم يرذلني والذي يرذلني يرذل الذي أرسلني»(لو 10: 16) وقال أيضاً: «إن كان أحد يخدمني فليتبعني وحيث أكون أنا هناك يكون خادمي. وإن كان أحد يخدمني يكرمه الآب»(يو 12: 26). وجاء في سفر الأمثال: «ذكر الصديق للبركة»(أم 10: 7) وجاء في سفر المزامير: «ذكر الصديق باق إلى الأبد»(مز 112: 6) وقال الرب يسوع عن المرأة التائبة التي دهنت قدميه بالطيب ومسحتهما بشعرها: «حيثما يكرز بالإنجيل في العالم، يخبر بما فعلته هذه تذكاراً لها»(مر 14: 9). أما السيدة العذراء مريم فقد تنبأت عن أن تذكارها سيدوم إلى الأبد بقولها: «منذ الآن جميع الأجيال تطوّبني، لأن القدير صنع بي عظائم واسمه قدوس، ورحمته إلى جيل الأجيال للذين يتقونه» (لو1: 48 ـ 50).
أعياد السيدة العذراء مريم وتذكاراتها، وندعوها بالأعياد المريمية:
رتبت الكنيسة عبر الأجيال تذكارات للعذراء مريم على مدار السنة. ففي الثامن من شهر أيلول تحتفل بتذكار ميلادها، والكنيسة عادة تعيد للشهداء والقديسين بعد انتقالهم إلى كنيسة الأبكار في السماء، وانتهاء جهادهم الروحي على الأرض. ولكنها استثنت من هذه القاعدة، من البشر، القديسة مريم العذراء والقديس مار يوحنا المعمدان فاحتفلت بتذكاري ميلادهما.
وتحتفل الكنيسة للعذراء في الخامس عشر من كانون الثاني بعيدها لبركة الزروع وفي الخامس عشر من أيار بتذكارها لبركة السنابل وفي الخامس عشر من آب بعيدها لبركة الكروم الذي حلّ محله مع الأجيال عيد انتقالها إلى السماء([17])، ولأهميته يسبقه صوم لمدة خمسة أيام.
وهذه الأعياد الثلاثة قديمة العهد في الكنيسة كما ذكر ذلك الشاعر السرياني شمعون الفخاري الذي اشتهر ورفاق له في أوائل القرن السادس ويُدعون بـ (قوقيًا) (قوقويي) القواقين أي الفخارين نسبة إلى مهنتهم كخزافين. فيقول الفخاري: ما تعريبه: «رشت أرض أفسس ونضحت بندى وطلّ عندما جاءها مار يوحنا بكتب العذراء التي دوّن فيها وجوب الاحتفال بأعياد العذراء المباركة ثلاث مرات في السنة. ففي شهر كانون الثاني عيدها (لبركة) الزرع، وفي شهر أيار عيدها (لبركة) السنابل، وفي شهر آب عيدها (لبركة) الكروم التي يصور فيها سر الحياة». كما كانت الكنيسة تعيّد للعذراء مريم في آخر شهر آب عيد (تزنير السيدة العذراء) ولقربه من عيد انتقالها أهمل على تراخي السنين([18]).
وتعيّد الكنيسة أيضاً للعذراء مريم في السادس والعشرين من شهر كانون الأول أي اليوم الثاني لعيد ميلاد الرب يسوع، عيد تهنئة العذراء بالميلاد، وهو عيد شرقي قديم. كما تعيّد في الخامس عشر من شهر حزيران تذكار أول كنيسة بنيت على اسم العذراء في يثرب، ومن أشهر وأهمّ الأعياد في المسيحية عيد بشارة العذراء بالحبل الإلهي ويقع في الخامس والعشرين من شهر آذار، وقد مرّ شرحه. كما خصّصت الكنيسة السريانية في بدء السنة الطقسية ما يسمى بالآحاد السابقة للميلاد من ضمنها أحد بشارة العذراء وأحد زيارة العذراء لنسيبتها اليصابات، واحد وحي يوسف وهو تطمين الملاك جبرائيل ليوسف خطيب العذراء ببراءتها وكشف السر الإلهي له، أن الذي حبل به في العذراء مريم هو من الروح القدس([19]).
وفي صدد تنظيم جدول الأعياد قرر السينودس المقدس المنعقد في حمص 4ـ7 كانون الأول عام 1932 عن أعياد العذراء ما يأتي: «أعياد السيدة العذراء أربعة وهي: تهنئتها 26 كانون الأول، ولبركة الزرع 15 كانون الثاني، وميلادها 8 أيلول، وانتقالها 15 آب، وما بقي فهو تذكار فقط».
بناء على قرار هذا المجمع المقدس وقرارات ما تلاه من مجامعنا المقدسة وتمشيّاً مع ما يقتضيه تطور الزمان من عدم إمكان المؤمنين الالتزام بالبطالة لكثرة أعياد العذراء والقديسين، نرى أن يثبت عيد تهنئة السيدة العذراء بميلاد ابنها الذي يقع في 26 كانون الأول، وكذلك ليثبت عيد انتقالها إلى السماء على ما هو عليه طالما سبقه صوم خمسة أيام وقد قرر مجمعنا الأنطاكي السرياني المقدس المنعقد في حمص في شهر تشرين الثاني عام 1954 أن يضاف إلى عيد انتقال سيدتنا العذراء مريم تذكار اكتشاف زنارها الذي وجد في كنيسة حمص في سنة 1953 أما بقية أعيادها فهي تذكارات وتنتقل إلى أقرب أحد منها. ويحذف عيد تشييد أول كنيسة على اسمها في يثرب. وفي ما سواه من أعيادها وتذكاراتها غُني عنه.
كما قرر مجمع حمص عام 1954 ما يأتي: قررنا نقل بعض أعياد وتذكارات قديسين من الأيام المعينة لها إلى يوم الأحد الأقرب منها وذلك تسهيلاً لأصحاب المهن والصناعات لحضور القداس وصلوات العيد المفروضة. ويستثنى من هذا النقل أعياد وتذكارات مكانية لها منزلتها الخاصة في بعض الكنائس.
بقية أعياد القديسين([20]): وتنقسم إلى قسمين:
1 ـ الثابتة وهي:
تذكار قتل الأطفال في بيت لحم. ويقع في 27 كانون الأول، ويمكن أن يحول إلى الأحد التالي.
عيد استشهاد مار يوحنا المعمدان، ويقع دائماً في السابع من شهر كانون الثاني.
تذكار مار اسطيفانوس رئيس الشمامسة وبكر الشهداء وعيدته الكنيسة أولاً في القدس في صدر النصرانية ثم عمّ، ويقع في 8 كانون الثاني، يحول إلى الأحد الذي يتلوه.
تذكار مار برصوم رئيس النسّاك ويقع في 3 شباط يحول إلى الأحد التالي.
تذكار الأربعين شهيداً في سيبسطية ويقع في 9 آذار يحول إلى الأحد الذي يتلوه.
عيد مار جرجس الشهيد ويقع في 23 نيسان، وفي كنائس العراق في 24 منه يحول إلى الأحد الذي يتلوه. أو في التاريخ الذي اعتادت الكنائس التي شيّدت على اسمه أن تحتفل به.
عيد هامتي الرسل مار بطرس ومار بولس وهو قديم العهد بدأ في القدس ثم عمّ، ويقع في 29 حزيران يعيد في موعده إذ يسبقه صوم ثلاثة أيام وهو عيد مؤسسي الكرسي الرسولي الأنطاكي.
عيد مار توما الرسول يقع في 3 تموز وهو تذكار انتقال رفاته من الهند إلى الرها يحوّل إلى الأحد التالي.
تذكار مار قرياقس وأمه يوليطي الشهيدين يحوّل إلى الأحد التالي.
تذكار الشهداء مار بهنام وأخته سارة ورفاقه الأربعين، ويقع في 10 كانون الأول يحول إلى الأحد التالي.
2 ـ الأعياد المتنقلة أو المتحولة وهي:
تذكار مار سويريوس البطريرك معلّم المسكونة المعترف وفي العراق هو تذكار مار إغناطيوس النوراني البطريرك «وهو حديث الوضع» ويقع يوم الخميس بعد صوم نينوى، وعيد مار أفرام الملفان معلّم المسكونة ومار ثاودورس الشهيد ويقع في السبت الأول من الصوم الكبير وقد حوّل بقرار مجمعي إلى الأحد الذي يليه.
تذكار ارتفاع الصليب وأبجر الملك ويقع في يوم الأربعاء نصف الصوم، وتذكار جميع المعترفين ويقع يوم الجمعة الذي يتلو عيد القيامة، وعيد مار برصوم رئيس النساك ويقع يوم الخميس الذي يعقب يوم خميس صعود الرب إلى السماء وهو الخميس السابق لعيد العنصرة وهذا العيد موضوع في الكلندار للقديس برصوم أسقف كفرتوث الشهيد، أما الآن فيراد به مار برصوم رئيس النسّاك([21])، وتعدّ هذه الأعياد والتذكارات المذكورة عامة لكنيستنا المقدسة جمعاء. وهناك تذكارات خاصة ومكانية قد فصِّلَت في التحفة الروحية فليرجع إليها. وإكمالاً للبحث ندرج فيما يأتي أسماء الآحاد على مدار السنة([22]) فنقول:
إن السنة الكنسية عندنا تبتدئ في الأحد الثامن السابق لعيد ميلاد الرب يسوع في الجسد وهو يكون الأحد الأول من شهر تشرين الثاني إذا وقع أول هذا الشهر يوم الأربعاء أو الخميس أو الجمعة أو السبت أو الأحد لكنه إذا وقع في يوم الاثنين أو الثلاثاء كان الأحد الأخير من شهر تشرين الأول رأس السنة الكنسية. والأحد الأول يسمّى تقديس البيعة، والثاني تجديد البيعة، الثالث بشارة زكريا، الرابع بشارة العذراء، الخامس زيارة العذراء، السادس ميلاد يوحنا، السابع وحي يوسف، الثامن الأحد السابق للميلاد. ثم الأحد الثاني للميلاد، والأحد الأول بعد الدنح، ثم الثاني فالثالث فالرابع فالخامس، ثم أحد الكهنة فأحد الموتى. وفي العراق جمعة الكهنة وجمعة الموتى الغرباء وجمعة الموتى كافةً. وآحاد الصوم الكبير الستة وهي:
الأحد الأول: أحد أعجوبة تحويل الماء خمراً في قانا الجليل.
والأحد الثاني: هو أحد أعجوبة تطهير الأبرص وعيد مار أفرام السرياني الملفان معلّم المسكونة ومار ثاودورس الشهيد.
والأحد الثالث: وهو أحد أعجوبة شفاء المخلع.
والأحد الرابع: وهو أحد أعجوبة شفاء ابنة الكنعانية.
والأحد الخامس: وهو أحد مثل السامري الصالح.
والأحد السادس: وهو أحد أعجوبة شفاء الأعمى ابن طيما.
والأحد السابع: وهو عيد الشعانين ومساء النهيرة.
ثم أحد القيامة أي عيد قيامة الرب يسوع من بين الأموات، ثم الأحد الجديد وهو الأحد الأول بعد القيامة ويليه الثاني والثالث والرابع والخامس وأحد العنصرة وبقية الآحاد حتى عيد الصليب وكلّها تخصّ القيامة، والآحاد التي تلي عيد الصليب وتعرف بالعامة.
ولكل من هذه الآحاد والأعياد والتذكارات طقوس خاصة بها نظمها آباء الكنيسة وملافنتها وضمتها مجلدات ضخمة سميت بالفناقيث أي المجلدات وهي تضمّ الصلوات التي وضعوها نظماً ونثراً لهذه المناسبات الروحية المقدسة تنشدها الكنيسة في الأيام المعينة لها.
تقديس البيعة
تقديس البيعة
تقديــس البيـــعة (1)†
«أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها»
(متى 16: 18)
أيها الأحباء:
تحتفل الكنيسة المقدسة في هذا اليوم المبارك، بأحد تقديس الكنيسة، وباحتفالها هذا تريد أن تؤكّد على الاعتراف الذي فاه به الرسول بطرس هامة الرسل جواباً لسؤال الرب يسوع لتلاميذه:«من يقول الناس اني أنا ابن الإنسان» (مت 13:16).
وتريد الكنيسة أيضاً أن تثبت بأنها قد أُسست على صخرة الإيمان بالرب يسوع، الذي هو رأس الزاوية وهو أيضاً رأس الكنيسة التي هي جسده السري، ولذلك هي ثابتة إلى الأبد وأبواب الجحيم لن تقوى عليها.
كان قد مرّ على بدء التدبير الإلهي العلني بالجسد مدة سنتين ونصف السنة، والناس حيارى، يرون شاب الناصرة يجترح الآيات والمعجزات، ويعلّم الناس طريق الحياة. يلقي عظاته كمن له سلطان وليس كالكتبة والفريسيين كما كانوا يقولون عنه، ولكن، هل هو «ماشيحا» المسيح المنتظر؟
لقد ارتكبت الأمة اليهودية جريمة كبرى، لأنهالم تعرف زمن افتقادها، ولم تعرف مسيحها فهلكت إلى الأبد. ولكن المسيح صرّح للعالم بأنَّه جاء مخلصاً للعالم، وها نحن نسمعه يسأل تلاميذه عن رأيهم فيه. ذكروا له أن الناس تظنّ أنه أحد الأنبياء. ولكن، وأنتم من تقولون أني أنا؟ يجيبه بطرس: «أنت هو المسيح ابن الله الحيّ». فيقول له يسوع: «طوبى لك يا سمعان ابن يونا، إن لحماً ودماً لم يُعلِنْ لك ذلك لكن أبي الذي في السموات، وأنا أقول لك أيضاً: أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها».
نعم، أسس السيد المسيح كنيسته على المبدأ الإيماني العقيدي السامي أنه: هو ابن الله الحي، ولذلك لا يمكن للكنيسة أن تتزعزع لأنه وَعَدها أن يكون معها إلى أبد الدهور، وأنَّ أبواب الجحيم لن تقوى عليها.
سمعناه للمرة الأولى يفوه بلفظة «كنيسة»، وعَلِمنا أنه يعني المؤمنين به إيماناً مستقيماً، بأنه هو ابن الله، فإن لم يؤمن الإنسان بأن يسوع الناصري هو المخلص وهو ابن الله، لا يكون في عداد المؤمنين الذين يؤلفون الكنيسة، وهذه الكنيسة أراد أن يقيمها ملكوتاً لله على الأرض، ووهبها كلّ النعم السماوية السامية لتلد أولاداً من السماء ليكونوا إخوةً للإله المتجسد. هذه الكنيسة بنعمتها تأخذ الطفل فيعتمد باسم الرب يسوع، بوساطة كهنتها الشرعيين، ويصير ابناً لله بالنعمة بعد أن يكون قد تبرر من الخطية الأبوية الأصلية وتقدَّس، لأنّ ابن الله قد تجسّد لهذه الغاية: أن يعيد إلينا القداسة التي فقدناها يوم أخطأ أبوانا الأولين، هذه القداسة أعادها الرب إذ فدانا بدمه الكريم، بل أيضاً أقام من نفسه مثالاً لنا حياً، فكان قدوساً طاهراً نقياً كما قال الملاك للعذراء يوم بشّرها بالحبل به: «القدوس المولود منك يدعى ابن الله» (لو1: 35)، فهو ابن الله القدوس.
رأيناه مرّةً يتحدّى أعداءه ويعلن لأصدقائه وأتباعه قائلاً: «من منكم يبكّتني على خطيئة، فإن كنت أقول الحقَّ فلماذا لستم تؤمنون بي» (يو8: 46). الإنسان ولو كانت حياته ساعة واحدة يقول آباؤنا السريان لابدَّ من أن يخطئ، ولكن المسيح يسوع عندما تجسّد، أخذ كل ما لنا كما يقول الكتاب ما عدا الخطية،لم يخطئ الرب يسوع فهو قدوس ويريدنا أن نكون قديسين كاملين كما قال في عظته على الجبل: «كونوا أنتم كاملين كما أباكم الذي في السموات هو كامل» (مت5: 48).
وهذا الربط ـ لأن أباكم الذي في السموات هو كامل ـ قصد به أن تكون علاقتكم بهذا السموي «الله» بطهر ونقاء وقداسة.
يوم كانا أبوانا في حالة البرّ كانا مع الله، وكانا يخاطبانه ويخاطبهما، ويوم أخطئا طُردا من جنتهما. نحن أيضاً جاء المسيح ليُعيد إلينا القداسة، ولا يمكن أن نعود إلى فردوس النعيم وإلى ملكوت الله في السموات مالم نكن قديسين.
هذا ما عناه آباء الكنيسة، بتقديس البيعة الذي نحتفل به في مثل هذا، وهو الأحد الثامن قبل ميلاد الرب يسوع بالجسد، وهو رأس السنة السريانية الطقسية، هذا ما عناه بتسمية الأحد بتقديس الكنيسة: أن نقدّس أنفسنا لأننا قد تبررنا من الخطية الأصلية، والرب يسوع وفرَّ لنا كل وسائل القداسة في كنيسته المقدسة، فما علينا إلاّ أن نقتدي به لكي نكون قديسين.
إن الرسول بولس يوصينا أن نكون بسلام مع جميع الناس، ونتحلّى بالقداسة التي بدونها لن يرى أحداً الله، لأن الله قدوس ومالم نكن قديسين لا نستطيع أن نرى الله. والله يرفض البر الذاتي، فقد يشعر الإنسان بنفسه أنَّه قد بلغ الكمال والقداسة لأنه طبّق بعض الوصايا وقام ببعض الفروض الكنسية، ولكن هذا هو البرُّ الذاتي الذي ولو كان له صورة البر ولكنّه ليس ببرٍّ، لأنه لا يؤهل الإنسان للدخول إلى ملكوت الله، لأنَّه برٌّ فريسي، فالرب قال: «إن لم يزد برّكم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السموات» (مت5: 20)، إذا كان هذا الحال أيها الأحباء مع المؤمنين فلا يمكن لمن لبس الجسد البشري سوى ربنا يسوع أن يبقى باراً قديساً، إذاً لا يمكن أن يرث إنسان ملكوت الله. ولذلك أعدَّ الله لنا سراً عظيماً هو سر التوبة والاعتراف، بأن يتوب الإنسان إلى الله.
لقد بدأ السابق يوحنا كرازته بمناداة الناس: «توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات» (مت3: 2)، وكانت عقيدة النظام القديم التي توارثوها عن آبائهم أنّه إن تاب بنو إسرائيل ساعةً واحدةً فقط فماسيا سيأتي حالاً، ونحن أيضاً ما لنا إلاّ أن نتوب، أن نعود إلى الله لننال البر، فيوم الدينونة يقول آباؤنا سوف لن يسألنا الله: لماذا أخطأتم؟ لأنَّه يعرف أننا معرضون للخطية دائماً، ولكن سيسألنا: لماذا لم تتوبوا؟ فالتوبة هي العودة إلى الله بندامة تامة، وأن يحتّم الإنسان أن لا يعود إلى الخطية أبداً، وأن يرضى بالموت ولا يرضى أن يعود إلى الخطية. بهذا فقط نستطيع أن نعود إلى برِّنا الذي فقدناه في الفردوس بعد أن نكون قد آمنا بالفداء، وقبلنا المسيح يسوع مخلصاً لنا، واعتمدنا باسمه القدوس.
لنقدِّس ذواتنا أيها الأحباء في هذا اليوم، وفي كل يوم، فإذا كان هذا اليوم هو تقديس البيعة فما هي البيعة إلا نحن، الرعاة والرعية، بل أنّ مار أفرام يقول للمؤمن: «أن يكون هو كنيسة وأن يجعل ذهنه مذبحاً للرب ليقدم تسابيح إلهية تصعد أمام منبر المسيح».
أيها الأحباء:
نحن هياكل الله وروح الله حالٌ فينا، فلنقدس هياكل الله بتوبة نصوح، ولنتَّحد بالمسيح يسوع بتناول القربان المقدس لنستحقَّ أن نكون قديسين، فنرث ملكوت الله في السماء بعد عمر طويل، الحالة التي أتمناها لي ولكم بنعمته تعالى آمين.
تقديــس البيـــعة (2)†
«أنت بطرس وعلى هذه الصخرة ابني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها»
(متى 16: 18)
كانَ الرب يسوع يجول في ضواحي قيصرية فيلبس، وكان التلاميذ يتبعونه، كان ذلك بعد بدء تدبيره الإلهي العلني بالجسد بسنتين ونصف السنة، وقد آن الأوان ليُعلن عن تأسيس ملكوته السماوي على الأرض، وليُعلنَ أيضاً أنَّه هو ماسيا المنتظر، وأنَّه ولئن ظهر كإنسان، لكنه هو الإله الحقيقي.
سأل تلاميذه قائلاً: من يقول الناس أني أنا ابن الإنسان؟ أجابوه قومٌ يوحنا المعمدان وآخرون إيليا وآخرون ارميا أو واحدٌ من الأنبياء. وأنتم من تقولون أني أنا؟ يتقدم بطرس ويقول: «أنت هو المسيح ابن الله الحيّ»، ويقول له الرب: «طوبى لك يا سمعان ابن يونا لأن لحماً ودماً لم يُعلِنْ لك ذلك لكن أبي الذي في السموات، وأنا أقول لك أيضاً أنت بطرس وعلى هذه الصخرة ابني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها» (مت16: 17).
كانت المرّة الأولى التي يلفظ فيها الرب كلمة «كنيسة» وعنى بها جماعة الذين آمنوا به أنّه ابن الله، أي التلاميذ والرسل الذين كانوا يتبعونه دائماً وفي كل مكان، هؤلاء هم الكنيسة، بني هذه الكنيسة، هذه الجماعة التي تؤمن به أنَّه ابن الله بناها على أساس هذا المبدأ أنَّه هو المسيح ابن الله الحي.
الكنيسة التي أسسها الرب جعل منها مؤسسة إلهية على الأرض، تهيئ الناس لييكونوا مهيَّئين لملكوته السماوي، ووضع في تلك الكنيسة وكلاء عنه هم الرسل الأطهار وبعدئذ وضع خلفاءً للرسل ليتسلموا سلطان الإدارة الكنسية. حيث بعد أن أقرَّ بطرس بالإيمان الذي أوحته إليه السماء وأعطاه الرب مفاتيح باب السماء منفرداً أعطاه السلطان أن يفتح أبواب السماء وأن يغلقها أيضاً، أن يهيئ الناس أن يتعلموا تعاليم السماء، وأن يتقدَّسوا وأن يتبرروا ثم أن يصيروا أولاداً لله مولودين من السماء. بعدئذ أعطى هذا السلطان للرسل مجتمعين أن يفتحوا أبواب السماء لمن يستحق أن يدخلها، وأن يغلقوها أيضاً أمام من لا يستحق أن يدخل تلك الجنة التي هيأها الرب للإنسان.
بطرس كان شخصاً معرَّضاً للخطية، فهو إنسان، بل أيضاً ظهر لنا ضعفه عندما انتهر الرّب، هكذا يقول الإنجيل المقدس إذ أنّ الرب قد أظهر لتلاميذه أنه سيتألم، فنرى بطرس يقول: حاشاك يا رب، ولكنَّ الرب انتهره، رأى الشيطان الذي كان وراء فكرة بطرس، فطرده، «اذهب عني يا شيطان، أنت معثرة لي لأنّك لا تهتمّ بما لله بل بما للناس» (مت16: 23).
هذه كنيسة المسيح التي سلَّم مقاليدها للرسل هي مفاتيح التعليم الصحيح، كان الإنسان عندما يدرس الشريعة في العهد القديم يعطى له مفتاح كأنَّه استحقَّ أن يفتح أبواب العلم الديني أمام الناس، ولكن الرسل أعطوا مفاتيح السماء وما حلّوه على الأرض يكون محلولاً في السماء وما ربطوه على الأرض يكون مربوطاً في السماء (مت16: 19)، فعندما تأسست الكنيسة نالوا هذا السلطان السامي.
ولكنّ الكنيسة المقدسة التي أحبّها السيد المسيح ـ كقول الرسول بولس ـ وبذل نفسه دونها، وفداها بدمه الأقدس، فنقاها وطهَّرها فصارت له عروسة نقية طاهرة لا عيب فيها ولا غضن، فهي كنيسة مقدسة والرسل والتلاميذ وسائر أعضاء الكنيسة لابدّ أن يكونوا قديسين، ولهذا يوم ولدت الكنيسة يوم حلَّ الروح القدس على أولئك الذين ألفوا الكنيسة في يوم الخمسين طهّرهم الروح القدس ونقاهم وألهمهم، وكما كان المسيح قد وعدهم أنَّ الروح يذكِّرهم في كل ما قاله المسيح لهم، فصار الروح مرشداً للكنيسة ومعلماً، ويصون رؤساءها وأبناءها، الرعاة والرعية في آنٍ واحد في إطار العقيدة السليمة والسيرة الصالحة المقدسة، فما على الكنيسة إلا أن يخضعوا للروح القدس، أن يكونوا في حالة نعمة، أن يكونوا في حالة سلام، لأنَّ الروح يغضب عندما يشعر أن الإنسان يبتعد عن الله بتمرغه في الخطية. هذا ما شعر به داود يوم أخطأ وعند توبته طلب قائلاً: «قلباً نقياً اخلق فيّ يا الله وروحاً مستقيماً جدد في داخلي، لا تطرحني من قدام وجهك وروحك القدوس لا تنزعه مني» (مز51: 10 و11). فنحن إذاً أحبائي أبناء ملكوت الله على الأرض أعضاء الكنيسة جسد المسيح السري بل كل واحد منَّا كما يعلمنا القديس مار أفرام السرياني: «كلُّ واحد منّا هو كنيسة» وليس هذا غريباً عن المسيحية كافة فالرسول بولس يقول: «لنا أنتم هياكل الله وروح الله حال فيكم».
وإذ نحتفل اليوم بأحد تقديس الكنيسة، لا نرى فقط الكنيسة كبنيان يحلّ فيه الله، لأنّ الله يحلّ في كل مكان، خاصة البناء الذي يُقدَّس ويُكرَّس على اسمه ليكون دائماً مع المؤمنين به. لا نرى ذلك فقط بل نرى أنفسنا كنائس لله هياكل له تعالى فكما أنَّ علينا أن نحافظ على السيرة الصالحة، فالكنيسة قد أؤتمنت على ذلك لأنها مقدسة وأعضاؤها قديسون وقد جاهَدت عبر الدهور والأجيال وإبليس يحاربها يريد زعزعة إيمان أبنائها، ويريدهم أن يحيدوا عن طريق الحق والاستقامة والفضيلة. واليوم في أيامنا هذه الكثير ممن يُدعون مسيحيين قد حادوا عن الإيمان بالمسيح يسوع ابن الله، تنكروا لهذه العقيدة وأنكروها، بل أيضاً حادوا عن الشريعة الإلهية التي أعطانا إياها المسيح يسوع إذ صار مثالاً لنا بنكران ذاته، بحمله الصليب، بفداء المسيح المعصوم عن كل خطأ، ألم يتحدّى أصدقائه وأعدائه قائلاً: «من منكم يبكتني على خطية» (يو8: 46)، فالكنيسة لها مسؤولية كبيرة أن تحافظ على العقيدة الدينية وعلى السيرة الفاضلة، وإن حادت عن إحدى هاتين المسؤوليتين لا تكون كنيسة المسيح، وكما نحافظ على ذلك ككنيسة، علينا أن نحافظ على ذلك كأفراد، كهياكل لله، وإلا نكون غرباء عن المسيح يسوع ـ لا سمح الله ـ ، فعندما نحتفل بتقديس الكنيسة نحتفل بتقديس نفوسنا، إذ اختارنا الله له شعباً كما تنبأ ارميا عن الأيام التي بدأت بتدبير المسيح يسوع في الجسد إنَّ الله سيختار له شعباً لا يعطيهم شريعة كما أعطاها بوساطة موسى لشعب العهد القديم، بل أن: «يجعل شريعته في داخلهم، وأن ينقشها على قلوبهم ليكون هو لهم إلهاً وليكونوا هم له شعباً» (إر31: 33)، هكذا نكون هياكل الله هكذا نكون أعضاء حية في كنيسة الله، فالسيد المسيح رأس الكنيسة، ومالم يكن الجسد معلقاً بالرأس وخاضعاً لأوامر الرأس يكون غريباً عن الرأس، بل يكون ميتاً كأغصان الكرمة التي مثلها الرب يسوع به وبأبيه وبأعضاء كنيسته المقدسة (يو15: 1).
ففي هذا اليوم مسؤوليتنا أن نجدّد عهدنا مع الله الذي جعل شريعته في قلوبنا، أن نسلك بحسب هذه الشريعة متمسّكين بالإيمان الذي تسلَّمه الرسل الأطهار من مسيحنا وسلموه لآبائنا ونحن تسلمناه منهم، متمسكين بالسيرة الصالحة، أن نكون قديسين كما أنَّ «أبانا الذي في السموات قدوس»، بهذا فقط نكون أعضاء حيّة في جسم كنيسة الله على الأرض، ونستحقَّ أن نكون بعد العمر الطويل أرواحاً نبني أسوار أورشليم السماوية مع الملائكة ومع أرواح القديسين الحالة التي أتمناها لي ولكم أحبائي آمين.
تقديـس البيعة (3)†
«فأجاب يسوع وقال له: طوبى لك يا سمعان بن يونا إن لحماً ودماً لم يعلِنْ لك لكنَّ أبي الذي في السموات وأنا أقول لك أيضاً أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها، وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات فكلّ ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السموات وما تحلّه على الأرض يكون محلولاً في السموات».
(مت 16: 17 ـ 19)
تعلن السماء على لسان الرسول بطرس هامة الرسل حقيقة إلهيّة كان لابدّ أن يعرفها العالم عن يسوع المسيح، الذي يصفه الرسول بولس بقوله: «وبالإجماع عظيم هو سر التقوى الله ظهر بالجسد» هذا هة الابن، الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس الذي تجسّد في ملء الزمان من الروح القدس والعذراء مريم. وجال بين الناس يصنع خيراً، الذي كان يعلّم الناس كمن له سلطان، وليس مثل الكتبة والفريسيين، الذي اجترح المعجزات الباهرات، الذي جاء إلى عالمنا لينهج لنا طريق الحياة الأبدية، فلم يكن مجرد إنسان بل هو «اللّه ظهر بالجسد» (1تي 3: 16) كما أنّه ابن اللّه الحي، هذا ما أعلنته السماء يوم عماده من يوحنا المعمدان عندما انفتحت السماء وهبط الروح على هامته شبه حمامة على هامته ليميّزه عن الجمهور. وهذا ما أعلنته السماء أيضاً يوم تجلّيه على الجبل أمام ثلاثة من تلاميذه، عندما تغيّرت هيئته وصارت ثيابه كالثلج ولمع وجهه كالشمس وظهر معه موسى وإيليا وجاء صوت الآب من السماء قائلاً: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت له اسمعوا» (لو9: 35)، وأعلنته السماء على ألسنة الكثيرين، خاصة على لسان مار بطرس هامة الرسل في ضواحي قيصرية فيليبس، وكان ذلك بعد سنتين ونصف السنة من بدء تدبيره الإلهي العلني بالجسد، هناك سأل الرب يسوع رسله قائلاً: من يقول الناس عني إني أنا؟ فأجابوا قوم يقولون يوحنا المعمدان، وآخرون إيليا وآخرون إرميا أو واحد من الأنبياء. وأردف يسوع قائلاً لرسله الأطهار: وأنتم من تقولون إني أنا، أجاب بطرس قائلاً: «أنت المسيح ابن اللّه الحيّ». بعد أن لفظ بطرس ما ألهمه اللّه به حينذاك آن الأوان ليعلن الرب يسوع نفسه لأوّل مرة عن تأسيس كنيسته المقدسة التي هي ملكوت اللّه على الأرض، فلفظ كلمة كنيسة لأوّل مرة وعنى بها جماعة المؤمنين به أنّه ابن اللّه. فقد أسّس هذه الكنيسة على صخرة عقيدة إيمانيّة دينيّة إلهيّة أن يسوع المسيح هو ابن اللّه الحي، فمن لا يؤمن بالمسيح أنه ابن اللّه لا يعتبر عضواً في الكنيسة بل هو غريب عنها. وهذه الكنيسة التي أسّسها على صخرة الإيمان به وعدها أن أبواب الهاوية لن تقهرها أبداً، والأبواب هي السلطات كما كان يقال مدنياً عن الباب العالي أي السلطة العليا في الدولة العثمانية، وأراد الرب أن تكون كنيسته مقدسة لتكون سلّماً يصعد عليها المؤمن إلى السماء ولا غرو فمؤسّسها قدوس، كما قال عنه الملاك يوم بشّر العذراء مريم بالحبل الإلهي به: «الروح القدس يحلّ عليك وقوة العلي تظللّك فلذلك أيضاً القدوس المولود منك يدعى ابن الله» (لو1: 35)، وفي تدبيره الإلهي بالجسد لم يقترف خطيّة ما، ولم يوجد في فمه غش، وقد وقف أمام أصدقائه وأعدائه يعلن لهم حقيقة سامية بقوله: «من منكم يبكتني على خطية؟» (يو8: 46)، فهو وحده ممّن لبس الجسد معصوم من الخطأ.
جاء الرب يسوع إلى أرضنا ليقدّسنا ويطهّرنا، ففدانا بدمه القدوس الكريم واشترانا للآب السماوي على حد قول الرسول بولس القائل: «كما أحبّ المسيح أيضاً الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها لكي يقدّسها مطهّراً إياها بغسل الماء بالكلمة لكي يحضرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن أو شيء من مثل ذلك، بل تكون مقدّسة وبلا عيب» (أف5: 25 ـ 27) فالكنيسة مقدّسة لأن المسيح القدوس هو مؤسّسها، وهو رأسها وهي جسده السري المقدس، ليس هذا فقط بل يريد من كل عضو من أعضاء الكنيسة أن يكون قديساً، «كونوا كاملين» قال لنا في الموعظة على الجبل «لأن أباكم الذي في السموات هو كامل» (مت5: 48)، ويقول أيضاً الرسول بطرس في رسالته الأولى: «بل نظير القدوس الذي دعاكم كونوا أنتم أيضاً قديسين في كل سيرة، لأنه مكتوب كونوا قديسين لأني أنا قدوس» (1بط1: 15 و16)، فقد قدّسنا وطهّرنا ونقّانا بدمه الطاهر، وأسّس لنا الكنيسة مخزناً للنعم الإلهية والمواهب السماوية التي اكتسبها لنا بدمه الكريم، فنحن نولد في الكنيسة من جرن المعمودية ميلاداً ثانياً، والكنيسة بسلطة الكهنوت المقدس تدعو الروح القدس ليحلّ علينا عندما نمسح بالميرون المقدس وننمو بالقامة والنعمة في كنيسة اللّه، أبناءً للّه بالنعمة إذ ولدنا من فوق من السماء: «لا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من اللّه» (يو1: 13)، لنكون أعضاء في هذه الكنيسة المقدّسة التي أسّسها المسيح يسوع على صخرة الإيمان به وليس هذا فقط بل نقّاها وطهّرها لكي يحثّنا كأعضاء حيّة فيها أن نكون أنقياء. من أراد أن يكون عضواً حياً في الكنيسة عليه أن يكون قديساً، هذا الأمر لا نستطيع أن ندركه بعقولنا ومهما سعينا للوصول إليه لا نستطيع أن نناله ما لم نؤمن بابن اللّه الحيّ. وقد نكون في عداد هؤلاء وأولئك الذين يخدعون أنفسهم ويظّنون أنهم بتمسّكهم ببعض ما ورثوه من آبائهم من عادات قد صاروا بجهودهم الخاصة أبراراً وهذا ما نسمّيه بالبر الذاتي الذي هو صورة التقوى الخالية من قوتها، وهذه كانت حالة الكتبة والفريسيين ولذلك يريد الرب يسوع أن يزيد برّنا عليهم ليكون برّنا حقيقياً بقوله لنا: إن لم يزد برّنا على الكتبة والفريسيين، الرب قال لنا: لا نستحق أن ندخل ملكوت اللّه. فالقداسة هي في الروح، الروح التي إذ تتطهر باللّه تستطيع أن تناجي روح اللّه الحي، القداسة هي العلاقة التّامة المتينة بالمسيح يسوع ربنا، فنحن أغصان وهو الكرمة ما لم نكن متصلين في الكرمة نيبس ونقطع ونلقى في النار.
هذه الكنيسة المقدسة التي أسّسها المسيح لن تقهرها أبواب الهاوية. كم قسا الدهر عليها! إن هراطقة لا يحصى لهم عدد قاموا فيها منذ فجر وجودها لكي يفسدوا عقيدتها القويمة الرأي. إبليس زرع فيها أيضاً زؤاناً اختلط مع الحنطة، ولكن اللّه في وسطها فلن تتزعزع فقد حافظت على إيمانها القويم الرأي، وقدمت الشهداء وقام ملافنتها يدافعون عن حقها وثبتوا أبناءها على الإيمان القويم الرأي وما تزال وسوف تبقى ثابتة على إيمانها القويم الرأي والسيرة الفاضلة، رغم اضطهاد العالم وأساطين العالم لأبنائها، وهي متمسكة بالقداسة، فالكنيسة مقدسة بالمسيح قديسها القدوس. آباؤنا نحن كنيسة اللّه، كنيسة أنطاكية، آباؤنا كانوا قديسين. إن سفر أعمال الرسل يذكر أن أتباع المسيح لأوّل مرّة دعوا مسيحيين في أنطاكية ذلك أن أعداء المسيح من الوثنيين واليهود في ذلك الوقت رأوا في أولئك الذين يتبعون المسيح مسحاء صغاراً بسيرتهم الطاهرة النقية فسمّوهم مسيحيين (أع11: 26). فإذا كنّا نريد أن نكون أعضاء حيّة في كنيسة المسيح، أن نكون في هذه الكنيسة المقدسة بعلاقة تامة برأسها المسيح، علينا أن نكون أيضاً قديسين بسيرة طاهرة نقية وبالثبات على الإيمان القويم الرأي.
هذه هي الدروس الخالدة التي نأخذها أيها الأحباء ونحن نحتفل بطقس تقديس الكنيسة في هذا اليوم الذي يعتبر بدء السنة الطقسية السريانية، وهو الأحد الأول في عداد الآحاد الثمانية السابقة لعيد الميلاد المقدس، وهو الأحد الذي فيه نبدأ نقدس نفوسنا ونستعد ونهيئ عقولنا لتقبل عقيدة التجسد الإلهي والفداء في آن واحد. فعلينا أيها الأحباء أن نثبت على إيماننا، أن نعلن هذا الإيمان كما أعلنه بطرس أن المسيح هو ابن اللّه الحيّ، فالذي ولُد من العذراء مريم هو اللّه ظهر في الجسد، وفي الوقت نفسه أن نتأمل في هذا السر العظيم أن اللّه قد أحبنا إلى درجة أنه «بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية» (يو3: 16). لذلك فلنقتدِ بالمسيح يسوع الذي هو حقّنا وطريقنا وحياتنا لنحيا به ويحيا فينا لنستحق مع القديسين والآباء وفي مقدمتهم الرسول بطرس أن نرث ملكوت اللّه بنعمته تعالى آمين.
تقديــس البيـــعة (4)†
«فأجاب يسوع وقال له: طوبى لك يا سمعان ابن يونا إن لحماً ودماً لم يعلنْ لك ذلك لكن أبي الذي في السموات وأنا أقول لك أيضاً أنت بطرس وعلى هذه الصخرة ابني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها»
(متى16: 17 و18)
تحتفل الكنيسة المقدسة أيها الأحباء، في هذا اليوم، بأحد تقديس الكنيسة، وهو الأحد الأول من الآحاد الثمانية التي تسبق عيد ميلاد الرب يسوع بالجسد.
والكنيسة تهيأ عقول أبنائها وبناتها وقلوبهم، لتقبّل حقيقة الميلاد الإلهي. والإنجيل الذي تُلي على مسامع بعضكم في بدء القداس يُعلن لنا عمّا يناله الإنسان المؤمن من نِعم عندما يعلن إيمانه الحقيقي بالرب يسوع كما فعل سمعان بطرس، فاستحقَّ الطوبى.
فقد كان الرب قد بدء تدبيره الإلهي العلني بالجسد قبل سنتين ونصف من تاريخ وجوده في ضواحي قيصرية فيلبس، التي هي بانياس السورية، وحين سأل تلاميذه عمّا يقول الناس عنه أنه هو، والرب يعلمنا بسؤاله لتلاميذه أننا يجب أن لا نتجاهل الناس في كل ما نفكر به ونقوله ونعمله، بل أيضاً علينا أن نحترم آراءهم، حتى ولو كان هناك قضية إيمانية علينا أن نستمع إليهم ونصحّح ما كان خارجاً عن أصول الإيمان المقدس.
أجاب الرسل الرب عمّا سمعوه من الناس قائلين: قوم يقولون أنك يوحنا المعمدان، أجل العديد من الناس كانوا يظنون أن يوحنا الذي قتله هيرودس قد قام من بين الأموات وبدء يبشر ثانيةً قائلاً: «توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات» (مت3: 1)، حتى هيرودس عندما سمع عن الرب يسوع قال: «هذا هو يوحنا المعمدان قد قام من الأموات ولذلك تعمل به القوات» (مت14: 1)، وغيرهم يقولون: إنك إيليا، وعن إيليا كان يقال: إنَّه سيأتي ثانيةً قبل مجيء المسيح، إيليا الذي عرفنا عنه أنه كان نبياً غيوراً، وأنه استحق أن تصعد به مركبة نارية إلى السماء، فهو لا يزال حياً. وكان تقليد اليهود يعلم أنه سيأتي قبل مجيئ المسيح ليهيأ طريقه أمام الرب، والرب قد أشار إلى ذلك وقال لهم: «إنّ إيليا يأتي أولاً ويرد كل شيء، ولكني أقول لكم إن إيليا قد جاء ولم يعرفوه» (مت17: 11)، لقد جاء إيليا لأنَّ يوحنا المعمدان قد جاء بروح الغيرة التي كانت لدى إيليا وغيرهم.
وقال التلاميذ أيضاً: والبعض يقولون إنّك إرميا، وإرميا كان نبياً غيوراً حزيناً على كسر بنت شعبه، حزيناً على الناس الذين حادوا عن الإيمان وابتعدوا عن الله وعلى خراب المدينة والهيكل وعلى ابتعاد الناس عن الناموس وإبطال الذبيحة. وبحسب تقليد اليهود أن إرميا كان يجب أن يأتي قبل مجيء المسيح وأنه سيجد قسط المن وعصا هرون ويهيأ هذه الأمور، وأنه سيفتش عن تابوت العهد ليجده ويُعاد بناء هيكلهم، وإعادة ذبائحهم الحيوانية.
ويتابع الرب يسوع سؤاله لتلاميذه ويسألهم عن رأيهم به هم كرسل اختارهم من بين العالمين ليحملوا رسالة الإنجيل إلى العالم ويتبعوه مدة سنتين ونصف السنة، ورأوه يجترح المعجزات، وسمعوا تعاليمه، يقول لهم: وأنتم من تقولون أني أنا؟
بطرس يتقدّم التلاميذ ويقول للرب: أنت هو المسيح ابن الله الحي. «طوبى لك يا سمعان ابن يونا ـ يقول الرب لبطرس ـ لأن لحماً ودماً لم يعلن لك لكن أبي الذي في السموات، وأنا أقول لك أنت بطرس «كيفا» وعلى هذه الصخرة ـ أي صخرة الإيمان بالمسيح بأنه ابن الله الحي ـ وعلى هذه الصخرة ابني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها».
في هذه الحقيقة الإلهية، في هذه الحادثة التي دوّنها لنا الإنجيليون نرى أنَّ الحقائق الإيمانية التي تفوق عقولنا جميعاً لا نستطيع أن ندركها، وأن نعلنها مالم تكن السماء قد أوحت إلينا بذلك. فالرب يقول لبطرس: «إن لحماً ودماً لم يعلن لك ذلك بل أبي الذي في السموات». وبطرس خضع للروح والوحي الإلهي وأعلنه واستحق الطوبى.
ما أسعد هذا الإنسان الذي تقبَّل وحي السماء وأعلنه بإيمان!
طوبى لك يا سمعان ابن يونا، أنت بطرس، أنت لست بترا شوعا، إنما أنت حجر كافا في بيت إلهنا وعلى صخرة الإيمان، صخرة المبدأ الإلهي، ابني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها.
مهما صادف الكنيسة المقدسة من عقبات في سير رسلها لحمل الإنجيل من صعوبات من اضطهادات ولكنَّ أبواب الجحيم لن تقوى عليها والأبواب كنية عن السلطة والسلطات العليا تدعى أبواباً ولكن هذه السلطة الدنيوية لم ولن تقوى على كنيسة المسيح لأنها قد تأسست على صخرة الإيمان طالما هي متمسكة بهذا الإيمان بالمسيح يسوع الذي هو ابن الله الحي تبقى ثابتة إلى الأبد.
هذه الكنيسة أيها الأحباء أسسها الرب يسوع لتكون ملكوته السماوي على الأرض، لتجمع الناس إلى حظيرة المسيح لتمنحهم النعم الإلهية التي استحقها بدم المسيح يسوع، إن هم آمنوا في المسيح، فالمسيح في بدء تدبيره الإلهي بالجسد لمّا جاء إلى العالم بالجسد جاء لفداء البشرية بدمه الكريم، وأعلن رسالة السماء على الأرض. جاء فوجد كنيسة اليهود التي أسسها على يد موسى قد حادت عن الناموس وأصبحت غريبة عن الشريعة، فقد وجدت لخلاص البشر ولكنها صارت سبباً لهلاكهم، فنادى ببدء تدبيره الإلهي العلني بالجسد «توبوا فقد اقترب منكم ملكوت الله» ملكوت الله على الأرض هي الكنيسة المقدسة. إن الرب يسوع المسيح يريدنا أن نتوب لنكون في عداد أبناء هذا الملكوت على الأرض وهو يعلم أننا لا نستطيع أن ندعي البرَّ، ومن ادعى بالبر الذاتي أصبح غريباً عن الله إذاً نحتاج إلى التوبة لنعود إليه لنكون أعضاء في ملكوته السموي على الأرض، وعندما فدانا بدمه الكريم أعاد إلينا الحالة التي كان فيها أبوانا، حالة البر والقداسة إذ بررنا وقدسنا، عندما فدانا بدمه الكريم، وإذا كان في البدء قد أعلن أن روحه لا تحل على ذي جسد لأن الإنسان نجس، نجس بالخطية فبعد أن فدانا وآمنا به أنه ابن الله الحي وقبلنا نعمة الفداء بدمه الكريم، فلا يكفي أنه قد فدانا يجب أيضاً أن نؤمن بهذا الفداء ونقبله، حينذاك حلّ علينا روحه القدوس فقدسنا وأصبحنا قديسين. كل مؤمن ومؤمنة يؤمن إيماناً حقيقياً صحيحاً بالمسيح ابن الله ويسلك بموجب شريعة المسيح يصبح قديساً عضواً في الكنيسة المقدسة.
يأتي إنسان ليسأل: كيف يكون هذا والعديد ممن نراهم وكأنهم مؤمنون هم بعيدون عن التقوى ومخافة الله لهم صورة التقوى ولكنهم لا يعرفون قوتها؟
إن ذلك أيها الأحباء يوضَّح بمثل الرب عن نمو الزرع الصالح مع الزوان (مت13: 24ـ 30)، وعن توصية صاحب الحقل لعبيده أن لا يقلعوا الزوان لئلا تقلع الحنطة معه أيضاً الزرع الصالح من الزوان، ويقول: دعوهما ينموان معاً إلى يوم الحصاد. هكذا ينمو معاً الصالح والطالح في كنيسة الله.
لكن الكنيسة مقدسة، وعندما نحتفل بتقديس الكنيسة نريد أن نقدّس نفوسنا كالكنيسة، وقد دعا مار أفرام الملفان كل مؤمن هو كنيسة ويريدنا أن نقدم ذبائح الله روحاً منكسرة روحاً طاهرة نقية، أعمالاً صالحة كأننا نقدم ذلك في مذبح الرب الذي هو فكرنا وقلبنا لنكون مرضيين لديه تعالى. فالكنيسة مقدسة وعلينا أن نكون قديسين، إذ قدَّستنا نعمة الرب وولدتنا الكنيسة التي هي أمنا ومعلمتنا ولدتنا ميلاداً ثانياً من جرن المعمودية وحلَّ علينا الروح القدس ليثبِّتنا ولننمو في النعمة والحق في هذا العالم ولنكون للعالم أيضاً مثالاً لأناس آمنوا حقاً كالرسول بطرس بأنَّ المسيح هو ابن الله الحي، وأن المسيح قد فدانا بدمه الكريم وهو حيٌّ، وعلينا أن نحيا فيه بل هو يحيا فينا، لنكون قديسين كما أن أبانا الذي في السموات هو قدوس، حينذاك عندما نتقدس في الرب ونبقى في حالة التوبة التي دعانا إليها المسيح نستحق أن نكون معه أيضاً في السماء بشركة القديسين.
فالكنيسة أيها الأحباء تعلمنا بوساطة الوحي الإلهي أنها الكنيسة المجاهدة على الأرض وجهادها، ما جهاد الكنيسة؟ جهاد الكنيسة على الأرض ضدَّ إبليس لتثبت في حالة التوبة، فلا تخضع للشيطان، ولا تستمع إليه، بل تثق بالله وتتمسك بشريعته لتكون مرضية لدى الله ولتكون بشركة مع كنيسة الأبكار المكتوبة أسماؤهم في السماء، هؤلاء هم كنيسة بشركتنا معهم خاصة خلال القداس الإلهي تتوحد الكنيسة الواحدة، نحن نصلي لأجلهم وهم يصلون لأجلنا لنبقى مرضيين لدى الله متمسِّكين بشريعته، سالكين سلوك آبائنا القديسين، متمسكين بإيماننا بالمسيح يسوع المسيح ابن الله الحيّ، لكي بعد أن نقضي شوطنا على هذه الأرض تستحق أرواحنا أن تتَّحد مع أرواح القديسين في السماء لنكون ضمن أعضاء الكنيسة المنتصرة، الحالة التي أتمناها لي ولكم بنعمته تعالى آمين.
تقديــس البيـــعة (5)†
«فأجاب سمعان بطرس وقال: أنت هو المسيح ابن الله الحي. فأجاب يسوع وقال له طوبى لك يا سمعان ابن يونا، إن لحماً ودماً لم يُعلنْ لك لكن أبي الذي في السموات. وأنا أقول لك أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها»
(متى 16 : 16-18)
في هذا اليوم المبارك أيها الأحباء، الذي ندعوه أحد تقديس الكنيسة، تحتفل الكنيسة المقدسة بذكرى بدء السنة الطقسية السريانية، وتهيّئ أذهان المؤمنين وعقولهم لتقبُّل سرّ تجسد الرب يسوع المسيح، أي بدء الآحاد الثمانية قبل الميلاد.
يقودنا الرسول متى في الإنجيل المقدس إلى ضواحي قيصرية فيلبس التي تدعى اليوم «بانياس» في أراضينا السورية. حيث كان الرب يسوع مجتمعاً مع تلاميذه، بعد ابتدائه تدبيره الإلهي العلني بالجسد بسنتين ونصف السنة، هناك أراد أن يعلن حقيقة لابدّ أن يعترف بها تلاميذه ومن يأتي بعدهم، بل كل من يؤمن أن المسيح هو ابن الله.
سأل التلاميذ: من يقول الناس أني أنا ابن الإنسان؟. قالوا له: قوم يوحنا المعمدان، وآخرون إيليا، وآخرون إرميا، أو واحد من الأنبياء. قال لهم: وأنتم من تقولون أني أنا، فأجاب سمعان بطرس وقال: أنت هو المسيح ابن الله الحي. فأجاب يسوع وقال له: طوبى لك يا سمعان بن يونا. إن لحماً ودماً لم يُعلنْ لك لكن أبي الذي في السموات. وأنا أقول لك: أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها.
أراد الرب يسوع أن تُعلَن هذه الحقيقة لنا، ووضَّح أن سمعان لم يقلها من نفسه بل الآب السماوي أوحاها إليه. وأعطى الطوبى لسمعان ودعاه كيفا أي الحجرة، ودعاه أيضاًً الصخرة الصلدة التي عليها أسس كنيسته لتبقى ثابتة إلى الأبد وأبواب الجحيم لن تقوى عليها.
أجل أيها الأحباء:
إن الكنيسة المقدسة التي أسَّسها الرب يسوع، أراد أن تكون سُلّماً موضوعاً على الأرض، نصعد به إلى السماء، لأنه هناك ملكوته السماوي. فإذا تهيأ المسيحي في الكنيسة التي هي ـ كما ذكرها الآباء في مجمع القسطنطينية سنة 381م ـ هي واحدة وجامعة ومقدّسة ورسوليّة، وعندما نحتفل بتقديس الكنيسة، يعني ذلك أن هذه الكنيسة قد تقدّست وتطهّرت وتنقّت بوساطة سرَّي التجسّد والفداء.
الرب يسوع المسيح ابن الله تجسد ليكون ابن البشر، ليجعلنا أولاداً لله بالنعمة، وقدّسنا وطهّرنا ونقّانا فاستحقَّ كلّ واحد منّا أن يولد بالمعمودية ميلاداً ثانياً من السماء، ليكون ابناً لله بالنعمة. فجعل الكنيسة واسطةً للتبرير والتقديس. ونحن قد نلنا نعمة عظيمة من الرب، لأنَّه أسس كنيسته على المبدأ السامي المقدس بأنه ابن الله الحي، وهو معنا لأنه صار أيضاً ابن البشر. وجعل في الكنيسة وسائل النعمة، الأسرار المقدسة، فنولد من جرن المعمودية أولاداً للسّماء، وبالميرون المقدس نتثبّت ويحلّ علينا الرّوح القدس. لذلك فالكنيسة التي أعلنها الرب يسوع في قرى قيصرية فيلبس ولدت يوم حلَّ الروح القدس على التلاميذ، وبدأت الكنيسة بوساطة الروح القدس وإرشاده وقيادته، تتذكر ما قاله الرب يسوع للتلاميذ، ولا تحيد عن الحق، بل أصبحت عمود الحق. هذه الكنيسة بعد أن نولد من جرن المعمودية، ويحلّ علينا الروح القدس نصير فيها أعضاء على الأرض، لأنها ملكوت الله الذي أسسه الرب يسوع، ليتهيأ فيه المؤمن ويتدرب ليكون بعدئذ مرشحاً لملكوت الله في السماء.
الإنسان يخطئ دائماً لأنّه معرضٌ للخطيئة طالما هو لابسٌ الجسد، ولكن وُضِع سر التوبة والاعتراف لكي يتطهّر ويتنقّى، لأنه عندما أسّس كنيسته وأعطى الطوبى لبطرس، حالاً أعطاه سلطان حل الخطايا وربطها، «ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السماء، وما تحلّه على الأرض يكون محلولاً في السّماء». هذا هو سلطان الكهنوت، الذي به تستطيع الكنيسة أن تبقى ثابتة على حالة البر، تغفر خطاياها بسر الاعتراف والتوبة، ثم عندما يتناول المؤمن القربان المقدس، يثبت في المسيح، ويثبت المسيح فيه، بل أيضاً حسب وعد المسيح الصادق أنَّه يرث الحياة الأبدية.
ما أعظم هذه النعمة التي ننالها بواسطة الكنيسة المقدسة من ربنا يسوع المسيح والكنيسة المقدسة، خاصةً وأن الرب يسوع هو رأسها، وهي جسده الطاهر النقي. نتأمل في الناس فنجد الصّالح والطالح، نجد البار والشرير، نجد المؤمن والملحد. فنقول: كيف الكنيسة مقدسة؟
أيّها الأحباء:
ضرب لنا الرب يسوع مثلاً عن الحنطة والزؤان (مت13: 24ـ 30)، إنسان زرع زرعاً جيداً، حنطةً نقية، وقبل أن تنمو نما معها الزؤان. عرف أن إنساناً شريراً قد زرع ذلك مع الحنطة. إبليس يقظ دائماً، فلابدّ أن يكون الزؤان إلى جانب الحنطة. وعندما طلب العبيد من صاحب هذا الزرع أن يذهبوا وينقوا الزرع من الزؤان، قال لهم: تمهَّلوا لا تفعلوا شيئاً لئلاّ تقتلعون أيضاً الحنطة مع الزؤان، دعوهما ينميان معاً إلى يوم الحصاد، الأشرار والأبرار معاً، الصّالح والطّالح معاً إلى يوم الحصاد. لا نقدر أن نميّز هذا من ذاك، نعرف فقط الأمور الظاهرة، وكثيراً ما يكون النفاق والدجل والخرافات موجودة عند الناس، لكن الرب يسوع يقول: دعوهما ينميان معاً إلى يوم الحصاد، يوم الدينونة، فيأمر الرّب أن تُنَقَى الحنطة من الزؤان، ويحرق الزؤان، أما الحنطة فتكون في مخازن الرب.
في يوم الدينونة الذين لم يتوبوا إلى الرب، الذين لم يعترفوا بان المسيح هو ابن الله، الذين لم يكونوا أعضاء أحياء في كنيسة الرب، حجارةً حيّة في بناء الكنيسة الروحيّة، ليس فقط في الأرض، بل كنيسة الأبكار في السماء والتي ندعوها الكنيسة المنتصرة، لأنها انتصرت على إبليس واستطاعت أن ترث ملكوت الله. حينذاك يُعزَل الأشرار عن الأبرار، ويرث الأبرار ملكوت الله.
أحبائي:
الوسيلة الوحيدة لنا التي أنعم بها الرب علينا، أن نتوب إليه لكي نتنقى ونتقدس، لكي يصير كل واحد منّا بحسب تعليم مار أفرام: «كنيسة يرفع التسابيح إلى الله»، يمجّد الإله الذي خلقه إنساناً، والذي أهّله بعد أن تجسد الرب يسوع بسِرَّي التجسد والفداء، وفداه بصليبه المقدس، ودمه الطاهر، أصبح هذا الإنسان كنيسةً مقدسة، فاستحقَّ أن يكون مع أعضاء كنيسة الأبكار المكتوبة أسماؤهم في السماء. الحالة التي أتمناها لي ولكم بنعمته تعالى آمين.
تقديــس البيـــعة (6)†
«فأجاب سمعان بطرس وقال أنت هو المسيح ابن الله الحي، فأجاب يسوع وقال له طوبى لك يا سمعان بن يونا. إن لحماً ودماً لم يعلنْ لك لكن أبي الذي في السموات، وأنا أقول لك أيضاً أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها»
(مت 6: 16ـ 18)
في هذا اليوم المبارك أيها الأحباء تذكر الكنيسة المقدسة في طقسها أحد تقديس البيعة، وهو الأحد الأول من الآحاد الثمانية التي تسبق عيد الميلاد. وقد نظّم آباء الكنيسة الطقوس بالهام الروح القدس فبدؤوا بتقديس الكنيسة ثم بتجديدها ثم بالآحاد التي تهيّئ عقولنا كبشر لفهم الحقائق التي لا ندركها بعقولنا البشرية لكي تتقبل عقيدة سري التجسد والفداء.
كان الرب قد بدأ تدبيره الإلهي العلني بالجسد قبل سنتين ونصف السنة، كان قد خرّج تلاميذه في مدرسته الإلهية فشاهدوا المعجزات الباهرات التي اجترحها واستمعوا إلى التعاليم الإلهية التي علمهم إياها وكانوا كسائر أترابهم ومعاصريهم من اليهود وغيرهم قد ابتعدوا عن معرفة حقيقته الإلهية فتساءلوا قائلين: من هو هذا يا ترى؟
بعد أن أعلن المبادئ السامية السماوية كان لابدّ أن يوجههم نحو شخصه الإلهي لكي يفهموا من هو. كان في نواحي قيصرية فيلبس المنطقة التي تدعى وتسمى أيضاً «بانياس» لأنها تسجد وتعبد الإله الذي يدعى كذلك.
بعد أن صلى الرب يسوع، ودائماً عندما كان لابدّ أن يعلن أمراً إلهياً لخلاص البشر كان يصلي، وصلاة الرب يسوع هي مناجاة الذات للذات، فهو والآب واحد، ومن رآه فقد رأى الآب، ولكن لكي يعلمنا الاّ نتخذ قراراً روحياً مالم نستلهم ذلك من الآب السماوي. كان سائراً في الطريق، ووجّه سؤاله إلى الرسل قائلاً: من يقول الناس أني أنا ابن الإنسان؟ وصف نفسه بالإنسان ابن البشر، ويسأل التلاميذ من يقول الناس عنه؟ فقالوا: قوم يوحنا المعمدان وآخرون إيليا وآخرون ارميا أو واحد من الأنبياء، كانوا يعتقدون أيضاً بالتناسخ فظنّوا أنه واحد من الأنبياء الذين ماتوا، فتجسدت روحه ثانيةً فجاء نبياً عظيماً ليشهد للمسيح أو هو المسيح بالذات، وأرادوا أن يوفّقوا بين النبوات التي قيلت عن مجيء المسيح والخرافات التي ورثوها من آبائهم، وما بين المخلص الذي لابدَّ أن يأتي ليوفق ما بين سقوط الإنسان وعدل الله ورحمته، لذلك قالوا بأن قوماً يقولون: واحد من الأنبياء.
وأنتم من تقولون أني أنا؟ سأل المسيح تلاميذه هذا السؤال الذي يعدّ امتحاناً صعباً جداً بعد أن رأوا المعجزات وسمعوا التعاليم الإلهية احتارت عقولهم ما بين الحقائق الإلهية وبين الخرافات التي قيلت عن مجيء ماسّيا. ولكن السماء كانت هناك فألهمت الرسول بطرس. كان الرسول بطرس أكبرهم سناً وكان من طبيعته أن يتقدّم الكل خاصة في الكلام، إن أخطأ أو أصاب ولكن نحن لم نكن ندري بأن السماء وراء كل شيء. لذلك تقدّم بطرس وقال: أنت هو المسيح ابن الله الحي.
والرب يسوع أراد بعد سنتين ونصف السنة من تبشيره التدبيري الإلهي العلني بالجسد أن يعلن نفسه أيضاً لتلاميذه، هنا نسمع الرب يعطي الطوبى لسمعان بطرس: «طوبى لك يا سمعان ابن يونا لأن لحماً ودماً لم يُعلنْ لك لكن أبي الذي في السموات، وأنا أقول لك أيضاً أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها». هذه الآية كانت وما تزال سبباً لخلافات عديدة في الكنيسة المقدسة «أنت بطرس». بعضهم يقولون أنّ الرب اعتبر بطرس أنّه صخرة وأن الكنيسة أُسست على هذه الصخرة مجازياً، أحياناً عديدة حتى الآباء في صلواتنا ينسبون لبطرس هذه الصفة لكن عندما ندرس ذلك من الناحية اللغوية نرى أن كلمة بطرس بيترا وبالسريانية فطروس وكيفا أيضاً بالسريانية (كافا) فكيفا كما تقول الترجمة السريانية هي الحجر وبصفة المذكر لكن بيترا هي الصخرة، (شوعا) فقال له أنت الحجر، الحجرة الثابتة وعلى هذه الصخرة، صخرة مبدأ السماء الذي أُعلن على فم بطرس: «أنّ المسيح هو ابن الله الحي»، على هذه الصخرة «أبني كنيستي» لذلك من لا يؤمن أن المسيح هو ابن الله الحي، لا يمكن أن يكون من أتباع الرب يسوع.
ليدّعي مَنْ يدّعي، إنَّ هناك نعمة كبيرة ينالها من يجلس على كرسي بطرس الرسول، وخاصة ما قيل عنه في أماكن عديدة بأنَّه الصخرة.
الغريب أننا لن نعتبر بطرس المسكين الذي هو عبارة عن حجرة في الكنيسة التي تأسست على الصخر والتي لن تتزعزع أبداً، بعد قليل من اعترافه عندما أعلن الرب يسوع عن آلامه، وعن الفداء الذي قام به ويقوم بسفك دمه على الصليب؛ عندما أعلن الرب هذه الحقيقة الإلهية، نرى أن بطرس يقول له: «حاشا لك يا رب لا يكون لك هذا». لم يتصوّر بطرس أنّ المسيح ابن الله الحي سيتألم، لم يدرك هذه الحقيقة، ونحن لا نلوم بطرس، فكلّ واحد منّا لم يكن ممكناً أن يدرك هذه الحقيقة، كل واحد منّا لو رأى المسيح يقيم لعازر من الموت، لا يمكن أن يتخيَّل أنه سيموت.
استغرب بطرس جداً، ولكنَّ الرب وبّخه ورأى الشيطان وراء هذه الأفكار الهدّامة، لأنَّ الشيطان شعر بأن المسيح سيفدي البشرية ويعطيها الحياة بموته كما يقول آباءنا: «يميت الموت بموته» لذلك جعل بطرس الذي ألهمته السماء أن المسيح هو ابن الله الحي، خدعه إبليس كما خدع أبوينا الأولين فقال بطرس للرب: «حاشاك يا رب لا يكون لك هذا»، فالمسيح وبَّخ الشيطان بشخص بطرس قال له: «اذهب عني يا شيطان أنت معثرة لي لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس»، هنا نتعلم أنه علينا ولئن كنّا لا ندرك الحقائق الإلهية أن نسلم بها ونتمسّك بالاعتقاد بها، لأنها وحيٌ من الله فنرى أمامنا إنساناً هو الرب يسوع ولئن كان أسمى من الناس بتعاليمه وأسمى من الناس حتى في المعجزات التي يجترحها ونؤمن به أنه ابن الله الحي على هذه الصخرة أبني كنيستي.
شيَّد كنيسته لتتسلّم منه النِّعم الإلهية، نِعَم الخلاص وتنشرها في العالم أجمع والكنيسة لن تتزعزع، لنتأمَّل في تاريخ الكنيسة منذ بدئها، كيف أن إبليس حاربها وأعوان إبليس بطرق عديدة قاوموها، وظنّوا أنه بإمكانهم أن يبيدوها، ولكنَّ الرب وعد أنها لن تتزعزع أبداً، ويقول الكتاب: أن الله في وسطها فلن تتزعزع، ويقول الرب يسوع: «وأبواب الجحيم لن تقوى عليها».
ما معنى الأبواب ؟
في العهد العثماني كانوا يقولون: «الباب العالي»، وهو السلطة العليا في الدولة، فالأبواب هي الرئاسات، السلطة الموجودة في السماء والأرض أبواب الجحيم لن تقوى عليها، الأبالسة الذين حاربوا الرب يسوع، فيحاربون من يتبع الربّ يسوع، لا يستطيعون أن يبيدوا الكنيسة. كم قسوا عليها؟ كم أثاروا عليها اضطهادات؟ آلاف مؤلّفة من الناس استشهدوا في سبيلها، وتمسكوا بعقيدتها أن المسيح هو ابن الله الحي، ولكن أبواب الجحيم أي الأبالسة، الأبالسة لا تستطيع أن تزعزع الكنيسة، هذه العقيدة السامية تجعلنا أن نثْبت على الإيمان بالمسيح يسوع؛ ليس هذا فقط، فالكنيسة لها عقيدة، وقيم روحية سامية، فكم قامت الهرطقات التي أرادت أن تبيد عقيدة الكنيسة؟ كم قامت خرافات أرادت أن تبلبل أفكار المؤمنين؟
في سفر أعمال الرسل الفصل الذي تلي على مسامعكم في بدء القداس رأينا الذين قاموا ضدّ تعاليم الرب والرسل، حتى الذين بلبلوا أفكار الناس بالمسيح يسوع، ورأينا كيف أنهم أبيدوا جميعاً، لأنّ تعاليم الرب باقية إلى الأبد سليمة صحيحة، لا يمكن أن تتغير.
حتى في أيامنا هذه باسم الكنيسة المسيحية، تقام خرافات وانحرافات عن الأخلاق ليس المسيحية فقط بل البشرية، ولكن الكنيسة لن تتزعزع أبداً وتستنكر هذه الضلالات لتبقى هذه الكنيسة أيها الأحباء على الأرض كنيسة مجاهدة ثابتة على الإيمان، داحرة إبليس وجنوده متمسكة أيضاً بالفضائل السامية، حتى ينتصر أبناء هذه الكنيسة المجاهدة، وينضموا بعد العمر الطويل إلى كنيسة الأبكار المكتوبة في السموات حينذاك يرثون ملكوته تعالى ويتنعّمون معه إلى الأبد، الحالة التي أتمناها لي ولكم أحبائي بنعمته تعالى آمين.
تقديــس البيـــعة (7)†
«فأجاب يسوع وقال له: طوبى لك يا سمعان بن يونا إن لحماً ودماً لم يعلِنْ لك لكنَّ أبي الذي في السموات وأنا أقول لك أيضاً أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها، وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات فكلّ ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السموات وما تحلّه على الأرض يكون محلولاً في السموات»
(مت 16: 17 ـ 19)
بعد سنتين ونصف السنة من بدء التدبير الإلهي العلني للرب يسوع بالجسد، كان لابدّ أن يعلن حقيقة تجسّده الإلهي جهراً أمام تلاميذه، وأنه ماشيحا المسيح المنتظر، وأنه مخلّص العالم وأنه ابن اللّه الوحيد. أغلب الذين التقوه من الناس ظنّوا أنّه مجرد نبي. مرّة قالوا عن يوسف النجار الذي كان خطيب أمه العذراء مريم أنه أبو الرب يسوع، ومرّة قالوا عنه ما قالوا، والرب يسوع يريدنا نحن أيضاً أن نتساءل عمّا يقوله الناس عنا. ففيما كان في قرى قيصرية فيلبس التي هي على الأغلب بانياس السورية سأل تلاميذه قائلاً: «ماذا يقول الناس عني إني أنا ابن الإنسان؟» فقالوا له: «قوم يقولون يوحنا المعمدان، آخرون إيليا، وآخرون إرميا أو واحد من الأنبياء» فقال لهم: «وأنتم من تقولون إني أنا؟. أجاب بطرس وقال: «أنت المسيح ابن الله الحي» فأجاب يسوع وقال لبطرس: «طوبى لك يا سمعان بن يونا فإن لحماً ودماً لم يعلن لك لكن أبي الذي في السموات وأنا أقول لك أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها، وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السموات وكل ما تحلّه على الأرض يكون محلولاً في السموات» (مت16: 16).
أيها الأحباء:
في هذا اليوم تحتفل الكنيسة المقدسة بأحد تقديس البيعة وهو بدء السنة الطقسية السريانية، كما هو الأحد الأول من الآحاد الثمانية التي تسبق عيد الميلاد، وعندما نذكر هذا الأحد نذكر ما تلوناه الآن من آيات مقدسة من الإنجيل المقدس عن تأسيس الكنيسة المقدسة وعن الوعد الذي أعطاه الرب لأتباعه الذين هم أبناء هذه الكنيسة ليتمسّكوا بالإيمان الذي يريدهم المسيح يسوع أن يتمسّكوا به. عندما نسمع الرب وهو يسأل التلاميذ عمّا يقول الناس عن الرب يسوع، نستغرب ونسأل أنفسنا عن عدم اكتشاف التلاميذ أولاً أنه خلال مدة سنتين ونصف السنة لم يدرك أولئك التلاميذ أن يسوع الناصري القدوس هو ابن اللّه. كانت السماء قد أعلنت ذلك جهراً يوم خرج من النهر على أثر نيله المعمودية على يد يوحنا، عندما انفتحت السماء وهبط الروح القدس بشبه حمامة وحلّ على هامة الرب يسوع ليميزه عن الجماهير، أعلن الآب السماوي عنه قائلاً: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررتُ» (مت3: 17). كما أعلنت السماء شهادتها عن الرب يسوع أمام ثلاثة من تلاميذه في جبل التجلي حيث رأوا هيئته وقد تغيرت، وثيابه صارت بيضاء كالثلج ووجهه لمع كالشمس وظهر معه إيليا الذي كان قد صعد إلى السماء حياً قبل ألف سنة من بدء تاريخ التجسد الإلهي، كما ظهر النبي موسى الذي مات في الجبل ودفنته الملائكة، ظهر أيضاً مع الرب يسوع في التجلي وصار صوتٌ من السحابة قائلاً: «هذا هو ابني الحبيب له اسمعوا» (لو9: 35). شهدت السماء بأن المسيح هو ابن اللّه كما شهد أيضاً بذلك بعض الناس، ولكن الكنيسة المقدسة اعتبرت شهادة هامة الرسل بطرس هي أيضاً شهادة السماء، الشهادة التي اعتمدتها لتكون أساس العقيدة الإيمانية به لأنها قيلَت بإلهام السماء، فالرب يسوع عندما سأل التلاميذ: «ماذا يقول الناس عني إني أنا» نرى الآراء الكثيرة لم تكن آراء باطلة، كانت مبنية على تعاليم وتقاليد اليهود لذلك أجابوا الرب يسوع قائلين: «قوم يقول أنك يوحنا المعمدان»، هيرودس الملك نفسه عندما سمع أن الرب ابتدأ يعلن للناس «توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات» (مت4: 17) قال: هل هذا يوحنا الذي قطعتُ هامته في السجن قد قام من بين الأموات؟ وقوم قالوا أنه إيليا النبي الناري الذي اتصف بالغيرة ومحاربة الشر، الذي صعد إلى السماء حياً قبل هذا التاريخ بنحو ألف سنة في مركبة نارية ولم يذق الموت الطبيعي، وظهر مع الرب يسوع على جبل التجلي بعد حادثة اعتراف بطرس بالرب يسوع أنه ابن اللّه الحي، وبظهوره هذا أعلن لنا أن المسيح ليس إيليا كما يظن بالمسيح بعض اليهود معاصريه، وثانياً: أن الرب نفسه عندما سأله التلاميذ الذين كانوا معه في التجلي «لماذا يقول الكتبة أن إيليا ينبغي أن يأتي أولاً؟»، قال أن إيليا قد جاء ولم يعرفوه وفعلوا به ما فعلوا. ذلك لأن يوحنا المعمدان بغيرته ومقاومته الشر اعتُبر أنه جاء بروح إيليا وغيرته الدينية حيث دعا الناس بالتهديد والوعيد أن يتوبوا ويعودوا إلى اللّه.
ثم قالوا أيضاً ربما إرميا. كان هناك تقليد عند اليهود أن إرميا النبي ذلك الذي كان قد نادى بالويل والثبور على أمة اليهود وأعلن لها بأنه رأى بعين النبوة ما سيجري لتلك الأمة من الدمار وعن خراب أورشليم، كان التقليد اليهودي قد انتشر بين الناس أن هذا النبي يأتي قبل مجيء المسيح وسوف يفتش في الجبل عن تابوت العهد وعصا هارون وقسط المن وكل ما كان قد أُخفي عن اليهود من الأواني المقدسة، ثم يبدأ بتجديد الهيكل فيأتي المسيح. هذه التعاليم الباطلة الجسدية غير الروحية كانت منتشرة بين اليهود، لذلك قال التلاميذ للرب يقولون أيضاً أنك إرميا النبي. أما هو فالتفت إلى التلاميذ وقال: «وأنتم من تقولون عني إني أنا». بطرس الذي عرفناه أنه هامة الرسل وعرفناه أنه كان مقدام الرسل وكان شجاعاً وكان أكبر منهم جميعهم سناً أجاب الرب على سؤاله قائلاً له: «أنت المسيح ابن اللّه الحي»، فأجابه الرب قائلاً: «طوبى لك يا سمعان بن يونا إن لحماً ودماً لم يعلن لك لكن أبي الذي في السموات وأنا أقول لك أيضاً أنت بطرس ـ أنت كيفا بالسريانية أنت بطرس باليونانية أي الحجر لا الصخر وعلى هذه الصخرة على هذه شوعا بالسريانية وبترا باليونانية على هذه الصخرة، صخرة الإيمان بالمسيح يسوع انه ابن اللّه الحي ـ وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها». ليس هذا فقط بل التفت إلى بطرس وقال له: «وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السموات وكل وما تحلّه على الأرض يكون محلولاً في السموات» (مت16: 19).
أجل إن الرب لأول مرة خلال السنتين ونصف السنة يلفظ كلمة كنيسة حيث بدأ يؤسّس كنيسته، وعنى بالكنيسة المؤمنين به إيماناً متيناً ثخيناً أنه ولئن ظهر للناس كإنسان ولكنه هو ابن اللّه، ابن اللّه الوحيد، ابن اللّه الحي. وعلى هذه الصخرة قال الرب أبني كنيستي، وهذه صخرة الإيمان به أنه ابن اللّه، فمن لا يؤمن بأن المسيح هو ابن اللّه لا يحق له أن يكون عضواً في الكنيسة، وليس هذا فقط، بل إن تأسيس الكنيسة كان يحتاج إلى من يقوم فيها نائباً عن المسيح في إدارة شؤونها، لذلك حالاً منح الرب سلطان الكهنوت في حلّ الخطايا وربطها، لهامة الرسل بطرس أولاً، وبعدئذ، بعد قيامته أعطى هذه الموهبة وهذا السلطان للرسل كافة. ويردف الرب قائلاً: «وأبواب الجحيم لن تقوى عليها». معنى أبواب في هذه الآية المقدسة هي السلطات والقوى، فنحن في الاصطلاح الاجتماعي والمدني مثلاً نعرف أن في عهد العثمانيين كان هناك ما يُسمّى بالباب العالي أي السلطة العليا في تلك الدولة. إذن أبواب الجحيم هي السلطة العليا الشريرة لإبليس الذي ربطه الرب في الجحيم هذه السلطة لا تستطيع أن تسيطر على الكنيسة وأبواب الجحيم لن تقوى عليها. لقد قسا الدهر على الكنيسة، وأُثيرَت ضدّها الاضطهادات القاسية التي أثارها الملوك والرؤساء والأمم والشعوب ضد الكنيسة المسيحية، ولكنها بقيت ثابتة لأن أبواب الجحيم لن تقوى عليها، إن المسيح في وسطها فلن تتزعزع. كم قامت فيها البدع والهرطقات الباطلة لكي تفسد تعاليمها لتنكر أن المسيح هو ابن اللّه! لكن الكنيسة بشخص رعاتها الصالحين تغلبت على هذه التعاليم الغريبة الخبيثة وطردت وحرمت الهرطقات وأصحابها وبهذا الخصوص يقول الرسول بولس: «اعزلوا الخبيث من بينكم» (1كور5: 13).
واليوم نحتفل بأحد تقديس البيعة وهو في طقسنا الكنسي السرياني الأحد الأول من الآحاد الثمانية التي تسبق عيد الميلاد والتي نحتفل بها، لكي تتهيّأ عقولنا لتقبل عقيدة تجسّد ابن اللّه الحي كما يصفه الرسول بولس: «وبالإجماع عظيم هو سر التقوى اللّه ظهر في الجسد تبرّر في الروح تراءى لملائكة كرز به بين الأمم أومن به في العالم رفع في المجد» (1تيمو3: 16)، فالمسيح يسوع ربنا ظهر كإنسان ونقول عنه أنه ابن اللّه بل أنه «اللّه ظهر بالجسد» لذلك الكنيسة تهيّئ عقولنا لتقبل هذه العقيدة السمحة قبل احتفالنا بعيد ميلاد الرب بالجسد.
أجل لقد دُعيَت الكنيسة مقدسة لأن مؤسسها قدوس، هذا ما قاله الملاك للعذراء مريم يوم بشّرها بالحبل به قائلاً إن: «القدوس المولود منك يدعى ابن اللّه» (لو1: 35). وقد تجسّد من الروح القدس ومن العذراء مريم وصُلب عوضاً عنّا، فبرّرنا وقدّسنا وأهّلنا لنصير أولاداً لأبيه السماوي. لذلك فالكنيسة تدعى مقدسة، والرسول بولس يقول بهذا الصدد: «كما أحبّ المسيح الكنيسة أيضاً وأسلم نفسه لأجلها لكي يقدّسها مطهّراً إياها بغسل الماء بالكلمة لكي يحضرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن أو شيء من مثل ذلك بل تكون مقدسة وبلا عيب» (أف5: 25 ـ 27). فالكنيسة إذن مقدّسة والمسيح القدوس هو أسّسها وأعضاؤها أيضاً يجب أن يكونوا قديسين، لذلك نادى الرب يسوع بالتوبة أولاً في بدء تدبيره الإلهي العلني بالجسد قائلاً: «توبوا فقد اقترب منكم ملكوت اللّه» وملكوت اللّه هو الكنيسة بالذات فهي على الأرض تُدعى «الكنيسة المجاهدة» لأنها تجاهد في حرب مستمرة ضد إبليس وجنده لتبقى نقية طاهرة، ليس فقط في العقيدة، بل أيضاً في السيرة المسيحية الصالحة. آباؤنا ـ ونحن كنيسة أنطاكية ـ آباؤنا الأنطاكيون نفتخر بهم لأنه كما يذكر سفر أعمال الرسل «دُعي التلاميذ مسيحيين في أنطاكية أولاً» (أع11: 26)، لماذا؟ لأنهم رأوا فيهم أُناساً مؤمنين صالحين، مستقيمي السيرة كالمسيح يسوع، فدُعوا مسيحيين. هذه هي القداسة لكن: هناك أمر لابدّ أن نفهمه عندما نرى أن ليس جميع أعضاء الكنيسة أعضاء قديسين، وعندما نعلن على مذبح الرب عن القربان المقدس قودًشا لقدًيشا ولدًكيا زدق دنةيؤبون بلحود الأقداس تمنح فقط للقديسين والأنقياء، عندما نعلن هذا نعترف أن العديد من الناس الذين يعتبرون في عداد أعضاء الكنيسة المقدسة ليسوا قديسين، ومع هذا فهم في عداد أعضاء الكنيسة. الرب يسوع ضرب لنا مثلاً عن الحنطة الجيّدة التي زرعها إنسان في حقله ثم جاء عدوه وزرع مع الحنطة الزؤان فنبت الزؤان مع الحنطة، وعندما أُخبر صاحب هذا الحقل أن زؤاناً ينبت مع الحنطة، وسأله عبيده إن كان يرغب في أن يقلعوا الزؤان أجابهم قائلاً: «دعوهما ينميان كلاهما معاً إلى الحصاد» (مت13: 30). في الكنيسة يوجد أشرار ويوجد صالحون، ونحن نصلي دائماً ونقول مطل طبًا حوس عل عوًلا أي من أجل الصالحين، يا رب أشفق على الأشرار. لذلك الكنيسة المقدسة ولئن نبت فيها الزؤان والحنطة في آن معاً، والرب يوصي ألا نقلع الزؤان لئلاّ نقلع معه الحنطة، فإن ذلك الفصل سيكون يوم القيامة، يوم يُفصل الزؤان عن الحنطة النقية الطاهرة. فنحن عندما نحتفل بتقديس البيعة علينا أن نؤمن أن كل واحد منا كنيسة، كما يقول مار أفرام السرياني أن كل واحد منّا هو كنيسة، كما يقول الرسول بولس أن كل واحد منّا هو هيكل اللّه وروح اللّه حال فيه، فعلينا أن نجعل هذا الهيكل طاهراً نقياً مقدساً لكي يثبت روح اللّه أو الروح القدس في هذا الهيكل، ويكون الإنسان الذي ولد في الكنيسة من جرن المعمودية، وُلد ليكون ابناً للّه بالنعمة يكون حقاً مستحقاً كابن أن يرث ملكوت أبيه السماوي، فإذا أخطأ أحدنا علينا أن نتوب لنعود إلى اللّه أبراراً قديسين فنستحق أن نحيا لربنا على هذه الأرض ونستحق بعد العمر الطويل أن نرث ملكوته السماوي والتي هي الكنيسة المنتصرة، كنيسة الأبكار المكتوبة أسماؤهم في السماء، الحالة التي أتمناها لي ولكم بنعمته تعالى آمين.
تجديد البيعة
تجديد البيعة
تجديــد البيـــعة (1)†
«أنت بطرس وعلى هذه الصخرة ابني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها»
(متى 16: 18)
ماشيحا المنتظر، مشتهى الأمم، وأمل الدهور، بمجيئه إلى الأرض لخلاص البشرية، احتارت فيه العقول، من يكون هذا؟ هل هو مجرَّد نبي؟ هل هو إنسان محض أعطي موهبة اجتراح المعجزات؟
من هو يا ترى؟ إنه يتحدّى العالم، العدو فيهم والصديق؟
رأيناه في مرة يقول: «من يبكتني على خطية؟» (يو8: 46)، بل أيضاً أظهر سلطانه على عناصر الكون كافةً الجامدة منها والحية، حتى على الأبالسة التي أخرجها من البشر استطاع بكلمة من فيه أن يُسكِت البحر وهيجانه، هذا الذي إذا ما تكلَّم يتكلم كمن له سلطان ليس كالكتبة والفريسيين، وبعد خدمة علنيّة دامت سنتين ونصف السنة هو نفسه أراد أن يعلن عن نفسه لرسله الأطهار وتلاميذه الأبرار فقال لهم وهم في ضواحي قيصرية فيلبس بقرب بانياس، من يقول الناس أني أنا ابن الإنسان؟
فقالوا: قوم يوحنا المعمدان وآخرون إيليا وآخرون إرميا، يقول لهم: وأنتم من تقولون إني أنا، سمعان يقول: «أنت هو المسيح ابن الله الحيّ» فأجاب يسوع وقال له: «طوبى لك يا سمعان بن يونا إن لحماً ودماً لم يُعلنْ لك لكن أبي الذي في السموات، وأنا أقول لك أيضاً أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها».
إنها الكنيسة المقدسة التي أعلن عنها الرب في تلك الحادثة لأول مرة، إنها الكنيسة التي جاء ليؤسسها على مبدأ الإيمان بذاته الإلهية وعلى المبدأ الإيماني أنه هو ابن الله الحيّ، فالمسيح هو بالذات هو الصخرة وهو حجر الزاوية في تلك الكنيسة ولكن في الوقت نفسه أعطى لبطرس لقباً أن يكون حجرة مهمة في بناء تلك الكنيسة وأعطاه الطوبى لأنه استحق أن توحي إليه السماء ليعلن الإيمان الصحيح بابن الله و«المسيح ابن الله الحيّ» ما لم يؤمن المسيحي إيمان بطرس وما لم يعلن هذا الإيمان جهراً أمام الناس فهو مسيحي بالاسم فقط، لا يعرف إيمانه. والكنيسة هذه المؤسسة الإلهية، ملكوت الله على الأرض، هذه التي نالت نعمة عظيمة أن تكون سلّماً يصعد الإنسان عليها إلى السماء أن تكون أماً تلد البنين من جرن المعمودية ومعلمة تلقنهم مبادئ الإيمان المستقيم الرأي وتأتي بهم إلى طريق الاستقامة ليكونوا بحسب شريعة إلهنا الكاملة كاملين وقديسين فالمسيحي الذي يدّعي بالمسيحية وهو لا يأخذ عن الكنيسة هذا الإيمان المستقيم وهذه السيرة الفاضلة الكاملة المقدسة فهو غريب عن المسيح ابن الله وإن لم تؤمن إن المسيح هو ابن الله هو أساس الإيمان فإذا ما آمنا إن المسيح هو ابن الله يعني ذلك إننا آمنا أيضاً بالثالوث الأقدس الآب والابن والروح القدس الإله الواحد وإذا ما آمنا بابن الله آمنا بشهادة الإنجيل المقدس الذي أعلن يسوع الناصري ابناً لله حال خروجه من ماء الأردن بعد معموديته وأعلنه ابن الله أمام ثلاثة من تلاميذه عندما تجلى على الجبل بل أعلنه ابن الله على لسان العدو والصديق حتى الأبالسة أعلنت ذلك ولكن بطرس نال نعمة عظيمة أن الرب أعطاه الطوبى لإعلانه هذا الإيمان وأنه بطرس بالذات استحق أن يكون حجراً في تلك الكنيسة بل استحق أيضاً أن ينال سلطاناً سماوياً فأعطي مفاتيح ملكوت الله والمفاتيح تعني السلطان والسلطة و أعطي سلطان الحل والربط مفرداً وبعدئذ أعطى الرب هذا السلطان للرسل كمجموعة هذا السلطان بالذات فبطرس هامة الرسل أيها الأحباء. يمثل السلطة الكنسية لهذه الكنيسة وعد الرب أن يكون معها إلى الأبد وهو رأسها وهي جسده السري المقدس ومن فيها أعضاء أحياء في ذلك الجسد وبطرس يمثل سلطة التشريع والتنفيذ والتعليم والتهذيب في هذه المؤسسة الإلهية ملكوت الله على الأرض هذه الكنيسة المقدسة معلمة ومتعلمة رؤساء ورعايا، تتكامل عندما جميعهم الرؤساء والرعايا الرعاة والخراف يجتمعون على تقديس اسم الرب القدوس ويجتمعون على التمسك بالإيمان المستقيم بابن الله يسوع الناصري الذي جاء متجسداً وفدانا بدمه الأقدس وأعطانا أن نكون أولاداً لله بالنعمة لأنه ابن الله المولود من قبل كل الدهور أعطانا أن نكون مشاركين إياه بالبنوة كما أعطانا أيضاً أن نكون أعضاء في جسده المقدس الكنيسة وأعطانا أن نكون أيضاً لملكوته السموي إن جاهدنا في الكنيسة المجاهدة على الأرض وجهادنا هو التمسك بالإيمان حتى الدم كم من الشهداء قدمت الكنيسة عبر الدهور والأجيال في سبيل الإيمان، بالإيمان بابن الله الحيّ يسوع المسيح بل قدمت من الشهداء في سبيل الحفاظ على القداسة لتكون الكنيسة مقدسة بل ليكون كل فرد في الكنيسة عضو قديساً فيها كاملاً كما أوصانا الرب أن نكون كاملين لأن أبانا الذي في السموات هو كامل فالكنيسة المجاهدة على الأرض بكل عضو من أعضائها الرعاة والرعية معاً إذا ما انتصرت تستحق أن تكون في السماء في عداد أعضاء الكنيسة المنتصرة التي تمجد الله كالملائكة دائماً أبداً متنعمة مع المسيح يسوع مخلصنا وفاديها وفي أحد تجديدها أيها الأحباء رسالة الكنيسة لأبنائها أن يجددوا عهدهم مع الله ليكونوا متمسكين بهذا الإيمان ممارسين الفضائل بحسب شريعة المسيح شريعة الكمال ليجددوا أيضاً نفوسهم وأرواحهم وقلوبهم لتكتب شريعة الله في هذه القلوب والنفوس كما تنبأ الأنبياء عن العهد الجديد عهد الكنيسة الجديدة التي قبلت المسيح يوم لم تقبله كنيسة موسى والكنيسة الأولى الأبوية يوم رفضه الكتبة والفريسيين ورؤساء الكهنة فرفضهم إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله أما الذين قبلوه كنيسته المقدسة الجديدة فأعطاهم أن يكونوا أبناء الله المولودين ليس من مشيئة رجل ولا من مشيئة بشر بل من الله قلباً نقياً أخلق فيّ يا الله وروحاً مستقيمة جدد في داخلي ليقل كل منا هذا القول الذي قاله داود يوم تاب إلى الله بذلك يكون الروح، الروح القدس قد جاء إلى هياكلنا المقدسة فنجدد هياكل الله مثلما قال الرسول بولس فجدد هذه الهياكل لتكون نقية طاهرة يسكن فيها الله لأن كل منا كنيسة لله وروح الله حال فينا فلنحافظ على طهر هياكلنا المقدسة ليكون روح الله فيها ولنطلب أن لا ينزع الله روحه القدوس بسبب خطايانا من هذه الهياكل المقدسة لنبقى أعضاء حية في كنيسته المقدسة الكنيسة المجاهدة لنستحق أيضاً أن نكون في عداد أعضاء الكنيسة المنتصرة في السماء الحالة التي أتمناها لي ولكم أحبائي بنعمته تعالى آمين.
تجديــد البيـــعة (2)†
أيها الأحباء تحتفل الكنيسة في هذا اليوم بأحد تجديد البيعة وقد استمعنا إلى فصل من الإنجيل المقدس في بدء القداس وفيه يقول الرب لهامة الرسل بطرس أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها وعندما نتأمل بهذه الآية المقدسة نرى أمامنا الكنيسة المقدسة التي أسسها الرب يسوع والتي مهد لتأسيسها منذ خلقه الإنسان وبعد أن سقط الإنسان في الخطية وضع الله ضمن خطته الإلهية أن يؤسس كنيسته المقدسة لتكون مهد الأسرار الإلهية والنعم السامية نعم الفداء لتنشر اسمه القدوس في العالم أجمع رأينا كنيسة الآباء ورأينا ذبائحها المتنوعة وكهنوتها التقليدي فكان رب العائلة كاهنها ورئيسها ورأينا الكهنوت اللاوي عندما اختار الله موسى لكي على يده ينزل الشريعة المكتوبة وبواسطته يعطي الكهنوت لأخيه هرون هذا الكهنوت كانت له ذبائح حيوانية وتقدمات كما كانت له محرقات لمغفرة الخطايا وكانت هناك كنيسة وتلك الكنيسة يقول الكتاب أن الله جعل موسى يرى شبه الكنيسة المسيحية على الجبل ليصنع قبة الزمان على ذلك الشكل الذي رآه فالكنيسة إذاً هي ملكوت الله الذي أسسه الرب يسوع وهيأ عقولنا بعد أن جعل كنيسة الآباء بذبائحها المتنوعة وبشريعة الضمير وكنيسة موسى بذبائحها الحيوانية وتقدماتها ومحرقاتها والشريعة المكتوبة شريعة العدل أما هو فعندما تجسد سمعنا الملاك يقول للعذراء مريم أنه لا يكون لملكه انقضاء وسمعناه في بدء بشارته يعلن عن ملكوته السموي فقد اقترب منكم يقول للناس ملكوت الله توبوا وآمنوا بالإنجيل ورأينا هذا الملكوت يؤسس على يده على أساس عقيدي إيماني عندما اعترف به الرسول بطرس قائلاً له أنت المسيح ابن الله الحيّ فأسس الرب كنيسته على هذا المبدأ الإيماني وأعطى الطوبى لبطرس لأنه استحق أن توحي إليه السماء العقيدة الصحيحة السليمة التي هي أساس العقائد بأن المسيح هو ابن الله الحيّ وأعطاه الطوبى هذه الكنيسة المقدسة هي التي جدد معها العهد فبعد أن كان قد أقام عهداً مع كنيسة موسى وهذه الكنيسة خانت الرب لأنّه جاء ولم تعرفه وقد احتفظت بالنبوات ولكنها لم تعرف زمن افتقادها فرفضها واسمعنا إلى الكتاب يقول إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله أما الذين قبلوه فأعطاهم أن يصيروا أبناء الله المولودون لا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله هؤلاء أعضاء الكنيسة المقدسة جعل لها دستوراً هو الإنجيل المقدس وراية هي الصليب المقدس وأقام فيها كهنة هم الرسل الأبرار والتلاميذ الأطهار وأرسلهم إلى أنحاء العالم ليذهبوا ويبشروا بالإنجيل في الخليقة كلها من آمن واعتمد خلص قال لهم ومن لم يؤمن يدن هذه الكنيسة المقدسة لم يعدها بأن تكون في حياتها الدنيا براحة وسعادة دنيوية فالذين انتخبهم ليكونوا صيادين للناس بعد أن كانوا صيادين للأسماك ليلقوا بالشباك ويأتوا بالناس إلى ملكوت الله ثم جعل منهم رعاة عندما قال لهامة الرسل بطرس ارع خرافي ارع نعاجي ارع كباشي اتبعني هؤلاء الذين جعل منهم أساقفة والتلاميذ الذين جعل منهم كهنة كان عليهم أن يحملوا الصليب فرسالتهم سامية ورسالتهم هي أن يتبعوا المسيح في طريق الجلجلة لكي ينالوا المجد فلا إكليل مجد في السماء دون صليب العار ولا قيامة دون جلجلة هؤلاء التلاميذ وعدهم أن يكون معهم إلى الأبد وأن يرسل إليهم الروح القدس فيوم حل عليهم الروح القدس جلببهم بقوة سماوية وحكمة وذكّرهم الروح بكل ما قاله المسيح لهم وصانهم في العقيدة السليمة الصحيحة المستقيمة الرأي وأرسلهم إلى العالم في ذلك اليوم ولدت الكنيسة بعد أن كان قد مهد المسيح لها في العهد القديم كما أنه أعلنها وأعلن المبدأ الذي تؤسس عليه في العهد الجديد ولدت الكنيسة يوم الخمسين عندما وقف بطرس وأعلن للناس عن الروع القدس كما أعلن لهم أن يسوع الناصري إنما مات فدية عن البشرية قتله رؤساء اليهود ولكن الله أقامه من بين الأموات منتصراً هذه الكنيسة المقدسة أيها الأحباء جاهدت عبر الدهور والأجيال كم قسي الدهر عليها كم عانت قدمت في المسيح يسوع ملايين الشهداء حتى قيل إن دم الشهداء كان بذار الإيمان فانتشر إيمانها قدمت العلماء هذه كنيستنا السريانية مثلاً التي ما تزال متمسكة بالعقيدة المقدسة تحملت كثيراً في سبيل الحفاظ على الإيمان المستقيم الرأي والآداب المسيحية أديرتها كانت تعدُ بالمئات كنائسها كانت منارات للمعرفة عباداتها للمسيح يسوع كانت مثالاً لكل المسيحيين وإلى الآن وإن تعد اليوم بالألوف لا بالملايين ولكنها ما تزال المثال الصالح للمسيحية كلها بتمسكها بالإيمان المستقيم الرأي بتمسكها بطقوسها المقدسة التي تتلوها باللغة السريانية المقدسة بتمسكها بتقاليد آبائها مهما قسا الدهر لكن بقيت صامدة غير متزعزعة لأن الله في وسطها لأنه وعدها إن قوى الجحيم وأمخال الهاوية لا تقوى على الكنيسة المقدسة في جهادها الكنيسة تعلمنا أن نتبع الرب في طريق الجلجلة وفي الوقت نفسه تذكرنا بوعد الرب أننا إذا ما انتصرنا باسمه على أعداءنا الروحيين على إبليس وجنده فإن كنيسة الأبكار في السماء تنتظر هذه الأرواح الطاهرة وتستقبلها بفرح لتتنعم مع تلك الأرواح الطاهرة إلى الأبد الحالة التي أتمناها لي ولكم بنعمته تعالى آمين.
تجديــد البيـــعة (3)†
«احترزوا إذاً لأنفسكم ولجميع الرعية التي أقامكم فيها الروح القدس رعاة لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه»
(أع 20:28)
هذا ما قاله الرسول بولس عندما جمع رعاة الكنيسة في أفسس قول يلخص لنا عقيدة الكنيسة المقدسة في الكنيسة قول يثمّن لنا مقام كنيسة الله التي اقتناها بدمه، كان هناك كنيسة وكان هناك رعية كان هناك شعب أؤتمن على النبوءات والناموس والشرائع كافة طقسية وقضائية وأدبية خاصة ولكن ذلك الشعب لم يعرف زمن افتقاده – عن المسيح يسوع كتب الأنبياء عم مجيئه أعطوا العلامات والإشارات الواضحة والصريحة بل عينوا الزمن ولكن ذلك الشعب الضال تلك الرعية التي كان رعاتها يرعون أنفسهم رُذل ذلك الشعب وكما قال الإنجيل المقدس «إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله أما كل الذين قبلوه فأعطاهم أن يصيروا أولاداً لله المولودون ليس من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله»، كان هناك كنيسة كان هناك أكثر من هيكل، هيكل في أورشليم وهيكل في جبل الزيتون كان للسامرين وكان لليهود وكانت هناك مجامع كثيرة يجتمع فيها الناس كل يوم سبت ليقرأوا النبوءات والشريعة ولكنهم نسوا النبوءات ولم يبالوا بالشريعة كان هناك ذبيحة منذ البدء عندما خلق الله الإنسان أعطاه سلطان الكهنوت حتى أن آدم قال للرب: جبلتني ووضعت علي يدك أي رسمتني كاهناً وبعد سقوطه يقول على لسان مار يعقوب السروجي وهو يوصي أولاده لا يحق لي أقدم ذبيحة لأن الكاهن المطرود لا يحق له أن يقدم ذبيحة لله لذلك أوصى ولديه قايين وهابيل – قايين أن يقدم من ثمار الأرض وليس في الذبيحة أي خطاً أو خطية ولكن كانت نية قايين سيئة فرفضت تقدمته هذه وهابيل قدم حملاً بل أيضاً هو قُدم كحمل وديع بيد أخيه قايين فكان رمزاً للمسيح الذبيح من أجلنا – هذا ما يقوله الرسول بولس أن الكنيسة قد اقتناها بدمه فالذي قُدم ذبيحة عن الخطاة المسيح يسوع كان أيضاً ابن الله واقتنى تلك الكنيسة بدمه رفض كنيسة اليهود وذبائحهم وتقدماتهم رفض شريعتهم وناموسهم لأنهم كانوا قد تنكروا لذلك ولم يعرفوا زمن افتقادهم رفضوه هو المسيح الذي جاء لخلاصهم فجمع له من الأمم أناساً آمنوا به أنه ابن الله وأنه الفادي وأنه اقتنى كنيسته بدمه هذه الكنيسة الجديدة التي أقام المسيح معها عهداً أبدياً لا كالعهد الذي أقامه مع الكنيسة القديمة ذلك العهد كان عهداً مكتوباً على حجر الوصايا العشر التي أنزلها موسى من الجبل أما العهد الجديد بحسب قول الأنبياء على لسان الرب إن الذين اختارهم ليكونوا كنيسة جديدة كتب عهده على قلوبهم لذلك لا يحتاجون إلى من يعلمهم الشريعة كما يقول الكتاب لأن الروح القدس الذي يحل عليهم في المعمودية حيث يولدون ميلاداً ثانياً من فوق من السماء ليصيروا أولاداً لله بالنعمة، الروح القدس هو يلهمهم ويرشدهم وهو يقودهم إلى جداول المياه الحية إلى تعاليم الإنجيل المقدسة ليذكرهم بكل ما قاله المسيح له هذه الكنيسة الجديدة الكنيسة التي تحفظ العهد مع الله، الكنيسة القديمة رفضت العهد ونكثت به فرُفضت أما الكنيسة الجديدة فتُحافظ على عهدها مع الرب لذلك فالروح القدس يجعلها ككنيسة كرعية اقتناها الله بدمه وكأفراد قد تجددوا في المسيح يسوع يختلفون عن سائر البشر إيماناً بالمسيح ابن الله وسيرة فاضلة. المسيح برهن على أنه ابن الله بعجائبه الباهرات بتعاليمه السماوية السامية بسيرته الطاهرة النقية فهو الوحيد في الكون ممن لبس الجسد معصوم من أي خطأ، الذي يؤمن به والإيمان به ليس بالكلام بل بالفكر والقلب والأعمال التي تبرهن على أن هذا الإنسان حقاً مؤمن بالمسيح يسوع ربنا وهو فرد وعضو حيّ في الرعية التي اقتناها المسيح بدمه الكريم وهو مشمول ببركة الرب يسوع مباشرة وخلال الكهنة الذين يقيمهم المسيح يسوع كما يقول الرسول بولس للكهنة أن الروح القدس أقامكم رعاة على الرعية التي اقتناها بدمه، فتظهر أعمال الإنسان المؤمن بالمسيح يسوع العضو الحيّ في كنيسة المسيح يسوع وتبرهن على أن هذا الإنسان حقاً نال الخلاص بالمسيح يسوع. في فصل الرسالة التي تليت على مسامعكم الرسول بولس يضع نفسه مثالاً لهذا المؤمن يعترف كيف أنه كان ضالاً كان متمسكاً بشريعة وبتعاليم بعيدة عن الله كيف أنه اضطهد كنيسة المسيح كيف أنه كان سبباً لقتل الذين آمنوا بالمسيح يسوع ويقول أيضاً أنه قد اُفرز من بطن أمه ليكون رسولاً للمسيح لذلك بقي ثلاث أعوام في البرية العربية في بلادنا هذه السورية بعدئذ بعد أن أراه الرب برؤى التدبير الإلهي بالجسد وأصبح مثالاً للمؤمنين بل إناءاً مختاراً كما قال عنه الرب بعدئذ ذهب إلى أورشليم يقول الرسول بولس والتقى بطرس ذهب ليلتقيه لأن بطرس هو زعيم الرسل وهامتهم ويقول الرسول بولس لم أرَ سواه وسوى يعقوب أخي الرب حينذاك وقد نال النعمة من الرب نعمة الكهنوت بل رئاسة الكهنوت نال الشركة أيضاً من زملائه بطرس ويعقوب وباقي الرسل ليصير في كنيسة الله مهندساً كما يصفه وإناءاً مختاراً ليحمل الإنجيل المقدس من الأمم ليرعى حقاً رعية الله التي اقتناها بدمه ولذلك يوصي هو الرسول بولس نفسه كما ذكرنا في آية موضوعنا وقد جمع الكهنة في أفسس يوصيهم قائلاً احترزوا لأنفسكم أي كونوا متمسكين بالإيمان والسيرة الفاضلة احترزوا لأنفسكم ولجميع الرعية التي أقامكم الروح القدس فيها رعاة لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه. في هذا اليوم الذي نحتفل به بأحد تجديد الكنيسة نريد ككنيسة كجماعة الله رعية الله التي اقتناها بدمه أن نجدد عهدنا مع الله ونريد كأفراد كأعضاء حية في الكنيسة أن يجدد كل واحد منا عهده مع الله لأننا قد ولدنا من فوق من السماء، المسيح يسوع فدانا بدمه وأهلنا لنتبرر ونتقدس وأن نولد من السماء لنصير أولاد الله بالنعمة. فليعطنا الرب الإله أيها الأحباء كرعاة ورعية أن نحترز لأنفسنا أن نتمسك بإيماننا بالمسيح يسوع ابن الله الحيّ أن نكون بسيرتنا الفاضلة خير شهود للمسيح ليتمجد اسم الرب بوساطتنا عندما يرى الناس أعمالنا الحسنة كقول الرب ويمجدوا الآب السموي ونعمته تشملكم دائماً أبداً آمين.
تجديــد البيـــعة (4)†
«فأجاب بطرس وقال: أنت هو المسيح ابن الله الحي. فقال له يسوع: طوبى لك يا سمعان ابن يونا، إن لحماً ودماً لم يعلنا لك ذلك لكن أبي الذي في السماوات. وأنا أقول لك أنت بطرس وعلى هذه الصخرة سابني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها»
(متى 16 : 16-18)
أحبائي، في هذا اليوم كنيستنا السريانية المقدسة تذكر في طقسها الكنسي، أحد تجديد الكنيسة، وأحد تقديس الكنيسة الذي احتفلنا به في الأحد الماضي، وتجديد الكنيسة بهما نبدأ السنة الطقسية السريانية، ونبدأ الآحاد الثمانية التي تتقدم عيد الميلاد، لتتهيأ أفكار المؤمنين لتقبُّل عطيّة الله السّامية بميلاد ربنا يسوع المسيح بالجسد. والفصل الذي تُلِي على مسامعكم في بدء القداس من الإصحاح السادس عشر من الإنجيل المقدّس بحسب الرسول متى وفيه رأينا الرب مع تلاميذه في قيصرية فيلبس في ضواحي بانياس – لا تزال بانياس السورية موجودة إلى اليوم – وفيه استمعنا إلى الرب يسوع بعد سنتين ونصف السنة من بدء تدبيره الإلهي العلني بالجسد، يمتحن تلاميذه سائلاً إيّاهم: ماذا يقول الناس أني أنا ابن الإنسان؟ فكان جوابهم: قومٌ يقولون إيليا وآخرون إرميا وآخرون واحد من الأنبياء. وأنتم من تقولون أني أنا؟ قال بطرس: أنت المسيح ابن الله الحي. والرب يقول لسمعان: طوبى لك يا سمعان بن يونا. إن لحماً ودماً لم يعلنا لك ذلك لكن أبي الذي في السماوات، وأنا أقول لك: أنت بطرس وعلى هذه الصخرة سأبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها. في تلك اللحظات ولأول مرة يتفوه الرب يسوع بلفظة كنيسة، ويعلن أن هذه الكنيسة لها مبدأ سامٍ جداً، مبدأ إلهي بنيت عليه، مبدأ أن المسيح هو ابن الله الحي، وأعلن أيضاً في الوقت نفسه على لسان الرب، أن لهذه الكنيسة التي أسسها الرب رعاة حكماء، أمناء للرب يسوع، يرعونها ويذودون عن حياضها. لذلك أعطى السلطان للرسول بطرس ثم أعطاه للرسل بعدئذ حيث قال له: طوبى لك يا سمعان ابن يونا. هنا أسس سر الكهنوت المقدس، لأنه لا يمكن أن تكون الكنيسة بدون كهنوت. طوبى لك يا سمعان ابن يونا لأن لحماً ودماً لم يعلنا لك ذلك لكن أبي الذي في السماوات، فعقائدنا الدينية الإيمانية جاءت من السماء وسمعان كان واسطة تفوه بهذا الإعلان الذي أعلنه وهو إعلان إلهي، أن المسيح هو ابن الله، ابن الله الحي. وهذه العبارة وهذا الإيمان هي أهم عقائدنا المسيحية كافة، فالمسيح الذي أعلن أنه ابن الله بعد أن خرج من الماء عندما اعتمد من يوحنا المعمدان، أعلنته السماء: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت، وأعلن ثانية في التجلي أمام التلاميذ: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت له اسمعوا. هنا علمنا أن شريعتنا كلها هي من الرب يسوع، وبالرب يسوع وعلينا أن نسمع له. إذن أسس الرب الكهنوت أيضاً حيث أنه أعطى سلطاناً لبطرس على حلّ الخطايا وربطها، وهذا الغفران ليس فقط في الأرض، بل في الأرض والسماء أيضاً، هذه النعمة أعطاها الرب لرسله الأطهار وخلفاءهم، هذه نعمة جعلت القديس اغناطيوس النوراني البطريرك الأنطاكي الذي مات شهيداً أن يقول: لا كنيسة بدون أسقف. لا يمكن أن تكون الكنيسة كنيسةً حقيقية ما لم تكن هناك رئاسة كهنوت، ولا يمكن أن تكون رئاسة كهنوت ما لم تكن هناك كنيسة، فالقضيتان مرتبطتان، لذلك نرى أن الكنيسة المقدسة يقودها رؤساء الكهنة، ولكن لاحظوا أيضاً قول الرب يسوع: على هذه الصخرة أبني كنيستي، صخرة الإيمان المقدس بأنه هو ابن الله الحي، وإذا كان ابن الله فهناك كهنوت أيضاً، وإذا كان هو ابن الله وفادينا ومخلصنا، هو ابن الله الحي المولود من الآب قبل كل الدهور، والذي ولد من العذراء مريم والروح القدس في ملء الزمان.
هذه العقيدة تجعلنا أيها الأحباء، أن نجاهد ونكافح للحفاظ عليها، ولذلك كما خاض الرب يسوع حرباً ضروساً مستمرة مع إبليس وجنده، من البشر ومن الأبالسة أيضاً الذين سقطوا معه بكبريائه وكبرياءهم. يقول: وأبواب الجحيم لن تقوى عليها، إذن فهناك أبواب جحيم، والأبواب هي السلاطين والقوى، هناك إذن حرب ما بين أبناء الله بالنعمة الذين يؤمنون أن المسيح هو ابن الله الحي، ويعتبرونه فادياً ومخلصاً، وما بين أبواب الجحيم، الأبالسة ومن يتبعهم. هذه الحرب انتصر بها أبناء الله عبر الدهور والأجيال. كم قسا الدهر على الكنيسة، هذا تاريخها مليء بالجهاد المستمر، الهراطقة من جهة أرادوا أن يفسدوا تعاليمها الإلهية، حتى اليوم العديد منهم يدّعون المسيحية وهم لا يؤمنون بالمسيح يسوع الإله المتجسد.
في القرن الرابع أعلن مجمع نيقية، أن المسيح هو إله ومساوٍ للآب في الجوهر، وأعلن أيضاً ميلاده من العذراء. ولأجل هذه العقيدة التي هي أساس المسيحية، أساس الكنيسة. قدّم عدد كبير، بل ما لا يُحصَى له عدد من الشهداء دماءهم في سبيل تثبيت الإيمان. ملوك وأباطرة حاولوا أن يدنّسوا الكنيسة، أن يبيدوها، لكن الله في وسطها ولن تتزعزع، المسيح وعد بأن يكون معها، وقال: أن قوى إبليس والجحيم لن تقوى عليها، ولذلك فهي ثابتة وستبقى ثابتة في إيمانها وعقائدها السمحة، وفي أعمالها أيضاً. لن يكفيها أن تؤمن ما لم تترجم هذا الإيمان بأعمالها الصالحة. الإيمان بدون أعمال ميت. لا يكفينا أن نقول أننا بإيماننا النظري نستطيع أن نرث ملكوت الله، ما لم يكن هذا الإيمان طاهراً نقياً، ما لم نكن مقتدين بالرب يسوع ورسله الأطهار، وتلاميذه الأبرار بالتمسك بالإيمان، وبالسيرة الفاضلة. بهذا نكون قد انتصرنا على إبليس. الكنيسة لفظ أطلق على المؤمنين بالرب يسوع وبالثالوث الأقدس، والكنيسة أُطلِقت بعدئذ على البناء الذي يُقدَّس ويُطهَّر ويُنقَّى ويُخصَّص ويُفرَز ليكون بيتا لله، والله يسكن في كل مكان وهو موجود طبعاً في كل مكان، ولكنه موجود خاصةً في المكان الذي يُكرَّس ويُقدَّس باسمه القدوس، وكل ما فيه مقدس. والكنيسة في هذه الأرض تجاهد وسمّيناها الكنيسة المجاهدة ، لتبقى ثابتة على الإيمان والسيرة الفاضلة، وهي ملكوت الله على الأرض وهي تسعى أن تجعل المؤمنين بالمسيح يسوع أولاداً للسماء، مولودين لا من مشيئة جسد، ولا من مشيئة رجل بل من الله (يو 1 : 13). ليصيروا أولاداً لله ويُرشَّحوا أيضاً أن يكونوا أبناءً وأرواحاً طاهرةً نقية للكنيسة المنتصرة التي انتصرت على إبليس، وبقيت ثابتة على الإيمان والسيرة الصادقة، فكانت أرواحاً في السماء منتصرة، متحدةً معنا، خاصةً أثناء الصلاة، وفي القداس الإلهي تكون هذه الأرواح معنا وتشترك معنا بشكر الله الذي أرسل إلينا الرب يسوع المسيح ففدانا، والذي أعطانا الكنيسة المقدسة ككنز عظيم يحتوي النِعم العظيمة، لكي تُوزع بواسطة الكنيسة، بواسطة رئاسة الكهنوت والكهنوت المقدس على من يؤمنون بالمسيح يسوع، فالكنيسة أم لنا وهي معلمتنا في الوقت نفسه، تلدنا من جرن المعمودية، تنشئنا أولاداً لله متمسكين بالإيمان والسيرة الطاهرة، الكنيسة أمنا ومعلمتنا تعلمنا المبادئ المسيحية السامية لنبقى سالكين على تعليم ربنا يسوع المسيح الذي فدانا بدمه المقدس، والذي أمرنا، لا فقط أن نؤمن بأنه ابن الله، بل أيضاً أن نسمع له فهو شريعتنا وهو ناموسنا، وهو مثالنا وهو قد أمرنا أن نتبعه في طريق الجلجلة لنصل إلى ملكوته السماوي، لنصل إلى ملكوته السماوي لنستحق أن نكون في عداد الأرواح التي تؤلف الكنيسة المنتصرة، وأخيراً في اليوم الأخير لنكون أيضاً في عِداد الذين سيرثون ملكوته السماوي. الحالة التي أتمناها لي ولكم بنعمته آمين.
تجديــد البيـــعة (5)†
أيها الأحباء تذكر الكنيسة المقدسة في هذا اليوم المبارك أحد تجديد الكنيسة هذا الأحد عندما نحتفل به نتذكر أن الكنيسة المقدسة لم تكن بذهن الناس في زمن السيد المسيح فحسب بل أن الله أسسها منذ بدء الخليقة، قال داؤد للرب: اذكر كنيستك يا رب التي افتديتها منذ الأزل.
إن الكنيسة عندما تقرأ أسفار العهد القديم وتتأمل بزعيم بني إسرائيل النبي موسى ترى أن الله قد اختاره لكي يصنع شبه الكنيسة المسيحية قبة العهد قبة الشهادة تابوت العهد الذي ضم في هذه القبة جعل ذلك رمزاً إلى كنيسة المسيح يسوع وبذلك يعلن أن الكنيسة مشيدة منذ الأزل ورأى موسى كمالها فنزل من الجبل ورسمها. لو لم ير موسى كمالها كيف كان يمكن أن يقوم بهندستها بمذبحها قدس أقداسها، لقد علّم الرب موسى لوازم العبادة فصنع قبة الميعاد أو قبة الشهادة وجعل موسى في قدس الأقداس تابوت العهد أو تابوت الرب الذي هو أنفس وأقدس كل ما وجد في خباء المحضر وأن التابوت من خشب لا يفسد ومغشى بالذهب الخالص من داخله وخارجه. وحفظ في هذا التابوت لوحا الشريعة وإناء من ذهب مملوء مناً. وكان التابوت شهادة للعهد الذي عقده الله مع الإسرائيليين ولذلك سمي تابوت العهد وقدم موسى الذبيحة للرب لأول مرة وإذا عمود غمام قد غطى قبة الشهادة وملأ مجد الرب الخيمة وكل مرة يحتاج فيها موسى أن يستشير يذهب إلى قدس الأقداس وكان الله يكلمه من عرش النعمة. منذ أن سقط الإنسان كلم آدم ابنيه قايين وهابيل على الأرض أن يقدما القرابين ونقرأ في الكتاب المقدس أن قربان هابيل قد قبل بعلامة سماوية وأن تقدمة قايين قد رفضت والسبب في النية التي يقدم بها الإنسان قرابينه وتقدماته لله. الله جعل موهبة الكهنوت في بدء سقوط الإنسان في آدم أولاً فآدم اعتبر كاهناً وإذا كان هناك كاهن فهناك كنيسة هناك مؤسسة يرأسها هذا الكاهن ويخدمها وهناك ذبيحة هناك شريعة. فالشريعة في بدء سقوط الإنسان على الأرض كانت شريعة الضمير بحسب ما وضع الله صوتاً في الإنسان هو صوت الله بالذات ينبهه ويعرفه الخير من الشر والصالح من الطالح.
هكذا تتألف الكنيسة من شريعة ثم ذبيحة وتقدمة وينال الإنسان التائب مغفرة عما اقترفه من خطايا في هذا الناموس الفطري كما ندعوه. و في الكهنوت الذي كان طبيعياً ينال البكر في العائلة كما ينال الرئاسة الاجتماعية في القبيلة. وفي ذلك الزمن انقسم العالم إلى قسمين سمي بعضهم أولاد الله لأنهم كانوا يتبعون شريعة الله والآخرون أولاد العالم لأنهم كانوا ينخدعون بغواية إبليس كما خدع آدم وحواء الأبوان الأولان بغواية الشيطان وسقطا في وهدة الخطيئة هكذا انقسم البشر إلى قسمين أولاد إبليس وأولاد الله وعندما اختلط أبناء الله مع أبناء إبليس الذين يصفهم الكتاب المقدس بأبناء العالم يقصد به العالم الشرير حينذاك فسد العالم كله «الجميع اخطئوا وأعوزهم مجد الله».
حتى عندما أقام الله موسى نبياً وقائداً ومرشداً بل أيضاً كاهناً أقامه وعلى يديه أعطى العالم شريعة مكتوبة ووصايا إلهية حتى ذلك الحين نرى الشعب الذي تبع موسى أصبح قسمين بعضهم أخطئوا وأنكروا الله عبدوا الأوثان فنالوا العقاب الصارم وبعضهم بقي مخلصاً لله متمسكاً به غير مبال أبداً بما في العالم من غواية عالماً أنه عندما يحيد عن شريعة الله ويتبع إبليس سيعاقب من الله جاءت الكنيسة في الدور الثاني دور الشريعة الموسوية والكتاب المقدس يعلمنا أن الرب عندما دعا موسى فصعد إلى الجبل وصام موسى أربعين يوماً وأربعين ليلة لإظهار بعض الأسرار ومن الجملة أراه شكل الكنيسة بالذات وعلى ذلك المثال أمره الرب أن يصنع قبة الزمان قبة الشهادة. قبة الشهادة هي شبه الكنيسة وهي رمز إلى الكنيسة كان هناك قدس المكان الذي يدخله الكهنة ثم الشعب وكان هناك قدس أقداس المذبح الذي لم يكن يسمح أن يدخله إلا رئيس الكهنة ومرة في السنة وعندما يحتاج أن ينال إرشاداً من الله ويتقبل رسالة منه تعالى ليعلنها للناس حينذاك كان يدخل موسى إلى قدس الأقداس. في قدس الأقداس كان هناك تابوت الشهادة هذا التابوت كان يحوي أموراً كثيرة عصا هارون التي أفرخت وأعطت لوزاً وثمراً معلنة بذلك أن الله قد اختار هارون من بين كل الأسباط وبين كل من كان معه وعصيّهم كانت موجودة فأظهرت عصا هارون أن الله قد اختاره ليكون كاهناً فالكهنوت الموسوي قد أعطي لموسى وهارون في آن واحد هكذا يعلمنا آباؤنا وأن هذا الكهنوت الذي كان عاماً وكان يتسلمه رئيس القبيلة أصبح مختصاً بسبط واحد هو سبط لاوي وتسلسل الكهنوت إلى أن جاء المسيح وكانت الذبائح الحيوانية يقدمها الكاهن لا غيره وكذلك البخور التي كان مذبحها ضمن قدس الأقداس كان الكاهن يحرق البخور وخبز التقدمة أما قبة الشهادة التي ذكرناها أيضاً ففيها أيضاً المن لكي يذكر بني إسرائيل أن الله أعطاهم خبز الملائكة مدة أربعين سنة في البرية وكان هناك أيضاً لوحي الشهادة لوحي الشريعة. اللوحين اللذين أنزلهما موسى من الجبل، كل هذا كان رمزاً إلى الكنيسة المقدسة و الكنيسة كانت الواسطة التي لها سلطان بواسطة الكهنوت المقدس أن تنوب عن الشعب أيضاً بالصلاة إلى الله ورفع هذه الصلاة إليه تعالى و الكنيسة عندما جاء المسيح أسسها على مبدأ الإيمان به إذ كان الأنبياء سابقاً يشيرون إلى الإيمان بالله، المسيح يسوع لم يكتف بهذا وأعلن الثالوث الأقدس الآب والابن والروح القدس كذلك أيضاً أعلن نفسه أنه هو ابن الله الوحيد أنه مشيحا المسيح مخلص العالم وأن كل ما نسأله باسمه ننال من الآب السماوي وأنه مساوي للآب في الجوهر من رآه فقد رأى الآب وهو والآب واحد أعلن عن كل هذه الأمور وأثبت ذلك بالآيات والمعجزات وبتعاليمه الإلهية التي قيل عنه فيها أنه كان يعلم كمن له سلطان وليس كالكتبة والفريسيين لذلك حق له أن يعلن عن تأسيس كنيسته المقدسة على صخرة الإيمان به أنه هو ابن الله الحيّ هذه الكنيسة بعد أن أعلن تأسيسها وهي التي كان مرموز لها بقبة الشهادة التي صنعها موسى بعد أن رأى مثال الكنيسة بالذات في الجبل أراه ذلك الله فصنع قبة الشهادة هذه الكنيسة بعد أن أسسها أعلن تأسيسها حالاً وضع الكهنوت أعطى سلطان الكهنوت لبطرس منفرداً سلطان حل القضايا وربطها ليس في الأرض فقط بل أيضاً في السماء فبعد قيامته أعطى هذا السلطان للرسل مجتمعين لكي يكون للكنيسة قوة إلهية لإعطاء نعم الفداء واستحقاقات صليب المسيح يسوع التي كانت سبباً لتبرئتنا وتبريرنا وتقديسنا ومغفرة الخطايا التي فعلناها شخصياً والخطية الجدية الأولى.
الكنيسة بعد أن تهيأت لكل هذه الأمور وقبل صعود الرب إلى السماء أعطى سلطان نشر بشارته الإنجيلية إلى رسله «اذهبوا إلى العالم كله واكرزوا للخليقة جمعاء من آمن واعتمد خلص ومن لم يؤمن يدان». وقال لهم أن يعمدوا باسم الآب والابن والروح القدس. أعلن الثالوث الأقدس هذه العقيدة السامية أعلن ذلك أيضاً مساواته بالجوهر للآب كذلك مساواة الروح القدس للآب السماوي وبينت الكنيسة متى؟ عندما حل الروح القدس على التلاميذ كانوا مئة وعشرين شخصاً رجالاً ونساء وأطفال والرسل والتلاميذ وكل من كان في العلية يصلي وينتظر هذه الموهبة التي وعد المسيح يسوع تلاميذه أنه يرسل الروح القدس إليهم بكل مواهبه بل أقنوم الروح القدس بالذات حل على أولئك التلاميذ ونالوا شجاعة وبسالة واعترفوا بالمسيح أمام الجمهور بل وبخوا الجمهور اليهودي على الجريمة التي اقترفوها وعندما بكتت ضمائر أولئك الناس قالوا للتلاميذ ماذا نصنع أيها الأخوة قالوا لهم توبوا. فالتوبة أمر ضروري لكل من يريد أن يكون تابعاً للمسيح يسوع وليعتمد كل واحد منكم باسم يسوع المسيح فتنالوا المغفرة أنتم وبنوكم. بهذا المعنى شرح الرسل لكل اليهود الذين كانوا مجتمعين من جميع أنحاء العالم اظهروا لهم الطريق إلى الوصول إلى ملكوت الله بالتوبة والإيمان بالمسيح ولا غرو من ذلك فالرب يسوع عندما بدء تدبيره العلني بالجسد أعلن للناس جميعاً أنه قد اقترب ملكوت الله فتوبوا وآمنوا بالإنجيل فعندما نحتفل بتجديد الكنيسة لا ترى فقط كيف كانت الكنيسة في بدء سقوط الإنسان من فردوسه إلى الأرض كيف كان الآباء الأولون يعبدون الله ويحاولون أن يرضوا ربنا. كيف كان رئيس العائلة كاهناً له يتشفع أيضاً بها كيف كان عهد موسى أيضاً في الشريعة المكتوبة وقبة الشهادة لا نرى ذلك فقط بل نرى أن الروح القدس كان يعمل دائماً في الإنسان وأن الإنسان الذي يعود ويتوب إلى الله يقبل من الروح القدس فأولئك الذين لم يستحقوا لنقل ذلك أن ينالوا الفداء مثلما نلناه نحن. الرسول بولس يقول عنهم أنهم رقدوا على رجاء مجيء المسيح يسوع واعتبروا أنفسهم غرباء عن هذه الحياة وعندما جاء المسيح وصلب عوضاً عنا ومات ونزل إلى الهاوية بشر أولئك بل أيضاً أقامهم ومنحهم نعمة الخلاص لأنهم كانوا قد آمنوا به وانتظروا مجيئه واشتهوا أن يروه وماتوا ورقدوا قبل أن يأتي فهو قد أحياهم وقبل توبتهم وكافأهم عن كل ما كانوا يؤمنون به لذلك نرى أننا نحن قد نلنا نعمة عظيمة من الله لأننا قد أصبحنا في عداد أولئك الذين افتداهم المسيح بدمه الكريم أصبحنا ضمن ملكوت الله. ملكوت الله كان في السابق في الكتابة أو بالفطرة أما ملكوت الله يقول لنا الرسول بولس ملكوت الله في داخلكم هذا هو العهد الجديد لذلك نحتفل بتجديد الكنيسة العهد الجديد هو كما تنبأ ارميا عن شعب بني إسرائيل أنه يأتي يوم الله لا يحتاج أن يعطينا شريعة مكتوبة بل يجعل شريعته في ضمائرنا. كيف يكون هذا؟ بوساطة الروح القدس بالذات فحق للرسول بولس أن ملكوت الله في داخلكم. ملكوت الله على الأرض هو الكنيسة المقدسة بالذات وهذه الكنيسة التي هي شرعاً عروس المسيح والمسيح رأسها وهي جسده. هذه الكنيسة بواسطة الروح القدس تتمسك بالإيمان لأن الروح يعلمها كل شيء ويفهمها كل شيء والروح أيضاً يذكر رؤساءها وأيضاً مؤمنيها بما قاله المسيح لهم فنجدد عهدنا مع الرب في أحد تجديد الكنيسة ونرى أن علينا أن نكون أعضاء أحياء في الكنيسة المقدسة لا فقط بالاسم نكون أعضاء المسيح. جسد المسيح هو الكنيسة علينا أن نكون أحياء بالمسيح وإن قطعنا أنفسنا نكون كالغصن الذي يقطع من الكرمة ييبس ويلقى في النار علينا أن نشعر أن وجودنا على الأرض في عداد المؤمنين بالمسيح يسوع ابن الله الحيّ وأن نتمسك بشريعته أيضاً نكون أنقياء نكون في حالة التوبة دائماً لكي نستحق بعد عمر طويل عندما ننتقل من هذه الحياة أن نكون في عداد أولئك الذين تتألف منهم كنيسة الأبكار في السماء فنرث مع الرب يسوع ملكوته إلى الأبد في السعادة الدائمة الحالة التي أتمناها لي ولكم أحبائي باسم الآب والابن والروح القدس آمين.
تجديــد البيـــعة (6)†
«فأجاب يسوع وقال له: أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها»
(متى 16: 17ـ 19)
في هذا اليوم المبارك، تحتفل الكنيسة المقدسة بطقسها المبارك، بأحد تجديد البيعة، واحتفلنا في الأحد الماضي بأحد تقديس البيعة، ومعنى ذلك أن البيعة، الكنيسة التي اختارها الرب منذ الأزل، لتكون ملكوت الله على الأرض، ومخزنا لأسراره المقدسة، والنعم التي اكتسبها للبشر بالفداء الذي قام به بصلبه وموته وقيامته، هذا الأمر كان ليبرر الإنسان من خطيئته الجَّدية، الخطيئة الأبوية، ومن خطاياه أيضاً الشخصية بعد توبته، ويقدسه ليكون ابناً لله.
إذن عندما نقول الكنيسة نعني المؤمنين، الكنيسة التي هي أولاً الرسل الذين اختارهم وخرَّجهم في مدرسته الإلهية، لمدة ثلاث سنوات وثلاثة أشهر، رسب واحد منهم، فكان ابن الهلاك وهو يهوذا، أما الآخرون نجحوا في الامتحان. وأول امتحان دخلوه عندما سألهم الرب يسوع في ضواحي قيصرية فيلبس، ماذا يقول الناس عنّي إني أنا ابن البشر، بطرس كعادته ربما لأنه كان أكبر منهم سناً، وربما كان بطبعه يحب أن يتقدّم الآخرين، ولكن في هذه المرّة السماء تكلّمت على لسانه، هذا هو الوحي الإلهي بطرس أجاب الرب قائلاً له أنت هو المسيح ابن الله الحي.
العديد من الناس قالوا هذا الكلام قبل بطرس، ولكن لم يكونوا يعنون ما عناه بطرس بإلهام الروح القدس، كل إنسان حتى الشعب في العهد القديم سمّوا أبناء الله، عندما كان هناك أولاد لإبليس الخطاة الذين حادوا عن طريق الشريعة الإلهية إن كانت شريعة الضمير أولاً، أو الشريعة المكتوبة بيد موسى، وأخيراً التي كتبت حسب نبوة الأنبياء في قلوب المؤمنين بالرب يسوع، هذه الشريعة تجدّدت، إذن في تقديس البيعة تقدسنا وأصبحا أعضاء حيّة في هذه المؤسسة الإلهية التي هي جسد المسيح السري، فكل واحد منّا المؤمنين بالمسيح، والذين اغتسلوا بمعمودية المسيح، وتجددوا، وأصبحوا أناساً جدد، تابعين السماء، وشريعة السماء، النبوءات تنبأت عنهم، أن في تلك الأيام، أيام مجيء المسيح، لن تكون الشريعة مكتوبة ولا شريعة الضمير كشريعة الآباء القدامى، ولا شريعة أولئك الذين تبعوا موسى، ولكن الرب يقول بالنبوءات أنه يقيم عهداً جديداً لهذا الشعب المؤمن بالرب، أن يكتب شريعته في قلوبهم، هذا الشريعة الإلهية التي أعطاها لكنيسته المقدسة، شريعة جديدة، ولذلك عندما نحتفل بأحد تجديد الكنيسة نذكر أمامنا تاريخ الكنيسة القديمة، كنيسة موسى التي طلب الرب من موسى وهو على الجبل وقد أراه ما لم يكن قد تخيّل ذلك نحن الآن نستطيع أن ندرك هذا عندما نشاهد أفلاماً سينمائية أو تلفزيونية نرى أمامنا كأن كنا عائشين في تلك الفترة، فالله حسب تعاليم الآباء أظهر لموسى على الجبل صورة الكنيسة المقدسة، أظهر المؤمنين الذين يعبدون الله بالروح والحق، كما قال الرب يسوع بعدئذ أن الله روح والساجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا أظهر لهم قدس الأقداس أظهر له كيف أن الرب سيعمل الفداء بذاته ويفدي البشرية ولذلك يقول أن موسى عمل أولاً خيمة الاجتماع وقبة الزمان، بحسب الشكل الذي رآه على الجبل، والكنيسة المسيحية أخذت هذا الشكل بالذات عندما هندست محل الاجتماع، ولكن الكنيسة ليست البناء، الكنيسة هي أرواح المؤمنين الذين يسجدون لله بالروح والحق، الكنيسة هي أن يكون الإنسان عضواً حياً في جماعة الله، في ملكوت الله على الأرض ليستحق بعدئذ إذا عمل بمشيئة الرب أن يكون أيضاً كروح تنضم إلى كنيسة الأبكار التي تتألف من هذه الأرواح المقدسة التي جاهدت في الكنيسة المجاهدة على الأرض وانتصرت.
التجديد، تجديد الكنيسة الإنسان المؤمن، الإنسان الذي هو تحت حكم الخطية طالما هو لابساً الجسد، ويخطئ لذلك عبر الدهور والأجيال نرى كيف أن حتى الشعب في كنيسة موسى، الكنيسة التي لها الشريعة المكتوبة كيف أن هذا الشعب كان إذا ما أخطأ في طريق عودته إلى الله كان يباد، نرى ذلك في البرية كيف انشقت الأرض وابتلعت العديد من الناس كيف أبيد العديدون عندما لسعتهم الحيات وبنفس الوقت نرى الداء، نرى المرض ونرى أيضاً الدواء الذي يصفه الله في البرية عندما عوقبوا عندما لدغتهم الحيّات لدغتهم الحيّات المحرقة جاء الدواء بالإيمان، الرب أمر موسى أن يصنع الحيّة ومن يتطلّع إلى الحية بعد أن تلسعه الحيّات المحرقة ينال الشفاء، الموضوع الشفاء ليس بهذه الحية النحاسية، لا الشفاء بإيمان هذا الإنسان بما وصفه الرب له، آمن وتطلع إلى الحيّة فنال الشفاء هذا هو تجديد الإنسان نفسه بإيمانه بهذا الإيمان يستطيع الإنسان أن يتوب، أن يجدد حياته وينال النعمة من الله.
في كنيسة اليهود كنيسة موسى كثيراً ما حاد الشعب عن الشريعة، أيام المكابيين فقط نحو قرنيين قبل مجيء السيد المسيح عندما حاد الشعب عن الله وعبد الأصنام، واستُعبد أيضاً لشعب آخر، الذين كانوا أقوياء بالإيمان لم يسجدوا للأوثان، بل تجددوا في قلوبهم ونفوسهم وتمسكوا بشريعتهم، واستشهدوا كما رأينا شموني وأولادها السبعة، استشهدوا في سبيل التمسك بشريعة الرب.
ونحن نعيد لشموني في الخامس عشر من تشرين الأول، كنا نظن أن الإنسان بإمكانه أن يدبر حيلة فيخدع الناس، فجاءوا إلى لعازر معلّم شموني، الكاهن الفاضل، قالوا له: إننا سنأتي بلحم لحم الضان أو لحم حيوان يحل لك أكله ونقول أنه لحم خنزير ونقول لك كل كما أمرك الملك طبعاً وبخهم «أنا بشيخوختي أحيد عن الرب» أي أن أكون مرائياً، أكون منافق أعلم الشبان أيضاًَ هذه الطريقة، الشبان سيظنون أني أكل لحم خنزير ولحم الخنزير كان طبعاً في ذلك الوقت محرماً على بني إسرائيل. أنطيوخوس الملك ملك سورية الذي كان قد استولى على بني إسرائيل في تلك الأيام أنطيوخوس لا يريد شيئاً إلا أن يحيد ذلك الشعب عن شريعة الرب ولكن ذلك الشعب تمسّك بالشريعة، الذين تمسكوا وأظهروا أنهم مؤمنين بالرب لا لأنهم يأكلون لحم الخنزير أو أي لحم كان لكن يعلنوا أنهم متمسكين بشريعة الرب حتى الموت هؤلاء تجددوا، وتجدد الشعب كله وبعدئذ صار عيد التجديد، في بني إسرائيل في شعب موسى قبل مجيء الرب إلى أرضنا، بالتجسد، قبل مجيئه بقرنين تقريباً، فتجددت الشريعة في قلوب أولئك الناس، ونحن الذين أصبحنا أعضاء في كنيسة اختارها الرب لتكون عروساً للمسيح بالذات الكنيسة المقدسة الذي اختارها لأنه رأى أن بني إسرائيل قد حادوا عن الشريعة وأصبحوا مبغضين من الرب الذين يقال عنهم: إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله، أما الذين قبلوه فأعطاهم أن يكونوا أبناءً لله أبناء الله بالنعمة، أولئك الذين صاروا أولاد الله بالنعمة كثيراً ما يخطؤن أيضاً على الرغم أننا ولدنا من فوق من السماء، لكن أحياناً عديدة يتمكن إبليس أن يخدعنا ويحاول سلبنا النعمة التي نلناها من الرب ولكن نشكر الله أننا بالتوبة بإمكاننا أن نتجدد، هذا الذي نعنيه بتجديد الكنيسة، أي نجدد عهدنا مع الله، في هذا اليوم كل واحد منا، إن كنا كهنة وإن كنا علمانيين بإمكانه أن يجدد عهده مع الله، الله جدد عهده وأعطانا إياه ليس بلوحي الوصايا التي أعطاها لموسى، وليس بشريعة الضمير الحي التي أعطاها للآباء الأولين، بل كتب شريعته في قلوبنا، هكذا تنبأ الأنبياء عنها. فإذا ما حدنا عن الشريعة، إذا فكرنا بمحبة العالم أكثر من الرب، الرب قال: الذي يحبني يحفظ وصاياي، إن كنا نحب الرب يسوع يجب إن نحفظ وصاياه، إذا حدنا عن ذلك، يعني علينا أن نمارس سر التوبة والاعتراف وتناول القربان والقدس، أن نجدد عهدنا مع الله والكنيسة أيضاً عندما تحيد عن وصايا الرب يعني أنها بردت المحبة في قلوب أبنائها، الكنيسة هي جماعة المؤمنين، إذا من يحبني يحفظ وصاياي، إذا رأينا أنفسنا أننا لسنا بحافظي وصايا الرب أي بردت المحبة في قلوبنا، وهذه تنبأت عنها نبوءات الكتاب أن المحبة تبرد في قلوب الكثيرين، والرب يسوع المسيح نفسه قال عند مجيئه، فعلينا في تجديد الكنيسة أن نجدد عهدنا مع الرب يسوع، نشعر أننا نحن الكنيسة، نحن ملكوت الله على الأرض، نحن الذين أعطي لنا أن نحافظ على شريعة الله على الأرض لأن الكنيسة هي مخزن الأسرار كما قلنا الأسرار السبعة ومخزن التعاليم المستقيمة الرأي ومخزن الفضائل السامية، لا يمكن أن نؤمن بالكنيسة كنيسة مقدسة ما لم نحافظ على الإيمان القويم الرأي وما لم تحافظ على الآداب والأخلاق، وتجاهد في سبيل ذلك. نحن في هذه الأيام نسمع كثيرين ينطقون باسم كنيسة يعترفون بشذوذ الإنسان وحياده عن طريق الحياة ويباركون العمل المشين والعياذ بالله، فهؤلاء ليسوا بكنيسة، ليسوا بملكوت الله على الأرض، ليسوا بتلاميذ الرب يسوع فعلينا في أحد تجديد الكنيسة أن نفحص نفوسنا وقلوبنا وأفكارنا ونرى هل نحن متمسكون بالرب يسوع، قال من يحبني يحفظ وصاياي والبرهان على محبتنا للرب يسوع أن نحفظ وصايا الرب أسأله تعالى أن يؤهلنا جميعاً أن نعود إليه، إذا كان إبليس قد خدعنا وحدنا عن شريعة ربنا له المجد، أن نعود إليه لنكون دائماً كما بدأنا الأحد الأول من الآحاد الثمانية قبل الميلاد أحد تقديس الكيسة الذي هو الأحد الذي نعتبره الأحد الأول في هذه الآحاد، وأحد تجديد الكنيسة الذي هو اليوم الأحد الثاني من هذه الآحاد لنجدد عهدنا مع الرب يسوع، نجدد محبتنا له بحبه أكثر من كل شيء في هذه الحياة، المحبة لا تسقط أبداً، المحبة لا تقوى كل صنوف الاضطهادات حتى الموت أن يجعلها باردة وبعيدة عن الرب أسأله تعالى أن يؤهلنا لنتكون أعضاء حية في كنيسته في ملكوته السماوي على الأرض الكنيسة المقدسة ولنستحق بعد العمر الطويل أن نكون أعضاء في كنيسة الأبكار المكتوبة في السماء. الحالة التي أتمناها لي ولكم بنعمته تعالى آمين.
تجديـــد البيـــعة (7)†
ذكرت الكنيسة المقدسة في الأحد الماضي أحد تقديس الكنيسة، وهذا الأحد بحسب طقسنا السرياني المقدس هو بدء السنة الطقسية لأنه يهيّئ ذهننا لتقبّل سرّ تجسّد الرب يسوع الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، وهذا السر الإلهي هو سر الفداء حيث افتدانا الإله المتجسّد بدمه الكريم وغفر لنا الخطية الجدّية التي اقترفها في فردوس النعيم أبوانا الأولان، فطردا من ذلك الفردوس إلى أرض الشقاء. هذا السر العظيم كان في ذهن اللّه تعالى وتخطيطه مرسوماً منذ البدء، منذ أن خلق الإنسان وكان اللّه يعلم أن الإنسان سيسقط، إنه تعالى رحمةً منه لهذا المخلوق الذي أحبه وجعله يسمو على كل المخلوقات، بل أقامه سيداً على المخلوقات الأخرى، كان قد حتّم أن يفديه. وفي ذهن اللّه منذ الأزل أن يجعل للفداء واسطة كما تقول المعادلة اللاّهوتية أن الخطيئة التي اقترفها أبوانا الأولان كانت موجّهة إلى اللّه غير المتناهي، ولا يمكن أن ينال الإنسان المغفرة ما لم يكن اللّه بالذات يفدي هذا الإنسان ويخلّصه من تلك الخطيئة الشنيعة، فاقتضى أن يتجسّد الإله ليفدي الإنسان.
ومنذ البدء أيضاً حتّم اللّه أن تكون نعمة الخلاص مخزونة بما يسميه الكنيسة التي يؤسسها اللّه لتكون ملكوت اللّه على الأرض لكي تبقى هذه النعَم حاضرة لكل إنسان يؤمن بالرب يسوع المخلّص، والكنيسة كما يعلّمنا آباؤنا قد مرّت بثلاثة أدوار لها ثلاث شرائع ونواميس أدبية وطقسية يلتزم بها الجنس البشري وهي تطورت مع الزمن، أولاً ناموس الضمير، ثم الناموس المكتوب الذي أُنزل بوساطة موسى وهو العين بالعين والسن بالسن كما أعطي الإنسان كهنوتاً وطقوساً إلى جانب الناموس المكتوب الذي سُلّم لموسى على لوحَين من صخر. وكان هناك المسكن الذي هو شبه الكنيسة وقد شاهد موسى ذلك في الجبل، كما أمره اللّه أن يصنع كل شيء على المثال الذي رآه في الجبل (خر25: 40). ثم ناموس الكمال لما جاء ملء الزمان، وأعطي ناموس الرحمة ونال الفداء حيث بصلب الرب يسوع الإله المتجسّد تبرّر الإنسان وتقدّس واستحق أن يعود إلى الفردوس الذي طرد منه من جراء الخطيئة. ويقول آباؤنا أن اللّه عندما خلق الإنسان من تراب الأرض جبله ووضع عليه يده: جبلةني وسُمة علي آيدك أي جبلتني ووضعتَ عليّ يدك، أي رسمتني كاهناً. والكهنوت ضروري لكل ما نسمّيه مؤسسة روحية تحمل نِعَم اللّه، ولا يمكن أن تحمل هذه النِعَم ما لم يكن هناك وسيطٌ بين اللّه والبشر، وهذا الوسيط هو الكاهن بل الحبر الأعظم الرب يسوع المسيح، ولكن عندما طُرِد آدم من الفردوس توقّف عن تقديم ذبائح التسبيح للّه، وحتّى في الفردوس بعد أن أخطأ ذُبح حمل وديع ليخمد غضب اللّه على الإنسان، وإلاّ من أين جاء ذلك الجلد الذي ستر عورة آدم وحوّاء. ذُبح حمل وديع لأنه قد كُتب: «بدون سفك دم لا تحصل مغفرة» (عب9: 22)، ولكن عندما أخطأ طُرد من الفردوس ولذلك وهو في أرض الشقاء لم يتمكّن آدم من أن يقدّم للّه ذبيحة لأنه كان كاهناً موقوفاً عن الخدمة الكهنوتية، كما يحدد ذلك آباؤنا لذلك يقول الملفان مار يعقوب السروجي أن آدم لم يقدّم الذبيحة لأنه لا شَليط لؤ لكؤنا طريدا ددبحا نقَرِب لا يحق للكاهن المطرود أن يقدم ذبيحة، لذلك أرشد ابنَيه قايين وهابيل ليقدما ذبيحة أو تقدمة للّه لعلّه يغفر له خطاياه. فقدم هابيل ذبيحة بل أيضاً صار هو بعدئذ ذبيحة بيد أخيه قايين، وقدّم قايين تقدمة من ثمار الأرض ولكنها رُفضَت لا لشيء إلاّ لأنها لم تٌقدَّم بنية صادقة طاهرة نقيّة.
على الأرض رأينا الكنيسة، رأينا الكاهن بل الكاهنَين، وبعدئذ كل بكر في العائلة كان يُقام رئيساً للعشيرة ورئيساً للكهنوت فكان كاهناً. هذا هو الكهنوت الفطري، الشريعة كانت شريعة الإنسان الذي يسير بحسب الضمير الذي وضعه اللّه في الإنسان، والذبيحة كانت تقدم من الكاهن الذي هو رئيس العائلة، والشريعة والذبيحة كانا يحتاجان إلى كاهن وهذا الكاهن هو رئيس العائلة. ثم جاءت شريعة موسى فغيّرت الكنيسة فجُدِّدَت وأصبحت كنيسة تتبع شريعة مكتوبة وذبيحة تحوّلت إلى ذبائح حيوانية بحسب ناموس موسى، وكانت تأخذ قوتها من إشارتها إلى ذبيحة المسيح الكاهن الأعظم الذي قدم هو نفسه ذبيحة عن الخطاة بدءاً من آدم وحواء ونسلهما، فنالت البشرية المغفرة والتبرير ثم التقديس ثم التبنّي والعودة إلى ما كان عليه الإنسان في فردوس النعيم من برّ ومن بنوّة للّه. ولكن كان ذلك تهيئة للكهنوت المكتوب الذي فيه اختصّ سبط لاوي بأن يكون كل بكر في جميع عائلاتهم كهنة للّه ويقدّمون تلك الذبائح، لكن أخيراً أشارت تلك الذبائح وذلك الكهنوت العام إلى «شعب ملوكي وكهنوت مقدس» هو الشعب المسيحي، لا يختص بسبط بل يختار اللّه أولئك الذين يخدمون مذابحه المقدسة.
كانت المذابح أولاً في خيمة الاجتماع وقبّة العهد، كانت هناك كمخطط أراه اللّه لموسى وأمره أن يصنع مثله على الأرض فكان هناك قدس الأقداس، وكانت المذابح التي تقدّم عليها الذبائح والمحرقات، وكان هناك مذبح البخور حيث يقدَّم البخور للّه. وقدس الأقداس لم يكن يحق لأحد أن يدخله إلاّ رئيس الكهنة ومرّة واحدة في السنة. وكان هناك ينتظر أمر اللّه، وكان اللّه يكلّمه، وكان يعلن له إرادته الإلهية ونواهيه وبذلك أصبح الإنسان قريباً من اللّه عن طريق الذبائح التي هي رمز لذبيحة المسيح بالذات، ولمّا جاء المسيح يسوع الإله المتجسّد جاء ليخلّصنا. وحقّ لكل من يؤمن به إن كان قد اختير من اللّه أن يكون كاهناً إن كان من السبط الفلاني أو من العائلة (الفلانية). وكان اللّه يختار هذا الإنسان خاصة عندما حلّ الروح القدس على الرسل الأطهار وبدت الكنيسة بميلادها لتكون كنيسة جديدة ليست ككنيسة العهد القديم، أي كنيسة موسى، بل تكون كنيسة قد نالت الفداء بالمسيح يسوع. بل أيضاً كنيسة يحقّ لها أن تكون مخزناً لأسرار الرب، وكلمة الأسرار بالنسبة إلى المصطلح الديني هي الأعمال الإلهية التي عن طريق المادة نشعر بقوّتها، لكنها إلهية وروحية. فعن طريق الماء مثلاً نعمّد الطفل لينال نعمة عظيمة، أن يصير ابناً للّه بالنعمة خاصة عندما نمسحه بالميرون المقدس فينال التبرير والتقديس والتبني، ويصبح مرشحاً لملكوت اللّه ليعود إلى السماء ليكون أكثر طهراً ونقاءً من الملائكة بالذات، وينال ذلك المجد الذي خُلِق ليتنعم به. هذه الأسرار الإلهية الكنيسة المقدسة تحتفظ بها ولها سلطان عن طريق الكهنوت بحل الخطايا وربطها ومنح هؤلاء الذين يؤمنون بالثالوث الأقدس ليكونوا كنيسة مقدسة ومنحهم هذا التبرير وهذا التقديس وهذه النعمة العظيمة نعمة التبني.
ما أعظم أن يكون الإنسان حجرة في كنيسة اللّه على الأرض، الكنيسة التي تدعى ملكوت اللّه على الأرض، الكنيسة التي فيها تجتمع المواهب كافة. ما أعظم أن يكون الإنسان عضواً في تلك الكنيسة فيكون أميناً للّه ويستحق بعد أن يقضي حياته على الأرض مجاهداً ضد إبليس وجنده ليبقى في حالة النعمة التي يحافظ عليها بالتوبة المستمرة، يستحق أن يصير عضواً في كنيسة الأبكار المكتوبة أسماؤهم في السماء كما يقول الكتاب المقدس. وعندما نقول بتجديد الكنيسة فنذكر ذلك في هذا الأحد، إنما نعني تجديد العهد مع اللّه، ومار أفرام يدعو كل واحد منا كنيسة كما أن الرسول بولس يدعو كل واحد منا هيكل اللّه والهيكل الذي يحلّ عليه الروح القدس كما حلّ على هيكل سليمان وغادره، غادر الروح القدس ذلك الهيكل عندما أخطأ ذلك الشعب وصلبوا الرب يسوع الإله المتجسّد وسمع الصوت لتغادر فغادروا المكان. نحن كلنا هياكل اللّه، كلنا قد نلنا نعمة عظيمة وحلّ علينا الروح القدس عندما مسحنا بالميرون المقدس فحلول الروح القدس ثابت فينا. إن الروح القدس ثابت فينا ما دمنا ثابتين نحن في الرب يسوع، متمسكين به بإيمان، مقتدين به حاملين صليبه، تابعين إياه، ولكن عندما ننكر الرب يسوع ينكرنا هو أيضاً ويغادرنا الروح القدس. هذا ما نفهمه من حالة داود النبي عندما أخطأ وتاب وندم وألّف مزموره الحادي والخمسين مزمور التوبة قال: «قلباً نقياً اخلق فيّ يا اللّه وروحاً مستقيماً جدّد في داخلي»، فالروح القدس يغادرنا عندما نخطئ، فيحلّ علينا روح إبليس ليعذّبنا كما كان يعذّب شاول الملك ونحتاج إلى من يدعو اللّه ويصلي لأجلنا لكي تغادرنا الروح النجسة ويأتينا الروح القدس ويحل فينا لنكون هياكل اللّه. فتجديد هياكلنا وتجديد كنائسنا يكون بتوبتنا وعودتنا إلى اللّه لكي يسكن روح اللّه فينا، وإن كنا قد أخطأنا يغفر اللّه لنا، وإن كنا قد حدنا عن الصراط المستقيم يعيدنا إليه وبذلك نكون قد تجددنا هذا التجديد تجديد الكنيسة. هذا ما جرى قبل ميلاد الرب يسوع بمائتي عام عندما استشهد العديد منهم ومن جملتهم القديسة شموني وأولادها السبعة لأنهم تمسّكوا بشريعة اللّه ومعلمهم العازر الذي كان شيخاً عاتياً بالسن. كان شيخاً مؤمناً، وكان كاهناً، وعندما جاءه أبناء شعبه ليقولوا له لماذا تستشهد، نحن بحاجة إليك إننا إن منعنا عن أكل الخنزير بشريعتنا وهؤلاء الناس يريدون أن نأكل لحم الخنزير نقدم لك لحم الضان ونأكله ونقول إنه لحم خنزير فقال لهم: هل تريدونني وأنا شيخ أن أنافق، أن أخدع الناس؟ ماذا يقول عني الشباب إذا فعلت هذا؟ لذلك جدير بي أن أستشهد في سبيل التمسك بشريعة الرب.
بدون شريعة لا توجد كنيسة، فاستشهد واستشهد الآخرون أيضاً في سبيل التمسك بشريعة الرب، وعلّمونا كيف يجب أن نكون صادقين مع اللّه ومع أنفسنا ومع البشر كافة وألاّ نكون مرائين لا نظهر فقط أمام الناس أننا أبرار وأننا متمسكون بشريعة إلهنا بل من كل قلبنا وضميرنا نتمسك بتلك الشريعة، هكذا نكون هياكل اللّه، هكذا نكون مرضيين لدى إلهنا وإلا فسنكون غرباء عن اللّه. استشهد العديد من الناس في سبيل اللّه لكن أيضاً دحر جيش المكابيين الذين أرادوا أن يدافعوا عن المدينة المقدسة وعن الشريعة، وعندما فتشوا بعد أن طرحوا وقتلوا وجدت أصنام صغيرة مخبأة في ثيابهم لأنهم أرادوا أن يجمعوا بين النقيضين بين عبادة الأصنام والاتكال على اللّه، فدحروا وقتلوا ولذلك أرسل المكابيون فضة إلى المدينة المقدسة لتقدم ذبائح عن هؤلاء ليغفر اللّه لهم خطيتهم، لذلك لا يمكن أن نجدّد عهدنا مع اللّه ونحتفل بالتجديد تجديد الكنيسة كما احتفل به المؤمنون باللّه في ذلك الزمن وبقي الشعب يحتفل بعيد التجديد، تجديد العهد مع اللّه وتجديد ذواتهم وتجديد هيكلهم، وبقي حتى في عهد تجسد الرب يسوع المسيح، علينا أن نبتعد عن عبادة الأصنام ولا نعبد إلا اللّه تعالى تقدس اسمه وأن نكون مخلصين لديننا وشريعتنا وناموسنا وذبائحنا التي أصبحت ذبيحة المسيح الذي صار ذبيحة عنا وفدانا بدمه الكريم القدوس.
في أحد التجديد أحبائي ونحن نهيّئ أنفسنا لنقبل سر الفداء، علينا أن نتوب، أن نعود إلى اللّه لنجدّد عهدنا معه تعالى لكي يقبلنا ويغفر لنا ويعيدنا إليه، ولكي يثبت روحه القدوس فينا ولكي نستحق أن نكون حقاً أبناء بالنعمة للآب السماوي وأخيراً ورثة لملكوته السماوي بنعمته تعالى الأمر الذي أتمناه لي ولكم أحبائي آمين.
تجديـــد البيـــعة (8)†
«أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها»
(متى 18:16)
بعدما كان الرب يسوع قد تجسد وابتدأ تدبيره الإلهي بالجسد وهو يجول كما قال الكتاب يصنع خيراً ويشفي المرضى بل يقيم الموتى أيضاً، بعد كل ذلك، بعد سنتين ونصف السنة من هذا العمل كان الرب في بلادنا السورية، وإن كانت حتى فلسطين تُدعى سورية حينذاك، بل كان في منطقتنا التي نسميها اليوم سورية في قيصرية فيلبس وهي بانياس التي نراها ونمر بها عندما نذهب إلى اللاذقية، في تلك المنطقة في ضواحيها كان الرب يسوع، انفرد كعادته للصلاة، وصلاة يسوع هي مناجاة الذات للذات، فهو والله واحد مع الآب والروح القدس، لكن مع هذا نراه ينفرد ويصلي، ليجتمع بالآب السماوي والروح القدس معهم، ونراه يصلي عندما يُقدمُ بعدئذ إلى أمرِ جليل، فنعلم لماذا صلى عندما نقرأ عن هذا الأمر. كانت صلاته في ذلك النهار وتلك الساعة بل في ذلك المكان في بانياس وضواحيها في بلادنا السورية، كانت صلاته قبل أن شرع بتأسيس كنيسته المقدسة، ولأول مرة يذكر لفظة كنيسة، وهو يعني بها المؤمنين به، فقد صلى ثم عاد إلى تلاميذه ليسألهم: ماذا يقول الناس عني إني أنا ابن الإنسان، الناس الذين يرونني أنا ابن الإنسان، ماذا يقولون عني؟ قالوا قوم يوحنا المعمدان، من جملة الذين قالوا يوحنا هو هيرودس بالذات، قال يظهر أن يوحنا الذي قطعت رأسه في السجن قد قام من بين الأموات ويصنع المعجزات، وقال له قوم يقولون إرميا، إرميا النبي الذي له المراثي البكاء، الذي كان ينوح على أورشليم وعلى ذلك الشعب الذي غضب الله عليه. في التقليد اليهودي، إن إرميا يأتي قبلما يأتي المسيح ويصعد إلى الجبل ويفتش عما كان في خيمة الاجتماع من عصا هارون التي أفرخت وأعطت لوزاً لتبرهن على أن الله أختار هارون رئيساً للكهنة، أن يجد هذه العصا، أن يجد لوحي الشهادة،أن يجد قسط المن، أن يجد ما يجد مما كان أيضاً في الهيكل قبل أن يأتي المسيح، أي قبل التجسد. وقوم يقولون واحد من الأنبياء القدامى، قال لهم وأنتم من تقولون إني أنا. بطرس كان كبير الرسل سناً ومقاماً وحتى دُعي هو وبعدئذ بولس الرسول هامتي الرسل، يعني الرأسين. بطرس قال له: «أنت هو المسيح ابن الله الحي»، أجابه يسوع طوبى لك يا سمعان بطرس وأنا أقول إن لحما ودما لم يُعلن لك ذلك لكن أبي الذي في السموات، وأنا أقول لك أنت بطرس (الحجرة) وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي(الصخرة التي هي الإيمان بأن المسيح هو أبن الله)، لو بُنيت الكنيسة على شخص بطرس لرأيناها قد تزعزعت،خاصة كما رأينا بعدئذ بطرس لضعفه البشري أنكر المسيح أمام جارية حقيرة، وتَندم وأصبح مثالاً لكل خاطئ يتوب ويعود إلى الله، لكن الرب أسس كنيسته على صخرة الإيمان به أنه ابن الله، ولذلك كل من يدعي أنه كنيسة يكون ادعاءه باطلاً إذا لم يؤمن بأن المسيح هو ابن الله الحي، الحقيقة الإيمانية التي ألهم بها الله بطرس فأعلنها. فقال له الرب: «طوبى لك يا سمعان إن لحماً ودماً لم يُعلنا لك ذلك لكن أبي الذي في السموات، وأنا أقول لك أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها، وأُعطيك سلطان مفاتيح السموات ما تربطه على الأرض يكون مربوطا في السماء وما تحله على الأرض يكون محلولاً في السماء».
بهذه الكلمات أعلن الرب أن لا بد أن يكون للكنيسة من يُديرها وأسس سر الكهنوت الذي أعطى فيه أولئك الذين يمنحهم هذا السر العظيم السلطان في الأرض والسماء، ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السماء، هذه السلطة أعطاها أولاً لبطرس منفردا، وبعدئذ أعطاها بعد قيامته للرسل كافة مجتمعين، هذا الأمر اللاهوتي لا يدركه كل إنسان. هذه السلطة أًعطيت لهامة الرسل، وأعطيت أيضا مسؤولية عظيمة، أن على هامة الرسل وبعدئذ على الرسل كافة أن يحافظوا على الإيمان بابن الله الوحيد، ويدافعوا عنه ويذودوا عن حياض الكنيسة، ليس فقط عقائدها بل أيضاً طقوسها، والكنيسة هذه بعد أن أشار إليها في القديم، يقول آباءنا أن الله عندما دعا موسى للجبل أراه الكنيسة، هندسة الكنيسة كلها أراه إياها، وقال له أن يصنع مثلها، وعندما نزل موسى من الجبل ومعه الوصايا، اختار موضوع الكهنوت، لأن الرب عندما أسس الكنيسة أعطى أيضاً الكهنوت لهامة الرسل، وموسى أيضاً عندما نزل من الجبل ليصنع ما رأى في الجبل، أراه الله في الجبل أراه الكنيسة بالذات، فأختار العصي من جميع الأسباط والعصا التي أورقت وأثمرت لوزاً، قال إن الله أختار صاحب العصا أن يكون رئيس كهنة وهذا كان هارون، إذن لا كنيسة بدون كهنوت، والكنيسة التي يقيم الله فيها كهنته لينوبوا عنه ويحافظوا على أسراره المقدسة، بل ليعطوا هذه المواهب كذخائر تامة وكاملة للمؤمنين به، كانت هناك ما ندعوه خيمة الاجتماع( ) في خيمة الاجتماع عندما يدخل مرة واحدة في السنة إلى قدس الأقداس كان الله يكلمه، ويعلن عن ذلك بكل أوامر الله، وهكذا عندما أسس الرب الكنيسة أعطى سلطان الكهنوت سلطاناً إلهياً ولئن نرى بشراً يحملون سلطان الكهنوت، ولكن نعلم أن هؤلاء البشر بالهام رباني يقومون بإدارة الكنيسة، وأبواب الجحيم قال الرب لن تقوى عليها، الأبواب هي السلطات، السلطة العليا هي الباب يسموها، في أيام آباءنا كان هناك لدى العثمانيين الباب العالي، أي السلطة العليا في الدولة، إذن أبواب الجحيم السلطات الشيطانية التي هي في الجحيم لن تقوى على الكنيسة، نحن في هذا اليوم الذي نُعيد فيه عيد تجديد الكنيسة، وكذلك في الأحد الماضي عيد تقديس الكنيسة، نقول
( )
ما نقوله معناه: أن من يحاربك أيتها الكنيسة تكبوا فرسه وبالسهم الذي يوجهه عليك يرجع على صدره ويقتله.
حافظت الكنيسة على إيمانها وعلى أبناءها وعلى تقاليدها عبر الأجيال. كم قسا الدهر عليها، الاضطهادات الدموية العشرة قبل مجيء قسطنطين في أوائل القرن الرابع، آلاف مؤلفة من الشهداء استشهدوا في سبيل التمسك بإيمان المسيح ابن الله الوحيد الإيمان الذي أعلنه بطرس، بدع وهرطقات عديدة من أيام الرسل ظهرت في الكنيسة، ولكن بولس يقول انبذوا الخبيث من بينكم حرمته الكنيسة طردته والعديد حتى اليوم بتسمياتهم تسميات شتى يدعون أنهم كنيسة وهم ضد الكنيسة، لأن إيمانهم ليس إيمان بطرس ليس إيمان المسيح يسوع ابن الله الحي، يعتبرونه نبي من الأنبياء، وهو رب الأنبياء وخالق الكون ومبدعه، وقد أعطانا تعاليمه حتى نحافظ عليها وأبواب الجحيم لن تقوى على الكنيسة، وتبقى الكنيسة محافظة على تعاليمها مضحية بأولادها الذين يقتدون بالفادي الذي ضحى بنفسه وصلب على الصليب وفدانا بدمه، لتبقى كنيسته إلى الأبد.
نسمي اليوم تجديد الكنيسة وهذه نعمة عظيمة لنا، بولس يقول أنتم هياكل الله، وروح الله حال فيكم، ومار افرام يقول عن كل واحد منا أنه نحن كنيسة، ونقدم ذبائح التسبيح بألسنتنا وفكرنا متمسكين بإيماننا، لذلك عندما نخطئ أعطانا الرب نعمة عظيمة أن نتوب، عهده معنا إذا حدنا عن العهد في تجديد الكنيسة، عهدنا مع الله، هذه الغاية من تجديد الكنيسة، تقديس الكنيسة نعود إلى حالة البر حالة التوبة حالة العودة إلى الله، لكي لا نخسر التبني، لئلا نخسر أن نكون أبناء الله بالنعمة، هذا اليوم فرصة لنجدد العهد مع الله أن نكون مرضيين لديه لنكون كنيسة مقدسة الحالة التي أتمناها لي ولكم، آمين.
تجديـــد البيـــعة (9)†
الكنيسة المقدسة أيها الأحباء في هذا اليوم الأحد والأحد الذي سبقه الأحد الماضي، احتفلت وتحتفل بذكري تأسيسها وما ندعوه تقديسها وتجديدها وما في ذلك من معاني سامية، وفي هذه الذكرى نرى أن الرب يسوع أعلن نفسه جهراً على أنه ابن الله الوحيد وليس هذا فقط، أعلن قداسة الكنيسة وتجديد العهد مع الإنسان، ولذلك دُعي الأحد الماضي أحد تقديس الكنيسة وهذا الأحد أحد تجديد الكنيسة. الإنجيل المقدس الذي تُلي على مسامعكم بالمناسبتين يُظهر لنا أن اعتراف هامة الرسل بطرس بالمسيح يسوع أنه ابن الله الحي، فبعد سنتين ونصف السنة لبدء التدبير الإلهي العلني بالجسد سمعنا الرب يسوع وكان مع تلاميذه في قيصرية فيلبس التي هي بانياس السورية، سمعناه يسأل التلاميذ: «ماذا يقول الناس عني أنا ابن الإنسان؟»، كانت المدة كافية ليفهم الناس من هو هذا الذي خرج كما ظنوا من الناصرة، هذا الذي عُرف بعدئذ إنه قد ولد بأعجوبة في بيت لحم أفراته، كانت هذه المدة كافية ليعرفوا قوته الإلهية، وقد جال في الأرض يصنع خيراً كما قيل عنه الكتاب، عجباً هل هذا إنسان، وهو يدعو نفسه ابن الإنسان ابن البشر، هل هذا يسمو عن الإنسان فمن هو؟ يسأل التلاميذ: «ماذا يقول الناس عني إني أنا؟».
قالوا: قوماً يقولون يوحنا المعمدان، آخرون إيليا، وآخرون إرميا أو واحد من الأنبياء قد قام، وانتم من تقولون عني إني أنا، هامة الرسل بطرس يجيبه قائلاً: «أنت المسيح ابن الله الحي»، يقول له الرب: «إن لحماً ودماً لم يُعلنا لك ذلك بل أبي الذي في السموات، وأنا أقول لك أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها»، أنت بطرس (بيتر) وعلى هذه الصخرة (بترا) أبني كنيستي، وبالسريانية أنت كيفو أو كيفا وعلى هذه الشوعو الصخرة أبني كنيستي، لم يبنِ المسيح على شخص بطرس ولا على شخص أي إنسان، فالإنسان مائت، والإنسان متقلب، الإنسان ليس ثابتاً، ولكن بناها على صخرة الإيمان، ماذا كان الإيمان؟ الإيمان الذي أعلنه بطرس القائل: «أنت المسيح ابن الله الحي»، هذه العبارة تشمل وتلخص كل قانون الإيمان، فإذا آمنا أن المسيح وهو الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس هو ابن الله الحي، يعني ذلك إننا آمنا بالثالوث الأقدس الآب والابن والروح القدس.
كان الآخرون قد أعلنوا هذا، بل قد أعلنته السماء أيضاً عندما أعتمد الرب اقتبل العماد وهو يصلي، انشقت السماء جاء صوت الآب عندما نزل الروح القدس بشبه حمامة على هامة الرب يسوع بعد عماده مباشرة، وجاء صوت الآب: «هذا هو أبني الحبيب الذي به سُررتُ»، ثانية في جبل التجلي نسمع صوت الآب يقول: «هذا هو أبني الحبيب الذي به سُررتُ له أسمعوا»، أعلن أنه هو الشريعة هو الناموس، علينا أن لا نسمع لغيره، فهو الله وابن الله له أسمعوا، بهذا الإعلان أيها الأحباء نعلم أن الرب يسوع وبشهادة السماء هو ابن الله الحي، ولكن عندما أعلن هذه الحقيقة الإلهية هامة الرسل بطرس إجابة لسؤال الرب يسوع «ماذا يقول الناس عني إني أنا؟». في هذه العبارة قال الرب يسوع: «إن لحماً ودماً لم يُعلنا لك ذلك لكن أبي الذي في السموات»، أصبحت هذه العبارة أساساً للكنيسة وأعتُبر أن الإيمان بالمسيح ابن الله الحي خلاصة وملخص لكل إيماننا في الكنيسة وفي ابن الله وهو مؤسس الكنيسة وهو رب الكنيسة والذي جعلها ملكوت الله على الأرض.
يقول له أنت بطرس، أنت كيفا وعلى هذه الصخرة، صخرة الإيمان أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها، الأبواب هنا أيها الأحباء السلطات، نأخذ هذا التعبير حتى في الأمور البشرية، أيام العثمانيين كانوا يسمون الباب العالي، يعني السلطة العليا بالدولة، فأبواب الجحيم هي سلطة إبليس العليا لن تقوى على الكنيسة، كم قسا الدهر عليها، كم ثارت الأمم ضد المؤمنين بالرب يسوع الذين هم الكنيسة، ولكن لم يستطع إبليس ولا جند إبليس، ولا من يتجند من الناس لإبليس، ولم تستطع الهرطقات والبدع أن تفسد تعاليم الرب يسوع، لم تستطع أن تزعزع أركان هذه الكنيسة التي هي عريس الرب يسوع، التي قدسها، التي فداها بدمه الكريم وجدد معها العهد.
الكنيسة كان قد أسسها الرب يسوع منذ البدء، حتى بالنسبة إلى هندستها إلى شكلها إلى الأقسام الضرورية الرئيسية فيها، من قدس الأقداس إلى الهيكل إلى المذبح إلى فناء الكنيسة، حتى هذه الأمور كان الرب قد هندسها وأظهر شكلها في السماء، ولذلك عندما دعا موسى وقال له ان يصنع خيمة الاجتماع أو قبة الزمان كما رأى ذلك في الجبل، فالكنيسة كانت منذ ذلك الحين قد هندسها الرب يسوع وأعطانا شكلها أيضاً لتكون بيت الرب ولتكون هيكله وتكون أيضا ملكوت الله على الأرض تهيئ المؤمنين ليكونوا أعضاء فيها وتكون أرواحهم أيضاَ تبني ملكوت الله في السماء لذلك ثبتت الكنيسة وأبواب الجحيم لن تقوى عليها وبقيت سليمة ، صحيحة بتعليمها وتحمّل أبناؤها العذابات فمن لم يستشهد أُعتبر معترفاَ تحمل الاضطهادات في سبيل التمسك بهذا الإيمان وأخيرا فهذه الكنيسة تبقى ثابتة إلى الأبد هي مقدسة ولكن تتجدد أيضا . تجدد عهد الرب للإنسان بعد أن كانت الكنيسة بأدوارها العديدة بعد أن كان الآباء. بدون كهنوت لا يوجد كنيسة كان كل أب من آباء العهد القديم كان هو كاهن العائلة بعدئذ صار الكهنوت الموسوي أيضا كنيسة وأخيرا كهنوت الرب يسوع عندما أعطى لبطرس أولا هامة الرسل السلطان على ربط الخطايا وحلّها ، ما يربطه على الأرض يكون مربوطاً في السماء هذه سلطة عظيمة جداً لا نتصور كيف أن الرب أعطاها لبشر، أن يكون لهذا الإنسان سلطة في الأرض السماء، «ما تربطونه على الأرض يكون مربوطاً في السماء وما تحلونه على الأرض يكون محلولاً في السماء» هذه نعمة عظيمة هي موهبة الكهنوت المقدس . فالكنيسة بكل أدوارها برهنت على أنها انتظرت من يخلصها من خطية آدم الأولى والخطايا أيضا التي يقترفها الإنسان وبذلك يتجدد . في ما تُلي على مسامعكم من قصص آبائنا الرسل في بداية القداس والرسول بولس في رسالته إلى أهل غلاطية كيف يعلن تجدد الإنسان ، بولس عندما أعلن الرب يسوع تجدد هكذا الكنيسة تتجدد ، بعد أن كان مضطهداً لأتباع الرب يسوع أصبح مُضطَهداً في سبيل التمسك بهذا الإيمان المقدس وبهذا يكون الإنسان جديداً ، بهذا يتجدد العهد مع الله وقيل في الأنبياء أيضا كيف أن الله يجدد عهده مع الإنسان في أيامه الأخيرة بعد أن نال الإنسان الفداء بدم ربنا يسوع المسيح كيف يتجدد الإنسان ويصبح مع الله بعد أن يكون أحياناً عديدة قد حاد عن الحق فنحن في تقديس الكنيسة نقدس نفوسنا ونتوب عن خطايانا لأننا أعضاء في الكنيسة المقدسة ونحن في تجديد الكنيسة نعتبر أنفسنا كنائس وهياكل للرب والرسول بولس يقولها بكل وضوح أنتم هياكل الله والله حالّ فيكم . فكل واحد منا هو هيكل لله ودائما نطلب من الرب أن يحل في قلوبنا يختار اصغر شيء لنا فينا كبشر ويحل فيها ونجدد العهد مع الرب كلما شعرنا أننا قد ابتعدنا عن إلهنا باقترافنا الخطايا والذنوب والآثام . فرسالة اليوم أحبائي أن نجدد عهدنا مع الرب أن نتوب إليه أن نشعر بأننا أعضاء في كنيسته المقدسة ونقدس أنفسنا بهذا نكون قد احتفلنا حقا بتقديس الكنيسة وتجديدها وأصبحنا للرب بعهد جديد حيث نحفظ شريعته بقلوبنا وضمائرنا فلا نحتاج حتى إلى شريعة موسى السابقة وشريعة الآباء الفطرية إذ أن المسيح إلهنا وهو مخلصنا وهو شريعتنا وهو الذي يحفظنا ويصوننا من الخطية ويؤهلنا ونحن في ملكوته على الأرض أن نكون مرشحين أيضا لملكوته السماوي لنرث معه إلى الأبد بنعمته آمين.
بشارة زكريا الكاهن
بشارة زكريا الكاهن
بشــارة زكـــريا الكـــاهن (1)†
«لا تخف يا زكريّا لأن طلبتك قد سُمعَت وامرأتك أليصابات ستلد لك ابناً وتسمّيه يوحنا. ويكون لك فرحٌ وابتهاج وكثيرون سيفرحون بولادته. لأنه يكون عظيماً أمام الرب وخمراً ومسكراً لا يشرب. ومن بطن أمّه يمتلئ من الروح القدس»
(لوقا 1: 13- 15)
كانت المواعيد الإلهيّة التي دوّنها الأنبياء قد شارفت على التّمام، وكان الزّمن الماضي مع العهد القديم قد دنا انتهاؤه كليّاً ليبدأ العهد الجديد، عهد النّعمة والرحمة والعزاء. وكانت السّماء قد أغلقت أبوابها عن الأرض، فلم ينزل الوحي على أحد مدّة طويلة من الزمن وصمتت. وفجأة وفي الهيكل العظيم، وفي جزء مهم وقف جبرائيل الملاك أحد رؤساء الملائكة، الذي تفسير اسمه (جبّار الله). وقف عن يمين مذبح البخور ليخاطب كاهناً شيخاً جليلاً هو زكريّا، من فرقة أبيّا وقد كانت نوبة خدمته في الهيكل. ارتعب زكريّا عند رؤيته الملاك، ولكن الملاك هدّأ من روعه قائلاً: لا تخف يا زكريّا، وبشّره أن طلبته قد سُمعَت وأن صلاته قد استُجيبَت، ونعلم موضوع الصّلاة من كلام الملاك: أن أليصابات امرأة زكريا، العجوز العاقر ستحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه يوحنّا، أي الحنان والرّحمة لأن عهد الرّحمة قد ابتدأ. ويقول له أيضاً: أن هذا سيبهج قلبه وإن ولادته ستفرح الكثيرين، بل أيضاً إن المولودـ –أي يوحنا- يكون عظيماً أمام الرب، وعظمته أنه سيكون كوالديه كما وصفهما البشير لوقا: أنهما كانا بارَّين متمسكّين بوصايا الله وأحكامه، أي فرائضه، فلا يكفينا أن ندّعي أننا نطبّق أوامر ربّنا ونتمسّك بكل وصاياه، ونترك الفرائض، أي الطقوس الكنسيّة التي فُرضَت علينا من صوم وصلاة وتقديم الصدَقَات، فلا خلاص لنا بالوصايا فقط ما لم تُكمَّل بفرائض، ولذلك يصفهما البشير لوقا بأنهما كانا بارَّين يتمسّكان بوصايا الله وأحكامه أي فرائضه. كذلك يوحنا جاءت عظمته ليس فقط من تمسّكه بوصايا الرب وأحكامه، بل أيضاً كونه خمراً ومسكراً لا يشرب ويمتلئ بالروح القدس وهو في بطن أمّه ومكمّلاً مشيئة هذا الروح.
زكريا وهو يسمع هذا الكلام من فم الملاك جبرائيل يرتعد ويرتبك، بل أيضاً يشك قليلاً وهو يتساءل عن إمكانيّة حبل أليصابات وهي شيخة طاعنة في السن، كما أنها كانت عاقراً أيضاً، وعن نفسه أيضاً وقد طعن بالسن. كاهن يعرف النّاموس والشّريعة، كاهن يستحق أن يقف أمام الله ويرفع البخور، ومع البخور تصعد صّلوات القديسين أمام منبر الرب، كما جاء في سفر الرؤيا. كاهن يشكّ في إمكانيّة حبل زوجته الشّيخة وهو يعلم ما يعلم في العهد القديم عن النسوة العاقرات الطّاعنات بالسن اللواتي حبلن وولدن أبناءً كان لهم دور في عمل الفداء، بل كان بعضهم من أجداد ربّنا يسوع المسيح بالجسد. هذا الكاهن يُحكَم عليه بالصمت من قِبل الملاك جبرائيل وألاّ ينطق حتّى يتمّ ما قاله له جبرائيل الملاك. لأنّه شك بصدق بشارة الملاك له. ويخرج الكاهن خارجاً والشّعب ينتظر ظنّاً منه أن الكاهن قد هلك في مذبح الرب وهيكله، لأنه كان قد فُرِض على الكهنة في العهد القديم أن يكونوا أنقياء أتقياء خاصةً عندما يدخلون إلى هيكل الرب لأنهم يخدمون الله الذي هو النار الإلهية زلوا زلة بسيطة يعاقبون عقاباً صارماً ويهلكون، لذلك ظنّ الشعب أن زكريا قد تأخّر في المذبح إذ أصابه ما أصابه من الهلاك، ولكن زكريا خرج وهو صامت يشير إليهم أنه قد رأى رؤية سماويّة، ويذهب إلى بيته ويعرف زوجته أليصابات معرفة زواج فتحبل وتمجّد الله بتواضعها، فلا تظهر نفسها خمسة أشهر للناس، وفي الشهر السادس جاءت العذراء وزارتها فأُعلِن حبلها للناس، وكان في ذلك سرٌّ أيضاً، لأنه لو علم هيرودس بحبل أليصابات لانتظر المولود وقتله حالاً ظناً منه أنه هو ماسيّا المنتظر. وكلٌّ منّا لو عاش في ذلك الزّمان وقرأ النبوّات وانتظر المسيح ليأتي ويخلّص العالم، وسمع ما جرى لزكريا في المذبح مع الملاك جبرائيل، لظنّ أن يوحنا هو ماسيّا المنتظر وجبرائيل خاصةً يُعرَف لدينا نحن المسيحيين أنه هو ملاك العهد الجديد، ملاك بشارة العذراء، فقبل ذلك بخمسمائة سنة وقف في بابل أمام النبي دانيال ليحدد له السنين التي يجب أن ينتظرها الشّعب ليرى المخلص آتياً، وذلك في نبوّة الأسابيع السبعين وأتى ليبشّر زكريا بميلاد السّابق للمسيح، المبشِّر بالمسيح المخلِّص الذي سيعد كما قال الملاك، يُعِدّ الشّعب لاستقبال المسيح، ولكن يوحنا نراه بعدئذ بعظمته أمام الله، أن عظمته تظهر بتواضعه، فهو يعرف حدّه أنه السّابق وليس الآتي وبصدق شهادته، وصار كارزاً وشاهداً عن المسيح أنه أقدم منه وأن يوحنا لا يستحق أن ينحني ويحل سير حذائه، وأن المسيح هو المخلِّص وأن يوحنّا هو صوت صارخٍ في البرية: أعدّوا طريق الرب، اجعلوا سبله مستقيمة.
زكريا انتظر، والشعب انتظر معه. هل عندما نأتي إلى هيكل الرب نسمع الوعظ، وقد تطول بنا مدّة الوعظ أو عندما نواظب على الصّلاة والمشاركة بالقداس الإلهي أيام الآحاد والأعياد خاصةً، وقد تطول المدّة أيضاً نصبر كما صبر ذلك الشعب لينتظر الفرج من الرب، خاصةً عندما يقدّم الكاهن البخور أو الذبائح، أو عندما يقدّم خبز التّقدمة مرّة في الأسبوع أو يقدّم المحرقات كفّأرةً عن ذلك الشّعب وعلى الشعب أن ينتظر لينال بركة الرب التي تأتي حصيلة تلك الخدمة الطّقسيّة. هل ينتظر الشّعب بصبر وإيمان وبتوق إلى نيل بركة إلهنا كما انتظر ذلك الشعب يوم أبطأ زكريّا خروجه من الهيكل، بل أيضاً ونحن نتأمّل هذه الحادثة نأخذ عبرة من صلاة زكريا وأليصابات كيف أن طلبتهما لم تستَجَب سريعاً ولكنهما كانا مؤمنَين بالرب وكانا بارَّين. بهذه الصّفة صفة البر نرى كيف أنهما كانا قدّيسَين، ولئن كان العقر في تلك الأيّام يعتبر عاراً على المرأة، لأن كل امرأة في بني إسرائيل كانت تتوق وتشتاق وتواظب على الصلاة ليولد منها ماشيحا المنتظر، ولكن أليصابات بإيمانها وزكريا الكاهن بتقديم الصّلاة عنه وعن الشّعب كان خاضعاً لإرادة الله مواصلاً الصلاة إليه تعالى، فسُمعَت طلبته وجاء جبرائيل ليبشره أن أليصابات ستحبل وتلد ابناً وليس ابناً كسائر البنين، بل ابناً له مكانة عظيمة في السّماء، إنه يكون عظيماً أمام الرب وإنه يمتلئ من الروح القدس وهو في بطن أمّه. فما أعظم النعّمة التي نالها زكريا، وما أعظم النعمة التي نالتها أليصابات، وعندما ينال أحدنا نعمةً عليه أن يتواضع أمام الرب لأن النعمة منه تعالى والإنسان مهما حاول أن ينال نعمة بجهده الخاص، نراه بالأخير فاشلاً ما لم يتّكل على الرب.
لنقتدِ بالشيخَين أيّها الأحبّاء في هذا اليوم المبارك الذي هو أحد بشارة زكريا، لنقتدِ ببرّهما وتمسّكهما بوصايا الرب إذا أصابتنا مصيبة أو قد أصبنا بمصيبة، لنصبر مثلهما باتّكالنا على الله وليكن لنا مثل إيمانهما المتين الثّخين. ليكون هذا الإيمان كفيلاً لاستجابة صلواتنا ولرضى الرب عنّا ونَيل بركة المسيح التي هي أعظم بركة للمشاركة في الفداء لخلاص نفوسنا ولخلاص أفراد عائلاتنا ولخلاص أبناء الكنيسة بنعمة ربنا وإلهنا يسوع المسيح، الذي في مثل هذا اليوم بُشِّر بميلاد كارزه وسابقه يوحنا. لتكن هذه النّعمة شاملةً جميعنا ليستجيب الرب صلواتكم أيّها الأحباء التي تكون في نطاق طلب ملكوت الله وبرّه قبل أي شيء في الحياة لننال بركة الله دائماً أبداً آمين.
بشــارة زكـــريا الكـــاهن (2)†
بنعمة الله أيها الأحبّاء قمنا برسامة ثلاثة رهبان أتقياء، اثنان منهما من خرّيجي كلّيتنا الكهنوتيّة، كليّة مار أفرام السّرياني وواحد من رهبان دير مار كبرئيل في طورعبدين. قمنا برسامتهم كهنةً ليخدموا مذابح الرب ورعايا الكنيسة السريانيّة الأرثوذكسيّة التي هي أمّنا وأمّهم. وفي هذه المناسبة يطيب لنا أن نهنّئهم بهذه الموهبة السّامية، موهبة الكهنوت المقدس التي نالوها من الرب، الذي يختار كهنته من بين شعبه المبارك ليحملوا نير الكهنوت ويخدموه تعالى في مذابحه المقدّسة. هم من الشّعب وإذ يختارهم الله من بين الشّعب المؤمن كما يقول الرسول بولس في الرسالة إلى العبرانيين ليقدّموا ذبائح غير دمويّة تستمد قوتها وبركتها من ذبيحة المسيح الكفارية، بل أيضاً بالكهنوت بالذات ينالون النّعمة التي نالها تلاميذ الرب بحلّ الخطايا وربطها ليغفروا بقوّة الرب وباسمه ذنوب التائبين العائدين إليه تعالى ليكونوا كهنة على رتبة ملكيصادق كما قيل عن الرب يسوع أنه كاهن إلى الأبد على رتبة ملكيصادق.
إننا نهنّئ أهلهم وذويهم لأنهم استحقّوا أن يقدّموا لرب كاهناً يذكرهم دائماً على مذبح الرب كلّما أقام الذّبيحة الإلهيّة، ونهنّئ كليّة مار أفرام بشخص مديرها الهمام نيافة أخينا الحبر الجليل المطران مار ديونيسيوس عيسى كوربوز المعاون البطريركي. نهنّئ أساتذتهم جميعاً الذين اهتمّوا بتعليمهم أيضاً ليتخرّجوا رهباناً أتقياء أنقياء ليسيروا في درب الفضيلة، ليتدرّجوا في الحياة الرّهبانيّة، ومنذ اليوم أيضاً في الحياة الكهنوتيّة سائلين الرب الإله أن يعضدهم ليكونوا كهنةً أفاضل، ليتاجروا بالوزنة الإنجيلية التي أخذوها في هذا اليوم المبارك ويكونوا من الرّابحين الصّالحين.
أيّها الأحبّاء:
الكنيسة المقدسة بطقسها تذكر في هذا اليوم بشارة زكريّا الكاهن، وهذا اليوم يعتبر بدايةً لعهد جديد، لأن العهد القديم قد انتهى وكانت السّماء قد أغلقت أبوابها فلم ينزل الوحي طيلة هذه الفترة الزمنية على أحد حتّى نزل الملاك جبرائيل ووقف عن يمين مذبح البخور ليبشِّر زكريا الكاهن، الذي يصفه الإنجيل المقدس وامرأته أليصابات بأنّهما كانا بارَّين أمام الله، مكمِّلّين ناموس الرّب وأحكامه بلا لوم، وعندما يقول ناموس الرب يعني ذلك شريعة إلهنا، أما الأحكام فهي الفرائض التي وُضعَت على الشّعب القديم، كما أنها وُضعَت علينا بصيغة جديدة تناسب العهد الجديد، لا عهد العدالة بل عهد الرّحمة والحنان. جبرائيل الذي يصف نفسه بأنه الواقف أمام الرب، أحد رؤساء الملائكة، جبرائيل جبّار الله الملاك الذي اختصّ بالعهد الجديد. فقبل أن يقف أمام زكريا ليبشّره بولادة ابنه يوحنا، باستجابة طلبته التي كانت ليس فقط لنفسه، بل طلبة الخلاص بمجيء ماشيحا، المسيح المنتظر. وعندما كان يطلب زكريا ذلك وهو العاقر والشّيخ العاجز وامرأته كانت أيضاً عاقرةً، كان يطلب الخلاص للعالم أجمع. فاستجاب الله طلبته كما قال له جبرائيل، بل أيضاً أعطاه نعمة عظيمة أنه بشيخوخته تلد له امرأته الشّيخة الطاعنة بالسن والعاقر، تلد له ابناً يسمّيه يوحنا أي الحنان والعطف والرّحمة. ويصف هذا الابن بأن ولادته تكون سبب بهجة وسرور لوالديه، وليس هذا فقط بل أن الكثيرين سيفرحون بولادته وبأنه يكون بارّاً أمام الرب ويصف سلوكه في الحياة أنه يكون زاهداً، خمراً ومسكراً لا يشرب ويمتلئ من الرّوح القدس وهو في بطن أمّه. هذه النعمة العظيمة نالها يوحنا لأن والدَيه كانا بارَّين تقييَّن وهو أيضاً نسج على منوالهما واستحق أن يكون السّابق لينادي كما قال عنه الكتاب المقدّس في النبوّات، ليبشر الشعب بمجيء المسيح، ليهيّئ الطريق أمام ربّه فهو صوت صارخٍ في البريّة أعدّوا طريق الرب واصنعوا سبله مستقيمة.
في يوم بشارة الملاك لزكريّا الكاهن بدأ العهد الجديد. كانت السماء قد صمتت وكان الوحي قد انقطع عن الإنسان أجيالاً عديدة، والإنسان كان متلهّفاً ليرى المخلص الذي وعد به الله بوساطة الأنبياء، فآن الأوان لمجيء مَنْ يهيّئ الطريق أمام المخلّص أوّلاً، وكانت تلك البشارة لزكريا الكاهن البار التقيّ، الكاهن الذي لابدّ أنه درس النبوّات ويعرف التوراة وتاريخ ذلك الشّعب الذي أؤتمن على النبوّات والشريعة وأحكام الرب أي نواميسه جميعاً القضائيّة والطقسيّة والأدبيّة، هذا الكاهن العظيم الذي كان من رتبة أبيّا بحسب تقسيم داود للكهنة إلى أربع وعشرين فرقةً، كان من فرقة أبيّا وامرأته كانت من بنات هرون، مع هذا عندما رأى الملاك في مذبح الرب عن يمين مذبح البخور، وقد دخل زكريا ليعطّر البخور أمام الله ارتعب، ومن لا يرتعب من رؤية الملاك. الملاك طمأنه وهدّأ من روعه، قال له: لا تخف يا زكريا فإن طلبتك قد استجيبَت، زكريا الذي يعرف أن الكثير من العاقرات التقيّات ولدنَ بعد أن تحمّلن عار العُقر لأن بني إسرائيل في القديم وهم ينتظرون ماسيّا كانت كلّ فتاة تصلّي إلى الرب ليولد ماسيّا منها وكانت المرأة العاقر تُعَد غضباً عليها من الرب، وكانت تصلي لأن يزيل الرب عنها هذا العار، لكن في الوقت نفسه أيّها الأحباء عندما يصف البشير لوقا زكريا وأليصابات بأنهما كانا بارَّين نتعلّم درساً نفيساً أنه إذا أُصيب إنسان بتجربة ما، يجب ألاّ نظنّ أن هذا الإنسان قد غضب الله عليه بل علينا أن نؤمن أن إصابة أي إنسان بتجربة إن كان بارّاً تقيّاً يكون ذلك لمحبة الله له لكي يُظهر فضيلته. هكذا كان الحال مع زكريا وأليصابات. أليصابات عندما عاد زكريّا إلى بيته وهو صامت لأن الملاك حكم عليه بأن يكون صامتاً إلى أن يتم ما قاله الملاك، أي إلى أن يولد يوحنّا المعمدان. زكريا عندما كان مرتعباً في المذبح ثم آمن بقول الملاك، ولكن الشعب ظنّ بأن ملاك الرب ضرب زكريا، هذا ما يدلّ على عظمة الكهنوت لأن الرب قد أوصى في القديم موسى وعندما انتخب هرون، أن الكهنة يجب أن يكونوا أنقياء طاهرين لأنهم يخدمون مذبح الرّب، وفي العهد القديم عندما يدخل الكاهن ليقوم بخدمة ما، إمّا تبديل الخبز أسبوعيّاً خبز التّقدمة يسمّونه أو للتبخير في هيكل البخور أو عندما يقدّموا الذبائح إذا ما صمت الكاهن يُظَن أن ملاك الرب قد ضربه، لذلك كانت أجراس في بدلة الكاهن في حلّته الكهنوتيّة تُسمَع الشعب أصواتها والكاهن يخدم في المذبح. إذا كانوا وهم ينصتون إلى صوت الأجراس لا يسمعون ذلك الصّوت تبدأ الشكوك تساورهم: لعلّ الكاهن أخطأ وعوقب حالاً. هكذا كان الوضع مع زكريا، ولكن عندما خرج من مذبح الرب وكان صامتاً والشّعب ينتظر، لم يكن الشّعب حينذاك لجوجاً مثل الشعب في أيامنا هذه يضجر من الوعظ، يضجر من طول الصلاة ويريد أن يغادر حالاً بل كانوا ينتظرون ما ترسله لهم السّماء من رسائل، خاصة وقد انقطع الوحي حينذاك مدّة طويلة. خرج زكريا صامتاً فعلموا انه قد رأى رؤيا، لم يتكلّم، ذهب إلى بيته وعرف امرأته أليصابات معرفة زواج فحبلت في شيخوختها وهي العاقر، هي أيضاً تمجيداً للرب لم تعلم أحداً مدّة خمسة أشهر. في الشّهر السادس عندما زارتها العذراء مريم حينذاك أعلنت السّر ومجدت الله الذي أزال العار عنها، والذي منحها نعمة عظيمة أن تلد طفلاً وليس كبقيّة الأطفال، هذا الطفل قد امتلأ من الروح القدس وهو جنين في بطن أمّه، وارتكض عندما جاءه المسيح الإله المتجسِّد وهو في أحشاء العذراء مريم، سجد له، ارتكض، ابتهج فنالت نعمة عظيمة تلك المرأة الشّيخة لأن العذراء مريم باركتها وهي تحمل الرب يسوع في أحشائها.
دروس نفيسة نتعلّمها من هذا:
أوّلاً: ألاّ نحكم على النّاس إذا أصيبوا بمصيبة، فالحكم هذا باطل، وهو من باب لا تدينوا لئلا تدانوا.
ثانياً: أن ننتظر أحكام الرب وأن نكمّل الشرائع والأحكام أي الفرائض من صوم وصلاة وتوزيع الصّدقات مثلما كان يفعل زكريّا وأليصابات وأن نصطبر إذا أصابتنا مصيبة كما اصطبر الشيخ الكاهن البار زكريا وامرأته البارّة أليصابات لنرى أن عناية الرب تشملنا ورعايته ليست بعيدة عنّا إن كنّا متمسّكين بشرائعه.
جعل الرب هذا اليوم المبارك سبب نعمة لكم بالرب. آمين.
بشــارة زكـــريا الكـــاهن (3)†
«لا تخف يا زكريّا لأن طلبتك قد سُمعَت وامرأتك أليصابات ستلد لك ابناً وتسمّيه يوحنا… لأنه يكون عظيماً أمام الرب، وخمراً ومسكراُ لا يشرب… أنا جبرائيل الواقف قدام اللّه وأرسلت لأكلمك وأبشرك بهذا»
(لو 1: 13 ـ 19)
كان الزمان قد آن لإتمام النبوات التي قيلت على لسان الأنبياء منذ أجيال سحيقة عن مجيء ماشيحا المخلص المنتظر، ليفدي البشرية. وكانت السّماء قبل خمسمائة سنة من ذلك التاريخ قد أرسلت الملاك جبرائيل أحد رؤساء الملائكة إلى بابل، إلى دانيال النبي، الذي كان يواظب في عداد المسبيين هناك على الصلاة ليل نهار. وكان ثلاث مرات في اليوم يفتح شبّاك داره وكانت وجهتُهُ أورشليم المدينة المقدسة وهو يسأل الرب الإله بانتحاب وحزن وكآبة وتوبة ودموع سخينة لينهي فترة سبي شعبه وليعيد الشعب إلى أرضه. ولكن اللّه استجابه لا بعودة قومه إلى وطنه، بل بعودة الإنسان إلى وطنه الأول، إلى فردوس النعيم بعد أن تُغفَر خطاياه. لذلك حدّد له أيضاً موعد مجيء المخلص الموعود به ماشيحا المسيح المنتظر لكي يقوم بعمل الفداء، فيتبرّر الإنسان من خطاياه الجدّية والشخصيّة وأن يتقدّس، بل أن يصير ابناً للّه بالنعمة. كان ذلك عندما وقف جبرائيل ذاته أمام دانيال ليحدّد له بالأسابيع السبعين المدّة التي بقيت لإتمام وعد اللّه بإرسال المخلص.
منذ ذلك الحين أغلقت السماء أبوابها ولم ترسل ملاكاً آخر إلى الأرض، ولئن ظهر بعض الأنبياء كملاخي النبي مثلاً الذي أوحي إليه ليتكلّم ويكلّم الشّعب ويعلن نبوّته عن مجيء يوحنا المعمدان، الذي سمّاه (الملاك) الذي يهيّئ الطريق أمام الرب، ولكن لم ترسل السماء ملاكاً آخر في تلك الفترة الزمنيّة ليبلغ رسالة من السماء لأحد الأنبياء. وآن الأوان والهيكل قد شُيِّد والكهنة يمارسون وظائفهم من ذبائح حيوانية ومن تقدمات لخبز التقدمة الذي كانوا يغيّرونه كل أسبوع، ولا يحق أكله إلا للكهنة ومن تقديم البخور في مذبح البخور، البخور الذي يرمز بارتفاعه إلى الفضاء إلى صعود صلوات القديسين إلى السماء لتبلغ عرش اللّه تعالى.
كان داود النبي قد قسّم الكهنة إلى أربع وعشرين فرقة، كل فرقة تخدم الكهنوت في الهيكل مدّة محددة، وكان في ملء الزمان قد جاء دور فرقة أبيّا لتخدم الكهنوت مدة أيام الأسبوع. وضربوا قرعة بين كهنة تلك الفرقة ليميّز من بينهم مَنْ سيقدّم البخور، وهذه خدمة كهنوتية سامية ووقعت القرعة على زكريا ذلك الكاهن الشيخ، فدخل إلى مذبح البخور. كان الكاهن عندما يقدّم البخور يقف وراء ستار ثخين جداً ونفيس جداً فلا يراه الشعب، ولكن عندما كان يوقد البخور كان الشّعب يتنسّم رائحته ويراه دخاناً صاعداً إلى السماء، فيقدم صلواته حتى بحسب عقيدته تصعد مع البخور إلى السماء. دخل زكريا إلى مذبح البخور. كانت المبخرة مطليّة بالذهب وكانت النار فيها مشتعلة ويضع فيها البخور رمزاً إلى ما كان قد فعله هرون بأمر الرب عندما أخطأ الشعب، وبلّغ موسى هرون أمر الرب أن يأخذ المجمرة، ويوقد البخور ويبخّر الشعب ليزول عنه وباء الموت. لم يكن لشعب العهد القديم في تلك الأيام مذبح للبخور قبل بناء هيكل سليمان، لذلك كانت المجمرة التي يوضع فيها البخور يأخذها الكاهن بيده ويبخّر الشعب الذي غضب اللّه عليه وبدأ يهلك الواحد بعد الآخر. فبأمر اللّه عندما تنسّم الشّعب رائحة البخور، تطهّر وزال غضب اللّه عنه. عندما بُني الهيكل كان مذبح البخور جزءاً مهمّاً جدّاً منه ويقع إلى جانب مذبح تقدمة الخبز الأسبوعي وملاصقاً لقدس الأقداس ولئن كان مفصولاً عنه ولكن عندما توقد البخور يدخل الدخان إلى قدس الأقداس ويصعد إلى العلاء.
دخل زكريا أمام مذبح البخور وعندما قدّم البخور ارتعب حيث رأى ملاكاً عن يمين مذبح البخور، فارتعدت فرائصه. من لا يرتعب وهو يدخل مذبح الرب وهيكله وهو لوحده لا يُرى حتى من الشعب كما قلنا، لأن الستار الذي يفصله عن الشعب كان ثخيناً جدّاً. من لا يرتعب وهو يقرأ في الكتاب المقدس عن ظهور ملائكة عاقبوا بعض الناس الخطاة بالهلاك. ولذلك كان الكاهن عندما يمارس خدمته الكهنوتية في الهيكل يرتدي حلّته الحبروية التي يعلق في حواشيها السفلى أجراس صغيرة لكي إذا ما تحرّك الكاهن يُسمَع صوت الأجراس وإذا لم يُسمَع صوت الأجراس يعني ذلك أن الكاهن قد أهلكه الملاك في المذبح لأنه قد أخطأ. من هنا جاءت العادة أن نرتّل الترانيم الروحية بمناسبة طقس تقديس البيعة، ونقول «إن اللّه دعا موسى من العليقة قائلاً له: كن لي وكيلاً على خيمة الاجتماع وما فيها، وقم بالخدمات الكهنوتية. كما يقول له أيضاً ادعُ الكهنة ليدخلوا إلى قدس الأقداس، وقل لهم أن يغسلوا أيديهم وينقوا قلوبهم وهم داخلون المذبح لأنهم يخدمون النار (الإلهية)».
أجل، ارتعب زكريا وهو يتذكّر كل ما كان يحدث لمن لا يكون من الكهنة نقيّاً طاهراً عندما يدخل مذبح الرب ليقوم بخدمة كهنوتية. ما أعظم الكهنوت!!. وما أعظم مسؤوليّة الكاهن عندما يقف أمام الرب ويمثّل الشعب كله ويطلب المغفرة له وللشعب. لذلك لا نلوم زكريا الذي ارتعب عندما رأى ملاكاً أمامه، ولكن الملاك هدّأ من روعه قائلاً له: لا تخف يا زكريا لأن طلبتك قد سمعَت وامرأتك أليصابات ستلد لك ابناً وتسمّيه يوحنا أي الحنان والرحمة، ويقول عن هذا المولود أنه يكون عظيماً أمام اللّه، خمراً ومسكراً لا يشرب ويذكّره بأن له رسالة سامية هي أن يهيّئ الشّعب لتقبّل ماشيحا الذي سيأتي لخلاص البشريّة. زكريّا رغم أنه كان يعرف كل ما حدث في العهد القديم من علامات في ظهور الملائكة، بدءاً من ابراهيم أبي الآباء الذي كانت امرأته سارة عاقراً وبشيخوختها، كانت قد بلغت تقريباً مائة سنة، حبلت وولدت اسحق لأنه هكذا كانت إرادة اللّه، مع هذا شك زكريا: كيف يكون لي هذا وأنا شيخ وأليصابات عبرت في أيامها. شكوكه سبّبت له العقاب، فحكم عليه الملاك أن يبقى صامتاً حتّى يرى بأم عينه الحدث الذي سيتم بميلاد ابنه يوحنا المعمدان. ويقول له الملاك: أنا جبرائيل الواقف أمام اللّه، أُرسلت لأخبرك وأبشّرك بهذا. وحيث أن مدّة وجود زكريا في الهيكل قد طالت، استبطأه الشّعب، خاصةً وأن أجراس حلته الكهنوتية قد صمتت، إذن توقفت حركة زكريا، فهل يا ترى قد ضربه ملاك الرب في الهيكل!؟ واستبطأ الشعب زكريا ولما أتمّ زكريا وضع البخور خرج من الهيكل، فرآه الشعب وفرحوا لأنه كان ما يزال حيّاً. وإذ لم يستطع زكريا أن ينطق ببنت شفة أي بكلمة واحدة، أشار إليهم بأنه قد رأى رؤيا في الهيكل. لوقا البشير كان طبيباً وكان منطقيّاً عندما دوّن هذه الحوادث وقد اتّبع التسلسل المنطقي في سردها، فهو يذكّرنا بأمور نحن بأمسّ الحاجة إلى معرفتها فيقول عن زكريا أنه أتمّ نوبته بإيمانه أن ما سيحدث سيحدث طالما الملاك بشّره به، فأتمّ نوبته أي خدمته في مدّة ثمانية أيام ثم ذهب إلى بيته، وعرف امرأته معرفة زواج فحبلت وبقيت مختفيةً مدّة خمسة أشهر، وفي الشهر السادس أُعلن حبلها، لأن الملاك جبرائيل نفسه عندما بشَّر العذراء مريم قال لها: هذا هو الشهر السادس لتلك المدعوّة عاقراً أي أليصابات. ليس عند اللّه أمر عسير، لأن اللّه عندما يريد أن يحدث شيء، يحدث وهو خالقنا وهو رازقنا وهو المعتني بنا ومجيب طلباتنا وصلواتنا.
بعد أن حبلت أليصابات ولتواضعها أخفت ذلك عن الناس خمسة أشهر وزارتها العذراء مريم في الشهر السادس، كان الملاك جبرائيل قد قال لزكريا عن يوحنا أنه يمتلئ من الروح القدس وهو في بطن أمه، وقد ظهرت مفاعيل الروح القدس إتماماً لقول الملاك عندما زارت العذراء مريم أليصابات. يوحنا وهو جنين ابن خمسة أشهر وبدأ بالسادس ارتكض في أحشاء أمه. أليصابات باركت العذراء مريم وهنّأتها بقولها: «عندما وقع صوت سلامكِ في أذنَيّ»، قالت أليصابات للعذراء «ارتكض الجنين بابتهاج في بطني فطوبى للتي آمنت أن يتمّ ما قيل لها من قبل الرب». هذه الأمور النبوية تحثّنا دائماً على التأمّل بالكتاب المقدس والحوادث التي جرت للقديسين والقديسات لكي نؤمن بأن اللّه وراء كل أمر يحدث لنا وخاصةً كل شيء يثبِّت إيماننا به تعالى. عندما نقرأ الإنجيل المقدس وخاصةً نقرأ هذه القصص التي نراها بسيطة، علينا أن نتصوّر ما جرى لهؤلاء الأنبياء المختارين من الرب لإتمام مشيئته على الأرض، كيف كانت هذه الأمور، مقبولة لدى هؤلاء المؤمنين الذين يلهجون بناموسه ليل نهار، ونقتدي بهم. إذا كان الملاك قد بشّر زكريا فكل واحد منّا له ملاك، له ملاك يحرسه وله ملاك يلهمه لعمل الخير والابتعاد عن الشر. فلننصت إلى ملاكنا ولئن كنا لا نراه بعيوننا البشرية المجرَّدة ولكن بإيماننا يجب أن نشعر بوجوده حيث يوحي لنا أن الرب هو معنا.
أحبائي: الدرس الذي نتعلّمه من حادثة بشارة الملاك لزكريا عن حبل اليصابات وولادتها يوحنا ما قاله الإنجيل المقدس عن زكريا وأليصابات، كانا بارَّين يقول الكتاب المقدس، وكانا مكمّلين شريعة اللّه وأحكامه، أي ليس فقط مثلاً أن يكمل الإنسان من بني إسرائيل الوصايا العشر بل هناك أحكام، هناك فروض، من الفروض التي يجب أن نمارسها، أن نصوم وأن نصلي، وأن نقدّم الصدقات، وأن نساعد الناس، هذه فروض لا بدّ أن نقوم بها أمام اللّه لكي نكون بارِّين مثل زكريا وأليصابات. وأمر آخر عندما نصاب ببلية ـ لا سمح اللّه ـ أن نصطبر ونتحمّلها ونطلب من اللّه ولئن تأخرت الإجابة، ولا نُستجاب لأن عدم استجابة اللّه لنا بسرعة هي الاستجابة، أن نطلب من اللّه أن يستجيبنا ونصلي ونصلي ونصلي، لا نملّ أبداً أن نقتدي بزكريا وأليصابات حيث أنهما تحمّلا عار العقر الذي كان يعد في أيامهما عقاباً من اللّه، ولكن اللّه نظر إلى إيمانهما وصبرهما وبرّهما فكانا بارّين فاستجاب لهما في الوقت الذي شاء اللّه أن تكون الاستجابة. فالرب هو الذي يرحم، الرب هو الذي يلهم، الرب هو الذي يحتّم ويعيّن الوقت الذي تُستجاب فيه صلواتنا بشفاعة زكريا وأليصابات وجميع القديسين. ليعطنا الرب أن نكمّل شرائعه الأدبية وفرائضه تعالى، لنكون مقبولين لديه تعالى وليستجيب طلباتنا التي تؤول إلى خلاص نفوسنا ونعمته تشملكم دائماً أبداً آمين.
بشــارة زكـــريا الكـــاهن (4)†
«لا تخف يا زكريا لأنَّ طلبتكَ قد سُمعت وامرأتكَ إليصابات ستلدُ لكَ إبناً وتسميهِ يوحنا، ويكونُ لكَ فرحٌ وابتهاج وكثيرون سيفرحون بولادتهِ، لأنهُ يكون عظيماً أمام الرب وخمراً ومُسكراً لا يشرب، ومن بطن أمهِ يمتلىء من الروح القدس»
( لوقا 1: 13- 16)
كانت السماء لأجيال عديدة قد صمتت ولم تعطي رسالة ما لبني البشر حتى الأتقياء وعندما جاء ملئ الزمان وآن الأوان أن تتم النبوات وتكمل أرسل الملاك جبرائيل إلى هيكل الرب، إلى كاهنٍ أسمه زكريا كان قد دخل الهيكل إذ كانت القرعة قد سقطت عليه ليبخر، عندما دخل إلى مذبح البخور، ومذبح البخور كان ملاصقاً لقد الأقداس لم يدخل إلى قدس الأقداس كما قال بعضهم! لنه لم يكن رئيس كهنة وكان فقط رئيس الكهنة مرة في السنة يدخل إلى قدس الأقداس، لكن حق له أن يضع البخور في مذبح البخور ومذبح البخور كان مطلياً بالذهب وكانت النار مشتعلة فيه وعندما يضع الكاهن البخور كانت الرائحة تصعد إلى السماء وأيضاً تتعدى المذبح إلى قدس الأقداس والبحور عندما يعطر مذبح الرب ويصعد إلى السماء كان الشعب بحسب العقيدة في العهد القديم يؤمن أن صلاته تصعد مع البخور إلى أمام الرب. هذا أمر مهم جداً فجاءت البراهين أن الرب يريد البخور عندما مثلاً عم الوباء على بني إسرائيل للخطايا التي اقترفوها أمر وناب عنه موسى الرب أمر موسى ليأمر أخاه هارون ليضع البخور ويعطر الشعب ليزول عنه ذلك الوباء، إذاً نحن الذين ورثنا هذه الطقوس عن العهد القديم ليس عبثاً نستعمل البخور نؤمن أن الله بوساطة الكهنة يعطبنا المغفرة والبركة عندما يعطرنا الكهنة بهذا البخور.
نعم كانت السماء قد صمتت وعندما آن الأوان ليبدأ عهد الرحمة عهد التجسد الإلهي ظهر الملاك جبرائيل الملاك جبرائيل ندعوه ملاك العهد الجديد حتى في الماضي كان هو الذي يبشر لمجيء ماشيحا المسيح يسوع لخلاص العالم ظهر الملاك جبرائيل عن يمين مذبح البخور وكان زكريا في الهيكل زكريا كان كاهناً من فرقة آبيا كما يقول الإنجيل المقدس، فداود كان قد وزع الكهنة إلى أربع وعشرين فرقا هذا زكريا كان من فرقة آبيا وعادتاً تلقى القرعة عندما يأتي دور تلك الفرقة من الأربعة والعشرين تلقى القرعة بين الكهنة، ففي ذلك اليوم وقعت القرعة على زكريا الكاهن ليدخل إلى مذبح البخور ويعطر، فعندما دخل زكريا فوجئ برؤية الملاك جبرائيل عن يمين مذبح البخور فرتعب لأن كثيراً ما كان الملائكة يظهرون لمعاقبة الكاهن الذي كان قد أذنب لذلك كان الكهنة بحلتهم الكهنوتية يضعون أجراساً في أسفل الحلة وعندما يدخل إلى المذبح ويتحرك تقرع الأجراس فيعلم الشعب أن الكاهن لازال حياً وإذا سقطت الأجراس فهذا يعني أن ملاك الرب قد عاقبه لأنه ليس بريئاً ولأنه ليس باراً ولأنه تجرئ أن يدخل مذبح الرب وهو غير طاهراً كثيراً كان يصنع هذا الشيء لذلك موسى أوصاهم أنه أيها الكهنة قبل أن تدخلوا المذبح طهروا أنفسكم ونقوا أفكاركم وقلوبكم ودخلوا المذبح وأيلا فعقاب ذلك صارم جداً وكان إذا ما الملاك ضرب كاهناً وآماته وصمتت الأجراس كان على الشعب أن يسحب جثة هذا الكاهن خارجاً لألا يتنجس هذا الشعب.
زكريا كان طاعناً في السن وعندما رأى الملاك عن يمين مذبح البخور أرتعب فخاطبه الملاك قائلاً: «لا تخف يا زكريا إن طلبتك قد سمعت وامرأتك إليصابات تلد لك أبناً تسميه يوحنا (الحنان والرحمة لأن عهد الحنان والرحمة كان قد بدأ في تلك الحادثة) تسميه يوحنا هذا يكون سبب بهجةٍ لك ولكثيرٍ من الشعب ويكون عظيماً أمام الرب (العظمة أين تظهر؟) إن خمراً ومسكراً لا يشرب ويمتلئ من الروح القدس وهو في بطن أمه» لو 1: 13-16
حديث جرى بين زكريا وبين الملاك، قال له الملاك بعد أن رأى أن زكريا قد شك بالكلام: «أنك تبقى صامتاً حتى يكون ما أقوله لك، أنا جبرائيل الواقف أمام الرب» (لو 1: 19-20) الملاك جبرائيل نفسه عرف بنفسه وكان على زكريا أن يؤمن ولا عن قال لجبرائيل كيف هذا أنا شيخ وامرأتي إليصابات قد ذهبت أيامها، كان عمر إليصابات آن ذك مئة سنة كيف يكون هذا ؟ كان على زكريا أن يؤمن بقول الملاك لأنه درس الكتاب المقدس والنبوات وعرف أن العديد من النسوة القديسات قد ولدن وكن عاقرات وبشيخوختهن، كان عليه أن يذكر هذا الشيء ويؤمن ولذلك عوقب بأن يبقى صامتاً حتى يتم ما قال عنه الملاك.
الشعب قد تعب والأجراس قد وقفت في حلة هذا الكاهن وانتظروا ماذا جرى وإذا بالكاهن يخرج خارجاً صامتاً ويشير إلى الشعب بأنه قد رأى رؤية ويذهب إلى بيته ويعرف زوجته معرفة زواجٍ، وتحمل إليصابات تلك العجوز الطاعنة بالسن وبقيت ستة أشهر مختفية لا تريد أن تظهر ما جرى لها أمام الناس حياءً، وعندما زارتها العذراء مريم حين ذك فقط أرتكض الجنين في أحشاءها مبتهجاً لأنه قد امتلأ من الروح القدس كما قال الملاك، حين ذك فقط ظهرت للناس، والعذراء مريم باركتها.
بهذه البشارة أحبائي بدأ العهد الجديد، سماه يوحنا عهد الرحمة وعهد الحنان وانتهى العهد القديم عهد العدالة والصرامة والعقاب الحاد الذي كان يصاب به مَن يخالف شريعة الله ونهت الأيام أيضاً وجاء يوحنا ليمتلئ من الروح القدس وليهيئ الشعب لقبول الرب يسوع، هذه بشارة زكريا أيها الأحباء.
كانت المرأة العاقر تعد ملعونة من قبل الرب! لأن بني إسرائيل كانوا ينتظرون مجيء المسيح، وكانت كل فتاة تصلي وتتمنى أن يولد منها المسيح، لكن بعد أذن نرى الإنسان الذي آمن بالمسح نال نعمة عظيمة واعتُبِرَ ما يجري للمرأة هو أرادة الرب.
دروس كثيرة نتعلمها من هذه الحادثة : أولاً عندما نرى إنساناً قد جرب من قبل الرب علينا أن لا نشك بصلاحه فإليصابات و زكريا كانا بارين أمام الرب كما يقول الإنجيل المقدس مكملين الشريعة والناموس وكانا عاقرين لكن لم يكن ذلك عقاب بل كان تجربة من الرب ونالا نعمةً عظيمة إذ ولد منهمكا السابق للرب يوحنا لتكن نعمة ربنا يسوع المسيح شاملةً إياكم أحبائي بدعاء زكريا إليصابات ويوحنا، آمين.
بشــارة زكـــريا الكـــاهن (5)†
«لا تخف يا زكريا لأنَّ طلبتكَ قد سُمعت وامرأتكَ إليصابات ستلدُ لكَ إبناً وتسميهِ يوحنا، ويكونُ لكَ فرحٌ وابتهاج وكثيرون سيفرحون بولادتهِ، لأنهُ يكون عظيماً أمام الرب وخمراً ومُسكراً لا يشرب، ومن بطن أمهِ يمتلىء من الروح القدس»
( لوقا 1: 13- 16)
كانَ الأوان قد آن لتَتِمَّ النبوة عن مجيء السيد المسيح التي أعلنها الملاك جبرائيل قبلَ ذلك الموعد بما يُقارب الخمسمئة سنة، في الأسابيع السبعين التي ذُكرَت بوضوح وحدَّدَت الموعد.
كانت السماء قد صمتَت عن إعلان أيِّ نبوَّةٍ بعدما أعلنَ جبرائيلُ هذهِ النبوة للنبي دانيال يومَ كان هذا النبي العظيم في عِدادِ المَسبيِّينَ في بابل وكان يومياً ثلاث مرات يفتحُ كُوَّةً في دارهِ متَّجهةً نحوَ أورشليم، نحو هيكل سليمان وهو ينتحب ويبكي أمام الله ليُعيد الشعبَ إلى أرضِه ويُنهي ذلك السَبي القاسي، فجاء جبرائيل إلى دانيال وأعلن لهُ عن الأسابيع السبعين التي في تلكَ المدة يكون الله قد أنهى سَبي بني إسرائيل ويعودونَ إلى ديارهم، كان شوقُ دانيال وتَوقهُ أن تُقدَّم الذبائح وأن يكونَ تسبيح الرب في هيكلهِ وكانَ أيضاً في الوقتِ نفسهِ يتوقُ أن يرى الخلاص لبَني إسرائيل وللعالم أجمع.
مرَّت الدهور وعبرت الأجيال وجاء الموعد، الأسابيع السبعون التي هي خمسمئة سنة من ذلك الموعد فيظهر جبرائيل بعدَ أن صَمَتت السماء عن إخبارِها للأرض بأيَّةِ نبوَّةٍ في هذهِ الفترة إلا بوجود مالاخي أحد الأنبياء الصغار الذي أعلن عن مجيء يوحنا الكارز المُبشِّر الذي يُهيِّىء طريق الرب أمامهُ، الذي قيل عنهُ صوتُ صارخٍ في البرية، الذي كان نداؤهُ عن مجيء الرب فيُهيِّىءُ ذلك الشعب لقبول هذهِ النعمة الإلهية، الخلاص الذي يأتي بواسطة مشيحا المسيح المُنتظَر، فقط هذهِ النبوة ظهرت مدة الخمسين سنة من عهد دانيال وإلى مجيء زكريا، مَن هو زكريا ؟
زكريا كان كاهناً فاضلاً، كانت زوجتهُ أليصابات عاقراً وكان يُصلي ليلاً ونهاراً ليُزيل عنهُ هذا العار كما كان يُعتبر عندَ بني إسرائيل، وكان من نوبة أبيَّا، ففي أيامِ داود وزَّعَ داود هذا الشعب الذي كانَ يخدمهُ الكهنة إلى أربعة وعشرين فرقة، إحدى الفِرق كانت فرقة أبيَّا وكان زكريا واحد من أولئكَ الكهنة في فرقة أبيَّا، جاءت نوبتهُ مع فرقتهِ في خدمة الهيكل، وأُلقيَت القرعة في يوم تقديم البخور فوقعت على زكريا.
مذبح البخور كان قريباً من مذبحِ تقديم الخبز، حيث كان أسبوعياً يُغيَّر خبز التقدمة ولا يحق إلا للكهنة أن يأكلوا ذلك الخبز، ومذبح البخور كان قريباً من هذا المذبح، كان الكاهن عندما يدخل إلى مذبح البخور بينهُ وبين الشعب ستارٌ ثخينٌ وجميلٌ وغالي الثمن، الشعب لا يراه إنما يشعر بوجودهِ لأنهُ كان يتحلى بثياب الكهنوت وكان في أسفل بدلة الكهنوت أجراس، فإذا كان الكاهن حياً تُقرعُ هذهِ الأجراس أما إذا ضُرِبَ الكاهن لأنهُ لم يكُن طاهراً نقيَّاً ودخل هيكل الرب يكون الملاك قد ضربهُ فتسقط الأجراس حينذاك يعرف الشعب – قلنا أنَّ الستار لا يسمح للشعب أن يرى الكاهن – أن الرب قد ضربَ ذلك الكاهن لأنهُ لم يكن مستعداً لخدمةٍ كهنوتية نقيَّة، زكريا دخل إلى هيكل البخور وعطَّرَ البخور، والبخور وُجِدت علامة لصعود صلوات عبيد الرب إلى منبرهِ المقدس، وأخذت المسيحية أيضاً عادة تقديم البخور، ونقصد بذلك عندما عمَّ وباءٌ على بني إسرائيل أمر الله موسى أن يوصي هارون أن يأخذ المَبخرة ويضع البخور ويُعطِّر ذلك الشعب ليزول عنهُ الوباء، أحياناً أحبائي البخور في الكنيسة أغلب المؤمنين لا يعرفون ما هو وما معناه، إنهُ يحمل روح الصلوات والطلبات إلى الله، ولذلك نعمة عظيمة أنَّ آباءنا– ربما بعضنا يفهم هذا الشيء- عندما يُبخِّر الكاهن يُحاولون أن يأخدوا شيئاً من البخور بيدهِم ليُعطِّروا أنفسهم ليزول عنهم الوباء، لِتحُل عليهم النعمة لتصعد صلاتهم مع هذا البخور إلى السماء.
دخل زكريا لِيُعطِّر البخور وظهرت رائحة البخور للشعب ولم يرى الشعب زكريا كالعادة لأن الستار يحجبهُ عنهم، ثم رأى زكريا ملاك الرب جبرائيل عن يمين هيكل البخور، خاف.. مَن منا لا يخاف عندما يرى ملاكاً فجأةً، فهدَّأ الملاك من رَوعهِ قائلاً لهُ: لا تخف يا زكريا، إن طلبتك قد سُمعت وامرأتك إليصابات هذه العاقر ستلد لكَ إبناً تسميهِ يوحنا، يوحنا معناهُ الحنان والرحمة لأنهُ بهِ بدأ عهدُ الرحمة، بهِ انتهى العهدُ القديم عهد العدالة، العين بالعين والسن بالسن وبدأ العهد الجديد عهد الرحمة عهدُ الحنان.
هذا يكون عظيماً، ما سرُّ عَظَمتهِ ؟
يكون عظيماً خمراً ومُسكراً لا يشرب، هذهِ إحدى أسرار عَظَمة يوحنا أنهُ خمراً ومسكراً لا يشرب، ثانياً ويمتلىء من الروح القدس وهو في بطن أمهِ ثالثاً يبتهجُ بهِ يوحنا وكثيرون أيضاً سيبتهجونَ بميلادهِ، يوحنا هذا البشير الذي هيَّأ طريق الرب قال لهم أنهُ يأتي بروح إيليا بغيرتهُ ويُهيِّىء الطريق أمام الناس لكي يُؤمنوا بمسيا المُنتظر، الرب يسوع، يوحنا بأعجوبةٍ طبعاً، أمهُ كانت عاقراً لكن زكريا وهو كاهن ويعرف الكتاب المقدس ويعرف النبوات لا نعرف لماذا في تلك الساعة استغرب جداً، أنا شيخٌ وامرأتي عبرت أيامها فكيف يكون لي هذا، لم يذكر أن سارة زوجة ابراهيم كان عمرها مئة سنة عندما حبلت وولدت بعدئذٍ بإسحق.
هكذا نرى أن النعمة الإلهية عندما تحلُّ على الإنسان ينال هذا الإنسان بركة عظيمة من الرب، فصارهذا النسل الذي هو نسل ابراهيم نسل البَركة ونسل الموعد وهي كانت عاقر وكانت طاعنة في السن.
جبرائيل يُذكِّر زكريا بكل ذلك ويحكم عليهِ بأن يكون صامتاً لأنهُ لم يُصدِّق من أول لحظة ما بشرهُ بهِ الملاك، يقول لوقا أنهُ بعدَ أن انتهت نوبتهُ ذهبَ إلى بيتهِ وعرفَ امرأتهُ إليصابات معرفة زواج فحبلت إليصابات، ولِخجَلها اختفت عن الناس لم تُظهر نفسها للناس خمسة شهور وفي الشهر السادس أُعلِنت هذه البشارة عندما ظهر جبرائيل للعذراء مريم يُبشِّرها ويذكر لها أنها ستحبلُ وتلدُ إبناً تدعوهُ يسوع عمانوئيل ولكي يُثبِّت إيمانها قال لها الملاك جبرائيل هذا الشهر السادس لإليصابات التي تُدعى عاقراً، حينذاك أُعلنت هذهِ البشارة عن الحَبَل بيوحنا، عن حَبَل إليصابات بهذا الإبن العظيم وبعدئذٍ نرى لوقا أيضاً يُبشِّرنا كيفَ أنَّ العذراء مريم ذهبت إلى الجبال وزارت إليصابات وكيف أنها بقيت عندها بعض الوقت ثم عادت عندما آن الأوان لولادَت يوحنا.
أيها الأحباء الكتاب المقدس مليء بالعظات، بالعِبَر، بالإرشاد، بالنُصح بتقوية إيمان الإنسان بوجود الله بالعناية الإلهية بكل فرد من أفراد الناس حتى عندما نرى امرأة عاقر نتألم خاصة إذا كنا في عهد بني إسرائيل لأنهم كانوا يعتبرون أن مجيء المسيح هو النعمة العظيمة التي ستحل على البشرية وخاصة على الذين سيكون لهم علاقة في ولادة المسيح يسوع ولذلك نرى في هذهِ الحادثة كيف أن الله اعتنى بهذَين البارَّين، كُتِبَ عنهما عن زكريا وإليصابات أنهما كانا بارَّين يتمسَّكان بوصايا الرب ليس هذا فقط حتى في أحكامهِ ومعنى الأحكام هو الفروض، هذهِ عِبرة لنا ألا نتمسَّك فقط بشريعة الرب الإلهية بحسب الوصايا التي أُعطيت لنا بل أيضاً الفروض التي فُرضت علينا من صوم وصلاة وتقديم الصدقات، هذهِ الفروض أيضاً علينا أن نتمسك بها «أحكام الله» يقول عنها الإنجيل المقدس التي كانت تُمارس من إليصابات ومن زكريا الكاهن، وعندما نرى أيضاً أُناساً قد أُصيبوا بمصيبةٍ مؤلمة وبنعمةٍ لم ينالوها، علينا أن ننتظر ونرى أحكام الله وقضاءهُ وكل ما يريدهُ الله، هذا الشيء نراهُ لدى الله بعنايتهِ في الإنسان وعلينا أيضاً أن نصبِر كما جرى مع زكريا وإليصابات لأن الله رحيمٌ يعتني بكلِّ إنسان ولا ينسى أحد أبداً.
هذهِ الحِكَم أيها الأحباء تُقوي في قلوبنا الإيمان بأن الله لابدَّ أن يكون مع الصديقين والأبرار وإن ظهروا للناس كأنهم في شقاء وكأنهم في آلام لكن أحكام الله لا يدركها الإنسان أبداً.
وصلاتنا إلى الله أنهُ كما استجابَ إليصابات وزكريا الكاهن كذلك يستجيب كل مؤمن ومؤمنة لكي يُزيل عنهم العار والخطية ويزيل عنهم أيضاً كل الشدائد، بالصبرِ يستطيع الإنسان أن يكتسب حياة البر وينال ما يريدهُ الله أن ينالهُ من نِعمة عظيمة.
ليستجيب الرب طلباتكم بشفاعة إليصابات وزكريا الكاهن وجميع الأبرار والقديسين آمين.
بشارة العذراء مريم
بشارة العذراء مريم
بشـارة العــذراء مـريــم (1)†
«فدخل إليها الملاك وقال لها: السلام لكِ أيتها الممتلئة نعمة الرب معكِ مباركة أنتِ في النساء. لا تخافـي يا مريم، إنكِ قد وجدتِ نعمة عند الله وها أنتِ ستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع. هذا يكون عظيماً وابن العلي يُدعَى ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية»
(لو 1 : 28-33)
كلّكم أيها الأحبّاء ترددون ما تعلمتموه من أمهاتكم ومن الكنيسة، ترددون السلام الملائكي، تحيّون به العذراء مريم ولكن ليس الجميع يعلمون أن ذلك السلام الملائكي إنما اقتبسته الكنيسة المقدسة مما فاه به الملاك جبرائيل وهو يبلغ رسالة السماء للعذراء مريم، وأضافت الكنيسة أقوالاً نبوية إلهية قالتها أليصابات أيضاً للعذراء مريم، وتطلّعت الكنيسة إلى العذراء فرأتها شفيعة لها لأنها استحقّت أن تكون والدة لله، لذلك تتشفّع بها وتطلب معونتها خاصة في ساعة فراق الإنسان المؤمن لهذه الحياة.
السلام لكِ أيتها الممتلئة نعمة، ما أسمى هذا السلام في زمن كان الخصام فيه، شديداً جداً ما بين الإنسان والإنسان وبين الأرض والسماء. الله كان قد أعلن أن روحه لا تحل على ذي بشر لأن الإنسان نجس، ولكن في الوقت نفسه الله الذي يبغض الخطية لا يبغض الإنسان الخاطئ لأنه هكذا أحب الله العالم (الله يحب العالم)، ولئن كان العالم خاطئاً حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية كما يقول الإنجيل المقدس. فإذا أحب العالم يحبه ككل، الخطاة والأبرار معاً، السماء تفرح بخاطئ واحد يتوب لذلك إذ ابتعد الإنسان عن الله بارتكابه الخطية الجدية أصبح وهو بعيد عن الله يتطلّع إلى رحمة الرب والرب برحمته أعطاه المواعيد أن سينال الخلاص والمواعيد كثيرة، بدءاً من سقطة الإنسان، والمواعيد كلّها تعلن لنا أن امرأة ستلد ابناً، نسلها يسحق رأس الحية الدهرية أي إبليس، والمرأة يوضّحها لنا إشعياء في القرن السابع قبل الميلاد تكون عذراء وتمّت الأيام، قرائن الزمان والمكان تدلّنا على أن نبوءة النبي دانيال قد آن أوان إتمامها. كان هناك ملاك قد أعلن لدانيال وحدد المدة التي يكون فيها الخلاص قبل خمسة قرون من مجيء المسيح، الناس ينتظرون ذلك الموعد بالذات وجبرائيل هو الذي أعلن ذلك لدانيال، وجبرائيل (جبّار الله) هذا معنى اسمه كأني به قد نال نعمة من الرب فاختصّ بحوادث العهد الجديد فبشّر دانيال بقرب مجيء المخلّص فقط خمسة قرون، والزمن لا شيء بالنسبة إلى الله، وعندما آن الأوان رأينا جبرائيل يبشّر زكريا بميلاد يوحنا السابق للمسيح، وبعد ستة أشهر أُرسل إلى مدينة بسيطة إلى الناصرة التي قيل عنها في تلك الأيام: «أمن الناصرة يخرج شيئاً صالحاً»، إلى بيت بسيط، إلى بيت يوسف النجار خطيب العذراء مريم، إلى عذراء بسيطة فقيرة يتيمة التي كانت سليلة الكهنة والملوك والأنبياء، قد اختارها الله لتكون والدةً لابنه الحبيب، لتلده بالجسد بطهرها ونقائها وروح الله الذي لا يحل على إنسان بحسب قول الرب في العهد القديم لأن الإنسان نجس. الروح القدس تهيأ ليحل على العذراء، سلام أُعطي لها، خافت: كيف يكون لي هذا وأنا لا أعرف رجلاً، تقول لجبرائيل، ويعلن لها جبرائيل الحقيقة الإلهية: الروح القدس يحلّ عليكِ وقوة العلي تظللك لذلك أيضاً فالقدوس المولود منكِ يدعى ابن الله. آباؤنا ملافنة الكنيسة العظام يقفون عند هذه الحقيقة بتعجب، ولكن الروح يلهمهم فنسمع يعقوب السروجي مثلاً يقول: إن الملاك أرسل من الآب ليبشّر العذراء، وإنّ الروح القدس نقّاها: (دخيذ ومرقذ كن آجن بذ) نقّاها وطهّرها ثم حلّ بها. يعني ذلك أن الروح الذي لا يحل على ذي بشر لأنه نجس قد حلّ على العذراء بعد أن نقّاها من الخطيئة الأصلية، والعذراء ولدت كسائر الناس تحت حكم الخطية الجديّة، ولكن عندما آن الأوان ليحل في أحشائها نار اللاهوت نقّاها الروح القدس وطهّرها وأهّلها لكي يحل نار اللاهوت في أحشائها كما حلّت النار في العوسجة التي ظهرت لموسى، فظهرت ملتهبة ولكن لم تحرقها، فاستحقت العذراء بعد أن قالت للملاك ها أنا أمة للرب ليكن لي كقولك، استحقت أن تكون والدة الله وأم الرب كما دعتها أليصابات، استحقت هذه النعمة العظيمة التي هي مسؤولية كبيرة أيضاً وتحمّلت في سبيل قبولها هذه النعمة الآلام والأوجاع والمشقّات والعذاب كما يتحمّل الصدِّيقون والأبرار في هذه الحياة التي لم يعدنا الرب أن نكون في سعادة دنيوية فيها، بل أعدّ لنا السعادة في السماء. فاستحقت العذراء ذلك واستحقّت أن يطوّبها كل من يؤمن بابنها الحبيب لأنها تنبّأت أيضاً عن نفسها: هوذا منذ الآن تعطيني الطوبى جميع الأجيال لأن القدير صنع بي عظائم، وأعظم أعجوبة لها وفيها ومن أجلها أنها وهي بشر حملت نار اللاهوت وولدت ابن الله، الذي دعاه الملاك قدوساً وابن العلي يُدعى، والذي أعطي مُلك داود أبيه، وهو يملك على بيت يعقوب إلى الأبد وليس لمُلكه انقضاء.
في هذا اليوم أحبائي إذ تذكر الكنيسة بشارة الملاك للعذراء مريم بالحبل بالرب يسوع مهيّئة عقولنا وقلوبنا قبل أن نعيّد عيد ميلاد ربنا لنتقبّل هذه الحقيقة بإيمان لنطوّب العذراء مريم، لنعطيها السلام مكررين ذلك مع جبرائيل الملاك: السلام لكِ أيتها الممتلئة نعمة، نعمة الرب معكِ مباركة أنتِ في النساء، مبارك ثمرة بطنكِ يسوع. ونطلب إليها أيتها القديسة مريم يا والدة الله صلّي لأجلنا نحن الخطاة، الآن وفي ساعة موتنا آمين، ونعمته تشملكم دائماً أبداً آمين.
تعيد أيها الأحباء الكنيسة المقدسة بأحد تقديس الكنيسة وباحتفالها هذا تريد أن تؤيد الاعتراف الذي فاه به الرسول بطرس جواباً لسؤال الرب يسوع لتلاميذه: «ماذا يقول الناس عني إني أنا» (متى 16:16) وتريد الكنيسة أيضاً أن تثبت أنها قد أسست على صخرة الإيمان بالرب يسوع والمسيح يسوع الذي هو رأس الزاوية وهو رأس الكنيسة وهي جسده السري ولذلك هي ثابتة إلى الأبد وأبواب الجحيم لن تقوى عليها. كان قد مرّ على بدء التدبير الإلهي العلني بالجسد مدة سنتين ونصف السنة والناس حيارى يرون شاب الناصرة يجترح الآيات والمعجزات ويعلم الناس طريق الحياة يلقي عظاته كمن له سلطان وليس كالكتبة والفريسيين كما كانوا يقولون عنه، ولكن هل هو ماشيحا المسيح المنتظر لقد ارتكبت الأمة اليهودية جريمة كبرى لأنها لم تعرف زمن افتقادها ولم تعرف مسيحها فهلكت إلى الأبد، ولكن المسيح صرّح للعالم بأنه جاء مخلصاً للعالم وها نحن نسمعه يسأل تلاميذه عن رأيهم فيه، ذكروا له أن الناس تظن أنه أحد الأنبياء ولكن ماذا تقولون أنتم عني إني أنا يجيبه بطرس أنت هو المسيح ابن الله الحيّ يقول له يسوع طوبى لك يا سمعان ابن يونا إن لحماً ودماً لم يعلن لك ذلك لكن أبي الذي في السموات وأنا أقول لك أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها أسس المسيح كنيسته على المبدأ الإيماني العقيدي السامي أنه هو ابن الله ولذلك لا يمكن أن تتزعزع لأنه وعدها أن يكون معها إلى أبد الدهر وأن أبواب الجحيم لن تقوى عليها.
بشـارة العــذراء مـريــم (2)†
«فدخل إليها الملاك وقال لها: السلام لكِ أيتها المنعم عليها الرب معكِ مباركة أنتِ في النساء. لا تخافـي يا مريم، إنكِ قد وجدتِ نعمة عند الله وها أنتِ ستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع. هذا يكون عظيماً وابن العلي يُدعَى ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية»
(لو 1 : 28-33)
أيها الأحباء: الطقس الكنسي في هذا اليوم يذكر بشارة السيدة العذراء بالحَبَل الإلهي، وهذا الأحد ليس هوعيد البشارة بل أحد البشارة، أحد الآحاد التي تسبق عيد الميلاد، والكنيسة عَنَت بذلك أن تُهيِّىء قلوبنا وأفكارنا لتَقَبُّل سر التجسد الإلهي وميلاد الرب يسوع الذي هو الله ظهر بالجسد.
والإنجيل الذي تُليَ على مسامعكم في بدء القداس، الإصحاح الأول من بشارة البشير لوقا فيهِ سمعنا عن الملاك جبرائيل الذي جاء إلى الناصرة إلى مدينة صغيرة واعتُبِرت أيضاً حقيراً بالنسبة إلى ذلك الجيل لأنهم لم يكونوا يتصوَّرون أنَّ هذهِ القرية أو المدينة الصغيرة ستنال شرفاً عظيماً حيث سيولد فيها الرب يسوع أو يتربى وينشأ ويُدعى ناصرياً.
رأينا جبرائيل الذي ندعوهُ ملاك العهد الجديد بعد أن انقطعت السماء عن إعلان الحقائق الإلهيَّة لأبناء الأرض مدة طويلة، رأيناهُ يأتي إلى بابل حيثُ كان بنو إسرائيل قد سُبوا إلى تلك المدينة العظيمة الشهيرة وكانوا تحت حكمٍ قاسيٍ جداً، كان هناك بين المسبيِّين شخصٌ تقيٌّ يخاف الله يُصلي في اليوم ثلاث مرات يفتح كوَّةَ دارهِ متَّجهة نحو أورشليم ينتحب ويبكي ويطلب من الرب متى ينتهي السبي ويعود الشعب إلى مدينتهِ، إلى هيكلهِ، إلى ذبائحهِ وقرابينهِ، ويأتيهِ الملاك جبرائيل ليُعلن لهُ أنَّ الله قد حتَّمَ ليس فقط بإعادة الشعب إلى مدينته ِبل بإعادة الإنسان إلى وطنهِ الأول إلى فردوس النعيم يُبشِّرهُ بأن المخلص سيأتي، المخلص الذي أُعلِنَ في النبوات وأخبرَ عنهُ الأنبياء بوحيِ السماء، الذي عندما سقطَ الإنسان في الخطيئة جاءهُ الخبرُ من السماء بل أعلنَ الله في تلكَ اللحظات أن نسل المرأة يسحق رأس الحية أي إبليس وهذا النسل لا الأنسال كما يقول الرسول بولس كانَ المسيح بالذات الذي ليسَ إبنَ الإنسان فقط بل وُلدَ من إمرأة بدون زرعِ رجل.
جبرائيل يُعلن هذهِ الحقيقة في إشعياء أنَّ هذهِ المرأة هي بتول، فيُعلن إشعياء نبوةً عظيمة قبلَ أن يأتي جبرائيل إلى دانيال ويقول: «هوذا العذراء تحبل وتلدُ إبناً وتدعوهُ عمانوئيل الذي تفسيرهُ الله معنا».
أما جبرائيل عندما أتى إلى بابل أعلن للنبي دانيال عن مجيء مسيَّا المسيح المخلِّص وحدَّدَ لهُ الوقت والزمان بمدة خمسمئة عام منذُ ذلك التاريخ، النبوة التي ندعمها نبوة الأسابيع السبعين، سبعون أسبوعاً قُضيت على مدينتكَ وعلى شعبكَ.
يُعلن ذلك ليضع جبرائيل دانيال موضع نبوة عظيمة وأمل ورجاء ثابت لهذهِ الأسابيع السبعين لأنَّ الإنسان كان قد ظنَّ أن الزمان قد طال، أينَ هو مسيَّا، أينَ هو المسيح، أينَ هو المخلِّص، والإنسان يرزح تحتَ ثقل خطاياهُ وأثامهُ يومياً، يوماً بعدَ يوم تزيد هذهِ الآثام.
ومضت الدهور إثرَ الدهور والإنسان بانتظار وأُعلنت هذهِ النبوة وعرفَ بها كل إنسان، أولاً النبوة التي أعلنها إشعياء عن العذراء التي تلد، ثانياً نبوة المدة الزمنية عن الأسابيع السبعين، ثم امتنعت السماء عن الكلام مع الأرض رغم أننا نحنُ رأينا النبوات عبر الدهور والأجيال تظهر للإنسان وتقوي الرجاء في قلبهِ.
أخيراً نرى جبرائيل الذي سمَّيناهُ ملاك العهد الجديد ملاك التجسُّد بعدَ أن يُعلن تلك الحقيقة عندما آن الأوان وتقريباً تمَّت الأسابيع السبعون يقف كما قلنا أيضاً في الأحد الماضي عن يمين هيكل البخور ليُبشِّر زكريا بولادة يوحنا السابق للرب يسوع الذي أُظهِر بغيرة إيليا ليُبشر الشعب ويُعيدهُ إلى الله قبل مجيء المسيَّا.
بعدئذٍ أيها الأحباء نرى جبرائيل في بيتٍ بسيط كما يقول طقسنا السرياني أنَّ هذهِ العذراء كانت تصلي، كانت مخطوبة لرجل إسمهُ يوسف، العذراء بخلاف ما يقول بعضهم لم تكن قد نذرت البتولية لأنهُ لم يكن في ذلك الزمان نذور كهذه وكانت كل فتاة في إسرائيل تتمنى أن تتزوج وتتمنى أن يولد منها المخلِّص الذي يُخلِّص العالم لذلك لم يكن هناك نذور بتولية أبداً، العذراء كانت ربيبة الهيكل، هي من نسل داود حسب النبوات أيضاً وكان خطيبها أيضاً من نسل داود وكانت العادة في تلك الأيام أن الفتاة اليتيمة الكهنة يتبنوها وعندما يحين وقت زواجها هم يهتمون بذلك، وألقوا قرعة بين أولئك الأقرباء الذين يحق لهم أن يتزوجوا هذهِ الفتاة فكانت من نصيب يوسف.
هل كان يوسف أرملاً .. هل كان بتولاً ؟ كل هذا لا يُوضَّح إنما يوسف اختيرَ من الله أن يكون خطيباً للعذراء مريم وكان لابد أن يكون خطيب لها لكي يصون هذهِ العذراء من الناس الظالمين الذين بعدئذٍ عندما ولدت الرب يسوع اتَّهموها أيضاً إتهاماً باطلاً، لذلك أيها الأحباء يوسف كان حارساً لبتولية العذراء، والعذراء عندما بشرها الملاك أعطاها السلام، حيَّاها: السلام لكِ أيتها الممتلئة نعمةً الرب معكِ مباركة أنتِ في النساء، خافت العذراء مريم من ظهور الملاك، لا تخافي يا مريم قال لها الملاك إنكِ ستحبلين وتلدينَ إبناً وتُسمينهُ يسوع هذا يكون عظيماً وابن العليّ يُدعى ويُعطيهِ الرب الإله كرسي داود أبيه ويملك على آلِ يعقوب إلى الأبد ولا يكون لمُلكهِ إنقضاء.
العذراء تسأل السؤال، كيفَ يكون هذا وأنا لا أعرف رجلاً؟ فيشرح لها: الروح القدس يحُلُّ عليكِ وقوة العليّ تُظلِّلُكِ لذلك فالقدوس المولود منكِ يُدعى إبن الله، حالاً العذراء قالت: ليكن لي كقولك.
كل نعمة ننالها من ربنا إذا لم نقبلها بإرادتنا لا نستحقها فتزول عنا، فلو لم تكن العذراء مريم بإرادتها وتقول بكل وضوح أنها قبلت بهذا الأمر ليكن لي كقولك لَما كان سرُّ التجسد من العذراء.
طبعاً سنرى في الآحاد القادمة عن شكوك يوسف ونرى أيضاً بعدئذٍ عن ميلاد الرب يسوع السر العظيم سر التجسد الإلهي، عن الرب الذي ظهرَ حقاً بالجسد وهو الله ، نرى كل ذلك ونؤمن مع العذراء مريم ونؤمن أنها كانت تحفظ الكلام بقلبها لأنها كانت في صلاة مستمرة مع الله.
هذهِ هي العذراء مريم التي تعلَّمنا من الملاك أن نُعطيها الطوبى وهيَ نفسها قالت بعدَ ذلك هوذا منذ الآن تُعطيني الطوبى جميع الأجيال لأنَّ القدير صنعَ بي عَظائم واسمهُ قدوس ورحمتهُ إلى جيل الأجيال للذين يتَّقونهُ. فنحنُ نُحيِّييها في ختام كل صلاة، نُكرِّرُ السلام الذي قالهُ لها الملاك جبرائيل السلام لكِ يا مريم الممتلئة نعمة الرب معكِ مباركة أنتِ في النساء، وهذهِ العبارة قالتها أيضاً بعدئذٍ إليصابات عندما زارتها العذراء مريم وقالت من أينَ لي هذا أن تأتي أمُّ ربي إليَّ، أعلنت أنَّ العذراء مريم هي أم الرب بل هي والدة الرب والدة الإله كما قال آباؤنا وعلَّمونا بوحيِ السماء.
فهذا اليوم يوم البشارة أو أحد البشارة الذي يُهيِّىءُ عقولنا جميعاً لتقبُّل سر التجسد الإلهي، هذهِ العقيدة السامية أساس كلِّ العقائد المسيحية.
ليكن هذا اليوم مباركاً عليكم أحبائي ليملأ الرب فيهِ وفي كل يوم قلوبنا بالإيمان بأنَّ الله ظهرَ بالجسد وأنَّ العذراء التي كانت عذراء قبلَ الولادة وفي الولادة وبعدَ الولادة، هذهِ العذراء الممتلئة نعمة هيَ تكون شفيعة لنا في حياتنا وحتى عندَ مماتنا كما نُصلي السلام لكِ يا مريم ونطلب منها أن تكون معنا وتُقوينا في ساعة موتنا ومُغادرتنا هذهِ الحياة في تلكَ الساعة الرهيبة نحتاج إلى مَن يُصلي لأجلنا ونِعمَ مَن يُصلي لأجلنا هو العذراء مريم.
لِتُبارككم السماء بصلاة العذراء مريم أيها الأحباء وكل عام وأنتم بخير.
زيارة العذراء إلى اليصابات
زيارة العذراء إلى اليصابات
زيارة العذراء إلى اليصابات (1)†
«فقامت مريم في تلك الأيام وذهبت بسرعة إلى الجبال إلى مدينة يهوذا ودخلت بيت زكريا وسلّمت على أليصابات»
(لوقا 1: 39 – 40)
الكنيسة المقدسة أيها الأحباء في هذا اليوم المبارك تذكر في طقسها الكنسي زيارة العذراء لنسيبتها أليصابات، أو كما نلفظ الاسم بالسريانية أليشبع، هذه الزيارة ليست فقط زيارة تاريخيّة مهمّة، بل أيضاً جزء لا يتجزّأ من الحوادث العجيبة التي سبقت ميلاد الفادي. مريم العذراء الفتاة التي بشّرها الملاك بالحبل الإلهي سألت: كيف يكون هذا وأنا لا أعرف رجلاً. ويفسِّر لها الملاك: إن هذا الحبل العجيب هو من الروح القدس وأنه ليس صعباً على الله أن يحدث أمر عجيب كهذا، بل ضرب لها مثلاً نسيبتها أليصابات التي هي الأخرى حُبلى بابن في شيخوختها وهذا هو الشّهر السادس لتلك المدعوّة عاقراً كما قال الملاك للعذراء مريم. ذهب الملاك وبدأت تفتكر فيما سمعت وتاقت لزيارة نسيبتها لأسباب كثيرة أنكر بعضها بعض المفسِّرين المتطرّفين الذين ظنّوا أنه من العار على العذراء مريم أن تبيح بسرِّها لنسيبتها أليصابات، ولكننا نحن نرى العذراء مريم ولئن حلّ عليها الروح القدس وطهّرها ونقّاها وأهّلها ليحلّ في أحشائها، اللاّهوت بالذات ليجبل من دمائها جسداً للابن الوحيد ليولد إنساناً كاملاً وهو الإله الكامل، ولكننا في الوقت نفسه لا نجرِّد العذراء من إنسانيّتها، فهي فتاة وهي بحاجة ماسّة إلى أم، إلى صدر أم تسند إليه رأسها وتبيح بسرِّها العجيب، فليس لها إلاّ أن تذهب إلى نسيبتها وهي يتيمة الوالدين لتبيح لها بسرِّها وتسمع إلى نصائحها.
في ظرف صعب على الفتاة كهذا الظّرف ذهبت مسرعة إلى الجبال، إلى مدينة يهوذا يُقال أنها (عين كارم) أو غيرها تبعد مائة كيلومتر عن أورشليم. قضت ساعات وأيّام ووصلت إلى هناك. دخلت بيت زكريا وسلّمت على أليصابات. زكريا كان صامتاً لأن الملاك عاقبه لقلّة إيمانه أن يبقى صامتاً حتّى ولادة يوحنا. أليصابات عندما صار صوت سلام العذراء في أذنَيها ارتكض الجنين في أحشائها، وصرخت بصوت عظيم يقول لوقا قائلة للعذراء:مباركة أنتِ في النساء ومبارك ثمرة بطنكِ. من أين لي هذا. -أي من أين لي هذه النعمة العظيمة والكرامة والاحترام- أن تأتي أم ربي إليَّ. عندما صار صوت سلامكِ في أذنيّ ارتكض الجنين بابتهاج في بطني فطوبى لمن آمنت أن يكون لها ذلك من الله. فما أعظم هذه الكلمات وما أسماها، امرأة طاعنة في السن ولئن كانت امرأة كاهن، ولئن كانت تقرأ الكتاب وتتأمّل في النبوّات، ولكن يستحيل على امرأة أو على إنسان أن ينطق بكلام سماوي كهذا ما لم يكن الروح القدس ينطق فيه، فهذا كلام السماء وعقيدة سمحة أعلنتها أليصابات أن العذراء هي أم الله، فقالت: من أين لي هذا أن تأتي أم ربّي إليّ. وإذا كانت السماء قد أعلنت هذه العقيدة فما علينا إلاّ أن نجثو أمام العزّة الصمدانية ونقبل بهذه الحقائق الإلهية، فالعذراء إذ هي أم الرب، هي أم الله كما قالت أليصابات والعذراء المتواضعة الوديعة القديسة العفيفة الطاهرة امتلأت تواضعاً وهي مملوءة بالروح القدس، فقالت أنشودتها الخالدة التي سبقت فيها أباها داود في كل مزاميره وترانيمه فقالت مريم:تعظّم نفسي الرب، تبتهج روحي بالله مخلّصي لأنه نظر إلى تواضع أمته –وتنبّأت مريم- فهوذا منذ الآن تعطيني الطوبى جميع الأجيال لأن القدير صنع بي عظائم واسمه قدوس ورحمته إلى جيل الأجيال للذين يتّقونه. واسترسلت العذراء وهي تذكر كلمات السماء بالذات وقد نطق بها الروح القدس لتعلن أنها ولئن استحقّت بنعمة الرب أن تكون أماً لله، ولكن ذلك قد حصل لها لتواضعها فهي أمة للرب. وبرهنت وهي تلخّص التاريخ المقدس أن الله يرفع الأعزاء عن الكراسي، إن الله يرذل المتكبرين، أن الله يختار المتواضعين ويجلسهم مع عظماء الشّعب. هذه العذراء مريم أيها الأحباء التي أعلنت لنا أيضاً أن الأجيال تطوّبها ونحن نطوّبها وقد اقتبسنا جزءاً من كلمات الملاك إليها وهو يعطيها السلام:السلام لكِ أيتها الممتلئة نعمة، وجزءاً من كلمات أليصابات إليها قائلة:مباركة أنتِ في النساء ومبارك ثمرة بطنكِ، وكمّلنا ذلك لنعطي السلام دائماً للعذراء إتماماً لنبوّتها أن الأجيال تطوّبها.
إن العذراء بزيارتها لأليصابات علّمتنا التواضع وهي تعلم أنها أم الله كما ذكر لها ذلك الملاك أيضاً:إن المولود منها قدوس وابن العليّ يُدعى، وكما أكّدت لها أيضاً بعدئذ أليصابات، ومع هذا جاءت مسرعة إلى الجبال إلى مدينة يهوذا لتقدّم التهنئة لنسيبتها أليصابات إذ زال العار عنها وعن دارها وإنها حُبلى بابن. كما أننا نتعلّم كيف أن علينا اجتماعياً وإنسانياً قبل أن يكون روحيّاً الاشتراك مع غيرنا بأفراحهم وليس من الهيّن أن يفرح الإنسان مع غيره، قد يكون من الهيّن أن يحزن معه على مصيبة أصابته ولكن الفرح لنجاح الآخرين صعب على الإنسان، إلاّ على الذين هم أبرار وأتقياء ويحبّون الله ويحبّون نجاح الآخرين كالعذراء مريم. ونتعلّم أيضاً كيف أننا بزيارتنا للآخرين علينا أن يكون حديثنا حديث السّماء، الحديث المقدس لكي نهيّئ أنفسنا لينطق الروح القدس فينا، ألم يقل لنا الرب يسوع:حيث اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فأنا أكون بينهم، فإذا اجتمعنا باسم الرب يسوع يكون بيننا، ويكون الروح القدس يرشدنا ويعلّمنا ويذكّرهم ويذكّرنا بما قاله المسيح لتلاميذه وبذلك قد قاله لنا أيضاً، فيكون حديثنا حديث السماء ولنحوّل الأرض إلى سماء كما فعلت العذراء ونسيبتها أليصابات. ومكثت العذراء عند أليصابات ثلاثة أشهر ثم عادت إلى دارها.
ليبارككم الرب بدعاء وصلوات أمنا العذراء مريم والقديسة أليصابات لتقتدوا بهما بالطهر والنقاء وتنالوا نِعماً عظيمة كما نالتا لتحوّلوا دوركم العامرة إلى سماء ليكون فيها الروح القدس معلّماً ومرشداً ويكون فيها المسيح رأساً وتكون أحاديثكم لا في اغتياب الناس وثلب سمعتهم ودينونتهم، بل لتمجيد الله القدوس ويبارككم إلهنا آمين.
زيارة العذراء إلى اليصابات (2)†
«وقامت مريم في تلك الأيام وذهبت بسرعة إلى الجبال إلى مدينة يهوذا ودخلت بيت زكريا وسلّمت على أليصابات»
(لو 1: 39-40)
يحيا القديسون والأبرار والأتقياء حياة مخافة الله. الحياة التي تملأ قلوبهم فرحاً وبهجةً وسروراً كما يقول صاحب المزامير وهو يصف الصالحين: أن مسرّتهم بالرب وفي ناموس الرب يلهجون ليلاً ونهاراً. هذه هي حياة البر أن التقي يفرح بالله لأنه بسلام معه تعالى وبسلام مع نفسه وبسلام مع الإنسان، ويتزاور القديسون، يزور أحدهم الآخر ويتجاذبون أطراف الحديث، والحديث ذو شجون فتارةً يكون الحديث مفرحاً وتارةً يكون مؤلماً ومحزناً، إنّما ينال القديسون العزاء والبهجة والفرح بوجود الرب يسوع بينهم كوعده الإلهي القائل: إذا اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فأنا أكون بينهم.
أيها الأحباء:
تحتفل الكنيسة المقدسة اليوم بذكرى زيارة العذراء مريم لأليصابات. هذه هي إحدى زيارات القديسين للقديسين، هذه الزيارة التاريخية المباركة تعلّمنا دروساً ثمينة ونفيسة، فآباء الكنيسة القديسون عندما وزّعوا فصول الإنجيل المقدس على آحاد ما قبل الميلاد لكي يهيئوا عقولنا وقلوبنا لتقبّل السر الإلهي، سر التجسّد، يذكرون في هذا الأحد زيارة العذراء لأليصابات، العذراء مريم الفتاة التي عرفناها يتيمة فقيرة مسكينة بسيطة ولئن كانت سليلة الملوك والكهنة والأنبياء، الطفلة التي رأيناها في الهيكل مذ كان عمرها ثلاث سنوات، التي تربّت على جداول مياه الله الحيّة ونشأت عفيفة طاهرة قديسة، الفتاة التي اختارها الله لتكون والدةً وأماً لابنه الوحيد. العذراء مريم نذكر كيف أن الملاك جاء يبشّرها، قال لها: أيتها الممتلئة نعمة، الرب معكِ مباركة أنتِ في النساء، إنّك ستحبلين وتلدين ابناً وتسمّينه يسوع، هذا يكون عظيماً وابن العلي يدعى ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، وسمعناها تتساءل، لا تحتج: كيف يكون لي هذا وأنا لا أعرف رجلاً، ويجيبها الملاك: الروح القدس يحل عليكِ وقوة العلي تظللك فالقدوس المولود منكِ يُدعَى ابن الله، ويأتي ببرهان ليثبّت إيمانها وتصديقها كلامه فيقول لها: هوذا أليصابات نسيبتكِ هي الأخرى حبلى بابن في شيخوختها، وهذا هو الشهر السادس لتلك المدعوّة عاقراً لأنه ليس شيء غير ممكن لدى الله. تتذكّر مريم هذه العبارة أنها قد رضيت بما شاء الله أن ينعم عليها وهي الممتلئة نعمة بقوّة الله وقالت: ها أنا أمة الرب فليكن لي كقولك، ولكنها في الوقت نفسه افتكرت بنسيبتها أليصابات، لابد أن تقوم بزيارة لتلك النسيبة، هذه الزيارة لا لتثبت إيمانها فقط بما قاله الملاك ولكن قد هي قد شعرت بالقوة الإلهية تحل فيها، حيث أن اللاهوت حلّ في أحشائها وناره لم تحرقها، وجَبَل من دمائها جسداً كاملاً، ولكنها أرادت أن تشارك نسيبتها البهجة والفرحة بما أنعم الله عليها هي الأخرى. قال لوقا: قامت في تلك الأيام وذهبت بسرعة إلى الجبال إلى مدينة يهوذا، إلى مدينة حبرون وتُدعى اليوم مدينة الخليل، وكانت مّدة السفر في تلك الأيام بين الناصرة وتلك المدينة خمسة أيام سيراً على الأقدام، قطعتها مريم ودخلت بيت زكريا، ذلك البيت المقدس، بيت الكاهن الذي قيل عنه وعن امرأته أليصابات أنهما كانا بارَّين، يتمسّكان بوصايا الله وفرائضه، هذا البيت الذي كانت تفوح منه رائحة القداسة والبر، دخلته العذراء لتباركه، استقبلتها أليصابات ويقول لوقا أنها سلّمت على أليصابات وأليصابات عندما سلّمت العذراء عليها حلّ الروح القدس على اليصابات وصرخت ـ يقول الإنجيلي لوقا ـ صرخت بصوت عظيم وقالت للعذراء: من أين لي هذا أن تأتي أم ربي إليَّ، هوذا من أن صار صوت سلامك في أذنيَّ ارتكض الجنين في بطني، طوبى للتي آمنت بما قيل لها من قبل الرب. ما أعظم هذا الكلام أيها الأحباء!! امرأة شيخة كانت عاقراً فأنعم الله عليها فحملت في شيخوختها ابناً قيل عنه يوم بشّر الملاك أباه بولادته أنه يمتلئ من الروح القدس وهو في بطن أمه كان عمره كجنين ستة أشهر فقط وقد امتلأ من الروح القدس، نبّهه الروح أن والدة الإله مريم التي حملت اللاهوت في أحشائها جاءت إليه فارتكض، لا كما تتحرك الأجنّة في بطون أمهاتهم، ارتكض بابتهاج يقول لوقا، طبعاً لوقا هو موحد لا يمكن أن يذكر أن يذكر عبارة أليصابات ما لم يكن قد استقاها من مصدر موثوق به، قد تكون العذراء مريم بالذات أو من أليصابات التي عندما حلّ عليها الروح قد نطقت بكلام يفوق إدراكها، وهذه تماماً حالة الأنبياء الصادقين الذين قد يعلنون أموراً لا يفهمونها لأنها أعلنت لهم من الله وعليهم أن يبلغوها للشعب، مباركة أنتِ في النساء من أين لي هذا أن تأتي أم ربي إليَّ. إنها أم الرب، ومن لا يعتقد منّا كمسيحيين أن العذراء والدة الإله المتجسِّد وهي أم الله المتجسّد، فإنه ليس بمسيحي فقد أنكر ذلك نسطور فحرمته الكنيسة في مجمع أفسس سنة /431م/ ورفضت آراءه وأعلنت مع أليصابات وبعدئذٍ مع بطرس والرسل والكنيسة أن المسيح هو ابن الله وأن العذراء مريم هي أم الرب، أم الله ولذلك نطوّبها، والعذراء مريم وقد سمعت كلاماً عظيماً كهذا ازداد تواضعها فقد تواضعت أوّلاً عندما جاوبت الملاك ها أنا أمة الرب ليكن لي كقولك وقبلت النعمة، والحقيقة الإلهية التي تعلنها الكنيسة أن الله عندما ينعم علينا بمواهب من نِعم سماوية لا نستحقّها ولكن نعمة منه أيضاً أن لا ننال تلك النِعَم ما لم نقبل بها، فالعذراء قبلت هذه النعمة وقالت: ها أنا أمة الرب، وعندما أُعلنت لها الحقيقة التي كانت قد سمعتها من الملاك قالت مريم: «تعظّم نفسي الرب»، هذا النشيد الذي فاق كل الأناشيد التي نظمها داود أبوها: «تعظّم نفسي الرب، تبتهج روحي بالله مخلّصي لأنه نظر إلى تواضع أمته فهوذا منذ الآن تعطيني الطوبى جميع الأجيال لأن القدير صنع بي عظائم واسمه قدوس ورحمته إلى جيل الأجيال للذين يتّقونه». ما أسعد الذين يتقون الله، إنهم ينالون رحمته ويبتهجون به دائماً أبداً. زارت العذراء أليصابات نسيبتها، هنّأتها وابتهجت معها وأعطتنا قدوةً لكي نتزاور وبزيارتنا وخلال تلك الزيارة أن يكون حديثنا حديث العذراء وأليصابات لنمتلئ نحن أيضاً فرحاً وسروراً بالرب. إننا بشر ونخطئ كثيراً، كثيراً ما تكون أحاديثنا غير روحية وقد ندين الآخرين وكأننا إن دنّا الآخرين نبرّر أنفسنا، وكثيراً ما تكون أحاديثنا في أباطيل هذه الدنيا ولكننا أيضاً نعود إلى أنفسنا نرى أننا جسد ونرى أننا ضعفاء تجاه الخطية، ولكننا أيضاً نشكر ربنا الذي ينعم علينا بالتوبة.
تعظّم نفسي الرب قالت العذراء مريم، وكثيراً ونحن نصلّي وهذه الصلاة عظيمة ولكننا نطلب من الرب الأمور الدنيوية، قلّما نشكر الرب على ما أنعم علينا روحياً وجسدياً. ألم نقرأ في الإنجيل المقدس عن البرص العشرة الذين طهّرهم الرب وشفاهم وذهبوا وعاد واحد فقط ليشكر الرب وكان هذا الواحد غريباً، لم يكن يهودياً، فقال له الرب: أين التسعة الآخرون؟ فصلاتنا يجب أن تمتلئ بالشكر للرب إلهنا على ما ينعم علينا وعندما يزور بعضنا بعضاً يجب أن تكون هذه الزيارة سبب عزاء للآخرين ونعمة وبركة للدور التي نزورها بهذا فقط نكون قد جعلنا العذراء مريم مثالاً طيّباً وصالحاً لنا. العذراء مريم مكثت مع أليصابات ثلاثة أشهر كما كان تابوت العهد في العهد القديم ويقول الكتاب أن الرب بارك ذلك البيت في العهد القديم. فكم نتوق أيها الأحباء أن تزور العذراء مريم دورنا وتزورها إن كنّا نتشفّع بها، إن كنّا نجتمع باسم ابنها، إن كنّا نجعل همّنا قراءة الإنجيل المقدس والتأمل بسيرة ربنا يوع المسيح وسيرة أمه العذراء مريم والرسل القديسين فرسالة الله لنا في هذا اليوم أيها الأحباء أن نقتدي بالعذراء وبأليصابات لنكون هياكل الروح القدس فننطق بما يوصيه الروح القدس لنا أن نكون كالعذراء وأليصابات بالتواضع، بالعفة، بالنقاء، في هذا فقط ننال بركة المسيح بشفاعة العذراء وأليصابات البركة التي أتمناها لي ولكم بنعمته تعالى آمين.
زيارة العذراء إلى اليصابات (3)†
«وقامت مريم في تلك الأيام وذهبت بسرعة إلى الجبال إلى مدينة يهوذا ودخلت بيت زكريا وسلّمت على أليصابات»
(لو 1: 39-40)
هلمّ أحبائي في هذا اليوم المبارك الذي تذكر فيه الكنيسة المقدسة في طقسها زيارة العذراء مريم لأليصابات نسيبتها. هلمّ معي لنرافق العذراء في زيارتها هذه لننصت جيداً إلى الحديث المقدس الذي دار بينها وبين أليصابات، بين البتول الطاهرة وهي حبلى بالإله المتجسد يسوع المسيح وهي فتاة في الثالة عشر من عمرها، وبين العاقر الطاعنة بالسن وهي حبلى بيوحنا المعمدان، الكارز المبشّر بالمسيح. كانت العذراء في مدينة الناصرة وكان الملاك قد بشّرها بالحبل الإلهي، دعاها ممتلئة نعمة وقال لها أن الروح القدس يحلّ عليها وينقّيها ويطهّرها وأنها ستحبل وتلد ابناً وتدعوه يسوع، كما دعاه هذا الملاك ثانيةً عندما ظهر ليوسف البار وطمأنه عن براءة مريم وطهرها وحقيقة حبلها الإلهي، وقال عن هذا الابن أنه قدوس وابن العلي يدعى. أجل ولئن كان إيمان العذراء مريم ثخيناً، متيناً ولكنها أمام هذه الحقيقة الإلهية، أعجوبة الأعاجيب تسأل الملاك: كيف يكون لي هذا وأنا لا أعرف رجلاً؟ ويوضّح لها الملاك الحقيقة عن حلول الروح القدس عليها، وفي الوقت نفسه يقول لها: هوذا نسيبتكِ أليصابات هي الأخرى حُبلى بابن في شيخوختها وهذا هو الشهر السادس للمدعوة عاقراً، لأنه ليس عند الله شيء غير ممكن. هذا المثال الذي أعطاه جبرائيل للعذراء مريم ذكّرها بنسيبتها فأرادت العذراء أن ترى الأعجوبة الثانية والتي ولئن كانت أقل عجباً من أعجوبة حبل العذراء بالرب يسوع دون أن يمسسها رجل، ولكنها أيضاً أعجوبة باهرة أن تحبل العاقر العجوز من زوجها الطاعن بالسن.
يقول لوقا وهو يسرد هذه الحوادث بأسلوب منطقي: أن العذراء قامت مسرعة وذهبت إلى الجبال، إلى مدينة يهوذا، التي هي مدينة حبرون وتسمّى اليوم الخليل والمسافة ما بينها وبين الناصرة مائة ميل، كانت تُقطَع مشياً على الأقدام مدة خمسة أيام، قامت العذراء مسرعة من الناصرة متجهة إلى مدينة يهوذا لتعلّمنا أن نسرع دائماً للفرح مع الفرحين، كما يوصينا أيضاً الرسول بولس (رو12: 15). دخلت بيت زكريا وسلّمت على أليصابات فامتلأت أليصابات من الروح القدس وقالت للعذراء: حين سقط صوت سلامكِ في أذني ارتكض الجنين في بطني بابتهاج، من أين لي هذا أن تأتي أم ربي إليّ؟ إنه حديث مقدس بل كان هناك الروح القدس كما يقول لوقا امتلأت من الروح القدس. حينما تسلّم العذراء على أحد لا بد أن يمتلئ هذا الإنسان من الروح القدس لأنها قد نالت نعمة من عند الله، وهي الممتلئة نعمة وكانت قد حملت المسيح يسوع في أحشائها وشعر بذلك يوحنا وهو جنين في بطن أمه. ولا غرو من ذلك فقد قال عنه الملاك عندما بشّر أباه بولادته بأنه يمتلئ من الروح القدس وهو في بطن أمه وقد تم ذلك عندما زارت العذراء مريم أليصابات نسيبتها لذلك شعر الجنين يوحنا بوجود الرب يسوع وهو جنين وكأني بالجنين يوحنا جثا وسجد أمام الرب، والروح ألهم تلك الشيخة العاقر لتعلن عقيدة سماوية سمحة هي أن الجنين الذي كان في أحشاء العذراء هو الرب ولذلك دعت العذراء مريم أم الرب قائلة لها: من أين لي هذا أن تأتي أم ربي إلي وبهذا الصدد قال الرسول بولس بعدئذ: «لا يستطيع أحد أن يقول يسوع رب إلا بالروح القدس» (1كو12: 3)، فالروح القدس ألهم تلك الشيخة التي لا يمكن أن تدعو أحداً ربّاً وإلهاً إلا الله، الإله الحقيقي لأنها كانت موحّدة وتعلم أن الله واحد، ولكنها بإلهام الروح القدس عرفت أن الذي حُبِل به في العذراء مريم هو الله بالذات. نحن نعلم أن نار اللاهوت حلّ في أحشاء العذراء مريم وهو الإله المتجسّد، الذي وصفه الرسول بولس قائلاً: الله ظهر بالجسد، لذلك قالت أليصابات: من أين لي هذا أن تأتي أم ربي إليّ، وكرّرت ما كان الملاك قد قاله للعذراء مريم عندما أعطاها السلام: مباركة أنتِ في النساء، وأضافت على ذلك: ومباركة ثمرة بطنكِ، ونحن دائماً نكرّر هذا القول، هذا السلام نعطيه للعذراء مريم، ولكننا هل نتذكّر أن السماء أوحت بهذه الكلمات إلى شيخة عاقر كان الله قد أنعم عليها أيضاً لكي تحبل بشيخوختها بالكارز الذي سبق ميلاده ميلاد المسيح بالجسد ليهيّئ الطريق أمام المسيح. ما أجمل أحاديث القديسين. دخلت العذراء بيت زكريا، ذلك البيت ربّما كان بسيطاً ليس كبيوتنا العامرة الفخمة ذات الأثاث الجميلة ولكن ذلك البيت كانت تفوح منه رائحة الفضيلة، رائحة البر والتقوى والقداسة لذلك كان نادراً. سلّمت على أليصابات ولو سلّمت على زكريا لنطق، ولكن العناية الربّانية جعلتها أن تسلّم على أليصابات، صرخت هذه بصوت عظيم معلنة عقيدة السماء. كم نحن بحاجة أيها الأحباء أن نقتدي بالعذراء مريم، أولاً بمحبتها للناس جميعاً، بشعورها بالقيام بواجبها تجاه نسيبتها أليصابات لتفرح معها، من السهل أن نبكي مع الباكين كثيراً والعديد منّا في ظروف مصائب الآخرين يبكي على ما أصابهم من مصائب شخصية عندما نبكي مع الباكين، ولكن ليس من السهل أن نبتهج مع الفرحين لأن أغلب الناس قد امتلأت قلوبهم حسداً من الآخرين، إذا ما نجح إنسان في الحياة يقولون إنه الحظ، لا يقولون أن الله قد أنعم على هذا الإنسان وهو مستحق هذه النعمة لينجح في حياته، لا يقولون أن هذا الإنسان اجتهد وجدّ واهتم ولم يتكاسل والكسل خطيّة، فنال ما نال. أما العذراء مريم ففرحت مع أليصابات وابتهجت معها، فنالت أليصابات نعمة عظيمة عندما سلّمت عليها العذراء إذ حلّ عليها الروح القدس، حينئذٍ قالت مريم: تعظّم نفسي الرب ولم يقل لوقا أن الروح القدس حلّ على مريم كما قال إن الروح القدس حل على أليصابات لأن مريم كانت ممتلئة من نعمة الله، من الروح بالذات، كان الله في أحشائها، فقد اختارها وميزها على نساء العالمين وليظهر للعالم بالجسد وجبل من دمها جسداً كاملاً فظهر إلهاً كاملاً وإنساناً كاملاً، لذلك قالت مريم: تعظّم نفسي الرب، تبتهج روحي بالله مخلّصي لأنه نظر إلى تواضع أمته، فهوذا منذ الآن تعطيني الطوبى جميع الأجيال لأن القدير صنع بي عظائم واسمه قدوس ورحمته إلى جيل الأجيال للذين يتّقونه.
في هذا اليوم أحبائي ونحن ننصت إلى هذا الحديث المقدس نتخيّل أمامنا تلك الفتاة الصغيرة التي أنعم الله عليها فامتلأت نعمةً وحملت الإله في أحشائها ونتخيّل تلك الشيخة العاقر التي أنعم الله عليها لتحمل الكارز لمجيء الرب، يوحنا المعمدان. ونتخيّل ابن البتول وهو الرب كما أعلنت أليصابات وكارزه نراه وهو قد ابتهج بقدوم سيّده ونعلم أن الإنسان يتكوّن في بطن أمه ويحق له أن يحلّ عليه الروح القدس كما اختير إرميا النبي، وكذلك الرسول بولس وجميع القديسين. فهو إذن إنسان كامل. ونأخذ درساً لا بد أن نذكره دائماً أن على الوالدين أن يحميا الطفل وهو في بطن أمه ذكراً كان أم أنثى، ومن أقدم على الإجهاض يكون قد قتل ولده فهو قاتل، فعلينا أن نعتني بالطفل ونحميه وهو في بطن أمه إن كنّا مسيحيين حقيقيين. وعلينا أيها الأحباء أن نقتدي بالعذراء وأليصابات في زيارتنا بعضنا لبعض لتكون أحاديثنا مقدسة، مباركة، سماوية لتحل علينا نِعم الرب. أسأله تعالى أن يؤهّلنا جميعاً أن نمتلئ من الروح القدس، أن نقوم بواجبنا من كل قلبنا وفكرنا تجاه القريب، أن نهتمّ أيها الأحباء لنجعل دورنا مليئة بالأحاديث الروحية ونحن الذين آمنّا بالمسيح ونؤمن أنه صادق بوعده: «لأنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم» (مت18: 2)، ليكن المسيح معكم وبينكم وفي دوركم العامرة دائماً أبداً ونعمته تشملكم آمين.
زيارة العذراء إلى اليصابات (4)†
«وقامت مريم في تلك الأيام وذهبت بسرعة إلى الجبال إلى مدينة يهوذا ودخلت بيت زكريا وسلّمت على أليصابات»
(لو 1: 39 و40)
يحيا القديسون على الأرض حياة طهر ونقاء، وبهجة روحية وسعادة، ويتزاورون ليتبادلوا الخبرات الروحية، وليشجّع بعضهم بعضاً على تحمّل أعباء الحياة الدنيا ومواصلة الجهاد ضد إبليس وجنده للحفاظ على الشركة مع اللّه تعالى، تلك الشركة المقدسة التي تظهر ثمارها الطيبة بمحبة المؤمنين للّه تعالى التي يبرهن عليها المؤمنون بمحبتهم القريب. كما تعرف هذه الشركة مع اللّه بشركة المؤمنين بعضهم مع بعض على هذه الأرض خاصّة بوحدة الإيمان والتحلّي بالمزايا الصالحة والسيرة الفاضلة. ويتجاذب القديسون أطراف الحديث الروحي، وإذا كان اجتماع المؤمنين الأتقياء باسم الرب يسوع، يكون الرب في وسطهم فقد وعدهم بذلك بقوله: «حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم» (مت 18: 20).
أيها الأحباء: يصادف هذا اليوم في الطقس الكنسي أحد زيارة العذراء مريم لنسيبتها أليصابات، ويتناول البشير لوقا في الفصل الأول من بشارته موضوع هذه الزيارة بالتفصيل. فالزائرة هي العذراء مريم، الفتاة التي بشّرها الملاك جبرائيل بالحبل الإلهي، ولمّا استفسرت منه عن كيفيّة ذلك لأنها عذراء ولم تعرف رجلاً، قال لها: «الروح القدس يحلّ عليكِ وقوّة العلي تظللكِ فلذلك أيضاً القدوس المولود منكِ يُدعَى ابن اللّه» (لو1: 35)، ولكي يزيد إيمانها ثباتاً ورسوخاً ذكر لها حدثاً مشابهاً، ولئن كان أقلّ عجباً قائلاً: «وهوذا أليصابات نسيبتكِ هي أيضاً حبلى بابن في شيخوختها، وهذا هو الشهر السادس لتلك المدعوّة عاقراً، لأنه ليس شيء غير ممكن لدى اللّه. فقالت مريم هوذا أنا أمة الرب ليكن لي كقولك» (لو1: 36 ـ 38). أجل إن أموراً عديدة شجّعت العذراء مريم على القيام بزيارة نسيبتها أليصابات. أولها إيمانها بما قاله لها الملاك، فقد شعرت بالحبل الإلهي حالما آمنت بما أعلن لها ورضخت بقولها: «ها أنا أمة الرب ليكن لي كقولك»، وبهذا الصدد يقول أحد آباء الكنيسة على لسان الملاك جبرائيل: لعِل آرفيةؤ وأآدَيكي آشكحةؤ لقد غادرتُه في السماء ووجدتُه عندكِ. وهذا يعني أن الرب حلّ في العذراء حالما رضيَت العذراء بأن تحمل هذه الرسالة السّامية وهي أن يولد المسيح منها بالجسد.
أما في زيارتها أليصابات فقد أرادت أن ترى بأم عينها صحّة خبر الملاك عن حبل أليصابات العجيب في شيخوختها، ولتهنّئها بما أنعم اللّه عليها وتفرح معها، كما أن الصداقة الحقيقية تظهر بمشاركة الصديق صديقه أفراحه وتخفيف المشقّات عنه، وتظهر في مشاركتهم أفراحهم وفي هذه الحالة التجرّد من الأنانية والحسد، ولذلك فالرسول بولس يوصينا قائلاً: «افرحوا كل حين» (1تس5: 16)، «افرحوا في الرب» (في 3 : 1 و 4: 4)، «فرحاً مع الفرحين وبكاءً مع الباكين» (رو 12 : 15). هذه هي القاعدة المسيحية التي عليها تبنى الصداقة النقيّة، إنها مشاركة الأصدقاء أفراحهم وأتراحهم بصدق وإخلاص بودٍّ صافٍ وبمحبة خالصة، لا بنفاق ورياء ودجل كما يفعل أغلب أهل العالم الذين يعلّم بعضهم بعضاً بما يُسمّى فن كسب الأصدقاء والتأثير في الناس. كما أن مريم الفتاة اليتيمة، وهي تمرّ بتجربة الحبل الفائق للطبيعة كانت بحاجة ماسّة إلى أم تسند إلى صدرها رأسها، وتبوح لها بسرها العميق، وقد وجدت هذه الأم بشخص نسيبتها أو خالتها أليصابات، فجاءتها مسرعة بروح الإيمان والرجاء والمحبّة والاتضاع والجرأة والاهتمام بالغير. قامت مريم بسرعة وذهبت إلى الجبال، إلى مدينة يهوذا غير مبالية بمشقّة الطريق، فمدينة يهوذا تبعد عن الناصرة حيث كانت العذراء مريم مسافة نحو مائة ميل كانت تقطع مشياً على الأقدام مدة خمسة أيام، ومدينة يهوذا هذه على الأرجح هي مدينة حبرون، وهي اليوم مدينة الخليل. وقد تشرّفت أن سكن فيها إبراهيم أبو الآباء مدة طويلة وفيها قبر سارة زوجته.
في بيت زكريا، هذا البيت الكريم المقدّس وقد يكون بيتاً بسيطاً، ولا يكون البيت بيتاً رفيع العماد كريماً مباركاً بأهمية موقعه ونفاسة حجارته أو حسن هندسته ولا بأثاثه بل بسكانه، فبيت زكريا ضمّ زوجَين بارَّين أمام اللّه سالكين في جميع وصايا الرب وأحكامه بلا لوم، كما يشهد الإنجيل المقدس، ففاحت في بيتهما رائحة القداسة، بل صعدت التسابيح للرب ليل نهار.
دخلت العذراء بيت زكريا، وسلّمت على أليصابات. فلمّا سمعت أليصابات سلام مريم، ارتكض الجنين في بطنها، وامتلأت أليصابات من الروح القدس وصرخت بصوت عظيم وقالت: «مباركة أنتِ في النساء ومباركة هي ثمرة بطنكِ، فمن أين لي هذا أن تأتي أم ربي إليّ، فهوذا حين صار صوت سلامك في أذني ارتكض الجنين بابتهاج في بطني، فطوبى للتي آمنت أن يتم ما قيل لها من قبل الرب»(لو 1: 42 ـ 45). وقد قال بعض المفسِّرين: أنه لو سلّمت العذراء على زكريا لفكّت عقدة لسانه وجاوبها، ولكن إرادة اللّه شاءت أن يتمّ ما حكم به الملاك على زكريا بأن يبقى صامتاً حتّى يرى ميلاد يوحنا، لذلك لم تسلّم العذراء عليه، وسلّمت على أليصابات. ما أعظم تأثير هذا السلام، فعلى إثره امتلأت أليصابات من الروح القدس. هكذا تأتينا البركات الروحية عندما يزورنا الأتقياء ونزورهم ونعاشر الأبرار والقديسين. امتلأت أليصابات من الروح القدس ونالت السلام الروحي والفرح العظيم ووضع الروح على لسانها كلام الملاك للعذراء مريم يوم بشّرها بالحبل الإلهي فكرّرته قائلةً: مباركة أنتِ في النساء، وأضافت عليه كلاماً آخر: ومباركة هي ثمرة بطنكِ، ثم أردفت هذا الكلام بعبارة نبويّة سماوية معترفة بالمسيح الإله قائلةً: «من أين لي هذا أن تأتي أم ربّي إليّ» (لو1: 43). إن هذا القول خطير جداً لا يمكن أن تقوله أليصابات إلا ويكون الروح القدس الحال فيها قد ألهمها به، ولا يمكن أن يهودياً موحّداً نظير لوقا البشير يلفّقه على لسانها، فهو ما كان ليدوّنه في بشارته ما لم يكن قد سمعه من مصدر موثوق به قد تكون العذراء ذاتها أو أليصابات ذاتها. إن هذه الشيخة أليصابات كانت زوجة كاهن جليل وهي موحِّدة، ولكن الروح قد أنطقها بالحقيقة الإلهية، ألا وهي العقيدة الإيمانية السمحة بأن يسوع المسيح هو الرب الإله، ويقول الرسول بولس بهذا الصدد: «وليس أحدٌ يقدر أن يقول يسوع ربٌّ إلا بالروح القدس»(1كو 12: 3). إن أساس العقائد المسيحية هو أن يسوع المسيح هو الرب الإله، وهو ابن اللّه فليست العذراء أم اللّه وحسب، بل هي والدة الإله المتجسّد «اللّه ظهر بالجسد» (1تي 3: 16) على حدّ قول الرسول بولس، حيث أن اللّه حلّ في أحشائها واتّحد لاهوته مع الناسوت ووُلد منها، فحقّ لها أن تُدعى «يلدة ءلؤا» والدة الإله. ومن تنكّر لهذه العقيدة يعد غريباً عن المسيحية كنسطور الذي أبى أن يسمي العذراء أم اللّه، ودعاها فقط أم يسوع أو أم المسيح، فاجتمع المجمع المسكوني الثالث في مدينة إفسس عام 431م برئاسة القديس كيرلّس الإسكندري، وحرم نسطور معلناً أن عقيدة المسيحية السمحة هي: أن العذراء مريم هي أم اللّه، بل هي والدة اللّه «يلدة ءلؤا» مفتتحاً بيانه بقوله: نعظّمك يا أم النور الحقيقي، ونمجّدك أيتها العذراء القديسة والدة اللّه.
وأليصابات في نشيدها تعلن حقيقة أخرى، وهي أن الأجنّة في بطون أمّهاتهم مشمولون بعناية اللّه ورعايته، وإذا كان الأجنّة مشمولين بعناية اللّه، يعني ذلك أن اللّه يريد أن يشعر الوالدان بمسؤوليتهما تجاه هذا الجنين والعناية به، فالإجهاض قتل. فهذا يوحنا وهو جنين امتلأ من الروح القدس وارتكض فرحاً، تحرّك فرحاً وبهجةً لاستقبال ربّه، وربّه كان أيضاً جنيناً في أحشاء والدته والعذراء مريم بعد أن أكملت أليصابات الترنيم بنشيدها الارتجالي، بدأت تسبحتها التي تنشدها كنيستنا كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية صباح كل يوم في طقوسها، ولم يقل لوقا أن الروح حلّ على العذراء مريم كما قال عن أليصابات: «وامتلأت أليصابات من الروح القدس» (لو1: 41) لأن العذراء التي كانت قد امتلأت من الروح، بل كان نار اللاهوت قد حلّ في أحشائها، فقد كان الروح القدس حالاًّ فيها، لذلك جاءت تسبحتها من أجمل ما قيل من التسابيح في الكتاب المقدّس وأسماها، وهي تضاهي أبدع مزامير جدّها داود. فقالت مريم: «تعظّم نفسي الرب، وتبتهج روحي باللّه مخلّصي، لأنه نظر إلى اتضاع أمته، فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوّبني لأن القدير صنع بي عظائم واسمه قدوس ورحمته إلى جيل الأجيال للذين يتّقونه» (لو1: 46 ـ 50). تعظّم نفسي الرب: صلواتنا الطقسية كلها شكر للّه وتعظيم له تعالى. لغة الشكر أسمى لغة، ولكن بعض المؤمنين بعد أن يكون قد استجيبت طلباتهم التي كانوا قد سألوا اللّه تعالى بصلواتهم ينسون الشكر، رأينا البرص العشرة الذين طهّرهم الرب يسوع، ولم يرجع منهم سوى واحد ليشكر الرب، وهذا الواحد كان غريب الجنس، فقال له الرب: «أليس العشرة قد طهروا فأين التسعة؟» (لو17: 17). فهل وقفنا أمام اللّه لنشكره على إنعاماته الكثيرة، أم أن صلواتنا كلّها طلبات دنيويّة؟!. حتى هذه الطلبات إذا استجيبت أيضاً ننسى أن نشكر اللّه عليها، أما العذراء مريم فتشكر اللّه وتعظّمه تعالى على ما أنعم عليها وتنبّأت أن جميع الأجيال تطوّبها، بقولها: إن الرب نظر إلى اتضاعها، لأن القدير صنع بها عظائم، وتذكّر المواعيد الإلهية لجدّها إبراهيم ونسله، وعلى ما صنعه نحو أعداء شعبه: أنزل الأعزّاء عن الكراسي، وما صنعه نحو كنيسته إذ رفع المتواضعين. مكثت العذراء نحو ثلاثة أشهر وقبل أن تلد أليصابات ابنها يوحنا، عادت العذراء مريم إلى بيتها في الناصرة منتظرة يومها السعيد، يوم تلد الرب يسوع مخلص العالم.
أحبائي: ونحن نتأمّل في هذه الحادثة المقدسة أموراً عديدة لا بدّ أن نستفيد منها فبيت زكريا وأليصابات كان بيتاً مثالياً، تضوعّت في جنباته رائحة بخور الحمد والشكران ورائحة الطهر والقداسة. فهلاّ كانت بيوتنا كذلك. رأينا زيارة العذراء مريم لأليصابات وما تخللها من أحاديث روحية عميقة، بينما زيارات بعض المؤمنين اليوم تشوبها أحاديث ماجنة خارجة عن أصول الأخلاق المسيحية، وهي خليط بين حديث الكبرياء بوصف النفس بما لا تستحقه، وبين أكل لحوم البشر والاتهام بالشرور ومصدر كل ذلك قلّة الإيمان والحسد والبغضة والحقد. كما نتعلّم من زيارة العذراء مشاركة الناس أفراحهم والابتعاد عن ذمّهم ونسب نجاحهم إلى الحظ، لا إلى الاستقامة وعمل الخير ومحبّة الناس.
واليوم وفي كل يوم من أيام حياتنا علينا إتماماً لنبوّة العذراء، أن نعظّمها، ونعطيها الطوبى، ونتشفّع بها بتكرار كلمات الملاك وأليصابات: «السلام لك يا مريم العذراء الممتلئة نعمة، الرب معك، مباركة أنتِ في النساء ومبارك ثمرة بطنكِ يسوع، يا مريم القديسة يا والدة الله صلي لأجلنا نحن الخطاة الآن وفي ساعة موتنا آمين»، نلتمس من العذراء أن تزور دورنا كما زارت أليصابات، مثالها تابوت العهد الذي مكث في بيت عوبيد ثلاثة أشهر فبارك الرب عوبيد وكل بيته (2صم 6: 11)، فهل تزرونا العذراء؟ هل يزورنا يسوع ابنها؟ ذلك يكون إن اجتهدنا في حفظ وصايا اللّه وأحكامه والتمسك بالإيمان به وممارسة الفروض التي علينا أن نتقدم بها بتقوى اللّه من صوم وصلاة وتوزيع الصدقات على المحتاجين فنستحق بعد العمر الطويل أن نرث ملكوته السماوي، الحالة التي أتمنّاها لي ولكم بنعمته تعالى آمين.
ميلاد يوحنا المعمدان
ميلاد يوحنا المعمدان
ميلاد يوحنا المعمدان (1)†
«وأما أليصابات فتم زمانها فولدت ابناً، وسمع جيرانها وأقرباؤها أن الرب عظّم رحمته لها ففرحوا معها»
(لوقا 1: 57-58)
فرحٌ عظيمٌ عمَّ جبل يهوذا، إنه فرح بالرب الذي يقترن بالشكر لإلهنا، فرح عظيم شمل أولئك الناس الطيّبين الذين دائماً يفرحون لفرح غيرهم، لأنهم قد سمعوا أن تلك الشيخة الجليلة العاقر أليصابات قد ولدت، ولدت ابناً ذكراً في شيخوختها، لذلك فرحوا معها بل كان ذلك الفرح سبب تعظيم للرب، لأن الرب قد عظّم رحمته لها كما يقول لوقا، وهذا الفرح يعقبه فرحٌ أعظم وكأنها حلقات في سلسلة ذهبية ثمينة بدأت في الهيكل عندما بشّر الملاك زكريا بأن يكون له ولد يسميه يوحنا، ومرّت بميلاد يوحنا ونرى الآن حلقة أفضل فبحسب عادة اليهود وطقوسهم بل حسب شريعتهم في اليوم الثامن يجتمع الأهل والأقارب والكهنة ليختنوا الصبي ويطلقوا عليه اسماً، وهكذا كان خاصة أن زكريا كاهن شيخ فاجتمع زملاؤه الكهنة وزوجته أليصابات المرأة الجليلة التقيّة الفاضلة البارة، اجتمعت جاراتها والجيران والأقارب لكي يختنوا هذا الصبي في اليوم الثامن، لكي يستحق أن يكون في عداد شعب العهد القديم، ويسجّل اسمه في سجلات كنيسة النظام القديم، فسمّوه زكريا، تطلعوا إلى ذلك الشيخ، الكاهن زكريا وقد حكم عليه الملاك بأمر الله أن يكون صامتاً، بل أيضاً كان أطرشاًُ، فلم يسمع ولم يملك القدرة على الكلام، فلا داعي ليستشيروه بما يسمّون الصبي، وكانت تلك الأم الشيخة صامتة هي الأخرى لم تنطق لم تنبس ببنت شفة، فسموا ذلك الصبي باسم أبيه زكريا، وهذا احترام وإكرام للأب لأنه قد وُلد له ابن في شيخوخته من زوجته الشيخة العاقر، ولا بد أن يحي هذا الولد ذكر أبيه، هذه كانت عاداتهم، وكان للاسم مكانة عظيمة في قلوبهم لأنه يعني أموراً عظيمة بالنسبة إلى أنسابهم حين ذلك.
الشيخة أليصابات بقوة الروح القدس علمت أن اسمه يجب أن يكون يوحنا، كما علمت سابقاً بقوة الروح القدس عن العذراء مريم وتنبأت وعلمت أنها قد حملت حامل العوالم وقالت لها كما علمنا وكما كتب الإنجيل المقدس من أين لي هذا أن تأتي أم ربي إليّ الآن أيضاً بقوة الروح قالت للأهل والأقارب والأصدقاء والجيران لا بل يُسمّى يوحنا فقالوا لها ليس أحد في عشيرتك تسمى بهذا الاسم، ثم أومأوا إلى أبيه زكريا، ماذا يريد أن يُسمّى، فطلب لوحاً وكتب قائلاً: اسمه يوحنا (الرب حنّان)، فقد بدأ عهد الرحمة والحنان، عهد المغفرة التي سينادي بها يوحنّا للتائبين العائدين إلى الله ليستحقوا ملكوته السماوي، فاسمه إذاً يوافق ويطابق المهمّة التي ولد لأجلها ليكون سابقاً للمسيح، يعد طريقه قدامه. حين ذاك انطلق لسان زكريا وتكلّم عندما شكّ صمت، وعندما تكلم نطق بتسبيح الله فمجّد إلهنا ثم تنبأ عن هذا الصبي وناجاه وناداه: أنت أيها الصبي نبي العلي تدعى، لأنك تتقّدم أمام وجه الرب لتعدّ الطريق أمامه، وأظهر النبوات أن الصبي يعد الطريق أمام الرب إلهه، ولم يكتفي بمحيطه اليهودي وبأنبيائه وبشعبه كما كانت فكرة الخلاص لدى أغلب اليهود، بل تعدّى ذلك بتسبيحه إلى العالم أجمع، ونسي ابنه موضوع بهجته، وبدأ يفكر بمخلّص العالم الذي دعاه كما دعاه ملاخي آخر أنبيائه، شمساً فكما أن الشمس ضرورية لحياة الأرض كذلك شمس البر المسيح يسوع كما دعاه أيضاً زكريا أنه ينير الجالسين في الظلمة وظلال الموت فهو ضروري لكل العالم لكي يمنحهم حياة أبدية. هذا هو زكريا أيها الأحباء عندما امتلأ من الروح القدس كما يقول البشير لوقا، لم يحل عليه الروح فقط، بل امتلأ من ذلك الروح ونطق بنبوات عجيبة.
والصبي يوحنا موضوع كلامنا الذي بأعجوبة حبل به، وبأعجوبة ولد، وبأعجوبة أطلق عليه الاسم الذي أطلقته عليه السماء قد نمى خبره في كل جبل اليهوديّة وتساءل الناس ما عسى يكون هذا الصبي وبدءوا يفتكرون لعله هو ماسيا المنتظر ونحن لا نستغرب أن يفتكر الناس ويظنون كما يقول الإنجيل أنه ماسيا بل بعد ذلك الزمن بسنين عندما خرج يبشّر جاءه من الكهنة والفريسيين ومسؤولي اليهود الدينيين والاجتماعيين يسألونه إن كان هو الآتي أو ينتظرون آخر فكانت شهادته شهادة صدق وحق قال: إنه إنما جاء فقط ليعمّد بالماء، أما الذي يأتي بعده فيعمد بالروح القدس، وأنه لا يستحق أن ينحني ويحل سيور حذاء ذلك الذي يأتي بعده، وهو قبله هذه شهادة يوحنا أتت من ولادته العجيبة من تهيئة السماء له، أتت أيضاً من تربيته فإننا نقرأ في الإنجيل المقدس أن يد الله كانت مع الصبي، ويد الله تعني عناية الله وقوته كما كانت يد الله مع يوسف الصديق مثلاً فأنجح الله طريقه فكانت يد الله مع الصبي فكان ينمو ويتقوى بالروح، هذه القوة التي نالها ذلك الصبي جعلته أن يصطبر على شغف العيش الخشن في البرية، فقد كان عمره ثمانية شهور فقط عندما أصدر هيرودس أمره بعد ولادة المسيح قتل أطفال بيت لحم، وشمل كل اليهودية فهربت به أمه، هربت بالصبي يوحنا إلى البرية وماتت أمه وبقي الصبي تربية الملائكة، وكان أكله جراد البر وعسل البر أيضاً، ولم يكن عسل البر حلواً بل مراً، ولم ينم على سرير فربى على يد الملائكة وصار ابن السماء. لم يعرف أحد من اليهود، حتى لم يعرف المسيح في حياته، إلى أن جاءه المسيح ليعتمد منه، والروح أعلن له أن هذا حمل الله الرافع خطايا العالم، هكذا عاش يوحنا في البرية بعيداً من آثم الناس وخطاياهم، من كلامهم الباطل مما يتطرفون به من دينونة الآخرين بعيداً أيضاً حتى من الأصدقاء لئلا يجامل الأصدقاء عندما ينادي بالتوبة والعودة إلى الله. هكذا هيأ الله الملاك الذي يتقدّم المسيح يسوع الذي سيأتي لخلاص العالمين وكان في البرية إلى أن ظهر لإسرائيل كما يقول الإنجيل المقدس وكان عمره آنذاك ثلاثين سنة.
هذا هو يوحنا الذي قال عنه الرب يسوع لم يقم في مواليد النساء نبي أعظم من يوحنا المعمدان، ففي ميلاده نرى عظمته، عظمته التي جاءت ليس فقط من السماء بل أيضاً من والديه بالتربية الصالحة، فالملاك عندما بشّر بميلاده قال: لأبيه إنه خمراً ومسكراً لا يشرب، فربي بهذه الطريقة هذا الأسلوب تجنب الرذائل، والتحلي بالفضائل، نشأ النشأة الصالحة ليكون عظيماً بين مواليد النساء بل لم يقم بين مواليد النساء أعظم منه، ما أعظم هذه الشهادة! هل نسعى للحصول عليها لنا ولأولادنا؟. كان هناك إنسان أيضاً عاش المسيح وكان أحد تلاميذه، ولكنه بعكس يوحنا، لم يكن مجرداً عن العالم وإن ظهر كأنه مجردٌ عن العالم إنه يهوذا ماذا كانت شهادة المسيح عنه خيرٌ لهذا الإنسان لو لم يولد. العديد من الناس يقول عنهم المسيح: خير لأولئك الناس لو لم يولدوا لكان الأفضل لهم، أما من اقتدى بيوحنّا فيكون عظيماً في مواليد النساء، ولئن قال الرب: والصغير في ملكوت الله هو أعظم منه، لأننا نحن الصغار في ملكوت الله قد نلنا نعمة إذ افتدانا الرب بموته وقيامته. فأيها الأحباء في هذا الأحد، أحد ميلاد يوحنا ونحن نتأمل بأليصابات المرأة التقية الفاضلة البارة نتأمل بزكريا الرجل البار القديس ونرى عمل الروح القدس فيهما، ونتأمل بالصبي الذي عاش حياة الشغف، كان شقياً في حياته ولكنه كان في حياته نعمة عظيمة ليكون عظيماً جداً بين مواليد النساء، لأنه مقياس الحياة والنجاح في الحياة، هو روحيٌ لا جسدي لذلك فعظمته خاصة بتجنبه الرذائل، خمراً ومسكراً لم يشرب فعلينا أن نقتدي بأليصابات وبزكريا بالتمسّك بناموس الرب وفرائضه، وعلينا أن نسعى لنسمي أولادنا الأسماء الروحية فالكنيسة عائلة واحدة روحية، أن نسمي أولادنا بأسماء آبائنا القديسين ليقتدوا بهؤلاء الآباء وليعلموا أن معنى الاسم العظيم أن يجعلنا أن نقتدري بأولئك الذين سموا قبلنا بهذه الأسماء.
أهلنا الرب جميعاً أيها الأحباء أن نقتدي بيوحنا المعمدان وبوالديه وبكل الأبرار والأتقياء والقديسين لكي نكون مثله من أبناء ملكوت إلهنا شاهدين لا بالقول فقط بل بالعمل للمسيح يسوع الذي جاء لخلاصنا والذي جعل منا عظماء في ملكوته السماوي لنكون معه في ذلك الملكوت متنعمين معه إلى الأبد. الحالة التي أتمناها لي ولكم بشفاعة القديس يوحنا المعمدان وزكريا وأليصابات ونعمته تشملكم دائماً أبداً آمين.
ميلاد يوحنا المعمدان (2)†
«وأما أليصابات فلمّا تمّ زمانها لتلد، فولدت ابناً وسمع جيرانها وأقرباؤها إن الرب قد عظّم رحمته لها ففرحوا معها»
(لو 1: 57-58)
فرح روحيّ طغى على بيت زكريا وأليصابات وانتشر نبأ ذلك بين الجيران والأقرباء، فإن الله قد عظّم رحمته على أليصابات، وفي الوقت نفسه على زكريا الكاهن زوجها، والناس الطيّبون يفرحون مع الآخرين فرحاً روحياً كان هذا الحدث حلقة بسلسلة حوادث عجيبة جرت في تلك الأيام في تلك المنطقة من العالم، حوادث لم تأتِ صدفة إنما جاءت نتيجة نبوّات عديدة قيلت في العهد القديم عن الذي ولد من زكريّا وأليصابات عن يوحنا المعمدان. وهذا الفرح أيها الأحباء بدأ في الهيكل قبل تسعة أشهر من تاريخ ميلاد يوحنا، يوم وقف الملاك جبرائيل عن يمين مذبح البخور ليعلن لزكريا البشرى: إنه يولد له ولد ويسمّيه يوحنا أي الرب حنّان ورحيم. هذا الفرح إذن أيها الأحباء، هو ثمرة رحمة السّماء بالأرض وعلى أبناء الأرض، وتمّ الفرح خاصةً في اليوم الثامن من ميلاد يوحنا لأنه بحسب عقيدة اليهود أن المولود الذكر لا بدّ أن يُختتن في اليوم الثامن لميلاده ليكون في عِداد الشعب الذي أقام الله معه عهداً بشخص أبيه ابراهيم، فهذا الختان عندما جرى حسب عادة اليهود اجتمع الكهنة والأقرباء والأصدقاء، وبعد الختان حدث ما حدث لأنهم أرادوا أن يسمّوا الصبي، وإكراماً للأب سمّوه زكريّا، ولكن أليصابات تلك التي كانت قد امتلأت من الروح القدس يوم زارتها العذراء مريم وتنبّأت قائلة: من أين لي هذا أن تأتي أم ربّي إليّ، امتلأت ثانية من الروح القدس وقالت لا، فليُسمّى يوحنا. ليس في عشيرتكِ قالوا لها أحد يدعى بهذا الاسم، ثم أومأوا إلى زكريا الذي كان قد حكم عليه الملاك بالصمت، فلم يكن يقوى على الكلام، بل أيضاً لم يكن يقوى على سماع كلمة، فأشار إليهم أن يأتوا بلوح وكتب: اسمه يوحنا. اسمه، لا أسمّيه، اسمه الذي جاء من السّماء، اسمه الذي أعطاه الملاك إنه يوحنا. فسُمّي يوحنا لأن رسالته هي رسالة الرحمة والحنان، رسالة التوبة والعودة إلى الله، رسالة النعمة الإلهية التي تبدأ بتبشيره العالم ثم تنتهي بصعود المسيح إلى السماء بعد إتمامه الفداء، وعندما كتب زكريا هذه الكلمة: اسمه يوحنا، انطلق عقل لسانه وانفتحت أذناه وشرع يسبّح الله. عندما عوقب وقوصص بالصمت لسبب شكوكه بقي صامتاً تسعة أشهر، ليس له عمل سوى أن يصلي إلى الله ويتأمّل ويدرس النبوّات، وحين انتهى عقابه وشرع ينطق، نطق بتسبيح الله فأنشد نشيده الذي يُعَد من الأناشيد الروحيّة السامية جدّاً في الكتاب المقدس ممجداً الله على نعمته، متنبّئاً أيضاً عن الصبي ورسالته: وأنت أيها الصبي يقول لابنه يوحنا، نبي العليّ تدعى، ويقول عن رسالة هذا الصبي أنه يتقدّم أمام الله، أمام ربّه ليهيّئ شعبه قدّامه. هذه كانت رسالة يوحنا وهذا ما تنبّأ به زكريا عن ابنه، ولم يكتفِ أن تنبّأ عن ابنه، بل أعلن أيضاً أن ابنه ليس سوى إنسان نبي يتقدم ربه أي يسوع المسيح ليهيّئ الشعب قدّام ذلك الرب، وهنا يعلن رسالة الخلاص، ليس فقط لبني إسرائيل، بل للشعوب كلّها.
زكريا لم تكمل فرحته بابنه. إن كنّا نفتكر بالفرح الدنيوي، زكريا نال ما ناله من العذاب كما يقول لنا التقليد المقدّس: أن هيرودس عندما أمر بقتل كل أطفال بيت لحم، وقد نمى الخبر في جبال اليهودية عن الابن العجيب يوحنا، بلغ أيضاً هيرودس أن هناك مولوداً عجيباً ابن العاقر الشيخة أليصابات والشيخ زكريّا، لذلك أرسل من أرسل من جنوده ليقتلوا هذا الصبي أيضاً، فقال زكريا: لا أسمح لكم بذلك، إني أخذته من الهيكل، فهلمّوا إلى الهيكل وخذوه من هناك، ووضعه أمام عتبة الهيكل فاختطفه الملاك، ملاك الرب وأخذه إلى البرية. ونحن نعلم أن يوحنا تربّى في البرية، ربّته أمّه حتى بلغ الثامنة من عمره، ماتت وبقي هناك يتربّى بأيدي الملائكة، ولم يعرف أحداً من أقربائه حتى أنه لم يعرف المسيح إلى أن جاء المسيح ليعتمد منه، فالروح الذي أرسله ليعمّد قال له إن الذي ترى الروح يحلّ عليه بشبه حمامة هو ماشيحا المسيح المنتظر، مخلّص العالم ورجاء الشعوب. عاش يوحنا في البرية، لم ينم على سرير، كانت ثيابه من وبر الإبل، وكان طعامه جراد البرية وعسل البرية أيضاً الذي يُقال أنه مُرّ لا حلو. كان هذا يوحنا قد نشأ نشأة تقشّف وزهد وتضحية ونكران ذات، ليكون صريحاً مع الخطاة لكي لا يهاب أحداً، لكي ينادي توبوا قد اقترب منكم ملكوت السموات. عندما نمى الخبر أي انتشر بين الناس عن ميلاد يوحنا وعن تسميته وسلسلة العجائب التي جرت، ولم يكن هناك في تلك المنطقة عجائب منذ أجيال، والناس ظنّوا أن يوحنا هو ماسيّا، فهناك تشابه في حياة الاثنين فهذا ابتدأ رسالته في الثلاثين من عمره، والمسيح أيضاً بدأ رسالته في الثلاثين من عمره، يوحنا ابتدأ بقوله: توبوا فقد اقترب منكم ملكوت الله، والمسيح أيضاً ابتدأ رسالته العلنية إلى مناداة التوبة: توبوا فقد اقترب منكم ملكوت الله، ويوحنا عندما سُئل إن كان هو المسيح، شهد وهو صادق في شهادته إن الذي يأتي بعده أي المسيح، هو قبله، وهو لا يستحق أي يوحنا أن ينحني ويحلّ سير حذاء المسيح، والمسيح أيضاً شهد ليوحنا، يوحنا أرسل تلاميذه إلى المسيح لكي يؤمنوا بالمسيح وتبعوا المسيح، وكان بين تلاميذ الرب أربعة منهم كانوا سابقاً تلاميذ يوحنا، بطرس وأندراوس ويعقوب ويوحنا. هؤلاء استمعوا إلى يوحنا وأطاعوا نصيحته وإرشاده وآمنوا بالمسيح وصاروا تلاميذ له.
عندما سُئل المسيح عن يوحنا كما سمع بعضكم الذين كانوا في بدء القداس الإلهي إلى الإنجيل المقدس، قال المسيح عن يوحنا: لم يقُم بين مواليد النساء نبي أعظم من يوحنا المعمدان، ونحن عندما نتأمّل بقول المسيح يسوع نرى عظمة يوحنا أولاً بصدقه مع رسالته وباستمراره بتواضعه لإتمام هذه الرسالة، ولكننا إن كنّا ننظر إليه بعين بشرية صرفة وبمقياس البشر نتعجّب: هل عظمة الإنسان بشقائه مع أنه ولد بأعجوبة ولكنه اضطهد وهو طفل، وعاش في البرية شقيّاً فهل العظمة بالشقاء؟ ولكن عندما ننظر إلى هذا الإنسان نظرة روحية نرى العظمة التي تأتي من السماء، عظمة الإنسان أن يكمّل الرسالة التي أُلقيت على عاتقه من السّماء وأن يتحمّل في سبيل ذلك المشقّات والأتعاب الكثيرة لأنه ينتظر المكافأة من السماء.
أيها الأحبّاء:
في هذا اليوم نذكر ميلاد يوحنا ونعتبره أحد ميلاد يوحنا من آحاد ما قبل الميلاد، ميلاد الرب يسوع لنهيّئ أذهاننا لتقبّل عقيدة التجسّد الإلهي ولنفرح بميلاد ربّنا. ونحن نتأمّل بميلاد يوحنا علينا أن نقتدي بزكريا وأليصابات بالمواظبة على الصلاة بالإيمان بما يبلغنا الرب، وذلك عن طريق مطالعتنا الكتاب المقدس بتأمّل مستمر في الإنجيل، وتقتدي بهما خاصةً بتربية الأولاد تربية صالحة بالتمسّك بالشريعة والفرائض، فنحن نرى مثلاً أن أليصابات وزكريا بالذات عندما يقومون بالاحتفال بختان يوحنا وهو في اليوم الثامن من ميلاده إتماماً لوصيّة الرب ليكون في عِداد الذين دخلوا في عهد مع ربنا، نتعلّم نحن أيضاً كيف أنه علينا أن نربي أولادنا التربية الصالحة وأن نعلّمهم الطقوس الكنسيّة والفروض البيعية، لكي في هذا يكونون في عِداد شعب الله، لا يكفي أن نربي أولادنا التربية الجسدية ليكونوا أقوياء جسدياً، ليبلغوا مراكز سامقة ويكونوا في غنى وبحبوحة من العيش، قد يكون ذلك سبب هلاكهم الروحي. ولكن عندما نقوم بواجبنا الروحي تجاه هؤلاء الأولاد ونعلّمهم أسرار كنيستنا ومبادئ الدين الإلهي السامي والعقيدة السمحة، بهذا نكون قد هيّأنا أولادنا لملكوت الله كما فعل زكريا وكما فعلت أليصابات في البرية بتربية ابنها يوحنا بحسب التقليد الشريف. كذلك أيها الأحباء نتعلّم العظمة الحقيقية من يوحنا، فكان الملاك يوم بشّر أباه زكريا به قد قال أنه خمراً ومسكراً لا يشرب، فهناك نواهٍ إلهية سماوية علينا أن نرفضها رفض النواة كما رفضتها السماء وهناك وصايا الله التي يجب علينا أن نتمسّك بها، وبذلك نكون عظماء بالروح كما كان يوحنا، وأن نهتم أيضاً أن يفهم أولادنا العظمة الحقيقية. ما أجمل أن أواظب على القداس الإلهي ولكن الأجمل من هذا عندما تتاح لنا الفرص أن نأتي بأولادنا لحضور القداس الإلهي لكي هم يتعلّموا منّا، أي علينا أن نمارس الفروض الدينية من صوم وصلاة وصدقة وغيرها لكي ينشأوا النشأة الصالحة ويكونوا عظماء بالروح كما كان يوحنا. أسأل الله أن يلهمنا جميعاً لكي نسير بحسب شريعة إلهنا مقتدين بالآباء القديسين، ونعمته تشملكم دائماً أبداً آمين.
ميلاد يوحنا المعمدان (3)†
أيها الأحبّاء:
تذكر الكنيسة في هذا اليوم ميلاد يوحنا المعمدان. وعندما نتأمّل بما كتبه البشير لوقا في هذا الموضوع نتعجّب كثيراً كيف أن الروح القدس كان وما يزال وسيبقى وراء الحوادث الدينية الروحيّة في الكتاب المقدس وفي عمل الكنيسة.
نقرأ ما قاله وكتبه لوقا عن أليصابات التي عندما تمّ زمانها لتلد، ولدت ابناً يقول لوقا: إن جيرانها وأقرباءها سمعوا بذلك ففرحوا لأن الله عظّم رحمته لها. فرحوا معها، هذا الفرح الروحي لا يكون إلاّ للذين يشعرون بقوّة الله وعجائب الله والذين يشعرون بواجبهم إزاء الآخرين بأن يفرحوا مع الفرحين. وعندما نتأمّل تلك الحادثة العجيبة نرى أمامنا امرأة شيخة عاقراً تلد ابناً. ونرى أمامنا أيضاً شيخاتً جليلاً كان كاهناً، كان قد بُشِّر بحبل امرأته وبولادتها ابناً، وكان الملاك أيضاً قد ذكر حتّى بما يُدعى الصّبي قائلاً:يُدعى اسمه يوحنا، لأنه به ابتدأ عهد الحنان والرحمة، وبميلاده قد عمّ الجميع الفرح. وكان لابدّ من أن تتمّ فريضة الختان للطفل، فهي أهمّ الفرائض الدينيّة خاصة في بيت زكريّا وأليصابات، ولوقا يقول عنهما أنهما كانا بارَّين وكانا متمسّكّين بشريعة الله، بل أيضاً بالفرائض، بأحكام الله يقول لوقا. ومن جملة هذه الفرائض التي فُرضَت على بني إسرائيل أن يختنوا الصّبي في اليوم الثّامن من ميلاده. وفي بيت زكريا الكاهن وهو كاهن معروف، وفي حدث عجيب كهذا أن يولد ابن لعاقرَين ولشيخَين في الوقت نفسه، لابدّ أن يكون فرح عظيم. اجتمع الأقرباء والجيران ليختنوا الصّبي، وعندما كان الصّبي يُختَن عادةً في اليوم الثامن كان يُدعى باسم فأرادوا أن يسمّوه باسم زكريّا أبيه، خاصّةً أن زكريا كان كاهناً وكان شيخاً فليبقَ اسمه في العائلة. ولكن أليصابات التي كانت قد امتلأت من الرّوح القدس يوم زارتها العذراء مريم وتنبّأت، بل أعلنت عقيدة سامية إذ قالت للعذراء:من أين لي أن تأتي أم ربّي إليَّ فدعتها أم الرب العذراء التي عندما سمعت ذلك أنشدت نشيدها العظيم الشّهير، أعظم وأفضل نشيد قيل في الكتاب، قال مريم: «تعظّم نفسي الرب، تبتهج روحي بالله مخلّصي»، في تلك اللّحظات أيضاً، في اختتان يوحنا امتلأت أليصابات ثانية بالروح القدس وأصرّت أن يُدعى ابنها يوحنا، وعندما استشاروا زكريا أباه، ونحن نعلم أن زكريا قد حكم عليه الملاك يوم بشّره الملاك بأن امرأته ستلد له ابناً كان قد حكم عليه أن يبقى صامتاً حتّى يتمّ ما قاله الملاك، فلم يكن زكريّا يقوى على الكلام ولم يكن يقوى على سماع شيء، وعندما أشاروا إليه طلب لوحاً ليكتب اسم الصّبي، وعندما ابتدأ يكتب اسمه كتب: «اسمه يوحنا». حينذاك انفكّ عقل لسانه وابتدأ ينطق ويسبّح الله. عندما حُكِم عليه بالصّمت حُكم عليه لأنه تشكّك في قول الملاك، وعندما نطق ابتدأ ينطق بتسبيح الله، سبّح الله على عظائمه وسبّحه أيضاً وتنبّأ وهو قد امتلأ من الروح القدس وتنبّأ عن هذا الصّبي الذي دعاهُ نبيّ العليّ، قال له: نبيّ العليّ تُدعى بعد أن تنبّأ أيضاً بأن الحوادث التي كان قد تنبأ عنها الأنبياء ستحدّث عن مجيء ماسيّا، ماشيحا المنتظر. هكذا رأينا في بيت زكريا عندما تمّ قول الملاك فولدت أليصابات، وهكذا رأينا الروح القدس يقود التّابعين للرب الذين ينصتون إلى قول الروح فيمتلئ زكريّا بالروح ويتنبّأ عن الصّبي وعمّا سيجري له.
أيها الأحبّاء:
لم يكتفِ لوقا بذلك، بل ذكر عن الصبي أنه عاش في البرية حتّى ظهر لإسرائيل ونحن نعلم من التقليد الرسولي والأبوي، التقليدَين المقدَّسَين أن يوحنا كان معرَّضاً للقتل من جند هيرودس يوم ولد المسيح ويوم قتل هيرودس صبيان بيت لحم، وأن الجند أتوا إلى بيت زكريا والحادثة كانت قد اشتهرت وعُرفَت من الناس وطلبوا أن يأخذوا الصّبي ويقتلوه، فقال لهم زكريا حسب ما يقول التقليد المقدس: إنني استلمته من هيكل الرب فهلمّوا استلموه من هناك أي من حيث أخذته، غذ بشّره الملاك في الهيكل وأنتم خذوه واقتلوه وعندما ذهب إلى الهيكل وضع الطّفل يوحنا على الهيكل فاختطفه ملاك الرب وأخذه إلى البريّة وتربّى هناك مع الملائكة حتّى ظهر لإسرائيل. لم يكن يعرف أحداً وعندما ظهر نادى بالتوبة لم يخجل من أحد لأنه لم يعرف أحداً من أولئك الناس. جاء وكأنه ملاك الرب، جاء بروح إيليا، جاء يندي بالتوبة، جاء ليعدّ الطريق أمام الرب يسوع ليعود الشّعب إلى ربّه، ليتوب الناس إلى إلههم لينالوا الخلاص بالمسيح يسوع.
ميلاد يوحنا أيها الأحبّاء يعطينا دروساً خالدة.
أوّلاً: أن نرى المعجزات والعجائب التي تجري، جرت وتجري دائماً وأن الروح القدس هو وراء ذلك. ثانياً: نرى كيف أن الإنسان البار والعائلة التقيّة تقوم بإتمام فراض الله، ونرى أيضاً كيف أنهم يشعرون بأنهم عائلة روحيّة جميعاً ويريدون أن يسمّوا أولادهم بأسماء الآباء القديسين، لنقتدي بهم. ونرى أيضاً كيف أن يوحنا تربّى التربية الصّالحة على أيدي والدَيه والملائكة، فإن أليصابات كما يُقال ذهبت إلى البرية فوجدت ابنها وربّته حتّى صار عمره ثلاث سنوات أو أكثر وماتت وبقي هو في البرية. ونرى أيضاً كيف أن الله يعدّ خلاصاً لشعبه بتدبير إلهيّ لا تدركه عقولنا، وعندما نقرأ هذا نشعر بواجبنا تجاه السّماء لأن السماء تريد خلاصنا فعلينا أن نتجاوب مع هذا الخلاص، علينا أن ننصت إلى يوحنا الذي ولد بعجب وعاش بأعجوبة وخرج إلى البرية ونادى: «توبوا». فلنتب ونعود إلى الله لننال الخلاص بنعمته تعالى آمين.
ميلاد يوحنا المعمدان (4)†
«أما أليصابات فتم زمانها لتلد، فولدت ابناً، وسمع جيرانها وأقرباؤها ففرحوا معها»
(لو 1: 56)
النخبة التقية من الناس الذين يعبدون الله بالروح والحق، أولئك الذين يشهدون بسيرتهم الفاضلة وبمخافتهم لله عل أنهم يعيشون السماء على الأرض لذلك وهم يلهجون بناموس الرب ليل نهار يفرحون عندما يلمسون أن إرادة الرب تتم على الأرض ورأينا أمثالهم في جبل اليهودية، في جبل يهوذا، جيران أليصابات وزكريا الكاهن وأقرباؤهما سمعوا بما جرى في هيكل الرب لزكريا الكاهن وعلموا بعدئذ أن العاقر أليصابات قد حملت بقوة إلهية وآن الأوان فولدت. أقرباؤها وجيرانها فرحوا معها لأن إرادة الرب قد تمت هؤلاء الناس الطيبون فرح أقربائهم وجيرانهم خاصة بهذا الفرح الروحي الذي يطفي على كل ما في الحياة من آلام وأحزان ومصائب لأن الروح تسمو بفرح روحي نحو السماء وهي تلمس إتمام إرادة الله على الأرض. ولدت أليصابات ابنها يوحنا فاجتمع جيرنها وأقرباؤها أيضاً في اليوم الثامن من الميلاد ليشاركوها في احتفال طقس اختتان الصبي بحسب ناموس موسى وهذا كان أيضاً طقس فيه يسمى الطفل اسماً، اجتمع كهنة، هم أصدقاء زكريا وأناس آخرون وأرادوا أن يسموا الطفل على اسم أبيه زكريا إكراماً له، كان زكريا صامتاً لأن الملاك منذ أن بشره بأنه يكون له ولد وشكّ زكريا بذلك عاقبه الملاك أن يبقى صامتاً حتى ميلاد ابنه ولكن، ولكن زكريا يرى الطفل يتأمل أن ينعم الله عليه بالنطق ولكن ميلاده بالجسد لا يعتبر ميلاداً ما لم يكن في عداد الذين دخلوا كشعب له وعد وموعد ولهد أيضاً ميثاق مع الله، فميلاد الطفل أيضاً بل يكون خاصة عند اختتانه ليبدأ حياته الروحية والجسدية في آن واحد، فالأيام السبعة قبل اليوم الثامن لا تعتبر في عداد أيام الطفل، في تلك الأيام لذلك لم ينطق زكريا حتى جاء موعد اختتان الصبي اختتنوه وأرادوا أن يسموه زكريا أما أمه فقالت كلا بل يدعى يوحنا، استغرب الجميع إذا كان لهم عادة ـ ونعم العادة ـ أنهم يدعون الطفل باسم أحد آبائه وأجداده كما علينا أن نقتدي بهم فندعو أطفالنا باسم آبائنا وأجدادنا القديسين والقديسات لأننا عائلة الرب ورأس العائلة المسيح يسوع ربنا. اجتمعوا ليدعوه زكريا أما هي فقالت لا بل يوحنا، ليس في عائلتك أحد يدعى بهذا الاسم والتفتوا إلى زكريا لم يكن يسمع ولا ينطق أشاروا عليه ماذا نسميه فطلب لوحاً وكتب اسمه يوحنا، وعندما ذكر ذلك، عندما أنهى كتابة هذا الاسم نطق زكريا، فالأعاجيب حلقات في سلسلة إرادة الرب تتلوا الواحدة الأخرى بعد أن بشره الملاك بيوحنا وبعد أن حملت زوجته العاقر الشيخة أليصابات وولدت، بعد أن أسكت فلم ينطق نطق الآن، سكت لأنه تشكك ونطق بادئ نطقه بتسبيح الله وبالتنبؤ عن وظيفة هذا الصبي اسمه يوحنا ويوحنا يعني الرب ضارع لأنه عهد العدالة قد تم وانتهى السن بالسن والعين بالعين وعهد الرحمة بدأ عهد إعلان محبة الله للإنسان عهد الفداء عهد تقديم ابن الله ذاته على الصليب في سبيل خلاص البشرية وتنبأ زكريا عن الطفل أنه يهيئ الطريق أمام ربه، والطفل الذي كان أعجوبة إذ حبل به وولد من شيخين عاقرين أصبح معرضاً لأخطار عديدة فالتقليد الكنسي يخبرنا أن هيرودس يوم أراد قتل أطفال بيت لحم وفعل ظناً منه أنه يقتل يسوع الطفل أخبر أيضاً عن يوحنا فأرسل من يقتل يوحنا، زكريا أبوه أخذ الجند إلى الهيكل قائلاً لقد أخذته إلى الهيكل فهلموا خذوه من هناك، يقول التقليد كان عمر يوحنا ثمانية شهور واختطفه ملاك الرب من الهيكل وأخذه إلى البرية ربته أمه أولاً في البرية وماتت فربي على أيدي الملائكة اعتزل الناس لكي لا يعرفه الناس ولكي لا يعرف الناس هو أيضاً لكي ينادي بالتوبة لما بلغ الثلاثين من عمره لا يخجل من أحد حتى أنه لم يعرف المسيح عندما جاءه المسيح ليعتمد الروح قال ليوحنا أن هذا هو المسيح فشهد يوحنا. تربى يوحنا في البرية يأكل جراد البر وعسل البر الذي لم يكن حلواً بل مراً تربى ليتم رسالة سامية ليشهد للمسيح ويعد طريقه أمامه، لينادي بالتوبة ليأتي بالناس إلى الله، إذا نوع حياتنا على الأرض ليس مقياساً على رضا الله عنا أو غضبه لا سمح الله علينا، فيوحنا عاش شقياً زكريا وأليصابات اضطهدا، قتل زكريا بيد الجند في المذبح في الهيكل ولكن ما هي هذه الحياة لا بد أن تنتهي والإنسان الذي يؤمن بالله والذي يطمح أن يرث ملكوت الله يضحي بشقاء هذه الحياة لكي يكتسب الآخرة زكريا استشهد وأليصابات التي اضطهدت، يوحنا الذي في شظف العيش في البرية على يدي الملائكة كانت له رسالة سامية أن يأتي بالناس إلى الله، كلٌّ له دور في هذه الحياة وأخيراً انتهى دور زكريا عندما استشهد هو أيضاً واستشهاده دلالة على أننا عندما نشقى في هذه الحياة لا يعني أن الله غير راضٍ عنّا، إنما لأن لنا رسالة لنتمها رجالاً كنا أو ونساءً، العذراء مريم وأليصابات نسيبتها أيضاً دخلا في عداد من اشترك بالتدبير الإلهي في عمل الفداء فالنساء كالرجال في الكنيسة التي جعلت المسيح يسوع نصب أعينها لتتمثل به ولتتشبه بآلامه لتحمل صليبه، هذه الكنيسة الشاهدة كان فيها رجال ونساء يشهدون في الحق ويستشهدون أيضاً في سبيل الإيمان بالمسيح يسوع في هذا اليوم ونحن نعيد لميلاد يوحنا المعمدان نحتفل أيضاً بعيد القديسة الشهيدة بربارة، بعيد ميلادها لا بالجسد بل ميلادها للسماء فاستشهاد الشهداء إن كانوا نساءً أو رجالاً يعني ذلك ميلاد تام للسماء والكنيسة المقدسة منذ فجرها كرّمت الشهداء يوم استشهادهم لأنها رأت فيهم أناساً ضحوا بالغالي والنفيس بل أيضاً بأنفسهم في سبيل محبة المسيح يسوع فلم يفصلهم عن المسيح ومحبته لا سيف ولا نار ولا علو ولا عمق لا قوات روحية ولا جسدية فضحوا في أنفسهم على مذبح محبة المسيح هذا الولاء للرب لا لأن الرب قد خلقنا ولا لأن الرب قوي ليس مثله في الكون ولكن لأن الرب أيضاً حنان في عهد الرحمة الذي بدأ بيوحنا آخر أنبياء العهد القديم وأول أنبياء العهد الجديد في عهد الفداء. الرب محب لنا فعلينا أن نحبه وقمة المحبة هي أن يقدم الإنسان ذاته في سبيل محبة المسيح والإيمان به. بربارة عاشت في القرن الثالث كان أبوها غنياً جداً وكان وثنياً ملأ بيته بالأصنام، بربارة كانت مع خدامها خادمات مسيحيات علمنها وهي تسألهن عن دينهن كيف أن المسيح هو وحده يملأ قلب الإنسان لذلك آمنت بالمسيح لأنها أرادت أن يمتلئ قلبها وعقلها بمحبة المسيح الفادي، واستشهدت في سبيل ذلك على يد أبيها بالذات، هذه بربارة مثال لكل إنسان إن الحياة عابرة وزائلة، عزاء للجميع أن الإنسان الذي يولد في هذه الحياة تبدأ حياته الأبدية إن كان مع الله وإن كان محباً لله وإن كان في كل محبته لله يتعبّد لربنا ينال الحياة الأبدية السعيدة في الأبدية فرسالة الرب لنا في هذا اليوم في ذكرى ميلاد يوحنا بالجسد وميلاد بربارة في السماء أن نكون مخلصين لإلهنا. الود والولاء له تعالى لكي نستحق أن نرث معهما ملكوت الله ونعمته تشملكم دائماً أبداً آمين.
ميلاد يوحنا المعمدان (5)†
«وأما أليصابات فلمّا تمّ زمانها لتلد، فولدت ابناً وسمع جيرانها وأقرباؤها إن الرب قد عظّم رحمته لها ففرحوا معها»
(لو 1: 57-58)
أيها الأحباء:
تذكر الكنيسة المقدسة في هذا اليوم المبارك حدثاً عجيباً جرى في تاريخ الفداء، تذكر ميلاد يوحنا المعمدان. هذا الميلاد جرى كسائر الولادات التي حدثت لعاقر أو عاقرين في العهد القديم، الولادات التي يدعوها الرسول بولس: «الولادة بالموعد لا الولادة الجسدية»، فهو أمر يفوق الطبيعة، ولئن كان أمراً طبيعياً أيضاً، ونحن لا نحتفل بأعياد وتذكارت ميلاد القديسين والقديسات إلا ميلاد العذراء مريم ويوحنا المعمدان. دائماً عندما نحتفل بأعياد القديسين نحتفل بذكرى رحيلهم إلى السماء، فقد احتفلت الكنيسة بأعياد الشهداء الذين باستشهادهم يعتبرون قديسين لأنهم ضحّوا بالغالي والنفيس وحتى بالنفس في سبيل إعلان الإيمان بالمسيح يسوع. ثم نحتفل بأعياد الأبرار والأتقياء والنسّاك عند ختام حياتهم على هذه الأرض لأنهم حتى ختام حياتهم كانوا يسلكون بموجب شريعة الرب وناموسه بلا عيب. كما قيل عن أليصابات وعن زوجها الكاهن زكريا كانا بارّين أمام الرب وأنهما كانا يسلكان بحسب شريعة الرب وأحكامه أي فرائضه بالصوم والصلاة وتوزيع الصدقات وبإقامة نفسَيهما مثالاً للناس بسيرة طاهرة نقية.
كانت أليصابات عاقراً وكانت شيخةً، وكان زكريا عاقراً وكان شيخاً طاعناً في السن أيضاً، لذلك عندما بشّر الملاك زكريا بأنه قد استجيبت طلبته وسوف تلد له أليصابات امرأته ابناً، تعجّب زكريا رغم أن هذا الحدث لعاقرَين يلدان ابناً لم يكن جديداً في العهد القديم، وحُكِم على زكريا بالصمت كما نعلم من تقرير لوقا البشير، ولكن كانت الولادة طبيعية ولئن لم تكن جسدية صرفة بل كانت ولادة بالمواعيد، لأن الرب وعد والرب أتمّ وعده، وجرت هذه الأعجوبة. تسعة شهور حملته أمه كما تحمل الأمهات أطفالهنّ، في الشهر السادس بعد انقضاء خمسة شهور تبارك الجنين من الرب عندما جاءت العذراء مريم وهي تحمل في أحشائها الرب يسوع، وعندما زارت العذراء أليصابات وكلّمتها امتلأت أليصابات من الروح القدس وتنبّأت، وأعلنت أن الذي في أحشاء العذراء هو ربٌّ: «من أين لي هذا أن تأتي أم ربي إليَّ؟».
كل ذلك قيل بالروح القدس، والآن قد تمّت أيام أليصابات وولدت ابناً، في هذه الولادة عرفنا ما كان قبل الولادة، كما عرفنا أن جيرانها وأقرباءها فرحوا عندما ولدت أليصابات ابنها يوحنا، لأنهم كانوا أبراراً، لذلك فرحوا لفرح الآخرين. ليس كل إنسان يستطيع أن يفرح عندما ينجح الآخرون، فهم حسداً يعلّلون نجاحه بأمور كثيرة: إنه الحظ، يقولون أيضاً قد تكون هذه الفرحة سبباً لسقوط هؤلاء الناس. العديد من الناس عندما يُنعَم عليهم من الرب تساورهم الكبرياء، تقوى عليهم تجارب إبليس، لا يملكون قوة روحية لمقاومة هذه التجارب فيسقطون في الكبرياء، وكثير من الناس عندما يُنعَم عليهم بنعمة يساور الحسد الأشرار من أقربائهم وأصدقائهم وجيرانهم فيحاولون ببغضهم حتى أنهم يتمنون لهم الهلاك.
لكن أليصابات في جبل يهوذا الذي كان يسكنه العديد من الكهنة فرح جيرانها وأقرباؤها بها لأن الرب قد عظّم رحمته لها فرزقت ابناً بعد أن كانت عاقراً، وجاؤوا يشاركونها في اليوم الثامن حفلة ختان الصبي. شريعة الختان كانت علامة عهد ما بين اللّه وبين ذلك الشعب من أيام إبراهيم، ونجده في عهد موسى وبأمره فريضة تمارس في اليوم الثامن لولادة الصبي حيث يختن الصبي ليستحق أن يكون ضمن هذا الشعب الذي أقام اللّه معه عهداً أبدياً. كان الجيران والأقارب يجتمعون للاحتفال بطقس الختان، ليس ضرورياً أن يكون هناك كاهن حتى يُختتن الصبي، بل من الضروري أن يُسمّى ذلك الصبي باسم أحد آبائه وأجداده. هذه عادة حميدة جداً أولاً كي يُحيي هؤلاء الناس ذكر آبائهم، وبإحياء أسماء الآباء ينال هذا الإنسان بركة عظيمة لأنه يكون قد اشترك بالنعمة التي أسبغ اللّه بها على أولئك الآباء.
نحن في أيامنا هذه قد نسينا آباءنا الروحيين، ونسينا أنّنا عائلة واحدة ورأس العائلة هو يسوع المسيح، وعندما ننسى أسماء آبائنا ننسى سيرهم، ولا ننسج على منوالهم، ولا نقتدي بهم، ونطلق على أولادنا أسماء غريبة، هذه الأسماء تؤثّر على هذا الصبي الذي ينمو في القامة لكن لا ينمو في النعمة إذا لم يكن يتذكّر أنه دُعي باسم أحد آبائه الأتقياء والأبرار. عندما يُسمَّى بأسماء آبائه يتذكّر دائماً أنّه من نسل أولئك الآباء وأن عليه أن يتمسّك بإيمانه الذي تسلّمه منهم خاصةً نحن كمسيحيين يجب أن نتمسك بالإيمان المسيحي الذي تمسّك به آباؤنا، لذلك نرى أن أولئك الناس الجيران والأقرباء بحسب تلك العادة سمّوا الابن الذي ولدته أليصابات باسم أبيه زكريا. كان زكريا كاهناً تقيّاً والجميع عرفوا أن هذا الصبي حُبل به في بطن أمه أليصابات بعد أن بشّر الملاك أباه زكريا في مذبح البخور، لذلك فهو صبي ولد بموعد وبنعمة ولئن كانت الولادة مثلما قلنا طبيعية جسدية وهذا أمر مهم جداً أن نفهمه، ولادة جسدية صرفة إنما لم تكن جسدية بالنسبة للروح، لأنها جاءت بموعد من اللّه. أليصابات قالت: يدعى يوحنا، أجابوها: في كل نسلكم لم يكن شخص اسمه يوحنا، فاستشاروا زكريا الذي كان صامتاً كما حكم عليه الملاك لا يسمع ولا يتكلّم. أعطوه لوحاً ليكتب فكتب: يوحنا، وعندما كتب ذلك انطلق عقد لسانه وفتح فمه وتكلّم وسبّح اللّه وتنبّأ عن الصبي. ليس عن الصبي فقط أنه يسبق مجيء المسيح، ماسيّا المنتظر الذي هو ربّه، بل أيضاً تنبّأ عن المسيح بالذات الذي أقامه اللّه قرناً أي عزّاً لذلك الشعب، ودعي يوحنا لأنه به بدأ عهد الحنان، هذا الحنان كان أيضاً لا بدّ أن يرافقه ما ندعوه الرجوع إلى اللّه أي التوبة، ولذلك عهد الحنان بدأ بمناداة يوحنا الشعب قائلاً: «توبوا فقد اقترب منكم ملكوت اللّه»، وبدأ مناداة الرب في تدبيره الإلهي العلني بالجسد بعد أن اعتمد وأعلن من السماء أنه ابن اللّه وبعد أن ظهر الروح القدس بشبه حمامة هابطاً على هامته ليميّزه عن بقية الناس ولأجل الناس، لأنه هو والروح واحد، هو والآب واحد أيضاً. بعد كل ذلك بدأ رسالته الإلهية بالمناداة أيضاً بالتوبة، توبوا فقد اقترب منكم ملكوت اللّه، هذا هو عهد الحنان الذي تمّ بالفداء بدم المسيح يسوع، فنلنا رحمة اللّه بالعودة إلى فردوس النعيم وبالموعد أن نكون بعدئذٍ في يوم القيامة في عِداد القديسين في ملكوت اللّه، ليس فقط في الفردوس كأرواح قديسة طاهرة، بل أيضاً في يوم القيامة في ملكوت اللّه.
بشفاعة هذا القديس مار يوحنا المعمدان نسأل الرب الإله أن يؤهّلنا جميعاً لنقتدي بآبائنا كزكريا وأليصابات إذا ما أصبنا ببلوى لنصطبر، أليصابات أنشدت بنشيدها أن اللّه رفع العار عنها، كان العقر عاراً وكان بلوى، كان مصيبة على أليصابات كما كانت مصيبة على زكريا ولكنهما كانا صابرين، وقد يكون قد عُيِّرا أيضاً من الناس أن الرب لم يباركهما ولذلك أليصابات مجّدت اللّه لأنه رفع عنها وعن عائلتها العار، فولدت ابناً. فعلينا أن نصطبر لأن في كل حدث في حياتنا غاية ربّانية وإذا ما اصطبرنا وطلبنا وسألنا اللّه أن يزيل عنّا هذه البلوى يستجيبنا الرب فيفرح معنا أقرباؤنا وأصدقاؤنا وجيراننا الصالحون لأن الرب قد أنعم علينا، وعظم رحمته لنا. كما علينا أن نقتدي بأليصابات وزكريا اللذين أتمّا شريعة الرب أي ختنا الصبي في اليوم الثامن كما نصّت الشريعة. أحياناً عديدة نحن نؤمن بفرائض الرب، أحياناً عديدة بعض الناس يظنون أن خلاصنا بالكتاب المقدس فقط، والحقيقة يبتعدون عن الحق وعن ينابيع الحق، ولكن هناك فروض وأحكام. عندما أراد لوقا أن يصف أليصابات وزكريا بالبر قال عنهما أنهما كانا يتمسّكان بشريعة الرب وبأحكامه وفروضه، فنحن علينا فروض دينية من صوم وصلاة وتوزيع الصدقات علينا أن نكملها إلى جانب تمسكنا بالناموس الأدبي، فعلينا أن نواظب على حضور القداس الإلهي أيام الآحاد والأعياد، هذا القداس ضروري جداً عندما بعض الذين تتطرّفاً منهم تركوا النظم والفرائض ظنّاً منهم أن قراءة كلمة اللّه أي الكتاب المقدس تكفي للخلاص، لقد حادوا عن الحق وابتعدوا عن ينبوع الخلاص لأن ما نمارسه من صلوات واجب علينا، الصلوات اليومية الفرضية يجب أن نصلّيها وقد سمحت الكنيسة للظروف العالمية أن نصلّيها في البيت. سابقاً كان علينا أن نصلّيها في الكنيسة صباح مساء، أو في موقع العمل، إنّما مَن منّا إن كنّا إكليريكيين علينا أن نصلي بالروح نعبد اللّه بالروح والحق، ليس فقط نقرأ الإشحيم أو نقرأ الفنقيث، واجب علينا أن نعمل ذلك، ولكن ليكن ذلك بالروح والحق، وإن كنّا علمانيين أيضاً على الأقل كما هو مدوَّن في كتاب التحفة الروحية، أن نقوم بهذه الصلوات أينما كنّا لكي نعبد اللّه أيضاً بالروح والحق ونكمّل هذه الصلوات باشتياق إلى مناجاة الرب، فالفروض ضرورية كالناموس والشريعة.
نتعلّم أيضاً من زكريا ومن أليصابات أن نتواضع عندما يُنعَم علينا بنعمة ما وأن نقرّ ونعترف بأننا لم ننل هذا من أنفسنا وبقوّتنا بل من اللّه، وأيضاً نفكّر في المجموع، فزكريا لم يفكر أن يُرفَع العار عنه وعن زوجته، بل أيضاً فكّر بالخلاص وعندما مجّد اللّه بولادة ابنه مجّد أيضاً اللّه لأنه أقام قرن خلاص يعني الخلاص العام الذي صار بالمسيح يسوع ربنا.
ليباركنا الرب جميعاً، ويؤهّلنا أيها الأحباء لنتمسّك بشريعته الإلهية ونواميسه وفرائضه لننال نعمة الخلاص به، ونعمته تشملكم دائماً أبداً آمين.
ميلاد يوحنا المعمدان (6) †
«أما اليصابات فتم زمانه لتلد فولدت ابناً وسمع جيرانها وأقرباؤها أن الرب قد عظّم رحمته عليها ففرحوا معها»
(لو1: 57 ـ 58)
الكنيسة المقدسة في هذا اليوم تحتفل بأحد ولادة يوحنا المعمدان والكنيسة كما تعلمون تحتفل احتفالاً عظيماً بذكرى وعيد ميلاد ربنا يسوع المسيح الإله المتجسد ولكنها ايضاً إلى جانب ذلك تحتفل بذكرى ميلاد العذراء مريم ويوحنا المعمدان فقط أما بقية الشهداء والقديسين وآباء الكنيسة فإذا ما احتفلت بأعياد هم إنما تحتفل بذكرى انتقالهم إلى الخدور العلوية لأنها تتأمل بسيرة كل واحد منهم ليس فقط في ميلاده ولكن منذ ميلاده وحتى انتقاله الى السماء مستثنى من ذلك العذراء مريم التي ولدت من عاقرين والتي اختارها الله لكي يولد منها الكلمة الإله المتجسد وكذلك يوحنا المعمدان الذي اختاره الله ليكون مبشراً بمجئ الرب ومعلناً أن الإله المتجسد سيأتي ليؤسس ملكوته السماوي على الأرض . قبل كل شئ نحن نطوّب البشير لوقا الذي دوّن لنا باسلوب منطقي هذه الحوادث الإلهية لتجسد الرب يسوع بدأ وهو يحدثنا في بشارته الإلهية عن زكريا الكاهن الذي كان من فرقة أبيا الذي كان شيخاً طاعناً في السن الذي كان يصلي دائماً لكي يأتي مسيا المنتظر ويخلص ذلك الشعب من العبودية ظناً منه ربما كبقية أترابه تلك العبودية الجسدية من الاستعمار الروماني ولكن كما يذكر لوقا عندما آن الأوان ليدخل كاهنٌ الى مذبح البخور ويعطر البخور ليطهر الشعب كما فعل هارون عندما عمّ الوباء شعب إسرائيل فأمره موسى أن يأخذ المبخرة ويبخر الشعب ليزول عنه الوباء وكان دائماً يخل الكاهن الى مذبح البخور ومذبح البخور هو قريب جداً الى الهيكل الذي لا يخله إلا رئيس الكهنة ومرة واحدة في السنة أما مذبح البخور فكان الكاهن يدخله اسبوعياً يبدل خبز التقدمة وإذا ما عطر الكاهن البخور يدخل البخور الى قدس الأقداس من هناك يصعد الى السماء ويؤمن الشعب بأن كل صلوات أولئك المؤمنين تصعد مع البخور الى عرش الله تعالى . زكريا من فرقة أبيا وقعت عليه القرعة أن يدخل مذبح البخور لم يكن يدري ما سيُفاجأ به ولكن رأى عن يمين مذبح البخور الملاك جبرائيل ملاك العهد الجديد رئيس ملائكة أُرسل وهو جبار الله وهذا معنى اسمه أُرسل من الله ليبشر بميلاد الرب يسوع ومقدمة ميلاد الرب يسوع ليبشر ايضا بيوحنا الذي تقدم الرب يسوع وهيأ الشعب أمامه . الملاك جبرائيل يقول لزكريا لا تخف إن طلبتك قد اُستجيبت وامرأتك اليصابات ستلد لك ابناً تسميه يوحنا هذا يكون عظيماً خمراً ومسكراً لا يشرب ويتقدم بروح إيليا أمام الرب نعرف ذلك عندما ندرس موضوع بشارة زكريا ونعلم أن زكريا أصبح صامتاً لأنه شك في قول الملاك ونعلم أن الشعب علم بهذه الاعجوبة وعاد زكريا الى داره وحملت زوجته العاقر وهي شيخة طاعنة في السنين وبعد تسعة أشهر آن الأوان وتم الزمان كما يقول لتلد فولدت ابنا جيرانها أولا وأقربائها ثانياً عندما سمعوا فرحوا معها . في اليوم الثامن بحسب ما فُرض على بني إسرائيل كان لابد أن يجتمع الأقرباء والجيران والأحباء جميعاً ليختنوا الصبي إن وُجد كاهن أو لم يوجد هذا الختان هو عهد وُضع مابين الله أولا وما بين إبراهيم ثم في عهد موسى أصبح فرضاً على بني إسرائيل لابد أن يُختن الذكور ليكونوا في عداد الشعب الذي وُضع له أن يكون شعباً خاصاً لله حافظا الناموس والفرائض وجيد جداً أن لوقا يصف زكريا واليصابات أنهما كانا يحفظان الشريعة والناموس وليس هذا فقط بل ايضا يحفظان الفروض الطقسية التي هي ضرورية جداً للإنسان المؤمن . بدع عديدة ظهرت وتظهر بالنسبة الى المسيحية يقول مثلاً أحدهم يكفي أن نؤمن بالكتاب المقدس جيد جدا أن نؤمن بالكتاب المقدس ولكن هذا لا يكفي للخلاص هناك فروض وُضعت على الإنسان المؤمن بالكتاب المقدس أن يقتدي بالقديسين بالصوم . بالصلاة. بتوزيع الصدقات . بتقديم القرابين بالتمسك مثلا في يوم الأحد الذي هو يوم القيامة وسابقاً بيوم السبت الذي كان قد فُرض على إسرائيل لذكرى خلاص الرب إياهم من عبودية مصر حيث أخرجهم من هناك بيده القوية وذراعه الممدودة . هذه فروض لابد أن يكملها الإنسان ، نحن ايضا عندنا فروض عندما نصلي كنا نصلي مرات عديدة في النهار جمعها آباء الكنيسة الى مرتين صباحاً ومساءً هذا فرض علينا أن نجتمع مع الله بالروح والحق نعبده عبادة تامة لا يكفي أن نؤمن ، لا يكفي أن نطلب بعض الكلمات ظناً منا أن هذه الكلمات تخلصنا لا خلاصنا بدم المسيح وبالفروض التي فُرض علينا أن نكملها لنكون قريبين من الله حينذاك نكون مسيحيين حقيقيين ولوقا البشير لم ينسَ ذلك لذلك عندما وصف البارين القديسين اليصابات وزوجها زكريا الكاهن قال عنهما أنهما كانا يكملان الشريعة والناموس أي الناموس الأدبي والفروض أي الطقوس جميعها التي فُرضت على الإنسان ومن جملة تلك الفروض كان الختان كان لابد أن يُختتن الصبي في اليوم الثامن ولم يكن الصبي يُسمى باسم ولم يكن يُعدّ في عداد شعب الله في الأيام السبعة الأولى لذلك حتى في الميلاد نحن نبدأ السنة الميلادية في عيد رأس السنة الذي هو ختان الرب بالذات لا بعيد ميلاده فميلاده بالجسد يبقى جانباً ثم بدء العهد الذي عمله يسوع بالنيابة عن الشعب عن العالم كافة كذلك يوحنا المعمدان كان لابد بحسب الفروض أن يُختتن ففي اليوم الثامن اجتمع الأقرباء والجيران والأحباء الذين فرحوا مع اليصابات لأن الرب أزال عنها العار وولدت ولدت ابناً ابناً وليس كالبنين الرب يسوع يقول عن يوحنا في انه لم يقم بين جميع الأنبياء أعظم من يوحنا المعمدان ولكن ايضا يقول عنا نحن الذين قد فدانا بدمه القدوس الصغير في ملكوت الله هو أعظم منه . عندما بدأوا بالختان كان لابد أن يطلقوا على هذا الصبي اسماً وكانت العادة أن يُطلق عليه اسم من أسماء أجداده وآبائه أرادوا أن يسموه زكريا على اسم أبيه اليصابات قالت لا بل يُسمى يوحنا الحنان به بدأ عهد الرحمة والحنان يُسمى يوحنا ليس في كل آبائكم أحد اسمه يوحنا قالت لا يسمى إلا يوحنا فأرادوا أن يسألوا زكريا كان زكريا قد حتّم عليه الملاك لشكوكه انه لا ينطق ولا يسمع كان أصم واخرس فأشار عليهم أن يأتوا بلوح حينئذٍ كتب يُسمى يوحنا كان الملاك قد سماه لزكريا يوحنا لكن كيف علمت اليصابات هذا عمل الروح القدس ، وعندما كتب يوحنا حينذاك انطلق لسانه حقل لسانه وبدأ يسمع وبدأ أولا يسبح الله ويشكره ويتنبأ معلناً أن هذا الصبي يهيئ الطريق أمام ربه معلنا ايضا أن الرب الذي سيأتي بحسب بشارة هذا الصبي يكون للعالم أجمع «نور إعلان للأمم ومجد لشعب اسرائيل»، هذا المجد جاء لشعب اسرائيل لأن ذلك الشعب اؤتمن على أن يحفظ الناموس والشريعة والفرائض والذبائح الى مجيء الرب يسوع. زكريا تنبأ وهو يسبح الله ويشكره لأنه أزال العار عن داره ولأنه وهب له ابنا يكون عظيما خمرا ومسكرا لا يشرب ويتقدم أمام ربه ليهيئ الطريق قدامه بروح ايلياء . الشعب قد سمع الخبر قد أُذيع في كل مكان لابد أن هيرودس سمع ايضا ذلك وفي تشابه جدا مابين الخبر عن الرب يسوع وعن يوحنا فهيرودس كما يخبرنا التقليد الصحيح السليم هيرودس بعث ليقتل الفتى الصبي يوحنا زكريا قال لذلك الذي اوكل مع جند كثيرين أن يأخذ الصبي ليقتله ظنا منه أن هذا هو مشيحا هذا هو ملك اليهود عندما أمر بقتل الصبيان في بيت لحم يقول التقليد أن زكريا قال لهم أنا قد أخذت هذا الطفل من مذبح الرب فتعالوا هلموا خذوه من مذبح الرب وأخذه الى الهيكل هناك خطفه ملاك الرب وذهب به الى البرية فقتلوا زكريا مابين الهيكل والمذبح هذا ما يقول بعض آبائنا إن الرب عندما قال لليهود يأتي عليكم كل دم زكي للأنبياء يذكر من دم هابيل والى دم زكريا بن برخيا الذي قتلتموه بين الهيكل والمذبح يوحنا فقط لوقا يذكر لنا في هذا الإصحاح الأول أن يوحنا كان ينمو بالنعمة ويحيا في البرية الى أن ظهر لبني اسرائيل يعني كان في الثلاثين من عمره كان يعيش يُربى من الملائكة بالذات لا يعرف من البشر أحداً حتى لم يكن يعرف المسيح مع أن اليصابات نسيبة العذراء مريم لم يكن يعرف أحدا من البشر لئلا يماري البشر لئلا يهابهم لأنه عندما بشر توبوا لأنه قد اقترب منكم ملكوت الله بشر بقوة وغيرة كالنبي الناري ايلياء ولذلك يقال عنه في الكتاب انه جاء بروح إيليا كما قال المسيح نفسه عن يوحنا المعمدان . تربى في البرية على يد أولئك الملائكة أنقذه الملاك من يد أولئك الأشرار حينذاك قامت مهمته عندما بلغ الثلاثين قبل الثلاثين لم يكن يُسمح لأحد من بني اسرائيل أن يقف ويخاطب الشعب لأنه لم يبلغ سن الكمال حتى المسيح لم يبدأ تدبيره العلني بالجسد إلا عندما بلغ الثلاثين من عمره هذا هو يوحنا الذي تعيد له الكنيسة عيد ميلاده في هذا الأحد من الآحاد الثمانية التي تسبق الميلاد لتهيئ عقولنا لمجيء المسيح فعليما أن نسمع لشهادته ، علينا أن نقتدِ بالوالدين اللذين شاء الله وهما في شيخوخة صالحة أن يولد لهم ولد واليصابات كانت عاقر هو يوحنا المعمدان فقد اصطبرا على ذلك سنين عديدة بالصوم ، بالصلاة ، بالتمسك بالشريعة ، بالفروض التي فرضها الله على إنسان العهد القديم فهما قدوة لنا جميعا . ثم نأخذ لنا قدوة ايضا بالنسبة الى تسمية الأطفال بأسماء أجدادهم كانت عادة حميدة جدا لأن الطفل عندما ينمو وقد سُمي باسم احد أجداده يقتدي بآبائه بالتمسك بالرب وإتمام شريعة الرب ثم علينا أحبائي أن نرى رسالة يوحنا المعمدان بالتواضع أحيانا عديدة عندما الرب ينعم على بعض البشر نعمة عظيمة دنيوية أو حتى روحية يأتي إبليس يجند معه من يجند من جنوده الأشرار لكي يخدعوا هذا الإنسان فبغرور وكبرياء وعجرفة يسقط هذا الإنسان ويفقد النعمة يوحنا كان متواضعا وكان شاهدا صادقا عندما شهد عن الرب عندما سُئل أنا قلت كانت سيرته في بدء التبشير بميلاده وميلاده العجيب ايضا الذي يدعوه الرسول بولس الميلاد بالمواعيد لا بقوة الجسد عندما يكون الإنسان قد شاخ وخاصة العاقر التي شاخت ولكن بقوة الله ولد يوحنا الميلاد بالمواعيد مواعيد الرب لا هو بالجسد ولا أن يكون هذا الميلاد ميلاد طبيعي لكن ميلاد المواعيد يفوق عن الطبيعة لأن وعد الله يتم في هذا الإنسان فبشفاعة هذا القديس وزكريا واليصابت ليحفظ الرب جميعكم ليزيل الهموم والضيقات وكل ماهو ضمن التجارب التي تطرأ علينا كما طرأت التجارب على زكريا واليصابات ليزيل الرب هذه التجارب عنا وليفرحنا كما افرح جيران وأقرباء اليصابات إذ الرب قد كثّر كما يقول الإنجيل المقدس رحمته عليها ليكثّر الرب المراحم علينا أيها الأحباء بنعمته تعالى آمين.
ميلاد يوحنا المعمدان (7)†
«أما إليصابات فلما تم زمانها لتلد فولدت ابنا وسمع جيرانها وأقرباءها وفرحوا معها، لأن الرب قد عظم رحمته عليها»
(لو57:1)
هذا الأحد أيها الأحباء ندعوه أحد ميلاد يوحنا، ميلاد يوحنا من العجوز الشيخة الوقورة إليصابات ومن زوجها الكاهن الشيخ زكريا، يوحنا ولد من العاقرين، لكنه ولد كسائر الناس كما يولدون، يقول لوقا وهو الطبيب المنطقي الذي فصّل لنا حوادث ميلاد الرب يسوع، والكنيسة المقدسة تهيئنا في هذه الآحاد لتقبل سر التجسد الإلهي وميلاد الرب يسوع بالجسد من الروح القدس والعذراء مريم، يقول لنا لوقا أيها الأحباء، إن زمن إليصابات قد تم كسائر النسوة بولادتهن أبناءهم وبناتهم، تسعة شهور مضت منذ بشر الملاك جبرائيل الكاهن الشيخ زكريا، عندما دخل زكريا إلى مذبح البخور وعطر هناك البخور ليصعد صلات المؤمنين معها إلى منبر الرب، عندما ظهر جبرائيل عن يمين مذبح البخور فأرتعب زكريا. قال له حينذاك الملاك جبرائيل، ملاك العهد الجديد «لا تخف يا زكريا فإن امرأتك إليصابات ستلد لك ابناً وتدعو اسمه يوحنا هذا سيكون عظيماً، خمراً ومسكراً لا يشرب ويمتلئ من الروح القدس وهو في بطن أمه»، بعد تسعة شهور من هذه الحادثة تمت أيام إليصابات لتلد، فولدت ابناً.
يقول لوقا: «سمع بذلك جيرانها ـ الجيران قبل الأقرباء ـ سمع بذلك جيرانها وأقرباءها وفرحوا معها»، لقد عم الفرح جبل يهوذا، عم الفرح أولئك الناس الذين عرفوا بالبارين التقيين، الشيخ الكاهن زكريا، وزوجته البارة إليصابات، اللذين كانا يسيران بشريعة الرب ونواميسه وأحكامه، وحدث لهم ما حدث، فولدت إليصابات وهي في شيخوختها ابناً، فاجتمعوا فرحين معها.
ما أجمل أيها الأحباء أن نفرح مع الفرحين، كما يُعلمنا الرسول بولس، وأن نحزن مع الحزانى، قد نحزن مع الحزانى وعلى الحزانى، ولكن ليس من السهل أن يفرح الإنسان مع الفرحين، أحياناً عديدة إذا حدث لعائلةٍ نجاح في حياتها لا ننسب ذلك إلى رحمة الرب على تلك العائلة، ولا ننسب نعمة الرب على تقوى تلك العائلة ومخافتهم الرب ونقول إنه الحظ،، ولكن الإنسان المنصف، الإنسان الذي يخاف الله يفرح مع الفرحين، هكذا كانوا جيران إليصابات وأقرباءها فرحوا معها، لأن الله قد عظّم رحمته عليها بشيخوخة صالحة ولدت ابنها يوحنا.
والبعض عادة يكمل شريعة الله وأحكامه، أي الفروض التي وجدت ووضعت على الإنسان المؤمن، ومن جملة هذه الأحكام أيها الأحباء التي وضعت لدى بني إسرائيل قبل تجسد الرب يسوع،كان لا بد أن يختتن كل ذكرٍ مولود منهم، وعهد الختان قد بدأ بإبراهيم، وبنو إسرائيل كانوا يعتبرون إبراهيم أباً لهم، ويظهرون أن الخلاص قد تم لهم لأن أباهم إبراهيم، وكانوا يقولون للرب يسوع أن أبانا إبراهيم، الرب يسوع يعلم أن أولئك الناس الذين حادوا عن الشريعة لا يستحقون أن يدعوا ابناءاً لإبراهيم، كان يقول لهم: «أنتم من أبٍ هو إبليس وإرادة أبيكم تفعلون».
عهد الختان كان أن الولد، الابن، الذكر بعد ميلاده بثمانية أيام لا بد أن يختتن، هذا العهد بين شعب الرب وبين الرب بالذات قبل مجيء الرب يسوع، لذلك عندما ولد يوحنا اجتمعوا، الكهنة اجتمعوا والأقرباء والأصدقاء، وكانوا فرحين ليختتنوا الصبي، وعادة عندما يُختتن الصبي كان يُدعى باسم، فأرادوا أن يسموه زكريا باسم أبيه، تكريماً لأبيه، وما أجمل أن نحفظ العهد مع آبائنا وأن نسمي أولادنا بأسماء الآباء القديسين، ما أجمل أن نفعل ذلك لكي يقتدي الأبناء بالآباء، ولكن عندما أرادوا أن يسموه زكريا، اعترضت إليصابات، زكريا بعد تحت حكم الملاك الذي قال له: أن يبقى صامتاً لا يسمع ولا ينطق، إلى أن يتم قول الملاك، وقول الملاك كان هو التبشير بميلاد يوحنا. فقالت إليصابات لا، لا يدعى زكريا إنما يُدعى يوحنا، هذا عجب عجاب، من أين علمت إليصابات أن الله قد أرسل ملاكه، وأنه قد أعطى هذا الاسم بالذات عندما بشر زكريا قائلاً له: إن إليصابات تلد ابناً وتدعوه يوحنا، الحنان، الرحمة، عهد الرحمة والمحبة والحنان يبدأ به، من أين علمت إليصابات ذلك؟ لا غروا من هذا فنحن نعرف أن الروح القدس حلّ عليها حينما زارتها العذراء مريم والرب يسوع كان في أحشاء العذراء مريم، وأن يوحنا حقاً قد امتلأ بالروح القدس كما قال الملاك وهو في بطن أمه إليصابات، وارتكض فرحاً بلقاء الرب يسوع الطفل. هذا أمرٌ عجيب جداً، ولا يُعتبر عجيباً بالنسبة لنا لأن ديننا كله أعاجيب، لذلك قد امتلأت إليصابات من الروح القدس، والروح القدس ألهمها أنه يدعى اسمه يوحنا.
احتار الكهنة والأصدقاء والأقرباء، وقالوا لإليصابات ليس في عائلتك أحد بهذا الاسم، فأشاروا على زكريا، ماذا نسمي الطفل، طلب لوحاً لأنه لم يكن ينطق بعد، طلب لوحاً وكتب اسمه يوحنا، لا يُسمى، اسمه يوحنا، هذا الاسم أعطته السماء، أسمه يوحنا، وحالما كتب أسمه يوحنا أنفك عقد لسانه، وأيضاً سمعه ونطق، عندما شك صمتَ، عندما نطقَ سبح الله، وابتدأ يتنبأ عن مستقبل هذا الصبي يوحنا، الذي قال عنه نبي الله يُدعى ويتقدم الرب يهيأ شعباً أمامه.
هكذا نرى الولادة العجيبة، ولئن كانت ولادة طبيعية، لكنها ولادة من عاقرين شيخين، ونرى كيف أن الله حتى يتدخل في هذه الأمور الصغيرة، نتعجب من ذلك، وندرس حياتنا جميعاً، نرى أن الرب وراء كل حدث يحدث لنا، أن كنا نؤمن بالرب، وإن كنا نكمل ناموس الرب وأحكامه بمخافة الرب.
دروسٌ عديدة نتعلم أيها الأحباء بميلاد يوحنا، نرى مثلاً ونحن ندرس حياة يوحنا، كيف يقول الملاك لأبيه زكريا ويبشره «هذا يكون عظيماً»؟
أين هذه العظمة؟ بلغة البشر وبعقل البشر. هل العظمة لأنه قد ولد من شيخين؟ العظمة بالآلام التي تحملها في سبيل حمل رسالة الرب. + العظمة بأنه لم يذق خمراً ولا مسكراً، أين العظمة بلغتنا وبفهمنا نحن البشر؟ أن الإنسان يكون عظيماً عندما يكون غنياً، عندما يكون ذا جاه ومركز سامي في هذه الدنيا.
أما العظمة الحقيقية لدى الله، هي أن يخاف الإنسان الله، أن يُكمل شريعة الله، أن يتتم أحكامه وفرائضه من صوم وصلاة وتوزيع الصدقات، هناك تظهر عظمة الإنسان المؤمن.
فيوحنا كان عظيماً لأنه كان يخاف الله. ونحن عندما نحتفل في هذا الأحد بذكرى ميلاده، وذكرى ختانه، وذكرى تسميته بهذا الاسم العجيب، أيها الأحباء، نسبح الله الذي أختاره ليكون سابقاً للرب يسوع ويبشر به ويكون كاروزاً له، مهيئاً الشعب قدامه، ولنقتدي به، ليس فقط أن لا نحتسي الخمر والمسكر، بل أن نمتلئ من الروح القدس ولا يكون ذلك إلا بإيماننا بالرب يسوع، وإيماننا بالرسالة السامية التي وضعها الرب يسوع على عاتق كل واحد منا، مؤمنين به لننال أجراً عظيماً، ونعمته تشملكم دائماً أبداً، آمين.
ميلاد يوحنا المعمدان (8)†
«أما إليصابات فلما تمَّ زمانها لتلد، ولدت إبناً فسمعَ جيرانها وأقرباؤها أنَّ الرب قد عظَّمَ رحمتهُ عليها ففرحوا معها»
(لوقا1: 57 )
فرحٌ وسرورٌ وبهجةٌ عمَّت جميع سكان جبل يهوذا عندما بلغهم الخبر المُفرح أن إليصابات قد ولدت إبناً، تلكَ الشيخة العاقر التي انتظرت سنين عديدة بصوم وصلاة ونذور لكي يُعطيها الرب نعمةَ الولادة لتلد مولوداً إن كان ذكراً أو أنثى، فولدت إبناً مما زادَ فرحها وبهجتها، ولدت إبناً بإنذار السماء بالذات بوعد الله لزوجها زكريا، ونحنُ عندما نتأمل بهذا الحَدث العجيب نذكر قبل تسعة أشهر من زمن هذا الحَدث كيفَ أن زكريا عندما كانت نوبتهُ ليدخل إلى هيكل الرب ويُبخر إلى مذبحِ البخور ارتفعت صلاتهُ إلى الله وظهر لهُ ملاك الرب جاء عن يمين مذبح البخور يُبشر زكريا بأن امرأتهُ إليصابات ستلد لهُ إبناً وأعطاهُ الإسم أيضاً، يُدعى يوحنا ..
لأنَّ بهِ يبدأ عصر الحنان والرحمة والمحبة وينتهي العصر القديم عصر العدالة وعصر شريعة العين بالعين والسن بالسن.
ولما تمَّ زمان إليصابات، بعد تلك البشارة بتسعة أشهر لتلد، ولدت هذا الذي عنهُ تنبأ بل أنبأ الملاك جبرائيل أباهُ زكريا.
كانت العادة بحسب فرائض وطقوس شريعة موسى أن الابن الذَكَر في اليوم الثامن يُختتن فاجتمع الكهنة والجيران والأصدقاء والأقرباء ليحتفلوا بختان يوحنا ابن زكريا الكاهن، الذي كان قد عوقِبَ من ملاك الرب أن يبقى صامتاً طالما شكَّ في قول هذا الملاك إلى أن يتم ما قالهُ الملاك لهُ.
اجتمع هؤلاء الناس وهم فرحون، وعندما كانوا يختنوا الطفل الذكر كانوا يُطلقون عليهِ إسماً، أطلقوا على هذا المولود اسم والدهُ زكريا فامتلأت إليصابات أمهُ من الروح القدس وقالت لا، بل إسمهُ يوحنا قالوا لها ليسَ في عشيرتكِ أحد بهذا الإسم، قالت إسمهُ يوحنا، كان زكريا صامتاً لا يسمع ولا ينطق، حينذاك أتوا بلوحٍ وطلبوا إليهِ أن يكتب ماذا يُسمى هذا الطفل فكتبَ إسمهُ يوحنا، لم يكتب نسمِّيهِ يوحنا بل إسمهُ يوحنا، هذا الإسم أعطيَ من السماء حينذاك فُكَّ عقل لسانه وانطلق عندما أُمرَ بأن يصمت كعقاب لهُ لشكوكهِ بقول الملاك، صَمت وعندما نطق بدأ بتسبيح الله، نطق بقوة الروح القدس وبدأ يُسبح الله ويُناجي ابنهُ وأنتَ أيها الطفل نبي العليّ تُدعى، وأظهرَ رسالتهُ، ما هي الرسالة التي أُعطيت ليوحنا… أن يكون عظيماً كما قال الملاك عنهُ خمراً ومسكراً لا يشرب ويتقدَّم بروح إيلياء، روح الغيرة، روح التمسُّك بالإيمان ليتقدم أمام الرب ليُهيِّىء طريقهُ قدامهُ.
كل هذهِ الأمور العجيبة رأيناها وسمعنا ما قالهُ زكريا وما قال أيضاً الناس عن هذا الطفل، ماذا سيكون من هذا الطفل ورسالة هذا الطفل يا تُرى..
لا نتعجَّب أيها الأحباء عندما نسمع بعدئذٍ أن هذا الطفل إضطُهِد أيضاً من هيرودس كما اضطُهدَ الرب يسوع، وأن هذا الطفل أتمَّ شريعة الرب وعاش للرب ناسكاً زاهداً مُتصوِّفاً، عاش حيثُ رباه الملائكة، لا نتعجب أبداً أن بعض الناس ظنوهُ مشيحا المسيح أما هو فهو الشاهد للمسيح لستُ أنا، الذي يأتي بعدي هو أقدمُ مني الذي لا أستحق أن أنحني وأحل سيور حذائهِ. هذا كل ما سمعنا من يوحنا كشهادة للرب يسوع وهذهِ الشهادة هي رسالتهُ السامية وُلدَ لأجلها ونشأ لأجلها وأعلنها، لم يكُن يوحنا يعرفُ أحداً من أقربائهِ وأصدقائهِ، لماذا ؟ لأنهُ وهو طفل اضطُهِد، هيرودس الذي أمر بقتل أطفال بيت لحم حتى يقتل المسيح الطفل أمر أيضاً عندما سمعَ خبر ميلاد يوحنا أمر أن يُقتل هذا الطفل لعلَّهُ هو المسيح، ويقول التاريخ الكنسي أيها الأحباء وهذهِ حقيقةٌ تامة وصحيحة أن الجُند أتوا إلى زكريا ليأخذوا يوحنا الطفل فرفض زكريا وقال لهم إنني أخذتهُ من مذبح الرب وأُعطيهِ لمذبح الرب وأنتم أفعلوا ما تشاؤون فأخذهُ إلى الهيكل ووضع يوحنا أمام مذبح الرب فجاء ملاكٌ واختطف يوحنا وأخذهُ إلى البرية. وهناك رأي وهو أن الرب عندما قال كل دم زكي يُطلب من اليهود أشار إلى دم زكريا الذي قتلوهُ بين المذبح والهيكل حينذاك حسب رأي بعض الآباء عندما اختطف الملاك الطفل يوحنا الجُند قتلوا زكريا بالذات ودمهُ كان على اليهود لأن الجُند أيضاً كانوا من جُند الهيكل الذين هم كانوا يهود أيضاً وهناك اُخذ يوحنا أيضاً إلى البرية.
التاريخ يُخبرنا ويؤكد لنا أن الطفل عاش في البرية وبقوة الله تبعتهُ أمهُ إليصابات وأرضعتهُ وإلى السنة الثامنة كانت أمهُ معهُ، ثم غادرت هذهِ الحياة إلى الخدور العلوية ويوحنا رباهُ الملائكة لذلك لم يكُن يعرف أحداً من أقربائهِ حتى المسيح الذي هو نسيبٌ ليوحنا، حتى المسيح لم يكُن يعرفهُ يوحنا، وعندما جاء المسيح ربنا إلى يوحنا ليعتمد قال يوحنا الذي أرسلني لأعمِّد قال لي الذي ترى على هامتهِ شبه حمامة هو هو مسيَّا المسيح وأنا ورأيتُ وشهدتُ أن هذا هو المسيح.
تربى يوحنا في البرية لكي لا يُجاري أو يُجامل أحد ولذلك عندما آن الأوان ليُعلن بشارتهُ عن مجيء المسيح بدأ بقولهِ توبوا لأنهُ قد اقترب منكم ملكوت الله، وكل مَن كان يأتيهِ ليعتمد منهُ كان أولاً يعترف بخطاياه أمام يوحنا حينذاك يُعمِّدهُ يوحنا معمودية التوبة، لذلك عندما جاءهُ المسيح في البداية لم يعرفهُ وبعدئذٍ جاءهُ يوم الوحي على يوحنا وعلمَ أنهُ المسيح فقال لهُ أنا محتاجٌ أن أعتمد منكَ وأنت َ تأتي إلي، الرب يسوع قال لهُ دع الآن ينبغي أن نُكمِّل كل برّ، أنهُ حتى الرب يسوع جاء لم يأتِ فقط كإنسان، جاء كإنسان جمعَ كل خطايا العالم في نفسهِ حتى يكون ضحية وذبيحة عن هذهِ الخطايا ويغفر لنا نحنُ البشر.
في ميلاد يوحنا أحبائي نأخذ دروساً قيِّمة أولاً كيفَ أنهُ إذا الإنسان أُصيبَ ببليَّة لا يعتبر هذهِ البلية من الخطية بل إرادة الله كانت تشاء، وباعتبار أنهُ في تلك الأيام العاقر تُعتبر خاطئة لأنها لم تلد فكان همُّ العاقر هو أن تلد ذكراً أو أنثى لا يهمّ، المهم أن تلد لكي يزول العار عنها، هذا في العهد القديم أما نحنُ في العهد الجديد هذا الشيء لا يهمنا أبداً، الإنسان يهمُّهُ أن يكون لله وأن يعبد الله وأن يُكمِّل الشريعة هذا أهم شيء فلا يهمّ إن كانت المرأة عاقراً أم وَلَدت.
لكن مع هذا نحنُ نرى أن إليصابات وزكريا كانا بارَّين يكمِّلان شريعة الله وأحكامهُ، الأحكام هي الفروض والطقوس، ومن جملة تكميل هذهِ الطقوس مجيء يوحنا المعمدان وإكمال الطقس بالنسبة إلى الختان إذ كان الختان علامة عهد بين بني إسرائيل وبين الله، إذا لم يُختتن فهذا لا يتعاملون معهُ ولا يعرفوهُ ويعتبروه من الأمم، هذا الشيء زال في المسيحية فالمعمودية هي العهد بيننا وبين الله ولذلك الرسول بولس يقول ولئن اختُتنتم فالمسيح لا ينفعكم شيئاً، فنحنُ كمسيحيين لا يوجد عندنا الختان كعهد بين الله وبين الإنسان إلا إذا كان لغاية صحية فمسموح بهِ، عهدنا عن طريق المعمودية، دُفنا معهُ بالمعمودية للموت حتى كما قام المسيح من بين الأموات نحنُ أيضاً نقوم في جِدَّة الحياة والحياة الجديدة.
نتعلَّم أيضاً من إليصابات ومن زكريا الصبر، كيف زكريا اصطبر لأن الملاك عاقبهُ تسعة شهور وهو صامت لا يسمع ولا ينطق وعندما نطق سبَّح الله، هذا الشيء واضح جداً.
ونرى أنهما قدوة لكلِّ مؤمنٍ بالله أن يرضى بما يُعاقبهُ الله بهِ أو يُؤدبهُ وثم يُسبح الله بعدئذٍ عندما يُزيل عنهُ هذا العقاب.
ونتعلم منهما كيف نربي أولادنا، ربَّيا إبنهما وإن كان طفل ولكن حتى عندما اختطفهُ الملاك وأخذهُ إلى البرية تبعتهُ – بإرادة الله طبعاً – إليصابات ويقول الكتاب المقدس أن إليصابات امتلأت من الروح القدس، امتلأت أولاً من الروح القدس عندما زارتها العذراء مريم ونطقت إليصابات بقانون الإيمان من أينَ لي هذا أن تأتي أمُّ ربي إليَّ . أول مَن دعا العذراء مريم بأم الرب هي إليصابات طبعاً فعلت ذلك بقوة الروح القدس.
فنحنُ أيضاً أيها الأحباء عندما نقتدي بهؤلاء الأبرار والأتقياء الذين ربنا ولئن أحياناً أدَّبهم ولكن أدَّبهم لكي يُظهِر فضلهم ويُظهِر تقواهم ويُظهر قداستهم كما يُنقَّى الذهب بالنار.
نسأل الرب يسوع في هذا اليوم الذي هو أحد ميلاد يوحنا المعمدان بشفاعة زكريا وإليصابات ويوحنا المعمدان بالذات أن يحفظكم ويُؤهلكم لكي تُربُّوا أولادكم التربية المسيحية الصالحة بنعمتهِ تعالى آمين.
وحي يوسف البار
وحي يوسف البار
وحي يوسف البار (1)†
«يا يوسف ابن داود، لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك، لأن الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس، وستلد ابناً وتدعو اسمه يسوع، لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم»
(مت 1 : 20)
تذكر الكنيسة المقدسة في طقسها في هذا اليوم جليان (ܓܠܝܢܐ ܕܝܘܣܦ) أي ظهور الملاك ليوسف في الحلم، وإعلان حقيقة التجسّد، حقيقة حبل العذراء مريم من الروح القدس. وفي هذه الحادثة ونحن نتأمّل ما جرى ليوسف البار من اضطراب عندما وجد مريم حبلى بعد أن عادت من زيارتها لنسيبتها أليصابات، نشعر بعناية الله تعالى بعباده الصدِّيقين وبالعالم أجمع، حيث طمأن هذا الصدِّيق، ثم نلمس إيمان هذا الصدّيق وتصديقه لإعلان السماء وطاعته للرب.
كانت العذراء مريم قد عادت من زيارة أليصابات بعد أن مكثت في بيت زكريا الكاهن زوج أليصابات في جبل يهوذا ثلاثة اشهر، عادت فبدت عليها علائم الحبل، شكّ يوسف، اضطرب لا يعلم ماذا يفعل، هل يشهرها كأنها زانية والعياذ بالله، أم يسكت عنها ويكون قد اشترك في خطيّتها لأن من يشعر بخطيئة كهذه ويسترها يكون قد اشترك فيها، والرسول بولس بعدئذٍ يقول: «لا تشترك في خطايا الآخرين» (1تي 5 : 22). موسى كما ذكر الرب يسوع ذاته كان قد أذِن لليهود بتطليق نسائهم، سمح للرجل الذي يرغب بتطليق زوجته أن يعطيها كتاب الطلاق فتُخلّى. هكذا قال الرب عن موسى، وقال للفرّيسيين عندما ذكّروه بهذه الحقيقة: «إن موسى لأجل قساوة قلوبكم أذِن لكم أن تطلّقوا نساءكم، أما منذ البدء فلم يكن هكذا»، هل يفعل يوسف ذلك؟ صار يوسف كريشة في مهب الريح، وكقارب صغير يمخر عباب بحر خضم تتلاطم أمواجه وتعصف رياحه، لا يعلم ماذا يفعل. من هنا نعلم أيها الأحبّاء أنه ليس فقط عامة الناس يدخلون في تجارب ويتعرّضون لآلام والاضطرابات والقلق، ولكن حتى الصدِّيقين تصيبهم هذه المصائب، فقد افتكر يوسف بنفسه هل يشهر العذراء مريم؟ هل يعطيها كتاب الطلاق فتخلّى؟ أم يصدّق ما حدّثته به ولا بد أنها حدّثته عن ظهور الملاك لها وعن تبشيره إياها أنها تحبل الرب، أنّها قد حملت من الروح القدس، وأن الذي حملته هو ابن الله، وأنها ستلد ابناً وتسمّيه يسوع، لا بد أنها حدّثت يوسف بكل ذلك وهو يصدّقها، لكن هذا الأمر عجيب حدّاً، خلافاً للطبيعة وليس من السّهل على الإنسان أن يصدّقه ويؤمن به بدون إلهام ربّاني. هنا نرى كيف يضطرب الإنسان المؤمن وتبدأ الشكوك، الشكوك إذا ساورت الرجل أو المرأة أحدهما في شريكه تدخل الشكوك من كوّة وتخرج المحبة من الباب، ويبدأ ذلك البيت ينقسم على ذاته، والبيت الذي ينقسم على ذاته يقول الرب، يخرب. ولذلك فالقديسون دائماً، الصدِّيقون يصطبرون، يأخذون جانب الصبر والتريّث والتفاهم حتى لا يخرب هذا البيت.
نحن الإكليروس أيها الأحبّاء، خاصةً عندما يلتجئ الناس إلينا بأسرارهم، يجب أن نفتكر بهذا، أن نجعل هؤلاء الناس يلتجئون إلى الرب بالصلاة، وأن ينقّوا قلوبهم وأفكارهم، بعدئذٍ يبدأ البحث والتحقيق في أمور عائلية كهذه كي لا يهدم البيت. يعلّمنا الإنجيل المقدس أن يوسف قد تشكّك، ولكن لا يخبرنا أن أهله أو أقارب العذراء مريم أو الأصدقاء والجيران قد تشكّكوا أو شكّوا في العذراء مريم، لماذا؟ لأن العذراء مريم كانت قد خُطِبَت ليوسف، والخطبة هي عقد زواج وكان يحق ليوسف أن يعرفها معرفة زواج، ولئن كانت في بيتها، وخاصةً وقد صارت في بيته. لذلك لم يشكّوا أن يوسف قد عرفها معرفة زواج فهي حُبلى، إن يوسف وحده يعلم أنه لم يعرفها معرفة زواج وأنّها لم تحمل منه. الله لا يترك الصدِّيقين الذين يخافونه ويلتجئون إليه وقت الضيق، لا يتركهم في حيرة، لذلك نقرأ في الإنجيل المقدس كما كتب متى يقول أن يوسف قد ظهر له الملاك في حلمه قائلاً: «يا يوسف ابن داود» ذكر اسمه وذكّره بداود الذي من نسله يأتي المسيح، لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك، سمّاها امرأته لأنها شرعاً كانت امرأته، ولكن بالحقيقة وفعلاً لم يعرفها معرفة زواج، لا تخف أتن تأخذ مريم امرأتك، ويعني بكلمة تأخذ أي تُزَفّ إليك، كانت العادة أنه بعد الخطوبة تُزَف الفتاة إلى الرجل باحتفال عام أمام الناس جميعاً، فتصير امرأته فعلاً، لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك، لأن الذي حُبِل به فيها هو من الروح القدس، وستلد ابناً، يبشّره بولادة الابن، وتدعو اسمه يسوع. الحق في تسمية الابن كان للرجل، للأب، فاعتبره أباً للرب يسوع شرعاً، ولذلك عندما حملت وعندما ولدت لم يستطع اليهود أن يتّهموها بالخيانة، ذلك أن يوسف قد اعتبر زوجها شرعاً ونال نعمةً عظيمة، لأن أصبح يُعرَف لدى الناس أنه أب الرب يسوع، والأب هو الذي يحمي أولاده، ولفظة أب من أشرف وأنبل وأفضل الألفاظ. تصوّروا، الرب يسوع عندما علّمنا أن نصلّي، أي أن نخاطب الله تعالى سمح لنا أن نخاطبه مثلما يخاطب الأبناء آباءهم فنقول: (أبانا الذي في السموات)، فما أعظم النعمة التي نالها يوسف أنه دُعي أباً لرب يسوع، ونحن نقرأ أيضاً في الإنجيل المقدس عندما فقدت العذراء مريم وخطيبها يوسف البار الرب يسوع في الهيكل وهو ابن اثنتي عشرة سنة وعادا إلى الهيكل ووجداه قالت له العذراء: «هوذا أبوك وأنا تعبنا جدّاً في التفتيش عنك»، قال لها: «ألا تعلمان أنه ينبغي لي أن أكون فيما هو لأبي»، ويعني بقوله أباه السماوي باعتبار أن الهيكل هو هيكل الله الآب السماوي. إذن الناس لم يشكّوا في العذراء مريم، وكان يحق لخطيبها أم يعرفها معرفة زواج، وحيث أن يوسف لم يمسسها ووجدها حُبلى فهو وحده الذي شكّ فيها، والملاك طمأنه لا تخف يا يوسف ابن داود أن تأخذ مريم امرأتك، لأن الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس، وستلد ابناً وتدعو اسمه يسوع، يسوع (الله خلّص) لأنه قال له الملاك يخلص يخلّص شعبه من خطاياهم.
أيها الأحباء:
استحق يوسف أن يكون أباً للرب يسوع، وحماهُ، هذا وهو جنين، وهو طفل صغير، وهو فتىً يافع، وهذا درس للآباء جميعاُ أن يحموا أولادهم. وربّاهُ يوسف جسدياً بحسب الناموس، بل حمى أيضاً يوسف العذراء مريم، ويخبرنا التاريخ أن يوسف الطاهر النقي الذي يصوّره المصوّرون وفي يده زنبقة دلالةً على الطهر والنقاء، يوسف هذا عندما فارق الحياة مات في أحضان الرب يسوع، يسوع الذي كان يعمل نجاراً في حانوت يوسف وكأنه تعلّم هذه المهنة الشريفة من يوسف، يسوع أيضاً اعتنى هو الآخر بأمه العذراء مريم خاصةً بعد انتقال يوسف إلى السماء. في هذه الحادثة نتعلّم كيف يجب أن نخاف الله، وإذا ما طمأننا الله في الضيق، مؤمنين أنه هو معنا دائماً ويرعانا ويعتني بنا، علينا أن نطيع أوامر الله، يوسف أطاع أمر الله، استيقظ من الحلم وعمل كما أمره الملاك وأخذ العذراء مريم إلى عنده، أي زُفَّت إليه رسمياُ ولم يعرفها، أي لم يعرفها معرفة زواج. يقول متّى مؤكِّداً على أنه لم يعرفها معرفة زواج يقول (حتّى ولدت ابنها البكر) ولا يعني هذا أنه عرفها معرفة زواج بعد ولادة ابنها البكر. البكر هو أول ابن، يمكن أن يأتي بعده آخر، ويمكن ألاّ يأتي بعده أحد، فهو في كل الأحوال يُعَد بكراً للعائلة. وعقيدتنا الإيمانيّة أن العذراء مريم كانت عذراء قبل ولادتها الرب يسوع وعند الولادة وبعد الولادة، لذلك نسمّيها الدائمة البتوليّة. «لم يعرفها حتى ولدت ابنه البكر»، ولك يكن ليسوع اخوة من العذراء مريم، ربّما كان يوسف أرملاً وربّما له أولاد من امرأة أخرى أخذها قبل أن يأخذ العذراء مريم، ولكن في الحقيقة لم يكن للرب يسوع اخوة من العذراء مريم لأنها دائمة البتوليّة، والباب الذي دخل فيه الرب يقول حزقيال (لا يمكن أن يدخل فيه أحد). وهل يعقل أن يوسف البار الذي حدّثته العذراء عمّا جرى لها، والذي رأى العجائب والمعجزات الباهرات، وسمع السماء وهي تنشد التراتيل وتترنّم مبتهجةً مع الرعاة البسطاء في مغارة بيت لحم، هل يُعقَل أن يوسف الذي رأى ملوك المشرق يأتون إلى مغارة بيت لحم ويسجدون للرب يسوع المولود ويسمع كلماتهم، هل يعقل أن يعرف العذراء مريم معرفة زواج. أما الذين دعوا اخوة الرب في الإنجيل المقدس، فهؤلاء هم بنو عمومته أو بنو خؤولتهن وفي لغة الكتاب المقدس كان أبناء الخؤولة أو العمومة يسمون اخوة للشخص. لذلك بقيت العذراء مريم دائمة البتوليّة والمسيح يسوع بكرها وبكر الآب السماوي، وهو الذي اعتنى بها أيضاً، وحين كان معلّقاً على الصليب لم ينسها بل سلّمها لتلميذه الحبيب يوحنا لأنه لم يكن لها ابن سوى الرب يسوع، ولو كان لها ابن آخر إلى جانب الرب يسوع لكان الرب قد سلّمها إليه لأنه أحق من غيره بالعناية بها.
نسأل الرب يسوع في هذا اليوم المبارك أيها الأحباء، أن لا يدخلنا في التجارب، كالتجربة التي دخل فيها يوسف وهو بار، وأن ينقذنا من الشرير الذي يحاول أن يجرّب الصدِّيقين كما أنقذ يوسف من تلك التجربة، وإذا ما دخلنا في التجارب علينا أن نلتجئ في الضيق إلى الرب يسوع، فبعد اضطراب نفوسنا يطمئننا، وإذا ما طمأننا علينا أن نطيع أوامر الرب لنكون مرضيين لديه تعالى. أسأل الرب يسوع أن يؤهّلنا جميعاً ويؤهّل كل صدِّيق وتقيّ وبار أن ينال نعمة عظيمة عند مغادرة هذه الحياة كما نال ذلك يوسف البار، إذ رقد في أحضان الرب يسوع، ونعمته تشملكم دائماً أبداً آمين.
وحي يوسف البار (2)†
«يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك لأن الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس، وستلد ابناً وتسميه يسوع لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم»
(مت 1 : 20)
دجى الليل وسكنت الطبيعة، ولكن نفس يوسف الصدِّيق كانت مضطربة. لقد عادت العذراء مريم من جبل اليهودية، من مدينة يهوذا ـ التي هي مدينة الخليل اليوم ـ وبدت عليها إمارات الحبل وعلاماته، فساورت الشكوك نفس يوسف واضطرب جداً وأصبح بين نارين: إنه يعلم أن الفتاة التي خطبها وعقد له عليها عقد زواج هي طاهرة وقدّيسة ونقيّة وعفيفة، ولكنه أيضاً أمام أمر واقع، فقد ظهرت إمارات الحبل وعلاماته. لم يشك أحد بطهر العذراء مريم، أحد من أقربائها أو جيرانها فقد كانوا على يقين أنها حُبلى من يوسف. ففي عادات اليهود في تلك الأيام، أن الفتاة إذا ما خُطبت لرجل، تبقى في دارها ويحق لذلك الرجل أن يزورها في دارها، بل أيضاً يحق له أن يعرفها معرفة الزواج، ولكن العذراء مريم، الفتاة اليتيمة، ربيبة الهيكل عندما آن الأوان لكي تتزوّج بحسب عادات اليهود في تلك الأيام، كان من هو ولي عليها –وفتاة يتيمة ربيت في الهيكل- يكون الكهنة أولياءها، فيختارون من أقربائها، ومن يحق له الزواج منها، وكان في حالة العذراء مريم أن تتزوّج من يوسف الذي بحسب تعليم آبائنا كان أرملاً، ويثبت هذا أيضاً المؤرّخ المسيحي الأول يوسابيوس القيصري، الذي عاش في القرن الرابع. فخُطبَت إلى يوسف، وإذ كانت في الهيكل وقد خُطبت، كان لا بد أن يأخذها يوسف إليه لتعيش معه في داره إذا لم يكن لها أهل غيره إلى أن يأتي الوقت المعيّن لتُزَفّ رسمياً إليه، ويحق للزوج أو الخطيب في هذه الفترة أن يعرف خطيبته معرفة زواج. بعضهم يقول أن العذراء كانت قد نذرت نفسها نذر البتولية، وهذه خرافة، لأنه لم يكن في العهد القديم نذرٌ للبتولية، للسيدات خاصة، ذلك أن كل فتاة يهودية كانت تتوق أن تتزوّج لعل المسيح يولد منها، لذلك عندما آن الأوان وصار عمر الفتاة مريم (13) سنة، خطبت ليوسف، وقبل أن يتزوّجها وجدت حُبلى من الروح القدس، لم يشك أحد بطهرها ونقائها، كلّهم ظنّوا أنها حبلى من يوسف. هكذا شاءت الإرادة الربانية، أن يكون يوسف حامياً للعذراء ولسمعتها أيضاً، ولذلك لم يشك فيها سوى يوسف الذي كان يعرف أنه لم يعرفها معرفة زواج. هل يشهرها ويفشي سرّها ويطلّقها أي أن يعطيها كتاب طلاق فتتخلّى، وبذلك يسيء إلى سمعتها، ويسِم سمعة عائلتها إلى الأبد بوصمة الخطيئة. لم يكن بمقدور اليهود أن يطبّقوا الشريعة الموسوية على الزّانية بأن يرجموها، لأن الانحطاط الأدبي كان قد تفشّى بينهم، ولأن الدولة الرومانية لم تكن تسمح لأولئك القوم أن يطبّقوا شريعتهم التي كانت تأمر برجم الزانية. يوسف وهو صدِّيق اصبح بين نارَين: هل يطلّقها أم يأخذها إليه، وإذا أخذها إليه امرأة وهو يشك بطهرها، بل يرى علامات الحبل بادية عليها يكون قد خالف الشريعة واشترك بالخطية. لذلك خاف من أن يفعل ذلك.
في حالة الاضطراب هذه التي تحدث كثيراً بسبب الشكوك، حتى في دور المؤمنين، عندما تدخل الشكوك الدار تغادرها المحبة، كم دار خربت بسبب الشكوك التي قد يولّدها الغرباء حسداً وبغضةً، وما أكثر من يحيا في حياة المشاغبة والنفاق والدجل وبث الفتن والفساد بين العائلات، وهو لا يعلم أن دينونته عظيمة لأن الله يرى كل شيء ويعرف الخفايا، وفي حالة كهذه الأبرار والأتقياء دائماً يلتجئون إلى الله. لا بد أن العذراء مريم قد حدّثت خطيبها يوسف الصديق بما جرى لها مع الملاك، لا بد أيضاً أنها قد قصّت عليه ما حدث لها مع أليصابات التي حلّ عليها الروح القدس، وقالت للعذراء: من أين لي هذا أن تأتي أم ربي إليّ، ولكن عندما تدخل الشكوك قلب الإنسان وتتمكّن في ذلك القلب، يصمّ هذا الإنسان أذنيه عن سماع النصح، ويرى الحق باطلاً ويرى النور ظلاماً ويرى الأخ والصديق عدوّاً. الصدِّيق كما قلنا يلتجئ إلى الله، هذه كانت حالة يوسف بالتجائه إلى الله ونفسه مضطربة، والله يرى الناس ويقرأ ما في القلوب والكلى كما يقول الكتاب المقدس ويعتني بنا جميعاً، وينتظر منا في كل حال، ليس فقط في الضرّاء، بل بالسرّاء أيضاً أن نلتجئ إليه. في هذه الحالة أرسل الرب ملاكه إلى يوسف فظهر له في حلم، أجل ظهر الملاك جبرائيل ليوسف البار، قال له: يا يوسف ابن داود، يناديه باسمه، لأن اسمه مكتوب لدى الله، والله يعرف أسماءنا جميعاً كل فرد منّا الصغير والكبير لذلك يناديه الملاك باسمه يقول له: يا يوسف ابن داود، ويعلم أيضاً أن يوسف سمن نسل داود، ويريد أن يذكّره أن المسيح يأتي من ذلك النسل: لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك، لا تخف فإنك لا تخالف الشريعة بذلك، لا تخف وأنت تخاف الله لأنك تكمل أوامر الله بحماية العذراء مريم، لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك لأن الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس، وستلد ابناً، ليس هذا فقط، يعطيه شرفاً عظيماً وتدعو اسمه يسوع، ولم يكن يحق لأي إنسان أن يطلق على الطفل اسماً إلا والد الطفل، فهذا الشرف العظيم الذي ناله يوسف أنه أعتبر أباً للرب يسوع المسيح، لذلك قال له الملاك وتدعو اسمه يسوع لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم. ما أجمل هذا الاسم: يسوع (يشوع) بالسريانية الآرامية التي كان يستعملها ذلك الشعب، يشوع الذي يعني الله مخلص لأنه يخلّص الشعب من خطاياه. متّى الرسول هو الوحيد بين كتبة الإنجيل المقدس الأربعة سرد لنا هذه الحادثة، وحتى يبرهن لليهود الذين كتب إنجيله إليهم أن الرب يسوع هو مشتهى الأمم، الذي فيه تمّت نبوّات الأنبياء، أضاف متى على ذلك قوله: حتى يتم ما قيل بالنبي. يريد أن يذكّرنا ويذكّر العالم عن العذراء التي دعيت امرأة ليوسف بحسب الشرع، أنها هي عذراء فيذكر آية إشعياء النبي الذي ظهر في القرن الثامن قبل الميلاد وتنبّأ عن العذراء قائلاً: هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل، ويذكر متى أيضاً تفسير هذا الاسم فيقول: عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا، بهذا نقرأ ونرى في إنجيل متى الاسمين اللذين أطلقا على الرب يسوع: «يسوع» كما قال الملاك ليوسف، وتدعو اسمه يسوع، لماذا يدعو اسمه يسوع، يسوع يعني الله يخلّص لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم، إذن يسوع هذا الاسم الجليل يجعلنا أن نأتي إلى الله لأنه هو مخلّصنا فننال به الخلاص. أما الاسم الثاني: عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا، فنشعر أن الله قد صار قريباً منّا، الله معنا فقد صار الله معنا، فما أعظم هذه النعمة التي ينالها المؤمنون بالرب، أجل إن الصدِّيقين والأبرار عندما تضطرب قلوبهم بالتجارب التي يدخلونها، فليس كل من يتألم بالحياة، ليس من يشقى في هذه الحياة بعيداً عن الله والله بعيد عنه لأن التجارب كثيرة، وإبليس يحارب خاصة أولئك الذين يكون الله معهم ويكونون مع الله، وفي هذه الحالة على هؤلاء الصدِّيقين أن يلتجئوا كيوسف إلى الله ليحلّ لهم مشاكلهم، وإذا ما أوحى إليهم الله بطريقة ما حلاًّ لتلك المشاكل ومخرجاً من تلك التجربة، عليهم أن يقتدوا بيوسف خطيب العذراء مريم ليطيعوا الله. قد أطاع يوسف مثلما يقول الرسول متى فعندما استيقظ من نومه أخذ مريم، أي زُفَّت إليه رسمياً أيضاً، ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر، ويؤكّد متى لأنه يتكلّم عن الابن البكر، والابن البكر لا يعني أنه قد ولدت أولاداً بعده، بل يُسمّى بكراً حال ولادته إن صار له اخوة أو لم يصر له اخوة، فالابن البكر هو يسوع بكر الخليقة كلّها، بكر لأنه باكورة جميع الذين نالوا الخلاص باسمه.
أيها الأحباء:
يرسم الرسّامون يوسف عادةً وبيده زنبقة بيضاء علامة الطهر والنقاء لأنه كان طاهراً وعفيفاً وصار حارساً لبتوليّة العذراء، وكذلك هو مثال للأب الحنون العطوف، لأنه اعتنى بالرب يسوع، كما كان الرب يسوع مثالاً للابن الذي يطيع والديه كما ذكر عنه الإنجيل المقدس أنه كان يطيعهما، ويوسف أيضاً الذي مات في أحضان الرب يسوع، أغمض الرب عينيه في هذه الأرض ليفتحهما في السماء ليحيا حياة سعيدة في العلاء، هو أيضاً مثال للميتة الصالحة، وفي هذا الأحد نذكر هذا القديس الذي اضطربت نفسه بالشكوك التي ساورتها، والذي طمأنه الملاك والذي أطاع أمر السماء فنال نعمة عظيمة وشرفاً ليس بعده شرف إذ دُعي أباً لربنا يسوع المسيح. فلنقتدِ به أيها الأحبّاء عندما ندخل بالتجارب ملجئين إلى الله ولنقتدِ به بطاعته ربّنا لعلّنا ننال نصيبه ونصيب القديسين كافة على الأرض وفي السماء بنعمته تعالى آمين.
وحي يوسف البار (3)†
«وإذا ملاك الرب قد ظهر له في حلم قائلاً: يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك لأن الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس، وستلد ابناً وتسميه يسوع لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم»
(مت 1 : 20)
يدخل الأبرار والصدِّيقون في تجارب قاسية كسائر البشر. ألم نقرأ في أسفار العهد القديم عن أيوب البار الذي جُرّب من إبليس وأصيب في الأموال والبنين، ولكنه اصطبر فظفر. ألم نقرأ عن يوسف الصدِّيق الذي بيع عبداً لمصر ولكنه تمسّك بشريعة إلهه، فأنقذه الله من التجارب ورفعه فصار الثاني بعد فرعون على مصر كلّها. ويوسفنا الذي نذكر حلمه في هذا اليوم هو الآخر كان قد دخل بتجربة قاسية، فقد عادت العذراء مريم من جبل اليهودية بعد أن كانت قد حلّت ضيفة مكرّمة على نسيبتها أليصابات في بيت زكريا الكاهن.
أجل، عادت وإمارات الحبل ظاهرة عليها، فساورت الشكوك يوسف خطيبها الذي يعتبر زوجاً لها بحسب الشرع اليهودي، وبدأ يوسف وقد دخل بتجربة قاسية، بدأ يفتكر: هل يأخذها إلى عنده ويرضى بما اقترفته من ذَنْب حسب ظنّه ويكون قد شاركها خطيّتها، أم يشهرها أمام الناس فتوصم هي مع سائر أفراد عائلتها بالعار إلى الأبد. يقول الرسول متى الذي انفرد بذكر هذه الحادثة في الإنجيل الذي كتبه بالآرامية أن يوسف كان صدّيقاً، هكذا البار الصدِّيق يفتكر ولكن يفتكر فيما هو للخير، ويفتكر ويلجأ إلى الله، فالله هو الذي يلهمه ما هو للخير وما هو للصلاح. نحن لا نفهم شكوك يوسف وعدم شكوك أقرباء العذراء مريم وجيرانها ما لم نفهم العادات التي يمارسها شعب العهد القديم، فكانت الخطبة تعتبر عندهم كزواج ولئن كانت الخطيبة في دار أهلها يحق لخطيبها أن يزورها، بل أيضاً أن يعرفها معرفة زواج وبعدئذ تُزَف إليه رسمياً، ولذلك لم يشك أحد ممن عرف العذراء مريم بأنها قد اقترفت ذنباً، وظنّوا أنها قد حملت من يوسف خطيبها قبل أن تُزَف إليه، أما يوسف وحده الذي بدأ يفتكر لعل إنساناً شريراً غرّر بها فهل يأخذها إلى عنده، هل يطلّقها، وقرر بعدئذ أن يوفق بين شكوكه وعدله وصلاحه أن الأنسب أن يطلّقها سراً، وذلك أن يعطيها كتاب طلاق فتخلّى وتذهب لحالها. كان يوسف كسائر البشر الذين قد تساورهم الشكوك في العائلة، كان مضطرباً كريشة في مهب الريح، كقارب صغير يمخر عباب اليم الهائج والعواصف العاتية، ذهب إلى سريره لينام، ولكن إذ التجأ إلى الله أرسل الله ملاكه إليه، وقف به ملاك الرب في حلم قائلاً له: يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك لأن الذي حبل به فيها هو من الروح القدس، وستلد ابناً وتدعو اسمه يسوع لأنه يخلّص شعبه من خطاياه. يا يوسف ابن داود، خاطبه مخاطبة من يعرفه معرفة جيّدة، هذه المعرفة الجيّدة جعلت الملاك أن يدعوه باسمه يا يوسف، بل أيضاً يذكّره بالعهد الذي أُعطي للعالم عن ابن داود الذي يأتي ليخلّص العالم، لا تخف أن تأخذ امرأتك لأنها صارت له امرأة شرعاً ولئن كانت خطيبةً له، والخطيبة كانت تعتبر زوجة مثلما قلنا حتى أنه إذا مات خطيبها كانت ترثه شرعاً، لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك لأن الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس. لا بد أن العذراء مريم قد حدّثت يوسف عمّا جرى لها بمجيء ملاك الرب وتبشيره إياها بالحبل الإلهي، لا بد أنها ذكرت أنها قالت للملاك: ها أنا أمة للرب ليكن لي كقولك، ولا بد أنها ذكرت أنها بزيارتها لأليصابات امتلأت أليصابات من الروح القدس وصرخت بصوت عظيم قائلة: من أين لي هذا أن تأتي أم ربي إليّ. ولكن يوسف كان بشكوكه حتى ظهر له الملاك، يقول متى الرسول في الإنجيل المقدس الذي كتبه للمؤمنين من أصل يهودي أن يوسف عندما نهض من النوم فعل ما أمره به الملاك، وأخذ مريم امرأته ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر، وبقوله البكر لا يعني أنها ولدت أولاداً آخرين بعده، فكان الولد الأول في العائلة يًدعى بكراً، إن ولدت والدته أبناء آخرين أو لم تلد فيوسف لم يعرف العذراء مريم أبداً، بل بقيت العذراء مريم دائمة البتولية. هذا ما نقرأ في الإنجيل المقدس ونلاحظ أن الملاك قال ليوسف عن المولود أنه يدعى يسوع الله المخلّص، لماذا؟ لأنه يخلص شعبه من خطاياه، وحدّد الملاك ليوسف رسالة المسيح. كان اليهود بتمسّكهم بالأمور الدنيويّة الماديّة ينتظرون مسيحاً يخلّصهم من عبودية الرومان ويمنحهم سلطاناً دنيوياً. أما الملاك فقد أوضح ليوسف أن يسوع الإله المخلّص يخلّص شعبه من خطاياه، هذه رسالة المسيح أنه يخلّص العالم من خطاياهم هي رسالة توبة وعودة إليه تعالى، ومتّى إذ يكتب إنجيله بلغتنا ولغة مسيحنا السريانية الآرامية، يريد أن يذكّرهم بما تنبّأ به إشعياء قبل ذلك الزمان بسبعة قرون فيقول: وكان هذا كلّه ليتمّ ما قيل بالنبي القائل: هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل، هذه اللفظة السريانية الآرامية يقول متى: الذي تفسيره الله معنا. فالمسيح هو عمانوئيل، الله معنا والمسيح هو يسوع الله مخلّصنا، فهو أتى وخلّصنا لنذهب إليه وقد صار معنا وأن نكون أيضاً معه أيها الأحباء إذ تذكر الكنيسة اليوم في طقسها المقدس حلم يوسف وجليانه كما يقال باللفظة السريانية (جلينا ديوسف)، نرى أن علينا أن نقتدي به قبل كل شيء إذا ما دخلنا في تجربة والتجارب كثيرة في العالم، وإبليس يقارعنا ويصارعنا وينزلنا رغماً عنّا إلى ميدان القتال معه، ولكن إن التجأنا إلى الله فباسم الرب أي بقوّته وسلطانه نغلب إبليس والرب يجعل لنا من التجربة مخرجاً كما فعل مع يوسف الصدّيق، وعندما نلهم من الرب إلى الخير كما أُلهم يوسف في حلم فعلينا أن نطيع أوامر الرب وأن نقتدي أيضاً بيوسف بطاعة إلهنا، فيوسف نال شرفاً عظيماً لأنه دعي أبا للرب، ولئن كان أباً شرعياً لا طبيعياً لحمايته من أعدائه وصيانة اسم العذراء وشرفها، ولئن كان أباً شرعاً إذا ربّى الرب يسوع وهو أيضاً فتىً وهو طفل وحماه من الأشرار ولكنه نال شرفاً عظيماً أن العذراء يوم فقدته في الهيكل وبعد أن وجدته في الهيكل بين العلماء يناقشهم عاتبته لأنه أتعبها كما أتعب يوسف والده، فقد قام يوسف البار بواجب الأبوّة وكان يعمل نجّاراً بسيطاً في الناصرة ويقيت المسيح والعذراء مريم، ولكن نال نعمة عظيمة أيضاً فالمسيح كان مطيعاً لوالديه كما يقول الإنجيل المقدس، فيوسف مثل صالح لكل أب صالح والعذراء مريم مثلٌ صالح وسامٍ لكل أم صالحة، والمسيح مثلٌ لكل فتى يطيع والديه وما أعظم النعمة التي نالها يوسف لأنه مات في أحضان الرب يسوع، هذا الموت الذي يعتبر موتاً صالحاً جداً لأن يوسف عاش تقياً عفيفاً طاهراُ نقياً، فإذا ما اقتدينا به سنغادر هذه الحياة بعد العمر الطويل في أحضان المسيح، كما جرى ليوسف ونغمض أعينينا في هذه الحياة لكي نفتحهما في الحياة الأبدية الصالحة التي إنما قد وجدت ليوسف والأبرار والأتقياء ولكل من يقتدي بهم ونعمة الرب تشملكم بدعائه وصلواته آمين.
وحي يوسف البار (4) †
«وإذا ملاك الرب قد ظهر له في حلم قائلاً: يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك لأن الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس، وستلد ابناً وتسميه يسوع لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم»
(مت 1 : 20)
انتهت الزيارة المباركة لجبل يهوذا حيث قامت العذراء مريم بزيارة نسيبتها أليصابات ومكثت خناك ثلاثة أشهر كما يذكر الإنجيل المقدس. هذه الزيارة التي تخلّلتها أحاديث سماويّة سامية وتسابيح جعلت من أليصابات بمستوى القديسات التقيّات، إذ حلّ عليها الروح القدس وأعلنت حقيقة إلهية أن العذراء هي أم الرب. عادت العذراء إلى الناصرة حيث كان خطيبها يوسف بانتظارها، عادت وقد بدت عليها علامات الحبل. يوسف تحيّر وارتبك وساورته الشكوك وإذا ما ساورت الشكوك أحد الزوجين خرجت المحبة من تلك الدار وابتدأ الخصام والنزاع، فالعراء لا بد أنها شرحت ليوسف ما جرى لها من حديث الملاك، ولكنه وقد شك الظنون تجعل الإنسان لا يصدق رفيقه. صار يوسف أيها الأحباء كقارب صغير يمخر عباب يم عظيم أمواجه تعلو مرتفعة ومنخفضة ورياحه عاصفة، بل كريشة في مهب الريح، ولكن الله لا يترك أحباءه الصدِّيقين والأبرار في حالات كهذه يتعذّبون، كما لا يدعهم يتعجّلون في أخذ قرار قد يضرّ الآخرين. يوسف احتار ماذا يفعل: إن هو أخذ العذراء وهو يظن أنه قد غُرِّر بها أو قد سقطت في الخطيّة العظمى، يكون قد شاركها خطيّتها، إن هو أشهرها جلب عليها وعلى أسرتها العار وهو يعلم أنها بريئة وربّما لبساطتها قد غُرِّر بها. يقول الإنجيل المقدس: همَّ بتخليتها سراً، وهذا يعني أنه سيدعها وشأنها لحوادث الزمان، ولكن الله لا يدع الصدِّيقين أيضاً أن يتهوّروا. إن يوسف وحده ساورته الشكوك فقط بالعذراء مريم ذلك لأنها كان قد خطبها، والخطبة كانت لدى اليهود تُعلَن بكتابة كتاب هذا الزواج بالذات، فيحق للخطيب أن يعرف خطيبته معرفة زواج وهي في بيت أهلها قبل أن تُزَفّ إليه، ولذلك كل إنسان عرف العذراء مريم وعرف يوسف ظنّ أنها قد حملت من زواج من يوسف بالذات. يوسف وحده ساورته الشكوك بها. يقوا الإنجيل المقدس أن ملاك الرب، جبرائيل بالذات وقف بيوسف في الحلم وطمأنه قائلاً له: يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك لأن الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس وستلد ابناً وتسميه يسوع لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم. في عبارة الملاك طمأنينة تامّة ليوسف، فالعذراء لا بد أنها كرّرت أمامه ما كان الملاك قد قاله لها عن المولود، عن ماسيّا المنتظر، ولذلك فالملاك يذكّر يوسف أنه ابن داود وحق له أن يكون حارساً للعذراء، وأن يُسمّى أيضاً أباُ ليسوع وأن يكون شرعاً زوجاً للعذراء لكي يصونها من أقاويل الناس، كما يصون أيضاً المولود الذي يحق ليوسف أن يطلق عليه اسماً، وهذه صلاحية وامتياز للأب أن يسمي ابنه باسم وأن يسميه يسوع كما كان الملاك قد سمّاه عندما بشّر العذراء بالحبل به، ويشرح متى ذلك لأنه يخلّص شعبه من خطاياه كقول الملاك بالذات. يستيقظ يوسف، يؤمن بما قاله له الملاك ويصدّق ذلك، يأخذ العذراء إلى عنده، تُزَف رسمياُ إلى داره ولئن كانت قد سكنت داره لأنها كانت يتيمة الوالدين، وعندما بلغت السن الذي يجب أن تتزوّج فيها اجتمع الأهل والأقرباء مع الكهنة وهم أولياؤها جميعاً وألقوا القرعة ووقعت على يوسف. ويوسف أيها الأحبّاء كان رجلاً أرملاً، كهلاً اختبر الحياة كما يؤكّد لنا ذلك المؤرّخ يوسابيوس الذي كتب هذا في القرن الرابع، وأولئك الذين دُعوا اخوة للرب يسوع كانوا أولاد يوسف، ولذلك رأينا الله كيف أنه اختار إنساناً كهذا صدِّيقاً تقيّاً وكاملاً في السن ليكون خطيباً للعذراء مريم وليعيش معها بطهر ونقاء فلم يعرفها كما يقوا الإنجيلي متى وهو يريد أن يؤكّد أن المسيح هو ابن الله، وأنه قد حُبِل به فيها من الروح القدس لا من زرع رجل، ولذلك يقول: لم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر، وكان الابن يدعى بكراً إذا كان أول ولد ولئن لم يولد بعده ولد آخر، فالمسيح إذن بكر الآب السماوي وبكر العذراء مريم، والعذراء مريم هي دائمة البتولية لأنها قد ولدت ابن الله وعرفت هذه النعمة العظيمة وعرفت من ولدت الذي دُعِي يسوع كما سمّاه الملاك لأنه يخلّص شعبه ليكون الشعب معه ودُعي أيضاً عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا، ليكون هو مع الشعب.
يوسف أيها الأحباء نال نعمة عظيمة من الرب حتى حقّ له أن يُدعَى أباً للرب يسوع وهل يوجد لفظة في كل اللغات أسمى من لفظة أب حتى أن الرب يسوع عندما أراد أن يعلن لنا ويعلّمنا كيف يجب أن تكون علاقتنا مع الله، علّمنا أن نصلّي ونحن واقفون أمام الله قائلين له: أبانا الذي في السموات، فهذه العلاقة التي بيننا وبين اله علاقة الأبوّة والبنوّة، هذه العلاقة السّامية التي تجعلنا نطمئن إلى إلهنا لأنه أب، ونجعل إلهنا يشفق علينا ويرحمنا ويغفر لنا ذنوبنا لأننا أبناؤه، هذه العلاقة السامية استحقها يوسف البار فدعي أباً للرب يسوع الذي أبوه الطبيعي هو الله الآب. ويوسف أيضاً الذي اهتم بتربية الرب يسوع وهو طفلٌ وهو فتىً، كذلك استحق أن يموت وهو في أحضان الرب يسوع،. هو مثال لنا بالتقوى، بمخافة الله، بالإيمان أيضاً، مثال لنا بالتريّث والصبر عندما نحل أي مشكلة في البيت بين الرجل والمرأة أو بين الوالدين والأولاد، أن يتريّث الإنسان ولا يتعجّل ففي العجلة الندامة. ليس هذا فقط بل أيضاً أن يصلّي ليطلب العون من الله فيشعر أن الله أب لنا لا يدعنا في دوّامة الألم والاضطراب والقلق بل يرسل ملاك السلام إلى قلوبنا ليلهمنا كيف يجب أن نحل مشاكلنا، هذه المشاكل التي لا بد أن تُحَلّ بمواظبتنا على الصلاة وطلب العون من إلهنا، ويوسف أيضاً المثال الطيّب لكل أب، كما أن العذراء هي المثال الأسمى لكل أم. هذه العائلة المقدسة استحق يوسف أن يكون رأسها وكان المسيح الطفل الإلهي أحد أعضائها، واستحق يوسف أيضاً المثال الطيّب لكل إنسان يقوم بمسؤولية الأبوّة تجاه أولاده كما كان الرب يسوع أيضاً خير مثال للأولاد بطاعة والديهم. هكذا يذكر الإنجيل المقدس أنه كان خاضعاً لهما، ما أعظم هذه العبارة: خالق الكون ومبدعه مخلّصنا الإلهي خضع ليوسف كما خضع للعذراء مريم، ويوم فقداه في الهيكل قالت له أمه عندما وجداه إن أباك وأنا كنّا بقلق نفتش عنك.
أيها الأحباء:
يوسف نراه بصوره ماسكاً بيده زنبقة دلالة على الطهر والنقاء والعفة التامة فهو مثال لكل من يشاء ويرغب ويتوق أن يكون أباً صالحاً وزوجاً صدِّيقاً في عائلته، لأنه كان طاهراً ويدعونا جميعاً إلى الطهر والنقاء والقداسة.
ليبارككم الرب بشفاعة القديس يوسف وينشر أمنه وسلامه في دوركم العامرة وليبعد عنها الظنون والشرور الفاسدة لتملك المحبة في هذه الدور لنكون كيوسف وكالعذراء مريم وكالرب يسوع خاصةً، فتكون دورنا طاهرة نقية ومقدسة بإلهنا بنعمته تعالى آمين.
وحي يوسف البار (5)
«وإذا ملاك الرب قد ظهر له في حلم قائلاً: يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك لأن الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس، وستلد ابناً وتسميه يسوع لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم»
(مت 1 : 20)
تدعو الكنيسة المقدسة هذا الأحد: أحد وحي يوسف، والفصل الذي تُلي على مسامعكم من الإنجيل المقدس يفصِّل لنا حادثة مهمّة جداً في تدبير الرب يسوع بالجسد، ومن تلك الحادثة نتعلّم دروساً نفيسة في حياتنا العائلية كأناس مؤمنين بالمسيح يسوع وبالوحي الإلهي وبتدبير الله للكون، ورعايته للبشر جماعةً وأفراداً. نرى من هذه الحادثة أن الحياة لا تجري على وتيرة واحدة حتى لدى الأبرار والصالحين والأتقياء. نرى أن العذراء مريم التي كانت قد قامت بزيارة إلى نسيبتها أليصابات لتسند رأسها إلى صدرها وتبيح لها بسرّها كابنة لأنها. نراها وقد عادت بعد ثلاثة أشهر بعد أن سمعت على لسان أليصابات ما أعلنه الوحي من سر أن العذراء هي أم الرب، هذه العذراء تعود إلى بيتها فرآها خطيبها يوسف وعلامات الحبل ظاهرة عليها. اليهود ظنّوا أنها حبلت من خطيبها يوسف، يوسف وحده يعرف أنها لم تحبل منه. كانت العادة لدى اليهود أيها الأحباء أن الفتاة إذا ما خُطبت لرجل، يحق له أن يعرفها معرفة زواج خلال تلك المدة إن كانت قبل أن تُزَفّ إليه أو بعد ذلك، لذلك لم تساور اليهود الشكوك حينذاك بالعذراء مريم لأنهم ظنّوا أنها قد حبلت من خطيبها يوسف. يوسف صار كريشة في مهب الريح، إنه لا يريد أن يشاركها خطيّتها كما ظن أنها قد أخطأت أو غُرِّر بها أو خُدعَت وفي الوقت نفسه يراها قديسة عفيفة طاهرة بسيطة جداً، فلا يريد أن يشهرها ويعلن أنها قد أخطأت وتطرد من بيتها وتصير عاراً لعائلتها، بل أيضاً تُصاب عائلتها بوصمة العار بسببها. عندما تدخل الشكوك إلى بيت ما تخرج المحبة من ذلك البيت، بل يضطرب الناس وباضطرابهم تساورهم أفكار الخطية فيبتعدون عن الله، ولكن العاقل التقي الذي يخاف الله امرأة كان أو رجلاً، يتريّث قليلاً بل كثيراً قبل أن يحكم على قرينه ولا يشاركه الخطيّة، الرسول بولس يقول: لا تشترك في خطيّة غيرك. وهذا درس لنا أن لا نشارك أقرباءنا أو أصدقاءنا حتى أقرب إنسان إلينا بخطيّته لأنه نكون قد أجرمنا واشتركنا معه في الجريمة أيضاً، ولكن في الوقت نفسه لا نحكم أيضاً عليه بسرعة بل أن نتريّث. اضطرب يوسف فتدخّلت السماء، فالسماء دائماً تتدخّل في أمورنا الخاصة لأنها ترعانا جماعةً وأفراداً، الله يعرف ما نفتكر به وإن كنّا نلتجئ إليه بالصلاة سيستجيبنا وسيهدينا سواء السبيل، لأن الروح في كل وقت مستعد أن يحل على كل إنسان يدعوه ليكون مرشداً لذلك الإنسان. نام يوسف في تلك الليلة فظهر له ملاك الرب جبرائيل قائلاً له: يا يوسف ابن داود، دعاه باسمه وأعلن له نسبه إلى داود. يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك ودعاها امرأة له شرعاً لا فعلاً، لأن الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس وتلد ابناً وتسميه يسوع، هنا أعطاه الصلاحية هنا أخذ مكان الأب للرب يسوع فيدعوه باسم، وهذا الاسم كان الملاك قد أعلن عنه قبل الآن للعذراء مريم يوم بشّرها بالحبل الإلهي. استيقظ يوسف من نومه وهو التقي البار القديس، وعمل ما أمره به الملاك وأخذ العذراء مريم وزُفَّت إليه رسمياً ولم يعرفها يقول متى حتى ولدت ابنها البكر، ويعني بذلك متى التأكيد على أن يوسف لم يعرف العذراء مريم معرفة زواج وقوله ابنها البكر لا يعني أنها قد ولدت آخرين بعد يسوع، فكان البكر يدعى بكراً عندما يولد إن ولدت أمه أولاداً آخرين أو لم تلد، لم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر، ويعترض بعض الناس الذين يأخذون كلمات الإنجيل بحرفيّتها ويقولون كان للمسيح اخوة من العذراء مريم، وبالحقيقة إن الذين دعوا اخوة للمسيح هم بنو خؤولته وعمومته كما كانت لغة الكتاب المقدس توضّح قرابة هؤلاء بعضهم إلى بعض، ويؤكّد أوسابيوس المؤرّخ في القرن الرابع أن يوسف كان أرملاً وأن اخوة يسوع هم أولاد يوسف من امرأته الأولى. هنا نعلم أيها الأحباء أن يوسف كان عاقلاً وكان كهلاً كان رائعاً في كل أعماله وقد اختاره الله لصيانة عفة العذراء مريم كما اختاره وانعم عليه أن يرى أمام الناس أباً للرب يسوع، ألم نسمع العذراء مريم يوم بلغ الرّب يسوع الثانية عشر من عمره وفقدته العذراء ويوسف في الهيكل وظنهم أن ضاع، ورأوه في الهيكل يجادل العلماء، قالت له العذراء، عاتبته: إنني مع أبيك يوسف، تقصد بذلك خطيبها، تعبنا بالتفتيش عنك، قال لها: ألا تعلمين أنه ينبغي أن أكون فيما لأبي، ويقصد الآب السماوي، ويدعو الهيكل بيت أبيه السماوي، فما أعظم النعمة التي نالها يوسف أن يدعى أباً للرب يسوع والرب يسوع عندما أرادنا أن نصلي إلى أبيه السماوي منحنا نعمة عظيمة أن ندعو الله أبانا الذي في السماوات، وما أعظم النعمة التي نالها يوسف ليكون رب العائلة المقدسة ومثالاً لكل عائلة مقدسة مباركة تقية تخاف الله فقد عاش الرب يسوع مع يوسف ومريم وكان يوسف يعمل في النجارة في استقامة وتقوى الله وعندما شاخ كان الرب يسوع يعمل في النجارة وهو الذي يعضد يوسف وهو طفل فتى، كما أننا نرى في تقليدنا الرسولي والكنسي أن يوسف قد مات في أحضان الرب يسوع، ولذلك دائماً المؤمن يتمنى أن يموت في أحضان الرب يسوع ميتة يوسف بالذات.
وفي هذا اليوم المقدس ونحن نحتفل بأحد وحي يوسف الوحي الذي أوحي إليه ونتأمل سيرته نتمنّى أن تكون العائلات المسيحيّة متمثّلة بالعائلة المقدسة، بيوسف بالعذراء مريم بالطفل يسوع، أن نلتجئ إلى الله في زمن الضّيق وخاصة عندما تساورها الشكوك، أن تحيا حياة الاستقامة في أعمالها، أيضاً تتمنّى أن تكون الساعة الأخيرة من حياتها بعد العمر الطويل في أحضان الرب يسوع، بنعمته تعالى آمين.
وحي يوسف البار (6)†
«يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك. لأن الذي حُبِل به فيها هو من الروح القدس»
(متى 1 : 20)
الصدّيقون أيها الأحباء. كسائر الناس أو أكثر قليلاً منهم معرضون للتجارب. والرب أوصانا أن نصلي الصلاة الربيّة وأن نسأله ألا يدخلنا في التجربة، لكن ينجينا من الشرير.
تجربة قاسية جداً دخل فيها يوسف البار، الذي كان خطيباً للعذراء مريم. فقد ذهبت العذراء مريم بعد أن بشرها الملاك جبرائيل بالحبل بابن الله الذي هو قدوس كما قال لها وابن العلي يُدعَى. فذهبت إلى أليصابات إلى مدينة يهوذا لبيت زكريا لترى أيضاً حقيقة ما ذكر لها الملاك أن نسيبتها أليصابات هي الأخرى حبلى بابن في شيخوختها وهذا الشهر السادس قال لها الملاك للمدعوة عاقراً (لوقا 1 : 26).
بعد مدّة ثلاثة أشهر مكثتها العذراء مريم في بيت زكريا. عادت إلى بيتها. وجدها يوسف حبلى، فاضطرب وساورته الشكوك. وإذا ساورت الشكوك أحد الزوجين انقسم البيت على ذاته يقول الرب يسوع: البيت المنقسم على ذاته يخرب. فكان يفتكر بنفسه هل غرّر بها إنسان شرير فاقترفت هذه الجريمة الكبرى، جريمة زنى؟. الصدِّيقون عادة يلتجئون إلى الله والناموس والشريعة وما تسلموه من الله من تقاليد وشريعة. الناموس كان يحكم على الزانية بالرجم. ولكن أيضاً كما علمنا الرب يسوع في حوار مع الفريسيين. إن بني إسرائيل لأجل قساوة قلوبهم، أذن لهم موسى أن يطلقوا نساءهم. لم يقصد هنا الزانية من النساء بل بنو إسرائيل لأجل قساوة قلوبهم أذن لهم موسى أن يطلقوا نساءهم (مت 19 : 8)، وكانوا يقتلون نساءهم ليتزوجوا بأخريات لذلك سمح لهم موسى أن يطلقوا نساءهم. إذا لم يرغب بها فليعطها كتاب طلاق فتُخَلَّى أي تصبح حرة, ولكن الرب يسوع يؤكد أنه منذ البدء لم يكن هكذا وقد خلق الله آدم وحواء خلقهما ذكراً وأنثى وما يجمعه الله لا يفرقه إنسان (مت 19 : 6).
يوسف أمام كل هذه الشرائع وأمام ضميره الحي. اضطرب جداً وصار كقارب صغير يمخر عباب بحر عظيم، وغدا أيضاً كريشة في مهب الريح لا يعلم ماذا يفعل. إن أعطاها كتاب الطلاق وخلاّها يعني ذلك أن عائلتها قد وسمت بوصمة عار إلى الأبد، وإن تركها يكون قد اشترك في جريمتها بحسب ظنه. ونحن أيضاً عندما ذكر الرسول متى هذه الحادثة نقف حيارى، حيث أنه يدعوها امرأته. ونحن نعلم أنه لم يمسسها أي لم يعرفها معرفة زواج. ولكن بحسب التقليد اليهودي ونحن نرى من غرائب الحادثة أن الخطيبة كانت تعتبر زوجة الرجل وكان يحق له أن يعرفها معرفة زواج حتى قبل أن تغادر دار أهلها ولم تزف إليه، وكانت العذراء مريم في بيت يوسف بعد أن خطبها مباشرة لأنه لم يكن لها بيت خاص. فهي ربيبة الهيكل وحين آن أوان زواجها في الثالثة عشرة من عمرها. كان أولياؤها الكهنة قد جمعوا من يحق له من أقاربها الزواج بها، فوقع الخيار على يوسف البار، وقد كان يوسف أرملاً وهذا ما يثبته لنا أوسابيوس المؤرخ في القرن الرابع الذي كان من أوائل المؤرخين المسيحيين.
كان يوسف أرملاً وعندما يذكر الإنجيل المقدس أخوة الرب اعتبرهم بعض الآباء أنهم أولاد يوسف من زواج سابق, كان يوسف أرملا وأخذ مريم إلى بيته لكنها لم تكن قد زُفَّت إليه بعد رسمياً، لأن عقد المِلاك يكون في الخطوبة وبعدئذ تُزَف هذه التي عقد لها عقد مِلاك إلى الرجل الذي خطبها وعقد عليها عقد الملاك أي تأتي إلى داره باحتفال عام يعلن فيه زواجها من رجلها هكذا كان الحال مع العذراء مريم لم تكن قد زُفَّت بعد إلى يوسف، ولما حملت يوسف وحده شكّ فيها أما الباقون فظنوا أنها حبلى من يوسف. هذا هو السر الإلهي، إنها قد خُطبَت ليوسف ليصير يوسف حامياً لها من أهل مجتمعها وهي قد حملت بقوة الروح القدس الذي حل في أحشائها وجبل منها جسداً كاملاً بنفس بشرية. لذلك لم يشك فيها إلا يوسف.
وكان يوسف حكيماً وصار قدوة لنا نحن المؤمنين عندما تطرأ علينا التجارب القاسية. لنسجد أمام الله ونسأله أن يعلن لنا الحقائق. واستحق يوسف البار أن يُعلَن له سر التجسد. إن الذي حبل بالعذراء مريم هو من الروح القدس. هذا هو سر التجسد. فقد ظهر ليوسف الملاك في حلم، جبرائيل نفسه الذي نعتبره ملاك العهد الجديد, قبل ميلاد الرب يسوع بالجسد بخمسمائة سنة كان قد تراءى لدانيال وحدّد له الموعد. وقبل ذلك بمئات السنين ظهر لأشعياء وأعلن له أن العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل. لذلك يوسف وُبِّخ من الملاك: «لا تخف يا يوسف بن داود أن تأخذ مريم امرأتك لأن الذي حُبِل به فيها هو من الروح القدس وستلد ابنا وتدعو اسمه يسوع. يسوع المخلص لماذا؟ يقول الملاك لأنه يخلص شعبه من خطاياهم» (مت 1 : 24).
نحن نعلم أن الرسول متى عندما كتب إنجيله كتبه إلى أولئك الذين ائتمنوا أن يحافظوا على النبوءات والشريعة في العهد القديم، ولكن ليثبت لهم متى أن يسوع هو المسيح. ذكّرهم بقول إشعياء: لكي يتم ما قيل بالنبي القائل: هوذا العذراء تحبل وتلد ابنا وتدعو اسمه عمانوئيل. ويذكر اسمين للرب: «يسوع» الذي تفسيره المخلّص، والملاك يعلل تسمية الرب يسوع بهذا الاسم قائلاً: لأنه يخلّص شعبه من خطاياه، أما التسمية الثانية فقد دعاه: «عمانوئيل» هذه الكلمة بلغتنا السريانية المقدسة ويترجم الرسول متى لفظة عمانوئيل قائلً: الذي تفسيره الله معنا يقول متى. فيسوع هو المخلص لنأتي إليه فيخلصنا وعمانوئيل الله معنا قد جاء إلينا كما فتش الراعي الصالح عن الخروف الضّال لكي يحملنا على منكبيه ويأتي بنا إلى حظيرة الخراف.
يوسف استيقظ من نومه ولأنه صديق صدّق كل ما قاله الملاك، وعمل به، وأخذ مريم امرأته ولم يعرفها يقول الإنجيل المقدس حتى ولدت ابنها البكر. المتشككون، الضالون والمضِلُّون أحياناً يقولون: إذاً قد عرفها بعد أن ولدت ابنها البكر، لأنه قد سمي بكراً. وفي الكتاب المقدس أن: بكر العائلة هو الولد الأول، إن ولدت والدته آخرين، وإن لم تلد فهو يدعى: «بكراً»، والمسيح يسوع بكر الآب السماوي وهو ابن الله الوحيد وبكر مريم وهو الوحيد من مريم. كما ذكرنا فإن ما ذُكِر في الكتاب المقدس عن اخوة يسوع، فإما يكونون أولاد يوسف الأرمل، أو بنو خؤولة الرب يسوع أو عمومته وكان ابن العمومة أو الخؤولة يدعى أخاً، وهذا هو المعنى الذي نفهمه من الكتاب المقدس بالنسبة للاخوة. إذن: فالعذراء بقيت بتولاً قبل الولادة. ولادة الرب يسوع وعند الولادة وبعد الولادة. ولذلك نسميها دائمة البتولية ولم تلد أحداً. وهل يعقل؟ أن يوسف البار بعد أن بشره الملاك بالحبل بالرب يسوع، وأن العذراء قد حملت به من الروح القدس، ثم بعد أن رأى ميلاد الرب يسوع ذلك الأمر العجيب، سمع ترنيمات الملائكة، رأى الرعاة يسجدون له وقد بشرهم الملاك، ورأى ملوك المشرق المجوس يسجدون له. هل يعقل ألا يشعر بسمو العذراء مريم عن سائر البشر؟ وهل يعقل أن يمسسها، وأن يعرفها معرفة زواج بعد ولادتها الرب يسوع؟ لذلك عندما قال متى: حتى ولدت ابنها البكر، يعني ذلك ليؤكد أن الرب يسوع، إنما ولد من العذراء مريم من الروح القدس، وبقوة الروح القدس.
ما نراه أيها الأحباء في يوسف، ونحن نحتفل بأحد وحي يوسف أو وحي يوسف، كما نسميه بالطقس الكنسي، يعني نحتفل بعيد مار يوسف هذا الإنسان البار لنقتد به. وما نراه أن الرسامين عندما يرسمون صورة يوسف البار يضعون في يده زنبقةً، دلالة الطهر والنقاء. ونحن عندما نتشفع به، نذكر خدمته للعذراء مريم، فهو قد حماها من أعدائها إبليس وجنده من الروحيين والبشر، نذكر خدمته للرب يسوع الطفل، يسوع الذي كان اعتنى به بالجسد ورعاه وحماه، نذكر كيف أن الرب يسوع عندما كان ابن اثنتي عشرة سنة وفقدته العذراء مريم وبحثت هي ويوسف عنه، وقالت له عندما وجداه في الهيكل معاتبة: أنا وأبوك كنا مضطربين، وعنت بلفظة «أبوك» يوسف البار. فأجابها يسوع: ألا تعلمان أنه ينبغي أن أكون فيما هو لأبي؟. وأبوه الحقيقي هو الله الآب، ولذلك كان في الهيكل. فيوسف اعتبر شرعاً أباً للرب يسوع. وهذا شرف عظيم، ونعمة فائقة نالها يوسف، إذ ربى الرب يسوع في داره وعمل معه في حانوته البسيط، حانوت النجارة، نشأ الرب يسوع ومارس تلك المهنة. كما أن الرب يسوع كان ابناً باراً اعتنى بوالديه، بيوسف وبالعذراء مريم، وهو قدوة للشباب وللأبناء البَررَة في أيامنا هذه خاصةً، ألاّ ينسوا وهم في غمرة الحياة وميعانها، ألاّ ينسوا الوالدين. المسيح يسوع اعتنى بأمه بعد أن مات يوسف البار، ويوسف قدوةٌ لنا لأنه مات في أحضان الرب يسوع، وهذه ميتة صالحة يتمنى كل واحد منا أن يغمض الرب يسوع عينيه في ساعة موته ليستيقظ في الفردوس مع أرواح القديسين.
أحبائي:
في هذا اليوم ونحن نذكر هذا البار لنقتدِ به، بعفته، بقداسته، بعنايته بالرب يسوع، باتكاله عليه عندما دخل التجربة، التجأ إلى الرب، والرب أعلن له ماذا يفعل. ليبعد عنا أيها الأحباء التجارب القاسية، ليجعل أفكارنا نقية طاهرة، ليبعد عنا الشكوك بعضنا ببعض، لتبنى دورنا على أساس المحبة والقداسة بنعمته تعالى آمين.
وحي يوسف البار (7)†
«يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك فإن الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس فستلد ابناً وتدعو اسمه يسوع لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم»
(مت 1: 20و21)
دجى الليل وغفت النجوم وعمّ الكون الهدوء والسكون ولكن نفس يوسف الصدّيق خطيب العذراء مريم كانت مضطربة، فقد سيطر عليها القلق والاضطراب وكانت كقارب صغير يمخر عُباب يمٍ كبير، بل كريشة في مهب الريح، فالعذراء مريم خطيبته كانت قد عادت من الجبال من مدينة يهوذا من زيارة اليصابات وزكريا الكاهن، عادت إلى الناصرة ولكن لا كما ذهبت فعلامات الحمل بدت عليها. اضطرب يوسف وبدأ يسأل نفسه قائلاً: هل غرّر أحد بالعذراء مريم فحملت منه؟ إنّه متأكد من أنها طاهرة نقية بل قديسة، ويعرف أنها قد غادرت الناصرة بمعرفته وذهبت إلى بيت طهر ونقاء إلى بيت زكريا الكاهن ومكثت هناك ثلاثة أشهر وقد عادت الآن. ويعرف أيضاً كما نحن نعرف أن المسافة ما بين مدينة يهوذا والناصرة مائة ميل، كان الشخص يقطعها مشياً على الأقدام مدة خمسة أيام. يعرف يوسف كل ذلك، ولكنه اضطرب كثيراً عندما شاهدها وقد بدت عليها علامات الحَبَل. لابدّ أنّه سألها وأخبرته بقصة الملاك جبرائيل وبتبشيره إياها بحبل ابن اللّه. لا بدّ أنها أخبرته بأنها قد حملت ابن اللّه الوحيد بقوة الروح القدس، ولابدّ أنها أخبرته كيف أن اليصابات دعتها أم ربي فهي أم الرب ولكن يوسف لا يمكن أن يصدق هذه الأمور التي تفوق إدراك البشر في الماضي والحاضر وإلى الأبد. اضطربت نفسه جداً وهو يحاول أن يوفّق ما بين الشريعة الموسوية وبين ما هو فيه من تجربة قاسية. فإن الشريعة كانت تحكم على الزانية بالرجم بالحجارة ولئن لم يكن بإمكان اليهود في تلك الأيام أن يطبّقوا هذه الشريعة وهم تحت استعمار الرومان ولكن خرجوا بشيء آخر وهو أنه إذا وُجدت امرأة كذلك تُخلّى أي يُعطى لها كتاب طلاق فتترك لحالها. هل يفعل يوسف هكذا مع العذراء مريم؟ هل يستطيع أن يوفّق ما بين الشريعة وبين الشكوك التي ساورته؟
إن السماء لا تتركنا حيارى أيها الأحباء خاصة عندما نلتجئ إلى اللّه في ظروف صعبة كهذه ندخل خلالها في تجارب لا نستطيع أن نتحملها كبشر. أجل! لقد التجأ يوسف إلى اللّه وهو بار وصدّيق فجاءه ملاك الرب في حلم قائلاً له: «لا تخف يا يوسف» إنه قد خاف لئلا يشترك بخطية هذه التي حملت ولا يعلم من أين، خاف أيضاً لئلا إن أعطاها كتاب الطلاق يكون قد أجرم بحقّها وهي بريئة، إنه رجل صدّيق لذلك أرسل اللّه الملاك ليطمئنه قائلاً له: «لا تخف يا يوسف ابن داود، لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك»، هنا نقف حيارى أيها الأحباء عندما نسمع الملاك يقول للصدّيق البار يوسف أن مريم هي امرأته، كان خطيبها ولا نستطيع أن نفسّر هذا الأمر ما لم ندرس العادات الاجتماعية لدى اليهود في تلك الأيام.
نحن السريان قد ورثنا ممارسات اجتماعية دينية كثيرة من العهد القديم ومن الجملة عادة ممارسة مراسم الزواج. حتى اليوم لا يفهم العديد من الناس ما معنى خطبة الإملاك ولئن دونت في كتب الأكاليل. كان وما يزال عندنا عندما تُخطب فتاة لرجل قبل مراسم الإكليل كان هناك خطبة الإملاك هذه الخطبة تعتبر زواجاً كاملاً شرعياً ولئن لا تعتبر إكليلاً، فبعد أن تتم مراسم العقد بين الرجل والمرأة أو من كان وكيلاً للرجل ووكيلاً آخر للمرأة فبعد عقد خطبة الإملاك يعتبران حقاً زوجين ولئن لم يدخل الزوج بعد بخطيبته التي تعتبر زوجته شرعاً. وكان يحقّ للرجل أن يعرف خطيبته التي يجوز أن تدعى امرأته أن يعرفها معرفة زواجٍ قبل أن تُزفّ إليه، لذلك الملاك يدعوها امرأته بقوله له: «يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك»، ودعاها امرأته ولئن لم تكن قد زُفّت إليه باحتفالٍ أمام الناس، فقد كان قد عُقد له عليها عقد خطبة الإملاك، وكانت الخطبة عادة في بيت أهلها. وفي حال السيدة العذراء مريم نحن نعلم أنها كانت ربيبة الهيكل تربّت في هيكل الرب على يد النسوة التقيات الفاضلات، يتيمة نشأت بالتقوى ومخافة اللّه. وبحسب تقليد اليهود كان لا بد أن تُخطب لرجل ما من أقاربها لذلك لم يكن لها وليّ أمر سوى أقاربها فعندما بلغت الثالثة عشر من عمرها اجتمع هؤلاء الكهنة وبعض أقارب العذراء مريم وحتى إن أقرب من يكون إليها كان يوسف الصدّيق يوسف كان رجلاً بسيطاً تقياً يخاف اللّه ويعمل بالنجارة، عندما صار القرار أنّ يوسف سيكون زوجاً للعذراء مريم وكان يوسف أرملاً هذا ما يثبته التاريخ المسيحي الصحيح وأثبته وذكره أوّل مؤرخ مسيحي في القرن الرابع هو اوسابيوس أنّ يوسف كان أرملاً، فعندما صار القرار أن تكون زوجة له وكان لا بدّ أن تقبل به زوجاً وهي في الثالثة عشر من عمرها، عقد إملاك عليها فأصبحت امرأته شرعاً لا فعلاً لأنه كان لابدّ أن تُزفّ إليه في احتفالٍ كبير لإعلان هذا الزواج وكما قلنا كان يحق لها أن تكون في بيت أهلها وحيث أنّه لم يكن لها بيت هذه اليتيمة المسكينة لذلك أخذها يوسف إلى عنده إلى بيته في الناصرة منتظرين تعيين الموعد الذي تزفّ فيه إلى يوسف علناً، فعندما وُجدت حُبلى بعد عودتها من مدينة يهوذا من زيارة نسيبتها أليصابات وزكريا الكاهن لم يشكّ أحد من أقربائها وغيرهم بها، وظنّوا أنها قد حملت من يوسف نفسه لأنه كان له حق أن يعرفها معرفة زواج حتى قبل أن تُزفّ إليه، لذلك لم يشك أحد فيها إلا يوسف وحده.
عندما رآها حبلى دخل في تجربة قاسية وفكّر بنفسه قائلاً: هل غرّر بها أحدٌ؟! هذه الفتاة الطاهرة التقية النقية الطاهرة القديسة كيف حملت؟! قلنا لا بدّ أنها شرحت له هذا الأمر ولكنه كان قلقاً كريشة في مهب الريح مضطرباً، والتجأ إلى اللّه ليعلمنا عندما ندخل في تجربة علينا أن نلتجئ إلى اللّه. الرب أرسل إليه ملاكه فقال له في حلم: «لا تخف يا يوسف ابن داود»، دعاه باسمه وذكّره أن المسيا المسيح يأتي من نسل داود ذكره انه ابن داود «لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك لأن الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس» ليس هذا فقط وستلد ابناً وتسميه يسوع. أعطاه صلاحية الأب الذي يحقّ له وحده أن يطلق اسماً على ابنه، وذكر الملاك اسم على الطفل الذي كان جنيناً في أحشاء العذراء مريم، فقال ليوسف «وتدعو اسمه يسوع»، ومعنى يسوع «يشوع» بلغتنا الآرامية السريانية التي كانت اللغة الوحيدة التي يتكلّمها ذلك الشعب في تلك الأيام، معنى يشوع «اللّه المخلص» والملاك يشرح ليوسف لماذا يسميه يسوع قائلاً له «لأنه يخلص شعبه من خطاياهم»، هذه هي رسالة الرب يسوع أن يخلص شعبه من خطاياهم، فعندما استيقظ يوسف ككل بارٍ وصدّيق يؤمن بالوحي الإلهي وتعاليم السماء كافة، عندما استيقظ أخذ مريم امرأته أي زُفت إليه أعلنت امرأة له ولم يعرفها، لم يعرفها معرفة زواج حتى ولدت ابنها البكر الابن البكر الذي هو يسوع.
إنّ بعض المشككين الذين لم يؤمنوا بتقاليد الكنيسة وتعاليم الرسل التي تداولها أبناء الكنيسة عبر الدهور والأجيال، قالوا: طالما قيل أنّه لم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر يعني ذلك أنّه عرفها بعد أن ولدت ابنها البكر ولذلك سُمّي بكراً أول فيظهر أنه يوجد أولاد آخرون. هذه الضلالة جعلت أولئك الناس الذين لم يفهموا روح الكتاب المقدس لم يعلموا أن كل ابن إذا ولد أولاً لوالدين يدعى بكراً إن كانت أمه ولدت آخرين بعده أو لم تلد، فهو بكر العائلة، فالرب يسوع هو بكر الآب السماوي وبكر العذراء التي لم تلد غير يسوع. هل يعقل أن يعرفها يوسف وهو يعلم طهرها ونقاءها وهو يعلم أنها بُشرت من الملاك بأن تلد، تحبل وتلد ابناً هو يسوع مخلص العالمين وليس هذا فقط بل يسوع الذي دُعي أيضاً عمانوئيل بحسب نبوّة إشعياء النبي عنه في القرن الثامن قبل الميلاد بقوله: «ولكن يعطيكم السيد نفسه آية» الإنجيل المقدس فسّر هذه اللفظة عمانوئيل السريانية قائلاً عمانوئيل الذي تفسيره اللّه معنا. هل يعقل أن يوسف بعد أن يسمع هذا الكلام المقدس يعرف تلك الفتاة العذراء الدائمة البتولية معرفة زواج؟ هل يُعقل أن هذا الاسم وهذه الصفة التي أطلقت على العذراء منذ البدء أنها دائمة البتولية والتي وصفتها بهذه الصفة السماء على لسان إشعياء النبي القائل: «ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل»، فهل يتجاسر يوسف وهو بار وقديس وكان رجلاً كامل السن وأرملاً أن يعرفها معرفة زواج؟
وفي هذا الصدد لابدّ أن نذكر أنّ في الكتاب المقدس دُعي بعضهم إخوة للرب يسوع لم يكونوا أشقاءه بل أقرباؤه، ففي العهد القديم كل قريب للإنسان من بني خؤولته أو عمومته يعتبر أخاً له، فعندما نقول: أخو فلان لا يعني أنه أخوه شقيقه أو أخوه من أمه وأبيه فأخوه لأنه ابن من أبناء خالته أو عمه أو عمته. فالعذراء مريم ولدت ابنها البكر ولم تلد ابناً آخر ولا بنتاً ولا أحد فبكرها يسوع المسيح لأنه أول من ولد من العذراء ولم يولد أخ، والذين يدعون إخوة الرب هم الذين كانوا من أقاربه، وفي هذا المجال نقرأ في التاريخ أن المؤرّخ المسيحي يوسابيوس في القرن الرابع يعتبرهم أولاد يوسف الأرمل قبل زواجه من العذراء مريم ويعتبرون أيضاً أولاد خؤولته أو عمومته، هذا الأمر يبرهن لنا على عقيدة سامية أن العذراء مريم هي دائمة البتولية، إذن لا تخف يا يوسف أن تأخذ العذراء مريم أن تأخذها هذه امرأتك شرعاً عُقد لك عليها عقد زواج ولئن لم تعرفها ولئن لا يحق لك أن تتزوجها وهي دائمة البتولية.
هذه عقيدتنا أيها الأحباء لذلك نرى الدرس الخالد الدرس الروحي الذي علينا أن نأخذه من حادثة ما نسميه جلينا ديوسف جليان يوسف حتى أن آباءنا ترجموا هذه الكلمة الى جليان يوسف أي ما أوحي به ليوسف عن حقيقة العذراء مريم.
إذن فالعذراء مريم أيها الأحباء، استحقت بتواضعها أن تكون والدة الإله الأمر الذي قرّرته الكنيسة واعترفت به وكل من لا يعترف بذلك أن العذراء والدة الإله وأنها دائمة البتولية يكون قد حاد عن الحق. في أحد جليان يوسف في هذا اليوم دروس قيّمة نأخذ من هذا البار، أولاً عندما ندخل في تجربة علينا أن نلتجئ إلى اللّه، ثانياً عندما تساورنا الشكوك بتجربة إبليس وإذا دخلت الشكوك الى البيت تخرج المحبة منه ويخرب ذلك البيت مثلما قال الرب «كل بيت ينقسم على ذاته يخرب»، فعلينا في أحوال كهذه أن نلجأ الى الرب. إن كان الرب قد أرسل ملاكه ليوسف لكي يثبته على محبة العذراء ويطلعه على السر الإلهي، فنحن يرسل الرب ملاكه دون أن نعلم إلى أفكارنا لكي يثبّتنا على إيماننا ومحبتنا بعضنا لبعض، كذلك في جليان يوسف أن الرب دُعي يسوع لأنه قد جاء إلينا ومعنى يسوع اللّه يخلص ودعي عمانوئيل اللّه معنا فقد جاءنا الراعي الصالح وفتّش عنّا يوم كنا كخروف ضال ووجدنا ووضعنا على منكبيه وأتى بنا الى حظيرة الخراف. ودعي عمانوئيل اللّه معنا أي أن يكون اللّه معنا ونكون أيضاً نحن معه وبذلك إذا آمنا بالرب يسوع ايماناً متيناً نرى أنفسنا حتى في الشدة، في التجارب، في كل وضع من أوضاع هذه الحياة، نرى أنفسنا أننا مع اللّه وأن اللّه معنا ولا يتخلى عنّا ابداً.
أسأله تعالى في هذه اللحظات أحبائي أن يُزيل عنا كل تجربة لا نتحملها وأن نصطبر ونحن نصلي الصلاة الربية لا تدخلنا في تجربة لكن نجنا من الشرير أن يخلصنا جميعاً من الشرير والأشرار في آن واحد ونعمته تشملكم دائماً أبداً آمين.
ميلاد الرب يسوع بالجسد
ميلاد الرب يسوع بالجسد
الميـــلاد المقــــدّس (1)†
«ولكن لمّا جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة مولوداً تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني»
(غلا 4:4)
يبدأ تاريخ كل امرئ في هذه الحياة منذ ساعة ميلاده، أما ربنا يسوع المسيح فلا بدء لتاريخه. فهو الكلمة الذي قال فيه الإنجيلي يوحنا: «في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله» (يو1: 1) وقال عنه النبي ميخا: «ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل» (5:2) وقال هو عن نفسه: «أبوكم ابراهيم تهلـّل بأن يرى يومي فرأى وفرح … قبل أن يكون ابراهيم أنا كائن» (يو8: 56و58)، وأعلن عنه دستور الإيمان النيقاوي عام (325م) أنه «نور من نور إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق مساوٍ للآب في الجوهر».
هذا هو الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس المولود من الآب أزلياً ولما عيّنت المشيئة الإلهية أن تفدي الإنسان تقرر أن يتجسد فولد من مريم العذراء في ملء الزمان وصار ابن الإنسان وهو ابن الله. والأبوة والبنوة بالنسبة للآب السماوي وابنه الحبيب ربنا يسوع المسيح أمر يسمو عن إدراكنا ولا يمكن أن يشبَّه بالأبوة والبنوة البشرية. ويصف الكتاب المقدس سر التجسد العجيب بقوله: «والكلمة صار جسداً» (يو1: 14) فقد جبل له من دم العذراء مريم جسداً كاملاً وولد منها ولادة عجيبة في بيت لحم أفراتا إتماماً لنبوات ميخا وإشعيا وغيرهما من الأنبياء. وقد مهّد لميلاده العجيب في الجسد قبل حدوثه بآلاف السنين بالوعود والنبوات والرموز والإشارات ليهيئ البشرية لفهم هذه الحقيقة الإلهية. وكان الله قد كلّم الآباء والأنبياء بطرق عديدة قبل أن كلّمنا بابنه الحبيب (عب 1: 1و2) الذي فيه وحده تكمل شروط المخلص. وحيث أنه جاء مخلصاً للعالم أجمع شاءت إرادته الإلهية أن تترجم أسفار الكتاب المقدس إلى اللغة اليونانية لغة الثقافة بأمر بطليموس في الاسكندرية قبل مجيء الفادي بقرنين من الزمان تقريباً، ليطّلع العالم الوثني على ما تنبأ به الأنبياء عنه.
ففي «ملء الزمان» كانت المعصية قد كملت والإثم قد تم، وظهرت علناً حاجة البشرية الماسة إلى المخلص ماسيا المنتظر. فالديانة اليهودية لم تقوَ على خلاص الإنسان من خطيته. كما عجزت النظريات الفلسفية والاجتماعية الوثنية عن إنقاذه من شروره. حيث كان اليهود قد فسدوا وحادوا عن الناموس وأهملوا النبوات وعندما ادّعوا أمام الرب يسوع قائلين: «لنا أب ابراهيم» أجابهم: «لو كنتم أبناء ابراهيم لكنتم عملتم أعمال ابراهيم. أنتم من أب هو ابليس وشهوات أبيكم تريدون أن تفعلوا»(يو 8: 44) وصب الرب ويلات على زعمائهم من الكتبة والفريسيين قائلاً: «أتركوهم هم عميانٌ قادة عميانٍ وان كان أعمى يقود أعمى يسقطان كلاهما في حفرة» (مت 15: 14).
أما الوثنية فقد استبدلت حق الله بالكذب وعبدت المخلوق دون الخالق، وانحطت بالإنسان إلى درك المعاصي والتمرغ بالشهوات.
«فالجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله» بل إله المجد، ولقد سخّر الله قوات البشرية لخدمة مقاصده الإلهية. فالرومان كانوا يحكمون أغلب أجزاء العالم المعروف في ذلك الزمان، عبِّدوا الطرق ووسّعوا البلاد وسيّروا سفنهم في البحار، ممهدين بذلك الطريق لنشر البشارة الإنجيلية دون أن يعلموا.
وأثقلوا النير على العباد وظلموهم، فعلا أنين الناس وارتفع، وتاقوا إلى ظهور ماشيحا (ماسيا) المنتظر وتشوقوا لرؤيته ولئن ظنوه مخلصاً بشرياً ينقذهم من سلطة الرومان ولم يعرفوا بأنه سيخلصهم من سلطان الخطية والموت والشيطان.
أجل يرى المراقب أن قوات عديدة دينية وفلسفية وثقافية واجتماعية وسياسية كانت تحكم العالم قبل ميلاد الرب يسوع، ولكن كانت هناك قوة سامية وإرادة إلهية وراء تلك القوات البشرية ألا وهي قوة الله تعالى وإرادته العظمى فإرادة الله هي وراء حوادث التاريخ أمس واليوم وإلى الأبد. فقد كتب البشير لوقا في الإنجيل المقدس قائلاً: «وفي تلك الأيام صدر أمر من أوغسطس قيصر بأن يكتتب كل المسكونة» (لو 2: 1) ويعني بالمسكونة الأجزاء التي كانت خاضعة سياسياً لسلطة الدولة الرومانية في العالم المعروف يومذاك. وكانت غاية أوغسطس قيصر الافتخار بامتداد أرجاء مملكته وتسهيل أمر جباية الضرائب من الخاضعين لسلطانها. ولكن قصد الله من وراء ذلك الاكتتاب كان ليثبت أنه حقاً قد أرسل ابنه الحبيب إلى العالم فولدته ابنة داود في بيت لحم مدينة داود، لذلك كانت إرادته تعالى ألا يجري الاكتتاب بحسب نظام الرومان وحسب بل أيضاً بموجب تقليد اليهود وهو أن يذهب كل واحد إلى مدينة آبائه عند التسجيل.
وهكذا جاء إلى بيت لحم أفراثا، يوسف البار وخطيبته العذراء مريم وهي حبلى، جاءا من الناصرة إلى بيت لحم وهما لا يعلمان القصد من ذلك الاكتتاب، وبينما كانا هناك تمت أيام مريم لتلد(لو 2: 1 ـ 5) ولم يكن لهما منزل في الموضع ولا موضع في المنزل، فالتجأا إلى مغارة بسيطة … هناك ولدت العذراء ابنها البكر «يسوع» المخلص، «عمانوئيل» الله معنا. وسجل اسمه في سجلات المملكة. ويستشهد يوستينوس الشهيد (+ 163؟) وترتليانوس (ت نحو 220) وغيرهما بسجلات الامبراطورية الرومانية وهم يقيمون الحجة على أن ماسيا قد جاء إلى العالم، وولد بحسب النبوات في مدينة داود لأنه من نسل داود. فاليهود بلا عذر في رفضه.
أجل، في ملء الزمان ولد الإله من عذراء، ولد تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني، وسجل اسمه في سجلات المملكة كسائر البشر، ودخل التاريخ بل صار زمن ميلاده تاريخ التواريخ، وبدأ بميلاده عهد النعمة، والرحمة، والحق، والعدالة، والمساواة.
ها هي ذي الخطية تتزعزع أركانها لأن إله السماء قد كلم أبناء الأرض بابنه الحبيب، فالملائكة هتفت مبشرة الرعاة البسطاء أن «قد ولد لكم في مدينة داود مخلص هو المسيح»«المجد للّه في العلى وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرّة». والنجم يأتي بحكماء المشرق ليسجدوا له مقربين هداياهم ذهباً ولباناً ومراً معترفين بألوهته وملكه وفدائه، وهيرودس الملك الطاغية يرتعب وأورشليم معه، وعلماء اليهود وكهنتهم يعلنون نبوة ميخا عن مكان ميلاد ماسيا ولكنهم لا يستحقون النعمة فيهملون التفتيش عن المخلص ولا يبالون بخلاص نفوسهم فيرفضون من الله ويتم فيهم قول الكتاب: «إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله» (يو 1: 11و12).
أجل لقد ولد متواضعاً، ناكراً ذاته، واشترك معنا في اللحم والدم، وأخذ كل مالنا ما عدا الخطية، ليعطينا نعمة التبني. فنكون أولاداً لأبيه السماوي بالنعمة.
فلنقدم له المجد مع الملائكة، والسجود مع الرعاة والهدايا مع حكماء المشرق. ولنهيئ قلوبنا منازل نقية طاهرة ليولد فيها روحياً فيملك علينا إلى الأبد ويكون إلهنا ونكون له شعباً مقدساً.
وبمناسبة ذكرى ميلاده المقدس، يطيب لنا أيها الأحباء أن نهنئكم جميعاً، وأن نهدي البركة الرسولية إلى أبناء كنيستنا المقدسة وبناتها في أرجاء العالم كافة سائلين مولود بيت لحم القدوس أن يصونهم بالصحة التامة والتوفيق الروحي الجليل لينعموا بأعياده سنين عديدة والنعمة معكم جميعاً آمين.
الميـــلاد المقــــدّس (2)†
«فقال لهم الملاك لا تخافوا. فها أنا أبشركم بفرح عظيم، يكون لجميع الشعب. انه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب»
(لو 2: 10و11)
في هذا اليوم المقدس، تقرع أجراس الكنائس معلنة بأنغامها الشجية، ورناتها المبهجة، أفراح المؤمنين بعيد ميلاد فاديهم الإلهي، وهم يشاركون ملائكة السماء بتمجيده، فقد صار الإله إنساناً، وأزاح عن كاهل البشرية كابوس الأحزان، وملأ القلوب مسرات وأفراحاً.
وفي هذا اليوم المقدس أيضاً، يتبادل المؤمنون التهاني القلبية والهدايا الثمينة، مشيرين بذلك إلى أثمن هدية قدمتها السماء للأرض يوم الميلاد ألا وهو المخلص المسيح الرب.
ففي هذه الذكرى السعيدة، ننتقل بأفكارنا وأنظارنا إلى بيت لحم أفراثا، إلى مغارة متواضعة حيث ولدت العذراء مريم، قبل عشرين قرناً، ابنها البكر، وهو بكر الآب السماوي أيضاً، وقمّطته، ووضعته في مذود، إذ شاء أن يولد فقيراً، فأهمله بنو قومه، وتم بذلك ما قاله النبي أشعيا قبل ذلك التاريخ بسبعمائة سنة إن «الثور يعرف قانيه والحمار معلف صاحبه أما … شعبي فلا يفهم»(أش 1: 3).
وإن حولنا الآن أنظارنا إلى السماء، نراها مهتمة جداً بهذا الحدث الإلهي العظيم، فقد مهدت له عبر الدهور والأجيال بالنبوات والرموز والإشارات، وأرسلت كبير الملائكة جبرائيل إلى الأرض مرات عديدة فحدد للنبي دانيال تاريخ وقوع هذا الحدث قبل موعده بخمسة قرون. ولما بلغ ملء الزمان بشر جبرائيل العذراء مريم بالحبل الإلهي موضحاً لها بأن الروح القدس يحل عليها وقوة العلي تظللها فلذلك أيضاً القدوس المولود منها يدعى ابن اللّه (لو1: 35) .
ويوم الميلاد أعلنت السماء فرحتها بميلاد الماسيا الذي انتظرته الشعوب والأجيال، فانحدر الملاك من السماء ووقف برعاة بسطاء يسهرون على أغنامهم يحرسونها حراسات الليل على هضاب بيت لحم أفراثا. ومن أجدر من الرعاة بالبشارة بولادة الحمل الوديع «حمل الله الرافع خطايا العالم» كما دعاه يوحنا المعمدان بعدئذ؟!
ولما وقف الملاك بالرعاة أضاء مجد الرب حولهم فخافوا خوفاً عظيماً، وسقطوا على وجوههم، ذلك أن الناموس كان قد كشف سر الخطية، وقدر حجمها، ولكنه لم يصف لها الدواء الناجع. وكانت الخطية تعذب ضمير الإنسان فيرى نفسه هالكاً لا محالة لأن الغضب الإلهي مستعر وجمره ملتهب متعد، لذلك فرؤية الملاك الذي يمثل السماء يخيف الإنسان من السماء الغاضبة. ولكن الملاك يطمئن الرعاة ويحول خوفهم العظيم إلى فرح عظيم قائلاً: لا تخافوا فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب انه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب وهذه لكم العلامة تجدون طفلاً مقمّطاً مضجعاً في مذود. وظهر بغتة مع الملاك جمهور من الجند السماوي مسبّحين الله وقائلين: «المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرّة»(لو 2: 10 ـ 14) يا لها من قصيدة بديعة فريدة يتيمة، نظمتها السماء ولحنتها وأنشدتها، وقد أنعم على الأرض، لأول مرة بعد دخول الخطية إليها، أن تسمع ألحان المجد الشجية، وأنغام السلام الروحية، يوقعها على قيثارة الروح ملائكة السماء معلنين بهجة الخليقتين المنظورة وغير المنظورة بالحدث العظيم ألا وهو ميلاد المخلص الذي هو المسيح الرب، الذي به زال الخوف وعمت الطمأنينة، وكسر السيف الملتهب الذي قبض عليه الكروبيم أمام جنة النعيم لحراسة طريق شجرة الحياة ونقض سياج العداوة بين الإله والإنسان، وحل السلام وتبددت الأحزان وامتلأت القلوب مسرات وأفراحاً. فحق للملاك أن يبشر بفرح عظيم يكون لجميع الشعب، ذلك أن المسيح المولود في بيت لحم هو مسيح العالم كله. لا فرق لديه بين أمة وأمة، لغة ولغة، لا فرق بين رجل وامرأة، شيخ وطفل، غني وفقير، كبير وصغير فهو الكل في الكل (كو 3: 11) وهو للكل على اختلاف أجناسهم وحضاراتهم وطبقاتهم الاجتماعية ومذاهبهم الدينية لأنه جاء ليكسّر إطارات الأنانية المقيتة والعنصرية البغيضة والتعصب الذميم وينشر البهجة والسرور في قلوب الناس ونفوسهم، ويهب الراحة والسلام لضمائرهم. ألم تفرح العذراء مريم فرحاً روحياً عارماً لما قالت لها اليصابات نسيبتها «مباركة أنت في النساء ومباركة هي ثمرة بطنك، فمن أين لي هذا أن تأتي أم ربي إليَّ»(لو 1: 42و43). فأنشدت مريم أنشودتها الخالدة، وتهللت قائلة: «تعظم نفسي الرب، وتبتهج روحي بالله مخلصي، لأنه نظر إلى اتّضاع أمته، فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوّبني، لأن القدير صنع بي عظائم…»(لو 1: 46 ـ 49).
هذا هو الفرح الروحي الذي يملأ قلوب الأبرار بالخلاص بالرب، وهو ليس كالأفراح الدنيوية الزائلة، أجل ليس كأفراح الأمم «الفرحين بفعل السوء المبتهجين بأكاذيب الشر» (أم 2: 14) ولكنه فرح سماوي مقدس كقول الرسول بولس: «إن ملكوت الله ليس أكلاً وشراباً بل هو سلام وفرح في الروح القدس» (رو 14: 17) وكقول الرب «افرحوا بالحريّ ان أسماءكم كتبت في السموات» (لو 10: 20) «فافرحوا بالرب كل حين وأقول أيضاً افرحوا»(في 4: 4) فقد ولد لنا مخلص هو المسيح الرب، حمل الخروف الضال على منكبيه وأتى به إلى حظيرة الخراف، وقبل الابن الشاطر العائد إلى بيت أبيه، وأعلن لنا «أن السماء تفرح بخاطئ واحد يتوب» (لو 15: 7و10).
أجل ولد لنا في مدينة داود مخلص تمت بميلاده نبوة النبي ميخا القائل: «وأنت يا بيت لحم أفراثا وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا فمنك يخرج مدبر يرعى شعبي … ومخارجه منذ القدم منذ أيام الأزل» (ميخا5: 2) فهذا المخلص قد رعى الشعب رعاية صالحة إذ شفى المرضى وأقام الموتى، وعزّى الحزانى، وفرّج عن المكروبين، وهدى الضالين. ولا غرو فقد أعلنته السماء مخلصاً، فهذا جبرائيل كبير الملائكة يطمئنن يوسف البار خطيب العذراء مريم بقوله: «يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك لأن الذي حبل به فيها هو من الروح القدس فستلد ابناً وتدعو اسمه يسوع لأنه يخلص شعبه من خطاياهم»(مت1: 20و21) فالخلاص هو الغاية الأولى من تجسده خاصة وأن البشرية كانت بأمس الحاجة إليه لأنها لم تقوَ على خلاص ذاتها فانتظرته لينهضها من كبوتها ويعيدها إلى برها الأول.
هذا هو المخلص المسيح الرب. إنه المسيح، وبالسريانية (مشيحو) ماسيا المنتظر، المسيح الحقيقي الوحيد الذي ظهر في العالم الذي مسحه الرب الإله بدهن الابتهاج أكثر من رفقائه(مز45: 7) وكما كان الملوك والكهنة والأنبياء يمسحون بزيت لما يتقلدون رتبتهم السامية هكذا مسح الرب يسوع بزيت الابتهاج كقول الكتاب فهو الممسوح ملكاً وكاهناً ونبياً، فهو ملك طبقاً لقول الملاك لأمه العذراء مريم: «ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية»(لو1: 32و33) وهو كاهن إلى الأبد على رتبة ملكيصادق(عب7: 17). وقد قدم نفسه ذبيحة لله ففدى البشرية بدمه الكريم. وهو نبي بل هو رب الأنبياء.
وقد أعلن الرب في بدء تدبيره الإلهي بالجسد أنه مسيح الرب، لما دخل المجمع في الناصرة وقام ليقرأ: «فدفع إليه سفر إشعياء النبي ولما فتح السفر وجد الموضع الذي كان مكتوباً فيه «روح الرب عليَّ لأنه مسحني لأبشر المساكين أرسلني لأشفي المنكسري القلوب لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر وأرسل المنسحقين في الحرية، وأكرز بسنة الرب المقبولة… فابتدأ يقول لهم إنه اليوم قد تم هذا المكتوب في مسامعكم» (لو4: 16-21)
في حدث الميلاد المقدس أعلنت وظائفه الإلهية بهدايا المجوس حكماء المشرق الذين أتى بهم النجم العجيب من بلادهم البعيدة إلى بيت لحم أفراثا فسجدوا للمولود الإلهي وقدموا له هداياهم ذهباً، ولباناً، ومراً. معترفين به ملكاً وإلهاً ومتنبئين عن موته الكفاري، حيث أنهم اعتادوا أن يقدموا الذهب لملوكهم، واللبان لآلهتهم، والمرّ لتحنيط موتاهم. فالإله الذي أرسل إليهم النجم العجيب ليقودهم إلى بيت لحم، هو الإله الذي ألهمهم أن «المولود» هو الإله الحق فسجدوا له واعترفوا بلاهوته بتقديم اللبان. ولا غرو فالملاك يدعوه مخلصاً ومسيحاً ورباً فهو رب بل هو الرب الإله، وهكذا دعاه كبير الملائكة جبرائيل لما بشر العذراء مريم بالحبل به قائلاً: «وها أنت ستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع، هذا يكون عظيماً وابن العلي يدعى» (لو1: 31ــ32).
أجل لقد اشتركت في ظهور المولود الإلهي السماء والأرض فهو قد ولد بالجسد من الروح القدس والعذراء مريم معاً. وبتجسده العجيب اتحد وهو الإله الحق بطبيعتنا الإنسانية وكياننا البشري اتحاداً يفوق إدراكنا، وقد جبل له من دم العذراء جسداً كاملاً فهو إله كامل وإنسان كامل بآن واحد، ولاتحاد اللاهوت بالناسوت اتحاداً جوهرياً بدون اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير ولا تبلبل ولا انفصال، نؤمن بأنه أقنوم واحد وطبيعة واحدة ومشيئة واحدة. وكما عبر الرسول بولس عن ذلك بقوله: «وبالإجماع عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد» (1تي3: 16).
فما أسعد الرعاة البسطاء يبشرون بميلاده! وما أعظم النعمة التي أسبغت عليهم بسماع نشيد الملائكة. طوباهم فقد آمنوا وصدّقوا ما قيل لهم عن المولود وقاموا مسرعين وأتوا إلى مغارة بيت لحم ووجدوا الطفل مقمّطاً مضجعاً في مذود، طبقاً للعلامة التي منحهم إياها الملاك، وامتلأوا فرحاً روحياً وسجدوا للطفل المولود وقدموا هداياهم «زبداً وعسلاً» إتماماً لنبوة أشعيا القائل: «ها العذراء تحبل وتلد ابنا وتدعو اسمه عمانوئيل زبداً وعسلاً يأكل»(أش7: 14و15). وأخبر الرعاة العذراء مريم والصدّيق يوسف وغيرهما ممن صادفوهم بخبر ما حدث لهم في تلك الليلة في البرية «وكل الذين سمعوا تعجبوا مما قيل لهم من الرعاة»(لو 2: 18).
فلنفرحن بميلاد الفادي، أيها الأحباء، في هذا اليوم المبارك وفي كل يوم. ولا ندع العالم ومغرياته ومنغصاته تشغلنا عن الفرح الروحي بالمسيح يسوع ربنا. ففي وسط العاصفة… وحتى عندما يهيج البحر الخضم، فتتقاذف أمواجه الصاخبة سفينة حياتنا الغالية تريد تحطيمها، لا يمكن أن يغادر السلام نفوسنا، والبهجة قلوبنا ما دام إلهنا معنا وهو المخلص المسيح الرب. فقد وعد قائلاً: «طوبى لكم إذا عيروكم واضطهدوكم وقالوا عنكم كل كلمة سوء من أجلي كاذبين افرحوا وابتهجوا فإن أجركم عظيم في السموات»(مت5: 10ــ12).
أجل إن المسيح في ميلاده بعث البهجة في قلوبنا والسلام في نفوسنا، فعلينا أن نفعل نحن أيضاً ذلك بإخوتنا بني البشر، فنعزي الحزانى، ونفرِّج عن المكروبين ونجبر القلوب المنكسرة، ونحوِّل عوز الفقراء والمساكين وفاقتهم إلى اكتفاء بالعطاء السخي. ليكون للمسيح موضع في منازلنا، وليحل في قلوبنا، فنقبله مسيحاً ورباً ومخلصاً لنا عاماً وشخصياً.
ليكن عيد الميلاد هذا عيداً مباركاً عليكم أيها الأحباء، ولينشر الله تعالى أمنه وسلامه في العالم أجمع لتمتلئ قلوب البشر فرحاً روحياً وسلاماً كاملاً آمين.
الميـــلاد المقــــدّس (3)†
«الشعب السالك في الظلمة أبصر نوراً عظيماً، الجالسون في أرض ظلال الموت أشرق عليهم نورٌ… لأنه يولد لنا ولد ونعطى ابنا وتكون الرئاسة على كتفيه ويدعى اسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام»
(إش9: 2و6)
قبل مولد السيد المسيح بسبعمائة عام، أعلن النبي إشعياء نبوته هذه الصادقة عن ميلاد الفادي، فبعد أن رسم الصورة الحقيقية للعالم الشرير الذي كان قبل الميلاد متخبطاً خبط عشواء في دياجير الجهل والخطية، بشر النبي إشعياء بظهور مشتهى الأمم شمس البر الذي بدد الظلام، وغمر ضياؤه قلوب البشر فأمات فيها اليأس والقنوط، وأحيا فيها الرجاء والأمل. وسمعناه ينادي قائلاً: «أنا هو نور العالم من يتبعني فلا يمشي في الظلمة، بل يكون له نور الحياة»(يو8: 12) فلا غرو من أن يُعتبر ميلاده ميلاد النور والحياة، ميلاد المحبة والرحمة، ميلاد الحق والعدالة، ميلاد التواضع والوداعة، ميلاد الحضارة والمدنية، فقد حطم قيود العنصرية البغيضة، والطبقية الشنيعة، وساوى بين الغني والفقير، والكبير والصغير، والعظيم والحقير، والعبد والحر، والرجل والمرأة، وأنقذ البشرية من داء الكبرياء الوبيل، وأقام من نفسه مثالاً يحتذى به في التواضع والوداعة، ودعا الناس إليه قائلاً: «تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم. احملوا نيري عليكم وتعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم، لأن نيري هيِّن وحملي خفيف» (مت11: 29و30).
هذا هو ماسيا المنتظر، الموعود به منذ بدء الخليقة، «الكلمة الذي كان منذ البدء»، «الذي صار جسداً وحل فينا»، ليبرر الجنس البشري من الخطية الأبوية، ويفي عدل الله حقه، وليوفق بين عدله تعالى ورحمته، الأمر الذي لم يتمكن الآباء والأنبياء القيام به، مهما بلغ بعضهم من البر والقداسة، ومهما قدموا من ذبائح وقرابين «إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله، متبررين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح»(رو3: 23و24) فصرنا بالنعمة أولاداً لأبيه السماوي، كما صار هو بتجسده ابناً للبشر، وهو ابن الله الوحيد، ونسل المرأة الذي ولد منها العذراء مريم بوساطة الروح القدس، فتمت بذلك نبوة إشعيا القائل «ولكن يعطيكم السيد نفسه آية، ها العذراء تحبل وتلد ابنا وتدعو اسمه عمانوئيل»(إش7: 14) الذي تفسيره الله معنا(مت1: 23)، كما تنبأ إشعياء أيضاً قائلاً: «لأنه يولد لنا ولد ونعطى ابنا وتكون الرئاسة على كتفه ويُدعى اسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أبا أبدياً رئيس السلام».
أجل، لقد ظهر الله في القديم لأبينا إبراهيم في شكل ثلاثة رجال، ولأبينا يعقوب في شكل ملاك، وللنبي موسى في العليقة الملتهبة غير المحترقة، وفي عمود من سحاب وعمود من نار، وقد كلم الله الآباء والأنبياء بطرق عديدة(عب1: 1و2) ولكن «لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من إمرأة مولوداً تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني» (غل4: 4) وهكذا «أخلى نفسه آخذاً صورة عبد، صائراً في شبه الناس» (في2: 7).
واليوم ونحن نحتفل بعيد ميلاد الفادي لننتقلن بأفكارنا إلى بيت لحم أفراثا حيث ولد ماسيا قبل عشرين قرناً، ولنتأملنّ بما جرى هناك من حوادث عجيبة، فنرى أمامنا العذراء مريم تسير الهوينا وهي تدخل قرية بيت لحم أفراثا قادمة من الناصرة برفقة خطيبها يوسف ليسجلا اسميهما في سجلات المملكة بحسب أمر قيصر لأنهما كانا من نسل داود وعشيرته، وبذلك يعلماننا الخضوع للسلطة المدنية «لأنه ليس سلطان إلا من الله والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله»(رو13: 1) ونرى العذراء مريم ويوسف البار يقرعان أبواب دور بيت لحم وتوصد الأبواب بوجهيهما، وقد هدّ عناء السفر حيلهما. فيلتجئان إلى مغارة كانت تستعمل كإسطبل للمواشي، هناك ولدت مريم ابنها القدوس وأضجعته في مذود.
يا للعجب! إن الإله خالق الكون ومبدعه ومدبره، ملك الملوك ورب الأرباب الغني الذي يملك السماء والأرض يولد فقيراً في مغارة بسيطة لا في قصر منيف، وفي قرية بيت لحم الآمنة الوادعة، لا في إحدى عواصم الدنيا. ولكنه بولادته رفع مكانة بيت لحم وجعلها محجاً للأمم يقصدها ملوك الأرض ورؤساؤها، ليحنوا الهامات أمام مغارتها ويعفروا الجباه أمام المذود الذي اضطجع فيه الطفل الإلهي.
عجبي كم غني بات في ليلة الميلاد في مدن العالم الكبرى وحتى في بيت لحم البلدة الصغيرة في فراش ناعم دافئ، وهذا الطفل الإلهي وحيد الآب السماوي يرقد بوداعة في مذود بسيط في مغارة صغيرة يقاسي آلام البرد وخشونة التبن والقش!؟.
كم طفل فقير يولد في أيامنا هذه في العراء، تضمه أمه إلى صدرها الحنون محاولة منحه الدفء والطمأنينة، وهي بأمس الحاجة إلى ما يسد رمقها من بسيط الغذاء. هذا الطفل هو أخ للطفل يسوع وأمه أخت للعذراء مريم، بغض النظر عن انتمائهما العرقي والقومي والديني، والعناية بهما تعتبر كالعناية بيسوع وأمه مريم، وقرضاً للآب السماوي يفيه يوم الدين، فطوبى لمن يكنز له كنوزاً في السماء… وليت الأغنياء الميسورين يعيرون آذاناً صاغية إلى بكاء الأطفال المساكين المعوزين، فيرصدون مبلغاً من المال ولو يسيراً ينفقونه لسد حاجة هؤلاء الفقراء الذين يعضُّهم الجوع بأنيابه الحادة. أجل، ليت الأغنياء يخصصون شيئاً زهيداً مما ينفقونه بتبذير وترف على إحياء سهراتهم الصاخبة ولياليهم الحمراء في ذكرى الميلاد المقدس، فصاحب الذكرى مولود بيت لحم الرحيم الذي يعد المعوزين والمساكين أخوة له يريدنا أن نحتفل بذكرى ميلاده بإكساء العراة، وإشباع الجياع، وإيواء الغرباء، وإلا فسوف يسمعنا يوم الدين صوته المرعب القائل للذين عن يساره: «اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدَّة لإبليس وملائكته، لأني جعتُ فلم تطعموني، وعطشت فلم تسقوني، كنت غريباً فلم تأووني، عرياناً فلم تكسوني، مريضاً ومحبوساً فلم تزوروني… الحق أقول لكم، بما أنكم لم تفعلوا ذلك بأحد هؤلاء الأصاغر فبي لم تفعلوا»(مت 25: 41 ـ 46). طوبى لمن لهم آذان صاغية فيسمعون، ولهم عيون ناظرة فيرون ويعون.
أجل ولد المسيح فقيراً متواضعاً ليعلمنا التجرد والتواضع ومحبة الفقير والمسكين ومتواضعي القلب، وإذا كان أهل الأرض قد تجاهلوه فإن «السموات تحدّث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه»(مز 19:1) فقد أرسلت السماء ملاكاً يزف بشرى ميلاد المخلص إلى رعاة بسطاء متواضعين آمنوا وأطاعوا وزاروا الملك المولود وسجدوا له، وعادوا وأخبروا بما رأوا وسمعوا. بل استحقوا أن يسمعوا أجمل أنشودة وقّعتها الملائكة على قيثارة الروح ألا وهي «المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة» (لو 2: 14).
كما أعلنت السماء هذه البشرى السارة لعلماء المشرق ورؤسائه بظهور نجم غريب الشكل قادهم إلى بيت لحم أفراثا فسجدوا للطفل المولود مقدمين له هداياهم ذهباً ولباناً ومراً، وبذلك أعلن الله الرب يسوع مخلصاً للعالم أجمع فهو لم يأت إلى العالم لأجل شعبٍ خاص، أو أمة واحدة، إنما هو للعالم قاطبةً، وللمسكونة وشعوبها كافةً، هو للرعاة البسطاء والمجوس الأغنياء الحكماء، وهو لا يزال في المذود وفي المغارة لا حاجب يمنع الناس من الدنو منه، ولا حاجز يصد إنساناً عن الاقتراب إليه. قال إشعيا النبي: «يولد لنا ولد ونعطى ابنا» فقد ولد لنا، وأعطي لنا جميعاً وهو يسوع مخلصنا، وعمانوئيل «الله معنا» وهو الآن مستعد أن يتخذ له مذوداً في قلوبنا ليحيا فيها، فهل نحن على استعداد لاستقباله؟ أم أن قلوبنا مكتظة بالآمال والأماني الدنيوية، وبأشياء وأشخاص بعيدين عن المولود، فنرفضه كما رفضه أهل بيت لحم، فلم يكن لوالدته وخطيبها موضع في المنزل، بل لم يكن له أيضاً وهو طفل منزل في الموضع.
إن الملاك لا يزال يبشرنا، أن قد ولد لنا ولد في مدينة داود، فهل آمنا ببشارة الملاك، وأطعنا الرب كالرعاة، وأتينا وسجدنا له؟. والنجم يهدينا إليه فهل اقتدينا بالمجوس وسجدنا للمولود وقدمنا له هدايانا إيمانا متيناً ثخيناً، وأعمالاً صالحة وفضائل سامية؟.
لقد أنشدت الملائكة نشيد المجد والسلام والمسرة، فهل شاركنا جند السماء بتمجيد الله بأفواهنا وقلوبنا وعقولنا. ليرى الناس ذلك ويمجدوا الآب السماوي؟. وهل مجدنا رب السماء الذي دعانا إلى السلام(1كو7: 15) و(عب12: 14) وقال: «طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون»(مت5: 9) فهل نحن بسلام مع الله ومع النفس ومع الناس؟!..
لقد بدأ الرب تدبيره الإلهي على الأرض بأنشودة السلام الخالدة، وقبل أن يعود إلى السماء بالجسد الذي أخذه من مريم العذراء، بارك تلاميذه قائلاً لهم: «سلام لكم»(لو24: 36).
ففي هذا اليوم المقدس نسأله تعالى أن يفعم قلوبكم بسلامه الإلهي. وأن ينشر أمنه وسلامه في أقطار المسكونة، وأن يعيد عيده عليكم باليمن والبركة لتسيروا بنور المسيح نور العالم ورئيس السلام، ونعمته تشملكم دائماً أبداً آمين.
الميلاد المقدس والأسرة المثالية (4)†
«فولدت ابنها البكر وقمّطته وأضجعته في المذود إذ لم يكن لهما موضع في المنزل»
(لو2: 7)
بعبارات سهلة الفهم، بسيطة المبنى وسامية المعنى، سجل البشير لوقا في الإنجيل المقدس، وقائع أعظم حدث عرفته البشرية، ألا وهو ميلاد السيد المسيح له المجد.
إنه الحدث الفريد من نوعه، فلم يسبقه مثيل ويستحيل أن يعقبه شبيه أو نظير، ذلك أن الرب يسوع الإله المتجسد، قد ولد من عذراء لم يعرفها رجلٌ، فكان ميلاده، أعجوبة باهرة تنبأ عنه النبي إشعيا في القرن الثامن قبل الميلاد قائلاً: «ولكن يعطيك السيد نفسه آية ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل»(إش7: 14) فعمانوئيل الذي تفسيره الله معنا، هو معجزة المعجزات في شخصيته القوية الفذة والجامعة المانعة فهو الكشف الإلهي في الإنسان، واتحاد اللاهوت بالناسوت، الأمر الذي يشرحه الرسول بولس بقوله: «وبالإجماع عظيمًٌ هو سر التقوى الله ظهر في الجسد»(1تي3: 9).
فلا غرو إذا صار ميلاده يوم الختام لما كان قبله من التاريخ، ويوم البدء لعهدٍ جديد، إذ حوّل المولود مجرى التاريخ، وأضحى مصدره، ومركزه، ومحور دائرته. فما مضى من قبل ميلاده بالجسد كان مشيراً إليه، ومنتظراً مجيئه، وما لحق به، أثبت حقيقته واستمد منه قوته. لأن مولود بيت لحم قد جلس على عرش العظمة في السماء، وتبوّأ قلوب الملايين على الأرض، أولئك الذين صار لهم الطريق، والحق، والحياة. كما غدت تعاليمه لهم دستوراً وإنجيلاً، وأصبح إنجيله نوراً للعالم وهدى للناس، وعلى ضوء موعظته على الجبل عرف الإنسان الخير من الشر والصلاح من الطلاح.
يقول البشير لوقا: «وفي تلك الأيام صدر أمر من أغسطس قيصر بأن يكتتب كل المسكونة… فذهب الجميع ليكتتبوا كل واحد إلى مدينته فصعد يوسف أيضاً من الجليل من مدينة الناصرة إلى اليهودية إلي مدينة داود التي تدعى بيت لحمٍ لكونه من بيت داود وعشيرته ليكتتب مع مريم امرأته المخطوبة وهي حبلى. وبينما هما هناك تمَّت أيامها لتلد فولدت ابنها البكر وقمّطته وأضجعته في المذود إذ لم يكن لهما موضعٌ في المنزل»(لو 2: 1 ـ 7).
قضى الله منذ القديم بأن يولد المسيح في بيت لحم، وأعلن ذلك على لسان النبي ميخا في النصف الثاني من القرن الثامن قبل الميلاد، كما أوضح أن مولود بيت لحمٍ أزليٌّ، بقوله: «ومخارجه منذ القديم منذ أيّام الأزل» (ميخا 5: 2).
وبيت لحمٍ كلمةٌ سريانيةٌ معناها :بيت الخبز وموضعه. وشاء الله تعالى أن يولد فيها المسيح الذي هو خبز الحياة وقد قال عن نفسه «أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء. إن أكل أحدٌ من هذا الخبز يحيا إلى الأبد»(يو 6: 51).وقد حوَّل الطفل الإلهي مغارة بيت لحم إلى سماء ثانية جاعلاً من المذود عرشاً إلهياًً استوى عليه له المجد. وكانت أمّه العذراء مريم الطاهرة النقية وخطيبها البار يوسف النجار يحيطان به فألفوا جميعاً الأسرة المثالية التي كانت وما تزال موضع أمل الآباء والأنبياء والفلاسفة والمصلحين في كل جيل. فإذ لم يكن لهما موضع في المنزل اعتبرت المغارة البسيطة، بوجود الطفل، المولود، أجمل منزل في الكون وأفضله وأقدسه.
تألّفت الأسرة البشرية الأولى من رجل وامرأة، اعتبرا جسداً واحداً، لما كانا في حالة البر والقداسة. ولكنهما انقسما على ذاتهما بعدما ساورتهما الكبرياء، وهيمنت عليهما الأثرة والأنانية، فتقوضت أركان الأسرة إذ دخلت الشكوك البيت، وخرجت منه المحبة. وابتدأ الرجل والمرأة يلصق أحدهما بالآخر التهم اللاذعة، وهكذا انقسم البيت على ذاته، فلم يقدر ذلك البيت أن يثبت (مر 3: 25).
وانتقل داء الكبرياء من الآباء إلى الأبناء في أرض الشقاء. بل تطوّر وتقوّى واستفحل، فحسد قايين أخاه هابيل وقتله. وتفككت أوصال الأسرة البشرية. وعبر الدهر والأجيال لم تقم الأسرة وزناً للفضيلة، وتمرَّغ أفرادها بالشهوات، وغدا الإنسان بهيمياً إذ داس ناموس الضمير ولم يعمل بوصايا الرب ولم يسمع للآباء الأبرار والأنبياء الصادقين وصمّ أذنيه عن سماع صوت السماء…
ولما جاء ملء الزمان كملت معصية الإنسان، وطفح كيل الآثام وبقدر تراكم الخطايا، كان الأمل يتقوّى. والرجاء يتعزز بقرب خلاص الرب، فقد شاع شعورٌ جارفٌ بل اعتقادٌ متين قوي، إن المخلص العظيم قريباً ينقذ شعبه من أعدائهم، وتكمل فيه نبوات الأنبياء، فلم يلبث الحلم أن تحقق بميلاد المسيح المنتظر، وكان ميلاده ميلاد الأسرة المثالية.
تألفت هذه الأسرة المقدسة من ثلاثة أشخاص هم يسوع المسيح وهو طفل ملفوف، مقمّط، مضجع في مذود، وأمه العذراء مريم، وخطيبها يوسف النجار. وخيَّم على هذه الأسرة جوٌّ من المحبة النقية الصافية، واتصف الزوجان بالتضحية ونكران الذات، والإخلاص المتبادل، واجتمعا حول الطفل الإلهي الذي أحبّاه أكثر من نفسيهما، وصار بذلك مثالاً للأسرة المثالية المباركة التي يجتمع أفرادها حول الرب يسوع فتغمرهم السعادة الروحية الحقيقية. فأسباب السعادة الحقيقية لا تأتي عن طريق المال، والجاه، بل بالطهر والنقاء والعفة والصفاء، الفضائل التي تجعل من أفراد الأسرة قيثارات روحية توقع الترانيم السماوية لتمجيد الله بالإيمان والأعمال الصالحة.
وهكذا تعاون يوسف ومريم على تربية الرب يسوع وتحملا المشقات في سبيل حمايته وهو طفل وإنقاذه من عدوه الألد هيرودس، وكان الرب يسوع يحبُّهما ويكرِّمهما، ويقول الإنجيل المقدس بهذا الصدد: «..وكان خاضعاً لهما، وكانت أمُّه تحفظ جميع هذه الأمور في قلبها، وأما يسوع فكان يتقدّم في الحكمة، والقامة، والنعمة عند الله والناس»(لو 2: 51 ـ 52). وقد أحب يسوع يوسف البار وكرَّمه كأبٍ له، ويقول التقليد الكنسي إن يوسف مات في أحضان يسوع، فصار موت يوسف مثالاً للميتة الصالحة. وقد اعتنى يسوع بأمه وكرمها، ولم ينسها حتى وهو على الصليب يتألم، إذ سلَّمها إلى تلميذه الحبيب يوحنا قائلاً: «أيها التلميذ هذه أمك»(يو 19: 26 و 27) فصار بذلك مثالاً لنا في إكرام الوالدين الأمر الذي يعتبر مهمّاً جداً لثبات أركان الأسرة الصالحة.
جاء يسوع إلى أرضنا هذه، فأعاد إلى الأسرة كرامتها، وقداستها وبرَّها، المزايا التي فقدتها بالخطية. وقدّس الرب الزواج إذ حضر عرساً في قانا الجليل. وبتعاليمه أكّد على قدسية الرباط الزوجي بين المرأة والرجل، وقد ساوى بينهما بقوله: «من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلزم زوجته ويكون الاثنان جسداً واحداً. إذا، ليسا بعد اثنين بل جسدٌ واحد» (مت 19: 5 و6) والجسد هنا يعني الإنسان بأكمله. وهذه هي الوحدة المثالية للزواج الصالح الناجح والتي يشبِّهها الرسول بولس باتحاد المسيح بالكنيسة حين يقول :«أيُّها النساء إخضعن لرجالكن كما للرب لأن الرجل هو رأس المرأة كما أن المسيح أيضاً رأس الكنيسة… أيها الرجال أحبُّوا نساءكم كما أحب المسيح أيضاً الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها…» ـ ويتابع الرسول بولس تعليمه هذا قائلاً: «من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمَّه ويلتصق بامرأته ويكون الاثنان جسداً واحداً. هذا السر عظيم ولكنني أنا أقول من نحو المسيح والكنيسة» (أف 5: 22 ـ 33).
فالزواج الشرعي الذي يقدسه الله بوساطة الكنيسة، يعتبر سراً مقدساً، وهو ثابتٌ لا ينحل إلا بالموت الطبيعي أو الموت الأدبي لأحد الزوجين أو لكليهما.
وقد أعطى الرب الحقوق الكاملة للزوجين، إذ ساوى بين المرأة والرجل. فقبل الميلاد كانت المرأة محتقرة مرذولة مهضومة الحقوق، يظهر ذلك جلياً من تعاليم آباء اليهود القائلة: «إن إلقاء نصوص الناموس في النار أفضل من إيصالها إلى النساء». كما أن اليهودي المتدين يصلي صباح مساء شاكراً ربه لأنه لم يخلقه بهيمة ولا امرأة. أما الوثني فقد اعتبر المرأة سلعة تباع وتشترى. والمرأة لديه أمةٌ لأبيها ثم لزوجها ثم لابنها.
فجاء الرب يسوع ورفع المرأة إلى المكان الذي تستحقه واعتبرها مساويةً للرجل، وعاملها كما عامل الرجل تماماً. وقد تبعته نسوةٌ كثيرات، كنَّ يخدمنه وأخلصن له، ولم تتنكر له واحدةٌ منهن، ووقفن عند صليبه، وكنَّ آخر من انصرف عنه وأول من ذهب إلى قبره، وأول من شهد بقيامته. أما جهاد المرأة المسيحية عبر التاريخ فواضحٌ وضوح الشمس في رائعة النهار. ولا عجب من ذلك فالمرأة شريكة الرجل بالنعمة الإلهية، والامتياز الروحي. ولذلك فالرسول بولس يقول: «ليس في المسيح ذكر ولا أنثى» (غلا 3: 28).
ويكفي النساء شرفاً أن تكون العذراء مريم واحدةً منهنَّ، وقد استحقت أن تصير أمَّاً لله. وأن تسمع قول الوحي الإلهي على لسان اليصابات :«مباركة أنت في النساء ومباركة هي ثمرة بطنك. فمن أين لي هذا أن تأتي أم ربيّ إلي»(لو 1: 42 و 43).
وقد قدّس الرب يسوع الطفولة، إذ ولد طفلاً، وأحب الأطفال الصغار وأحبوه واقتربوا منه بثقةٍ، وكان يباركهم، ووَّبخ مرةً تلاميذه توبيخاً صارماً لما ثبطوا عزيمتهم بالدنوّ إليه. ولما أراد أن يلقي على تلاميذه درساً بالتواضع، على أثر نقاشهم فيمن عسى أن يكون عظيماً بينهم، «فدعا يسوع إليه ولداً وأقامه في وسطهم وقال: الحق أقول لكم إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السموات فمن وضع نفسه مثل هذا الولد فهو الأعظم في ملكوت السموات. ومن قبل ولداً واحداً مثل هذا باسمي فقد قبلني ومن أعثر أحد هؤلاء الصغار المؤمنين بي فخيرٌ له أن يعلق في عنقه حجر الرحى ويغرق في لجَّة البحر» (مت 18: 1و6). فبعد أن كان الطفل محتقراً قبل الميلاد، رفع الرب يسوع من مكانته، وجعل له منزلة سامية حتى انه اعتبر الإحسان إلى الطفل إحساناً إلى يسوع نفسه والإساءة إلى الطفل إساءة إلى يسوع نفسه.
وهكذا نرى الرب يعطي كل ذي حق حقه، وفي عظته على الجبل يهتمُّ بإصلاح الفرد لتصلح الجماعة، فيريد أن يكون كل من أتباعه ملحاً للأرض ونوراً للعالم.
ورسالة الميلاد اليوم، هي رسالة إصلاح للأسرة، التي هي نواة المجتمع. ورسالة تمجيد لله، وسلامٍ على الأرض، ومسرةٍ للناس. وباهتمامنا بتهذيب الأطفال وتربيتهم التربية الصالحة وتنشئتهم على جداول مياه التعاليم السماوية، والشرائع الإلهية هذا الاهتمام هو تمجيد لاسم الرب القدوس، لأننا بذلك نكون قد هيأنا من الأطفال جيلاً يعبد الله بالروح والحق ويمجده تعالى بالأعمال قبل الأقوال. ونكون قد لبينا نداء الرب يسوع، وقدَّمنا إليه الأولاد فهو ما يزال ينادينا قائلاً : «دعوا الأولاد يأتون إلي ولا تمنعوهم لأن لمثل هؤلاء ملكوت الله»(مر 10: 14)
وما لا يختلف فيه اثنان، أن الأسرة هي المدرسة التي يتخرج فيها قادة العالم السياسيون والاجتماعيون والروحيون، فإذا نشأ هؤلاء نشأة صالحة صلح العالم بهم، وساده السلام، وإلاّ فسيعم الخصام، وتكثر الحروب، وتتفاقم النزاعات، وتتسابق الشعوب إلى التسلح، وتتهيأ لتدمير العالم، وإبادة الأرض ومن عليها. فإيجاد الأسرة الصالحة إذن ضروريٌّ لإصلاح المجتمع.
والمحبة العائلية هي أساس الأسرة الصالحة، ذلك أن الفرد الذي لا يحب أفراد أسرته لا يحب وطنه ولا المواطنين، فالمحبة داخل البيت ضرورية لتوفير المحبة خارجه، وكيف يحب الإنسان الناس الغرباء ما لم يختبر المحبة المتبادلة بين أفراد أسرته وفي أرجاء بيته؟!
لقد فسدت الأسرة وتفسَّخ المجتمع قبل الميلاد. وجاء السيد المسيح فأعطى بميلاده مثالاً للأسرة الصالحة. وعلينا اليوم أن نسأل أنفسنا: أين هي الأسرة الصالحة؟! ما مدى اهتمام الآباء والأمهات بالأمور الروحية؟ هل يسعون إلى تربية أولادهم وتهذيبهم لينموا كيسوع في الحكمة والقامة والنعمة لدى الله والناس؟ أم قد اقتصروا على الاهتمام بأمور الجسد فقط؟ هل يسعى الآباء والأمهات إلى توجيه أولادهم توجيهاً صحيحاً بالمثال والأعمال قبل الأقوال!؟ ليؤمنوا بالله ويتكلوا عليه تعالى ويخشوه؟ أم أنهم منهمكون في جمع المال والتمرّغ بالشهوات وقد تركوا أولادهم للشارع الفاسد، ولرفقة السوء فتنتقل إليهم عدوى الخطية والعادات الرديئة ويقول الرسول بولس بهذا الصدد: «لا تضلوا فإن المعاشرات الرديئة تفسد الأخلاق الجيدة»(1كو 15: 33).
إنه ليومٌ مقبولٌ عيد ميلاد الفادي يسوع بالجسد، وإنها لساعة خلاصٍ، فلنستيقظ من النوم ولنتقدم إلى الطفل المولود، الذي لم يكن له موضعٌ في المنزل، لنرى هل له موضعٌ في منازلنا؟! إنها لفرصةٌ سانحة أن نهيّئ هذه المنازل لتكون سكناً له. بل أن نعدَّ قلوبنا ونفوسنا ليملك عليها.
لقد جاء السيد المسيح لخلاص العالم، ولم يقبله اليهود، إذ لم يطيعوا الأنبياء الذين أعلنوا موعد مجيئه، ومكان ميلاده. ولم يعرف اليهود زمن افتقادهم، فخسروا بذلك خلاص نفوسهم. أما الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنون باسمه» (يو 1: 12).
إن الرب يسوع آتٍ ثانية إلى العالم بمجد أبيه مع ملائكته القديسين ليدين الأحياء والأموات، وقد أعلن ذلك بنفسه. وأمرنا أن نصحو ونسهر، وننتظر مجيئه الثاني. إنه آتٍ لا ليسجل اسمه في سجلاتنا البشرية، بل ليسجل أسماءنا في سجلات ملكوته السماوي. فهل نحن من أبناء الملكوت؟! وهل نحن مستعدون لاستقباله؟ هل نحن مشتاقون إليه؟ إذن لنطلب إليه مع الرائي يوحنا قائلين «آمين تعال أيها الرب يسوع» أعاد الله عيده عليكم باليمن والبركة وكل عام وأنتم بخير.
ميلاد الرب يسوع المسيح (5)†
«فقال لها الملاك لا تخافي يا مريم لأنك قد وجدت نعمة عند الله، وها أنت ستحبلين وتلدين أبناً وتسمينه يسوع»
(لو 1: 30 ـ 31)
يتسلّم رئيس الملائكة جبرائيل، أسمى رسالة تسلمها من عرش الله تعالى، وينحدر إلى الأرض، ليدخل بيتاً بسيطاً في مدينة الناصرة، وليقف بإجلال واحترام، أمام فتاة فقيرة، هي العذراء مريم، المخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف. فيحييها جبرائيل تحيته الملائكية، ويبلغها الرسالة السماوية المقدسة قائلاً : «سلام لك أيتها الممتلئة نعمةً، الرب معك، مباركة أنت في النساء… لا تخافي يا مريم لأنك وجدت نعمةً عند الله، وها أنت ستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع» (لو 1: 28) .
ويصف الملاك جبرائيل العذراء مريم بالممتلئة نعمةً، وهي الصفة الفريدة التي لم تطلق على غيرها من بني البشر، ذلك أن الله تعالى قد اصطفاها على بنات جنسها كافة، لتكون أمّاً لابنه الوحيد. وأنعم عليها فامتلأت نعمةً، ورضخت مريم للأمر الإلهي فقالت للملاك «هوذا أنا أمة الرب، ليكن لي كقولك» (لو 1: 38). ففي الحال حلَّ عليها الروح القدس، وطهَّرها، وقدَّسها، فاستحقت أن يحلَّ فيها نار اللاهوت، فتحبل لا من زرع رجلٍ، بل من الروح القدس، وتلد بعد تسعة أشهر ابناً عجيباً هو ابن الله الوحيد، فسمت مريم بذلك على سماء السموات، لأنها حملت في بطنها الإله الحي الذي لا تحده حدود، وولدته وهي بتول طاهرة، وقد أنعم عليها مولودها القدوس بأن حافظ على بتوليتها قبل الولادة وفي الولادة وبعدها، كعلامة واضحة وبرهان ساطع ناصع، على ولادته العجيبة الفريدة، فهو الإله ولئن رأيناه إنساناً، الأمر الذي يعبّر عنه الرسول بولس بقوله: «وبالإجماع، عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد»(1تي 3: 16). كما يصفه يوحنا الإنجيلي بقوله: «في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله… والكلمة صار جسداً وحلَّ فينا ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمةً وحقاً»(يو 1: 1 و 14). وقد دعي الإله المتجسد بالكلمة، لأن الله كلمنا به، بعدما كلم الآباء والأنبياء قديماً بطرق كثيرة (عب 1: 1). ويسوع المسيح كلمة الله، أعلن لنا أفكار الله ومشيئته (يو 1: 18) كما تعلن كلمة الإنسان أفكار الإنسان وإرادته.
وشاءت السماء أن تطلق على الإله المتجسد اسماً جليلاً كريماً مقدساً هو أفضل الأسماء التي تدعى بها الذات الإلهية، اسماً يدل على الغاية من تجسده الإلهي، ويوضح طبيعة رسالته السامية، رسالة الفداء والخلاص، هو اسم يسوع. فقال الملاك جبرائيل للعذراء مريم «وها أنت ستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع» كما أعلنه الملاك ليوسف خطيب العذراء مريم لما ظهر له في حلم ليطمئنه عن طهر مريم وقداستها، ويكشف له سرَّ حبلها الإلهي قائلاً له: «يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك لأن الذي حبل به فيها هو من الروح القدس، فستلد ابناً وتدعو اسمه يسوع لأنه يخلص شعبه من خطاياهم»(مت 1: 20 و 21) ويقول لوقا البشير: «ولما تمت ثمانية أيام ليختنوا الصبي سمي يسوع كما تسمى من الملاك قبل أن حبل به في البطن»(لو 2: 12).
أجل، إن لاسم الشخص أهمية كبرى في الكتاب المقدس، فكثيراً ما دلَّ الإسم دلالة واضحة على الرسالة التي يحملها المسمى، ففي النظام القديم، أطلق الله تعالى على أبرام اسم (ابروهام) أي ابراهيم الذي يعني «أبا جمهور»(تك 17: 5) إذ قطع الله معه عهداً أن يجعله أباً لجمهور من الأمم، وتتبارك في نسله جميع الشعوب. ويدعو الرسول بولس ابراهيم «أبا لمؤمنين»(رو 4: 11) وما نسل إبراهيم إلا المسيح يسوع الذي فيه صارت بركة للأمم كافة (غل 3: 8 و 14).
وفي اسم الرب يسوع تكمن قوة إلهية هائلة، فباسمه وباسم أبيه وروحه القدوس ينال المعتمد نعمة التبرير والتقديس والتبني. ففي يوم الخمسين لما نخس اليهود في قلوبهم على أثر موعظة الرسول بطرس، وقالوا له ولسائر الرسل: ماذا نصنع أيها الرجال الأخوة، فقال لهم بطرس «توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا فتقبلوا عطية الروح القدس»(أع 2: 37 ـ 38).
وباسم يسوع تجترح المعجزات الباهرات، فقد حدث مرة، عند باب الهيكل الذي يقال له الجميل أن سأل رجل أعرج صدقة من الرسولين بطرس ويوحنا، فقال له بطرس، «ليس لي فضة ولا ذهب، لكن الذي لي فإياه أعطيك، باسم يسوع المسيح الناصري قم وامش. ففي الحال تشددت رجلاه وكعباه، فوثب ووقف وصار يمشي ودخل معهما إلى الهيكل وهو يمشي ويطفر ويسبح الله»(أع 3:1 ـ 10).
واسم يسوع يعني «الرب المخلِّص» ويقول الرسول بطرس: «ليس بأحد غيره الخلاص لأن ليس اسم آخر تحت السماء قد أعطي بين الناس به ينبغي أن نخلص»(أع 4: 12) ويقول الرسول بولس: «لذلك رفعه الله أيضاً وأعطاه اسماً فوق كل اسم لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء، ومن على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب»(في 2: 9 ـ 11).
كان اليهود قبل مجيء الرب يسوع إلى العالم يطلقون على العديد من أولادهم، اسم يشوع أي يسوع الذي يعني «الرب مخلِّص» ذلك أنهم كانوا ينتظرون إتمام النبوات والمواعيد بمجيء المخلص. ولكن عندما جاء الرب يسوع إلى العالم ليخلص العالم، وطلب إليهم هيرودس الملك أن يخبروه عن مكان ميلاد المسيح بناء على سؤال المجوس الذين جاؤوا من المشرق يسألون قائلين أين هو المولود ملك اليهود، فأوضح له الكهنة وكتبة الشعب أن المسيح يولد في بيت لحم، لأنه هكذا تنبأ النبي ميخا قائلاً: «أما أنت يا بيت لحم أفراته وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطاً على إسرائيل ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل» (ميخا 5: 2 ). لقد قرأ اليهود نبوات أنبيائهم وحافظوا عليها ولكنهم لم يعرفوا زمن افتقادهم، لذلك لم يكلفوا أنفسهم عناء التفتيش عن موضع ميلاد المسيح المنتظر. ولما ظهر للعالم بعد ذلك التاريخ، بثلاثين عاماً، أبغضوه مجاناً، وعلقوه على الخشبة لقساوة قلوبهم وغلاظة رقابهم، وأبطلوا تسمية أولادهم باسمه المبارك يسوع.
أما المسيحيون فإجلالاً للرب يسوع ولاسمه المقدس، لا يطلقون على أولادهم هذا الاسم الإلهي مجرداً بل يسبقونه بكلمة (عبدٍ) فيدعون (عبد يشوع) و(عبد المسيح) وقد أخذ العرب من باب التكريم الحروف التي يتألف منها اسم يسوع وصاغوا منها اسماً جميلاً كريماً أيضاً هو اسم (عيسى) أطلقوه على أولادهم.
ولقِّب ربنا يسوع بألقاب عديدة أشهرها لقب (المسيح) الذي أضيف إلى اسمه القدوس فدعي في أماكن عديدة من أسفار العهد الجديد بيسوع المسيح أو المسيح يسوع. وقد أطلق لقب المسيح على الملوك والكهنة والأنبياء في النظام القديم (مز132: 10 و1صم24: 6) لأنهم مُسحوا بالزيت (1صم10: 1) علامة لتكريسهم لخدمة الله تعالى. أما الرب يسوع المسيح فهو وحده قد مسح بالروح القدس (لو4: 18 وأع4: 27) بصورة فريدة، وأطلق عليه لقب المسيح وفي الأصل الآرامي السرياني (ماشيحا) ومشيحو أي الممسوح، ذلك الذي انتظرته الأجيال والشعوب ليهب العالم خلاصاً، ويرى آباء الكنيسة أن المجوس الرؤساء والحكماء الذين جاؤوا من الشرق وسجدوا للطفل يسوع، قد اعترفوا به مسيحاً مسح كاهناًً وملكاً ونبياً، وذلك بتقديمهم له الذهب واللبان والمر، الهدايا التي تقدم للملوك والكهنة والأنبياء، كما تنبأوا عن موته الكفاري.
وأعلن الرب يسوع نفسه أنه المسيح المنتظر (لو4: 16ــ21 وإش61: 1) وبهذه الصفة عرفه تلاميذه وأتباعه واعترفوا به. فإن أندراوس مثلاً بعدما تبعه بناءً على شهادة يوحنا المعمدان، بشّر أخاه سمعان بطرس بقوله: «قد وجدنا ماشيحا الذي تفسيره المسيح»(يو1: 41و42). ولما سأل الرب يسوع تلاميذه عما يقوله الناس عنه، وعما يقوله التلاميذ أيضاً عنه، أجاب سمعان بطرس وقال: «أنت هو المسيح ابن الله الحي»(مت16: 16) وهكذا صار لقب المسيح اسماً جليلاً يطلق على الرب يسوع، دالاً على ألوهيته وناسوتيته معاً، ولا يشاركه فيه أحد من البشر.
أجل، أن من نعم الله علينا كمسيحيين أن ننسب إلى ربنا يسوع المسيح. «فقد مسحنا الله وختمنا وأعطانا عربون الروح في قلوبنا»(2كو1: 21و22) على حد قول الرسول بولس: «وليس هذا فقط بل قد أعطانا سلطاناً أن نصير أولاداً لله، أي المؤمنون باسمه، الذين ولدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله»(يو1: 12و13).
إننا ندعى مسيحيين، فهل افتكرنا ماذا يعني هذا الاسم المقدس!؟
يقول البشير لوقا في سفر أعمال الرسل: «دعي التلاميذ مسيحيين في أنطاكية أولاً»(أع11: 26) وكانت أنطاكية عصرئذ عاصمة سوريا القديمة، وكان أجدادنا الأنطاكيون قد قبلوا المسيح يسوع رباً ومخلصاً، بل كان اسمه القدوس يقدس شفاههم، وهم يبتهلون إليه ليل نهار، ويلهجون بتعاليمه الإلهية، ويحدثون الغريب والقريب عن معجزاته. وكان الرب يسوع المسيح معهم إتماماً لوعده الإلهي القائل: «لأنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، فهناك أكون في وسطهم»(مت18: 20) وليس هذا فقط بل بمعاشرتهم إياه اقتبسوا منه العديد من فضائله الإلهية السامية. فكان مثالهم في الحياة، وكانت تفوح منهم رائحته الذكية. فرأى فيهم الوثنيون مسحاء صغاراً فدعوهم مسيحيين هزءاً وسخرية. ولكن هذا اللقب تفوق على كل الألقاب، وسمت هذه التسمية على كل التسميات، وافتخر أتباع المسيح بذلك، فيقول الرسول بطرس بهذا الصدد: «إن عُيِّرتم باسم المسيح فطوبى لكم لأن روح المجد والله يحل عليكم أما من جهتهم فيجدَّف عليه وأما من جهتكم فيمجَّد. فلا يتألم أحدكم كقاتل، أو سارق، أو فاعل شر، أو متداخل في أمور غيره. ولكن إن كان كمسيحي فلا يخجل بل يمجِّد الله من هذا القبيل»(1بط4: 14ــ16) وما أجمل ما كتبه القديس إغناطيوس النوراني (حامل الإله) بطريرك أنطاكية الثالث(107م) قائلاً: «صلاتي إلى الله، لا أن أدعى مسيحياً فحسب، بل أن أكون بالفعل مسيحياً».
هكذا كان آباؤنا أهل أنطاكية الذين لم يسمّوا مسيحيين فقط بل كانوا مسيحيين اسماً وفعلاً، قولاً وعملاً. وقد اقتدوا بالمسيح يسوع ربنا بالصدق والاستقامة، والمحبة والرحمة، والتضحية ونكران الذات، فصاروا مسحاء صغاراً أدهشوا العالم بسيرتهم الفاضلة، وسريرتهم النقية، وكانوا أول من جمع صدقات، على أثر الجوع الذي حدث وقتئذ، وأرسلوها إلى القدس بيد برنابا وشاول، لسد عوز الإخوة. ونحن أنطاكيون، لأن كرسينا الرسولي أسسه الرسول بطرس في أنطاكية، فأين نحن الآن من متطلبات التسمية المسيحية المجيدة ومبادئها؟ إذا ما عقدنا المقارنة بين ما كان عليه آباؤنا الأنطاكيون وبين ما نحن عليه الآن تبرز أمامنا حتماً الحقيقة المريرة وهي أن البون قد اتسع بين مسيحنا ومسيحيتنا. فنحن اليوم ننعم في بحبوحةٍ من العيش الرغيد، والعديد منا لا يفتكر بالفقير واليتيم والأرملة. بل يتجاهل ما يحدث من جوع مرير في أماكن عديدة من العالم حيث يموت آلاف الأطفال جوعاً، وكل منهم يمثل الطفل يسوع، الذي ولد فقيراً، ليعين الفقراء والبؤساء والمحتاجين.
أجل، إن المجاعة تكشر عن نابها لملايين البشر في كل عام وتجتاح البلدان الفقيرة، والأقطار المتخلفة التي كانت عبارة عن مستعمرات للأجانب الذين نهبوا ثرواتها المادية، وسخروا طاقاتها البشرية لمصلحتهم الخاصة على مدار سنين كثيرة. وتشتدد عليها الآن وطأة الجوع نتيجة الجفاف وعدم كفاية الواردات، ونسمع كل يوم بموت آلاف الأطفال والشيوخ لانعدام التغذية.
وفي هذا الوقت بالذات والإنسانية تتعذّب وتتحمل مأساة المجاعة القاسية نجد الرأسمالية الكبرى تنفق على إنتاج الأسلحة الفتاكة وأدوات الدمار، الملايين بل المليارات من الدولارات. ونجدها كذلك تقوم بإتلاف كميات هائلة من المواد الغذائية بحجة المحافظة على الأسعار، وصيانة دخل المنتجين في بلادها من الانهيار، وتحول دون إرسال هذه الكميات الفائضة من المواد الغذائية إلى البلدان التي يموت أهلها جوعاً، غير آبهة بموت هذه الشعوب، في سبيل المحافظة على مصالحها الاحتكارية الدنيئة.
ففي ذكرى ميلاد الطفل الإلهي القدوس، نناشد الضمير العالمي لإنقاذ الإنسانية من الجوع والفقر والدمار. أما نحن فلنقتدِ بآبائنا الميامين، ونمد يد العون للمعوزين، كي نستحق أن ندعى مسيحيين.
أعاد الله أعياده المقدسة عليكم جميعاً، باليمن والبركة، ووطد أمنه وسلامه في أقطار المسكونة، وخفف عن الناس ويلات الحروب والمجاعات بنعمته تعالى آمين.
المجوس يجدون الملك المولود ويسجدون له (6)†
«ولما ولد يسوع في بيت لحم اليهودية في أيام هيرودس الملك، إذا مجوسٌ من المشرق قد جاؤوا إلى أورشليم قائلين أين هو الملك المولود ملك اليهود، فإننا رأينا نجمه في المشرق وأتينا لنسجد له»
(مت2: 1و2)
صرخة البشرية للخلاص استجابتها السماء بميلاد الفادي قبل عشرين قرناً. فقد كانت البشرية قبل ذلك، جيلاً بعد جيل، تحنّ بكل جوارحها إلى رؤية مشتهى الأمم، المخلص الموعود به منذ ابتداء الخليقة، ليقيل عثرتها، وينتشلها من وهدة الخطية، ويبررها ويقدسها، ويعيدها إلى حظيرة الآب السماوي.
«فلما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأةٍ، مولوداً تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني»(غل4: 4). ففي الزمان المعيَّن من الله، وفي الطريقة العجيبة التي اختارها تعالى أن يولد ابنه الوحيد من الروح القدس ومن العذراء مريم، وُلِد الإله المتجسد. ويصف الرسول بولس هذا السر العجيب بقوله: «وبالإجماع عظيمٌ هو سر التقوى، الله ظهر في الجسد»(1تي3: 16). ويسرد الإنجيلي متى سلسلة نسبه في الجسد مبتدئاً بشارته بقوله: «كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود ابن إبراهيم»(مت1: 1). فقد اختار الله إبراهيم وداود وبعض الآباء ليكون المسيح من نسلهم في الجسد. ووعدهم الرب الإله أن يتبارك بنسلهم جميع الشعوب (تك22: 18 و26: 4 و28: 14). ويقول الرسول بولس بهذا الصدد: «وأما المواعيد فقيلت في إبراهيم وفي نسله، لا يقول في الأنسال كأنه عن كثيرين بل كأنه عن واحد وفي نسلك الذي هو المسيح»(غل3: 16). وشاءت العناية الربانية أن يحتفظ شعب العهد القديم بهذه المواعيد الإلهية، والنبوات الصادقة والرموز والإشارات التي تمت بحذافيرها في المسيح يسوع ربنا. ويقول الرسول بولس عن هذا الشعب: «ولهم التبني والمجد والعهود والاشتراع والعبادة والمواعيد، ولهم الآباء ومنهم المسيح حسب الجسد الكائن على الكل إلهاً مباركاً إلى الأبد آمين»(رو9: 4و5).
واشتركت الأمم الوثنية أيضاً في سلسلة نسب المسيح بالجسد عن طريق راحاب الخاطئة، وراعوث الموآبية، ضمن سلسلة نسب النبي داود، وبالتالي صارتا ضمن سلسلة نسب السيد المسيح، وهذه إشارة إلى قبول الأمم في ملكوت الله، وخلاص الرب يسوع للعالم أجمع. «لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية لأنه لم يرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم بل ليخلص به العالم»(يو3: 16و17) فرسالة المسيح الخلاصية هي عامة شاملة لا لشعب واحد ولا لعنصر واحد ولا لجيل واحد بل هي للعالم أجمع ولكل الأزمنة للماضي والحاضر والمستقبل. فلا غرو إذن، إذا هيّأت العناية الربانية أن يأتي المجوس من المشرق إلى فلسطين ليسألوا عن المولود الذي دعي ملك اليهود لأنه ملك الملوك ورب الأرباب.
رأينا المجوس في بابل على عهد النبي دانيال، قبل مجيء السيد المسيح بنحو خمسة قرون، رأيناهم رجالاً حكماء علماء يراقبون الكواكب السابحة في القبة الزرقاء، ويدرسون حركاتها، ويسجلون ذلك بحساب دقيق معتقدين أن للكواكب مساساً بحياة البشر. وكان الملوك يستشيرونهم في الأمور المهمة، لذلك تبوّؤوا مراكز مرموقة في مجتمعهم، واعتبروا من الأمراء والعظماء والأغنياء، وكانوا يدينون بالديانة الزرادشتية.
وكان المجوس الثلاثة الذين جاءوا إلى فلسطين للسجود للرب يسوع وتقديم الهدايا له من نسل النبي الأممي بلعام بن بعور الذي كان من بلاد ما بين النهرين موطن إبراهيم خليل الله. وعاصر بلعام النبي موسى، وذاع صيته كثيراً بين الشعوب الوثنية فكان زعماؤها يقصدونه ليباركهم ويتنبأ لهم عن أمور تتعلق بحياتهم الخاصة والعامة ومستقبل بلدانهم في السلم والحرب. وكان بلعام، على الأغلب، موحداً يعبد الله الواحد الأحد سبحانه وتعالى (عد24: 16) ولكنه لم يكن في تعداد شعب موسى لذلك اعتُبِر نبياً أممياً.
وكان بلعام بن بعور قد تنبأ عن مجيء السيد المسيح إلى العالم، لخلاص العالم بقوله: «أراه ولكن ليس الآن، وأُبصِره ولكنه ليس قريباً يبرز كوكب من يعقوب… »(عد24: 17ــ19) وكان من جملة تعاليم بلعام لتلاميذه أنّ نجماً يظهر في السماء يختلف عن سائر الكواكب التي يرصدونها، وأنّ ظهور هذا النجم يدل على ولادة ملك عظيم يسمو على سائر ملوك الأرض. وأوصى بلعام تلاميذه قائلاً: متى ظهر هذا النجم العجيب فاتبعوه، آخذين معكم له هدايا ذهباً، ولباناً، ومراً.
ومرت الأجيال والدهور، وتعاليم بلعام يتسلمها الأبناء من الآباء حتى ميلاد الفادي، حيث كان ثلاثة من المجوس يرصدون الكواكب في بلاد ما بين النهرين فرأوا نجماً غريباً ظهر في السماء وكأنه على سفر، فعرفوا فيه النجم الذي تنبأ عنه جدهم بلعام بن بعور، فشدوا الرحال حالاً وتبعوه وهم لا يعلمون إلى أين يقودهم تماماً كما خرج إبراهيم من أرض آبائه بالإيمان إطاعةً لأمر الله تعالى، وهو لا يعلم إلى أين يأتي(عب11: 8) وقد رافق المجوس الثلاثة ألف رجل يحملون مؤونة وأسلحة.
يقول آباء كنيستنا السريانية وفي مقدمتهم مار أفرام (ت373) ومار يعقوب السروجي (ت521): لم يكن النجم الذي ظهر للمجوس كسائر الكواكب السابحة في القبة الزرقاء، إنما كان كائناً روحانياً ظهر ككتلة من نور باهر وفي وسطه صورة امرأةٍ تحتضن صبياً. وسار هذا النجم أمام المجوس الثلاثة حالما غادروا بلادهم في ما بين النهرين كما كان عمود النور يسير في البرية أمام شعب موسى… وعندما وصلوا إلى القدس اختفى النجم عنهم، فظنوا أن رحلتهم قد انتهت وانهم لا محالة من أن يجدوا الطفل المولود في المدينة المقدسة التي طالما سمعوا عنها. فسألوا الناس قائلين : «أين هو المولود ملك اليهود فإننا رأينا نجمه في المشرق وأتينا لنسجد له». وذاع خبر مجيئهم في المدينة كلها وبلغ أذني الملك هيرودس الكبير الأدومي الجنس الذي اغتصب الملك وبطش بكل من ظنه منافساً له، فاضطربت المدينة خوفاً وفزعاً منه من بطش هذا الطاغية الذي كاد قلبه يتفجر غيظاً ونار الغيرة والحقد تلتهب فيه.
يقول الإنجيل المقدس إن هيرودس استدعى رؤساء الكهنة اليهود وكتبة الشعب وسألهم أين يولد المسيح؟ فقالوا له في بيت لحم اليهودية لأنه هكذا مكتوب بالنبي «وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا لست الصغرى بين رؤساء يهوذا لأن منك يخرج مدبّرٌ يرعى شعبي…»(مت 2: 5 و 6) ولم يكملوا له الجزء الثاني من الآية القائل :«ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل» (ميخا 5: 2) الأمر الذي يعلنه الوحي الإلهي على لسان النبي ميخا لإثبات حقيقة أزلية المسيح الملك المولود في بيت لحم أفراثه.
وصمم هيرودس أن يهلك نفس الصبي فاستدعى المجوس سراً وسألهم عن زمان ظهور النجم ثم أرسلهم إلى بيت لحم قائلاً :«اذهبوا وافحصوا بالتدقيق عن الصبي ومتى وجدتموه فأخبروني لكي آتي أيضاً واسجد له» (مت 2: 8) وكان هذا مكراً منه وخديعة، فقد تأبط شراً، وبيَّت للمولود سوءاً، ونوى الإيقاع به، ووأده في مهده. ولكن الآب السماوي صان حياة الطفل القدوس. أما المجوس فحالما غادروا المدينة، «إذا النجم الذي رأوه في المشرق يتقدمهم حتى جاء ووقف فوق حيث كان الصبي، فلما رأوا النجم فرحوا فرحاً عظيماً جداً([23])، وأتوا إلى البيت ورأوا الصبي مع مريم أمه فخرٌّوا وسجدوا له([24]). ثم فتحوا كنوزهم وقدموا له هداياهم ذهباً، ولباناً، ومرّا ً(مت2: 10 و 11) الهدايا التي كانت ترفع عادة في هياكل عبادتهم قرابين شكر للإله العظيم، فقد قدموا له الذهب الذي يقدم أيضاً للملوك لأنهم رأوا فيه ملكاً للعالم. ومملكة المسيح روحية. وهي تضم كل من يؤمن به إيماناً مستقيماً، لذلك لما بشر الملاك جبرائيل العذراء مريم بالحبل به قال لها: «هذا يكون عظيماً وابن العلي يدعى ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهايةٌ» (لو 1: 32 و 33) وفي ابتداء تدبيره الإلهي في الجسد سمعناه يقول للناس: «قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله فتوبوا وآمنوا بالإنجيل»(مر 1: 15) وقال لبيلاطس الحاكم: «مملكتي ليست من هذا العالم»(يو 18: 36). كان اليهود ينتظرون بفارغ الصبر مجيء ماشيحا المخلص الموعود به منذ ابتداء الزمن. ولكن معلمي الشريعة، وكتبة الشعب ضللوهم، ورسموا في عقولهم صورة مادية لرسالة هذا المخلص، معتبرين إياه منقذاً دنيويا صرفاً، يخلصهم من مصائب هذا الدهر، وينقذهم من ظلم الرومان واستعبادهم. إن هذا المفهوم المغلوط في صفات مملكة المسيح السماوية، أفقد اليهود نعمة الخلاص، فصاروا غرباء عن ملكوته. وتجاسر بعضهم ليقولوا: «ليس لنا ملك إلاّ قيصر» (يو 19: 15) فتم فيهم القول: «إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله أما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنون باسمه»(يو 1: 11 و 12) إن المؤمنين باسمه، يقدمون له قلوبهم النقية الطاهرة، كالذهب المصفّى بنار التوبة، والمحبة الإلهية، عربون خضوعهم له، وطاعتهم لوصاياه المقدسة، واعترافاً منهم بملكه الأبدي الذي لا يتزعزع، وأبواب الجحيم لن تقوى عليه. فان دول العالم تدول، وممالكه تتداعى إلى السقوط وتزول، أما ملكوت السماء فثابتٌ إلى الأبد.
وقدّم المجوس للصبي يسوع لباناً، لأنهم رأوا فيه إلهاً عظيماً يستحق أن يحرق أمامه بخور الحمد والشكران اعترافاً بألوهته، فهو الإله المتجسد، الكلمة الذي هو منذ البدء «والكلمة صار جسداً وحل فينا ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الأب مملوءاً نعمة وحقاً»(يو 1: 1 و 14) فالمؤمنون به يرفعون إليه صلواتهم الحارة، بخوراً طيب الرائحة، ذكياً، تحملها الملائكة إلى السماء، وتقدمها أمام عرشه السامي مع صلوات القديسين جميعهم (رؤ 8: 3).
وقدم له المجوس مراً، لأن السماء كشفت لهم سراً عظيماً عن عمله الكفاري، وما يتحمله من آلام في سبيل فداء البشرية، وقد دعي اسمه يسوع كما دعاه الملاك جبرائيل وهو يبشر العذراء مريم بالحبل به، ومعنى يسوع المخلص، لأنه يخلص شعبه من خطاياهم.
ففي ميلاده في مذود، حيث تولد الخراف، يكمن سر الفداء العجيب. فالمسيح يسوع هو حمل الله الرافع خطايا العالم، كما دعاه يوحنا المعمدان، الحمل الذي قدم نفسه فدية عن البشرية، لذلك فالميلاد هو أول الطريق المؤدية إلى الصليب والموت والقيامة، الطريق الموصلة إلى ملكوت الله.
والمؤمنون باسمه القدوس، يولدون من فوق، من السماء ميلاداً ثانياً، لا من مشيئة رجل، بل من الله. ليصيروا أولاد الله بالنعمة. ويحملون صليب الرب يسوع وهم يتبعونه في طريق الآلام صالبين ذواتهم معه على الخشبة فتموت فيهم الأنانية بنكران الذات والتضحية، وهكذا يقدمون له مع المجوس مراًّ ممزوجاً بتنهدات القلوب النقية، متحملين الضيقات من أجل اسمه القدوس بفرح وابتهاج.
فإذا كنا، أيها الأحباء، نرغب في أن نحتفل بعيد ميلاد الفادي كما يريدنا المسيح ربنا أن نحتفل به، علينا أن نسترشد بنور إنجيله بإيمان متين، ورجاء وطيد، كما استرشد المجوس بضياء النجم المنير. سالكين في الطريق التي نهجها لنا الرب يسوع مولود بيت لحم القدوس، الذي هو الطريق والحق والحياة (يو 14: 6) عائشين كما يحق لإنجيله المقدس(في 1: 27) جاثين أمامه راكعين، مع المجوس الحكماء، مقدمين له هدايانا المتواضعة، عربون محبتنا وخضوعنا له.
في سبيل الوصول إليه، لا نبالي بما يصادفنا في الطريق من المصاعب والمتاعب والمشقات والضيقات ف «ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الحياة وقليلون هم الذين يجدونه»(متى 7: 14) على حد قول الرب يسوع.
وأمام مذوده المقدس، لننس مراكزنا الدنيوية المرموقة السامقة، وكل أمجاد العالم، وغناه، وهناءه، وسعادته، إن وُجِدت، ولنتلاش قدامه جاثين ساجدين خاشعين «لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب»(في 2: 10 و 11). بذلك نستحق في انتهاء مسيرتنا في هذه الحياة أن نعود إلى وطننا السماوي كما رجع المجوس إلى بلادهم من طريق أخرى (متى 2: 12)، لا طريق هيرودس المعوجَّة، بل طريق الإنسان الجديد الذي رأى الرب يسوع مولود بيت لحم القدوس، بعين الإيمان والرجاء والمحبة، وعرفه معرفة جيدة، وقدّم له قلبه عرشاً يتربع عليه إذ قبله ملكاً، وإلهاً، ومخلصاً عظيماً.
أعاد الرب الإله هذا العيد المقدس عليكم جميعاً باليمن والبركة والنعمة معكم آمين.
المسيح قد جاء مولوداً من عذراء (7)†
قال الرسول بولس: «لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امراة، مولوداً تحت الناموس، ليفتدي الذين تحت الناموس، لننال التبني»
(غل 4: 4و5)
تمتلئ قلوبنا بهجة وسروراً، في عيد ميلاد الرب يسوع، ونحن نتأمل بالروح أعظم حدث وقع في تاريخ البشرية، ألا وهو التجسد الإلهي العجيب، الذي لا تقوى عقولنا على أن تدرك كنهه، ولكننا نؤمن به، ونسلّم بصحته، مثلما نؤمن بكل ما توحيه إلينا السماء من الحقائق الإلهية التي يفوق بعضها إدراكنا. ولا غرو فقد عرّف الكتاب المقدس الإيمان بقوله: «وأما الإيمان فهو الثقة بما يرجى والإيقان بأمور لا ترى»(عب 11: 1). فنحن نؤمن بكل ما أوحاه الله تعالى إلى أنبيائه ورسله من عقائد إلهية، دوّنوها في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، من ذلك تكوين العالم، وخلقة الإنسان، وسقوطه في المعصية، وإنقاذه من براثن إبليس، وذلك بإرساله تعالى ابنه الوحيد إلى العالم متجسداً من الروح القدس ومن مريم العذراء، فصار إنساناً وافتدانا بدمه الكريم، وغفر لنا خطايانا وبرّرنا وقدّسنا، وأعادنا إلى رتبة البنين التي فقدناها بالخطية، هذا الفداء العظيم حدث في الزمن الذي حدده الله قبل حدوثه بأجيال عديدة، وبهذا الصدد يقول الرسول بولس: «ولما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة، مولوداً تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني» (غل 4: 4و5).
يذكرنا هذا السر العجيب، أيها الأحباء بحادثة تجلّي الله تعالى للنبي موسى في عليقةٍ كانت تتوقد بالنار دون أن تحترق، وإذ تقدم موسى منها، ناداه الله من العليقة قائلاً له: «لا تقترب إلى ههنا، اخلع نعليك من رجليك، فإن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة، أنا إله أبيك، إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب.. أنا هو الكائن» (خر3: 5و6و14).
لم تكن تلك العليقة سوى رمزٍ للعذراء مريم، فكما كانت النار تتوقد في العليقة دون أن تحرقها، وكلّم الله موسى من العليقة، كذلك حلّ نار اللاهوت في أحشاء العذراء مريم، ولم تهلك مريم ولئن كانت إنساناً محضاً. إذ أنعم الله عليها فحلّ عليها الروح القدس وطهّرها ونقًاها وقدسها فأصبحت أهلاً لأن يجبل الروح القدس من دمها جسداً كاملاً، وهكذا حبلت من الروح القدس بابن الله ولم يمسسها رجل، كقول الملاك جبرائيل لها يوم بشرها بالحبل الإلهي، وسألته كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلاً، فأجاب الملاك وقال لها: «الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تُظلّلك ولذلك أيضاً القدوس المولود منك يدعى ابن الله»(لو 1: 34و35) بعد أن كان الملاك قد قال لها «السلام لك أيتها الممتلئة نعمة الرب معك مباركة أنت في النساء… لا تخافي يا مريم لأنك قد وجدت نعمةً عند الله، وها أنت ستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع، هذا يكون عظيماً وابن العلي يُدعى ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية»(لو1: 28ــ33).
فما أعظم النعمة التي وجدتها العذراء مريم عند الله، إذ صارت أماً ليسوع الذي يدعوه الملاك ابن العلي كما يدعوه ابن الله. وهو نسل المرأة الذي يسحق رأس الحية على حد قول الله تعالى للحية المجرِّبة «أضع عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه» (تك 3: 15) والحية هنا رمز قوة الشر أي إبليس الذي يظفر به نسل المرأة أي المسيح يسوع، وهكذا كما أدخلت المرأة الأولى حواء، الخطية إلى العالم، كذلك المرأة العذراء مريم حواء الثانية بوساطة نسلها المسيح أتت بالخلاص للعالم.
يقول آباء الكنيسة «إن الله قادرٌ على أن يصنع الإنسان على أربعة أنواع إما من رجلٍ وامرأةٍ كما هو الحال الجاري في العالم، أو من غير رجلٍ أو امرأةٍ كما صنع آدم، أو من رجلٍ بلا امرأةٍ كما صنع حواء، أو من امرأةٍ من غير رجل الذي لم يكن قد صنعه إلى حين تجسد كلمة الله يسوع المسيح الذي اتّخذ له جسداً كاملاً من امرأةٍ وحدها هي العذراء مريم».
وقد وُلِد الرب يسوع بصورة عجيبة إذ ولدته العذراء مريم وهي عذراء وبقيت عذراء في الولادة وبعد الولادة ولذلك ندعوها بدائمة البتولية. وهكذا تمّت فيها نبوة إشعيا الذي قال: «ولكن يعطيكم السيد نفسه آية ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل»(إش7: 14) «الذي تفسيره الله معنا» (مت1: 23).
ويقول الرسول بولس: «وبالإجماع عظيمٌ هو سر التقوى الله ظهر في الجسد»(1تي3: 16).
أجل، إن عقيدة ميلاد السيد المسيح من عذراء هي من العقائد الجوهرية في الدين المسيحي. وإن هذا الميلاد الذي يفوق الطبيعة، هو ضروريٌّ جداً في التجسد الفريد من نوعه في الكون، وهو أعجوبةٌ باهرة لا بد من حدوثها في بدء تجسد الرب، كما أن قيامته من بين الأموات أعجوبةٌ أخرى اجتُرِحت لتقيم الحجة على صدق نبواته وصحة مطاليبه الإلهية وقبول كفارته عن البشرية. فكما ولد من عذراء وحافظ على بتوليتها قبل الولادة وفي الولادة وبعدها كذلك قام من بين الأموات وغادر القبر، والصخرة العظيمة موضوعةٌ على بابه وأختام المملكة لم تنثلم.
إن حقيقة الولادة من عذراء هي الأساس الذي تبنى عليه حقيقة عصمة المسيح الإله المتجسد الذي أرسله الآب إلى العالم ليخلص به العالم ودعاه جبرائيل الملاك «قدوس القديسين» لما بشر النبي دانيال قبل الميلاد بخمسمائة سنة، وحدد له زمن مجيء الرب بالأسابيع السبعين التي ذكرها في نبوته (دا9: 24) ولما جاء ملء الزمان وتمت هذه النبوة بشّر جبرائيل العذراء مريم بالحبل به. ودعاه أيضاً قدوساً، وابن العلي، كما سماه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا.
كما أن ولادة العذراء ابنها الوحيد الرب يسوع بهذه الصورة العجائبية رفع من مقامها بين نساء العالمين، فأطلق عليها أتباع المسيح ابنها صفة الأمومة لله، ودعوها والدة الله وقد سمعنا إليصابات نسيبة العذراء وقد امتلأت من الروح القدس وهي ترحب بها في دارها، تقول لها: «مباركة أنت في النساء ومباركة هي ثمرة بطنك، فمن أين لي هذا أن تأتي أم ربي إليّ فهوذا حين صار صوت سلامك في أذني ارتكض الجنين بابتهاجٍ في بطني، فطوبى للتي آمنت أن يتم ما قيل لها من قبل الرب»(لو1: 41ــ45) فأنشدت العذراء مريم أنشودتها النفيسة قائلة: «تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصي لأنه نظر إلى اتضاع أمته فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوبني لأن القدير صنع بي عظائم، واسمه قدوس ورحمته إلى جيل الأجيال للذين يتقونه»(لو1: 46ــ50). وإتماماً لنبوة العذراء عن نفسها يطوِّبها أبناؤها المسيحيون في صلواتهم التي يرفعونها إلى ابنها الحبيب مكررين العبارات التي حيّاها بها الملاك جبرائيل مضيفين إلى ذلك كلمات إليصابات قائلين: السلام لك يا مريم العذراء الممتلئة نعمةً، الرب معك، مباركة أنت في النساء ومبارك ثمرة بطنك يسوع. يا مريم القديسة يا والدة الله. صلي لأجلنا نحن الخطاة الآن وفي ساعة موتنا آمين.
فجدير بنا أيها الأحباء أن نقتدي بالعذراء مريم الممتلئة نعمةً، التي اختارها الله لتكون أماً لابنه الوحيد لطهرها ونقائها وعفتها ووداعتها وتواضعها، ويقول عنها البشير لوقا: «وأما مريم فكانت تحفظ جميع هذا الكلام متفكرة به في قلبها»(لو2: 19) فقد كانت تنصت جيداً إلى كلام الوحي الإلهي وتحفظه متفكرةً به في قلبها، كما كانت تتأمل باهتمام الحوادث التي جرت لها وما حولها وتحفظها وقد بلّغتها إلى رسل الرب وتلاميذه الذين أعلنوا شهاداتهم ودوّنوها في الإنجيل المقدس، فالعذراء أول من حمل البشارة إلى الآخرين.
من العذراء عرفنا بشارة الملاك جبرائيل لها، وزيارتها لإليصابات نسيبتها، وظهور الملاك جبرائيل ليوسف خطيبها ليطمئنه عن أن الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس. ومن العذراء عرفنا ولادة الرب العجيبة في بيت لحم في مغارة بسيطة وتسجيل اسمه في سجلات المملكة.
ومن العذراء مريم عرفنا أن الملاك ظهر للرعاة وبشّرهم بالمولود، وأن الملائكة رنموا في تلك الليلة قائلين: «المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة».
ومن العذراء مريم عرفنا أن المجوس جاءوا من المشرق وسجدوا للطفل المولود، أولئك الذين كانوا قد سألوا في المدينة المقدسة عن المولود ملك اليهود، وأن هيرودس جمع رؤساء الكهنة والكتبة واستفسر منهم عن مكان ميلاد المسيح المنتظر وأنهم ذكروا له نبوة النبي ميخا القائل: «أما أنت يا بيت لحم أفراثة وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا، فمنك يخرج مدبر يرعى شعبي… ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل» (ميخا5: 2) فذكر هيرودس ذلك للمجوس الذين جاءوا إلى بيت لحم وسجدوا للمولود الإلهي وقدموا هداياهم ذهباً ولباناً ومرّاً معترفين به إلهاً وملكاً وكاهناً يقدم نفسه فديةً، أما رؤساء اليهود وكتبتهم وفريسيّوهم فلم يكلفوا أنفسهم عناء التفتيش عنه وهم ومن خلفهم حتى اليوم ينتظرون وَهماً مجيء مخلص بعد أن فقدوا المخلص الحقيقي.
من العذراء أيضاً علمنا أن هيرودس اضطهد الصبي يسوع وإنها ويوسف هربا بالطفل إلى مصر ثم عادا به وسكنوا في الناصرة فلنقتدِ بها في التأمل بالحوادث المقدسة وفي المواظبة على الصلاة والتفكر بعجائب الله لنكون قريبين منه تعالى، كما كانت أمنا العذراء.
المسيح المنتظر جاء وولد من عذراء، ونما في القامة والحكمة والنعمة عند الله والناس. واعتمد من يوحنا المعمدان، والمعمدان شهد له أنه حمل الله الرافع خطايا العالم. ورأى السماء مفتوحة والروح بشبه حمامة يهبط على هامته، وجاء صوت الآب من السماء قائلاً: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت»(مت3: 17).
وأرسل يوحنا إلى المسيح اثنين من تلاميذه ليسألاه: أأنت هو الآتي أم ننتظر آخر. فأجاب يسوع وقال لهما اذهبا وأخبرا يوحنا بما تسمعان وتنظران. «العمي يبصرون، والعرج يمشون، والبرص يطهّرون والصم يسمعون، والموتى يقومون، والمساكين يبشَّرون. وطوبى لمن لا يعثر فيّ»(مت11: 2ــ6). ووجّه يوحنا تلاميذه فآمنوا بالمسيح وكان أحدهم يقول للآخر وجدنا مشيحا ــ المسيح ـ وانضم بعضهم إلى زمرة الرسل والتلاميذ.
كان عدد كبير من اليهود قبيل ميلاد السيد المسيح ينتظرون بفارغ الصبر مجيء المسيح «مشتهى كل الأمم»(حج2: 7) ورجاء الشعوب كافة، ولكن أفكارهم بخصوص المسيح لم تكن روحية، فقد أرادوه مسيحاً يخلصهم من سلطة الرومان، لا من سلطان الشيطان، مسيحاً مادياً لا روحياً. لذلك خاب ظنهم وطاش سهمهم وما يزالون يفتشون عن مسيح ابتدعته أفكارهم الدنيوية، وكبرياؤهم وأنانيتهم.. لهؤلاء قال الرب: «فتّشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية وهي تشهد لي» (يو5: 39). أمّا هم فلم يفهموا الكتب فهلكوا، ولو أمعنوا النظر في نبوات أنبيائهم لاكتشفوا أن زمان مجيء المخلص كان قد بلغ، ولكنهم قد حافظوا على أسفار الأنبياء بإكرام، دون أن يدرسوها جيداً بروح التقوى ومخافة الله فلم يعرفوا زمان افتقادهم. أما الأتقياء منهم فآمنوا بالمسيح يسوع ونالوا الخلاص وهم الآن ينتظرون مجيئه الثاني على السحاب ليُسمِع الذين في القبور صوته فيخرج الذين عملوا الصالحات إلى قيامة الحياة، والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة(يو5: 28و29).
أجل لقد ضل الضالون والمضلون ممن لم يؤمنوا بالمسيح الحقيقي، ويسمون أنفسهم المسيحيين الصهاينة الذين يمزجون السم بالدسم، ويسيئون إلى المسيحية بتفسير نبوات العهد القديم، وكأن المسيح لم يأتِ بعد وهم ينتظرونه ليأتي ويملك على الأرض.
هؤلاء الأشقياء جهلوا أو تجاهلوا أن النبوات التي دوّنها الأنبياء في أسفار الكتاب المقدس عن مجيء السيد المسيح لخلاص البشرية، هي حلقاتٌ مسلسلة متينة لا تنفصم وإنها تمت بحذافيرها بالمسيح يسوع المولود من العذراء مريم في الزمن الذي عيّنه جبرائيل رئيس الملائكة للنبي دانيال، وفي المكان الذي ذكره ميخا النبي، وإنه نسل المرأة، ونسل إبراهيم، وابن داود بالجسد، وقد أتم الفداء وصعد إلى السماء وسيأتي لدينونة العالمين.
وفي احتفالنا بعيد ميلاده المقدس بالجسد، يهمنا أن تكون علاقتنا به علاقة مصالحة، بل محبة، فنشعر بوجوده بيننا لأنه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا ونؤمن بأنه فادينا فهو يسوع الذي تفسيره المخلص.
ونقبله مسيحاً مشتهى جميع الأمم، الذي انتظرته الشعوب فجاء مولوداً من عذراء، فلنقدم التهاني للذين انتظروا مجيئه وآمنوا به ونالوا الخلاص. ولنعيدعيد ميلاده ببهجة وسرور آمين.
تجسد الإله الكلمة في ملء الزمان (8)†
قال الرسول بولس: «ولكن لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة، مولوداً تحت الناموس. ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني»
(غل4: 4و5)
الزمان الذي هو مدة الدنيا كلها، هو في آية موضوعنا الأزل والأبد، هو البداية والنهاية. ويريد الرسول بولس أن يوضح بعبارة ملء الزمان، أن عقيدة تجسد الإله الكلمة، هي في المفهوم المسيحي، مركز الدائرة لكل الحوادث الدينية الخطيرة، التي جرت وستجري في العالم على مر الدهور والأجيال.
ففي البدء خلق الله السموات والأرض(تك1: 1) وخلق الإنسان من تراب الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار آدم نفساً حيةً، (تك2: 7). وخلقه على صورته كشبهه(تك1: 26) في حال برٍّ وقداسة. ووهبه عقلاً راجحاً، وضميراً نيِّراً ليميز الخير من الشر وليتبع الخير ويتجنب الشر كما منحه إرادةً حرةً تقررمصيره الأبدي.
وقد أحب الله هذا المخلوق الناطق، أكثر من كل مخلوقاته. وبقيت محبته له ثابتةً لم تتزعزع، ولم تنقص، حتى بعد أن تمرغ الإنسان في الخطية وتمرد على الأوامر الإلهية، وعاقبه الله إذ حكم عليه بالموت. فكانت محبة الله للإنسان أقوى من الموت. وبهذا الصدد يقول الرب يسوع: «لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية»(يو3: 16).
وشاء الله أن ينتشل الإنسان من وهدة الخطية، ويخلصه من بين براثن إبليس عدوه اللدود، وينقذه من فم الموت الأبدي، بطريقة عجيبة غريبة، لا تدركها عقولنا البشرية، تماماً كعدم إدراك هذه العقول سائر الحقائق الإلهية التي أوحتها لنا السماء، وأمرتنا أن نسلم بها، ونؤمن ونعتقد بصحتها، لأنها جاءتنا من الله تعالى الذي أوحاها إلى أنبيائه الصادقين الصالحين.
وهذه الطريقة العجيبة هي التدبير الإلهي السامي في إرسال اللّه ابنه الوحيد إلى العالم في ملئ الزمان مولوداً من إمرأة مولوداً تحت الناموس، ليفتدي الذين تحت الناموس، لننال التبني(غل4: 4و5) على حد تعبير الرسول بولس، الذي يقول أيضاً بهذا الصدد: «وبالإجماع عظيم هو سر التقوى، الله ظهر في الجسد»(1تي3: 16) ويصف الرسول يوحنا ذلك بإنجيله المقدس قائلاً: «في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله… والكلمة صار جسداً وحل فينا، ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً»(يو1: 1 و14).
شكراً لله على نعمته التي أسبغها علينا فقد كشف النقاب عن سر التجسد العجيب، لأنبياء العهد القديم، فدونت في الكتاب المقدس النبوات الصريحة والإشارات والرموز الواضحة، قبل موعد التجسد الإلهي بمئات السنين. معلنةً أن ابن الله الوحيد المولود من الآب قبل كل الدهور، والذي لا يحده مكان أو زمان، «ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل»(ميخا5: 2) سيتجسد من عذراء، في الزمان الذي حددته العناية الربانية، والمشيئة الإلهية، والمكان الذي اختارته السماء، الأمر الذي أعلنه رئيس الملائكة جبرائيل، قبل موعد حدوثه بخمسمائة سنة قائلاً للنبي دانيال: «سبعون أسبوعاً قُضيت على شعبك، وعلى مدينتك المقدسة، لتكميل المعصية وتتميم الخطايا، ولكفارة الإثم، وليؤتى بالبر الأبدي، ولختم الرؤيا والنبوة، ولمسح قدوس القديسين»(دا 9: 24).
وبعد خمسمائة سنة تقريباً، انحدر الملاك جبرائيل من السماء، مرسلاً من الله إلى مدينة من الجليل اسمها ناصرة، إلى عذراء مخطوبة لرجلٍ من بيت داود اسمه يوسف، واسم العذراء مريم. «فدخل إليها الملاك وقال سلام لك أيتها الممتلئة نعمةً، الرب معك مباركة أنت في النساء… لا تخافي يا مريم لأنك قد وجدت نعمةً عند الله. وها أنت ستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع هذا يكون عظيماً وابن العلي يدعى، ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية»(لو1: 26ــ33).
ففي ملء الزمان، الوقت الذي عينه الله تعالى منذ الأزل، موعداً لتجسد ابنه الوحيد لفداء البشرية، في ذلك الوقت تمت نبوة دانيال بحذافيرها، فقد كانت المعصية قد كملت والإثم قد تم. وغدت حاجة العالم ماسةً إلى ظهور المخلص، المسيح الموعود به منذ البدء، والذي انتظرته الشعوب كافةً، لينقذها من شقائها، ويهب لها راحة الضمير، والطمأنينة الروحية، فقد عجزت عن ذلك الديانات اليهودية والوثنية بكل فرقها كما لم تتمكن النظريات الفلسفية والاجتماعية توفير السعادة الروحية للإنسان، «إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله»(رو3: 23) بل أعوزهم رب المجد.
وهيّأ الله أن تعلن النبوات لشعوب العالم كافةً، فترجمت أسفار الكتاب المقدس، إلى اللغة اليونانية، لغة الثقافة في أغلب أقطار العالم المعروف عصرئذ، وذلك بأمر بطليموس في الإسكندرية قبل الميلاد بنحو قرنين من الزمان. فاطلع العالم الوثني على تلك النبوات، وشارك شعب النظام القديم بانتظار المسيح المخلص.
أجل، إن الله وراء حوادث التاريخ، وشاء تعالى أن يحكم الرومان الأرض المقدسة في تلك الأيام، وأن يصدر أمرٌ من أوغسطوس قيصر لتُكتَتَب كل المسكونة، ويعني بالمسكونة الأقطار التي كانت خاضعة للإمبراطورية الرومانية، وكانت غاية أوغسطوس قيصر من ذلك الاكتتاب الافتخار بامتداد أرجاء مستعمراته، وتسهيل أمر جباية الضرائب من الخاضعين لمملكته. أما قصد الله تعالى من وراء هذا الاكتتاب، فكان إعلان تجسد ابنه الوحيد للأجيال اللاحقة، لتثبيت حقيقة التجسد الإلهي، ومجيء المسيح المنتظر. لذلك شاء الله تعالى أن يجري الاكتتاب بأمر السلطة الرومانية بموجب التقليد اليهودي وهو أن يقصد كل إنسان بلدة آبائه، ليسجل اسمه في سجلات المملكة في تلك البلدة، وبذلك تثبت صحة نسبه إلى عشيرته وسلالة آبائه ليكون اليهود بلا عذرِ في إنكارهم المسيح، فقد جاء المسيح الموعود به من نسل داود، واعتبر كذلك إذ كانت العذراء مريم وخطيبها يوسف من نسل داود وكانا يسكنان مدينة الناصرة، ولكي يسجلا اسميهما في سجلات المملكة طبقاً لأوامر أوغسطوس قيصر جاءا إلى بيت لحم، مدينة داود وكانت العذراء مريم حبلى، وبينما كانا هناك تمت أيامها لتلد (لو2: 1ــ5) ولم يكن لهما منزل في الموضع، ولا موضع في المنزل، فالتجأا إلى مغارةٍ بسيطة… وولدت العذراء ابنها البكر، يسوع «المخلص».. وسجل اسمه في سجلات المملكة. واختتن في اليوم الثامن بحسب ناموس موسى. فقد ولد من امرأة، وُلد تحت الناموس وأتم الناموس، ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني.
وتمت بذلك نبوة إشعيا القائل: «ولكن يعطيكم السيد نفسه آيةً، ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل»(إش6: 14) «الذي تفسيره الله معنا»(مت1: 23) كما تمت نبوة ميخا القائل: «أما أنت يا بيت لحم أفراثة وأنت صغيرةٌ أن تكوني بين ألوف يهوذا فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطاً على إسرائيل، ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل» (ميخا5: 2).
أجل تجسد الإله الكلمة من الروح القدس ومن مريم العذراء، وولد في ملء الزمان في بيت لحم أفراثة طبقاً للنبوات، وسُجِّل اسمه في سجلات المملكة كسائر المواطنين هناك. وهكذا دخل التاريخ البشري، في ملء الزمان، بل صار زمان ميلاده تاريخ التواريخ فقسم تاريخ العالم إلى قسمين: ما قبل الميلاد وما بعد الميلاد. أما هو فكما يصفه الكتاب المقدس بقوله «يسوع المسيح هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد»(عب13: 8). لا يتغير ولا يتبدل. وابتدأ بميلاده عهد النعمة والرحمة والحنان، عهد الحق والمساواة والمغفرة، والقداسة. وفدانا المخلص ووهبنا فيه نعم التبرير والتقديس والتبني.
ولد المسيح على الأرض، لنولد نحن للسماء.
ولد من الروح القدس ومريم العذراء، لنولد نحن من الروح القدس والنار.
صار ابن البشر لنصير نحن أولاد الله بالنعمة، كقول الرسول يوحنا الإنجيلي: «أما الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاداً لله أي المؤمنون باسمه، الذين ولدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد، ولا من مشيئة رجل، بل من الله» (يو1: 12و13) ويقول الرسول بولس بهذا الصدد: «ثم بما أنكم أبناءٌ أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخاً يا أبا الآب. إذاً لست بعد عبداً بل ابناً. وإن كنت ابناً فوارثٌ لله بالمسيح» (غل4: 6و7).
فكما سجل اسمه في سجلات المملكة على الأرض، في ملء الزمان، كذلك سُجِّلت أسماؤنا في سجلات ملكوته في السماء الذي سنرثه في نهاية الزمان. وقد بشرنا الرب بذلك بقوله لتلاميذه: «افرحوا بالحري، إن أسماءكم كتبت في السموات»(لو10: 20). فعلينا إذن أن نعيش على الأرض كأبناء السماء، كما يوصينا الرسول بولس قائلاً: «فإن سيرتنا نحن هي في السموات التي منها أيضاً ننتظر مخلصاً هو الرب يسوع المسيح الذي سيغيِّر شكل جسد تواضعنا، ليكون على صورة جسد مجده، بحسب عمل استطاعته، أن يخضع لنفسه كل شيء» (في3: 20و21).
ففي ملء الزمان جاء الإله الكلمة إلى أرضنا متجسداً، فأخذ صورتنا بل كل ما لنا ما عدا الخطية، وفدانا، ووهب لنا صورته التي فقدناها بالخطية، إذ برّرنا وقدّسنا، وجعلنا أولاداً لله وورثةً لملكوته السماوي.
وفي نهاية الدهر سيأتي ثانية، ليأخذنا إليه. فرسالة عيد الميلاد اليوم هي أن نُولد من فوق، ونحيا للسماء، وننتظر مخلصنا عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا، لنكون نحن أيضاً معه، في سماء مجده. وبذلك نكون قد أتممنا الغاية من تجسده الإلهي، وهي العودة إلى السماء، وإعادة الشركة مع أبيه السماوي، حيث نضيء مع الأبرار كالشمس(مت13: 43) ونشارك الملائكة بتمجيده قائلين: «المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة» وكل عام وأنتم بخير.
ميلاد المخلص (9)†
«فقال لهم لا تخافوا، فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب، أنه وُلد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب»
(لو2: 10ـ11)
قبل عشرين قرناً، احتفلت السماء والأرض بميلاد المسيح يسوع مخلص العالم، الذي حررنا من عبودية إبليس وأعتقنا من نير الخطية، ونصرنا على الموت، وبررنا، وقدّسنا، فصرنا أولاداً لأبيه السماوي بالنعمة، وورثة لملكوت الله.
وقبل الميلاد بعشرين قرناً، كان الله قد قطع عهداً لإبراهيم أبي الآباء قائلاً له: «ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض»(تك20: 18) ونسل إبراهيم هو المسيح المخلص. وهذا الوعد الإلهي هو امتداد لوعد الله للإنسان منذ ابتداء الخليقة، أن يسحق نسل المرأة رأس الحية أي إبليس عدو البشرية. وإن نسل المرأة هو المسيح المخلص الذي من عذراء لم يمسسها بشر فهو ليس من زرع رجل كما أوضح ذلك الوحي الإلهي على لسان النبي إشعيا في القرن الثامن قبل الميلاد قائلاً: «ولكن يعطيكم السيد نفسه آيةً. ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل»(إش7: 14)، «الذي تفسيره الله معنا»(مت1: 23). وقبل الميلاد بخمسة قرون، حدد الوحي الإلهي للنبي دانيال موعد إتمام الوعد بمجيء المسيح الذي دعاه قدّوس القديسين وذلك بالنبوة المعروفة بالأسابيع السبعين(دا9: 24) أجل إن هذه النبوات الصادقة، وأمثالها مما لا يُحصى لها عدد، إنما أوحاها الله إلى الآباء والأنبياء، لتتضح في ذهن الإنسان، الصورة الحقيقية للمخلص والشروط التي يجب أن تتوفر فيه، ليوفق بين عدل الله ورحمته، في التكفير عن خطية الإنسان غير المتناهية، التي اقترفها ضد الله اللامتناهي. لذلك شاء الله تعالى أن يرسل ابنه الوحيد إلى العالم ليخلص العالم فيتجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء، على حد قول الرسول بولس: «ولكن لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأةٍ مولوداً تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني»(غل4: 4ــ5).
طوبى لتلك المرأة العذراء مريم التي اختارها الله لتكون أماً لابنه الوحيد مخلص العالم لنقاء سيرتها، وصفاء سريرتها، وتواضعها، ووداعتها، وهي سليلة الملوك والكهنة والأنبياء. طوباها فقد تنبأت عن نفسها أن الأجيال تعطيها الطوبى، لأن القدير صنع بها عظائم واسمه قدوس ورحمته إلى جيل الأجيال للذين يتقونه. طوباها فقد ولدت في مثل هذا اليوم الإله المتجسد وحق لها أن تدعى والدة الإله، وأم الله.
أجل، شاء الله منذ البدء، أن يولد المخلص في بيت لحم أفراثا. لذلك سخّر تعالى أوغسطس قيصر ليصدر أمراً لإحصاء الشعوب الخاضعة لسلطة الدولة الرومانية، وأن يجري اكتتاب شعب العهد القديم حسب تقليد ذلك الشعب، وهو أن يذهب كل شخص منهم ذكراً كان أو أنثى إلى مدينة آبائه ويسجل اسمه هناك في سجلات المملكة وبهذا الصدد يقول البشير لوقا في الإنجيل المقدس: «وصعد يوسف أيضاً من مدينة الناصرة إلى بيت لحم لكونه من بيت داود وعشيرته، مع مريم امرأته وهي حبلى، وبينما هما هناك تمت أيامها لتلد، فولدت ابنها البكر، وقمّطته وأضجعته في المذود إذ لم يكن لهما موضع في المنزل»(لو2: 6و7).
وسُجِّل اسم يسوع، الذي يعني المخلص، في سجلات المملكة في بيت لحم أفراثا، ليبقى للأجيال القادمة دليلاً ناصعاً، وبرهاناً قاطعاً، على أنه مسيح الأنبياء الذي انتظرته الأجيال السابقة وقد جاء من نسل داود، وولد في ملء الزمان في بيت لحم أفراثا قبل الميلاد وتمت بذلك أيضاً نبوة ميخا الذي عاش في القرن الثامن قبل الميلاد وتنبّأ قائلاً: «أما أنت يا بيت لحم أفراثا وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا فمنك يخرج الذي يكون متسلطاً على إسرائيل ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل»(ميخا5: 2).
يسجل لنا لوقا في الإنجيل المقدس حوادث الميلاد في تلك الليلة المباركة بتسلسل منطقي وينقلنا من المغارة إلى ضواحي بيت لحم، ليرينا مشهداً مهماً لرعاة بسطاء كانوا ساهرين على حراسة أغنامهم حراسات الليل، ويذكر لوقا أن: «مجد الرب أضاء حولهم، فخافوا خوفاً عظيماً فقال لهم الملاك لا تخافوا فها أنا أبشركم بفرحٍ عظيم يكون لجميع الشعب أنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب وهذه لكم العلامة تجدون طفلاً مقمطاً مضجعاً في مذود وظهر بغتة مع الملاك جمهور من الجند السماوي مسبحين الله وقائلين المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة»(لو2: 8 ـ14).
ما أسعد هؤلاء الرعاة الذين قيل أنهم كانوا يرعون الخراف التي تقدم ذبائح ومحرقات في الهيكل، وقد أنعم الله عليهم في تلك الليلة فاستحقوا أن يكونوا أول الذين بُشِّروا بولادة «حمل الله الذي يرفع خطايا العالم»(يو1: 29) الذي قُدِّم بعدئذ ذبيحة كفارية عن العالم أجمع، وأبطل الذبائح الحيوانية. ما أسعد أولئك الرعاة البسطاء الذين استحقوا أيضاً أن يسمعوا أبدع قصيدة نظمتها السماء، وانشدها جند السماء، بمناسبة ميلاد الفادي فعبّروا بذلك عن معاني هذا الحدث الفريد العجيب، والذي لم يسبقه مثيل، ولن يكون له شبيه، إلى الأبد، قائلين: «المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة»(لو2: 14).
ما أسعد الرعاة الذين أطاعوا تعليمات الملاك وقصدوا المغارة حيث ولد المخلص وشاهدوا الطفل المولود، المضجع في مذود، وتباركوا منه، ورجعوا يحدثون الناس بكل ما رأوا وسمعوا.
أجل، لقد خلق الإنسان ليمجد الله، وكان بسلام معه تعالى يوم كان في حالة البر والقداسة ولكن ذلك السلام انقلب إلى خصام، عندما حاد الإنسان عن جادة الحق، وتبع غواية إبليس فابتعد عن الله، واستُعبد لإبليس، فزالت عنه المسرة وهيمنت عليه الكآبة.
وفي ميلاد «المخلص، المسيح الرب» وفي إتمامه بعدئذ عمل الفداء، بسفك دمه الثمين زال عهد الخصام، ونقض الجدار، جدار العداوة الفاصل بين الله والإنسان، وأقيم الصلح واستتب السلام، فعاد الأتقياء إلى تمجيد الله بالفكر والقول والعمل… وامتلأت قلوبهم فرحاً روحياً لا ينزعه أحد منهم مهما كانت ظروف الحياة قاسية عليهم.
واليوم ونحن نحتفل بهذه الذكرى السعيدة، ذكرى ميلاد المخلص الإلهي، علينا أن نقتدي بالرعاة البسطاء، ونذهب بالروح إلى مغارة بيت لحم أفراثا، لنشاهد المولود القدوس، المخلص الذي هو المسيح الرب، والذي إنما ولد في مغارة بسيطة لأنه لم يكن لأمه مريم العذراء وخطيبها مكان في المنزل، فلنهيّئ له قلوبنا منازل يولد فيها ويملك عليها.
لقد جاء ليتغمد خطايانا «ودعي اسمه يسوع لأنه يخلِّص شعبه من خطاياهم»(مت1: 21) جاء ليخلص ما قد هلك (مت18: 11) وقال بعدئذ: «لأني لم آتِ لأدعو أبراراً بل خطاةً إلى التوبة»(مت: 13) وإذ وجد أن الديانة اليهودية وقد حوَّلها أتباعها إلى طقوس بالية، وعبادة ظاهرية خالية من العزاء ولم يكن قد بقي لها سوى صورة التقوى دون قوتها، وقد تمسك مُشرِّعوها بالحرف تاركين الروح، والحرف يقتل، وقد أثقلوا على المؤمنين الأحمال الشاقة يرزحون تحت وطأتها فييأسون من رحمة الله، ويهلكون فوبّخهم المخلص بقوله: «ويل لكم أيها الناموسيون لأنكم تُحمِّلون الناس أحمالاً عسيرة الحمل وأنتم لا تمسون الأحمال بإحدى أصابعكم»(لو11: 46). لذلك فهو ينادينا وينادي كل من استيقظ ضميره، واعترف بأنه خاطئ قائلاً: «تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم، احملوا نيري عليكم وتعلموا مني لأني وديعٌ ومتواضع القلب فتجدوا راحةً لأنفسكم لأن نيري هيّن وحملي خفيف» (مت11: 28).
فلنلبِّ نداءه، أيها المؤمنون، ولنعد إلى بيت الآب السماوي تائبين، كعودة الابن الضال إلى بيت أبيه، فالآب بانتظارنا وسيفرح لعودتنا وسيلبسنا الحلة الجديدة والخاتم الثمين، ويذبح لنا الكبش المسمّن محتفياً بعودتنا إليه، لأننا كنّا أمواتاً فعشنا، وكنا ضالين فوجدنا، وستفرح أيضاً بعودتنا إليه ملائكة السماء الذين قال الرب عنهم إنهم يفرحون بخاطئٍ واحد يتوب، وبهذا تتم الغاية القصوى من التجسد الإلهي، وميلاد المخلص، في مثل هذا اليوم المبارك. أعاد الله عليكم أعياده باليمن والبركة آمين.
ميلاد المحبة (10)†
«لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية. لأنه لم يرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم بل ليخلص به العالم»
(يو3: 16و17)
آيات كريمة هي خلاصة الإنجيل المقدس، وزبدة عقائد الديانة المسيحية السمحة، في التأمل بها ندرك أن محبة الله تعالى للبشر لا حدود لها، فهي تشمل شعوب العالم قاطبة، كما تشمل كل فرد من البشر. والله تعالى هو القداسة والبر. ويبغض الخطية والإثم، ولكنه يحب الخاطئ، ويريده أن يترك طريقه الملتوية ويعود إليه تعالى تائباً فيحيا.
أجل لقد بلغت محبة الله للإنسان درجة سامقة بحيث أنه أرسل ابنه الوحيد إلى العالم ليخلص العالم. ويقول الرسول بولس بهذا الصدد: «ولكن لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة مولوداً تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني»(غل4: 4).
فمنذ عشرين قرناً، ولد المخلص المسيح يسوع، مشتهى الأمم والأجيال، في مغارة بسيطة يأوي إليها الرعاة في بيت لحم أفراثا. فلفته بأقمطة، أمه العذراء مريم، الفتاة الفقيرة اليتيمة والوديعة المتواضعة، وأضجعته في مذود، وجلست تتأمله وقد استولت عليها الدهشة وأخذ منها العجب كل مأخذ، فهي لا تفقه أمر هذا الطفل العجيب، ولئن حملته بأحشائها تسعة أشهر، وها هي اليوم تضمه إلى صدرها بحنان الوالدة الرؤوم، وترضعه لبنها الطاهر النقي. ولكن الذكرى السعيدة تعود بها إلى اليوم الذي بشّرها فيه الملاك جبرائيل في بلدة الناصرة قبل تسعة أشهر، وصدى صوته ما يزال يرن في أذنيها وهو يقول لها: «لا تخافي يا مريم لأنك وجدت نعمة عند الله وها أنت ستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع هذا يكون عظيماً وابن العلي يدعى ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية»(لو1: 30ــ33).
أما يوسف رجلها، فهو الآخر يتذكر يوم ساورته الشكوك في طهرها وإخلاصها إذ وجدها حبلى، وهمّ بتخليتها سراً، ولكن ملاك الرب ظهر له في حلم قائلاً: «يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك لأن الذي حُبِل به فيها هو من الروح القدس فستلد ابناً وتدعو اسمه يسوع لأنه يخلص شعبه من خطاياهم»(مت1: 20و21).
ولم تمضِ ساعات على وضع مريم طفلها القدوس حتى دخل المغارة رعاة يسألون عن «المخلص الذي هو المسيح الرب»(لو2: 11) ولما رأوا الطفل أخبروا العذراء ومن كان معها عن الملاك الذي وقف بهم وهم يحرسون أغنامهم حراسات الليل، وكيف أن مجد الرب أضاء حولهم، وأنهم خافوا خوفاً عظيماً، فقال لهم الملاك: «لا تخافوا فها أنا أبشركم بفرحٍ عظيم يكون لجميع الشعب أنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب. وهذه لكم العلامة تجدون طفلاً مقمطاً مضجعاً في مذود. وظهر بغتة مع الملاك جمهور من الجند السماوي مسبحين الله وقائلين المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة»(لو2: 8 ــ14).
لا غرو ولا غرابة من أن ترافق ميلاد هذا الطفل العجيب آيات من السماء، فهو ابن السماء المولود من الآب قبل كل الدهور، وهو كلمة الله الذي قال عنه الإنجيلي يوحنا: «في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله… والكلمة صار جسداً وحل فينا ورأينا مجده مجداً كما لوحيدٍ من الآب مملوءاً نعمةً وحقاً»(يو1: 1 و14) فإذا كان الوحي الإلهي قد نزل على الإنسان في العهد القديم بطرق متنوعة، برؤى وأحلام، أو فماً لفم، فقد خاطبنا الله، في ملء الزمان، بكلمته الذي تجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء «آخذاً صورة عبدٍ صائراً في شبه الناس»(في2: 6و7). على حد قول الرسول بولس. ويوم ميلاده بالجسد هبطت الملائكة من السماء إلى الأرض وابتهجت الأرض إذ تحققت مواعيد السماء، والعهود التي قطعها الله في القديم مع البشر. كما تمت النبوات الصادقة التي فاه بها أنبياء العهد القديم قبل الميلاد بقرون عديدة: فها قد جاء المخلص مولود المرأة ليسحق رأس الحية الدهرية إبليس عدو البشرية. وولد من عذراء طاهرة دون زرع رجلٍ إتماماً لنبوة إشعيا النبي، وولد في بيت لحم أفراثا كما تنبّأ النبي ميخا، وولد في الموعد الذي حدده الملاك جبرائيل للنبي دانيال قبل الميلاد بخمسة قرون. وليس هذا فقط بل أيضاً جاء نوراً للعالم لينير دياجير الظلام. فهو شمس البر والشفاء في أجنحتها، كما دعاه النبي ملاخي(4: 2).
وشاءت إرادة الله أن يسجل اسم مولود بيت لحم القدوس في سجلات المملكة الرومانية لتتأكد الشعوب الوثنية أيضاً من أن مخلص العالم قد جاء. كما أن نجماً قد ظهر في المشرق وقاد حكماء فارس آتياً بهم إلى بيت لحم ليسجدوا للطفل المولود الذي سموه ملك اليهود، وقدموا له هداياهم ذهباً ولباناً ومرّاً، معترفين به ملكاً وإلهاً ومتنبئين عن موته الكفاري لخلاص البشرية. ولهذا قال الملاك ليوسف عن العذراء مريم إنها «ستلد ابناً وتدعو اسمه يسوع، لأنه يخلص شعبه من خطاياهم» (مت1: 21) فالغاية الفضلى من تجسد الرب هي إذن خلاص البشرية. وهذا ما نفهمه من حديث الرب يسوع مع نيقوديموس إذ قال له: «لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية، لأنه لم يرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم بل ليخلص به العالم» (يو3: 16و17).
فما أسمى المحبة الإلهية للإنسان، المحبة التي تأملها الرسول يوحنا فتجرّأ على التفوه بالآية المشهورة القائلة: «الله محبة»(1يو4: 8).
لقد تبينت محبة الله للإنسان منذ بدء الخليقة، إذ خلق الله الإنسان على صورته كشبهه(تك1: 27) ومنحه عقلاً ثاقباً وضميراً نيّراً وبهذا تمكن الإنسان من أن يميز الخير من الشر والحق من الباطل كما منحه تعالى أيضاً قوة الإبداع والخلق والصفات الأدبية السامية، وحرية الإرادة. وإن العامل المشترك بين الله الخالق والإنسان المخلوق، هو الروح الخالدة التي نفخها تعالى نسمة حياة في أنف الإنسان يوم خلقه من تراب الأرض فصار آدم نفساً حيةً كما يقول الكتاب(تك2: 7) ولكن الإنسان لا يقوم بذاته وإنما يقوم بالله الذي خلقه، ويدبره، ويعتني به ويرعاه. وإن صلة المحبة هي التي تربط الإنسان بالله. وإن وشائج المحبة الإلهية هذه قد تجلت في تجسد الإله الكلمة، الأمر الذي يلخصه الرسول يوحنا بقوله: «بهذا أظهرت محبة الله فينا أن الله قد أرسل ابنه الوحيد إلى العالم لكي نحيا به، في هذا هي المحبة ليس إننا نحن أحببنا الله بل إنه هو أحبنا أولاً»(1يو4: 9و10) ولكنه يريدنا أيضاً أن نبادله هذه المحبة الخالصة. ولذلك جاءت وصيته الإلهية في أسفار العهدين قائلة: «تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل فكرك. وتحب قريبك كنفسك»(مت22: 37و39).
لقد تجسدت محبة الله في المسيح يسوع مخلص العالم المعصوم من الخطأ، والذي لم يكن في فمه غش، وقد تحدى أعداءه، كما أعلن لأصدقائه وأتباعه قائلاً: من منكم يبكتني على خطية، فحق له أن يصير الوسيط بين الله والناس وقد بررنا وطهرنا وقدسنا بل أعاد إلينا أيضاً رتبة البنين حيث قد صالحنا مع أبيه السماوي فصرنا أبناء الله بالنعمة وشركاء المسيح في ميراثه الأبدي. وبهذا الصدد يقول الإنجيلي يوحنا: «أما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاداً لله أي المؤمنون باسمه، الذين ولدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله»(يو 1: 12 و 13). فلنسلك في هذا العالم كأبناء الله بالسيرة النقية والسريرة الطاهرة لنستحق أن نرث السماء مع ابن السماء المسيح يسوع ربنا.
ورسالة عيد الميلاد المجيد هي رسالة المحبة، المحبة التي أعلنها السيد المسيح في ميلاده وخلال سائر تدابيره الإلهية في الجسد، بأقواله وأمثاله ومثاله، فعلمنا محبة الله والقريب وحتى محبة الأعداء.
أجل تعد المحبة الينبوع الثر لفضيلة الرحمة التي فضلها الله حتى على الذبائح بقوله تعالى: «أريد رحمة لا ذبيحة»(هو 6: 6 ومت 9: 13 و 12: 7) وأفعال الرحمة هي القانون الذي بموجبه يحاكم الله البشر في يوم الدينونة الرهيب.
واليوم ونحن نحتفل بعيد ميلاد السيد المسيح عيد المحبة والرحمة، لتنعكس رحمة الله على أفكارنا وأقوالنا وأفعالنا، وعلينا ألا ننسى أن المسيح يسوع مخلص العالم قد اختار له أماً فقيرة يتيمة وولد كفقير معوز وهو مغني كثيرين كقول الرسول بولس: «فإنكم تعرفون نعمة ربنا يسوع المسيح أنه من أجلكم افتقر وهو غني لكي تستغنوا أنتم بفقره»(2كو 8: 9) وقد أحب الفقراء والمحتاجين والمعوزين ودعاهم إخوته الصغار، وبحسب تعاليمه الإلهية أن ما نصنعه مع الفقراء من أعمال الرحمة مادياً ومعنوياً وروحياً يعتبر كأنما صنعناه مع المسيح المخلص بالذات، فلتتجلَّ فضيلة الرحمة بما نقدمه من الصدقات لهؤلاء الفقراء وبهذا نشارك الرعاة والمجوس بتقديم الهدايا بسخاء وكرم وفرح وابتهاج لمولود بيت لحم القدوس، كل على قدر ما أعطاه الرب من خيرات، لننال بركة الرب ونعمته دائماً أبداً.
وكل عام وأنتم بخير
مجدٌ وسلامٌ ومسرّة (11)†
«المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرّة »(لو 2: 14)
قبل عشرين قرناً، في الليلة التي ولد فيها المسيح يسوع مخلّص العلم، ابتهجت السماء وتهللت، ابتهاج الصادق الوفي، وهو يبرّ بوعده، وتهلل الكريم السخي، وهو يبذل العطاء للفقراء. ووقف ملاك الرب برعاة بسطاء كانوا في ضواحي بيت لحم يحرسون حراسات الليل على رعيتهم، فأضاء مجد الرب حولهم وخافوا خوفاً عظيماً، فهدّأ الملاك روعهم بقوله لهم: «لا تخافوا فها أنا أبشركم بفرحٍ عظيم يكون لجميع الشعب أنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلصٌ هو المسيح الرب وهذه لكم العلامة تجدون طفلاً مقمطاً مضجعاً في مذود وظهر بغتة مع الملاك جمهورٌ من الجند السماوي مسبحين الله وقائلين: «المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرّة» (لو 2: 10 ـ 14).
ما أسعد أولئك الرعاة الطيبين الذين نالوا حظوة عند الرب فقد اختارهم تعالى دون سائر الناس ليكونوا أول من يبشرون بميلاد الفادي، ويسمعون القصيدة اليتيمة الفريدة التي نظمتها السماء ولحنتها، وأنشدتها الملائكة معلنة بذلك بهجتها بميلاد السيد المسيح الذي هو ميلاد السلام، وبدء العمل بميثاق المصالحة بين السماء والأرض، وفتح باب الملكوت أمام المحررين من الخطية، والمبرّرين والمقدّسين بالمولود الإله. لذلك امتلأت القلوب فرحاً «لأن ملكوت الله ليس أكلاً وشرباً بل هو سلامٌ وفرحٌ في الروح القدس»(رو 14: 11) على حد قول الرسول بولس.
«ولما مضت عنهم الملائكة إلى السماء قال الرجال الرعاة بعضهم لبعض لنذهب الآن إلى بيت لحم وننظر هذا الأمر الواقع الذي أعلمنا به الرب. فجاءوا مسرعين ووجدوا مريم ويوسف والطفل مضجعاً في مذود، فلما رأوه أخبروا بالكلام الذي قيل لهم عن الصبي. وكل الذين سمعوا تعجبوا مما قيل لهم من الرعاة، وأما مريم فكانت تحفظ جميع هذا الكلام متفكرةً به في قلبها، ثم رجع الرعاة وهم يمجدون الله ويسبحونه على كل ما سمعوه ورأوه كما قيل لهم»(لو 2: 13 ـ 20).
«رجع الرعاة وهم يمجدون الله ويسبحونه» فقد استحقوا أن يروا الطفل المقمّط المضجع في مذود وأن يكونوا أول من يبشر به، فحدثوا مريم وخطيبها عن ظهور الملائكة، وواصلوا تسبيح الله بتكرار تسبيحة الملائكة له، «المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرّة». فالملائكة سبحت الله ومجدته يوم خلق الأكوان من العدم، ويوم خلق الإنسان على صورته كمثاله، وتمجده دائماً على قدرته ورحمته ومحبته وعنايته بمخلوقاته، ولكنها مجدته خاصة يوم ميلاده بالجسد، لأن تجسد كلمة الله يعد أكثر عجباً من خلقة الأكوان من العدم هذا السر العجيب الذي لخصه الرسول بولس بقوله: وبالإجماع عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد»(1تي 3: 16) حيث أن عقولنا لا تقوى على إدراك سر التجسد، لذلك أرسل الله تعالى الأنبياء قبل الميلاد بمئات السنين ليبلغوا رسالته الإلهية للبشر ويهيئوا عقولهم لتتقبل حقيقة عقيدة التجسد. فتنبأوا عن مجيء الفادي، وتمت فيه نبواتهم بحذافيرها. وبهذا الصدد يقول الرسول بولس: «الله بعدما كلّم الآباء قديماً بأنواع وطرق كثيرة كلّمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثاً لكل شيء الذي به أيضاً عمل العالمين»(عب 1: 1 و 2).
فقد جاء في سفر التكوين عن وعد الله للبشر من أن نسل المرأة يسحق رأس الحية، والنبي اشعياء في القرن الثامن قبل الميلاد يصف هذه المرأة بأنها عذراء قائلاً: «ولكن يعطيكم السيد نفسه آية ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل»(اش 7: 14) وعندما يستشهد الإنجيلي متى بهذه النبوة يشرح كلمة عمانوئيل بقوله: «الذي تفسيره الله معنا» (مت 1: 23). ويقول الرسول بولس «ولكن لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة مولوداً تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني»(غل 4: 4) وملء الزمان، هو الزمان الذي عينه الله منذ البدء لإتمام سري التجسد والفداء الأمر الذي أعلنه الملاك جبرائيل للنبي دانيال قبل الميلاد بخمسمائة عام بنبوة الأسابيع السبعين.
أما موضع ميلاد الفادي فقد تنبأ عنه النبي ميخا في القرن الثامن ق.م بقوله: «أما أنت يا بيت لحم أفراته وأنت صغيرةٌ أن تكوني بين ألوف يهوذا فمنك يخرج الذي يكون متسلطاً على اسرائيل، ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل»(مي 5: 2). والنبي ميخا بنبوته هذه يعلن بأن مولود بيت لحم هو أزلي، وهذا ما أوضحه الإنجيلي يوحنا بقوله: «في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله. هذا كان في البدء عند الله. كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان… والكلمة صار جسداً وحلّ فينا ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمةً وحقاًَ»(يو 1: 1 ـ 3 و 14).
ويكشف النبي اشعياء النقاب عن سر رسالة السيد المسيح مولود بيت لحم فيقول: «لأنه يولد لنا ولد، ونعطى ابناً وتكون الرئاسة على كتفه ويدعى اسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام»(اش 9: 2 و 6) فرسالة السيد المسيح هي رسالة السلام، فقد أرسى دعائم السلام الحقيقي بين الله والإنسان، وبين الإنسان وأخيه الإنسان، فهتفت الملائكة يوم ميلاده قائلة: «المجد لله في الأعلى وعلى الأرض السلام وبالناس المسرّة» وفي عظته على الجبل قال السيد المسيح: «طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون»(مت 5: 10) ولما ودّع تلاميذه قبل آلامه قال لهم: «سلام أترك لكم، سلامي أعطيكم، ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا. لا تضطرب قلوبكم ولا ترهب» (يو 14: 27). ولما ظهر لتلاميذه عشية يوم قيامته من بين الأموات، وهم مجتمعون في العلية والأبواب مغلقة خوفاً من اليهود، بادرهم بالسلام قائلاً: «سلام لكم»(يو 20: 19) ويوضح لنا الرسول بولس فحوى هذا السلام الذي هو ثمرة الإيمان بالمسيح قائلاً: فإذ قد تبرّرنا بالإيمان لنا سلامٌ مع الله بربنا يسوع المسيح»(رو 5: 1).
هذا هو السلام الداخلي، سلام الضمير، وهو انسجام إرادة الإنسان مع إرادة الله، والتحرّر من الآثام والعمل بشريعة الله. فهو هبة الله للمؤمنين الأتقياء الأنقياء، وينجلي هذا السلام في حياتهم في السرّاء والضرّاء، لأنهم يؤمنون أن مولود بيت لحم معهم يرافقهم في طريق الحياة، فقد دعي «عمانوئيل» الذي تفسيره الله معنا كما دعي «يسوع» لأنه يخلص شعبه من خطاياهم.
ليهبنا الرب نعمة السلام والمسرّة التي هي ثمرة السلام الروحي الداخلي، ليضع الرب في أفواهنا كلمات التسبيح كي ننشد له أناشيد الشكران مع الملائكة القديسين قائلين: «المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرّة».
هل في منزلك موضع ليسوع؟ (12)†
«فولدت ابنها البكر وقمّطته وأضجعته في المذود، إذ لم يكن لهما موضع في المنزل»
(لو 2: 7)
إنها العذراء مريم، الممتلئة نعمة، اختارها الله تعالى على نساء العالمين، فحل عليهاّ الروح القدس، وطهّرها وقدّسها، فاستحقت أن يحل فيها كلمة الله ويأخذ منها جسداً كاملاً. وقد وصف الرسول يوحنا ذلك بقوله: «في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله… والكلمة صار جسداً وحّل فينا ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من عند الآب مملوءاً نعمة وحقّاً» (يو 1: 1 و14).
ويعبر الرسول بولس عن هذا الأمر العجيب بقوله: «وبالإجماع عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد»(1تي 3: 16).
عجب عجاب كيف تحملت العذراء مريم جسامة معجزات التجسد الإلهي التي جرت لها وفيها ومعها وأمامها؟! وهي الفتاة البسيطة التي لم تكن قد بلغت الرابعة عشر من عمرها؟! فهي عذراء قبل الولادة، وفي الولادة، وبعد الولادة؟ وهي أم وفي الوقت ذاته ترضع ابنها الإلهي لبنها النقي وتقمطه وتضجعه في مذود، وقد ولدته في زريبة خان بيت لحم إذ لم يكن لهم موضع في المنزل! ويوم بشرها الملاك جبرائيل بالحبل الإلهي قال لها: «لا تخافي يا مريم لأنك وجدت نعمة عند الله وها أنت ستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع،… هذا يكون عظيماً وابن العلي يدعى ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية. فقالت مريم للملاك كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلاً. فأجاب الملاك وقال لها. الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك فلذلك أيضاً القدوس المولود منك يدعى ابن الله»(لو 1: 30 ـ 35).
فأين عظمة يسوع يا جبرائيل الملاك؟ وأين مملكته؟ وأين عرشه؟! أجل إن مملكته ليست من هذا العالم لذلك فلئن تجاهل وجوده كهنة الأرض وسلاطينها فقد مجدته السماء، وبشر الملاك الرعاة البسطاء بميلاده، بقوله لهم: «لا تخافوا فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب، أنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب وهذه لكم العلامة تجدون طفلا مقمطاً مضجعا في مذود. وظهر بغتة مع الملاك جمهور من الجند السماوي مسبحين الله وقائلين: المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة»(لو 2: 10 ـ 14).
ولما ذهب الرعاة مسرعين إلى حيث ولد الملك المسيح، وجدوه فإذا مملكته زريبة، وعرشه مذود، فسجدوا له، وعادوا يبشرون بميلاده فكانوا أول من بشر بالمسيح المخلص. أما رؤساء الكهنة والكتبة والفريسيون وغيرهم ممن كانوا مؤتمنين على حفظ النبوات، فلم يعرفوا زمن المولود ملك اليهود، ولما استفسر هيرودس الملك منهم عن مكان ميلاد المسيح، أخبره الكهنة ان النبي ميخا قد تنبأ بأن المسيح يولد في بيت لحم أفراثا، ولكنهم لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث عنه، فتم فيهم ما تنبأ به عنهم النبي اشعيا قبل الميلاد بثمانية قرون قائلاً: «انهم شعب لا يعرف ولا يفهم، وفضّل عليهم الثور الذي يعرف قانيه والحمار الذي يعرف معلف صاحبه»(اش 1: 2 ـ 5).
فلا عجب من أن نرى العذراء مريم وخطيبها إذ لم يجدا لهما موضعاً في المنزل، يلتجئان إلى زريبة الثور والحمار، ليولد المسيح هناك وتقمطه أمه وتضجعه في مذود… بميلاده تحول ذلك المذود إلى مكان مقدس وصار قبلة أنظار المسيحيين كافة، فإليه يأتي ملوك الأرض وعظماؤها ويخلعون تيجانهم ويحنون هاماتهم بل ويسجدون للذي ولد فيه. أجل كان المذود المكان اللائق ليوضع فيه الطفل يسوع المخلص الذي إنما نزل من السماء ليعلمنا التواضع، وليكون تواضعه الدواء الناجع لشفاء الإنسان من داء الكبرياء، وأطاع حتى الموت موت الصليب، ليزيل عار تمرد الإنسان على أوامر ربه في الفردوس «لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية»(يو 3: 16).
فالمذود هو المكان اللائق لمن جاء ليخدم لا ليُخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين، فبدأ تدبيره الإلهي بالجسد مضطجعاً في مذود بسيط ليكون الطرف الثاني من حياته صليب العار يحمله على كتفه أمام جمهور حاقد ينادي اصلبه اصلبه، ثم يعلق عليه، وليضطجع بعد موته بالجسد في قبر جديد لا يملكه… وهل كان يملك شيئاً من متاع الدنيا؟ وهو الذي لما سأله الكاتب قائلا له: يا معلم أتبعك أينما تمضي، فأجابه يسوع للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه»(مت 18: 19 ـ 20).
أجل إن المؤمن المتأمل في مجريات حوادث ميلاد الفادي يمجد الله تعالى على تدبيره الإلهي وتوصيله الحقائق الإلهية إلى أذهان البشر، فقد تمت بحذافيرها النبوات التي أعلنها على لسان أنبيائه الصادقين.
أجل! إن حكمة الله في تدبيره الأكوان لا يدركها عقل الإنسان، فقد كانت العذراء مريم في الناصرة في بيت خطيبها يوسف، حيث كان الملاك جبرائيل قد بشرها بالحبل الإلهي، وقربت أيام حملها من الانتهاء، وأوشكت أن تلد ابنها البكر، ولو خيرت لمكثت في دار خطيبها يوسف في الناصرة. ولكن الله سبحانه وتعالى كان قد رسم منذ البدء أن يولد المخلص في بيت لحم أفراثا، وأعلن الوحي الإلهي ذلك على لسان النبي ميخا في القرن الثامن ق.م (ميخا 5: 2). وان ميلاده في بيت لحم بلدة داود، يثبت انه من نسل داود. ولكي يسجل يسوع المسيح المخلص في سجلات المملكة الرومانية كبرهان قاطع على انه قد جاء حقاً بالجسد من نسل داود، سخرت الإرادة الربانية اوغسطس قيصر ليصدر أمراً بأن يكتتب كل المسكونة ويعني بالمسكونة الشعوب التي كانت خاضعة للدولة الرومانية. ورسم الله تعالى أن يكون أمر اوغسطس قيصر بأن يكتتب اليهود حسب تقليدهم أي أن يذهب كل إنسان إلى مدينة أجداده ويكتتب هناك لئلا تتبلبل الأنساب والأنسال.
أجل سيبقى الإنسان المؤمن متعجّباً منذهلا وهو يقرأ قصة ميلاد الفادي لبساطة عباراتها وسهولة أسلوبها بحيث يفهمها الأطفال جملة وتفصيلا وفي الوقت ذاته لا يقوى الفلاسفة العظام على سبر غور معانيها وإدراك أسرارها الإلهية. وهذا ما عناه الرب يسوع بصلاته إلى أبيه بقوله عن تدبيره الإلهي في الجسد: «أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال»(مت 11:25).
لقد أخفى الله أسراره عن الحكماء في أعين نفوسهم ليخزي حكمة هذا العالم، فلم يكن له موضع في دورهم، ولم يولد من إحدى بنات الأغنياء والعظماء والفلاسفة والعلماء بل ولد من الفتاة الفقيرة اليتيمة العذراء مريم، ولكنها كانت سليلة الملوك والكهنة والأنبياء، ولم يوضع في سرير صنع من الذهب أو العاج، ولم يلف جسده الطاهر بالحرير الناعم، بل قمط بكتان ووضع في مذود في زريبة الخان في بيت لحم البلدة المتواضعة، لكي يجده كل من يطلبه. انه جاء لكل البشر وخاصة للكادحين والمتعبين والمظلومين، وكأني به وهو طفل صغير مضجع في المذود قد بسط ذراعيه وهو يدعو الناس إليه كما دعاهم بعدئذ قائلاً: «تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم احملوا نيري عليكم وتعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم لأن نيري هيّن وحملي خفيف»(مت 11: 28 ـ 30).
هذه هي رسالته السماوية العملية، أن نتعلم منه الوداعة والتواضع لنزيح عن كواهلنا أثقال العجرفة والغرور والكبرياء، فنحصل على السلام مع الله ومع أنفسنا ومع الناس أجمعين. وأن نتعلم منه المحبة التي تتمثل بصليبه المقدس الذي يدعوه نيره الهيّن وحمله الخفيف، وقد أمرنا أن نحمله كل يوم، وأن نتبعه في طريق الجلجلة طريق الآلام، طريق التضحية ونكران الذات، فالمذود هو بدء الطريق إلى الصليب. والصليب هو المحبة، وله بعدان: الأول البعد العمودي الذي يتجه نحو السماء ليستمدّ المحبة من الله الذي أحبنا أولا لنحبه من كل قلبنا وكل فكرنا وكل إرادتنا. والبعد الثاني هو البعد الأفقي الذي يقاطع البعد العمودي، ويعكس محبتنا لله على كل البشر، فنعمل بوصية الله بمحبتهم والتضحية في سبيل تخفيف آلامهم، مقتدين بذلك بالسامري الصالح الذي أسعف الساقط بين اللصوص في المثل الذي ضربه الرب يسوع لنا ليعلمنا الرحمة التي هي ثمرة المحبة.
أجل إن رسالة عيد الميلاد هي رسالة المحبة، ويسوع الطفل الذي ولد في مثل هذا اليوم في زريبة وقمط وأضجع في مذود إذ لم يكن له موضع في المنزل نراه اليوم في ملايين الأطفال الذين لا مأوى لهم وهم مع أمهاتهم وآبائهم يتضوّرون جوعاً، ونحن نتنعّم بخيراتٍ كثيرة. وقد شابهنا الغني في مَثَل الغني ولعازر الذي ضربه الرب يسوع، فالغني لم يُعِر أهمية للعازر الفقير الملقى أمام باب داره وهو يموت جوعاً، فمات الاثنان وأُخِذَ الغني إلى جهنم أمّا لعازر فحملت الملائكة روحه إلى أحضان إبراهيم… فكل محتاج وكل فقير وكل يتيم معوز وأرملة مسكينة هم إخوة يسوع الصغار بل هم يمثلون الطفل يسوع الفقير الذي لم يكن له موضع في المنزل فأُضجِع في مذود في زريبة خان بيت لحم أفراثا. فهلاّ أخذنا بتعاليم الرب يسوع الذي سيدين البشر في اليوم الأخير على أساس ما قاموا به من أعمال الرحمة إلى جانب إيمانهم به. فهلاّ تُقنا إلى الوقوف عن جانبه الأيمن مع الذين سيسمعون صوته العذب قائلاً لهم: «تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم لأني جعت فأطعمتموني، عطشت فسقيتموني، كنت غريباً فآويتموني، عرياناً فكسوتموني، مريضاً فزرتموني، ومحبوساً فأتيتم إلي… الحق أقول لكم بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم»(مت25: 34ــ40).
واليوم ونحن نحتفل بعيد ميلاد الرب يسوع هل يا ترى أعددنا له موضعاً ليولد في قلوبنا؟. هل حدّثنا أولادنا عن ميلاده العجيب في الجسد؟ وعن أمه العذراء مريم الفقيرة اليتيمة سليلة الملوك والكهنة والأنبياء والقديسة العفيفة التي قالت عن نفسها «فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوّبني لأن القدير صنع بي عظائم..». هل حدّثناهم عنها كيف كانت تحفظ في قلبها كل الكلام الذي كانت تسمعه من السماء ومن أبناء الأرض؟ وتلهج في ناموس الرب ليل نهار؟ أم حوّلنا عيد الميلاد إلى أمور دنيوية لا تمت روحياً إلى العيد بصلة؟. هل حدثناهم عن محبة الله لنا وإرساله ابنه الوحيد لخلاصنا، واضطجاع الابن في مذود في زريبة ليعلمنا التواضع والوداعة.. لأنه لم يكن له موضع في المنزل؟ فهل له موضع في منازلنا وفي قلوبنا؟ أم أن قلوبنا مليئة بمحبة غيره… كما كانت قلوب الكتبة والفريسيين وكهنة اليهود الذين تجاهلوا النبوات واهتموا بالأمور الدنيوية؟…
هل يا ترى ونحن نحتفل بطقوسنا الدينية في هذه المناسبة السعيدة نشعر بأن المسيح معنا وبيننا يشاركنا فرحة العيد أم أننا غرباء عنه وهو بعيد عنا؟ فقد سمي عمانوئيل الذي تفسير الله معنا(مت 1: 21). فهل قبلناه مخلصاً لنا، وآمنا بسري التجسد والفداء؟ أم نقوم بطقوس أعياده كفروض روتينية، لها صورة التقوى ولكنها فقدت قوتها؟ وانقلبت لدينا العادات الروحية إلى عادات اجتماعية بحتة لا تمت إلى الروح بصلة، وقد انتهزنا فرصة عطلة العيد لنقضي أوقاتاً نتمتع بها بلذات جسدية غير مشروعة، بالسكر والعربدة والعهر والميسر؟ الأمور التي تبعد المسيح عنا وتبعدنا عن المسيح إذ لا يكون له موضع في منازلنا وقلوبنا بل لن يوجد معنا في تلك المناسبات. لأنها بعيدة عن روح التقوى ومخافة الله والوداعة والتواضع.
فلنهيّئ موضعاً للمسيح في منازلنا، وفي قلوبنا ونفوسنا، لنحيا لا نحن بل هو يحيا فينا(غل 2: 20). ولنقتدِ بالعذراء التي كانت تحفظ في قلبها ما سمعته من الملائكة والمجوس والرعاة وما رأته من المعجزات الباهرات وبشرت به، ولننصت جيداً إلى قول الرب يسوع وهو يجيب المرأة التي رفعت صوتها من الجمع وقالت له: «طوبى للبطن الذي حملك والثديين الذين رضعتهما. وأما هو فقال: بل طوبى للذين يسمعون كلام الله ويحفظونه»(لو 11: 27). فلنسمع كلام الله ونحفظه ونعمل به لنستحق الطوبى التي نالتها العذراء مريم بولادتها السيد المسيح بالجسد وليكن عيده مباركاً عليكم آمين.
جند السماء وميلاد الفادي (13)
«فقال لهم الملاك لا تخافوا، فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب أنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب… وظهر بغتةً مع الملاك جمهورٌ من الجند السَّمويِّ مسبحين الله وقائلين، المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرّة»
(لو 2: 10 ـ 14)
حمل الملائكة النورانيون رسالة السلام هذه، ليلة ميلاد الفادي، إلى رعاة بسطاء كانوا ساهرين على هضاب بيت لحم، يحرسون غنمهم، فأشرق عليهم نور سماوي حوّل ليلهم نهاراً. وخاطبهم ملاك الرب بلغتهم السريانية الآرامية، بغاية اللطف والرقة ليهدئ من روعهم، قائلاَ: «لا تخافوا»، فاطمأنت نفوسهم، وانصتوا إليه وهو يواصل كلامه قائلاً: «فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب أنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب، وظهر بغتة مع الملاك جمهور من الجند السمويِّ مسبحين الله وقائلين:
ةشبوحةا لالؤا بمإوما، عل آرعا، شلما وسبرا طبا لبنيًنشا÷
«المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام». (والرجاء الصالح للبشر). فآمن الرعاة بما شاهدوا وسمعوا، وامتلأت قلوبهم بالرجاء الصالح الذي هو الفرح الروحي، وأطاعوا أوامر السماء. وذهبوا مسرعين إلى بيت لحم، ووجدوا مريم ويوسف والطفل مضجعاً في المذود، فلما رأوه أخبروا بالكلام الذي قيل لهم عن هذا الصبي… ثم رجعوا وهم يمجدون الله ويسبحونه، على كل ما سمعوه ورأوه كما قيل لهم (لو 2: 8 ـ 20).
أما مريم العذراء، والدته، فكانت تحفظ جميع هذا الكلام مفكرة به في قلبها (لو 2: 19) وحملت بدورها بشارة السلام إلى سكان البسيطة، فصارت هذه البشارة أغنية الأمل الوطيد، والرجاء الصالح الذي لا يخيب، ومصدر المسرة الروحية في قلوب البشر ذوي الإرادة الصالحة، لحلول السلام الإلهي فيها. فقد ولد مخلص العالم الذي انتظرته البشرية، وجاء «ليخلِّص ما قد هلك»(مت 18: 11) «ولتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل»(يو 10: 10). وليؤسس ملكوته السماوي على الأرض، الملكوت الذي هو «برٌّ وسلامٌ وفرحٌ في الروح القدس»(رو 14: 17) على حد تعبير الرسول بولس.
وللمحبة العميقة التي يكنّها الملائكة للبشر، ملأ الفرح قلوبهم، وهم يرون سياج العداوة القائم بين الأرض والسماء يتصدع وينهار، وبادرة السلام بين الله والإنسان تبدو في الأفق وتظهر. فأنشدوا نشيد الظفر، ومجدوا الله العظيم الذي لتواضعه هبط من علياء سمائه، وولد من عذراء طاهرة ليفدي الجنس البشري من الخطية، ويحرره من ربقة عبودية إبليس، ويهب له الحياة الأبدية.
فابتهجت أرواح الآباء والأنبياء الذين رقدوا على رجاء مجيء المخلص. وهتفت تلك الأرواح مناجية أصدقاء البشرية الملائكة الصالحين قائلة: «سبحوا الرب من السموات سبحوه في الأعالي، سبحوه يا جميع ملائكته»(مز 148: 2) «سبحوه يا كل جنوده»(زك 1: 3). فازداد الملائكة تسبيحاً ليلة الميلاد، مرددين الأنشودة الخالدة أمام الرعاة قائلين: «المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، والرجاء الصالح لبني البشر». ولا غرو فقد خلق الله تعالى الملائكة لتمجيده كقول الكتاب: «الصانع ملائكته أرواحاً، وخدامه لهيب نار»(مز103: 4) «وهم أشرف من الإنسان وأقوى»(عب 2: 7) خالدون، لا يفنون، ولا يموتون، لذلك هم لا يأكلون ولا يشربون، ولا يزوّجون ولا يتزوّجون (مت 2: 30 ولو 20: 35 و 36 ومر 12: 5) ولا يتناسلون، ولا يتكاثرون ولكن لا يحصى لهم عدد. وهم يسكنون السماء ويمثلون أمام الله ـ وقد رآهم النبي أشعيا وسمعهم يمجدون الله ويعبدونه «وكان هذا (السرافين) ينادي ذاك ويقول: «قدوسٌ قدوسٌ قدوسٌ ربُّ الجنود الأرض كلها مملوءة من مجده»(اش 6: 3). ويتحلى الملائكة الصالحون بفضائل سامية منها نكران الذات، والترفّعّ عن الحسد والكبرياء، ومنها محبة البشر والسعي لخلاصهم.
وعلى الرغم من سعة معرفة الملائكة فقد خفي عنهم سرُّ التجسد العجيب، ولم يسبروا غوره، حتى شاهدوه معلنا، وبهذا الصدد يقول الرسول بولس.. «وبالإجماع عظيم هو سر التقوى، الله ظهر بالجسد…تراءى لملائكة» (1تي 3: 16) فسر التقوى عجيب جداً، ذلك أن الإله المحتجب بجوهره، الخفيَّ بألوهته، حملته العذراء مريم في بطنها جنيناً، وولدته بصورة عجيبة، فرآه الملائكة والبشر طفلاً مقمّطاً، مضجعاً في مذود فمجَّده جنود السماء أمام الرعاة البسطاء.
أما الملائكة الأشرار، أولئك الذين تمردوا على الخالق متكبرين متعجرفين، فسقطوا من رتبهم وهلكوا. وهم أعداء الله وأعداء ملائكته الصالحين، والبشر أجمعين. هؤلاء الأبالسة لم يدركوا أبداً كنه سرّ التجسد وقد أخفاه الله عنهم، ليفاجئهم بالمعركة الفاصلة التي تمت على الصليب، حيث دحرهم وظفر بهم، وبهذا الصدد يقول مار إغناطيوس النوراني (107+) البطريرك الأنطاكي الثالث:
«إن إبليس جهل أسراراً ثلاثة عجيبة تمت في صمت، وهي: بتولية العذراء، والحبل بالرب يسوع وولادته بالجسد وموته فسقطت مملكة (إبليس) القديمة، لأن الله قد ظهر في الجسد ليكمل النظام الجديد (رو 6: 4). ويمنح الحياة الأبدية
(للمؤمنين به)».
وقد قال الرب: «رأيت الشيطان ساقطاً مثل البرق من السماء» (لو 10: 18).
وأنعم الله على الملائكة الأبرار أن يبلّغوا البشر النبأ العظيم قبل وقوعه بمئات السنين، ولئن لم يدركوا سره، فقد أرسل النبي دانيال في بابل حيث كان مع قومه المسبيين، فأعلن له موعد مجيء المخلص بقوله: «سبعون أسبوعاً قضيت على شعبك وعلى مدينتك المقدسة، لتكميل المعصية وتتميم الخطايا، ولكفارة الإثم وليؤتى بالبر الأبدي، ولختم الرؤيا والنبوة ولمسح قدوس القدوسين» (دانيال 9: 24) وهذه المدة هي أربعمائة وتسعون سنة، باعتبار كل أسبوع في النبوة يعادل سبع سنين، وبعد ظهور الملاك جبرائيل للنبي دانيال، احتجبت رسل السماء عن الأبصار البشرية نحواً من خمسمائة سنة. وفي ملء الزمان ظهر جبرائيل رئيس الملائكة لزكريا الكاهن في هيكل البخور، مبشراً إياه بأن امرأته اليصابات العاقر ستحبل بابن في شيخوختها، وأمره أن يدعو اسم المولود يوحنا، وبين له وظيفته، وهي تهيئة الشعب ليكون للرب. وبيوحنا، ومعنى اسمه الحنان والرحمة، بدأ عهد الحنان والرحمة، عهد النعمة الإلهية والفداء. وهيأ يوحنا الناس الإيمان بالمسيح، بمناداته إياهم ليتوبوا ويعودوا إلى الله فقد اقترب منهم ملكوت الله.
وهكذا لما بلغ ملء الزمان، ودنا موعد إتمام النبوات توارد الملائكة، بعدد أوفر، وجاءوا إلى الأرض ليعلنوا للبشر رسالة السماء، الحدث الأهم في الكون ألا وهو تجسد الإله الكلمة. وجبرائيل الذي بشر دانيال، ودعا المخلص قدوس القدوسين، هو ذاته في ملء الزمان بشر العذراء مريم بالحبل بالمسيح يسوع بقوله: «السلام لك أيتها الممتلئة نعمةً، الرب معك. مباركة أنت في النساء… لا تخافي يا مريم لأنك قد وجدت نعمة عند الله. وها أنت ستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع. هذا يكون عظيماً وابن العلي يدعى ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية. فقالت مريم للملاك كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلاً. فأجاب الملاك وقال لها. الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك فلذلك أيضاً القدوس المولود منك يدعى أبن الله» (لو 1: 26 ـ 35)
إن جبرائيل ذاته يظهر في حلم ليوسف خطيب العذراء مريم ويطمئنه عن براءتها قائلاً: «يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك. لأن الذي حبل به فيها هو من الروح القدس. فستلد ابناً وتدعو اسمه يسوع، لأنه يخلص شعبه من خطاياهم»(مت 1: 20 و 21) وهنا أيضاً يعلن الملاك جبرائيل اسم المولود، ووظيفته، فيدعى اسمه يسوع، أي المخلص «لأنه يخلص شعبه من خطاياهم».
وفي ميدان إنقاذه البشرية، واكب الملائكة الرب يسوع، في كل مرحلة من مراحل تدبيره الإلهي في الجسد ليتم ما كُتِب عنه «لأنه يوصي ملائكته بك ليحفظوك في جميع طرقك، على أيديهم يحملونك لئلا تصدم بحجرٍ رجلك» (مت4: 6 ولو4: 10و11) فعلى أثر ظفر الرب يسوع بإبليس في معركة التجارب في البرية، تركه إبليس، «وإذا ملائكة قد جاءت فصارت تخدمه» (مت4: 11 ومر1: 13).
وفي البستان في جبل الزيتون وهو يصلي إلى أبيه قبيل آلامه ويسلم إليه إرادته، «ظهر له ملاك من السماء يقوِّيه»(لو22: 43) ولما ألقى أعداؤه القبض عليه قال لبطرس: «رد سيفك إلى مكانه… أتظن أني لا أستطيع الآن أن أطلب إلى أبي فيقدم لي أكثر من اثني عشر جيشاً من الملائكة»(مت26: 52و53).
وعلى أثر قيامته من الأموات في فجر الأحد، حدثت زلزلة عظيمة، «لأن ملاك الرب نزل من السماء وجاء ودحرج الحجر عن الباب وجلس فوقه»(مت28: 2) و(يو20: 12). وبشر الملاك المرأتين بقيامة الرب يسوع من الأموات.(مت28: 5).
ولما صعد الرب إلى السماء، ظهر ملاكان للتلاميذ وقالا لهم: «أيها الرجال الجليليون ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء، إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء سيأتي هكذا كما عاينتموه منطلقاً إلى السماء»(أع1: 10و11).
فكما واكبت الملائكة الرب يسوع في تدابيره الإلهية بالجسد في مجيئه الأول لخلاص العالم، كذلك ستوكبه ملائكته في مجيئه الثاني، يوم يأتي لدينونة العالمين. فيوم ميلاده ظهر ملاك الرب، وبشر الرعاة بميلاده وأعلن أنه مخلص وهو مسيح الرب. ويوم مجيئه الثاني سينفخ رئيس الملائكة بالبوق. ويقول الرسول بولس بهذا الصدد: «لأن الرب نفسه بهتافٍ بصوت رئيس ملائكةٍ وبوق الله سوف ينزل من السماء»(1تس 4: 6). ويقول الرب أيضاً: «لأن ابن الإنسان مزمعٌ أن يأتي في مجد أبيه مع ملائكته» «وحينئذ يجلس على كرسي مجده ويدين العالم» (مت 25: 31 ولو 9: 26 و 2تس 1: 7 ومت 16: 27 ومر 8: 38 و1كو 15: 52 و1تس 4: 15) وقال الرب أيضاً: «هكذا يكون في منتهى الدهر يخرج الملائكة ويميّزون الأشرار من بين الأخيار» (مت 13: 39 ـ 50 و 24: 31 ومر 13: 27).
قال الكتاب عن الملائكة «أليس جميعهم أرواحاً خادمة ترسل للخدمة من أجل الذين سيرثون الخلاص»(عب 1: 14) إن من نعم الله العظيمة على الإنسان، أنه تعالى عيّن لكل إنسان ملاكاً حارساً يرافقه منذ ساعة ولادته وحتى مغادرته هذه الحياة وعند مماته يحمل الملاك روحه إلى السماء، قال الرب: «فمات المسكين وحملته الملائكة إلى حضن إبراهيم»(لو16: 23) وقال صاحب المزامير: «ملاك الرب حالٌّ حول خائفيه وينجِّيهم»(مز34: 7) وقال الرب: «انظروا لا تحتقروا أحد هؤلاء الصغار لأني أقول لكم أن ملائكتهم في السموات كل حين ينظرون وجه أبي الذي في السموات»(مت18: 10).
لقد رافق الملائكة الرسل الأطهار، والتلاميذ الأبرار، وساعدوهم على نشر البشارة وخلّصوهم من أعدائهم ومن الموت أحياناً عديدة (أع5: 19و20 و12: 15 و11: 3ـ14).
كما أن ملاكاً صالحاً يرافق الإنسان كذلك يرافقه ملاك شرير يقيمه إبليس على نحو ما يفعل الله في تدبير ملكه، ويعهد إبليس إلى ملاكه بغواية الإنسان الذي يرافقه وتجربته لذلك على المؤمن أن يطيع ملاكه الصالح ويرفض الشرير.
فالملاك الصالح يريد خلاص الإنسان ويسعفه ويعينه(دا10: 13) وينقذه من الشرور(تك48: 16) ويحفظه في كل طرقه(مز 9: 11 ـ 12) ويرشده إلى عمل الخير ويحذره من إتيان الشر، ويحاول تنبيه الخاطئ ليعود إلى الرب بالتوبة ويتشفع فيه إلى الله لاستجلاب رضاه تعالى(زك 1: 12 ـ 13) ويفرح بقبول توبته وبهذا الصدد قال الرب: «أقول لكم انه هكذا يكون في السماء فرح بخاطئ واحد يتوب أكثر مما يكون بتسعة وتسعين صدّيقاً لا يحتاجون إلى التوبة»(لو 15: 7).
فرسالة الميلاد هي رسالة الخلاص، ورسالة السلام مع الله وهي رسالة السلام مع الملاك الحارس الذي يرافق كلاً منا. فعلينا أن نكرّمه ونشكره على جميله وخدمته الجليلة لنا، ولكن لا نعبده، لأن عبادة أي كائن، غير الله تعد كفراً وإلحاداً، ولكن علينا أن نطيعه لأنه يريد لنا الخير، مقتدين بالرعاة الذين أطاعوا الملاك الذي بشرهم بولادة يسوع المخلص، وبطاعتهم إياه استحقوا أن يسمعوا أنشودة المجد من أفواه الملائكة القائلين: «المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرّة»، كما بالطاعة أيضاً استحقوا أن يروا يسوع طفلاً مقمّطاً مضجعاً في مذود كما وصفه لهم الملاك.
ورسالة الميلاد رسالة توبة نصوح، وعودة إلى الله، والسهر الدائم لانتظار يسوع بمجيئه الثاني، لنشاهد الملائكة القديسين وهم يرافقونه. فقد قال «فاسهروا إذن لأنكم لا تعرفون اليوم ولا الساعة التي يأتي فيها ابن الإنسان»(مت 25: 13).
ليكن هذا العيد مباركاً عليكم أيها الأحباء أعاده اللّه عليكم وأنتم بأحسن حال، وأنعم بال، وأهَّلكم وإيانا لميراث ملكوت الله مع المسيح يسوع في مجيئه الثاني آمين.
الكلمة صار جسداً (14)†
«في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله. هذا كان في البدء عند الله، كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان»
(يو 1:1 و 2)
مبارك إلهنا العظيم الذي أهلنا لنحتفل بعيد الميلاد المقدس. متأملين بإيمان متين في سر التجسد الإلهي، ذلك الحدث السماوي العجيب، الفريد من نوعه، فلم يسبقه شبيه ولن يكون له مثيل، وقد وقع قبل عشرين قرناً في بيت لحم أفراثا، وغيّر وجه التاريخ، بل صار تاريخ التواريخ. فقد جمع بين الأرض والسماء ووطد السلام بين الله والإنسان، وبين الإنسان وأخيه الإنسان، وأخيرا بين الإنسان وذاته، وأسمعت الملائكة البشر ترنيمة الخلود وهم يمجدون الله قائلين: «ةشبوحةا لالؤا بمإوما وعل آرعا شلما وسبرا طبا لبنينشا» «المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة»(لو 2: 14).
أجل إن سر التجسد الإلهي لا تدركه عقولنا البشرية، تماما كعدم أدراكنا سائر الحقائق الإلهية التي أوحتها السماء، وأعلنتها على ألسنة الرسل والأنبياء، وسلم بها المؤمنون، وقبلوها عقائد إيمانية، وقواعد لسلوكهم في هذه الحياة الدنيا، لينالوا إذا ما عملوا بها الحياة الأبدية. ويلخص الرسول بولس عقيدة التجسد الإلهي بقوله: «وبالإجماع عظيم هو سر التقوى الله ظهر بالجسد»(1تي 3: 16). فلم يكن ميلاد السيد المسيح في الجسد بدء تاريخه، لأنه له المجد هو الكلمة الأزلي الذي يصفه الرسول يوحنا في مقدمة الإنجيل المقدس الموحى بها من الله قائلا: «في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله»(يو 1: 1). ولفظة البدء في هذه الآية المقدسة لا تعني بدء الزمان بل تعني حتما ما قبل الخلق والزمن، ولم يكن قبل الخلق والزمن إلا الله تعالى، كما أن الفعل (كان) يدل هنا على الكينونة وليس على الزمن، ويسوع المسيح الإله المتجسد ليس إلها ثانيا غير الله تعالى، ولكنه واحد مع الله في الألوهة لا يفارقه البتة كعدم مفارقة الكلمة للعقل لحظة واحدة، ولا يوجد الكلمة بدون العقل لحظة واحدة. فالله الآب هو العقل الأزلي وابنه الوحيد المولود منه قبل كل الدهور ميلاداً روحياً أزلياً هو كلمة الله الأزلي ولا نتصور أن يكون الله الآب لحظة واحدة بدون ابنه الوحيد وروحه القدوس المجيد، فأزلية كلمة الله وروحه القدوس هي عين أزلية الله الآب، والكلمة هو ذات الله وهو الله ذاته في طبيعته وجوهره وكذلك الروح القدس. هذه خلاصة عقيدة التجسد التي تعتبر محور عقائدنا المسيحية السمحة المبنية على أساس الإيمان بالمسيح يسوع الأزلي الذي ولد ميلادا زمنيا في الجسد، يصفه الرسول يوحنا بقوله: «والكلمة صار جسدا وحل فينا ورأينا مجده مجدا كما لوحيد من الآب مملوءا نعمة وحقا» (يو 1: 14)، فقد تجلى مجد الله للبشر في سر التجسد الإلهي «فالله لم يره أحد قط، الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبّر»(يو 1: 18)، وقد سمعنا الرب يسوع يقول عن ذاته: «الذي رآني فقد رأى الآب… صدقوني إني في الآب والآب فيّ»(يو 14: 9 و 11). كما أن السماء شهدت له محددة العلاقة الطبيعية بينه وبين الآب السماوي، فعلى أثر صعود الرب يسوع من نهر الأردن بعد أن اعتمد من يوحنا المعمدان هبط الروح القدس على هامته بشبه حمامة وسمع صوت الآب من السماء قائلاً: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت» (مت 3: 17). وعلى جبل التجلي أيضا سمع صوت الآب قائلا: «هذا ابني الوحيد الذي به سررت له اسمعوا» (مت 17: 5 ولو 9: 35)، كما أن رئيس الملائكة جبرائيل وضّح هذه الحقيقة للعذراء مريم يوم بشرها بالحبل الإلهي قائلاّ لها: «فالمولود منك قدوس وابن الله يدعى»(لو 1: 25). قد أعلنت السماء هذه العقيدة على لسان هامة الرسل بطرس الذي اعترف بألوهة المسيح يسوع بقوله له: «أنت هو المسيح ابن الله الحيّ، فأجاب يسوع وقال له طوبى لك يا سمعان بن يونا، إن لحماً ودماً لم يعلن لك، لكن أبي الذي في السموات. وأنا أقول لك أيضاً، أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها»(مت16: 16ــ 18) فعلى هذا المبدأ الإيماني السامي أسّس الرب يسوع كنيسته المقدسة، وإذا فقدت الكنيسة إيمانها الصحيح بالمسيح يسوع انقلبت إلى مؤسسة اجتماعية أخلاقية كسائر المؤسسات الاجتماعية العالمية التي تسنّ القوانين وتضع الشرائع والنواميس لتحديد علاقات البشر بعضهم ببعض على أساس المصالح المشتركة، ولكن الكنيسة المقدسة مبنية على أساس الإيمان بشخص المسيح يسوع الذي وعدها أن يمكث فيها إلى الأبد وأبواب الجحيم لن تقوى عليها، ولم يكن المسيح مجرد إنسان بل هو كلمة الله المتجسد وعلى حد تعبير قانون الإيمان الذي وضعه مجمع نيقية المسكوني الأول في أوائل القرن الرابع ملخصاً فيه عقيدة المسيحية إن المسيح هو «المولود من الآب قبل كل الدهور، نورٌ من نور إلهٌ حق من إله حق، مولود غير مخلوق، مساوٍ للآب في الجوهر، الذي به صار كل شيء، الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء (والدة الإله) وصار إنساناً وصُلِب عوضاً عنا في عهد بيلاطس البنطي، تألم ومات ودفن وقام في اليوم الثالث كما شاء، وأيضاً سيأتي بمجدٍ عظيم ليدين الأحياء والأموات، ذلك الذي ليس لملكه انقضاء» والنبي إشعياء في القرن الثامن قبل الميلاد يتنبّأ عنه بقوله: «ولكن يعطيكم السيد نفسه آية هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل»(إش7: 14) فالمسيح عمانوئيل، ويفسر الرسول متى هذه اللفظة الآرامية السريانية قائلاً: «الذي تفسيره الله معنا»(مت1: 23) وعمانوئيل هو يسوع، كما دعاه الملاك الذي ظهر في الحلم ليوسف خطيب العذراء قائلاً: «يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك لأن الذي حبل به فيها هو من الروح القدس، فستلد ابناً وتدعو اسمه يسوع، لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم» (مت1: 20و21) ومعنى لفظة يسوع الله المعين والمخلّص.
«فلما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأةٍ مولوداً تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبنّي»(غلا4: 4و5) على حد تعبير الرسول بولس. فرسالة وليد بيت لحم إذن هي رسالة الخلاص رسالة الفداء «ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني» وهذا ما بشّر به الملاك للرعاة البسطاء يوم ميلاد الفادي قائلاً لهم: «لا تخافوا فها أنا أبشّركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب. أنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلّص هو المسيح الرب. وهذه لكم العلامة تجدون طفلاً مقمّطاً مضجعاً في مذود»(لو2: 10ــ12).
أجل! لم يتجسد الفادي ليأخذ الملك من هيرودس الغريب الجنس، ولم يتجسد ليحرر شعب العهد القديم من الاستعمار الروماني، بل قد جاء من السماء وولد من مريم العذراء ليخلّص البشر من خطاياهم وليحررهم من ربقة الخطية الأصلية، وقد وقع ميلاده في الجسد في ملء الزمان، الوقت الذي عيّنه الله تعالى وحدّده منذ بدء الخليقة لتجسّد الكلمة من أجل خلاص العالم الذي كان بأمسّ الحاجة إلى الخلاص، وكان الأبرار والأتقياء ينتظرون بفارغ الصبر ظهور المخلّص وهم يدرسون النبوّات، ويتوقعون إتمامها بحذافيرها في ذلك الزمان.
أيّها المؤمنون: لقد تجسّد كلمة الله الأزلي، وفدانا بدمه الكريم لنستحق أن نرث الحياة الأبدية.
ولد من الروح القدس ومن مريم العذراء لنولد نحن من الماء والروح (يو 3: 5) ، والروح القدس ونار (لو 3: 16).
صار كلمة الله ابن البشر، لنصير نحن أولاد الله بالنعمة «الذين ولدوا ليس من دمٍ ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله»(يو1: 13) على حدّ تعبير الرسول يوحنا.
فلنسلك في الأرض كأبناء السماء بإيمان ومحبة ورجاء، لنستحق أن نكون في عداد الأبرار والأتقياء المنتظرين مجيئه الثاني لنخرج معهم للقائه، ونرث معه ملكوته السماوي بنعمته آمين، وكل عام وأنتم بخير.
الميلاد المجيد (15)†
أيها الأحباء في هذه الأيام المباركة نعيش أعياد ميلاد الرب يسوع، فنسمع بشارة الملاك ليقول للرعاة أن يبتهجوا أن لا يخافوا بالعكس «لأنه قد وِلد لنا ولدٌ وأُعطينا ابناً ـ كما تنبأ إشعياء ـ وتكون الرئاسة على رأسه ويدعى اسمه عجيباً إلهاً قديراً»، ونسمع أيضاً أنشودة الملائكة: «المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة».
لنبتهج بميلاد الفادي، وننصتُ إلى الرسول بولس وهو يعلمنا قائلاً في الإصحاح الرابع، والعدد الرابع من الرسالة إلى غلاطية: «ولما جاء ملئ الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة، مولوداً تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني».
كلُّ إنسانٍ يبدأ تاريخ حياته على هذه الأرض في ساعة ميلاده، بخلاف ذلك ميلاد الرب يسوع بالجسد ليس هو بدأ حياة الرب، فالرب يسوع مولود من الآب قبل الدهور، كما نقول في دستور الإيمان النيقاوي الذي دائماً ننشده ونرتله ونعلنه أثناء القداس الإلهي وصلواتنا صباح مساء إنه نور من نور، إله من إله، مولود غير مخلوق، حقاً إنه مولود، مولود من الآب أزليا ًوولد بالجسد من الروح القدس ومن العذراء مريم، لكنه مولود غير مخلوق، هو خالق، هو الإله، لذلك لا يبدأ تاريخ الرب يسوع بميلاده الجسدي. ودُعي «كلمة» و«الكلمة صار جسداً وحل فينا، ورأينا مجده مجداً كوحيد من الآب مملوءا نعمةً وحقاً». متى رأينا مجده، هو غير منظور، لكن عندما أراد أن يتجسّد وأن يصير جسداً أيضاً كسائر البشر ما عدا الخطية، حينذاك رأينا ذلك المجد العظيم، عندما ولد من امرأة كما قال الرسول بولس، وإذ نتوقف عند هذه العبارة إنه ولد من امرأة، فنعود بالذاكرة إلى بدء الخليقة، نعود إلى خلقة الإنسان، خُلق آدم أولاً ثم ألقى الله عليه سباتاً وأستلَّ ضلعاً من ذلك الإنسان وخلق من ذلك الضلع حواء وأعطاها لآدم لتكون معيناً له، وقال آدم هذه تدعى امرأة لأنها أُخذت من إمرىءٍ، وهذه أيضاً إذ دُعيت امرأة، يعني ذلك أنها بشر كالرجل وجزء منه ومساوية له، ولذلك عندما أخطأ آدم ومعه حواء وأصبحت الخطية تعم كل البشرية،كل نسلهما إلى الأبد عمت الكل، ولذلك رحمة من الله تعالى لهذا الإنسان وعد أنه يخلصه من خطيئته.
النظرية اللاهوتية بل القاعدة التي تبني عليها عقائدنا الكنسية هي، أن الخطية موجهة نحو الله، لذلك لا يمكن أن يغفر خطية إلا من يكون معادلاً لله، وقد جاء الناموس، وجاء الأنبياء، وجاء الأتقياء والآباء جميعاً لم يتمكنوا أن يغفروا الخطايا، لا بذبائحهم، لا بقرابينهم، لذلك كان لا بد أن يتجسد الله بالذات، ويقدم نفسه فدية عن البشرية ليكون معادلاً للإله الذي إليه وجهت الخطية، وكان لا بد أن يتجسد، وبتجسده أن يتجسد من امرأة كما وعد الله آدم، أن نسل المرأة يسحق رأس الحية، والحية هي إبليس بالذات، لذلك كان لا بد أن يولد المسيح من امرأة، لم يولد من رجل إنما من امرأة، وهذه المرأة التي دُعيت امرأة في البدء يوضحها لنا في القرن الثامن قبل الميلاد النبي إشعياء، فيقول: ها العذراء، بقوله: «ها السيد الرب نفسه يعطيكم آية، هو نفسه يُعطيكم آيةً». ما هي هذه الآية؟: «هوذا العذراء تحبل وتلد ابنا وتدعو اسمه عمانوئيل» الذي تفسيره بعدئذ يقول متى الرسول في الإنجيل المقدس: الذي تفسيره الله معنا، إذن هو الله، لكن الله صار معنا بتجسده من ولادته من عذراء، «هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل».
في عيد دخول الرب إلى الهيكل، إذ ولد تحت الناموس كما قال الرسول بولس وكمّل كل الناموس، في عيد دخول الرب يسوع إلى الهيكل وشمعون الشيخ، نرى أن شمعون كان أحد السبعين الذين ترجموا الكتاب المقدس النبوات، من العبرية إلى اليونانية لغة الثقافة في ذلك الزمان، وكيف أنه تعجب كيف يقول، لئلا يضحك عليه الناس، «هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً»، هل يُعقل هذا الأمر أن تكون عذراء وتلد ابناً، فكتب ذلك أنه شابة، ولكن في اليوم التالي رأى أن الكلمة تغيرت وعادت إلى اللفظة الأولى العذراء، وهكذا وعد من الله أنه لا يذوق الموت حتى يرى هذا الأمر واضحاً وعملياً.
فإذن الله الذي تنبأ أولاً رحمةً منه بالبشرية أن نسل المرأة يسحق رأس الحية، وضح في إشعياء في القرن الثامن قبل الميلاد أن هذه المرأة هي عذراء، «هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل»، والرسول بولس يقول عن الرب يسوع أنه يولد من امرأة، يولد تحت الناموس، بموجب الناموس الذي أُعطي بواسطة موسى، ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني.
ولادته عجيبة جداً من الروح القدس والعذراء مريم، ولذلك مهد الله العقل البشري بواسطة الأنبياء أن يقبل هذه الفكرة بل هذه الحقيقة الإلهية، فمثلاً، زمن ميلاد الرب قبل خمسمائة سنة ظهر الملاك جبرائيل، وهو أحد الملائكة الواقفين أمام عرش الله، وندعوه ملاك العهد الجديد، لأن كل أمور العهد الجديد تقريباً صارت بواسطته، هو الذي بشر، من جملة ذلك ظهر للنبي دانيال، كان دانيال أحد المسبيين من أورشليم إلى بابل، وكان يصلي دانيال دائماً، يفتح الكوة نحو أورشليم ويندب ويبكي وينتظر الرب أن يعيد هذا الشعب من السبي حتى يرجعوا إلى بلدانهم ليعبدوا الله في هيكلهم أيضاً، ويظهر جبرائيل لدانيال ليبشره أن صلاته قُبلت، ليس فقط أن يرجع الشعب إلى أورشليم الأرضية بل إلى أورشليم السماوية، إلى الفردوس الذي طُرد منه الإنسان، لأنه اقترف الخطية العظيمة بشخص آدم وحواء، ويحدد له المدة بالأسابيع السبعين، يعني نحو خمسمائة سنة، يحدد له أن المسيح سيأتي وهو الذي ينقذ البشرية من هذه الخطية، ويعيد الإنسان إلى وطنه الأولي إلى الفردوس، وهكذا كان، زمن ميلاد الرب بالجسد، نقول بالجسد، لأن ميلاد الرب الميلاد الأزلي قبل كل الدهور وهو نور من نور،إله حق من إله حق. لذلك قلنا إن بدء تاريخ كل إنسان بزمن ميلاده، لكن السيد المسيح ليس له بدء لأنه هو الله بالذات، فحدد له ميلاد الرب بالجسد بعد خمسمائة سنة، الأسابيع السبعين وحدد له حتى أنه في الأسبوع الأخير تكون أنه تبطل الذبائح والمسيح يُقدم فدية عن الخراف، هذا جبرائيل لدانيال، نرى أيضاً أن السماء توحي لميخائيل، قال له في زمن إن هذا الميلاد يكون في بيت لحم أفراته، ولذلك عندما ولد الرب يسوع بالجسد كان الأمر من أغسطس قيصر أن تُكتب جميع المسكونة، والمقصود المسكونة كل الدول التي كانت خاضعة للدولة الرومانية، والاكتتاب عادة بحسب الطريقة الرومانية أن كل إنسان موجود أينما يكون موجود يكتبوا اسمه، لكن ربنا أراد بميلاد الرب لا أن يسجل فقط اسمه في عداد أولئك الذين ولدوا، بل أن يسجل بحسب قانون اليهود بالذات أن كل واحد يكتب بحسب ما ورث من آبائه في المدينة والبلدة والقرية والضيعة التي آباءه قد ولدوا فيها. وكانت الأنسال إلى ذلك الوقت إلى وقت الرب يسوع كانت تحفظ،، فأنت تعرف أن تذكر أنت ابن فلان وان تذكر أنسالك وأجدادك، أحياناً عديدة نقول لماذا متى ذكر الأسماء كلها، والأحد الذي قبل الميلاد نقرأ هذه الأسماء، لأنه سابقاً مثلما قلنا هذه الأنساب كلها موجودة، والأراضي التي وزعت على بني إسرائيل حسب الأسباط ، هذه الأراضي حتى لا يحدث بالورثة أي بلبلة فكل واحد معروف نسله من أين.
الاكتتاب صار بأمر الدولة الرومانية، والغاية أن الدولة الرومانية وأغسطس قيصر أولاً ليظهروا مجد دولتهم ويعرفوا كبر مستعمراتهم، وكم هو عدد المستعمرين، ثانياً لكي يهيئوا لإدارة هذا الشعب، وكل ذلك بدون علم هي تهيأ لميلاد الرب يسوع بالجسد، ثم لنشر البشارة الإنجيلية في العالم. فالطرق عُبدت، والسفن سارت بالبحر، حتى تُنقل البشارة بواسطة هؤلاء الناس إلى العالم كله، وكان الناس يفعلون ذلك دون أن يعلموا لماذا.
فعندما ولد الرب، بحيث أن يوسف هو من نفس نسل السيدة العذراء، فكان لا بد أن يأتوا إلى بيت لحم أفراته، لأن هذه هي ورثة آباءهم، فجاءوا من الناصرة إلى بيت لحم أفراته، وكانت طبعاً العذراء مريم حُبلى بالرب يسوع، وزمن الولادة جاء وهي في بيت لحم، ولم يجدوا مكان حتى تولد فيه، لأن لم يكن مكان في المنزل، كان منزل واحد هو عبارة عن فندق صغير، ولم يكن لهم مكان في البلد أيضاً، اضطروا وهي تريد أن تولد، اضطروا أن يذهبوا إلى مغارة خراف أو ما شابه في بيت لحم بالذات في ضواحيها، هناك وضعت ابنها البكر وقمطته ووضعته في مذود، وهناك جاء الملائكة وسجدوا له، وجاء الرعاة أيضاً سجدوا وعرفوه إذ بشرهم الملاك إنه قد ولد، بل هناك أيضاً بعدئذٍ جاء المجوس إلى بيت لحم وكان في المنزل، لم يكن في المغارة يوم جاءوا، وسجدوا له وقدموا له الهدايا، ذهباً ولباً ومراً، معلنين إيمانهم به أنه ملك اليهود، بل ملك العالمين، وأنه إله لذلك قدموا له البخور، اللبان والبخور، وكذلك مؤمنين أنه سيموت بالجسد عن البشرية لذلك قدموا له المر.
هذه آيات الميلاد أيها الأحباء، ولادة الذي يُدعى عجباً،إلهاً قديراً كما دعاه أيضاً إشعياء قبل ميلاده في القرن الثامن قبل الميلاد، كما دعاه هذا النبي وغيره من الأنبياء، وولد حسب النبوات في بيت لحم، وولد من عذراء كما أعلن إشعياء، ولد من امرأة التي هي عذراء كما تنبأ بل أعلن الله عندما رحمته غلبت عدله وأراد أن يُخلص هذا الإنسان الذي كان قد أخطأ وخطيئته كانت ضد الله بالذات.
في ميلاده أحبائي علينا أن نسبحه كالملائكة، علينا أن نسجد لنا كالرعاة، أن نزوره وهو متواضع وفي محل متواضع في المغارة، علينا أن نقدم له أنفسنا كما فعل المجوس حكماء وملوك الشرق الذين أتوا وسجدوا له وقدموا له الهدايا.
نحن عندما نُعيد، أولاً بدأنا ننسى المسيح بالذات، فهذا الشيء، عندما نقول بابا نوئيل أو سانت كلوز، أو نقول ما نقول، هذه الأمور تجعلنا إذا لم نفكر في المسيح بالذات تجعلنا بعيدين عن المسيح بالذات. ومع هذا يوجد شيء يرمز إلى ما فعله مثلاً المجوس بتقديمهم الهدايا، نقدم الهدايا بعضنا لبعض، لا نفكر بالمولود.
يذكر ما ذكره أحد الرعاة أنه سال طفل والدته قال لها نحن نقدم الهدايا بعضنا لبعض، وعادة في يوم ميلادنا تقدمون لنا الهدايا، ميلاد المسيح ماذا نقدم له من هدايا، طبعاً ارتبكت الأم، فقالت له، لا نعرف ماذا نقدم له من هدايا، لأن السيد المسيح عظيم جداً فماذا نقدم له من هدايا؟ فإذا كان المسيح في ميلاده قدم لنا ذاته، ماذا نعوض له، إذا لم نقدم له ذاتنا بالذات لا يكون قد عوضنا له شيء.
فالهدايا التي نقدمها للمسيح لا شيء بالنسبة للمسيح، فيجب أن نقدم ذاتنا، ولا يمكن أن نقدم ذاتنا ونقدم قلبنا ليكون مقر للرب يسوع إن لم يكن ذلك القلب نقياً طاهراً، ونكون نحن مكرسين هذا القلب وهذه الذات للمسيح بالذات، لنعوض له عن ما هو قدمه لنا في ميلاده.
لا نتصور كيف يصير الله بشر، من هو هذا البشر حتى الله نفسه يصير بشر، مثلما قال الرسول بولس: «الله ظهر بالجسد»، هذا الشيء لا يمكن أن نتصوره حقيقة، أنه فوق عقولنا، الله الذي خلق الكون، وأبدع كل شيء، ويدبر الناس، ويدبر العالمين، يدبر العالمين هذه بكل ما جعله من قوانين طبيعية وغيرها، بحيث إذا أختل شيء في هذا القانون الحياة كلها تباد. ما نتصور أن هذا الإله الذي صار بشراً بهذا التواضع العظيم، أنه إذا قدمنا له ذاتنا لا شيء من نحن كبشر. فعلينا في يوم ميلاده أن نطهر نفوسنا وذواتنا، ونهيأ قلوبنا لا في الأمور البشرية التي أعتدنا أن نقوم بها في أعياد الميلاد وبعيدة أحياناً عديدة حتى عن الناموس، فهو قد ولد تحت الناموس، لنكن نحن أيضاً بحسب ناموسه وشريعته، شريعة المحبة، أن نقدم له ذاتنا لكي يسكن في قلوبنا ويثبت فيها إلى الأبد. وكل عام وأنتم بخير أيها الأحباء.
تهنئة السيدة العذراء
تهنئة السيدة العذراء
تهنئة السيدة العذراء†
«وكانت مريم تحفظ هذا الكلام كلّه متفكّرة به في قلبها»
(لوقا 2: 16)
في هذا اليوم المبارك أيها الأحبّاء، تحتفل الكنيسة المقدسة بعيد تهنئة العذراء بميلاد الرب يسوع المسيح بالجسد، وهذا العيد من أقدم أعيادنا الشرقيّة. فيه نقدّم التهنئة للعذراء لأنها استحقّت أن تكون أمّاً لله، بل أيضاً والدة لله بحسب تعبير آبائنا السريان، لأنها ولدت الإله المتجسِّد. وعندما نتقدّم إليها بالتهنئة نتأمّل بما قاله عنها البشير لوقا: أنها كانت تحفظ الكلام، أي كلام هذا الذي كانت تحفظه العذراء مريم. البشير لوقا بعد أن سرد حادثة ظهور الملائكة للرعاة ومجيء الرّعاة إلى المغارة وسجودهم للطّفل يسوع وحديثهم أيضاً عمّا ظهر لهم وما سمعوه، خاصّةً أنشودة السّماء التي رتّلتها الملائكة بلغتنا السريانيّة الآراميّة التي كانت لغة أولئك الرّعاة. ةشبوحةا لالؤا بمإوما.
المجد لله في العُلا وعلى الأرض السّلام وبالناس المسرّة. لوقا يقول أن العذراء مريم كانت تحفظ هذا الكلام متفكّرة به في قلبها. عندما نقرأ الكتاب المقدّس أيّها الأحبّاء نقرأ كلام الله ونعتبر ذلك وحياً، لأن الله عندما يتكلّم معنا معنى ذلك أنه أوحى بكلامه إلى شخص ليعلن ذلك الكلام المقدس، ولكن عندما حوادث تاريخيّة نسمّي ذلك إلهاماً لأن الإنسان يكون قد سمع بهذه الحوادث وحفظها ويُلهَم من الله أن يسردها والله يصونه ضمن الحقيقة التاريخية، فحادثة الرّعاة مثلاً وكلّ الحوادث التي جَرَت للعذراء مريم وأمامها كانت تحفظها، والعذراء مريم التي دعاها الكتاب المقدس: الممتلئة نعمة فقد أنعم الله عليها إذ حلّ عليها الروح القدس وطهّرها ونقّاها وجعلها أهلاً لتحلّ نار اللاّهوت في أحشائها ولتلد الإله المتجسِّد. هذه العذراء لا نستكثر عليها أن تأخذ إلهاماً من الله. فعندما تسرد هذه الحقائق تسردها بكل أمانة، ليس هذا فقط بل كانت تحفظ كل كلام كان يُقال عن الرب يسوع، تحفظه في قلبها متفكِّرة أيضاً يقول لوقا في قلبها بذلك الكلام، أو بعبارة أخرى كما يُقال عن الإنسان الصّالح في المزمور الأوّل أنّه يلهج بشريعة الله ليلاً ونهاراً. هذه كانت حالة العذراء مريم في كلّ ما جرى لها ولابنها منذ أن بشّرها الملاك وحتّى صعود ابنها إلى السّماء. لا تتعجّبوا من هذا فالفتاة التي اختارها الله وفضّلها على نساء العالمين لتكون أمّاً له، تستحقّ أن تكون أوّل من بُشِّر بهذا الإله المتجسِّد.
نتأمّل نحن بسيرتها، نرى ما يكتب آباؤنا السريان وهم خير من يكتب في هذه المواضيع الإلهية وأصدق من كتب في تاريخ المسيحية أن العذراء وُلدَت من عاقرَين، ولكنها وُلدَت كسائر الناس تحت حُكم الخطيئة وخطأ من قال أنها ولدَت معصومةً من الخطيئة الأبويّة، لم يولد خالياً من الخطيّة الأبويّة إلا المسيح يسوع. العذراء مريم وهي ابنة ثلاث سنوات قُدِّمَت للهيكل، لا يعني ذلك أنها تكون بذلك نذيرةً لبتوليّة، الأمر الذي لم يكن في العهد القديم، ولكن قُدِّمَت للهيكل لأنها كانت يتيمة الوالدَين الشّيخَين اللّذين كانا عاقرَين كما يقول آباؤنا وقد وُلدَت طبعاً بأعجوبة ولكن كسائر الناس. تربّت في الهيكل مع الأرامل اللّواتي كنّ يخدمن الهيكل، وكنّ يقضين أوقاتهنّ بالتأمّل بالنبوّات التي قيلَت عن ماسيّا وبحوادث الكتاب والشريعة الإلهية، هكذا نشأت العذراء مريم تتأمّل بحوادث الكتاب المقدس ولما استحقّت أن تكون أمّاً لله، ويوم خُطبَت إلى يوسف بحسب شريعة أولئك الناس يومذاك. وبشّرها الملاك ظهرت فضيلتها، ظهر تواضعها، إيمانها، قبولها مشيئة الله بعد أن بشّرها الملاك وقالت: ها أنا أمة الرب ليكن لي كقولك، وفي زيارتها لأليصابات ظهرت ثِمار الروح القدس فيها عندما أنشدت أليصابات وتنبّأت عنها بأنها أم الرب أنشدت العذراء نشيدها الذي يُعَد أفضل نشيد في الكتاب قاله بشر: تعظِّم نفسي الرب، تبتهج روحي بالله مخلّصي لأنه نظر إلى تواضع أمته، فهوذا منذ الآن تعطيني الطوبى جميع الأجيال. هذا النشيد بدأته العذراء مريم لتعلن كيف أن الله اختارها لتواضعها وكيف أنه يُنزِل المتعجرفين عن الكراسي ويرفع المتواضعين. وتنبّأت أن الأجيال كلّها تعطيها الطوبى. هذه ثمار التواضع، ثمار الهذيان بشريعة الله واللّهج بأوامره تعالى، ثمار الصلاة المستمرة، الحياة مع الله، فالعذراء كما قال لوقا كانت تحفظ كل هذا الكلام في قلبها. فالعذراء عندما نأتي لنهنّئها تطلب منّا أن نقتدي بها، أن نعمل كما عملت بالسماع لكلام الله، باللّهج بهذا الكلام، بتطبيقه عمليّاً. إنها تريد أيها الأحبّاء أن تأخذ الطوبى التي نالتها في الفصل الذي تُلي على مسامعكم في بدء القداس من إنجيل لوقا.
أيضاً رأينا العذراء مريم واخوة الرب كانوا واقفين خارجاً يريدون أن يروا الرب، وعندما أُخبر الرب بذلك التفت إلى الذين كانوا يسمعون كلامه وقال: أمّي واخوتي الذين يسمعون كلام الله ويعملون به، فالعذراء طُوِّبَت في هذا الكلام أيضاً لأنها كما قال لوقا كانت تسمع كلام الله، كانت تسمع وتحفظ وتتفكّر به في قلبها وكانت نقيّة طاهرة بكل سيرتها وسريرتها، لذلك بالإضافة إلى ما أنعم عليها لتكون أمّاً لله، استحقّت الطوبى وهذا المركز السّامي الروحاني لأنها كانت تسمع كلام الله وتعمل به. ففي هذا اليوم المبارك الذي نقدّم فيه التهاني لأمّنا العذراء مريم لنقتدي بها أيُّها الأحبّاء بسماع كلام الله، بقراءة الإنجيل المقدس، بتربية أولادنا التربية الصّالحة كما فعلت العذراء إذ بعدئذٍ يقول لوقا عن الصّبيّ، عن الرب يسوع أنه كان ينمو بالقامة والحكمة والنّعمة أمام الله والناس، وكل ذلك طبعاً عندما نتكلّم بشريّاً نرى وراء كلّ ذلك العذراء مريم.
ليؤهّلنا الرب أن نقتدي بها لنستحق أن نكون معها في السّماء وفي عِداد أولئك الذين قال عنهم الرب: أمي واخوتي هم الذين يسمعون كلام الله ويعملون به. وليجعل الرب هذا العيد المبارك، عيد ميلاد ربنا يسوع المسيح سبب نعمة وبَرَكة لكم جميعاً ويعيده عليكم بالصحّة التّامّة والتّوفيق الجليل ونعمته تشملكم دائماً أبداً آمين.
الأحد الأول بعد الميلاد
الأحد الأول بعد الميلاد
الأحد الأول بعد الميلاد (1)†
«وأما يسوع فكان ينمو بالحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس»
(لو 2 : 52)
أسدل الوحي الإلهي السّّتار عن الفترة التي قضاها الرب ما بين ميلاده بالجسد وعماده، ما خلا إعلان حدث ختانته وتقديمه للهيكل وزيارته الهيكل وهو في الثانية عشرة من عمره بالجسد. ذلك أن الغاية الفُضلى من كتابة الإنجيل المقدس أن يعرف العالم كلّه ويؤمن أن يسوع هو المخلص، وهذه الحقيقة الإلهية أظهرها الملاك جبرائيل للعذراء مريم كما أظهرها ليوسف خطيبها الذي ساورته الشكوك بطهر العذراء مريم، فظهر له الملاك وأفهمه أن يأخذ مريم امرأته لأن الذي حُبل به فيها هو من الروح: تلد ابناً وتدعو اسمه يسوع لأنه يخلص شعبه من خطاياهم، هذا قول الملاك، قول السماء المقدس وإعلان إلهي للأرض، قال يُدعى اسمه يسوع، كلمة يسوع أيها الأحباء تعني الله المخلص. إذن ظهرت رسالة الرب يسوع بوضوح وأعلنتها السماء على لسان الملاك: الرب يخلّص. فكلّ فاهم الحقائق الإلهية بسر التجسد والفداء هي أن يسوع هو الله الذي تجسّد ليخلّصنا. رأينا السماء تعلن مجده والملاك يظهر للعذراء يبشرها، والملاك يظهر للرعاة ويبشرهم. يوم ميلاد الرب بالجسد قال لهم: يولد لكم ابن ملك في مدينة داود هو المسيح الرب، يولد لكم خاصةً يقول لهم مخلص. إذن أظهر أيضاً رسالة هذا الذي وٌلِد من العذراء في بيت لحم أنه هو مخلص، هو المسيح الرب. لذلك أيها الأحباء العذراء قد حفظت كما يقول لوقا البشير بالذات كل هذا الكلام، كلام الملاك كما بشّر به الرعاة وما أعلنه الرعاة أيضاً للعذراء عن تسبيح الملائكة يوم ميلاد الرب. يقول لوقا: أنها كانت تحفظ كل هذا الكلام مفتكرة به في قلبها، بل أيضاً الحوادث التي جرت في سر التجسّد والتي رأتها العذراء بأم عينها واستمعت بها واستمعتها بالذات من السّماء، كانت تحفظها مفتكرة بها في قلبها أي أنها كانت تلهج بها ليل نهار وتهذ كما يفعل الأتقياء والأبرار عندما يتقدمون أمام الرب بالصلاة. وحياة العذراء كانت حياة صلاة مستمرّة. لماذا لم يذكر الوحي الإلهي كل تلك الحوادث التي جرت من تبشير الملاك للعذراء بالحبل بالرب يسوع وإلى عماده، إننا لا نرى من الضرورة أن نعرف كل شيء عن ذلك ومع هذا ذكر الوحي الإلهي أهم المراحل في تلك الفترة، المهم أن المسيح هو المخلّص. والمهم أن المسيح أعلن نفسه كمخلّص عندما بلغ الثلاثين من عمره، وكان لا يمكن أن يظهر أمام الناس كمعلم للشريعة قبل أن يبلغ الثلاثين لأن هذا كان الناموس، هذه كانت الشريعة، هذه كانت العادة لدى اليهود، أنهم لا يستمعون كلام الشريعة من إنسان ما لم يكن قد بلغ الثلاثين من عمره ولا يحق له أن يعلّم، فلما بلغ الثلاثين من عمره أعلن المسيح نفسه بعد أن اعتمد وبعد أن شهد له الروح القدس عندما هبط على هامته بشبه حمامة أنه هو ابن الله. قبل ذلك الإنجيل وضّح لنا أن المسيح ولد من عذراء ميلاداً عجيباً وأن المسيح قد أعلنته السماء عندما سبّحته الملائكة وأن المسيح كما قال بعدئذ الرسول بولس: ولد من امرأة، ولد تحت الناموس، تمسّك بكل الناموس، بكل الشريعة. لماذا؟ ليخلص ليفتدِ الذين تحت الناموس وأكمل الناموس، اختتن في اليوم الثامن بحسب عادة اليهود ليكون في عِداد الشّعب الذي أصبح بعهد مع الله وليحق له أن يكون في عِداد أولئك الناس أن يكلمهم أيضاً عن شريعة الله وناموسه، ثم في اليوم الأربعين قَدِم أيضاً إلى الهيكل لأنه بكر مريم وهو في الوقت نفسه كما تعلمنا الكنيسة المقدسة مستندة إلى الإنجيل المقدس هو بكر الآب السماوي. كل ذلك أتمّه الرب وأكمل أيضاً ما كان على كل يهودي أن يتممه وعلى كل يهودي ويهوديّة أن يهتمّا بتربية أبنائهم وبناتهم، فكان الطفل بحسب عادة اليهود عندما يبلغ السادسة من عمره يأخذه أبواه إلى المدرسة الدينية، إلى الكنيست أي إلى مجمع اليهود، وهناك يتعلم الشريعة والناموس، يدرس التوراة والنبوءات. هكذا كان مع الرب يسوع، أخذته العذراء مريم وخطيبها يوسف ليكون في عِداد أولئك الأطفال لأنه نشأ في بيئة يهوديّة أتمّ فيها الناموس وعندما بلغ الثانية عشرة من عمره بحسب ما يذكر الإنجيل المقدس أخذاه ليقدماه أمام الرب لأن في تلك السن كان على اليهودي أمن يكمّل الناموس ليُعَد في عِداد ذلك الشعب الذي وضع عليه الناموس وليكون مسؤولاً عن نفسه لا يعتبر له أي خطأ أيضاً خطيئةً، لكن بعد أن يبلغ الثانية عشرة يجب أن يزور الهيكل خاصةً أولئك الذين يحتاطون في أورشليم على نحو مائة ميل، كان عليهم أن يحضروا إلى الهيكل سنوياً ولأول مرة حضر الرب يسوع، أحضره يوسف والعذراء مريم.
يذكر لوقا البشير أنهما فقداه بعد أن غادرا أورشليم لمسيرة يوم. كانت العذراء تظن أنه مع يوسف ويوسف كان يظن أنه مع العذراء، كان الرجال يسيرون وحدهم والنساء يسرن وحدهن مشياً على الأقدام في مراحل يوميّّة ويجتمعون مساءً. عندما اجتمعوا وجدوا أن الرب يسوع لم يكن معهم. عادا إلى أورشليم فتّشا عن الرب ثلاثة أيام بتعب وقلق ثم وجداه. أين وجداه؟ في الهيكل، عند المعلمين يسألهم ويستمع إليهم ويستمعون إلى كلام الحكمة الخارج من فمه متعجّبين من هذه الحكمة العظيمة. عاتبته مريم لأنه أتعبها وأتعب يوسف الذي دعته أباه، فكان جواب يسوع: ألا تعلمان أنه ينبغي أن أكون فيما لأبي. لأوّل مرة يعلن أنه ابن الآب السماوي ومن ذلك نعلم أيضاً كيف أن الاعتناء بتربية الأولاد التربية الدينية الصالحة كان واضحاً لأنه كان في الهيكل غرف عديدة يجلس فيها المعلّمون لكي يوضّحوا الحقائق الدينية لكل من يسألهم ونرى الرب ينمو في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس. نما في القامة أصبح في سن الثانية عشرة والحكمة نمو الرب يسوع في الحكمة والنعمة هو النعمة بالذات، وما هي النعمة. النعمة هي حصول الإنسان على البِر والقداسة اللذين كانا يتّصف بها الإنسان قبل أن يسقط في الخطيئة. والحكمة هو الحكمة بالذات وما هي الحكمة. الحكمة هي أن يطبّق الإنسان شريعة الله عملياً ليس فقط بالكلام، بل تظهر الحقيقة الإلهية فيمارس ما تأمر به الشريعة، والمسيح هو الحكمة بالذات وكما قلنا قد ولد تحت الناموس وأتمّ الشريعة والناموس ليكون قدوة للناس كافةً، فنما بالحكمة والقامة، القامة هي الجسد والنعمة. في نموّه هذا يظهر الرب يسوع لا نامياً فقط بل مظهراً ما هو عليه. يعني إذا كان هو الحكمة. ما ينمو في الحكمة، الرب يسوع هو الحكمة بالذات، لكن أمام الناس كانت تظهر هذه الحكمة عندما ينمو. كان يراه الناس أن هذا الإنسان يختلف عن البقيّة كما تعجّب معلّمو الناموس في الهيكل كيف أنه كان ينطق بالحكمة.
عاد الرب يسوع مع والدته وخطيبها وكان يطيعهما يقول الإنجيل المقدس، فهو القدوة الصالحة والمثال الطيّب لكل ابن بار يطيع والدَيه. في هذه الفترة ما بين زيارة الفتى يسوع ذي الاثنتي عشرة سنة للهيكل وبين العِماد، احتارت عقول الناس الذين يحاولون معرفة المكان الذي قضى فيه الرب يسوع هذه الفترة الزمنية وأخذوا يعثرون به لعدم ثقته بالحقائق الإلهية التي لا يمكن أن يدركوها في عقولهم القاصرة ما لم يثقوا بصدق الوحي الإلهي، وقيلت أقاويل عديدة وخرافات لدى بعض الناس، ولكن من الإنجيل المقدس نعلم أن الرب يسوع كان يعمل مع يوسف البار نجاراً بسيطاً في قريته في الناصرة، حتى أن يوستينوس الشهيد في القرن الثاني يقول أنه رأى بأم عينه بعض الشبابيك والأبواب التي صنعها الرب يسوع عندما كان في الناصرة يعمل مع يوسف، وبعد أن مات يوسف ميتة صالحة في أحضان الرب يسوع، أخذ يسوع مسؤولية الاعتناء بأمه وتوفير معيشتها بكرامة أكل خبزه بعرق جبينه. نعلم هذا عندما زار الناصرة وقالوا: أليس هذا النجار وقال آخرون: أليس هذا ابن يوسف النجّار إذ كان نجّاراً ابن نجار وكان يعمل بعرق جبينه ويأكل خبزه وهو بذلك القدوة الصالحة والمثال الجيد في السلوك باستقامة في الحياة الدنيا. كانت لبني إسرائيل شريعة وكان ناموس، والناموس لا يقوى على أن يفدي الناس، كان الإنسان بحاجة ماسّة إلى مثال. فجاء المخلّص ليكون هذا المثال الذي نعمل كما يعمل ونقتدي به ونسلك كما يسلك ونسير في إثره تابعين خُطاه هذا المثال هو الرب يسوع المخلّص الإلهي إلى أن اعتمد، عندما اعتمد لم يأخذ القوّة بما ظهر للناس بحلول الروح القدس عليه فهو والروح القدس واحد وهو والآب واحد، ومن رآه فقد رأى الآب، لكن كل ذلك أولاً لأن يوحنا قد قيل له: الذي ترى الروح يهبط عليه هو هو. من هو. يسوع المخلص وشهد يوحنا بذلك. ثانياً: لكي يعرّف ويعلن أمام الناس حيث أن الحمامة أو الروح الذي نزل بشبه حمامة أو بجسد حمامة كما يذكر الإنجيل المقدس. بهذه التعابير الإلهية أعلنه وميّزه عن كل الناس، فهو ولئن ظهر كإنسان لكن كما يقول عنه الرسول بولس، وهذا القول يجب أن يكون أمامنا وأساساً لعقيدتنا أن الله ظهر بالجسد.
أيها الأحباء:
أما يسوع يقول لوقا: فكان ينمو في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس. أبناء العالم العلمانيون كما ندعوهم عليهم أن يقتدوا بالعذراء مريم وبيوسف البار، ليس فقط بحفظ كلام الله، وأن يلهجوا بذلك الكلام ليل نهار بقراءة الإنجيل المقدس وسيّر الآباء القديسين بل أيضاً أن يكمّلوا شريعة الله، الفضائل السامية التي يجب أن يتحلّوا بها، الفرائض التي وضعت علينا أن نكمّلها في تربية أولادنا التربية المسيحية الصالحة مقتدين بالعذراء وبيوسف البار. ونحن الإكليريكيين عندما ننخرط في سلك الكليّة الإكليريكية التي هي المدرسة الإلهية المقامة لننمو فيها بالحكمة وليس فقط بالنعمة، ليس فقط بالقامة، بل بالحكمة والنعمة عند الله والناس. علينا أن نفتكر بعمق بصورة روحية جداً أن الكنيسة هي أمنا كنيستنا السريانية الأرثوذكسية أمنا الرؤوم وهي معلّمتنا الصالحة، هي التي تؤهّلنا للنمو بالقامة، توفّر لنا كل شيء لا نحتاج إلى أمور جسديّة أبداً. بقوْت الجسد لنموّه جسدياً فيجب أن نشكر الله على ذلك أننا نشأنا في هذه الكنيسة العريقة التي تجعلنا حقاً أن ننمو في القامة أمام الله والناس، وليس هذا فقط بل أن ننمو في الحكمة، أن نطبّق شريعة الله بالحكمة وننمو بالنعمة، أن نحاول أن نكون أبراراً أتقياء قديسين وقد افتدينا بدم المسيح يسوع وفادينا عظيم جداً وهو معنا، عمانوئيل كما كان مع يوسف البار والعذراء مريم. أن نفتكر في عقولنا ونتصوّر الحالة التي كانت فيها العذراء مريم عندما فقدت يسوع، القلق وهي تعلم أن المسيح هو الإله المتجسّد وهي تعلم الحقائق الإلهية أن السماء كانت وراء ذلك التجسّد، ونحن أيضاً وقد افتدينا بدم المسيح ونشعر أن المسيح معنا وقد نلنا قوة عظيمة عندما نشعر أنه معنا إذا فقدنا المسيح كيف تكون حالتنا، تصوّروا أننا بدون المسيح من نحن، نكون قد فقدناه لكن في الوقت نفسه قد فُقدنا روحياً وحتى جسدياً نشعر بأننا لا عون لنا من السماء أبداً، لا بد أن نعود للهيكل ونفتش عن المسيح. ما أشقى وما أتعس الأيام الثلاثة التي قضتها العذراء ويوسف في التفتيش عن المسيح. إذا فقدنا المسيح أين نجده. نذهب إلى أماكن عديدة مثلما فعلت العذراء ويوسف أولاً ولكن عندما نجيء إلى الهيكل، نحضر الصلاة، نشترك في الصلاة سنعود إلى المسيح ويعود المسيح إلينا لأنه قال للعذراء مريم: ألا تعلمان أنه ينبغي أن أكون فيما هو لأبي. فإذن إذا أردنا أن نجد المسيح بعد أن نفقده بالخطيئة إذا ما أخطأنا، إذا ما شكّ كل واحد منّا بالحقائق الإلهية، إذا ما أراد أن يتمرّغ أقول ذلك أيضاً بحكمة العالم بالأمور الدنيوية يبتعد المسيح عنا وعندما نجده في الهيكل المقدس يعود إلينا، وعندما نؤمن بالوحي الإلهي ونتمسّك بالحقائق الإلهية التي أعطتنا إياها أمنا الرؤوم ومعلمتنا الصالحة كنيستنا المقدسة العريقة في المجد والسؤدد، الكنيسة السريانية الأرثوذكسية حينذاك سنجد المسيح في هيكل الرب فقط، سننال قّوة من السماء، نسلك مع المسيح لنهيّئ أنفسنا للنمو ليس فقط بالقامة بل أيضاً بالحكمة والنعمة عند الله والناس.
ليبارك الرب جميعكم أيها الأحباء إكليريكيين وعلمانيين ويؤهّلنا جميعاً للنمو أمام الله والناس بحكمة الرب ونعمته تشملكم دائماً أبداً آمين.
الأحد الأول بعد الميلاد (2)†
«وكان يسوع يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة أمام الله والناس»
(لو 2: 52)
صمتَ الإنجيل المقدس عن ذكر تفاصيل نمو الرب يسوع بعد ولادتهِ من العذراء مريم والروح القدس، وقرائن تلك الولادة وما جرى إن كان المكان، الذي ذُكر أنهُ بيت لحم، وإن كان الزمان بحسب نبوة دانيال، وإن كان الأشخاص إلى جانب العذراء مريم ويوسف البار خطيبها، الملائكة الذين ظهروا والأناشيد التي رنموها وأخيراً أيضاً المجوس الذين جاؤوا من المشرق وقد دلهم إلى مكان ولادة الرب يسوع نجمٌ، يقول آباؤنا أن ذلك النجم كان ملاكاً من السماء وكان قد ظهر، وظهر أمام الناس خاصة أولئك المجوس حكماء المشرق، ظهر وكأنهُ نورٌوفي وسط النور صورة فتاة تحتضن طفلاً صغيراً وجاؤوا وسجدوا للرب وقدموا لهُ الهدايا ذهباً ولُباناً ومراً معترفين بلاهوتهِ وبكونهِ ملك الكون وبكونهِ الكاهن إلى الأبد وتقديم نفسهُ ذبيحة وذلك المر دلالة على الآلام التي تحمَّلها في سبيل خلاص البشرية.
قلنا أن الإنجيل المقدس صمتَ عن ذكر تفاصيل هذهِ الأمور لأن الغاية الكبرى من كتابة الإنجيل المقدس وحتى التبشير بالمسيح يسوع أن المسيح هو الله الذي ظهر بالجسد والذي جاء لرسالةٍ سامية هي خلاص البشرية، عرفنا هذا من النبوات الكثيرة التي ذُكرت عنهُ ومن الملاك الذي بشر يوسف مثلاً،ً قال لهُ عن الرب يسوع أن العذراء كانت حبلى بابنٍ وكانت أيضاً حُبلى من الروح القدس بالذات وأعطاهُ سلطان – كان الأب هو الذي لهُ السلطان أن يُسمي الطفل بأي اسم – قال الملاك جبرائيل ليوسف وتسميهِ يسوع، وكلمة يسوع تعني الله مخلِّص، فأعطاهُ سلطان أن يُسميهِ يسوع إذاًهذهِ الغاية القصوى من مجيء الرب أن الله هو الذي يُخلص، والله المخلص الله الذي ظهر بالجسد هو يسوع لأن اسمهُ يدل على وظيفتهِ ورسالتهِ السامية، هذا ما نقرأهُ في الإنجيل المقدس أيها الأحباء ونرى أيضاً في الإنجيل المقدس أن الرب يسوع الطفل الذي ظهر لنا نعمة عظيمة من السماء قيل عنهُ أنهُ كان ينمو في القامة والحكمة والنعمة أمام الله والناس، كيف ينمو في الحكمة ؟ ولئن كان كطفلٍ لم تظهر حكمتهُ السامية كلها، لكن هو الحكمة بالذات وإن كان كطفل لم تظهر هذهِ النعمة وهو النعمة بالذات بل هو موزِّع النِعَم على البشركافة، لكن عندما يقول ينمو وعندما يقول أن هذهِ النِِعَم ظهرت أمام البشر، البشر لم يكونوا يدركوا هذا الشيء لكن تدريجياً ظهرت الحكمة وظهرت النعمة عندما كان يظهر كإنسانٍ و ينمو بالقامة أيضاً، فهذا الذي نقرأهُ نراهُ أيضاً عملياً أن الإنجيل المقدس كان يهمُّهُ خاصةً أن نعرف هذا الإله المتجسد الله الذي ظهر بالجسد أن نعرفهُ أنهُ هو المخلص ونؤمن بهِ أنهُ هو المخلص وهذهِ هي رسالتهُ السامية ولذلك لا يهم كتبَة الأناجيل الأربعة أن يذكروا تفاصيل نموهِ بالجسد يهمهم شيء واحد وهو أن نعرف أنهُ الله ظهر بالجسد وأنهُ جاء لخلاصنا.
نحن نعرف أن الرب يسوع كما يُخبرنا آباؤنا القديسون أنه كان ينمو كطفل، كما كان ينمو كل طفل في اليهودية ينمو ويتعلم أيضاً، ونحن ندرس أطباع أولئك الأطفال اليهود الذي كان الرب يسوع واحداً منهم، أنهُ في السادسة من عمرهِ كان يجب أن يدخل المدرسة الناموسية، المدرسة التي تكون في الهيكل ويدرس الشريعة وهو طفلٌ يتعلم القراءة والكتابة إلى أن يبلغ الثانية عشرة من عمرهِ كان يظهر أمام الرب بعد أن يكون قد اختتن عندما كان عمرهُ أربعين يوم وأصبح ضمن الشعب الذي صار لهُ عهدٌ مع الرب بالختان، فالرب يسوع أيضاً أمهُ العذراء مريم وخطيبها كانا يُكملان الناموس كما يقول الرسول بولس: وُلدَ من امرأة تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني، فكمَّل الناموس اختتن في اليوم الثامن وقدِّم إلى الهيكل في اليوم الأربعين وقُدِّم عنهُ أيضاً تقدمة وهذهِ كلها يذكرها الإنجيل المقدس ونعرف أن الرب عملها، ويذكر الإنجيل المقدس أيضاً كما تليَ على مسامعكم في بدء القداس أنهُ عندما بلغ الثانية عشرة من عمره فقدهُ أبواه – يعني العذراء مريم وخطيبها – في الهيكل وهو يزور الهيكل، وعندما عادا مع الموكب الذي عاد من الهيكل بعد زيارتهِ كان النساء يسِرنَ وحدهُنّ والرجال وحدهم، ومسافة يوم كانوا يمشون على الأقدام وفي المساء كانوا يجتمعون ليستريحوا من عناء الطريق ولم يجدوا الرب يسوع، يوسف ظنَّ أنه مع أمهِ العذراء مريم، والعذراء مريم ظنت أنه مع يوسف وعادا إلى أورشليم ولمدة ثلاثة أيام فقدا الرب يسوع، ما أشقى تلك الأيام وتلك الساعات على العذراء مريم وعلى يوسف البار لِفقدهما الرب يسوع.
ما أشقانا إن كنا نفقد الرب يسوع أيها الأحباء أو أن الرب يسوع يفقدنا لذلك نرى القلق على العذراء مريم ويوسف البار وهما يُفتشان في أورشليم عن الرب يسوع، أخيراً وجداهُ في الهيكل، عاتبتهُ العذراء مريم.. يا بنيّ كنا قلقَين أنا ويوسف أبوك، فقال لهما لماذا كنتما قلقَين ألا تعلمان أنهُ ينبغي أن أكون فيما لأبي، أي في هيكل الله فأعلن هنا الرب يسوع أنهُ ابن الله، ابن الآب السماوي وهذهِ صفةٌ سامية جداً أن يكون مخلصنا ابن الله وهو الله، بل أيضاً أن يُعطينا نعمة عظيمة أن نكون نحن أيضاً كما يُعلن الإنجيل المقدس بحسب يوحنا مولودين لا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله وأصبحنا أولاد الله والرب يسوع أعطانا دالة وصفة عظيمة جداً عندما علمنا الصلاة الربية أن نقف أمام الله ونقول أبانا الذي في السموات.
في العهد القديم لم يكن الإنسان يُفكر ولا حتى يتجرَّأ أن يقول لله أباً لهُ نحن كلنا عبيد الرب ولكن هذهِ النعمة العظيمة أعطانا إياها الرب يسوع بأن نقول أبانا الذي في السموات وأعلن ذلك أولاً لأمهِ العذراء مريم «ألا تعلمان أنهُ ينبغي أن أكون فيما لأبي»، أي في الهيكل.
نرى هذهِ المرحلة من حياة الرب يسوع وبعدئذٍ يصمت الإنجيل المقدس ونرى فقط عندما بلغ الرب يسوع الثلاثين من عمرهِ وعندما اعتمد من يوحنا حينذاك ظهر للعالم بتدبيرهِ الخلاصي العَلني بالجسد، عندما ظهر للعالم بهذا الشيء كان يحق لهُ فقط عندما يبلغ الثلاثين كيهودي أن يتكلم بالشريعة، عندما يبلغ الثانية عشر يُصبح تحت حكم الشريعة ما يفعلهُ من خطأ وخطية يُحاسب عليه في الثانية عشر من عمرهِ، لكن لا يحق لهُ التبشير ولا يحق لهُ أن يُعلن هذهِ الشريعة إلا عندما يبلغ الثلاثين من عمرهِ. لكن الضالون والمضلون وبعض مَن اعتبروا أنفسهم حكماء وهم جُهلاء بالحقيقة اتبعوا خرافات عديدة عن الفترة التي قضاها الرب يسوع ما بين الثانية عشرة وبين الثلاثين واخترعوا اختراعات وخرافات عديدة وتفاسير باطلة ولكننا نعلم من التاريخ ومن آبائنا القديسين أن الرب يسوع في تلك الفترة كان يتربى في الناصرة كما يقول الإنجيل أنه ذهب إلى الناصرة وهناك تربى طبعاً وكان يعمل نجاراً مع يوسف خطيب العذراء، والفيلسوف والقديس والشهيد يوسطينوس في القرن الثاني يقول أنهُ رأى بأم عينهِ شبابيك عديدة من صنع يد الرب يسوع وهو فتى وهو شاب، إذاً هذا يُثبت أنهُ عاش في الناصرة وكان يعمل نجاراً، والإنجيل المقدس يُثبت أيضاً أن أهل الناصرة عندما رأوه يصنع معجزات عديدة في أماكن عديدة خاصة كفر ناحوم وجاء للناصرة قالوا أليس هذا يسوع ابن يوسف النجار أليست أخواتهُ عندنا وقالوا ثانية أليس هذا يوسف النجار، على ما يبدو أنهُ بعد موت يوسف – الذي مات في أحضان الرب يسوع ميتة مقدسة وطيبة- الرب يسوع كان يعمل نجار ومثلما قلنا أحد آباء الكنيسة الفيلسوف والشهيد بعدئذٍ يوسطينوس قال أنه رأى بأم عينهِ بعض الشبابيك والأبواب أيضاً من صنع يدي الرب يسوع.
إذاً نحن نعلم أن الرب يسوع كان ينمو بالقامة والنعمة الحكمة أمام الله والناس وكان يعمل كنجار بسيط، وأنهُ كان ينمو في الحكمة أمام الناس والناس كانوا يروا هذهِ الحكمة تنكشف لديهم وهذهِ النعمة العظيمة التي كانت عليه.
الشيء الذي يجب أن نعتبره وذكرتهُ لكم أيها الأحباء، علينا أن نحرص بالحفاظ على يسوع، على علاقتنا معهُ، على وجودنا معهُ ووجودهِ معنا وأن نحزن كثيراً كما حزنت العذراء مريم عندما فقدته وهو في الثانية عشرة من عمرهِ وبقيت ثلاثة أيام هي ويوسف البار يبحثان عنهُ إلى أن وجداه بين العلماء يسألهم وتعجبوا أيضاً من كلمات الحكمة التي كان يفوه بها.
ونحن إذا فقدنا الرب يسوع – لا سمح الله – عندما نقترف الخطايا ويغفر لنا الرب ذلك عندما نصبح بسيرتنا ضد إرادة الرب يسوع وضد شريعته وضد ناموسه حينذاك سنكون قلقين إذا شعرنا بأننا بحاجة ماسة إلى الرب يسوع وبحاجة ماسة إلى التوبة وإلى العودة إليه لكي يعود هو أيضاً إلينا كما أنه علينا أن نحرص على ألا نفقدهُ.
العذراء مريم ظنت أنهُ كان مع يوسف، ويوسف ظنَّ أنه كان مع العذراء لأن المواكب كانت تسير النساء وحدهم والرجال وحدهم، كانوا يجتمعوا فقط في المساء ليستريحوا، وكان على كل يهودي يعيش في منطقة قريب من الهيكل أن يذهب كل سنة ويتبارك من الهيكل طبعاً اليهود جميعاً كانوا يحاولوا أن يتباركوا مرة في حياتهم، لكن الذي يعيش قريب من الهيكل عليه كل سنة أن يذهب إلى الهيكل ويتبارك.
نسأل الرب الإله أن يؤهلنا جميعاً أن لا نفقد الرب يسوع أبداً كما أن لا يفقدنا الرب يسوع أيضاً، أن نتوب عن الخطايا لكي يقبلنا وأن نشعر بحزن وألم عندما نكون بدون يسوع، لذلك فلنحافظ عليه أيها الأحباء بحياة التوبة، حياة التقوى، حياة مخافة الله لكي نكون معهُ وننال بركته ولكي نستحق أن نعتبرهُ مخلِّصاً لنا وهو يسوع المخلص بل هو عمانوئيل الذي تفسيرهُ الله معنا والرب يبارككم وكل عام وأنتم بخير.
الأحد الثاني بعد الميلاد
الأحد الثاني بعد الميلاد
الأحد الثاني بعد الميلاد
«أما يسوع فكان يتقدّم بالحكمة والقامة والنعمة لدى الله والناس»
(لوقا 2: 52)
أسدل الوحي ستاراً ثخيناً على حياة الرب بالجسد ما بين ميلاده وعماده، لأنه إنّما قصد بتدوين سيرة الرب بالجسد أن يظهره مخلّصاً للعالم. فمنذ أن بُشِّر بالحبل به من الروح القدس أُعلِن للعذراء مريم أنه هو المخلّص، وفي ميلاده عندما وقف الملاك أمام الرعاة بشّرهم أنه: ولد لكم في بيت لحم مخلّص هو المسيح الرب. كذلك في كل مرحلة من مراحل حياته بالجسد نراه يظهر لنا وللعام أنه هو المخلص وبهذا لا نستغرب أبداً أن يصمت الوحي الإلهي عن سيرته وهو صبي صغير، واكتفى لوقا بقوله:وكان الصّبي ينمو بالقامة والنّعمة أوكان ينمو ممتلئاً حكمة وكانت نعمة الله عليه. في كل تعبير من تعابير التّرجمة العربية للكتاب المقدس نرى أمامنا صبيّاً يعيش بنعمة تفوق سائر النِّعَم لدى رفقائه وحكمة لم توجد ولن توجَد لدى الآخرين من الذين بعمره. وصمت الوحي عن تفصيل سيرته بالجسد منذ ميلاده أو بين ميلاده وعماده سوى زيارته للهيكل وهو في الثانية عشرة من عمره، هذا الصّمت صار كوادٍ عميق ما بين جبلَين: الميلاد والعماد. صمتٌ فيه رياح عاصفة وخيال خرافـي لبعض الناس قد يكونوا من المؤمنين، فإذا رووا قصصاً خرافيّة سخيفة جدّاً ظنّاً منهم أن لذكر معجزات عديدة صنعها الرب يسوع بحسب ظنّهم في طفولته يكرمون الرب، ولكنهم لا يعلمون أن الغاية من تجسّد الإله، الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس هي خلاص البشريّة. ولذلك لا فرق لدينا إن اجترح المعجزات بطفولته أو لم يجترحها، ولكن نعلم من تقليد كنيستنا السّريانيّة المقدّسة أن الرب يسوع عاش كما يعيش سائر الناس من بني قومه، نستطيع أن نقول أنه في السادسة من عمره كسائر أولاد نظام العهد القديم أخذته والدته ع من ظُنَّ أنه أبوه، يوسف خطيب مريم العذراء إلى مدرسة المجمع أو الكنيس محل اجتماعهم للصلاة. هناك كان يتعلّم الصّغار وهم في السادسة من عمرهم القراءة والكتابة ليقرءوا الناموس أي أسفار موسى، ويقرءوا النبوّات كان ذلك إلزاميّاً دينيّاً واجتماعياً ومدنيّاً، ونتصوّر الرب يسوع وهو طفل بين الأطفال يفوقهم حكمة لأن لوقا كان يقول:ينمو بالحكمة، وليس فقط بالقامة فقط بل بالنعمة أيضاً، وكانت حكمة الله تظهر فيه. نتصوّره يتفوّق على كل هؤلاء سيرةً وأخلاقاً.
ونأتي إلى مرحلة من مراحل حياته وهو في الثانية عشرة من عمره، وعندما ندرس تقليد شعب العهد القديم نعلم أن الإنسان يعتبر تحت حكم النّاموس عندما يبلغ الثانية عشرة من عمره، أي عليه أن يطبّق شريعة موسى بحذافيرها، ثم إن كان يسكن قريباً من الهيكل، حتّى إن كان يبعد عشرين ميلاً عليه أن يظهر أمام الله في هيكل الرب ولو مرّة واحدة في السّنة، هذا للذكور. أما الإناث ليس عليهنّ واجب كهذا، فالعذراء مريم كانت متحرّرة حرّة من هذا الناموس، أمّا يوسف فكان عليه أن يأتي كلّ سنة ويظهر أمام الله في الهيكل، ولمّا بلغ يسوع اثنتي عشرة سنة أخذه والداه يقول الإنجيل المقدّس. هناك كان يناقش ويجادل المعلّمين، ونحن نتصوّر الهيكل الكبير ونعلم أنه كان هناك غرف عديدة في جوانب الهيكل، كان المعلّمون الدينيّون يجلسون هناك ينتظرون من يأتي يسألهم عن الأمور الدينية العويصة الصّعبة على الفهم ليشرحوا له الناموس والنبوّات، ونتصوّر يسوع وهو الفتى ابن اثنتي عشرة سنة يدخل إلى المعلّمين فيحادثهم ويحاورهم ويتعجّبون من الحكمة التي فيه، فقد كان ينمو بالنعمة والحكمة أمام الله والناس.
ما معنى النعمة؟
نحن نعلم أن الحكمة هي تطبيق الإنسان لوصايا الله عمليّاً، ولكن النّعمة هي ما أنعم الله على الإنسان يوم خلقه فجعله على شبهه كمثاله، ذا عقل راجح يمتاز عن سائر الكائنات وذا نفس خالدة وضمير يستطيع أن يميّز بين الخير والشرّ وبين الحلال والحرام، وليس هذا فقط، بل جعله أيضاً سيّداً على المخلوقات. هذه النّعمة فقدناها يوم خضعنا لإبليس وكبونا كبوة الخطيّة العُظمى إذ تنكّرنا لنعمة الله وما أسبغه علينا بخلقه إيّانا سادةً على المخلوقات، وبالمسيح يسوه نلنا النعمة والحق كما قال يوحنا في إنجيله المقدّس، فالرب يسوع هو النّعمة، الرب يسوع لا يحتاج أن ينمو في النّعمة لأنه هو النّعمة مجرَّدة وأصيلة. أما نحن فننمو في النّعمة بالمسيح يسوع، فعندما يقول: كان ينمو في النّعمة يعني أمام الله والناس تظهر نعمته، تنجلي أمام الناس، يظهر نموّه بنمو جسده. فكان الرب قد أعجب أولئك المعلّمين إذ رأوا النّعمة العظيمة التي فيه وحكمة الله التي تظهر من كلامه ومحاورته إيّاهم. ويقول الإنجيل المقدس أن والداه فقداه هناك، إذ كان الناس عندما يأتون للزيارة، وقلنا الذّكور لابدّ أن يأتوا مرّة في السّنة إن كانوا يسكنون قرب الهيكل حتّى لبعد عشرين ميل عنه، ولكن الإناث كنّ يأتين مع الذكور أحياناً عديدة ولكن ذلك لم يكن إلزاماً عليهن. العذراء مريم جاءت، كما نحتفل الآباء والأمّهات بأيّامنا هذه بمناسبات دينية بأولادنا، فالأم تفتخر بابنها أيضاً. أتت لكي تقدّمه لأوّل مرّة ليكون تحت النّاموس كما يقول الرسول بولس: وُلد من امرأة تحت النّاموس ليفتدي الذين تحت النّاموس لننال التبنّي ، فمن الثانية عشرة من عمره أصبح وهو في الجسد تحت حكم الناموس وإن تجسّد ليكون لنا مثالاً بالتمسّك بشريعة الله. أتمّ الناموس، فالعذراء مريم كانت مع يوسف البار وقُدِّم إلى الهيكل وكانت تراقبه وتفتخر به أنه يحاور ويجادل العلماء، وكانت حكمة الله تظهر فيه. وعندما انتهت الزيارة عادةً كانت تسير المواكب على الأقدام، تسير النساء لوحدهن والرجال وحدهم وليلاً يتجمّعون ليرتاحوا من تعب الطريق، وعندما ساروا يوماً كاملاً واجتمعوا ليلاً لم يجدوا يسوع بينهم. يوسف ظنّ أنه مع أمّه والعذراء ظنّت أنه مع يوسف، فعادت العذراء ويوسف ليفتّشا عن يسوع. وجدوه بعد ثلاثة أيام، يا لشقائهم، يا لبؤسهم، إنهم فقدوا النعمة، فقدوا المسيح بالذات. هل نشعر نحن أيضاً عندما نفقد المسيح، عندما نرتكب الخطايا الجسيمة، هل نشعر أننا فقدنا شيئاً عظيماً كما تألّمت العذراء مريم حينذاك لمدّة ثلاثة أيام لم تجد المسيح، ثم وجداه بين العلماء جالساً يحاورهم فعاتبته أمّه، وذكرت أنها وأبوه، ذكرت يوسف وأنهما قد تعبا في التفتيش عنه.
ذُكرَت هذه الحادثة أيها الأحباء في سيرة الرب لغاية وحدة: أن الرب يسوع كان يكمل الناموس كما اختتن في اليوم الثامن وقدّم إلى الهيكل في اليوم الأربعين، جاء أيضاً ليقدّم نفسه أمام الله ليقف وليقول أنه أصبح تحت الناموس وقد كمّال لناموس حقّاً. وعندما بدأ تدبيره الإلهي العلني في الثلاثين من عمره حينذاك وقد اعتمد لينهج لنا سر المعموديّة المقدس، سر التبنّي ليعيد إلينا النعمة التي فقدناها إذا كنّا أولاد الله في الفردوس وأصبحنا أعداء الله إذ لم نخضع له، لله تعالى. أعاد الرب يسوع إلينا تلك النعمة أيها الأحباء ما بين ذكرى العماد والميلاد لنفتكر نحن أيضاً كيف نربّي أولادنا، هل ينمن بالقامة دون النعمة، هل نستطيع أن نقتدي بالعذراء مريم ويوسف البار. فلنرى أن أولادنا ينمون كالمسيح يسوع بالقامة والنّعمة ليس فقط أمام الناس، ليس فقط ليقولون أن هذا أو هذه يواظبون على الكنيسة ويخدمون الله، بل أيضاً أمام الله بالضمير الطاهر في أعماق أنفسنا التي خُلقَت خالدة على شبه الله كمثاله، إن كنّا جعلنا ذلك نكون قد نلنا نعمة الله مع أولادنا الذين ينمون كالمسيح بالقامة والنّعمة أمام الله وأمام الناس.
ليعطنا الرب أحبائي أن نرى أولاد الكنيسة جميعاً في حالة كهذه، أن يكونوا كالمسيح يسوع مكمّلين ناموس الله وشريعته لينموا بالنعمة والقامة أمام الله وأمام الناس بنعمته تعالى آمين.
رأس السنة الميلادية
رأس السنة الميلادية
رأس السنة الميلادية (1)
«يسوع المسيح هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد»
(عب13: 8)
إنها لنعمة عظيمة أيها الأحبّاء أن نكون في عِداد المؤمنين بالرب يسوع المسيح الحي إلى الأبد، الأزلي، الأبدي الذي كما أنه كان وهو كائن وهكذا سيبقى مع أبيه وروحه القدوس ثابت وليس عنده تغيير ولا ظلُّ دوران (يع 1: 17)، إلى دهر الدّاهرين وفي سائر الأجيال إلى أبد الآبدين آمين الذي هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد، هذه العبارة نردّدها بالسريانية في كل مرة نحتفل فيهل بالقداس الإلهي قائلين: ܐܝܟܢܐ ܕܐܝܬܘܗܝ ܗܘܐ ܐܝܬܘܗܝ ܘܡܟܬܪ ܠܕܪܕܪ̈ܝܢ ܘܠܟܠܗܘܢ ܕܪ̈ܐ ܕܥܠܡܝ̈ ܥܠܡܝܢ ܐܡܝܢ. وهذه عبارة عزاء ورجاء وإيمان لا يخيب لأن إلهنا هو هو لا يتغيّر، فالأيّام تتعاقب والأعوام تتلاحق والدّهور تمر إثر الدهور والناس لاهون ساهون واهمون تائهون ضالّون، لا يعلمون أين يتّجهون أمّا نحن فطالما قد آمنّا بمن هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد، علينا أن نثق بأنه قد رسم لنا خريطة الطريق ونهج لنا تلك الطريق السويّة لنسير معه، ولنبلغ إلى أبديّة سعيدة. وفي هذا اليوم نحمده ونشكره لأنه أهّلنا جميعاً أيّها الأحباء لأن تطأ أقدامنا في هذا اليوم العتبة الأولى من السّنة الجديدة المباركة ونحن نتأمّل بإيمان ما كان في العام الماضي من حوادث مهمّة وخطيرة في العالم والكنيسة، في محيطنا الخاص وفي عائلاتنا وفي أنفسنا ونفحص ضمائرنا فيما إذا كنّا سالكين في طريق الرب، الطريق المؤدّية إلى ملكوت الله في السّماء أم كنّا قد حدنا عن جادة الحق وابتعدنا عن إلهنا. إنها نعمة من الرب أنه قد منحنا فرصة جديدة لنصلح ما كنّا من خطأ ونسلك تابعين مسيحنا الذي هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد، الذي هو الطريق وهو الحقّ وهو الحياة الذي إن سلك أحدٌ فيه لابدّ إنه يبلغ إلى ملكوت السماوات.
أجل ولئن كان أغلب الناس لاهون تائهون لا يفقهون معنى الحياة الروحيّة، وكلّ همّهم هو أن يرتشفوا من اللّذائذ العابرة وينهمكوا بأمور الدنيا الزّائلة ولا يفكّرون في الأبديّة، لأنهم كما يصفهم صاحب المزامير بقوله: قال الجاهل في قلبه ليس إله، فلا ينصتون إلى قول الكتاب ليكنزوا لهم كنوزاً في السّماء ولا يهتمّون في أبديّتهم ولا أين يقضون تلك الأبديّة وقد أُعطينا في هذا العالم فترة من الزّمن قد تكون طويلة أو قصيرة، ولكنها ثمينة جدّاً لأنها الفرصة الوحيدة السّانحة لنا نشتري بها الحياة الأبديّة السّعيدة، ولئن كانت حياتنا على الأرض مليئة بالمشقّات والحسرات والكآبة والجهاد المستميت في كلّ مرحلة من مراحلها منذ الطّفولة وإلى الشيخوخة علينا أن نتحمّلها بصبر وإيمان ورجاء، لأنها تقرّر مصيرنا الأبدي وعلينا أن نتّخذ الرب يسوع مثالاً لنا، وقد أنعم الرب علينا نعمة عظيمة أنه نزل من سماء مجده واتّخذ منّا ناسوتاً كاملاً مثلنا وجُرِّب مثلنا في كل شيء ما عدا الخطيئة على حدّ قول الكتاب المقدّس وصار مثالاً لنا للتمسّك بالشريعة والنّاموس.
في مثل هذا اليوم اختتن الرب بعد ثمانية أيّام من ميلاده بالجسد وسُمِّي يسوع كما تسمّى من الملاك قبل أن حُبِل به في البطن (لو 2: 21)، وهو مثال لنا بالتمسّك بالشريعة، وُلد من امرأة يقول الرسول بولس: ولكن لما جاء ملء الزّمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة تحت ليفتدي الذين تحت النّاموس لننال التبنّي (غل4: 4 و5). فقد أكمل يسوع الناموس وأتمّ الفرائض كلّها كأحد أفراد شعب النظام القديم ولذلك اختتن، والختان عهد مع الله أوّلاً أعطاه الله لإبراهيم أبي الآباء ولذلك قيل عن إبراهيم أنه في نسله تتبارك جميع الشّعوب ثم جدّد العهد مع موسى وشعبه فكان على بني إسرائيل أن يختتنوا أولادهم في اليوم الثامن من ميلادهم، وصار الختان علامة تطهير وبه يدخل اليهوديّ في عضويّة العهد القديم، فقد كان رمزاً للمعموديّة التي بدونها لا يكون الإنسان عضواً في كنيسة المسيح، وقد اختتن المسيح ليكمّل الناموس وبرهن بختانه على أنه حقّاً قد أخذ منّا جسداً كاملاً ولم يكن لاهوتاً فقط بل أيضاً ناسوتاً بالجسد، بل كان إنساناً كاملاً بالناسوت، فكان إلهاً كاملاً باللاّهوت بطبيعة واحدة وأقنوم واحد ومشيئة واحدة وإذ كان مثلنا بناسوته الكامل فقد اختتن ليكون في عِداد شعب النظام القديم الذي كان يعتبر الذي لا يختتن غريباً عنه. واختتن أيضاً أيها الأحباء ليعلّمنا كيف يجب أن نتمسّك بالوصايا والشرائع والفرائض التي تُفرَض علينا من الكنيسة وقد وضعها الآباء بإلهام الرّوح القدس، ولكن المسيح اعتمد من يوحنا ورسم لنا سر المعموديّة وبذلك فُسخَت فريضة الختان الذي كان رمزاً للمعموديّة وحلّت المعمودية محا الختان للتنقية والتطهير والدخول في عضويّة الكنيسة جسد المسيح السرّي ليصير المؤمنون في عِداد أبناء الله بالنعمة، المولودين من السّماء ميلاداً ثانياً وبذلك أُلغيَت شريعة الختان لدينا. فالرسول بولس يقول في هذا الصّدد: «إن اختتنتم لا ينفعكم المسيح شيئاً لأنه في المسيح يسوع لا الختان ينفع شيئاً ولا الغرلة بل الإيمان العامل بالمحبّة» (غلا 5: 1-6)، فلا يحقّ للمسيحي أن يُختتن إلاّ لأسباب صحيّة موجبة. هكذا تسلّمنا من آبائنا أيها الأحبّاء وسلّمها الرّسل إلى آباء الكنيسة القديسين، وهي التي تجعلنا أن نحافظ على وصايا الله. إن المسيح مثال لنا حتّى بالمحافظة على الفرائض، والآباء القديسون حافظوا على تعاليم الرّسل وسلّموها إلينا، ونحن بناءً على وصيّة الرسول بولس علينا أن نذكر هؤلاء الآباء الذين يدعوهم الرسول بولس مرشدينا: «اذكروا مرشديكم الذين كلّموكم بكلمة الله، انظروا إلى نهاية سيرتهم فتمثّلوا بإيمانهم» (عب 13: 7).
إننا نعيّد في هذا اليوم بالذات للملافنة، ملافنة الكنيسة ومعلّميها وآبائها القديسين وخاصةً غريغوريوس وباسيليوس وسائر معلّمي الكنيسة. ففي هذا اليوم أحبائي نذكر ختانة الرب أوّلاً لأن الرب هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد وهو إلهنا الحيّ وهو عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا ويسوع الذي تفسيره الله يخلّص، فهو أنقذنا وخلّصنا وبرّرنا وقدّسنا وأهّلنا لنكون أولاداً لله بالنعمة وورثة لملكوته السماوي، وإنها لنعمة عظيمة أن يكون إلهنا معنا وأن نكون نحن معه.
ففي هذا العام الجديد، في هذا المستقبل المجهول الذي يرعب الكثيرين من الناس، نحن لا نخاف أبداً ولئن كنّا لا نعلم ما يخبّئ لنا، ولكننا نعلم علم اليقين أن هذا المستقبل هو بيد الله، وأن المسيح هو عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا، فإن كان الله معنا فمن علينا، لذلك نقول مع صاحب المزامير: أيضاً إذا سرتُ في وادي ظلال الموت لا أخاف شرّاً لأنك أنت معي. فليكن هذا شعارنا في بدء سنتنا وفي كل يوم وفي كل ساعة وكل لحظة من هذه السنة أن نكون مع المسيح فقد جاء في الكتاب المقدس: «أن أخنوخ سار مع الله ولم يوجد لأن الله أخذه» (تك 5 : 24)، وإن يوسف سار مع الرب ورغم التجارب التي طرأت عليه كان الرب معه فأنقذه ونجّاه من الهلاك وأنجح طريقه، فمن سار مع الله يُنعم الله عليه بالطمأنينة والسلام والأمان الدّاخلي مهما كانت حالته الظّاهرة مضطربة وعصيبة. فلنتّخذ الرب رفيقاً لنا في طريق الحياة ولنقتدِ بالرب في إتمام لوصايا والشّرائع والفرائض التي إنما قد سُنَّت لنا لتساعدنا على الحفاظ على نعمة الخلاص التي وهبها لنا لنبلغ أخيراً إلى الحياة الأبدية السعيدة.
نسأله تعالى أن يجعل سنتكم مباركة بشفاعة السيدة العذراء وآباء الكنيسة القديسين آمين.
عيد رأس السنة الميلادية (2)
«وأكرز بسنة الرب المقبولة»
(لوقا 4: 19)
في هذا اليوم المبارك أيها الأحباء تحتفل الكنيسة المقدسة بأعياد ثلاثة، أولاً بعيد ختانة الرب يسوع، وثم بعيد رأس السنة المسيحية، وأخيراً بعيد أحبار الكنيسة المقدسة الذين غادروا هذه الأرض إلى الخدور العلوية، كنيسة الأابكار المكتوبة أسماؤهم في السماء، والذين ما يزالون في الكنيسة على الأرض التي هي ملكوت الله على الأرض التي ندعوها الكنيسة المجاهدة التي تحارب إبليس وجنده وبعد أن ينتصروا ينتقلون إلى الخدور العلوية وينضمّون إلى زمرة زملائهم القديسين في ملكوت الله في السماء.
نتأمل بختانة الرب، الطفل يسوع ونذكر آية الرسول بولس القائل: «ولكن لمّا جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة مولوداً تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني»، فطالما ولد تحت الناموس فقد صار قدوة لنا جميعاً بحفظ الناموس والشريعة، وكان لا بد أن يكمل الناموس وبحسب ناموس موسى أن يختتن الطفل في اليوم الثامن من ميلاده، والأيام السبعة التي ما بين الختانة والولادة الجسدية لا تحسب ضمن حياة ذلك الإنسان، لذلك نحن لا نعيد عيد رأس السنة عندما نعيّد عيد ميلاد الرب يسوع بالجسد، إنما يوم الختان، ختان الرب لأنه بدء العهد ما بين الإنسان الذي ولد تحت الناموس وبين الله تعالى.
والختان كان قد بدأ رسمياً في عهد إبراهيم، وصار كعهد وعقداً بين اللّه تعالى وإبراهيم أب الشعوب ونسل إبراهيم، وعندما جاء موسى بشريعته ثبَّت هذه الشريعة، فكان كل ذَكَر يولد لذلك الشعب الذي في تلك الأيام اعتبر شعباً لله، لأنه ائتمن على الحفاظ على الناموس وعلى النبوات، يجب أن يختتن لكي يدخل بالعهد مع اللّه. وإن العهد القديم بكل نبوّاته شهد على الرب يسوع المسيح بكل تدبيره الإلهي السري والعلني بالجسد، فنحن نكرم العهد القديم وأسفار النبوات خاصةً، ولذلك يقول الرسول بولس أن الرب يسوع قد كمّل الناموس، فلو لم يولد تحت الناموس، لو لم يختتن المسيح في اليوم الثامن لما اعتبر في عِداد ذلك الشعب، لما سمح له أن يدخل المذبح، الهيكل، هيكل الرب، لما سمح له أن يكون في عداد ذلك الشعب أبداً ولكن ختن لأنه ولد من امرأة كما يقول الرسول بولس: ولد تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني، لنكون نحن أبناءً لله.
عندما كان الطفل يختتن في عهد شعب الله في العهد القديم كان يدعى باسم، أو يُطلَق عليه اسم، ولذلك عندما اختتن الرب يسوع وهو طفل يقول البشير لوقا في الإنجيل المقدس: «وسمي يسوع» كما دُعي من الملاك قبل أن حُبل به في البطن. كان يوسف قد شك بالعذراء مريم، متعجباً وهو يعرف أنها قديسة وهي تقية وتخاف الله، ولا يمكن أن تسقط في خطية كبرى، لكن أيضاً رآها حبلى، لابد أنها وضّحت له ما جرى لها وظهور الملاك وتبشيره إياها، كل تلك الأمور العجيبة ولكنه ولئن كان صدِّيقاً لم يصدق كل شيء، إنما افتكر بتخليتها سراً كما يقول الإنجيل المقدس لأنه يعرف أنها تقية وقديسة، قد يكون قد غرر بها أحد الأشرار. وظهر ليوسف الملاك جبرائيل في الحلم، قائلاً له: «يا يوسف ابن داود ـ سماه باسمه وبعشيرته ـ لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك، لأن الذي حبل به فيها هو من الروح القدس وستلد لك ابناً وتدعوه يسوع». إذن قبل أن يولد الرب يسوع بالجسد أعلن الملاك جبرائيل اسمه الحقيقي الذي أطلقه عليه الله الآب، ويشرح الملاك هذه التسمية التي هي خلاصة رسالة الرب يسوع، فيقول الملاك ليوسف في الحلم: «لأنه يخلص شعبه من خطاياهم»، فمعنى يسوع الله المخلص، لأنه يخلص شعبه من خطاياهم. وعندما خُتِن الطفل دُعي يسوع كما كان قد دُعي من الملاك جبرائيل الذي، ظهر في الحلم ليوسف.
نحن نسمى مسيحيين، هذا اسم شريف اسم مبارك، اسم يعطينا أيضاً النعمة لكي نكون في عداد شعب الله، فهل نستحق هذا الاسم المبارك؟
إن ناموس الختان قد ألغي في العهد الجديد ليس هناك ختان، الرسول بولس يقول: فإذا اختتنتم فالمسيح لا ينفعكم شيئاً، أبطل الختان، الذي كان علامة العهد بين شعب العهد القديم وبين الله وصارت المعمودية علامة العهد الجديد التي بها نغتسل من ذنوبنا ومن خطايانا وخاصّة من الخطيئة الجدية التي ورثناها عن آدم، ثم يقام العهد الجديد، ويسمى الطفل المعتمد باسمه، هذا الاسم الذي يدل على ما نحن عليه، مع غاية الأسف أننا كنا نسمى سابقاً بأسماء قديسين وقديسات وذلك لكي نقتدي بهؤلاء طيلة أيام حياتنا، مع غاية الأسف تركنا هذه العادة ونسمى أسماء كثيرة، نشكر اللّه أننا ما زلنا ندعو اسماً خاصاً بالمعمودية. أيها الأحباء علينا أن نفتكر به جيداً ونسمى لأن تسميتنا مع رسالتنا، تسمية المسيح يسوع أي الرب يخلص مع رسالته التي هي الخلاص، هذا العيد الأول الذي نعيد له اليوم.
والعيد الثاني هو عيد رأس السنة المسيحية باعتبار أنه بالختان تبدأ السنة لدى أي إنسان تبدأ حياته الروحية بإقامة العهد مع الله، ولا تحسب حياته الجسدية، سبعة أيام قبل الختان لا تحسب أبداً في عِداد حياته، نحن أيضاً تبدأ حياتنا بالمعمودية ونبدأ هذه السنة المسيحية بختان الرب يسوع بالعهد الذي أأأ أقامه الرب يسوع مع الآب السماوي بالنيابة عنا، لكي نبدأ عهداً جديداً مع الله، عهد النعمة، عهد الرحمة عهد الحنان، لا عهد الدينونة، ولا عهد السن بالسن والعين بالعين، السنة الجديدة نسميها السنة المقبولة، السنة المقبولة لدى اليهود كانت سنة اليوبيل تجري كل فيها كل خمسين سنة، وفيها أيضاً سنة اليوبيل إن كان لديك دين على أحد يمحى ولا تطالبه به، إن كان لإنسان عبد يُحرَّر، يحرر ذلك العبد لأن ديونه قد وفيت، وكانوا يسمون تلك السنة، السنة المقبولة، كيف ظهرت هذه السنة في حياة الرب يسوع، طبعاً لقد كانت موجودة في حياة العهد القديم، عندما جاء الرب إلى الناصرة حيث تربى (لوقا 4: 16ـ30)، وكان قد بلغ الثلاثين من عمره، وبهذه السن كان يحق للإنسان أن يجلس ويعلم، أن يعلم الناموس لا فقط أن يكون تحت الناموس، فالرب يسوع دخل المجمع، المكان الذي كانوا يعلمون فيه الناموس. دخل المجمع، وقام ليقرأ، كانوا يقرأون من قبل كتاباً اسمه كتاب النبوات باللغة العبرية، لكن كان موجوداً أيضاً من يترجم إلى اللغة الآرامية التي كانت لغة الشعب، «وقام يسوع ليقرأ فدُفع إليه سفر إشعياء النبي ولما فتح السفر وجد الموضع الذي كان مكتوباً فيه: روح الرب علي لأنه مسحني لأبشر المساكين أرسلني لأشفي المنكسري القلوب لأنادي المأسورين بالإطلاق والعمي بالبصر وأرسل المنسحقين في الحريّة وأكرز بسنة الرب المقبولة. ثم طوى السفر وسلّمه إلى الخادم وجلس وجميع الذين في المجمع كانت عيونهم شاخصةً إليه فابتدأ يقول لهم إنه اليوم قد تمّ هذا المكتوب في مسامعكم… وكان الجميع يشهدون له ويتعجّبون من كلمات النعمة الخارجة من فمه» (لو 4: 16ـ22). أنتم محررون من إبليس، من الشيطان، من الخطية، من الموت بالمسيح يسوع فنادى الرب أن كل أيام حياتنا هي سنة الرب المقبولة مباركة، وعندما نبدأ بعيد رأس السنة نتذكر هذا القول الذي عندما دفع السفر إليه وفتح السفر، فكانت خلاصة رسالته على الأرض هي أن ننادي للمأسورين بالإطلاق والعمي بالبصر ، أن يروا حقيقة الله وحقيقة الإيمان ويرسلوا المنسحقين بالحرية، وينادي بسنة الله المقبولة. فنعيد رأس السنة متمنين أن تكون جميع أيام السنة كلها، بركة وخيراً وتكون السنة سنة مغفرة، وسنة عبادة الله بالروح والحق.
والكنيسة أيضاً تعيد في هذا اليوم للآباء، أحبار الكنيسة، نترحم على الذين رقدوا بالرب وصارت أرواحهم في الخدور العلوية، يصلّون لأجلنا ويتشفّعون بنا لدى الرب وتتمنى للذين ما يزالون رعاة للكنيسة أن يكونوا رعاة صالحين فيها ولتقبل صلاتهم عن أنفسهم وعن الشعب وأن يجاهدوا الجهاد الحسن ويحفظوا الإيمان ولذلك تجتمع الكنيسة لتهنئهم بهذا اليوم الذي هو يوم تجدد فيه الكنيسة مع الرعاة والرعاة مع الكنيسة والشعب وأمام الله العهد أن يكونوا رعاة صالحين. أهلنا الرب لذلك أيها الأحباء وجعل سنتكم هذه الذي بدأنا بها ونحن نشكر الله الذي سمح أن تكتحل عيوننا جميعاً بنور هذه السنة، كان آخرون معنا في السنة المنصرمة لكنهم غادرونا إلى السماء وانتهت أيام جهادهم على الأرض ونحن سمح الرب أن نكون أحياء لنبدأ هذه السنة وقد أتيحت لنا فرصة جديدة لكي نتوب عن ذنوبنا وخطايانا ونجدد عهدنا مع الله لنكون مسيحيين صالحين بحسب الاسم الذي أخذناه كمسيحيين.
ليجعل ربنا هذه السنة مباركة لكم جميعاً أحبائي ولكل من يمت إليكم بصلة ويجعل أيضاً ثماركم ثمار توبة نصوح لكي نكون مرضيين لديه تعالى وكل عام وأنتم بخير.
رأس السنة الميلادية (3)†
في هذا اليوم المبارك أيها الأحباء حديثي إليكم يشمل ثلاث محطات، أولاً ختانة الرب يسوع، ورأس السنة المسيحية ثم عيد الآباء القديسين الذين أصبحوا في الخدور العلوية والذين لا يزالون في الجهاد في سبيل خدمة الإنجيل المقدس.
لوقا البشير يخبرنا وهويذكر حوادث ميلاد الرب يسوع بتسلسل منطقي، يُخبرنا عن ختانة الرب يسوع الطفل، يقول أنه في اليوم الثامن من ميلاد الرب يسوع – وهذهِ كانت عادة اليهود يختتنون الطفل الذكَر وبختانتهِ يُطلقون عليهِ إسماً – جاؤوا بهِ ليختتنوهُ وسموه يسوع، يقول لوقا كما كان الملاك قد سماه قبل الحَبَل به في البطن.
نحن نعلم أن ملاك الرب عندما ظهر ليوسف ليُطمئنه أن العذراء مريم بريئة وعفيفة وقديسة وأن الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس، أعطاه دالة أيضاً على أن يسمي هذا الطفل، قال له: وتسميه يسوع.
عادة السلطان والحق دائماً للأب أن يسمي ابنهُ، قال له تسميه يسوع، ومعنى يسوع الله يُخلص، ويشرح الملاك ذلك لأنه يخلص شعبه من خطاياهم. فعندما جاؤوا ليختتنوا الصبي سموه يسوع كما كان الملاك قد سماه قبل أن يُحبل به في البطن ونرى أننا في عيد ختان الرب يسوع نبدأ السنة الجديدة، والعالم يستغرب لماذا لم تبدأ السنة في يوم ميلاد الرب يسوع في الجسد.
أيها الأحباء: قبل كل شيء علينا أن نفهم ما معنى الختان .
الختان هو عهد قطعه الرب الإله بينه أولاً وبين إبراهيم وبعدئذٍ مع نسل إبراهيم، ثم بعهد موسى بينه وبين الشعب الذي تبع الناموس الذي وضعه الرب والفروض والشرائع والطقوس لذلك هذا العهد هو الذي يبدأ فيه الإنسان بحياته الروحية والأيام الثمانية الأولى بعد ميلاده لا تُحسب من حياته أبداً لذلك نحن نعيد عيد رأس السنة بختانة الرب لا في ميلادهِ بالجسد، ثم نرى أيها الأحباء أيضاً أننا لا نختتن شرعياً وناموسياً وطقسياً في المسيحية حتى أن الرسول بولس يقول: «ولئن اختتنتم فالمسيح لا ينفعكم شيئاً» ولا يُسمح للمسيحيين أن يُختتنوا إلا لأسباب صحية أما الوصايا الطقسية والدينية فقد أُلغيت، لأنَّ الرب بعد أن اعتمد جعل من المعمودية علامة عهد بيننا نحن الذين نؤمن بالرب يسوع وبين الله تعالى، وبذلك أخذ العماد مكان الختان وأصبح سبب ناموس وعهد بيننا وبين الله.
ونُعيد عيد رأس السنة في الختان لأنه لا تُحسب الأيام الثمانية الأولى من حياة الطفل أبداً، ويبدأ الطفل حياته في الختان، والآن يبدأ حياته بالمعمودية ولذلك أيضاً يجب ألا نؤخر عماد الأطفال لأنه بالمعمودية يبدأ العهد بينه وبين الله، وبالمعمودية أيضاً تزول عنا أيضاً الخطيئة الأصلية ونصبح أولاد لله بالنعمة كما قال يوحنا في الإنجيل المقدس: «الذين وُلدوا ليس من جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله» فنولد من السماء ونصبح أولاد السماء، أولاد الله بالنعمة.
هذا ما نسميه الختان أو العهد بين الإنسان وبين الله تعالى، بين هذا الشعب الذي اعتبر نفسه شعب الله، لأنهم كانوا الذين عرفوا يهوه قبل غيرهم والذين آمنوا به والذين قطعوا العهد معهُ.
ونعيد أيضاً أيها الأحباء عيد الآباء، الآباء القديسين الذين رقدوا بالرب وأصبحت أرواحهم مع الملائكة تُسبِّح الله ليلاً ونهاراً والذين لا يزالون في ساحة الجهاد الروحي على الأرض ضد إبليس، ضد الخطيئة، ضد كل تجربة.
كل هذه الأمور تجعلنا أن نعيِّد لهؤلاء الآباء القديسين الذين كما يذكرعنهم الرسول بولس عن نفسه وهو يشمل الآباء جميعاً «جاهدت الجهاد الحسن حفظت الإيمان»، ويقول أخيراً ووُضع لي إكليل البر الذي يهبهُ الرب لي ولكل المضطهدين من أجل الرب. فنُعيِّد نحن للآباء هؤلاء لأننا نتأمل في جهادهم ونقتدي بهم أيضاً في حياة الجهاد ضد الخطيئة وضد إبليس، ضد مغريات هذا العالم.
في عيد رأس السنة نُعيِّد للآباء أحبائي ونعيِّد للذين اتحدوا مع الله، قبل كان بالختان كما قلنا والآن بالمعمودية، نصبح أولاد الله.
ونعيِّد رأس السنة الجديدة وبرأس السنة علينا أن نتأمل قبل كل شيء شاكرين الله الذي أبقانا أحياء بالجسد مع أن كثير من الناس كانوا معنا ورقدوا إن كان في الرب أو رقدوا رقاد الموت، لكن نحن نشكر الله أننا لا نزال أحياء وهذه فرصة لنا لكي نتوب ونعود إلى الله وفرصة لنا أيضاً أن نتأمل في ماضي حياتنا ونفحص ضمائرنا وفرصة لنا أيضاً أن نضع أمامنا برنامج لحياة جديدة وسنة جديدة وأيام جديدة ونُحتِّم على أنفسنا أن نتجنَّب كل خطية وأن نتمسَّك بالفضائل المسيحية الحيَّة بهذا فقط نكون قد شكرنا الله الذي أبقانا أحياء.
فيجعل ربنا هذه السنة سنة بركة عليكم ويحفظكم وأولادكم، ويجعلنا جميعاً من أبناء الله بالنعمة لكي نستحق أيضاً أن نكون ورثة – إن كنا أبناء فنحن ورثة – بالمسيح يسوع لملكوت الله. ونعمته تشملكم دائماً أبداً آمين.
عماد الرب يسوع
عماد الرب يسوع
عمــــاد الـــــرب يـســــــوع (1)†
«كان صوت من السموات أنت ابني الحبيب الذي به سررت»
(مر 1: 11)
عاش الرب يسوع، بعد ميلاده العجيب في الجسد، كسائر أترابه في بلدة الناصرة، ولكنه امتاز عنهم باستقامته، ونقاء سيرته، والى ان بلغ الثلاثين من عمره، كان يعرف بالنجار ابن مريم (مر 6: 3) وابن النجار (مت 13: 55) أي ابن يوسف النجار، وقد صمت الأنجيل المقدس عن ذكر مجريات حياته اليومية في تلك الفترة الزمنية. فلم يذكر إلا زيارته للهيكل، عندما بلغ الثانية عشرة من عمره، السن التي كان الفتى اليهودي يدعى فيها ابن الشريعة، وعليه أن يحفظ الناموس والفرائض وإن كان موطنه لا يبعد كثيراً عن الهيكل عليه أن يزور الهيكل على الأقل مرة في كل عام ليظهر أمام الرب. ويذكر الأنجيل المقدس، أن العذراء مريم ويوسف خطيبها، فقدا الصبي يسوع بعد انتهاء زيارتهما لأورشليم، وإذ ظناه بين الرفقة، ذهبا مسيرة يوم في طريق عودتهما إلى الناصرة، ولما طلباه ولم يجداه بين الأقرباء والمعارف، عادا أدراجهما إلى أورشليم ليفتشا عنه «وبعد ثلاثة أيام وجداه في الهيكل، جالساً في وسط المعلمين، يسمعهم ويسألهم، وكل الذين سمعوه بهتوا من فهمه وأجوبته، فلما أبصراه، اندهشا، وقالت له أمه: يابني لماذا فعلت بنا هكذا، هوذا أبوك وأنا كنا نطلبك معذبين، فقال لهما: «لماذا كنتما تطلبانني ألم تعلما أنه ينبغي أن أكون في ما لأبي» (لو 2: 46 ـ 49). بهذه العبارة أعلن الرب يسوع حقيقة بنوته للّه الآب، هذه العقيدة السمحة التي أوضحها الآب السماوي بصوت جاء من السماء قائلاً للرب يسوع: «أنت هو ابني الحبيب الذي به سررت»، وسمع هذا الصوت الإلهي جمهور من الناس على ضفاف نهر الأردن، وكان يسوع يومذاك قد بلغ الثلاثين من عمره، وقد جاء من ناصرة الجليل إلى يوحنا ليعتمد منه(مت 3: 13)، وكانت المسافة بين ناصرة الجليل ونهر الأردن مسيرة يوم كامل، مشاها الرب يسوع، وحالما التقى يوحنا، طلب منه أن يعمده، ولكن يوحنا امتنع عن ذلك قائلاً له: «أنا المحتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي إلي، فأجاب يسوع وقال له: اسمح الآن، لأنه هكذا يليق أن نكمل كل برٍّ، حينئذ سمح له»(مت 3: 14 و 15). وهذا البر الذي أراد يسوع أن يكمله هو بر التواضع، الذي بدأ فيه بتجسده، إذ اختار العذراء مريم الفتاة الفقيرة اليتيمة المسكينة أمّاً له، لقداستها وطهرها ونقاوتها وعفتها، وولد منها في بلدة بيت لحم أفراته المتواضعة، في مغارة بسيطة، حيث قمطته ووضعته في مذود، وكرمته السماء، فأرسلت الملائكة لتبشر الرعاة البسطاء، ولتنشد ترنيمتها الخالدة «المجد للّه في الأعالي وعلى الأرض السلام والرحاء الصالح لبني البشر»(لو 2: 14). أما عماده من يوحنا، فقد كمل به البر، إذ قدم لنا أعظم مثل بالتواضع، عندما جاء إلى يوحنا المعمدان وطلب منه أن يعمده وكأنه أحد الخطاة المحتاجين إلى العامد ليتطهروا، وهو وحده، ممن لبس الجسد، بريء من الخطية. فإذا كان الخطاة قد اعترفوا بخطاياهم الشخصية ونالوا المغفرة بالتوبة التي قدموها على يد يوحنا الذي عمدهم معمودية التوبة، فإن الرب يسوع اعترف أمام يوحنا بخطايا البشرية التي وضعت على عاتقه بارادته، ولذلك دعاه يوحنا بعدئذ حمل اللّه الرافع خطايا العالم (يو 1: 29). وبعماده قدس الرب الماء، إذ لامس جسده الطاهر، كما كمل يوحنا أيضاً البر بخضوعه وطاعته للمسيح وتعميده اياه، وكرم الآب ابنه الوحيد لتواضعه. ففيما هو يصلي بعد خروجه من الماء انفتحت السموات وهبط الروح القدس عليه بهيئة جسمية مثل حمامة، وإذا بصوت من السماء سمعه كل الحاضرين قائلاً ليسوع: «أنت ابني الحبيب الذي به سررت» (مر 1: 11).
لقد انفتحت السموات التي كانت مغلقة في وجه الإنسان منذ سقوطه في وهدة الخطية، انفتحت أمام حمل اللّه المخلص الذي قدم بعدئذ ذاته لأبيه السماوي ذبيحة كفارية عن العالم فتمت على يديه المصالحة بين اللّه والإنسان(2كو 5: 19).
وإن هبوط الروح عليه كان أيضاً ليتعرف عليه يوحنا الذي قال بعدئذ: «وأنا لم أكن أعرفه لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء هو قال لي: ان الذي ترى الروح ينزل ويستقر عليه هو الذي يعمد بالروح القدس، وأنا عاينت وشهدت أن هذا هو ابن الله»(يو 1: 33 و34). فلم يكن المسيح بحاجة إلى أن يحل عليه الروح القدس، فهو مملوء نعمة وحقاً كما قال عنه يوحنا الرسول، بل هو الذي تجسد من الروح القدس ومن العذراء مريم، ولكن ظهور الروح القدس عند العماد بهيئة جسمية مثل حمامة كان لكي يميزه من بين الجمهور، وليذكرنا بما جاء في سفر التكوين القائل: «وكان روح اللّه يَرُفُّ على وجه المياه» (تك 1: 2).
أجل لقد ظهر الثالوث الأقدس لأول مرة في التاريخ، أمام الجماهير، في حادثة عماد الرب يسوع. ولذلك ندعو هذا العيد عيد الدنح «دنحو» أي الظهور والضياء والنور والبهاء، فالابن قد خرج من الماء بعد أن اعتمد من يوحنا، والروح هبط عليه من السماء بهيئة جسمية مثل حمامة، والآب نادى مخاطباً الابن من السماء قائلاً: «أنت هو ابني الحبيب الذي به سررت». وبعماده أسس الرب سر المعمودية، الذي جعله باباً للدخول إلى ملكوت اللّه على الأرض، ونيل المؤمنين المعمدين نعم التبرير والتقديس والتبني، وبصيرورتهم بنين بالنعمة فهم ورثة بالمسيح لملكوته السماوي.
وتتم المعمودية عادة باسم الثالوث الأقدس، كما رسم ذلك الرب يسوع ذاته، إذ أوصى تلاميذه قائلاً: «… فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والأبن والروح لقدس، وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به» (مت 28: 19 و20). وفي بدء طقس المعمودية، يعلن المؤمنون صورة إيمانهم، معترفين بالثالوث الأقدس الإله الواحد. فالوحي الإلهي الذي أعلن لنا منذ البدء، أن اللّه واحد، هو ذاته أعلن لنا أن هذا الواحد بالجوهر، هو ثلاثة أقانيم متساوية بالجوهر، وأن المسيح هو الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس ويدعى ابن اللّه الوحيد.
أجل، لقد أرسل اللّه يوحنا المعمدان ليهيئ الطريق أما الرب يسوع ابن اللّه الوحيد، وتنبأ أشعياء عن يوحنا بقوله: «صوت صارخ في البرية، أعدوا طريق الرب، اصنعوا سبله مستقيمة» (مت 3: 3). وكان يوحنا يكرز في برية اليهودية قائلاً: «توبوا لأنه قد اقترب ملكوت اللّه»، وكان الملاك جبرائيل يوم بشر أباه زكريا أن امرأته اليصابات ستلد له ابناً وتسميه يوحنا، قد وضّح رسالته بقوله: «لأنه يكون عظيماً أمام الرب وخمراً ومسكراً لايشرب، ومن بطن أمه يمتلئ بالروح القدس، ويرد كثيرين من بني اسرائيل إلى الرب إلههم، ويتقدم أمامه بروح ايليا وقوته ليرد قلوب الآباء إلى الأبناء والعصاة إلى فكر الابرار لكي يهيئ للرب شعباً مستعداً (لو 1: 10 ـ 17). وقام يوحنا برسالته خير قيام، وهيأ الشعب ليتوب ويعود إلى الله، ليستعد للعماد بالروح القدس ونار على يد ماشيحا المنتظر يسوع المسيح، الذي دعاه يوحنا «ابن اللّه» (يو 1: 37) هذه الحقيقة الإلهية التي كان الملاك جبرائيل قد أعلنها إلى العذراء مريم يوم بشرها بالحبل الإلهي بقوله: «وها أنت ستحبلين وتلدين ابناً، وتسمينه يسوع، وهذا يكون عظيماً وابن العلي يدعى.. أجاب الملاك وقال لها: الروح القدس يحل عليك، وقوة العلي تظللك، فلذلك أيضاً القدوس المولود منك يدعى ابن الله»(لو 1: 31 و35).
لقد أدرك الرسل الأطهار والتلاميذ الأبرار فحوى هذه العقيدة السامية بوضوح، وآمنوا ببنوة المسيح للّه الآب. فهامة الرسل بطرس قال للرب يسوع: «أنت هو المسيح ابن اللّه الحي» (مت 16: 16). ومرقس البشير تلميذ بطرس، يبدأ الإنجيل الذي كتبه بقوله: «بدء إنجيل يسوع المسيح ابن اللّه» (مر 1: 1). والرسول يوحنا بعد أن يبدأ انجيله بتسمية المسيح «الكلمة» الذي كان في البدء، يقول: «والكلمة صار جسداً وحلَّ فينا، ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب، مملوءاً نعمة وحقاً»(يو 1: 14). وفي ختام إنجيله يقول: «أما هذه فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن اللّه ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه»(يو 20: 31). وها نحن لانعترف بأية جماعة بأنها كنيسة مسيحية، ما لم يعترف أتباعها بان المسيح هو ابن اللّه الوحيد، و بحسب تعبير دستور الإيمان النيقاوي (325م) «إن المسيح مولود من الآب قبل كل الدهور، وهو نور من نور، إله حق من إله حق، وهو مساوٍ للآب في الجوهر…».
والمسيح ابن اللّه الأزلي، قد أعطانا أن نصير أولاداً للّه بالنعمة، بعد أن نولد من جرن المعمودية ميلاداً ثانياً من السماء، الأمر الذي وضحه الرب يسوع لنيقوديموس بقوله: الحق الحق أقول لك: «إن كان احد لا يولد من فوق لايقدر أن يرث ملكوت الله… الحق الحق أقول لك: إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لايقدر أن يدخل ملكوت الله»(يو 3: 3 و5). لذلك أوصى الرب تلاميذه قائلاً: «اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالانجيل للخليقة كلها. من آمن واعتمد، خلص، ومن لم يؤمن، يدن»(مر 16: 15 و16). إذن سر المعمودية ضروري للخلاص، ولذلك تسلمت الكنيسة من الرسل الأطهار والآباء القدامى الأبرار، ان تعمد الأطفال بناء على إيمان آبائهم خوفاً من أن يدركهم الموت في مرحلة الطفولة، وبذلك يخسرون ملكوت الله. وبهذا الموضوع يقول الرسول يوحنا: «أما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه، الذين ولدوا ليس من دم ولامن مشيئة جسدٍ ولا من مشيئة رجلٍ بل من الله» (يو1 :12 و13).
فنحن جميعاً اسرة واحدة، ولدنا من أم واحدة هي المعمودية، التي أسسها الرب يسوع يوم اعتمد من يوحنا، كما ارتأى بعض آبائنا السريان. والمعمودية ترمز إلى موت المسيح ودفنه وقيامته، والرسول بولس يقول بهذا الصدد: «فدفنا معه بالمعمودية للموت حتى كما أقيم المسيح من بين الاموات بمجد الآب، هكذا نسلك نحن أيضاً في جدة الحياة»(رو 6: 4).
ولذلك نحن السريان نعمد المؤمنين بتغطيسهم في جرن المعمودية ثلاثاً. وهكذا يرمز إلى دفن المعتمد مع المسيح، وإن إخراجه من جرن المعمودية يرمز إلى قيامته مع المسيح. وهكذا يدفن المعمَّدون مع المسيح ليقوموا معه في حياة جديدة.
وإننا لنؤمن إن ما جرى على نهر الاردن، عندما اعتمد الرب يسوع، يجري بصورة غير منظورة وغير مسموعة لأي مؤمن عندما يعتمد باسم الثالوث الأقدس على يد كاهن شرعي، وحتى للأطفال الذين يعمدون بناء على ايمان آبائهم وأشابينهم. هذا الإيمان هو الاقرار بعقيدة الثالوث الأقدس، التي وإن فاقت إدراك عقولنا البشرية، ولكنها حقيقة ثابتة، شاء اللّه أن يكشف لنا سرها بصورة ملموسة لايتطرق إليها الشك عند عماد الرب يسوع الذي شهدت السماء يوم عماده بحقيقة بنوته الطبيعية لله، كما كررت السماء الشهادة عند تجلي الرب يسوع على الجبل أمام ثلاثة من تلاميذه، حيث جاء صوت الآب قائلاً: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت له اسمعوا»(مت 17: 5). فعلينا أن نقرن الإيمان بالأعمال الصالحة فنسمع أي نطيع الرب يسوع ابن اللّه الحي. لأننا بعد أن كنا قد قمنا معه في الحياة الجديدة، وبتعبير آخر، يوصينا الرسول قائلاً: «إذ خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله، ولبستم الجديد الذي يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه» (كو 3: 9). كما يقول أيضاً: «لأن كلكم الذين اعتمدتم باالمسيح قد لبستم المسيح، ليس يهودي ولايوناني ليس عبد ولا حر، ليس ذكر وأنثى، لأنكم جميعاً واحد في المسيح يسوع» (غل 3: 27 ـ 28). فقد وحدنا المسيح في أسرته الروحية، إذ ولدنا جميعاً من أم واحدة هي المعمودية، ووهبنا أن نكون أعضاء حيَّة في جسده السري المقدس الذي هو الكنيسة.
فلنسلكن كأبناء السماء، سفراء للسماء، ولتكن لغتنا لغة السماء، وأعمالنا أعمال السماء، لنستحق كبنين بالنعمة أن نرث ملكوت السماء. الحالة التي أتمناها لي ولكم بنعمته تعالى، آمين.
عيـد الدنــح (2)†
يسرني أيها الأحباء أن أحتفل بالقداس الإلهي في كاتدرائيتنا بدمشق، ويشاركني بذلك بهذا اليوم المبارك أحبار أجلاء، شاركوني قبل أول أمس الأحد، بالاحتفال برسامة الابن الروحي الفاضل الربان يلدا مطراناً على أبرشية الولايات المتحدة وكندا وأمريكا الشمالية، لكنائسنا من شعبنا من الهند، كنائب بطريركي على تلك الأبرشية، وقد شاركنا أيضاً بالاحتفال بالقداس، ويدعى مار تيطس يلدو، ففيما نهنئه ونهنأ تلك الأبرشية أيضاً، وقد صلينا لأجله ولأجل الأبرشية ليوفقه الرب في خدمته له المجد، الخدمة التي تحتاج إلى فعلة حقاً وخاصة إلى أحبار أجلاء مثل نيافته. وأشكر الأحبار جميعاً وأخص بالشكر منهم نيافة الحبر الجليل مار غريغوريوس جوزيف مطران كوشين في الهند، والسكرتير العام لمجمع كنيستنا السريانية الأرثوذكسية في الهند، الذي جاء يمثل غبطة الجاثليق مار توماس الأول ومجمعنا المقدس في الهند شاكرين إياه، متمنين إلى كنيستنا المقدسة في كل مكان التقدم والازدهار لتكون حقاً كنيسة الرب يسوع، تمثله على الأرض، وتخزن في مخازنها السامية الروحية كل النعم الإلهية التي منحنا إياه الرب، بأسراره السبعة لنكون خدام أمناء له نوزعها على الناس جميعاً المؤمنين به.
أيها الأحباء: تحتفل الكنيسة بعيد الغطاس (الدنح)، أي بعيد عماد الرب يسوع على يد يوحنا المعمدان. وآية كلامنا في هذه المناسبة مقتبسة من إنجيل الرب بحسب البشير مرقس الإصحاح الأول العدد الحادي عشر حيث يقول: «وصار صوت من السماء أنت ابني الحبيب الذي به سررت».
إن ذلك الصوت وجه إلى الرب يسوع الذي هو حقاً ابن الله الوحيد الحبيب. الرب يسوع عاش كسائر اليهود بعد ميلاده العجيب بالجسد من العذراء مريم والروح القدس، كان كسائر أبناء بلدته صبياً دخل مدرسة المجمع في السادسة من عمره تعلم القراءة والكتابة، وكان الفتى في العهد القديم يتعلم القراءة والكتابة بدراسته كتب الناموس والشريعة، هكذا فعل الرب يسوع عندما كان طفلاً وصبياً، وتعلم أيضاً إلى جانب ذلك مهنة النجارة، المهنة التي كان خطيب سيدتنا العذراء مريم يمتهنها. وفي الثانية عشر من عمره، كما نقرأ في الإنجيل المقدس زار الهيكل، كما كان على كل يهودي أن يفعل وخاصة الذين كانوا يعيشون بمواضع وأماكن قريبة جغرافياً من الهيكل كما كان الرب يسوع حيث تربى في الناصرة ونقرأ أيضاً كيف فقده والداه أي العذراء مريم وخطيبها يوسف في الهيكل، وكيف بعد أسبوع عادا أدراجهما إلى الهيكل يفتشان عنه ووجداه جالساً في وسط العلماء في الهيكل يباحثهم ويتحدث معهم وهم متعجبون من حكمته السامية. وعندما عاتبته أمه وخطيبها معها قال لها: أما تعلمان أنه ينبغي أن أكون فيما لأبي. كان يعتبر ابناً ليوسف وهذه حكمة إلهية لكي تصان العذراء مريم من أولئك الناس الذين رأوها حبلى وهي العذراء التي ولم تزفّ رسمياً على يوسف وقد حبلت بل أيضاً ولدت ابناً، فصانها يوسف واعتنى بها بعد أن أعلن له الملاك: لا تخف يا يوسف ابن داود أن تأخذ مريم امرأتك لأن الذي حبل به فيها هو من الروح القدس، وسوف تلد ابناً وتدعو اسمه يسوع هذا اسمه أي الله المخلص، لأنه يخلص شعبه من خطاياهم. عاش الرب يسوع وامتهن النجارة مثل يوسف حتى بلغ الثلاثين من عمره حين ذاك فقط كسائر اليهود أصبح يحق له أن يتكلم في المجتمع بل وأن يجلس ويعلم لذلك آن الأوان أن ليبدأ تدبيره الإلهي العلني بالجسد، في تلك الأيام ظهر يوحنا المعمدان، ظهر وهو يعمّد الناس في نهر الأردن، من هو يوحنا يا ترى؟ الكل كان يظن أن يوحنا كان هو المسيح لماذا؟ أن جبرائيل قد بشر أباه زكريا في هيكل البخور عندما كان يقدم البخور أمام الرب أن امرأته أليصابات ستلد له ابنا يدعى يوحنا، هذا يكون عظيماً خمراً ومسكراً لا يشرب، هذه الحوادث ذكرها لنا الإنجيل المقدس. ثم ذكر أيضاً أن الناس ظنوا أن يوحنا هو المسيح، كان المؤمنون بين اليهود الذين يقرأون النبوات ويتمسكون بالشريعة والفرائض الإلهية من صوم وصلاة وتقديم الصدقات كما كان يفعل زكريا وامرأته أليصابات، كانوا ينتظرون مجيء الماسيا ورأوا العلامات التي ظهرت في ولادة يوحنا منذ كان طفلاً تدل على أنه ربما يكون الماسيا المنتظر. هيرودس سمع ذلك، وهيرودس كان يظن أنه سيكون له منافس يزيل عنه الملك، فذهب جند هيرودس ليأخذوا هذا الطفل يوحنا، ويقتلوه ليتخلص هيرودس منه.
لا نستطيع أن نفهم معاني الإنجيل المقدس أيها الأحباء ما لم نقرن ذلك بمجريات وقرائن الحوادث في تلك الأيام، وأيضاً ما لم نسمع ونصغي جيداً إلى التقليد المقدس، لنفهم معنى الإنجيل، فالتقليد يعلمنا أن زكريا عندما جاء الجند إليه وطلبوا أن يأخذوا الطفل يوحنا، قال لهم: لا أعطيكم إياه من الرب أخذته من المذبح وأتركه على المذبح وليفعل الرب ما يشاء. فآخذ الطفل إلى المذبح وخطفه ملاك الرب، خطف الطفل وأخذه إلى البرية، ويقول أيضاً بعض الآباء: أن الجند قتلوا زكريا ما بين المذبح والهيكل. هل هو ابن برخيا أم غيره نعلم أن زكريا قد استشهد، لأنه أتم إرادة الرب.
في البرية تربى يوحنا ربته أمه أولاً حتى الثامنة من عمره، ثم رباه الملائكة لكي لا يعرف الناس ولا يحابي أحداً عندما يخرج للمناداة بالتوبة لأنه قد أعد وأرسل ليكون صوت صارخ في البرية أعدوا طريق الرب، اصنعوا سبله مستقيمة كما قال عنه النبي.
كان التقليد لدى اليهود أيها الأحباء أن المسيح لا يأتي ما لم يتب الشعب اليهودي إلى الله، ذلك الشعب الذي حاد عن الشريعة والناموس، وتمرّغ بالخطايا الشخصية وزاد الخطية الجدية شراً ذلك الشعب كان يؤمن إذا تاب ولو لحظات أنّ المسيح سيأتي، ولكننا نعلم أن الله أرسل يوحنا ليعد ذلك الشعب ليتقبل فكرة تجسد الرب يسوع فكرة الخلاص فكرة نيابة المسيح عن العالم جميعاً لكي يفديهم بدمه الكريم.
جاء الشعب إلى يوحنا ليعتمد، ما هي المعمودية ولماذا تكون المعمودية؟ كانت المعمودية طقساً لدى اليهود، كل وثني إذا ما آمن بالله وأراد أن يصير يهودياً كانوا يعمدونه، ولكن يوحنا عندما جاء ورأى الشعب متمرغاً في وهدة الخطايا، الخطايا التي يذكرها الرسول بولس ـ يذكر بعضها ـ في رسالته إلى روما في الإصحاح الأول عندما رأى يوحنا كل ذلك جاء إلى عبر الأردن ينادي بالتوبة، وجاء الناس جميعاً كباراً وصغاراً ممن انكسرت قلوبهم، وقدموا توبة لله حقيقية، جاءوا يعترفون بخطاياهم وينالوا العماد كأنهم كانوا وثنيين ليصيروا يهوداً. فكان يوحنا يغسلهم بالماء ويغطسهم أيضاً بنهر الأردن لكي ينالوا مغفرة الخطايا ويستعدوا لتقبل سر تجسد الرب يسوع وسر الفداء الإلهي.
المسيح يسوع الذي كان حتى ذلك الحين يدعى النجار ابن يوسف الذي كان يتميز عن أترابه وأبناء بلدته وشعبه بأنه كان رجلاً نورانياً مستقيماً تقياً كان رجلاً يمتاز عن الآخرين متحلياً بالفضائل ومتمسكاً بالناموس والشريعة. جاء إلى نهر الأردن، رآه الناس وتعجبوا سائلين أنفسهم: كيف يأتي هذا البار كخاطئ؟ هم يعرفونه أنه رجل بار تقي قديس. جاء إلى يوحنا، يوحنا يأتي إليه الخطاة لينالوا المغفرة، أما يسوع فكان بريئاً من كل خطية، وسمعنا بعد بدء تدبيره الإلهي بالجسد يعلن للجماهير قائلاً: من منكم يبكتني على خطية. جاء إلى يوحنا المعمدان ليمثّل البشرية بكل خطاياها، جاء إلى يوحنا معترفاً بخطايا الشعب. يوحنا رفض أن يعمده، أنا أحتاج أن أعتمد منك، قال له: دع الآن أن نتمم كل بر، نتمم كل ملتزمات التواضع والدعة، فإذا كانت الكبرياء قد أبعدنا عن الله فلا يمكننا أن نتقرب إلى الرب إلا بالتواضع، لذلك اقترب الرب يسوع ليعترف بخطايا الشعب الذين ورثوا الخطية الجدية ثم أضافوا إليها خطاياهم الشخصية.
واعتمد من يوحنا، وخرج من الماء، وحالاً عندما خرج بدأ يصلّي، هذا درس قيّم لنا نحن الذين اعتمدنا باسم المسيح أن نستمر بعلاقتنا مع الله بالصلاة. وانفتحت السموات يقول الإنجيل المقدس وصار صوت من السماء أنت ابني الحبيب الذي به سررت. فالذي كان يعرف بأنه يسوع هو ابن يوسف والذي أعلن أنه ينبغي أن يكون فيما لأبيه وفي بيت أبيه أعلنته السماء أنه ابن الله الآب بنفسه أعلن بصوته أن يسوع هو ابنه الحبيب، سمعه كل الناس ولكي يتميز عن الآخرين هبط الروح القدس عليه بشبه حمامة، ورآه الجمهور، ورآه يوحنا، يوحنا كان قد وعد أن الذي يرى الروح القدس يحل عليه هو هو ماسيا المنتظر، لذلك أيها الأحباء ظهرت عقيدة الثالوث الأقدس في عماد الرب من يوحنا، فالابن الإله المتجسد قد اعتمد ورآه الناس والآب ينادي من السماء هذا ابني الحبيب الذي به سررت، والروح القدس يحل عليه بشبه حمامة. وفي ذلك اليوم نهج الرب سر المعمودية وطقسها أن يعتمد الإنسان بالماء على يد كاهن شرعي كما كان يوحنا المعمدان، وبإيمان بعد أن يعترف بخطاياه، وصارت المعمودية طريقاً للتمسك بالله، وإعلان العهد معه كما كان في العهد القديم الختان علامة عهد بين الناس المؤمنين بالرب وبين الله تعالى، وكان ضرورياً جداً في العهد القديم لمن يكونوا ضمن شعب العهد القديم، فالمعمودية ضرورية جداً وقد أعلن ذلك الرب يسوع بأنها ضرورية للخلاص من آمن واعتمد خلص ومن لم يؤمن يدان. اذهبوا قال لتلاميذه: وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم بسم الآب والابن والروح القدس، أي الثالوث الأقدس الذي ظهر عند عماد الرب على يد عبده يوحنا.
هذا اليوم نعيد بهذه الذكرى المقدسة أيها الأحباء، ونشكر الله أننا قد نلنا العماد باسمه ونحن أطفال، وعماد الأطفال ضروري جداً لئلا يرقدوا رقاد الموت قبل أن يبلغوا سن الشباب وينالوا العماد ولا عجب فالآباء القديسون عندما حددوا أن يكون ذلك من عهد الرسل اقتدوا باليهود الذين كانوا يختنون الأطفال في اليوم الثامن من ولادتهم على إيمان آبائهم وينالون نعمة عظيمة جداً أنهم يصيرون بني العهد يبدأون وهم أطفال العهد مع الله ليكون ضمن شعبه المقدس المختار.
هل اعتمدنا باسم الثالوث الأقدس، وأصبحنا للمسيح وكما أعلن المسيح وهو ابن الله الحي بالطبيعة أثناء عماده كذلك نعلن نحن بالمسح يسوع مخلصنا، فقد دفنا معه بالمعمودية للموت كما قال الرسول بولس، وكما قام المسيح من بين الأموات كذلك نحن أيضاً نسلك في جدة الحياة، والحياة الجديدة. ونصبح أبناء لله بالنعمة للمسيح يسوع ربنا، ما أعظم هذه النعمة! فعلينا أن نسلك في جدة الحياة كأبناء الله، كأبناء السماء لنجعل حياتنا على الأرض شهادة للمسيح يسوع لنكون مستحقين وقد نلنا نعمة البنوة لله مستحقين أيضاً كأبناء أن نرث ملكوته السموي في مجيئه الثاني الحالة التي أتمناها لي ولكم أحبائي بسم الآب والابن والروح القدس آمين.
عيـد الدنــح (3)†
«أنت ابني الحبيب الذي به سُررتُ»
(مر11:1)
صوت من السماء جاء معلناً بنوة الرب يسوع لله الآب، فالرب يسوع ولد من عذراء ولد تحت الناموس كما يقول الرسول بولس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني. وكان يُعرف من اليهود بأنه ابن مريم لكن في الوقت نفسه أنه ابن يوسف البار. هذه الإرادة الربانية والعناية الإلهية لصيانة الرب يسوع والعذراء مريم من اليهود كافة عندما ولد المسيح من الروح القدس ومن مريم العذراء دون زرع رجل، لذلك شاء الله أن يحمي العذراء مريم ممن كانوا يتربصون لهذه الأم الفاضلة القديسة التقية، ولكن شاء الله أن يكون لها خطيب وهو يوسف البار لكي يظن الناس أنها حبلت وولدت من هذا الخطيب، لأنه بحسب ناموس موسى كان الخطيب ممكن أن يعرف خطيبته معرفة زواج لأنه قد عُقد له عليها قبل أن تزف إليه، لذلك نحن نقرأ في الإنجيل المقدس أن الشكوك ساورت يوسف فقط، لأنه هو يعرف أن العذراء حبلت، وسألها فأخبرته بما أخبرها الملاك عندما بشرها وقال لها: «الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك لذلك القدوس المولد منك يُدعى ابن الله».
وجاء الأوان بعد أن كمل الرب يسوع الناموس وكملته العذراء مريم مع خطيبها، فأعتبر المسيح الطفل الصغير في عداد شعب الله يوم ذاك، اُختتن في اليوم الثامن، قُدم للهيكل في اليوم الأربعين، وبعدئذ نراه أيضاً باعتبار الناصرة قريبة من أُورشليم تبعد عن نهر الأردن مسافة يومٍ كاملٍ مشياً على القدمين، فكان لا بد لإنسانٌ يعيش بقرب أُورشليم أن يزور الهيكل وخاصة عندما يبلغ الثانية عشر من عمره الذي يدعى في تلك السن أنه ابن الناموس ليكمل الناموس، يوم ذاك حل بالعذراء مريم مصيبة كبيرة، ففي طريق عودتها مع خطيبها يوسف ظنا أن الطفل يسوع وكان عمره اثنا عشر سنة مع الأقرباء، فسارا مسيرة يوم وعندما جلسوا ليرتاحوا اكتشفوا أن الطفل ليس بينهم، فعادوا إلى أُورشليم يفتشون عنه فوجدوه في الهيكل يحاور الكهنة والكتبة والفريسيين ويجادلهم ويشرح لهم العقائد السامية التي لا بد للإنسان أن يعرفها عن الله وعن الخلاص والفداء، عندما عاتبته أمه يا بني قالت له، تعبنا أنا وأبوك، اعتبرت يوسف أباً له في الوضع، لأنه اعتبر أباً له تجاه الناس، فأجابها: ألا تدرياني بأنه ينبغي أن أكون فيما لأبي، أي أن أكون فيما لأبي السماوي، هو الأب الحقيقي.
لم تكن البنوة والأبوة الروحية السامية قد أُعلنت للناس، ولأول مرة وضحها الرب يسوع ولكن آن الأوان عندما بلغ الثلاثين من عمره جاء إلى نهر الأردن والمسافة أيضاً ما بين الناصرة ونهر الأردن يوماً كاملاً، شهد نهر الأردن وبتواضعه أُعتبر كبقية الناس عندما جاء إلى يوحنا ليعتمد منه، وكان العماد للخطاة الذين يأتون تائبين معترفين بخطاياهم، ثم بعدئذ يغطسهم يوحنا في نهر الأردن بعد أن يعترفوا بالخطايا فتغفر خطاياهم ويعتمدوا عماد التوبة، معمودية التوبة التي هي معمودية يوحنا المعمدان.
يوحنا ألهم من الرب أن هذا هو المسيح فقال له أنا محتاج أن أعتمد منك، قال له المسيح الرب: «دع الآن ينبغي أن نكمل كل برٍ»، أن يُكمل المسيح البر ليس فقط بتواضعه التام إذ ولد بشراً وهو الله خالق الكون ومبدعه، بل أيضاً يُحصى مع البشر ومع الخطاة بالذات، وهو الذي كان قد قال: «من منكم يبكتني على خطية»، وهو الوحيد ممن لبس الجسد خالي من أي ذنب أو خطية أو جريرة، ومع هذا للطاعة أطاع يوحنا الرب يسوع وعمده، آباؤنا القديسون يقولون إن الرب اعترف، اعترف بخطايا العالم أمام يوحنا ، أظهر ليوحنا أن العالم بحاجة ماسة لغفران خطيئته، بل خطاياه، الخطية الجدية والخطايا الفعلية التي كان يقترفها بني البشر، لكن يوحنا لم يستطع أن يغفر الخطايا، خاصة خطية أبوينا آدم وحواء، الخطية التي كانت موجهة إلى الله الآب مباشرة، لذلك كان يحتاج إلى فدية تساوي الله بالذات، هذا مما جعل الرب يسوع يقدم بعدئذ نفسه فدية عن الخطاة، فنالت البشرية مغفرة الخطايا التي اقترفها أبوانا الأولان آدم وحواء.
الذين رأوا الرب يسوع يعرفون أنه ابن مريم، إذ كما نقرأ في الإنجيل المقدس أنهم كانوا يظنون أن خواته عندهم في الناصرة، والإنجيل المقدس يذكر أيضاً أنه ابن يوسف، وعندما يذكر الأنسال وإلى مجيء الرب يسوع كانت تحفظ أسماء الآباء والأجداد الذين يسلسل منهم أي إنسان يهودي، فكان يُذكر أنه على ما يُظن مثلما يقول الإنجيل المقدس أنه ابن يوسف، ولكنه ابن الله.
وعندما اعتمد يخبرنا الإنجيل المقدس، وخرج من الماء بعد المعمودية ووقف ليصلي وانفتحت السماء وهبط الروح القدس على هامته بشبه حمامة وجاء الصوت من السماء من الآب السماوي قائلاً: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررتُ».
هذا هو الابن الوحيد الحبيب الذي سُر به الله الآب، هو الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، وسرور الله الآب بهذا الأقنوم الذي هو مساوي له في الجوهر هو التواضع والوداعة وإتمام كل بر في سبيل خلاص البشرية. وطبعاً عندما هبط الروح القدس بشبه حمامة ليميزه عن بقية الناس، وليُعلن أن الصوت الذي جاء من السماء عَنا فقط الرب يسوع، ويوحنا قال: كأنه لم يكن يعرف الرب يسوع، لماذا؟ لأن يوحنا عاش في البرية، فعندما أمر هيرودس أن يُقتل أطفال بيت لحم وما جاورها من ابن سنتين فما دون جاء الجند وقد سمعوا قصة يوحنا وولادته العجيبة، كما عرفوا عن زكريا وأن الملاك قد بشره، جاءوا إلى زكريا ليأخذوا الطفل، فقال لهم زكريا أنه قد أخذ الطفل من الهيكل عندما بشره الملاك بالحبل به وولادته، وهو لن يسلمه إلى أحد بل إلى الهيكل ، فأخذه إلى الهيكل وطرحه هناك فاختطفه، اختطف الطفل يوحنا ملاك الرب وأخذه إلى البرية وتبعته أمه إليصابات وتربى في البرية، كانت أمه معه إلى أن بلغ الثامنة من عمره، ثم رباه الملائكة، عرف بعدئذ أن إليصابات أم يوحنا نسيبة السيدة العذراء، لكن لم يكن يوحنا قد رأى السيد المسيح في الجسد، ولذلك عندما جاءه الروح أعلن ليوحنا أن الذي ترى الروح هابطاً على هامته فذلك هو الفادي والمخلص، ورأى يوحنا ذلك وتأكد أن هذا هو المخلص، ولذلك الإنجيل المقدس يُعلمنا أنه في اليوم الثاني يوحنا رأى السيد المسيح قادماً، أمام الجمهور أشار إليه قائلاً: «هوذا حمل الله الرافع خطايا العالم».
أجل على نهر الأردن وبعد أن اعتمد الرب يسوع أعلنت عقيدة الثالوث الأقدس، الآب من السماء ينادي: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررتُ»، والابنُ قد اعتمدً وخرج من الماء وهو يُصلي، والروح هبطت على هامته بشبه حمامة، الثالوث الأقدس، الآب والابن والروح القدس، ظهر الله بأقناميه الثلاثة على نهر الأردن، وأُعلنت هذه العقيدة السامية، وليس هذا فقط، لأول مرة تنفتح السماء أمام الإنسان، الإنسان الذي طُرد من الفردوس ووقف على باب الفردوس ملائكة ليس ملاك واحد، عندما نقول ملاكاً، والملاك الذي كان للعقاب ماسكاً سيفاً بيده ومنع الإنسان من أن يعود إلى الفردوس، في ذلك اليوم وبعد عماد الرب يسوع عندما انفتحت السماء وجاء الصوت من السماء معلناً أن الرب يسوع الناصري هو ابن الله الحي وهو ابن الله الحبيب، حينذاك انفتحت السماء أمام الإنسان وابتدأ الغفران بواسطة الرب يسوع بالذات الذي بعدئذ أكمل الغفران عندما قال قد أكمل على الصليب المقدس ففدى البشرية، ليس فقط بتجسده بل أيضاً بآلامه وبعدئذ بقيامته.
هذا الدرس الذي نأخذه من عماد الرب يسوع من يوحنا، بل أيضاً نرى الأمر العظيم الذي جرى إذ فتح الرب يسوع سر المعمودية بالذات، لذلك يقول أنه أصبحنا نحن بمعمودية الرب يسوع وبإعلان البنوة ليسوع أن نكون أولاد لله، يقول أنه بالتبني، جاء هو الابن الوحيد لكي يقول أنه بالتبني، والتبني كما يذكر الإنجيل بحسب يوحنا الإنجيلي، أننا بواسطة المعمودية نولد من فوق لا من رغبة بشر بل من الله، الذين يقول ولدوا من الله،هذه الولادة الروحية، الولادة بالنعمة نلناها عندما اعتمد الرب يسوع وفتح لنا باب المعمودية ليفتح بذلك باب الفردوس أمام كل النفوس التي تعتمد بالرب يسوع. ولذلك ولئن كانت المعمودية قبل الآم الرب يسوع وعمل الفداء ولكن الرسول بولس يقول لنا: «إننا مع المسيح اعتمدنا»، ونحن أيضاً بمعموديتنا بالمسيح يسوع كما قام المسيح من بين الأموات في اليوم الثالث كذلك نحن أيضاً بعد المعمودية نقوم في جدة الحياة أو الحياة الجديدة إذ نصبح أولاداً لله بالنعمة، ولهذا نحن بحسب طقسنا السرياني المقدس الذي ورثناه من الآباء الذين أخذوه من الرسل عندما نُعمد أطفالنا، ومعمودية الطفل أيضا ناموسٌ وشريعةٌ أخذناها من الرسل عندما كانوا يبشرون ويعمدون الناس، البيت كله الأطفال، الكبار، الشيوخ يعتمدون لكي ينالوا الخلاص ويصبحوا أولاداً لله بالنعمة، كما حل الروح القدس على الرب يسوع بعد العماد، كذلك بعد العماد مباشرة بمسحة الميرون المقدس يحل الروح القدس دون أن نراه ولكن نؤمن به على أطفالنا عندما ينالون سر المعمودية المقدسة ويصبحون أولاداً لله بالنعمة. إن كان المسيح ابن الله بالطبيعة فنحن أولاد الله بالنعمة بوساطة المسيح يسوع ربنا.
هذه هي المعمودية التي أصبحت علامة عهد بيننا وبين الله، ولذلك عندما كان العهد سابقاً بين الله وبين نسل إبراهيم أولاً ثم للتابعين لشريعة موسى أُلغي الختان وأصبحت المعمودية هي العلامة الواضحة والسر العظيم ما بين العالمين الإنسان المسيحي المؤمن وبين الله تعالى، فما أسمى المعمودية أيها الأحباء، ولذلك نحن نعمد أطفالنا لكي ينالوا هذه النعمة العظيمة، وإذا غادروا هذه الحياة وهم في سن الطفولة نرى أن ملائكتهم الذين كما قال الرب يسوع يرون وجه الآب السماوي قد جعلوا من هؤلاء الأطفال ملائكة في السماء يتنعمون مع الرب إلى الأبد. فعلينا أن نؤمن بالمعمودية المقدسة، المعمودية الشرعية على يد كاهن شرعي، وفي الكنيسة المقدسة حيث ينال الإنسان أيضاً مسحة الميرون أي الروح القدس بالذات.
نسأل الرب يسوع كما سأله آباؤنا عندما يوجهونا كلاماً هو دعاء للإنسان المسيحي أن تثبت فيه المعمودية، أي يفهموا ما هذا السر العظيم سر التبني، ونؤمن كما أن الرب يسوع عندما خرج من نهر الأردن ووقف يصلي هبط عليه الروح القدس بشبه حمامة وجاء الصوت: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررتُ». فكل واحد منا عندما يعتمد يأتي الصوت من السماء يقول: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررتُ»، البنت أو الابن نفس الشيء نحن أولاد الله ولنثبت بالبر الذي نلناه ومغفرة الخطايا بواسطة إقامتنا العهد مع الله بالمعمودية المقدسة، لتثبت معنا المعمودية إلى الأبد آمين.
قطع رأس يوحنا المعمدان
قطع رأس يوحنا المعمدان
قطع رأس يوحنا المعمدان†
تحتفل الكنيسة المقدسة في هذا اليوم المبارك بذكرى استشهاد القديس العظيم مار يوحنا المعمدان.
يوحنا المعمدان هذا الذي يسمى السابق، هو الذي سبق الرب بميلاده قبل الرب بالجسد بستة أشهر، وكان يشهد عن الرب أنه هو المسيح المنتظر، كما أنه نال نعمة عظيمة من الرب إذ استحق أن يضع يده على هامة الرب ويعمّده، والرب يسوع قال عنه: لم يقم من بين مواليد النساء نبي أعظم من يوحنا المعمدان ولكن الصغير في ملكوت الله هو أعظم منه، هذا يدل على أن يوحنا نال نعمة عظيمة من ربنا حتى أن الرب لقّبه أنه أعظم الأنبياء. كيف نال هذه العظمة؟
نحن دائماً نقيس الأمور بمقاييس بشرية، فنرى العظماء إما أن يكونوا علماء، أو أغنياء، أو عظماء القوم لهم مراكز عالية سامية مرموقة، هذه العظمة بالنسبة إلينا، ولكن العظمة الروحية هي التي يستحقها الإنسان عندما يكون قريباً من الله، عندما ينال شهادة من ربنا أن هذا الإنسان هو عظيم. فيوحنا، من ينظر إلى يوحنا يراه إنساناً يلبس ألبسة من وبر الإبل ويتمنطق بمنطقة من جلد كما قال عنه الكتاب المقدس ويأكل جراد الصحراء وعسل الصحراء، حتى ذلك العسل لم يكن حلواً أيضاً.
عندما نراه كذلك نظن أنه إنسان بسيط، ربما حقير ولكن في نظر الله أعظم الأنبياء لأنه كان قريباً من الله، لأنه كان يكمل مشيئة ربنا. نحن نعلم أنه عندما ولد، بشر الملاك أباه زكريا بالحبل به، إن أليصابات امرأة زكريا ستحبل، وكانت عاقراً وشيخة كبيرة في السن، إذن الحبل به كان بأعجوبة كذلك نقرأ أنه نشأ طفلاً في البرية، الملائكة أنشأته، فخرج إلى البرية وعمره ثلاثين سنة ليبشر ويعلن عن قرب مجيء المسيح وينادي الناس: توبوا فقد اقترب منكم ملكوت الله. ظهرت عظمته بجرأته وشجاعته بإعلان الحق، عدم خوفه من الناس، يقول كلمة الحق التي هي كلمة السماء، حتى أنه وبخ هيرودس وكان ملكاًُ وبخه لأنه أخذ امرأة أخيه فيلبس في حياة أخيه، فحقدت عليه تلك المرأة، وفي ذكرى مولد هيرودس عندما ينهمك الناس في مناسبات كهذه بالسكر والعربدة والاستهتار واللاأخلاقية ينسون الله ويظلمون الناس. يذكر الإنجيل المقدس أنه في ذلك اليوم وفي تلك الليلة المظلمة الغاسقة رقصت ابنة هيروديا فأعجبت الملك وطلب منها قائلاً: كل ما تطلبينه ألبيك، فطلبت رأس يوحنا المعمدان وذلك بعد استشارة والدتها.
نتعلم من هذا أيها الأحباء أننا عندما نعاقر بنت الألحان وسلافة والخمر وما شابه ذلك نبتعد عن الله، لأننا نفقد إدراكنا وعندما نكون فيوضع خارج نطاق الأخلاق والآداب والدين نصير بعيدين جداً عن الله، فهؤلاء كانوا بعيدين عن الله، عندما طلبت تلك الفتاة المستهترة رأس يوحنا المعمدان على طبق. يوحنا المعمدان كان قد وضع في السجن لأنه شهد للحق، ففي تلك الليلة المظلمة الظالمة جاء السياف إلى السجن ليقطع رأس يوحنا المعمدان عن صلاته على الأغلب ويقطع رأسه ويأتي بتلك الهامة على طبق أمام الجمهور، ويقول التقليد الكنسي: أن تلك الفتاة المستهترة أخذت الرأس وعادت ثانية ترقص ثم غرقت في البحيرة المجمدة التي كانت ترقص عليها كما يقول بعض الآباء وقطع رأسها. المهم أن يوحنا استشهد وبشهادته أيضاً برهن على أنه حقاً أعظم الأنبياء لأنه قال الحق وسفك دمه في سبيل هذا الحق، ولأنه تواضع جداً إذ أعلن عندما جاءه الكتبة والفريسيون ظانين أنه هو المسيح، أعلن أن ليس هو المسيح، ليس مجرد إنسان. كان منذ الأزل وإنه كان قبل يوحنا وإنما بالجسد جاء بعده، وإنه أعظم منه وقال يوحنا أيضاً: أنا لست أستحق أن أنحني وأحل سيور حذاء هذا المسيح الذي هو مخلص العالم، وأعلنه أيضاً أنه هو حمل الله الرافع خطايا العالم.
ليبارك الرب كل من يتشفع بيوحنا المعمدان، كما نهنئ كل من سمي باسم يوحنا وحنا وجان، وهذه الأسماء التي إنما يدعى فيها الناس من آبائهم وهم أطفال لكي يتذكر هذا الطفل حتى نهاية حياته، يقتدي بهذا القديس النبي العظيم مار يوحنا المعمدان. وليبارك الرب كل من يتشفع بيوحنا المعمدان. ونعمته تشملكم دائماً أبداً آمين.
الأحد الأول بعد الدنح
الأحد الأول بعد الدنح
الأحــد الأول بعـــد الدنــح (1)†
«إذ كان سائراً على ساحل البحر رأى سمعان المدعو بطرس وأندراوس أخاه يلقيان الشبكة في البحر إذ كانا صيادين فناداهما قائلاً هلما ورائي لأجعلكما صيادي الناس»
(مت 4: 18-20)
من إنجيل الرب الذي كتبه متى لليهود يظهر لنا أن الرب يسوع كان في الناصرة وعندما سمع أن يوحنا قد أسلم انتقل إلى الجليل إلى كفرناحوم هناك بدأ باختيار تلاميذه ودعوتهم والجليل هو المكان المناسب جداً ليختار الرب منه أول تلاميذه فالجليل كان في شمال البلاد وهو على حدود الأمم وسمي / / بلغتنا السريانية المقدسة التي كان ينطق بها هذا الشعب أي الدائرة وسمي دائرة الأمم فكان خليطاً من الناس من اتجاهات دينية عقيدية اجتماعية وسياسية عديدة لذلك كان الشعب أيضاً هناك يتقبل الأفكار الجديدة لأنه قد اختلط بالأمم، جليل الأمم كانت المنطقة الأولى التي فيها رأينا الرب ينشر بشارته وينادي بما نادى سابقه توبوا فقد اقترب ملكوت الله، كان سائراً على ساحل البحر وبالحقيقة ما نسميه بحراً هنا هو بحيرة طبرية فرأى اثنين من الصيادين سمعان المدعو بطرس وأندراوس أخاه، يقول متّى كانا صيادين فدعاهما، لا نظن أننا عندما نقرأ هذه الآية المقدسة إن الرب يسوع قد صادف هذين الرجلين للمرة الأولى فهذان الرجلان الأخوان لا بد أنهما التقيا بالرب يسوع مرّات عديدة قبل هذه المرة واستمعا إلى بشارة الإنجيل ربما في الناصرة أو في مكان آخر وكانا على استعداد لتقبل دعوة الرب يسوع لهما بل أن قبل ذلك كانا في عداد تلاميذ يوحنا المعمدان ولا نظن أنهما لأنهما كانا صيادي سمك كانا جاهلين كلا فكان كل يهودي في تلك الأيام كان لابد أن يدخل مدرسة المجتمع في بلدته ويتعلم القراءة والكتابة ويقرأ الأسفار المقدسة وكان يبدأ بالدراسة وعمره ست سنوات وإلى جانب الدراسة كان يتعلم مهنة ما ليحصل على لقمة العيش وسمعان و أندراوس كانا غيورين كثيراً كما كان عندئذ عندما دعا الرب يعقوب ويوحنا أيضاً كانا صيادين وسمعان و أندراوس كانا قد تفاعلا مع كرازة الرب يسوع وبشارته الإنجيلية فعندما دعاهما الرب تركا الشباك وتبعاه، من المناسب جداً أن يدعى الصياد ليصير صياداً للناس بعد أن كان صياداً للسمك وصياد السمك كما يعرف أغلبنا يتعب كثيراً يسهر كثيراً يسافر كثيراً ويصطبر كثيراً فهو يلقي شباكه ليصطاد أسماكاً قليلة أو كثيرة، فتعبه بعد أن يصطاد هذه الأسماك يكون قد نُسي ويحصل ما يحصل عليه من أرباح كثيرة أو يسيرة قليلة ولكن عندما يحصل صياد الناس على هذه الأرباح ليست له بل لمن أختاره ليكون صياداً للناس صياد السمك كصياد الناس عليه أن يثابر وصياد الناس كصياد السمك عليه أن يصطبر وكما أن صياد السمك عليه أن يخفي نفسه حتى ظله عن الأسماك وإلا هربت، كذلك صياد الناس عندما يختاره الرب يسوع يذهب ويصطادهم ليس له بل للمسيح عليه أن يخفي نفسه ويعلن المسيح فقط لأنه يصطادهم للمسيح ويمتاز عن صياد السمك لأنه صياد السمك عندما يصطاد الأسماك يميتها ولكن صياد الناس عندما يصطادها في شبكة الإنجيل ليعطيها حياة بالمسيح يسوع ربنا وعليه أن يخفي ذاته ويعلن المسيح، تصوروا في البرية عندما قال الرب لموسى أن يرفع الحية النحاسية ومن لدغته الحيات السامة يتطلع على الحية النحاسية فيشفى حالاً وإلا مات فتصوروا لو أن موسى وقف أمام الحية النحاسية وظهر هو وأخفى الحية النحاسية كم من بني إسرائيل في ذلك الحين قد يكونوا قد ماتوا لأن موسى يكون قد حجب الحية عن نظرهم كذلك إذاً صياد الناس عليه أن يعلن المسيح إذا كان يظن إنه هو الذي يُعلن بدل المسيح يعني ذلك أنه قد أهلك الناس لأن الناس لا يحيون إلا بالمسيح وليس هو سوى إنسان دعي فلبى الدعوة فذهب للصيد فاصطياده للناس ليس له بل للمسيح يسوع ومع المثابرة ومع الصبر ومع الجلد ومع الأتعاب الكثيرة هناك أمرٌ مهم جداً أن يصطادهم للمسيح فيتوكل بعمله على المسيح، مرة بعد قيامة الرب ظهر لتلاميذه وقال لهم ماذا عندكم هل عندكم إدام أيها الغلمان فقالوا له تعبنا الليل كله ولم نصطد شيئاً عندما يحاول صياد الناس مثل صياد السمك بدون الاتكال على الله يحاول أن يعمل ليلاً ونهاراً بإرادته الذاتية وبفكره وبكبريائه وظنه إنه بقوته يستطيع أن يقوم بهذه الرسالة يسهر الليل كله ويتعب ولكنه يفشل إن لم يأخذ من الرب يسوع تعليماته إن لم يتكل على الرب يسوع بعمله إن لم يعش كما يحق لإنجيل إلهنا، لذلك المسيح قال لتلاميذه يوم ذاك ألقوا الشبكة من الجانب الأيمن فعندما ألقوها كادت الشبكة تتمزق من كثرة السمك وكانت أنواع كثيرة من السمك الرب يسوع دعا سمعان ودعا أخاه أندراوس وكانا قد تجاوبا مع رسالته الإلهية رسالة التوبة كما دعا بعدئذ يوحنا أيضاً في ذلك النهار، يوحنا وأخاه يعقوب وتركا والدهما زبدي في السفينة وتبعا الرب ونحن نعلم أن والدة يعقوب ويوحنا كانت تخدم الرب يسوع وكان اسمها سالومي ولكن لا نعلم ماذا كان مصير أبيهما لعله كان أيضاً في عداد المؤمنين بالرب ونعلم أن هؤلاء التلاميذ كانوا أول التلاميذ الذين اختارهم ثم اختار بقية الإثني عشر جميعاً واختار السبعين دعاهم فلبوا الدعوة فأرسلهم لأنهم تخرجوا في مدرسته الإلهية مدة ثلاث سنوات ونيف وتعلموا أن رسالته السامية التي حملوها إلى العالم هي رسالة التوبة «توبوا لأنه اقترب ملكوت الله» وملكوت الله في داخلكم فملكوت الله إذاً هو طاعة الله والعمل بوصاياه والعودة إلى حالة البر والقداسة لكي يعود الإنسان عن طريق التوبة إلى حالة يتمكن فيها بعد أن ينال الخلاص بدم المسيح أن يكون في شركة مع الله. لبى التلاميذ الدعوة واجترحوا المعجزات ونادوا بالإنجيل وبعد أن صعد الرب يسوع إلى السماء كان قد منحهم الرتب الكهنوتية الثلاث للإثني عشر فجعل منهم شمامسة عندما أرسلهم اثنين اثنين للتبشير ثم كهنة بعد قيامته حيث نفخ في وجوههم وأعطاهم الروح القدس في العلية ثم بعدئذ أساقفة عندما رفع يديه وبارك الاثني عشر قبل صعوده إلى السماء أعطاهم هذه الموهبة السامية لكي يقدسوا ويكرسوا أبناء الله المؤمنين بالمسيح يسوع ليكونوا أعضاء في كنيسته ليعطوا ثماراً بل أيضاً يدعوهم إلى هذا الكهنوت العام ليكونوا شهوداً تحمل رسالة التوبة إلى العالم أجمع هذه هي الدعوة السامية لم يدعو الرب رسله وتلاميذه إلى جنة غناء في هذه الحياة بل إلى أتعاب إلى تحمل اضطهادات عديدة وصنوف العذاب وفي الوقت نفسه إلى رسالة التوبة لخلاص الناس وخلاص الناس ليس بهين فعلى الإنسان أن يهتم بخلاص نفسه أولاً ليكون المثال لخلاص الآخرين ولا ينالوا مكافأة من أي إنسان أو حتى من الله في هذه الحياة إن مكافأتهم في السماء لذلك نسمع الرسول بولس يقول عن نفسه إنه قد جاهد الجهاد الحسن وحفظ الإيمان وأكمل السعي ويقول أنه قد حفظ له في السماء في ذلك اليوم، اليوم الأخير إكليل البر الذي يهبه الرب الديّان العادل ليس فقط له بل لكل من ينتظر مجيء الرب ثانية لينال هذه المكافأة فالذين يدعوهم الرب ويلبون الدعوة إذاً يكونون أهلاً لهذه الدعوة لحمل رسالة التوبة إلى العالم بعد جهادهم سيدعوهم ثانية في اليوم الأخير ليقول لهم تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت أعد لكم منذ إنشاء العالم هذه الدعوة السامية التي سيلبيها أولئك الذين جاهدوا الجهاد الحسن الذين نشروا البشارة الإنجيلية الذين كانوا ليس فقط كهنة كانوا مؤمنين شهوداً للمسيح يسوع بالإيمان بالسيرة الصالحة فيرثوا معه ملكوته السموي الحالة التي أتمناها لي ولكم بنعمته تعالى آمين.
الأحــد الأول بعـــد الدنــح (2)†
«وبعدما أسلم يوحنا جاء يسوع إلى الجليل يكرز قائلاً: توبوا فقد اقترب منكم ملكوت السموات»
الغاية القصوى من تجسد الإله هي أن يعيد إلى الإنسان النعمة التي فقدها في الخطية والإنسان الذي أصبح عدواً للسماء، الإنسان الذي قال عنه أحد الأنبياء: «إن خطاياكم قد فصلت بينكم وبين إلهكم». هذا الإنسان بدلاً من أن يتقرب إلى الله بأعمال البر ليتصالح مع الله ولئن كان ذلك غير ممكن بدون الوسيط المخلص ولكن على الأقل الذين أرضوا الله بأعمالهم في العهد القديم والذين آمنوا بوعود الله الذين قيل عنهم أنهم يحسبون أنفسهم غرباء على هذه الأرض قد نالوا بعدئذ نعمة التبرير والتقديس بل التبني أيضاً عندما جاء المخلص وأنقذهم بدمه إذن المسيح بمجيئه إلى هذا العالم بتجسده وبعمل الفداء برر هذا الإنسان الخاطئ نال البر به من آمن به وتمسك بشريعته وكان في حالة نعمة أي كان باراً عندما غادر هذه الحياة بإمكان الإنسان أن يبقى في حالة البر وهو جسد يخطئ ما أعظم النعمة التي نلناها من الله إذ نهج لنا سبيل التوبة، الرب يسوع في بدء تدبيره الإلهي العملي بالجسد بعد أن كمل الزمان بعد أن أتم كل بر كما قال ليوحنا بعد أن اعتمد وأعلنت السماء أنه ابن الله وبعد أن صام أربعين يوماً وأربعين ليلةً وبعد أن أُسلم يقول مرقس أُسلم يوحنا جاء يسوع إلى الجليل ينادي بالتوبة توبوا قال لهم الرب وأعلن أن ملكوت الله قد قرب قال قد كمل الزمان وتمت النبوءات فلا بدّ للإنسان أن يتوب وأن يؤمن بالإنجيل فالتوبة التي نادى بها الرب هي العودة إليه تعالى لم ينادِ وحسب بل عملياً تقدم إلى الخطاة عاشر العشارين الذين كانوا مرذولين ممن يدّعي البر من الكتبة والفريسيين فكانوا في واد وأولئك في واد وبذلك ظهر البر المزيف لدى أولئك الذي ادّعوا القداسة واعتبروا أولئك الناس الخطاة بعيدين عنهم وعن الله، الرب أوضح للناس أن البر لا يكون إلا بالتوبة والعودة إليه لأن الجميع يقول بولس الرسول أخطأوا وأعوزهم مجد الله ولهذا كان لا بد للإنسان من أن يلبي نداء الرب وأن يتوب إليه تعالى، انتقدوا الرب لأنه عاشر العشارين وأكل مع الخطاة ولكنه قال لهم لم آت لأدعو أبراراً بل خطاة إلى التوبة والرسول بولس يلخص رسالة المسيح أنه قد جاء لأجل الخطاة ويقول بولس: «الذي أولهم أنا» فالمسيح جاء يدعو الخطاة إلى التوبة وضرب لنا أمثالاً ليعلمنا كيف نتوب ليضع الثقة في قلوبنا لا أن نهرب من الله لأننا خطاة بل أن نتقدم إليه كما نحن بخطايانا لأن الله قد ترك التسعة والتسعين خروفاً على الجبل وجاء يفتش عنا نحن الخروف الضال ويعلم أننا قد ضللنا يعلم أننا قد تورطنا في الخطية يعلم أننا ضعفاء كما يعلم أننا حتى إذا أردنا العودة ليس بإمكاننا ما لم تكن نعمته معنا لذلك فتّش عنا وجدنا وضعنا على منكبيه وأتى بنا إلى حظيرة الخراف بل أيضاً وجد بعضنا كالدرهم المفقود ووجد المؤسسة الإلهية تكنس بيتها بشخص تلك المرأة وتجد ذلك الدرهم الواحد من عشرة وتفرح وتدعو جاراتها ليفرحّن معها بل أيضاً ضرب لنا مثالاً هو من الأمثلة المهمة جداً في الكتاب المقدس مثل الابن الضال وجد فيه الإنسان الذي قد أنعم عليه بعيش رغيد ولكن الخطية كانت تساوره والشيطان يغرّه فطلب أن يترك بيت أبيه إلى حرية زائفة هي العبودية بالذات طلب من أبيه الميراث. عادة كان الميراث لدى ذلك الشعب شعب العهد القديم أن يرث البكر ضعف كل واحد من الأولاد الآخرين مع هذا فهذا الابن الأصغر طلب الميراث من أبيه ولا يحق له ذلك لأن أباه كان بعد على قيد الحياة أبوه أعطاه الميراث فذهب إلى كورة بعيدة وهو غني وشاب والغني يحتاط به الأصدقاء ويكثرون لأنهم يستغلون غناه وجهالته، في حياة خطية عاش ذلك الإنسان بعيداً عن بيته الشرعي هناك فقد كل شيء، حدث جوع نافس الخنازير وهو يعمل عند إنسان خاطئ بعيد عن الله يتاجر بالخنازير التي كان لحمها محروماً على الذين تبعوا شريعة العهد القديم، نافسها بأكل الخرنوب وأكل الخرنوب كما يقولون يعطي قابلية للإنسان ليأكل وإذا كان جائعاً زاد جوعه ألماً، مرة جلس إلى نفسه وتذكر حياته السابقة وقال لنفسه إن العديد من العمال من الخدم يتوفر لهم الطعام بل أيضاً يزيد وأنا أموت جوعاً ههنا أقوم الآن وأذهب إلى أبي وأقول له أبتاه أخطأت إلى السماء وقدامك فاجعلني كأحد عبيدك بأسمال بالية بأوساخه أوساخ الخنازير بجوع وعطش ونحن نمدح الجوع للبر والتقوى والعطش إلى ماء الحياة، في ذلك الوضع لم يكتف ذلك الخاطئ بالتفكير بل قام وعاد إلى أبيه كان الأب ينتظره وأحب الأولاد هو الولد الذي ابتعد عن الدار حتى يعود إليه والولد الذي ضل حتى يعود إلى الصواب، كان الأب بانتظار ابنه الضال خرج واحتضنه واستقبله، بدأ الابن الضال بل الابن الشاطر لأنه عاد إلى الأب بذكائه بدأ يقول لأبيه أخطأت إلى السماء وقدامك نرى أنه يقول أخطأت إلى السماء وعندما نستعمل كلمة سماء إنما نعني الله بالذات ففي العهد القديم عندما يقرأ الكتاب المقدس ويأتي إلى كلمة الله يتهيب ولا يلفظ هذه الكلمة بل يقول ربي أو السماء فعندما يقول الابن الضال أخطأت إلى السماء يعني إلى الله وهذا يعني أيضاً أن كل خطية نقترفها ولئن نشعر بأنها ليست ضد الله وهي ضد القريب لكنها في الوقت نفسه تكون ضد الله لأننا نكون قد خالفنا بها شريعة الله، لم يدعه يكمل العبارة أخطأت إلى السماء وقدامك واجعلني كأحد عبيدك احتضنه أدخله البيت جاء بأسماله بأوساخه أمر بأن يذبح الكبش المسمّن وأن تقام الوليمة أمر بأن يعطى الثوب الثمين أمر أيضاً أن يعطى الخاتم والخاتم كان دلالة على الثقة كان يحق له أن يختم أية معاملة بالنيابة عن أبيه أعاد إليه الثقة أعاد إليه رتبة البنين دعا الناس ليفرحوا معه لأن ابنه هذا كان ميتاً فعاش وكان ضالاً ووجد هذا المثل يشجعنا نحن الخطاة أن نأتي بخطايانا بعد أن نفتكر بأننا قد أخطأنا إلى الله بعد أن نفتكر أننا مصممون أن لا نعود إلى الخطية بعد أن نعترف بخطيتنا لنأتي إلى الآب السماوي ليعيدنا إلى رتبة البنين. أما الابن الأكبر وقد سمع أصوات الطرب في البيت لم يرغب بعد أن علم أن أباه قد أقام مأدبة لعودة ابنه إليه لم يرغب أن يدخل البيت هنا نعلم أننا أحياناً عديدة نحن الذين ندّعي البر والتقوى نكون سبباً لهروب الناس من الله لتمرغهم بالخطية لابتعادهم عن كنيسة الله وحتى إذا قبلهم الله لا نقبلهم نحن، الأب خرج إليه وأدخله الدار ولئن اعترض ذلك الابن أن الأب لم يقم له حفلة طيلة مدة خدمته له وهو مطيع له جاء الابن ليشارك الجميع مضطراً لكن في الوقت نفسه نرى حنان الآب السماوي الذي يلتفت إلينا إذا ادعينا البر وإذا اعترضنا عليه تعالى لأنه يقبل الخطاة كما اعترض الفريسيون على الرب يسوع بل يذكرنا أن حتى ملائكة السماء تفرح بخاطئ واحد يتوب، التوبة بابها مفتوح أمامنا نحن الذين آمنا بالمسيح يسوع وهو يدعونا دائماً إلى التوبة، رسالة الكنيسة هي رسالة المسيح ورسالة المسيح أنه جاء ليدعو الخطاة إلى التوبة جاء لا ليهلك الناس بل ليخلصهم لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية، تقبل توبتنا أحبائي حتى في اللحظات التي تغادر أرواحنا أجسادنا إلى السماء ولكن متى يكون ذلك؟ لا نعلم لذلك علينا أن نكون مستعدين للتوبة في كل لحظة فمن هو المحظوظ كاللص الذي آمن بالمسيح وهو على الصليب ليدعوه ليدخل معه الفردوس في ذلك اليوم، فلنتب أحبائي لأن الرب يدعونا إلى التوبة يدعونا بلسان الرعاة والكهنة الأصدقاء يدعونا لننال الخلاص به فقد فدانا بدمه الكريم ونادانا لنأتي إليه فاليوم هو يوم الخلاص علينا أن نتوب اليوم لئلا نفقد الفرصة ونهلك لا سمح الله ولتكن نعمة الله شاملة إياكم دائماً أبداً آمين.
الأحــد الأول بعـــد الدنــح (3)†
«وإذ كان يسوع ماشياً عند بحر الجليل أبصر أخوين سمعان الذي يقال له بطرس وأندراوس أخاه يلقيان شبكة في البحر فإنهما كانا صيادين، فقال لهما هلمّ ورائي فأجعلكما صيادي الناس، فللوقت تركا الشباك وتبعاه»
(متى 4: 18ـ 20)
أيها الأحباء عندما سمع الرب يسوع أن يوحنا ألقي في السجن، هكذا يقول لنا الرسول متى بحسب الإنجيل الذي دونه لليهود، حينئذ انتق من الناصرة إلى الجليل، الجليل المنطقة الشمالية من تلك البلاد، كانت تسمى جليل الأمم (غليلا) بلغتنا ولغة السيد المسيح اللغة السريانية المقدسة أي الدائرة ولذلك دعيت دائرة الجليل أو الأمم، عندما جاء ليبشر العالم ويخلصه، بدأ باليهود، بتعليمهم، بتبشيرهم، بتذكيرهم بالنبوات التي قيلت عنه، واعتبروا ـ أي اليهود ـ الشعب الذي حافظ على النبوات والناموس فحق لهم أن يدعوا لملكوت الله أولاً ثم جاء أوان التبشير لجميع الشعوب، جاء الرب إلى الجليل، الجليل كانت خليطاً من الناس كانت قريبة من الأمم، ولذلك أيضاًَ اليهود انفتحوا للعالم في تلك المنطقة، عرفوا انهم ليسوا وحدهم في هذا العالم، وليسوا وحدهم تحت رحمة ربنا، وإن الخلاص لا يكون لهم وحدهم، ولكل للعالم أجمع، جاء إلى الجليل، ويقول معلمنا متى الرسول: أنه عندما كان الرب يسير بجانب بحر الجليل، وبحر الجليل هذا هو بحيرة طبريا رأى تلميذين، رأى شخصين، رأى أخوين، سمعان الذي دعي بعدئذ بطرس وأندراوس أخاه، فعداهما، بدأ الرب يدعوا له تلاميذ ليحملوا رسالته الإلهية، وينشروا بشارته في العالم أجمع، دعاهما وكانا صيادين كانا قد ألقيا شبكتهما لاصطياد السمك، دعاهما هلما ورائي قال لهما، فتركا الشبكة وتبعاه، ما أجمل أن يلبي الإنسان دعوة الرب، ولكن نعلم أن دعوة الرب لم تكن فجأة، كان الرب قد أعد هذين التلميذين الأخوين الصيادين قبل ذلك، لا بد أنهما كانا قد استمعا إلى تبشيره الإلهي، وشاهدا معجزاته الباهرة لا بد أنهما كانا قبل ذلك قد واظبا على الصلاة ليأتي الماسيا ويخلص العالم فإنهما كانا في عداد تلاميذ يوحنا المعمدان، أولئك الذين كانوا غيارى وآمنوا بما قاله يوحنا عن الماسيا المنتظر، وربما كانوا أيضاً في عداد أولئك الذين استمعوا للصوت من السماء بعد عماد الرب يسوع وهو يصلي، سمعوا الآب يقول: أنت هو ابني الحبيب الذي به سررت، ورأوا الحمامة الروح القدس يهبط على هامته ليميزه عن بقية الناس، لا بد أنهما سمعا أيضاً يوحنا وهو يقول عن الرب في اليوم التالي: هوذا حمل الله الذي يرفع خطايا العالم، ولذلك كانت لهما مقدمة لتقبلهما دعوة الرب يسوع، هكذا يفعل الروح القدس يهيئنا، فإن كنا ننصت إليه نستجيب لدعوة الرب، هلم واتبعاني لأجعلكما صيادي الناس، فلم يكن بطرس وأندراوس صيادين وحسب، كانت مهنتهما صيد الأسماك، ولكن في الوقت نفسه كانا قد درسا الناموس والشريعة والنبوات، وكانا مؤمنين ومنتظرين مجيء الماسيا فلبيا الدعوة، ما بين صيد السمك وصيد الناس أمور مشتركة جداً، صياد السمك يسهر الليالي يواظب على إلقاء شبكته ينتظر بهدوء وسكينة، بل يخفي نفسه أيضاً وحتى خياله عن السمك، صياد الناس الذي إذ ما تبع الرب يسوع، إذا ما صح أصبح مبشراً بالإنجيل المقدس، إذا ما اهتم بخلاص الآخرين عليه أن يكون صبوراً أن لا ينفر من السمك، عليه أيضاً أن يواظب على هذا العمل قد يصادفه أناس شرسين غير مؤمنين، بل غير مؤدبين أيضاً عليه أن يتحمل ذلك بصبر ، ليتمكن أن يصطاد الناس بشبكة الإنجيل المقدس. كذلك أحبائي عليه أن يخفي نفسه، لا يمكن أن يظهر صياد السمك للأسماك ويصطادها، إنها تهرب حتى من خياله، كذلك الذي يرسله الله لاصطياد الناس في شبكة الإنجيل عليه أن يخفي نفسه، عليه أن يظهر المسيح أمام الناس. لنتطلع إلى الماضي هنا نرى التضحية ونكران الذات، نحن لا نعمل لأنفسنا بل للرب يسوع، قد دعينا لنصطاد الناس، من يعمل لنفسه فإنه يفشل، ما لم يطيع شريعة الرب وأوامره يكون حقاً فاشلاً في عمله، لنعود إلى الوراء إلى عهد موسى ونرى هلاك الناس الخطاة بلسع الحياة في البرية، وأمر الله موسى أن ينصب حية من نحاس في وسط المحلة، ومن لسعته حية نارية فليلتفت حالاً إلى الحية النحاسية فينال الشفاء، لنتطلع إلى ذلك بإيمان. لو كان موسى أنانياً ويبشر بنفسه لا بالله تعالى لوقف أمام الحية، وعندما تلسع حيات النار بني إسرائيل كانوا يتطلعون فلا يرون الحية بل يرون موسى، كانوا يهلكون، هكذا من يحمل رسالة الإنجيل، من يردي أن يصطاد الناس بشبكة الإنجيل المقدس عليه فقط أن يشير إلى الرب، الرب هو المخلص، ولكن إذا هو توسط بين الرب وبين أولئك الناس بحيث أنهم لا يرون الرب بل يرون هذا الإنسان الأناني فإنهم يهلكون. صياد السمك يصطاد السمك ليقتلها ويأكلها، أما صياد الناس بشبكة الإنجيل يصطاد الناس لكي يمنحهم بالمسيح يسوع ربنا الحياة، وبذلك ليس له قوة أن يعطي الحياة ما لم يعطها الرب يسوع لأولئك الذين يدعوهم إلى المسيح يسوع ربنا، الرب اختار الرسل والمبشرين السبعين لكي يحملوا رسالته الإنجيلية، ليحملوا شبكة الإنجيل ويخرجوا إلى العالم ويصطادوا الناس، أولئك على الرغم من المواهب التي ينالونها لا يمكن أن ينجحوا ما لن يسلكوا بموجب أوامر الرب وتوجيهاته، نذكر في هذه المناسبة كيف أن التلاميذ قد تعبوا الليل كله ليصطادوا السمك فلم يتمكنوا، وظهر لهم الرب وأرشدهم ليلقوا بالشبكة من الجهة اليمنى فاصطادوا سمكاً كثيراً حتى كادت الشباك تتخرق، فنحن إذا ما تعبنا كثيراً الليل كله محاولين أن نصطاد الناس بشبكة الإنجيل وقد دعانا الرب لذلك فإننا نكون فاشلين ما لم نستعن بتعاليم الرب وإرشاده، ونفعل إرادته الإلهية كما فعل الرسل لنصطاد أولئك الناس للمسيح يسوع ربنا، إن كنا نعمل لنفسنا فنحن فاشلون، إن كانت الأنانية قد استولت علينا، والمادة قد حطمت قلوبنا وأفكارنا وشغلتنا ليلاً ونهاراً فإننا لا نستطيع أن نصطاد أحد، وإذا اصطدناه فلم نصطده لكي يكون للمسيح يسوع ربنا إنما نكون بشبه العميان الذين يقودون العميان، وأعمى يقود أعمى كلاهما يسقطان في الحفرة، هذه الدروس لنا نحن الذين دعينا من الرب أيها الأحباء، لنخدم الإنجيل المقدس، نخدم كنيسة المسيح، نحن الذين ائتمنا على أسرار المسيح الإلهية لنوزع هذه النعم على البشر لنكون صيادي الناس.
الرب يسوع كما يعلمنا آباؤنا اختار التلاميذ والرسل، رسم هؤلاء شمامسة عندما أرسلهم اثنين اثنين إلى القرى والدساكر أمامه ليبشروا، رسمهم كهنة عندما قام من بين الأموات ودخل العلية والأبواب مغلقة وقال: سلام لكم كما أرسلني الآب أرسلكم ونفخ في وجوههم، ورسم الإثني عشر فقط أساقفة عندما رفع يديه قبل صعوده إلى السماء وباركهم وأرسلهم إلى العالم أجمع ليكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها. ليصطادوا الناس في شبكته، في الإنجيل المقدس، وهؤلاء إذ لبوا الدعوة، أرسلوا، هلما ورائي لأجعلكما صيادي الناس، أندراوس وبطرس لبا الدعوة، فأرسلا إلى العالم وكذلك الرسل كافة وتلاميذ الرب السبعين أرسلوا إلى العالم، ونشروا بشارة الإنجيل، أناروا دياجير الظلام في العالم اجمع حين ذلك استحقوا أن يقولوا ما قاله الرسول بولس في أيامه الأخيرة: جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي، حفظت الإيمان، وأخيراً قد حفظ لي إكليل البر الذي يهبه لي الرب الديان العادل في ذلك اليوم، يذكر عن يوم الدينونة ويوم مجيء الرب ثانية. ويذكر أيضاً أن هذا الإكليل أعد لكل من ينتظر مجيء الرب ثانيةً.
إذاً قد دعي والدعوة لا تكون علناً في هذه الأيام بالروح القدس كما دعي برنابا وشاول عندما كان التلاميذ يصومون ويصلون في أنطاكية وأرسلوا، بل دعي وأرسل واستجاب وسعى واجتهد سيدعى ثانيةً يوم يأتي المسيح في مجيئه الثاني، يوم يهيئ الأكاليل لأولئك الذين جاهدوا وأكملوا السعي بإيمان ورجاء وربحوا إذ تاجروا بوزنات الرب واستحقوا أكاليل المجد، أكاليل البر، أن يرثوا مع ربنا ملكوت السموات الحالة التي أتمناها لي ولكم أحبائي بنعمته تعالى آمين.
الأحــد الأول بعـــد الدنــح (4)†
الإنجيل المقدس بحسب الرسول متى تُليَ على مسامعكم في بدء القداس وهو الإصحاح الرابع، الأعداد الثامن عشر حتى العشرين.
رأينا في ذلك كيف أن الرب يسوع بعد عماده وبعد تجربته والنصر المبين الذي حقَّقه على إبليس وبذلك أعطانا النصر نحن البشر الذين جاء من السماء لخلاصنا.
متى الرسول يخبرنا في هذا الإصحاح عن الرب يسوع كيف انتقل من الناصرة حيث كان قد تربى ونشأ وعمل كنجار مع يوسف خطيب العذراء وبعدئذٍ لوحدهِ، كيف انتقل بعدئذٍ إلى كفر ناحوم، إلى جليل الأمم، وجليل الأمم هذا تعبير سريانيٌ بلغتنا ولغته، لغة الرب يسوع الذي يدل على الدائرة التي كانت تُحيط بالجليل.
كانت اليهودية مع اليهود وكان من حق اليهود أن يُبشرهم أولاً لأن النبوات قد قيلت عنهُ وأوتمن على حفظها ذلك الشعب اليهودي، ولكن بعدئذٍ انتقل إلى الجليل كما قلنا والجليل كان خليطاً من اليهود والأمم فكان ذلك تمهيداً لنقل البشارة إلى الأمم، في الجليل فقط اعتبر اليهود أن هناك شعوب أخرى غير هذا الشعب الذي اعتبر نفسهُ شعب الله ذلك لأنهم كانوا قد أوتمنوا على حفظ الناموس والنبوات.
في الجليل ابتدأ الرب يسوع يختار لهُ رسلاً ليأتمنهم على نِعَم الخلاص التي حصَّلها للبشرية فبعد أن أسس كنيستهُ على أساس الإيمان به أنهُ ابن الله الذي كان قد أُعلن من السماء، أولاً عندما اعتمد الرب جاء صوت من السماء أنت ابني الحبيب الذي بهِ سُررت ثم كان ذلك أيضاً في الجبل عندما تجلى الرب وجاء الصوت ليقول للرسل وعن طريق الرسل لنا جميعاً وللعالم: هذا ابني الحبيب الذي به سررت له اسمعوا.
أعطى الله الشريعة أولاً لموسى مكتوبة على حجارة لكن أعطاها بشخص المسيح فشريعتنا نحن الذين آمنا بالرب يسوع هو المسيح بالذات، شريعتنا أن ننظر إلى المسيح، وإن كنا نُطيع مسيحنا علينا أن نرى في كل عمل نعملهُ إن كان المسيح في مكاننا ماذا كان سيعمل، فهو شريعتنا وهو ناموسنا وهو مخلصنا وهو في الوقت نفسه ابن الله الحي.
لابد أن يختار لهُ مَن يحمل هذه الرسالة، عندما أسس الكنيسة على صخرة الإيمان أعطى هامة الرسل بطرس منفرداً سلطان حل الخطايا وربطها، سلطان توزيع النِعَم الإلهية التي حصَّلها للبشر كافةً بواسطة صلبهِ وموته وقيامته، هذا السلطان أعطاهُ عندما قال لبطرس: أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها، والأبواب هي السلطات فلا سلطان على الكنيسة إلا للمسيح يسوع ربنا الذي هو رب الكنيسة.
نرى في ذلك أيها الأحباء كيف أن المسيح حالما أعلن عن تأسيس كنيسته على الإيمان القويم أعلن أيضاً عن الكهنوت الذي أسسه أيضاً ليكون حارساً وناشراً لكلمتهِ وليكون ذا سلطان للحل والربط، فنرى أولاً كيف دعا هؤلاء الرسل ابتدأ كما يقول متى في الإصحاح الرابع من الإنجيل الذي كتبه لليهود أولاً ثم للأمم ابتدأ ببطرس وأندراوس، يذكر الرسول متى أن الرب كان عند بحر الجليل وهو بحيرة طبريا عندما رأى اثنين من الصيادين، كان سمعان بطرس وأخوه أندراوس يُلقيان الشبكة فتطلَّع إليهما وقال: هلُمَّا ورائي فأجعلكما صيادَي الناس فتركا الشبكة وتبعاهُ.
ربما يتبادر إلى ذهن بعضنا أنها كانت المرة الأولى أن المسيح رأى بطرس وأندراوس ودعاهما، لكن الحقيقة ولئن كانا صيادَين إنما كانا عارفَين بالناموس والنبوات وكانا في عِداد أولئك الذين كانوا ينتظرون مجيء مسيَّا المسيح يسوع لخلاص البشرية، كانا أيضاً في عِداد تلاميذ يوحنا المعمدان ولابد أنهما سمعا يوحنا يُشير إلى المسيح هذا هو حمل الله الذي يرفع خطايا العالم، ربما كانا أيضاً في عِداد أولئك الناس الذين عندما اعتمد الرب يسوع من يوحنا سمعاه يقول ليوحنا: دَع الآن، لأنهُ هكذا ينبغي لنا أن نكمِّل كل برّ، يوحنا ارتعب عندما جاء المسيح ليعتمد منهُ، الذين جاؤوا ليعتمدوا من يوحنا كانوا أولئك الناس الذين بكَّتتهم ضمائرهم وجاؤوا يعترفون بخطاياهم أمام يوحنا ثم ينالوا العماد دلالة على غسل هذه الخطايا.
لابد أن يكونا أيضاً في عِداد أولئك الذين سمعوا مع يوحنا صوت الرب من السماء هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت، على أثر عماد الرب والصلاة التي قدمها للآب السماوي، كل ذلك نتخيَّله بل أيضاً نرى فيه حقيقة إلهية تماماً، ولكننا نرى أهم من هذا كله أن الرب يقول لهما هلُمَّا ورائي لأجعلكما صيادَي الناس، هذا أمر عجيب جداً أُناس يصطادون السمك يتركون الشباك يتركون كل شيء ويتبعون الرب يسوع ويطلبون منه وحدهُ أن يجعلهما صيادَي الناس.
ما هي وجوه المقارنة بين صياد الأسماك وصياد الناس، نحن نعلم أن صياد الأسماك حتى إذا ألقى شبكتهُ في البحر وكان البحر هو بحيرة طبرية، أولاً عليه ألا يُظهر نفسهُ لأن الأسماك إذا رأت ولو خيال ذلك الصياد هربت، وصياد الناس أيضاً عندما يصطاد الناس في شبكة الإنجيل ليؤمنوا بالرب يسوع عليهم ألا يُروا أنفسهم أن يتلاشوا أمام الحقيقة الإلهية وإنجيل ربنا يسوع المسيح، نأخذ مثل لهذا: عندما لدغت الحيَّات السامة بني إسرائيل في البرية الله أمر موسى أن يصنع حيَّة من نحاس ويضعها في وسط المحلَّة وكان كلما لذغت حية أحد بني إسرائيل عليه أن يتطلَّع إلى حية النحاس فيُشفى حالاً، هذا سرٌ عجيب حتى أن الرب يسوع ذكر هذا الشيء أيضاً في الإنجيل المقدس مُعلناً أنه كما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان – أي أن يُصلَب – لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون لهُ الحياة الأبدية.
موسى صنع حية النحاس ويُقال حسب تقاليد آبائنا أن موسى وضع النحاس في النار وإذا بهِ صار على شكل حيَّة تماماً كالحيات السامة التي سموها مُحرقة والتي كانت تحرق الإنسان بسُمِّها.
المسيح مات عنا صُلبَ وأصبح هو علامة الخلاص، فكلما تطلعنا على الصليب – ونحن السريان لا نضع مصلوب على الصليب لأننا نؤمن أن المصلوب رُفع من الصليب ومات ودفن وقام في اليوم الثالث، فنأخذ علامة الصليب فقط التي هي علامة الخلاص – فعندما ننظر إلى الصليب إن كنا نؤمن فننال الخلاص، مَن نظر إلى الحية النحاسية إن لم يكن قد آمن بأن الله قد جعل قوة لهذهِ الحية حتى يتطلَّع إليها الإنسان ليُشفى من لدغة الحيات لا ينال طبعاً هذا الشفاء. فكما رفع موسى الحية في البرية هكذا أيضاً رُفع ابن الإنسان، نرى أيضاً أيها الأحباء أن الذي يذهب لاصطياد الناس فمثل صياد السمك عليه أن يُخفي نفسهُ حتى ظلَّهُ لايجب أن يظهر، عليه ألا يُبشر بنفسه لأنه لو وضع موسى نفسهُ أمام الحية والناس الذين لُدغوا من الحيات نظروا فرأوا موسى لا الحية لأن موسى حجب الحية عنهم لكانوا قد هلكوا، لذلك عليهِ فقط ( موسى ) أن يُشير إلى الحية كذلك مَن يحمل إنجيل المسيح ويُبشر بالمسيح ليس لهُ مهمة إلا أن يُشير إلى المسيح لا إلى نفسهِ أن يغيب هو عن كل شيء، القوة هي قوة المسيح قوة صليب المسيح أي المسيح المصلوب، هكذا الذي يحمل بشارة الإنجيل عليه أن يُبشر بالمسيح وبالإنجيل لا يُبشر بنفسه وعليه أن يُخفي نفسه. هذهِ وجهة النظر ما بين صياد السمك وصياد الناس.
الرب دعا بطرس وأندراوس وبعدئذٍ بنفس المنطقة دعا يوحنا ويعقوب أخوهُ إبنَي زبدى الذين كانا صيادَين وكانا نسبياً أغنياء لأنه كان لهم أيضاً سفينة للصيد، أما بطرس وأندراوس فلم يكن لهما سفينة إنما فقط شباك يرموها بالبحر حتى يصطادوا، وحدث لهم مرة أُعجوبة عندما جاء الرب يسوع على ساحل البحر وقال يا غلمان عندكم إداماً ؟ فقالوا لهُ لا، تعبنا الليل كلَّه ولم نصطد شيئاً قال لهم اطرحوا شبكتكم على الجهة اليمنى ففعلوا، وكادت الشباك تتمزق من كثرة السمك فتعجبوا، هذه سُبُل للإيمان بالرب يسوع أثناء وجوده على الأرض في سر التجسد.
إذاً كل العلامات التي حدثت ثبَّتت أولئك الناس على تلبية الدعوة التي دعاهم الرب يسوع، ودعاهم لمهمة عظيمة جداً وهي أن يصطادوا الناس، إذا كان صياد السمك يصطاد السمك ليُميتها ويأكلها أما صياد الناس فيصطاد الناس لينالوا حياتاً بالمسيح لذلك يجب أن يكون المسيح في الوسط وإلا يكون صيادي الناس هؤلاء غائبين عن كل ما هو نِعَم عظيمة جعلها الرب يسوع في كنيستهِ المقدسة وأوكل هؤلاء الناس أن يُوزعوا هذهِ النِعَم.
الرب يسوع دعا ولايزال يدعو، دعا أولاً بنفسهِ الرسل ودعا المبشرين السبعين، وحسب ما يقول آباءنا أولاً دعا هؤلاء الرسل والتلاميذ أيضاً وأرسلهم اثنين اثنين إلى القرى والدساكر حتى ينشروا البشارة وهنا رسمهم شمامسة ثم بعدئذٍ عندما نفخ في وجوههم بعد قيامته وقال لهم اقبلوا الروح القدس وأعطاهم السلطان، كان قد أعطى هذا السلطان لبطرس وحدهُ وهذا بالنسبة لنا هو قانون كنسي، أما بعدئذٍ فأعطى السلطان للرسل كافة وهذا نعتبره نحن ( المجمع ) لذلك رسمهم كهنة بعد قيامته، وأخيراً للرسل فقط الإثني عشر والذين أصبحوا أحدى عشر بعد خيانة يهوذا الذي تبع إبليس وسلَّم الرب، للرسل فقط رفع يديهِ يوم صعودهِ إلى السماء وباركهم ومنحهم سلطان الرسولية أي أصبحوا رعاةً بل رعاة الرعاة لكنيسة الرب.
الرب دعا هؤلاء الناس ولايزال يدعوا عن طريق الروح القدس، دعا هؤلاء الناس بنفسه بعدئذٍ بعد قيامته وصعودهِ إلى السماء المهمة صارت مهمة الروح القدس، ونقرأ في سفر أعمال الرسل أن التلاميذ كانوا قد صاموا وكانوا يصلون وأثناء صلاتهم جاء الصوت من السماء افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي اخترته لهما، إذاً تعيين الرسل كان بواسطة الروح القدس للعمل الذي اختارهُ لهما.
عندما نُدعى أيها الأحباء: ليست المهمة سهلة، عندما ينال الإنسان سر الكهنوت وخاصة رئاسة الكهنوت ليست المهمة سهلة أبداً بل صعبة جداً، يُصادف الإنسان أناساً قد يكونوا أبراراً وأتقياء ويخافون الله ويتعاونون معه فيما نعتبرهُ اصطياد الناس ويُصادف أناساً قد يكونون أشراراً بل آلات مثل الحية أو إبليس بالذات بالشكوك التي يفرضوها على المؤمنون ويضعوا العُصي في دواليب الكنيسة حتى لا تتقدم لكن مع هذا بالصبر ولابد من الصبر في رعاية هذا الشعب.
الرب يسوع يدعوا ومَن لبَّى الدعاء ينال أجراً عظيماً، ومَن لبَّى الدعاء سيُدعى ثانيةً يوم مجيء الرب ثانيةً عندما يأتي لدينونة العالمين سيدعوه الرب لا للتعب، لا للجهاد بل لنيل إكليل البر الذي قال عنه الرسول بولس الذي يهبه الرب يسوع لكل مَن ينتظرهُ وينتظر مجيئهُ الثاني.
نسأل الرب الإله أن يؤهلنا جميعاً كمؤمنين وخاصة رعاة الكنيسة أن ينالوا هذا الشرف بل هذهِ النعمة الإلهية بنعمتهِ تعالى آمين.
الأحد الثاني بعد الدنح
الأحد الثاني بعد الدنح
الأحد الثاني بعد الدنح (1)†
«وفي ذلك الزمن خرج إلى الجليل وقضى ليلته بالصلاة إلى الله، وعندما كان النهار جمع تلاميذه واختار منهم اثني عشر الذين دعاهم رسلاً»
(لوقا 6: 12ـ 13)
في ذلك الزمان في بدء السنة الثانية للتدبير الإلهي بالجسد في وقت اشتدت فيه المعارضة ضد الرب يسوع من الكتبة والفريسيين لأن اسمه اشتهر بين الناس إذ كان يجول يصنع خيراً ومعجزاته أصبحت معروفة عند القريب والبعيد وتعاليمه السامية التي تعلن جوهر الدين الحقيقي ودخلت قلوب الناس وضمائرهم، ولذلك حتمت المعارضة على مضادته ونشرت العيون في كل مكان لمراقبته أما هو فقد آن الأوان له أن يهيئ من يتسلم هذه الرسالة، ينشرها بعد أن ينهي تدبيره بالجسد ويصعد إلى الآب السماوي ويعرف تلاميذه جميعاً والتلاميذ عادة هو من يجلس عند قدمي معلمه بطاعة وتواضع ووداعة ويثق ويأخذ عنه كل تعليم يعطيه المعلم، ولكن هذا لا يكفي للرسالة التي جاء بها المسيح يسوع إلى عالمنا، رسالة الفداء، ولذلك لابد له أن يختار من سماهم رسلاً، والرسول يختلف عن التلميذ لأن الرسول يحمل الرسالة التي لمعلمه ويتكلم كمن له سلطان كمعلمه، والرسول أيضاً هو سفير معلمه بين الناس لم يفعل المسيح يسوع هذا من قبل أن التجأ إلى أبيه السموي قضى ليلته بالصلاة إلى الله.
نحن عندما نصلي كبشر نسأل الله رحمة ونتوق إليه عائدين لكي يسمع لنا لأن الله لا يسمع للخاطئ إلا في حالة واحدة هي عندما يطلب الخاطئ المغفرة من ربه تائباً إليه عائداً إليه عودة الابن الضال إلى أبيه، ولكن الصلاة لدى المسيح يسوع هي الاتحاد مع الله، وهو متحد معه لأن هو والآب واحد ومن رآه فقد رأى الآب. إذاً الصلاة هي القرار الذي يصدر من الثالوث الأقدس لاجتماع الأقانيم الثلاثة بالروح وعندما نرى الرب يصلي خاصة يقضي الليل كله بالصلاة يعني ذلك أن أمامه قراراً يقوم به لأجل صالح البشرية. وبعد أن صلى بعد أن قرر الثالوث الأقدس أن ينتخب رسل لحمل رسالة المسيح إلى العالم للصلاة جمع التلاميذ واختار أولئك الرسل. ألا يحق إذن للرسول بولس أن يقول عن رئيس الكهنة: أنه يكون بين الناس وينتخب من الناس، ولا يأخذ هذه الوظيفة أحد إلا المدعو من الله كما هرون أيضاً، إذاً هذه الرسالة التي يتسلمها الرسول إنما هي من الثالوث الأقدس، يحملها ليمثل المسيح بين العالم، هكذا انتخب الرب رسله ولم يكتف بهذا، بل أيضاً وضع أمام العالم ما يقوم به هؤلاء كما أيضاً بسط أمام الرسل بالذات ما سيكون له في المستقبل، لم يعدهم براحة وسعادة، دينونة، إنما وضع أمامهم الشقاء وحمل الصليب بل أتعاباً كثيرة، ولكن بعد ذلك هناك السعادة الأبدية، المكافأة في السماء.
يقول لوقا: إن الرب أمام الجمهور عندما نزل إلى السهل هو وتلاميذه رفع عينيه إلى تلاميذه وقال لهم: طوباكم طوباكم أيها المساكين بالروح لأن لكم ملكوت الله، طوباكم أيها الباكون الآن لأنكم ستضحكون، وطوباكم أيها الجياع لأنكم تشبعون، طوباكم إذا طردكم الناس، نبذوكم، عيروكم وقالوا عنكم كل كلمة شريرة من أجل ابن الإنسان افرحوا وتهللوا لأن أجركم عظيم في السماء. هذه التطويبات كان قد أعلنها كما ذكر الإنجيلي متى يوم جلس على صخرة اعتبرها مقعداً على الجبل، وافتتح عظته الإلهية التي فيها وضع دستور المسيحية الأدبي ومبادئ الدين القويم لسلوك أولئك المؤمنين به، يكررها الآن مخصصاً إياها لرسله الأطهار وتلاميذه الأبرار يعطيهم الطوبى لأنهم مساكين، والمسكين هو من تجرد عن العالم وقبل الفقر الاختياري، المسكين قد يكون غنياً وغنياً جداً ولكن قلبه وفكره إنما تعلقان بالله فقط قد احتقروا أمور الدنيا وأموالها ومتاعها وشهواتها ولذاتها لدى ذلك الذي ندعوه مسكيناًُ. الجياع والعطاش في العظة على الجبل نراهم إنما يعطشون إلى البر ويجوعون إلى السيرة الصالحة إلى القداسة كما نرى أيضاً الودعاء والمتواضعين الذين عليهم أن يتعلموا ذلك من الرب ذاته لأنه وديع ومتواضع القلب كما قال عن نفسه، ودعانا لنقتدي به أما الرسل فوضع أمامهم أمراً مهماً أيضاً أنهم سينبذون من العالم. كان مجمع اليهود الأعلى الذي يدعى السنهدريم يحكم الإنسان الذي يؤمن بالمسيح، ينبذه نبذ النواة، يطرده خارج المحلة، يمنع كل يهودي أن يتعامل معه أو يسلم عليه أما المسيح فقد أعطاهم الطوبى إذ نالوا هذا الامتياز أن ينبذوا من أولئك الأشرار، أعطاهم الطوبى ليتحملوا ذلك الاضطهاد من أجل ابن الإنسان فإن أجرهم سيكون عظيماً في السماء، وبهذه أيضاً الحادثة المهمة في تعليم رسل الرب لحمل الرسالة يعلن الرب دستوره ويريد أن يكون هذا الدستور مبنياً على المحبة، المحبة حتى للأعداء وهذه الفضيلة سامية جداً جداً، فالرسل الذين نالوا نعمة الرسالة من الرب، الرسل الذين مثلوا الرب وهم يمثلونه حتى اليوم وسيمثلونه حتى أبد الآبدين لأن الكنيسة ثابتة على تعليم الرب والإيمان بالمسيح يسوع ابن الله الوحيد الذي نقاها وطهرها وسلمها إلى الرسل الأطهار ليقوموا هم برعايتها، أولئك الرسل ولئن اضطهدوا ولئن تعذبوا فهم عند الله ذوي مراكز مرموقة، وعند الرب ممثلين وسفراء حتى في سلاسل فيقول الرسول بولس عن نفسه في سبيل نشر بشارة الحياة لأن الرسالة المسيحية التي قومت كل القيم السابقة واللاحقة بالنسبة إلى سلوك الإنسان وعلاقته مع الله ومع أخيه الإنسان هذه الرسالة ستبقى إلى الأبد لأنها إنما أعطيت للإنسان لإسعاده ومفهوم هذه الرسالة يختلف عن مفهوم الدنيا فالمسيح يعطي الطوبى لأولئك الفقراء المساكين أم العالم فيطوبوا الأغنياء وذوي المراكز المرموقة والمسيح يتحدى العالم يقول للأغنياء: الويل لكم أيها الأغنياء لأنكم قد نلتم جزاءكم في هذه الحياة ولا يقصد كل إنسان غني، فهناك أغنياء عديدون كانوا أتقياء وقديسين، هناك إبراهيم خليل الله، هناك أيضاً في العهد الجديد نيقوديموس ويوسف الرامي وبرنابا وآخرون كانوا يبيعون قراهم ويأتون بثمنها ويضعونها أمام أقدام الرسل لكي يتصرفوا بها في خدمة الإنجيل.
فرسالة المسيح السامية التي سلمها لرسله الأطهار الذين اختارهم فكانوا يمثلونه شرعاً، هذه الرسالة أيها الأحباء هي إلينا جميعاً، فإذا كنا نرغب أن ننال الطوبى من الرب علينا أن نجرد نفوسنا وقلوبنا وأفكارنا عن أمور الدنيا ومساعيها مهما كنا أغنياء مهما كنا ظهرنا للناس سعداء فما السعادة إلا بالمسيح يسوع علينا أن نقتدي بأولئك الآباء القديسين الذين نالوا المواهب السماوية وأن نؤمن بما تسلموه من سلطان إلهي لخدمة أبناء الله على الأرض كما أن يشعر أولئك بأن مسؤوليتهم عظيمة تجاه خلاص الناس إنما الرب سلمهم رسالة الفداء، لكي يسهلوا للناس طريق الفداء، وينالوا بذلك الطوبى التي أعطاها الرب لهم وللذين يتبعونه ويسلكون حسب شريعته.
نسأله تعالى في هذه اللحظات أن يؤهلنا لنكون في عداد أولئك الذين لا فقط يسمعون كلمة الله بل يعملون بها بنعمته آمين.
الأحد الثاني بعد الدنح (2)†
في الآيات المقدسة من الإنجيل المقدس بحسب الرسول يوحنا. هذه الآيات التي تُليَت على مسامعكم نرى فيها كيف أن الرب يسوع دعا بعض تلاميذه ليتبعوه فتبعه العديد منهم، وأرسلهم بعد أن زوّدهم بوصاياه الإلهيّة كيف يجب أن يسلكوا في العالم وهم يحملون رسالة سامية. ونلمس أيضاً من هذه الآيات المقدّسة كيف أن الإنسان الذي يلبّي دعوة الرب لا يستطيع أن يصمت، فعندما يلبّي الدّعوة يحل عليه الروح القدس ويفيض في فكره وقلبه فلابدّ أن يعلن هذا الفيضان للآخرين، فكما أنه نال نعمة عظيمة فلابدّ أن يشرك الآخرين بهذه النّعمة.
سمعنا عن دعوة فيلبّس في الإصحاح الأوّل من الإنجيل المقدس بحسب الرسول يوحنا بدءاً من العدد الثالث والأربعين. ورأينا أن فيلبّس يدعو نثنائيل فيأتي بنثنائيل إلى الرب. يقول له: قد وجدنا ماشيحا، ولئن سمّوا ذلك (ماسيّا) بالنسبة إلى اللاّتينية لكن في الحقيقة اللّفظة هي (ماشيحا) بلغتنا المقدسة، المسيح الذي ذكر عنه موسى كما يقول لهم. فنرى كيف أن الواحد يخبر الآخر بفرح عن إتمام المواعيد الإلهية، والرب يسوع خرج بعد عماده وبعد التجربة أيضاً، أربعين يوماً وأربعين ليلةً صائماً ليلاً ونهاراً وكانت الملائكة تخدمه أيضاً وانتصر على إبليس في تلك التجربة. حينذاك تهيّأ للتدبير الإلهي العلني بالجسد، وببدء التدبير الإلهي العلني كان لابدّ أن يختار هؤلاء الرّسل. قرأنا عن دعوة بطرس وأندراوس وأن أندراوس هو الذي أتى ببطرس إلى الرب يسوع، والرب يسوع قال له حالاً: أنت كيفا، لأن الرب يسوع كان يعرف أن بطرس سيعترف به بأنه ابن الله وسيدعوه الرب علناً أنه كيفا، كيفا أي الحجر وليس الصّخرة لكن الرب أسّس كنيسته على الصّخرة، صخرة الإيمان به الذي أعلنته السّماء على فم بطرس بقوله: أنت المسيح ابن الله الحيّ. عندما نقرأ في الإنجيل المقدّس أن الرب رأى بطرس ودعاه قائلاً: هلمّ ورائي ودعا أندراوس ثم يوحنا ويعقوب ابنَي زبدي فتركوا شِباكهم. يوحنا ويعقوب كما يبدو كانوا أغنياء أيضاً، تركوا شباكهم وتركوا أبيهم والعَمَلة الذين في السّفينة وتركوا السّفينة، السّفينة التي كان يملكها أبوهم وتبعوا الرب يسوع.
عندما نقرأ ذلك أيّها الأحبّاء نظن أن دعوة هؤلاء كانت فجأة، لا. بل هؤلاء التلاميذ كانوا مهيّئين لقبول دعوة كهذه، لذلك تركوا كل شيء عندما حان الأوان أن يُدعّوا وتبعوا الرب يسوع. كانوا مهيّئين، كانوا داخلين في جمعيّات عديدة كلّها غيرة، كلّها علم، كلّها فهم، كلّها قراءة وتعبُّد وعبادة حقيقية وقراءة للنبوات ودراسة هذه النبوّات عن مجيء ماشيحا، لذلك بعضهم أيضاً كانوا تلاميذ يوحنا المعمدان، سمعوا من يوحنا عن الرب:هذا هو حمل الله الرافع خطايا العالم. ولابدّ أن يتبعوه طالما أن يوحنا أيضاً هو الذي أشار إليه أنه هو الذي سيرفع خطايا العالم، وهو حقّاً ماشيحا كما قال يوحنا:الروح الذي أرسلني هو الذي قال لي الذي يحلّ عليه الروح بشبه حمامة هو هو، أي هو المسيح الـمُرسَل من الآب السماوي لفداء البشريّة، ولذلك كانوا مهيّئين. لا نستغرب إذن أن الكنيسة المقدسة أيضاً التي بشخص الرسل سمعت في أنطاكية عندما كانت الكنيسة تصلّي، والكنيسة هي المؤمنون والمؤمنون أيضاً كانوا بانسحاق قلب يعبدون الله بالروح الحق، ونادى الروح القدس:افرزوا برنابا وشاول للعمل الذي اخترته لهما، فجاءت الدعوة من الروح القدس. أوّلاً كانت الدعوة من الابن بالذات:هلمّا ورائي فأجعلكما صيّادَي الناس، قال لبطرس وأندراوس ويعقوب ويوحنا وللآخرين أيضاً، وكان بفكره يتتبّع هؤلاء الناس ففيلبس عندما دعاه الرب من بيت صيدا وكان أيضاً من قرية بطرس وأندراوس وفيلبس تبع الرب، فيلبس دعا نثنائيل وعندما جاء هذا الأخير إلى الرب نظر إليه يسوع وقال:هذا إسرائيلي لا غشّ فيه، قال له: من أين عرفتني؟، قال له: من قبل أن دعاك فيلبّس وأنت تحت التّينة رأيتك وعرفتك. إذن فالرب عندما يختار أي إنسان لكي يرسله ليحمل رسالةً سامية، رسالة السماء والرسالة هي أسمى جدّاً جدّاً من الـمُرسَل، لكن الـمُرسِل هو أسمى من الرسالة ومن المرسل يعني ذلك أن يسوع هو أسمى من الكل وعنده رسالته ورسالته سامية وأسمى من الذي يحمّله هذه الرسالة ليخرج بها إلى العالم ويبشِّر. سابقاً في العهد القديم نرى مثلاً الرب دعا موسى وموسى رأى هذه الرسالة صعبة جدّاً، ويظهر أن موسى كان يلثغ، كلامه لم يكن فصيحاً وطبعاً الرب قال له: أنا اكون معك وهذا الذي شجّعه لأن الـمُرسَل إن لم يكن مع الرب ويكون الرب معه فهو فاشل. موسى طلب من الرب: أرسل من أنت مُرسله. موسى يعرف أن الرب بحسب وعده الإلهي حتّى عندما سقط الإنسان والله سبحانه وتعالى ابتُلي بهذا الإنسان لأنه أحبّه جدّاً، ولذلك وعده أن يخلّصه وموسى منذ تلك اللحظات كان يعرف أن الرب سيرسل ابنه القدوس لخلاص العالمين، لكن كان يظنّ أنه سيرسله فجأة فقال له: أرسل من أنت مرسله. لم يكن قد آن الأوان ليرسل ابنه الوحيد في تلك اللحظات، في ذلك الظّرف لأن عقل الإنسان لم يتهيّأ لتقبّل هذا السر الإلهي، سر التجسّد، لذلك أرسل موسى وعضده. إشعياء النبي مثلاً الذي عندما أراد الرب أن يرسله ليتنبّأ ارتعب وعرف نفسه:أنا إنسان نجس الشّفتَين، نجس الشّفتَين يعني كل إنسان عندما ينطق بكرم بذيء، كل إنسان عندما يكون بعيداً عن الله يكون نجس الشّفتَين واللسان والفكر والعمل في آن واحد. الرب أعطى له علامة، نعم أنت تكون نجس الشّفتَين، أنت خاطئ ولكن عندما تؤمن، عندما تقبل الرسالة الرب يطهّرك فأرسل الملاك وأخذ جمرة من على المذبح كما رأى إشعياء ووضعها على شفتَيه وقال: إنك قد طُهِّرت، وهذه أيضاً علامة لنا عندما ننال القربان المقدس، الجمرة الإلهية من على المذبح لنتطهّر من خطايانا.
الأنبياء هيّأوا جيلاً من الأنبياء في مدارس الأنبياء في العهد القديم، فنحن لا نستغرب أبداً أيها الأحباء أننا نتهيّأ للدعوة عندما ننخرط في سلك الإكليريكيّة أولاً وبعدئذ الرهبانيّة أو القسوسيّة، نكون قد تهيّأتا للدعوة. هذه فترة مهمّة جدّاً لنا أن نتهيّأ لاستجابة دعوة الرب لنا، فالرب ولئن نرى أنه قد دعا الناس من على السّاحل، كانوا في السّفن أو دعا من البريّة أيضاً الرسول بولس مثلاً، ولكن كان قد هيّأ هؤلاء لقبول الدّعوة لحمل الرسالة، لإعلان البشارة الإلهية للبشر لخلاص هؤلاء الناس في المسيح يسوع ربّنا. فالفترة التي نتهيّأ فيها في الإكليريكيّة أحبائي علينا ان نشعر بأنها فترة ذهبيّة جدّاً، ضروريّة لحياتنا، ليس حياتنا في هذه الأرض فقط ولا لحياة كنيستنا على الأرض، ملكوت الله على الأرض فقط، بل لحياتنا الأبديّة أيضاً ومن لا يفتكر بالأبديّة في حياته على الأرض يكون قد خسر الأبديّة. عمرنا وإن كان شقيّاً وإن كان قصيراً لكنه ثمين جدّاً، لأنه في هذه الأيام التي نقضيها على هذه الأرض يُقرَّر مصيرنا الأبدي، والإنسان بمصيره الأبدي إما يكون شقيّاً إلى الأبد ومُعذَّباً أيضاً رغم وجود أفكار جديدة لدى الناس، خاصةً بنور المسيحية والرّحمة والحنان الموجود في المسيحية، يأتي الإنسان ويفتكر: هل يمكن أن يتعذّب الإنسان إلى الأبد، هل يرضى الله بذلك؟. نعم، الله قد نبّهنا، الله قد أرشدنا، قد أرسل من أرسل لكي يدلّنا على الطريق وهو هو وحده المسيح هو الطريق، هو الحق، هو الحياة ما لم نسكن فيه، ما لم نتمسّك بالإيمان به، أو الحق ما لم نحيا فيه ويحيا فينا يعني ذلك أننا قد ابتعدنا عنه تماماً. إن لم نهيّئ أنفسنا نحن الذين نتوقّع ونتأمّل ونصلّي أن يجعلنا الرب مستحقّين أن نحمل رسالته السّامية إلى العالم لخدمة العالم بهذه الرسالة للإتيان به من ملكوته السماوي، ما لم نتهيّأ نكون فاشلين في حمل هذه الرسالة. الرياضي يتدرّب دائماً، لماذا؟ لأنه عند السّباق إن لك يكن قد تدرّب لا يستطيع أن يربح. كذلك نحن كإكليريكيين علينا أن نتدرّب بصومنا، بصلاتنا، بنقاء أفكارنا وقلوبنا لكي نتهيّأ لمقارعة إبليس، فهو بحرب ضروس معنا لكي نتهيّأ للإتيان بالآخرين إلى الخلاص، فإن لك أكن قد نلتُ بالتوبة، بالإيمان بالرب، بانسحاق القلب:قلباً نقيّاً اخلق فـيَّ يا الله وروحاً مستقيمة جدِّد في داخلي، هذه الروح السامية النقيّة الطاهرة إن لك أكن قد تهيّأت لتقبّلها وممارسة التمارين التقويّة في شبابي لا أستطيع أوّلاً أن أنال الخلاص لنفسي وأن أسعى لخلاص الآخرين وإن لم أفعل ذلك وأمام الناس أكون قد لبّيتُ الدّعوة ثقوا بأن دينونته عظيمة. النبي حزقيال أرسله الرب لكي يدعو الخطاة ونبّهه:عندما أقول لك أن تدعو الخطاة، إن لم تدعُ الخاطئ ويموت بذنْبه دمه أطلبه منك، هذه رسالة سامية جدّاً لنا كأننا نصبح قَتَلة إلى هذه الدّرجة إن لم ندعُ الخُطاة والخاطئ يموت بذنْبه. هذه الرسالة السّامية التي سنحملها أحبائي نحن كإكليريكيين، كرهبان وراهبات خاصةً، نحمل هذه الرسالة بكلام الروح، ندعو الناس طالما نحن أُرسلنا من الرب يسوع مجرَّدين من كل أمور العالم ومكافأتنا عظيمة إن كنّا نحمل الرّسالة بتقوى الله ومخافته إن كنّا نحمل الرسالة استجابةً لدعوة الرب يسوع، هذه المكافأة ستكون في الأبديّة عظيمةً جدّاً إن كنّا مع المسيح والمسيح يُنجح طريقنا وفي اليوم الأخير سيدعونا كما دعانا لنحمل لرسالة واستجبنا، سيدعونا في اليوم الأخير أيضاً: تعالوا يا مباركي أبي رثوا الـمُلك الـمُعَدَّ لكم منذ إنشاء العالم.
ليتقبّل الرب كل أعمالنا، ليعطنا الرب بوحي إلهي أن نكون أنقياء أتقياء مكمّلين شريعته ليس فقط بالقول بل أيضاً بالفكر والعمل لنرث ملكوته السّماوي بعد العمر المديد ونعمته تشملكم دائماً أبداً آمين.
الأحد الثاني بعد الدنح (3)†
«وإذ كان يسوع ماشياً عند بحر الجليل أبصر أخوين سمعان الذي يقال له بطرس وأندراوس أخاه يلقيان شبكة في البحر فإنهما كانا صيادين، فقال لهما هلمّ ورائي فأجعلكما صيادي الناس، فللوقت تركا الشباك وتبعاه»
(متى 4: 18ـ 20)
أيها الأحباء: نقرأ في الإنجيل المقدس بحسب الرسول متّى أنه عندما سمع الرب يسوع أن يوحنا أُلقي في السجن، انتقل من مدينة الناصرة إلى كفرناحومالواقعة على الشاطئ الشمالي الغربي لبحر الجليل وهو بحر أو بحيرة طبرية (يو6: 1 و21: 1)، فالرب يسوع الذي نزل من السماء لخلاص البشر كافةً، بدأ تدبيره الإلهي العلني في الجسد بتبشير اليهود، وتعليمهم، بتذكيرهم بالنبوات التي قيلت عنه، واعتُبِر اليهود الشعب الذي حافظ على النبوّات وحافظ على الناموس والطّقوس، فحق له أن يُدعَى إلى ملكوت الله أولاً ثم جاء أوان دعوة بقيّة الشعوب إلى هذا الملكوت، لذلك جاء الرب يسوع إلى الجليل إلى المناطق التي كانت قريبة من الأمم، وكان يقطنها خليط من الناس، وكان اليهود الذين يسكنون هناك قد انفتحوا للعالم، وعرفوا أنهم ليسوا وحدهم في هذا العالم، وليسوا وحدهم مشمولين بعناية ربنا، وإن الخلاص لا يكون لهم وحدهم، بل هو للعالم أجمع وللأمم كافةً.
جاء الرب يسوع إلى الجليل، ويقول معلمنا متى الرسول: إنه عندما كان الرب يسوع يسير على ساحل بحر الجليل، رأى شخصين، أخوين، سمعان الذي دُعِي بعدئذ بطرس وأندراوس أخاه، فدعاهما ليتبعاهُ. بدأ الرب يدعو له تلاميذ ليحملوا رسالته الإلهية، وينشروا بشارته المقدسة في العالم أجمع، دعا الرب بطرس وأندراوس وكانا صيادين كانا قد ألقيا شبكتهما لاصطياد السمك، دعاهما قائلاً لهما: هلما ورائي فأجعلكما صيّادَي الناس، فتركا الشبكة وتبعاه. ما أجمل أن يلبي الإنسان دعوة الرب، ولكن نعلم أن دعوة الرب لم تكن بنت ساعتها، كان الرب قد أعدّ فكر هذين التلميذين الأخوين الصيادين قبل ذلك بمدّة ليست وجيزة. لابدّ أنهما كانا قد استمعا إلى تعاليمه المقدّسة، وشاهدا معجزاته الباهرة لا بد أنهما كانا قبل ذلك قد واظبا على الصلاة وسؤال اللّـه أن يرسل الماسيا سريعاً ليخلص العالم، فإنهما كانا في عداد تلاميذ يوحنا المعمدان، أولئك الذين عُرفوا بأنّهم كانوا غيارى على حفظ الناموس ودراسة النبوّات وآمنوا بما قاله يوحنا عن الماسيا المنتظر. وربما كانا أيضاً في عداد أولئك الذين استمعوا الصوت الذي جاء من السماء على إثر خروج الرب يسوع من نهر الأردن بعد عماده من يوحنا، فيخبرنا الإنجيل المقدس أن الرب يسوع عندما كان يصلّي انفتحت السماء ونزل عليه الروح القدس بهيئة جسميّة مثل حمامة، وكان صوتٌ من السماء قائلاً: «أنت ابني الحبيب بك سررت» (لو 3: 21)، ولابدّ أنهما كانا في عِداد أولئك الذين رأوا الروح القدس يهبط على هامة الرب يسوع بهيئة حمامة ليميّزه عن بقيّة الناس، ليعرفوا أن الصوت كان موجّهاً إليه. لا بدّ أنهما سمعا أيضاً يوحنا وهو يقول عن الرب يسوع في اليوم التالي: «هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم» (يو 1: 29)، ولذلك كانت لهما خلفيّة روحيّة كافية مهّدتهما لتلبية دعوة الرب يسوع، هكذا يفعل الروح القدس فهو يهيئنا لتقبّل دعوة الرب يسوع، فإن كنا ننصت إليه بإيمان نستجيب لدعوة الرب، ففي دعوة الأخوَين هذه سمعنا الرب يقول لهما: «هلم ورائي فأجعلكما صيادي الناس، فللوقت تركا الشِّباك وتبعاه» (مت 4: 18 ـ 20).
أجل، لم يكن بطرس وأندراوس صيادين وحسب، ولئن كانت مهنتهما صيد الأسماك، ولكن في الوقت نفسه كانا قد درسا الناموس والشريعة والنبوات، وكانا مؤمنين ومنتظرين إتمام وعد اللـه للبشر بالخلاص بإرسال ماسيا، المسيح رجاء الأمم والشعوب والرب يقول لهما أنه سيجعلهما صيّادَي الناس، فلبّيا الدعوة.
إن ما بين صيد السمك وصيد الناس أمور كثيرة مشتركة جداً، من ذلك أن صياد السمك يسهر الليالي وهو يواظب على إلقاء شبكته وينتظر بهدوء وسكينة، بل يخفي نفسه أيضاً وحتى خياله عن السمك لئلاّ تشعر بوجوده وتهرب. كذلك صيّاد الناس الذي إذا ما تبع الرب يسوع، إذا ما صحأصبح مُنادياً ومبشِّراً بالإنجيل المقدس، إذا ما اهتم بخلاص الآخرين عليه أن يكون صبوراً، وعليه أيضاً أن يكون دؤوباً على هذا العمل، قد يصادفه أناس شرسون غير مؤمنين، بل غير مؤدبين أيضاً عليه أن يتحمل خشونة تصرّفاتهم بصبر جميل، ليتمكّن من أن يصطاد الناس بشبكة الإنجيل المقدس. كذلك أحبائي عليه أن يخفي نفسه، لئلاّ تراهُ الأسماك فتهرب حتى إن رأت خياله، كذلك الذي يرسله الله لاصطياد الناس في شبكة الإنجيل عليه أن ينكر ذاته ويُظهِر المسيح ليراهُ الناس ويؤمنوا به لينالوا به الخلاص فالرسول المرسل من الله لا يعمل لنفسه، بل للرب يسوع. فإذا لم يُطِع شريعة الرب وأوامره يكون حقاً فاشلاً في عمله، لنعُد إلى الوراء، إلى عهد موسى ونرى هلاك الناس الخطاة بلسع الحيات المحرقة في البرية، وعندما تاب الشعب وصلى موسى لأجلهم وأَمْر الله موسى أن ينصب حية من نحاس في وسط المحلة، ومن لسعته حية فليلتفت حالاً إلى الحية النحاسية ويتطلّع إليها بإيمان فينال الشفاء، لنتطلع إلى ذلك بإيمان. لو كان موسى أنانياً ويبشر بنفسه لا بالله تعالى لوقف أمام الحية، وعندما تلسع حيات النار بني إسرائيل كانوا يتطلعون فلا يرون الحية بل يرون موسى، كانوا يهلكون، هكذا من يحمل رسالة الإنجيل، من يرغب أن يصطاد الناس بشبكة الإنجيل المقدس عليه فقط أن يشير إلى الرب، الرب هو المخلص، ولكن إذا هو حجب رؤية الرب عن أولئك الناس بحيث أنهم بدلاً من أ، يروا الرب يرون هذا الإنسان الأناني فإنهم يهلكون.
إن صياد السمك يصطاد السمك ليقتلها ويأكلها، أما صياد الناس بشبكة الإنجيل يصطاد الناس لكي يمنحهم بالمسيح يسوع ربنا الحياة، وبذلك ليس له قوة أن يعطي الحياة ما لم يعطها الرب يسوع لأولئك الذين يدعوهم إلى المسيح يسوع ربنا، الرب اختار الرسل والمبشرين السبعين لكي يحملوا رسالته الإنجيلية، ليحملوا شبكة الإنجيل ويخرجوا إلى العالم أجمع ويصطادوا الناس، أولئك على الرغم من المواهب التي ينالونها لا يمكن أن ينجحوا بعملهم ما لم يسلكوا بموجب أوامر الرب وتوجيهاته. نذكر في هذه المناسبة كيف أن التلاميذ مرّة قد تعبوا طيلة الليل، ليصطادوا السمك وفي تلك الليلة لم يمسكوا شيئاً: «ولمّا كان الصبح وقف يسوع على الشاطئ… فقال لهم ألقوا الشبكة إلى جانب السفينة الأيمن فتجدوا، فألقوا ولم يعودوا يقدرون أن يجذبوا الشبكة من كثرة السمك» (يو 21: 1ـ 6). فنحن إذا ما تعبنا كثيراً الليل كله محاولين أن نصطاد الناس بشبكة الإنجيل وقد دعانا الرب لذلك فإننا نكون فاشلين ما لم نستعن بالرب يسوع ونسمع بصلاة حارّة إرشاده، ونكمل إرادته الإلهية كما فعل الرسل لنصطاد أولئك الناس للمسيح يسوع ربنا، إن كنا نعمل لأنفسنا فنحن فاشلون، إن كانت الأنانية قد استولت علينا، والمادة قد حطمت قلوبنا وأفكارنا وشغلتنا ليلاً ونهاراً لا لنخدم الرب بل نسعى لبلوغ أهدافنا المادية لمصالحنا الخاصّة، فإننا لا نستطيع أن نصطاد أحداً، وإذا اصطدناه فلم نصطده لكي يكون للمسيح يسوع ربنا إنما نكون بشبه العميان الذين يقودون العميان، وأعمى يقود أعمى كلاهما يسقطان في الحفرة، هذه الدروس لنا نحن الذين دعينا من الرب أيها الأحباء، لنخدم الإنجيل المقدس، ولنخدم كنيسة المسيح، نحن الذين ائتمنا على أسرار المسيح الإلهية لنوزع هذه النعم على البشر لنكون صيادي الناس.
الرب يسوع كما يعلمنا آباؤنا اختار التلاميذ والرسل، رسم هؤلاء شمامسة عندما أرسلهم اثنين اثنين إلى القرى والدساكر أمامه ليبشروا، رسمهم كهنة بعدما قام من بين الأموات ودخل العلية والأبواب مغلقة: «وقال لهم يسوع: سلام لكم كما أرسلني الآب أرسلكم أنا، ولمّا قال هذا نفخ وقال لهم اقبلوا الروح القدس من غفرتم خطاياه غُفرَت له، ومَن أمسكتم خطاياه أُمسكَت» (يو 20: 21-23)، ورسم الإثني عشر فقط أساقفةً عندما «أخرجهم خارجاً إلى بيت عنيا ورفع يديه وباركهم، وفيما هو يباركهم انفرد عنهم وأُصعِد إلى السماء فسجدوا له ورجعوا إلى أورشليم بفرح عظيم» (لو 24: 50-52). وكان قد أرسلهم إلى العالم أجمع ليكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها. ليصطادوا الناس في شبكته، شبكة الإنجيل المقدس، وهؤلاء إذ لبَّوا الدعوة مثل بطرس وأندراوس رسلاً كانوا أو مبشرين، أرسلوا، أرسلوا إلى العالم، ونشروا بشارة الإنجيل، أناروا دياجير الظلام في العالم اجمع فاستحقوا أن يقولوا ما قاله الرسول بولس في أيامه الأخيرة:« قد جاهدتُ الجهاد الحسن، أكملتُ السعي حفظتُ الإيمان، وأخيراً قد وُضع لي إكليل البر الذي يهبه لي في ذلك اليوم الرب الديان العادل وليس لي فقط بل لجميع الذين يحبّون ظهوره أيضاً» (2تي 4: 7و8)، يوم الدينونة ويوم مجيء الرب ثانية. ويذكر أيضاً أن هذا الإكليل أعد لكل من ينتظر مجيء الرب ثانيةً.
في سفر أعمال الرسل نقرأ عن دعوة الروح القدس لبولس وبرنابا عندما كان التلاميذ في حالة صوم وصلاة فأعلن الروح القدس أن يفرزوا شاول وبرنابا للعمل الذي اختاره لهما فصاموا وصلوا ووضعوا عليهما الأيدي وصرفوهما، والدعوة ولئن لا تكون علناً في هذه الأيام كما دعي برنابا وشاول، عندما كان التلاميذ يصومون ويصلون في أنطاكية وأرسلوا، بل الرب يلهم الرؤساء المسؤولين ليدعوا الذين يستحقون أن يكرسوا للخدمة لاصطياد الناس بشبكة الإنجيل المقدس، فإذا استجابوا ولبوا الدعوة يرسلهم إلى العالم أجمع ليبشروا الخليقة كلها بكلمة الحياة وسيدعوهم ثانيةً في انقضاء الدهر يوم يأتي المسيح في مجيئه الثاني، يوم يهيئ الأكاليل لأولئك الذين جاهدوا الجهاد الحسن وأكملوا السعي بإيمان ورجاء وربحوا إذ تاجروا بوزنات الرب واستحقوا أكاليل المجد، أكاليل البر، ليدعوهم الرب يسوع ثانيةً لا ليذهبوا إلى العالم ويبشّروا، بل لينالوا المكافأة عن عملهم، وأن يرثوا مع ربنا ملكوت السموات؛ الحالة التي أتمناها لي ولكم أحبائي بنعمته تعالى آمين.
الأحد الثالث بعد الدنح
الأحد الثالث بعد الدنح
الأحد الثالث بعد الدنح (1)†
هذه الكلمات المقدسة التي تُليَت على مسامعكم في بدء القداس كانت من الفصل الثالث من إنجيل الرب يسوع بحسب يوحنا الرّسول. وهذا الفصل مهم جّداً لأنه يضم الحديث الشيّق الذي جرى ما بين الرب يسوع وبين إنسان فرّيسي اسمه نيقوديموس. بذلك الحديث وضع الرب يسوع النقاط على الحروف وسلّط الأضواء على الولادة الثانية من السماء، في ذلك الفصل دوّن يوحنا ما قاله الرب عن محبة الله للبشر وعن الوسيلة التي وضعها الله منذ البدء لخلاص الإنسان، فسمعنا الرب يقول: هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبديّة. وسمعناه يقول: وكما رفع موسى الحيّة في البريّة، هكذا ينبغي أن يُرفَع ابن الإنسان لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبديّة.
كل ذلك في الحديث الذي جرى بين الرب ونيقوديموس وأهم من هذا فإن الرب شرح لنيقوديموس ولنا وللعالم أجمع أنه ينبغي أن نولد من فوق، أن نولد من السماء. فالولادة الجسديّة لا تؤهّلنا لندخل ملكوت الله لأن المولود من الجسد جسدٌ هو يقول الرب، والمولود من الروح روح هو. في ذلك الحديث، بل في تلك الزيارة المباركة عرفنا مدى التأثير الروحي الذي كان لشاب الناصرة الذي اعتبر نبيّاً وهو إله متجسّد. تأثيره القوي ليس فقط على البسطاء والفقراء والمساكين والمعوزّين حسب ظننا، بل أيضاً على العلماء والحكماء والرؤساء والفريسيين وأعضاء مجلس السنهدريم الذي هو أعلى مجلس لليهود في تلك الأيّام. فالمسيح الذي اختار بطرس وأندراوس أخاه ويعقوب ابن زبدي ويوحنا أخاه، المسيح الذي اختار العشّار متّى وغيرهم من الإثني عشر والسبعين، وكان يظن أنهم كانوا بسطاء وفقراء، وبالحقيقة لم يكونوا كذلك، كانوا من جملة الغيارى، الفريسيين كانوا ينتظرون مجيء ماسيّا والمؤمنين ودارسي النبوءات الذين كان بعضهم تلاميذ ليوحنا المعمدان. كانوا يتعلّمون كل شيء عن النبوءات وهم ينتظرون مجيء المخلّص ولكن بحسب عادة اليهود، وكانت نِعم العادة أن يتعلم الإنسان مهنة تفيده في وقت الضيق، لذلك كانوا صيّادين ولكن كانوا عارفين بأمور الدّين، ولم يكونوا عَمَلة بل كانوا أصحاب عمل، فكانوا يملكون قوارب للصيد. ولكن إلى جانب هؤلاء نرى تلميذاً يظهر مميزاً على السّاحة، الإنسان الذي قيل عنه أنه جاء إلى يسوع ليلاً، أنه نيقوديموس. وُصِف بأنه رئيس لليهود لأنه كان أحد الرؤساء السبعين الذين كانوا أعضاء في مجلس السنهدريم ووُصِف بأنه فرّيسي ووُصِف بأنه جاء إلى يسوع ليلاً. ذكره الرسول يوحنا ثلاث مرّات وفي المرات الثلاث يذكر أنه جاء إلى يسوع ليلاً، أجل جاء ليلاً، هل جاء متخفّياً، أين كان يسوع؟. بحسب مجريات الحوادث نعلم أنه في اليوم الذي سبق مجيء نيقوديموس إلى الرب ليلاً كان يوماً حافلاً صاخباً، كان الرب يسوع قد صنع له سوطاً من الحبال، استعمله لطرد الصيارفة وباعة الحمام من الهيكل عندما قلب موائد باعة الحمام ونادى: «بيتي بيت صلاة يدعى وأنتم جعلتموه مغارة للصوص» لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة. وأثار بذلك حفيظة الكتبة والفريسيين والكهنة ورؤساء الكهنة، وكان هو وتلاميذه آخر النهار مجتمعين في قرية في ضواحي أورشليم على الأغلب وإذا بالباب يُقرَع وإذا بإنسان هيوب إنه شيخ ورئيس وفرّيسي وغني ومعروف لدى العامّة والخاصّة، إنه نيقوديموس. جاء يريد أن يلتقي الرب يسوع ليلاً، أنا متأكّد أنه لم يكن وحده، لعل بعض أصدقائه من الفرّيسيين كانوا يرافقونه. دخل باحترام وتكلّم مع الرب بأدب مظهراً إيمانه به، هذا أمر غريب جداً، شيخ وعالم وفرّيسي وله مرتبة سامية كعضو في مجلس السنهدريم وغني أيضاً هذه الصّفة كانت ممدوحة جدّاً لدى اليهود في تلك الأيام خاصّةً، جاء يخاطب شاب الناصرة الذي اعتُبر كنبي وكان قد ثار على الهيكل ورؤسائه وعلى من دنّس الهيكل وطرد هذا وذاك بسلطان إلهي. يأتي إليه ويقول له يا معلِّم، وهذه الصّفة كانت سامية جدّاً ومحترمة لدى اليهود، لا يكون معلّماً ويُلقَّب بمعلّم إلاّ من تخرّج في كليّتهم اللاّهوتية ليأخذ صفة كهذه. يا معلم، ليس هذا فقط: نحن نعلم أنّك قد أتيتَ من الله معلّماً، فهو أسمى من كل المعلّمين الذين تخرّجوا من المدارس الدينية، ولكن يسوع قد أتى من الله معلّماً، نيقوديموس يشهد للمسيح بذلك. لا بد أن التلاميذ ابتهجوا جدّاً، هذا نصرٌ للنبي الشّاب ولكن الرب يسوع لا يلتفت إلى المديح ولا إلى الذّم، إنّما يريد خلاصي وخلاصك، كما أراد خلاص نيقوديموس. فيجيبه: ينبغي أن تولدوا من فوق، ينبغي أن تولدوا من فوق. هذا هو النهج الذي جاء لأجله المسيح، أن تولدوا من فوق، فنهج لنا المعمودية لتكون باباً لنا للدخول إلى ملكوته الأرضي لنتهيّأ إلى دخول ملكوته السماوي. الولادة من فوق يذكرها الرّسول يوحنا عن أولئك المؤمنين الذي أعطاهم ألاّ يولدوا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل، بل من الله. الولادة من فوق ليكونوا أولاداً لله بالنعمة. ويدور الحديث عن هذه الولادة. كانت ولادة شبيهة بهذه تُمارَس لدى اليهود بالنسبة إلى معموديّتهم. كان الذي يرغب من الوثنيين أن يصير يهوديّاً أيضاً، كانت هناك غسولات كثيرة له على شبه معموديّة يوحنا، ولكن نيقوديموس يتجاهل ذلك ويسأل الرب يسوع: كيف يولد الإنسان وهو شيخ، ويجيبه الرب يسوع قائلاً: أنت معلّم إسرائيل ولا تعلم ذلك. لكن هذا لا يكفي، بل ينبغي الميلاد من الماء والرّوح القدس والنار، الرّسالة التي جاء لأجلها الرب يسوع إلى أرضنا لكي يفدينا ولكي نولد به من فوق ويحل روحه القدوس علينا لنتبرّر ونتقدّس ونصير أولاداً لله بالنعمة. كانت زيارة مباركة جدّاً لذلك الإنسان ولكن نيقوديموس بعد أن سمع كلمات الروح، بعد أن علم أموراً لم يكن يتصوّرها لأنها من السماء حتى أن الرب ذكّره قائلاً: إن كنّا قلنا لكم الأرضيّات ولم تصدّقوا فكيف لو قلنا لكم السماويات. فكانت تلك الزيارة فاتحة لعهد جديد. أولاً نعلم فيه أن إنساناً فرّيسيّاً تأثّر بالرب يسوع وآمن به، جاء ليلاً، لا نستطيع أن نلومه ربما جاء ليلاً لأنهم كانوا، وليتنا نكون مثلهم يجلسون إلى دراسة الناموس ينتهزون فرصة هدوء الليل، وفي هدوء الليل يدرسون الناموس فأراد نيقوديموس أن يجلس عند قدمي يسوع في السكون والهدوء لكي ينصت إليه جيداً ولعله جاء ليلاً أيضاً خوفاً من عيون رفقائه لأنهم لو علموا أنه معجب بالرب يسوع وإنه في طريقه إلى الإيمان به لحرموه وطردوه ويقال أن تأثير هذه الزيارة على نيقوديموس أصبحت واضحة لأن يوحنا يذكر أيضاً في الإنجيل المقدس أن اليهود عندما حاولوا في مجلس السنهدريم أن يحكموا على الرب دافع عنه نيقوديموس وذّكرهم أن شريعتهم لا تحكم على إنسان دون أن تستجوبه وتعرف عنه كل شيء. فاتهموه بأنه أخذ جانب يسوع لأن هو أيضاً جليلي كما أننا رأينا هذا التأثير أن نيقوديموس بعد صلب المسيح ولعله تذكر ما قاله له المسيح أنه كما رفع موسى الحية في البرية هكذا يجب أن يرفع ابن الإنسان لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبديّة. تذكر ذلك وقد رأى المسيح معلقاً على الصليب هناك طرح عنه كل خوف هناك حقاً ابتدأ بالشعور أنه ينبغي أن يولد من فوق هناك كرّس نفسه للمسيح يسوع ولذلك نرى نيقوديموس في التاريخ الكنسي أنه قد طرد من مجلس السنهدريم ولكن أشفق عليه غملائيل معلم التوراة لأنه كان من أقاربه وأعطاه داراً خارج أورشليم. لقد صار مسيحياً ولد من فوق ميلاداً ثانياً كما قال المسيح وهو يشرح ذلك: إن الريح تهب حيث تشاء وتسمع صوتها ولكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تمضي، هكذا المولود من فوق مولود من السماء نحن لا نشعر كيف يحدث هذا التغيير في هذا الإنسان كما لا نشعر بالريح ولكننا نعرف تأثير هذه الروح الإلهية التي تحل على الإنسان فيولد من السماء وكان تأثيرها في نيقوديموس أنه أعلن نفسه تلميذاً للمسيح وأنا متأكد بأنه قد ندم على مضيعة ذلك الزمن الذي عبر دون أن يكون مكرساً إياه في خدمة يسوع، كان عليه أن يعلن نفسه تلميذاً له في تلك الليلة التي زار فيها المسيح ليتبعه كما تبعه بطرس وأندراوس ويوحنا وبقية الرسل والتلاميذ ولكن لم يتمكن أن يضحّي بمركزه المرموق ويغلب كبرياءه ولكن بعدئذ ولد حقاً من فوق وأصبح من أتباع الرب يسوع وربما تسقّف على إحدى المدن. كم نحن معجبون بنيقوديموس ولكن علينا أن تقتدي به كيف نستطيع أن نتمثل نيقوديموس الإنجيل المقدس بين يدينا المسيح يكلمنا من خلال الإنجيل لنجلس إليه بهدوء الليل وسكونه وننصت جيداً إلى المسيح يسوع لكي نبقى أولاداًَ لله بالنعمة ونستحق أن نرث ملكوته السماوي كأبناء روحيين شرعيين الحالة التي أتمناها لي ولكم بنعمته تعالى آمين.
الأحد الثالث بعد الدنح (2)†
«الإنسان الذي جاء إلى يسوع ليلاً»
بعد نهار صاخب قضاه الرب يسوع في الهيكل حيث كبَّ الصيارفة وقلب موائدهم، صنع سوطاً من حبال وطرد الجميع من الهيكل الغنم والبقر يكبَّ الدراهم وقال لباعة الحمام ارفعوا هذه من ههنا، لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة. فتذكر تلاميذه أنه مكتوب غيرة بيتك أكلتني (يوحنا 3: 15-17). بعد هذا النهار الصاخب قضاه الري يسوع الذي دعانا ودعا العالم ليتعلم منه التواضع ووداعة القلب رأيناه يمسك سوطاً بيده ويوبخ أولئك الذين حادوا عن شريعة الله وجعلوا من الدين وسيلة لهم لإشباع جشعهم وطمعهم وعبادة المادة، بعد كل ذلك وجدنا الرب يسوع في بيت مع تلاميذه في أورشليم أو في إحدى القرى القريبة من أورشليم، كان في الليل يحّدث تلاميذه ربما يشجعهم على قول كلمة الحق والدفاع عن شريعة الرب بكل شجاعة وبسالة غير هيابين من الناس في تلك الأثناء قرع باب البيت ودخل من دعاه يوحنا برجل أو لإنسان عرف من لباسه وربما كان يُعرف من العديد من التلاميذ أنه نيقوديموس، نيقوديموس ومعنى اسمه الآرامي الطاهر الجنس والأصل، كان أحد رؤساء اليهود ومعنى ذلك كان عضواً في مجلس السنهدريم الذي كان يتألف من سبعين شخصاً من كبار القوم لهم مركزهم الديني ولئن كانوا زعماء علمانيين لا دينيين ولهم مركزهم الاجتماعي كما كانت لهم قوتهم السياسية وسلطانهم حتى في الحكم على الإنسان الخاطئ بالموت بحسب شريعة موسى ولكن وجود الاستعمار الروماني يومئذ لم يستطيعوا أن ينفذوا أحكاماً كهذه. دخل نيقوديموس البيت اتجه نحو الرب يسوع قائلاً له: يا معلم نحن نعلم أنك أتيت من الله معلماً لأن الآيات التي تصنع لا يستطيع أحد أن يصنعها ما لم يكن الله معه، صفة المعلم كانت صفة سامية تعادل مثلاً في أيامنا هذه من له شهادة عالية في علم اللاهوت وكانت هذه الصفة لا تطلق إلا على من تخّرج في مدارسهم الدينية يوم ذاك ولكن نيقوديموس هذا الإنسان الذي يظهر أنه تتبع ما كان يعمله يسوع ويعلمه يدعو يسوع معلماً وليس هذا فقط ليس كسائر المعلمين يدعوه معلماً قد جاء من الله لأنه برهن على قوته الإلهية بالمعجزات الباهرات التي اجترحها، نعلم أنك أتيت من الله معلماً. يسوع لا يهمه أن يُكيل له الناس المديح قد جاء من الله معلماً إنه حقاً جاء من الله مخلصاً ومنقذاً فيهمه أمر الخلاص لذلك يلتفت إلى نيقوديموس قائلاً: ينبغي أن تولدوا من فوق وحواره مع نيقوديموس يعلمنا أموراً كثيرة، كيف يولد الإنسان وهو شيخ؟ يقول نيقوديموس.
الرب في كلامه مع نيقوديموس يبرهن أن المولود من الجسد جسد هو والمولود من الروح روح هو ويعلن العقيدة السامية عن سر المعمودية بقوله يجب أن تولدوا من الماء والروح، لم تكن هذه الولادة جديدة على اليهود، إن الوثني في تلك الأيام إذا ما تهوّد كانوا يدخلونه في طقوس كمعمودية يوحنا مثلاً أن يغسل بالماء ولكن الرب يقول لنيقوديموس أن تكون الولادة من الماء والروح وأيضاً من الروح القدس والنار ونستغرب كيف يولد الإنسان من النار أما الروح فقد علمنا أن التلاميذ يوم الخمسين قد ولدوا بالروح ولكن أيضاً رأينا الروح يهبط على هامة كل واحد منهم بشبه ألسنة نارية بل أيضاً حيث كان الإله في العهد القديم كانت هناك نار تلتهب، التهبت العوسجة بالنار ولم تحترق كان هناك نار اللاهوت بالذات بشبه نار آكلة بل أيضاً التهب الجبل عندما أعلن الله شريعته في العهد القديم على يد موسى التهب أيضاً بالنار فمعمودية النار إذن هي معمودية الله لكنها ظهرت عندما جاءنا الرب يسوع مخلصاً، كانت رموز لوجود الرب أما هنا فالرب بالذات ظهر متجسداً وأمر أن تكون معموديته معمودية الماء والروح وعمودية الروح القدس والنار.
نيقوديموس لا يدرك هذه الحقائق الرب يقول له أنت معلم في إسرائيل ولا تعرف هذا ويقول أيضاً إذا كنّا قلنا لكم الأرضيات ولم تؤمنوا فكيف تؤمنون إذا قلنا لكم السماويات.
في هذا الحديث الشيّق تظهر عقائد سامية يعلن المسيح إن الدافع لإرساله إلى العالم هو محبة الله للناس للبشر كافة «لأنَّه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية» ويعلن لنا الرب أيضاً كيفية البذل الذي قام به ابن الله فيذّكر نيقوديموس بالحية النحاسية في البرية يذكره بالحيات المحرقة التي تمثل إبليس وجنده ويذّكره بأمر الرب لموسى أن يرفع الحية في البرية ويقول كما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يرفع ابن الإنسان لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية.
لقد نهج لنا الرب باب الخلاص عن طريق المعمودية بالإيمان عندما يعتمد الطفل على مسؤولية والديه وأشابينه بإيماننا أنه قد ولد من فوق ولد من السماء ولد ميلاداً ثانياً أصبح ابناً لله بالنعمة وفي الوقت نفسه عندما نذكر الحية النحاسية نرى أننا إن أصابتنا لسعات الحيات المحرقة الخطايا والآثام الكثيرة في العالم إن كان لنا إيمان بالذي صلب عوضاً عنّا نتطلع إليه كما تطلع بنو إسرائيل إلى الحية النحاسية فننال الشفاء التام من أمراض الروح، بالإيمان أيضاً نرى أننا عندما نعمّد طفلاً إن الروح يحل عليه كما حلّ على المسيح يوم اعتمد من يوحنا أعلن المسيح مخلصاً يوم ذاك وأعلنه يوحنا إنه حامل خطايا العالم، بهذا الإيمان نولد ثانية وإذا ما أخطأنا ونحن بشر فقد نهج لنا الرب سر التوبة والاعتراف لنعود إلى النعمة التي نفقدها بالخطية.
بالإيمان فقط أيها الأحباء نستمر في حياتنا الروحية كأبناء لله بالنعمة والسؤال الكبير من ذلك الحديث نستمده من الحوار الذي قام بين المسيح ونيقوديموس، ماذا كان تأثير هذا الحديث على نيقوديموس؟ هل ولد نيقوديموس ميلاداً ثانياً؟ هل تبع نيقوديموس المسيح؟ عندما نقرأ الإنجيل المقدس أيها الأحباء نرى أن التلاميذ الذين تبعوا المسيح كانوا بحسب ظننا بسطاء صيادين ولكننا في الوقت نفسه علينا أن نعلم أن أولئك الصيادين لم يكونوا بسطاء، كانوا من أولئك الذين كانوا قد درسوا النبوات وينتظرون مجيء مشتهى الأمم ماشيحا المنتظر لخلاص البشرية ولكن كان على كل يهودي أن يمتهن مهنة يمارسها خاصة في وقت الضيق ولذلك كانت مهنتهم صيادين أو مهنة ثانية بسيطة ولكن كانوا يعرفون الكتاب وكانوا مثقفين ثقافة روحية إنما نجد بينهم كنيقوديموس رجلاً ذا مركز اجتماعي مرموق وُصف أيضاً أنه كان غنياً جداً جاء إلى يسوع ليلاً خوفاً من أصدقائه وزملائه في مجلس السنهدريم الذين لو اكتشفوا أنه يؤمن بالمسيح لحرموه وعندما قابل المسيح وحاوره نال نعمة عظيمة وشجاعة وبسالة وجادل وحاور ودحض أصدقائه في مجلس السنهدريم عندما أرادوا أن يحكموا على الرب يسوع ظلماً واتهموا نيقوديموس بأنه وهو جليلي انحاز إلى جانب الرب يسوع وأخيراً لقد ولد نيقوديموس ثانية عندما صلب الرب كان مع أولئك الواقفين عند الصليب وهو يتأمل المصلوب ويتذكر الحية النحاسية التي كان المسيح قد ذكّره بها وكان أحد اثنين هو ويوسف الرامي قد طلبا من بيلاطس أن يأخذا جسد يسوع ودفنه في قبر جديد، ويقول التاريخ أن نيقوديموس إذ آمن بالمسيح كان قد ذهب إليه ليلاً ولكن في واضحة النهار أعلن إيمانه بالمسيح واعتمد على يد بطرس ويوحنا بل أيضاً نال رتبة الأسقفية.
لقد ولد نيقوديموس ثانية ضحّى بالمركز المرموق، ضحّى بغنى وأمجاد هذا العالم في سبيل المسيح يسوع فربح المسيح وولد ثانية بل أيضاً ربح ملكوت الله فهو قدوتنا ومثالنا وهو مثال لكل من يحب المسيح الذي أحبنا أولاً وبإمكانه أن يضحّي بأمجاد العالم ليرث ملكوت السماء الحالة التي أتمناها لي ولكم أحبائي بنعمته تعالى آمين.
الأحد الثالث بعد الدنح (3)†
«لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لايهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية»
هذه الآحاد التي تلي عيد غطاس الرب يسوع أي عماده الذي نسميه عيد الدنح ايضاً لأن فيه ظهر الثالوث الأقدس وأشرق عندما اعتمد الرب يسوع من عبده يوحنا ، فالرب يسوع اعتمد والآب شهد له من السماء بقوله: «أنت هو ابني الحبيب الذي به سُررتُ».
فظهر الآب بالصوت وظهر الروح بالحمامة التي هبطت على هامة الرب بعد عماده أثناء صلاته، والابن قد اعتمد من يوحنا. فعقيدة الثالوث بدت ظاهرة للعيان في تلك اللحظات والآحاد التي تلت عيد الغطاس أو الدنح ذكرى عماد ربنا يسوع المسيح تؤكد لنا وتُثبت هذه العقيدة بل أيضاً تُظهر لنا كيف أننا نلنا الخلاص بربنا يسوع المسيح. نذكر في هذه الآحاد حدثاً مهماً جداً هو زيارة نيقوديموس الذي دُعي أحد رؤساء اليهود والذي اختص بذكره يوحنا كرر الكلام عنه بأنه الإنسان الذي جاء إلى يسوع ليلاً، من هو نيقوديموس؟ اسمه السرياني الآرامي يعني النقي بل هو نقيٌ بأصله وشرف عائلته ومقامه السامي، اُعتبر أحد الأغنياء الذين عاشوا في زمن التجسد الإلهي وعمل التدبير الإلهي بالجسد لربنا يسوع المسيح، ذكره الإنجيل المقدس أنه غني وذكره التقليد اليهودي في كتابهم التلمود أنه رابع أربع أغنياء في اليهودية في تلك الأيام، وذكره أنه كان فريسياً هذا يقوله يوحنا الرسول في الإنجيل المقدس: «جاء إلى يسوع ليلاً» لابدَّ أنه التقى بالرب يسوع في أماكن عديدة لابدَّ أنه استمع إلى تعاليمه السامية وشاهد المعجزات الباهرات التي اجترحها وكان في كل اجتماعات السنهدريم، والسنهدريم مجلس لليهود علماني فنيقوديموس لم يكن كاهناً كان علمانياً وكان وجيهاً وكان فريسياً وكان يُعتبر بين الذين قد اتصفوا بضميرٍ حسّاس وحي ولذلك ولئن شارك رفاقه في اجتماعاتٍ عديدة ذُكر فيها الرب يسوع بالسوء والاتهامات العديدة ولكنه كان نقياً كان طاهراً كان كضميرٍ حي آمن بالسر بالرب يسوع ولكن لم يكن يتمكن من لإظهار وإشهار وإعلان هذا الإيمان أمام الناس وإلا كان يُطرد من مجلس السنهدريم ويُدحض من الجماعة وكان لابد أيضاً أن يُعاقب حتى جسدياً ولذلك قيل في الإنجيل المقدس: «أنه الإنسان الذي أتى إلى يسوع ليلاً» ربما كان خائفاً والخوف صفة للإنسان العاقل الحذر وربما ايضاً في مجيئه إلى الرب يسوع انتهز حلول الليل وسكونه الوقت الذي كان فيه اليهودي التقي دائماً يجلس إلى أسفار التوراة ويصلي ويتأمل بالشريعة فانتهز نيقوديموس حلول الليل بعد يومٍ صاخبٍ قضاه الرب يسوع في أورشليم وكل يوم يقضيه مع أولئك القوم كان يوماً صاخباً وبعد ذلك اليوم في نهايته رأينا الرب يسوع في بيت، في بيت ضواحي أورشليم أو كما يظن بعضهم ويعتقد آباؤنا أنه كان في بيت مريم أم مرقس في العلية الصهيونية التي صنع بها عشاؤه الأخير وغسل أقدام التلاميذ وهذا البيت لايزال بيتاً مقدساً وهو ديرنا دير مار مرقس في القدس. لعله كان هناك وفي ساعةٍ قد تكون متأخرة من الليل قُرع باب البيت، من جاء يا ترى؟ الكتبة والفريسيون يتربصون الرب يريدون أن يُمسكوا عليه حجة لكي يعدموه، فُتح الباب فإذا به إنسان محترم جداً بألبسته التقليدية كفريسي يدخل إلى البيت، نحن نفكر لو كنَّا من تلاميذ الرب ونعلم أن الفريسيين كانوا ضدَّ إلهنا المتجسد نفكر بأن وراء ذلك قد تكون مؤامرة على الرب يسوع ولكننا نرى هذا الإنسان ربما جاء لوحده هذه المرة، يُحيّي الرب يسوع باحترامٍ وإكرام ويدعوه رابون (رابوني) يا معلم: «نحن نعلم أنك قد أتيت من الله معلماً»، لماذا يقول من الله معلماً؟ لأن الرب يسوع لم يدخل كليات اللاهوت في زمانه ولم يُعطَ له شهادة مثلاً من غمالائيل معلم التوراة الذي كان معلماً للرسول بولس ولا من غيره من أولئك الذين كانوا قد تمرسوا بدراسة الشريعة بحسب تقاليد اليهود ولكن يقول لهُ قد أتيتَ من الله معلماً. لماذا؟ لأن الآيات التي تجترحها لا يستطيع إنسان أن يقوم بذلك ما لم يكن الله معه.
هنا أظهر إيمانه بالرب يسوع الرب يسوع ليس مثلنا البشر العاديين ربما نفرح عندما الإنسان يُمتدح، ولكنه يريد خلاص البشر يقول له: «ينبغي أن تولدوا من فوق»، يسأله نيقوديموس: كيف للإنسان أن يولد وهو شيخ؟ أيدخل بطن أمه ثانيةً ويولد؟، ويشرح له ذلك الرب يسوع: «إنَّ المولود من الجسد جسد هو والمولود من الروح روحٌ هو، ينبغي أن تولدوا من الماء والروح». في هذه العبارة يشعر نيقوديموس أن في الأمر سراً عجيباً ،الولادة من الماء والروح ليس هذا فقط الولادة من الروح القدس والنار يقول له الرب: الولادة من فوق من السماء، وبعد أن يستفسر عن ذلك ربما مثلما قال له الرب يسوع: أنت معلم إسرائيل ولا تعلم هذا، لماذا قال له أنت معلم اسرائيل؟ يجب أن يعلم معلم إسرائيل أن الولادة من الماء والروح كانت ضرورية جداً لكل إنسان وثني إذا أصبح يهودياً كان يُعمَّد ومن هنا جاءت معمودية يوحنا، ومن هنا جاءت معمودية الرب يسوع أيضاً، أن النور والماء يغسل الجسد وبنفس الوقت يغسل أيضاً أدران النفس فيولد الإنسان ثانيةً، من لا يولد من فوق من الماء والروح والنار، لماذا النار؟ لأن الله عندما كان يظهر، يظهر بنارٍ ملتهبة هكذا ظهر لموسى كانت العوسجة تلتهب ولكن لم تحترق وهكذا ظهر أيضاً لبني اسرائيل عندما كان الجبل يلتهب وأعطاهم الشريعة فعندما الإنسان يولد من الروح القدس والنار يكون قد تنقّى والنار أحرقت الخطايا لأن الله يريد بالنار علامة ظهوره للبشر. يشرح الرب يسوع هذا الأمر ليس هذا فقط لأن نيقوديموس رأى في ذلك كما نرى كلنا حقارة جداً باليهود لأن اليهودي يعتبر نفسه نقي وأنه منقّى وأنه طاهر، لماذا يعتمد، ولماذا يأخذ النار والروح القدس والماء، معنى ذلك أن هذا اليهودي قد فقد يهوديته، قد فقد أيضاً عهود الرب الإله مع إبراهيم أولاً ثم مع موسى ومع الشعب كافة وأصبح مثل الوثني لابدَّ أن يغتسل حتى يتنقّى ويُحسب ضمن شعب الله هكذا نُفسر هذه التعاليم التي قالها الرب يسوع لنيقوديموس وأهم أمر في الحديث ما بين الرب يسوع ونيقوديموس إعلان الرب يسوع لعقيدة التجسد يقول: «له لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية»، ويُظهر الرب يسوع الوسيلة التي اختارها لكي يخلص العالم من الخطية الجَدية والخطايا الشخصية فيقول لنيقوديموس: «كما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية»، طبعاً نحن كمؤمنين بالرب يسوع نلنا نعمة عظيمة جداً لأنّ الرب يسوع قد رُفع على الخشبة التي كانت علامة لعنة وحوّلها الرب إلى بركة، رُفع بل أيضاً مات على الخشبة ودُفن وقام من بين الأموات وفدانا من الخطية الجَدية والخطايا الشخصية، لذلك محبة الله الآب للإنسان أرسل ابنه الوحيد وبذل الإبن الوحيد ذاته في سبيل فداء هذه البشرية كما أعلن نيقوديموس هذه الحقيقة الإلهية كما أعلن الرب يسوع لنيقوديموس هذه الحقيقة الإلهية. إذن نتعلَّم من ذلك أولاً أن علينا أن نعتمد بالماء والروح وهذه نعمة عظيمة نشكر الله عليها لأننا ربما لو لم نولد مسيحيين ربما كنا هالكين ولكنَّ الرب أنعم علينا فوُلدنا من والدين مسيحيين نالا نعمةَ وراثة ملكوت الله لنرث نحن هذا الملكوت، إذ نصبح مولودين من فوق بواسطة المعمودية من الماء والروح القدس والنار ، نولد من فوق لكي ننال الخلاص ونصبح أولاداً لله بالنعمة، ثم نرى أننا أيها الأحباء بعد أن وُلدنا من فوق وأصبحنا أولاداً لله بالنعمة استحقَّ كل واحد منَّا إن كان قد سار بموجب شريعة المسيح أن يكون كابنٍ وارث لملكوت الله السماوي.
هذه الحقائق نلناه وأعلنها الرب لنيقوديموس ولكن هل نيقوديموس يا تُرى آمن بذلك؟ هل نيقوديموس استحق أيضاً أن يولد من فوق؟ أن يؤمن علناً وجهراً بالرب يسوع، كان ذلك بعد أن صُلب الرب يسوع بعد أن نلنا الفداء بدم المسيح يسوع، بعد أن رأى نيقوديموس إتمام قول الرب يسوع: أنه ينبغي للإنسان أن يُرفع «وكما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية» نحن وإن كنا مسيحيين ولكننا إن لم نقتدِ بنيقوديموس ونجلس إلى الرب يسوع إلى الإنجيل المقدس ندرس الحقائق في سكون الليل وهدوئه وندرك مؤمنين ما كُتبَ في الإنجيل المقدس إنما كُتب لنا ليستمر الخلاص لنا وللآخرين المؤمنين بالرب يسوع فنيقوديموس تذكر الحية في البرية تذكر كيف أن الحيات المحرِقة التي أهلكت العديد من بني اسرائيل لذنوبهم أمر الله موسى ليرفع حية النحاس في البرية وأمره أن يقول لبني اسرائيل من لسعته الحيّات المحرقة فقط يتطلع إلى الحية النحاسية فينال الشفاء ليس الموضوع أن يتطلع ، الموضوع أن يؤمن أن الله قد وضع شفاء ، سبب الشفاء في هذه الحية . لذلك والحية كالحياة المحرقة لكنها تخلو من السّم وأعطاها الله قوة أن تُعطي الذين يتطلعون إليها فقط ، يعني الطفل إذا لسعته الحية فعلى أهله فقط أن يرفعوه ليرى الحية النحاس وحينئذٍ ينال الشفاء ، المسيح رُفع على العود والصليب كان سبب لعنة ، ملعون كل من عُلق على خشبة قيل في العهد القديم لكن ولئن كانت اللعنة بالخشبة إنما تحولت إلى بركة بالمسيح يسوع فنحن عندما نتطلع إلى صليب المسيح نؤمن أن المسيح قد عُلق على الصليب وتقليدنا في كنيستنا أيها الأحباء أننا لا نضع على الصليب صنماً، تمثالاً ، لأن المسيح ولئن رُفع على الصليب ولكنه نزل أيضا من الصليب ودُفن وقام من بين الأموات . فالصليب إذن يبقى علامة لنا ، علامة خلاص عندما نتطلع إليه نؤمن أن الرب قد عُلق عليه في سبيل فدائنا ونتطلع إليه أيضاً لننال الخلاص من الحية المحرقة ، من إبليس وجنده الذين غلبهم الرب يسوع بصليبه وبقيامته من بين الأموات . ما أعظم هذا التعليم الذي ظهر لنا بواسطة نيقوديموس بالرب يسوع ، ونيقوديموس رأيناه بعدئذٍ ويذكره يوحنا بأنه الذي جاء إلى يسوع ليلاً ، نراه في مجلس السنهدريم يدافع عن الرب يسوع عندما أراد المجلس أن يحكم على الرب يسوع ظلماً وحكموا عليه بالظلم بعدئذٍ قال لهم : هل شريعتنا تسمح أن نحكم على إنسان دون أن نسمعه بل أننا نرى إيمانه بالرب يسوع بعد أن عُلق المسيح على الخشبة ، تذكر نيقوديموس ما قاله المسيح بهذا الخصوص له في تلك الليلة المباركة فآمن بالمسيح ، آمن جهراً أعلن إيمانه أمام الكبير والصغير ، أمام الشريف والعظيم في المراتب والحقير أيضاً كان أحد الذين بمقامه السامي أن يطلب جسد الفادي من بيلاطس البنطي وكان هو ويوسف الرامي قد حنطا هذا الجسد ودفناه بإكرامٍ في قبر جديد منحوتٍ في صخر حينذاك أعلن إيمانه ويقول التاريخ أنه طُرد من مجلس السنهدريم وحُرم ، بإعلان حرمانه أصبح غريباً عن جماعة اليهود وهذا كان شرفاً بل بركةً عظيمةً له وبعدئذٍ نراه أيضا في عداد المؤمنين الذين اُضطهدوا فهو معترف ن المعترف هو الذي يُضطهد ولم يستشهد ولكنه يموت موتاً طبيعياً بعدئذٍ ويتألم ولكن يكون قد نال النصر على إبليس واستحق أن يرث ملكوت الله ويذكر التاريخ أنه دُفن بإكرام بيد أتباع الرب يسوع في قبرٍ إلى جانب قبر استفانوس الشهيد هذا نيقوديموس أحبائي يعلمنا درساً عظيماً أننا مهما كانت مراكزنا سامقة مدنية أو دينية ومهما حاز أحدنا من الغنى والجاه والاحترام لا شئ تجاه إيماننا بالرب يسوع إذا آمنا نكون قد وُلدنا من فوق نصبح اولاداً لله بالنعمة ونشكر الله ونشكر آباءنا الذين ولدونا ليس بالجسد فقط بل أيضا بالإيمان بالرب يسوع وُلدنا من فوق إذ اعتمدنا باسم المسيح دُفنا معه في المعمودية بالموت وكما قام المسيح من بين الأموات نقوم نحن أيضاً في جدة الحياة أو في الحياة الجديدة كما يذكر ذلك الرسول بولس فنضحي بكل شئ في هذه الحياة لنكسب المسيح كما ضحى نيقوديموس بمركزه السامي ، بغناه ، بكل ما كان له من جاه ، ولكنه ربح المسيح أسأله تعالى أن يجعلنا أيها الأحباء ممن يجلس إلى المسيح يسوع ربنا عن طريق دراسة الإنجيل المقدس في الليالي الهادئة الساكنة وفي الأيام المشرقة أيضا ويؤمن بأنه قد وُلد من فوق من السماء لا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله كما يقول يوحنا الرسول في الإنجيل المقدس وأنه إذا مات وسار بموجب شريعة ربنا يسوع المسيح يرث معه الحياة الأبدية الحياة التي أتمناها لي ولكم أحبائي بنعمته تعالى آمين.
الأحد الثالث بعد الدنح (4)†
«الحق الحق أقول لك إن كان أحدٌ لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله»
(يو3:3)
في الأصحاح الثالث من الإنجيل المقدس أيها الأحباء بحسب الرسول يوحنا، تلخص لنا عقيدة الفداء، كيف المسيح فدانا، وكيف ننال نحن نعم الفداء من المسيح يسوع، في هذا الأصحاح نجد إنساناً ويدعوه إنسان، إنساناً جاء إلى يسوع ليلاً، كان ذلك الإنسان كما يصفه الإنجيل المقدس فريسياً، رئيساً لليهود، وذا مقام سامي واعتبار واحترام، اسمه نيقوديموس، وهذا الاسم معناه بالسريانية الآرامية( النقي، الكبير المحتد، الأصل، يعني أصله كريم)، ويذكر عنه كتاب التلمود اليهودي أنه كان رابع أربع رجال أغنياء جداً في المدينة المقدسة، ويذكر عنه أيضاً أنه هذا قد تبع المسيح، نيقوديموس إذاً فريسي له إحترامه وكرامته عند الناس، وكان غنياً جداً، وكان رئيساً لليهود، ربما رئيس أحد مجامع اليهود، وكان فريسياً.
نترك كل هذه الأمور ولكننا نعرف أن هذا الإنسان آمن بالرب يسوع، يقول يوحنا في الإنجيل المقدس، أن نيقوديموس جاء إلى الرب يسوع ليلاً، لم يأتي فجأةً إلى الرب يسوع بالنسبة إلى ما فكر هو فيه، لأنه لا بد قد اجتمع بالرب يسوع قبل الآن، لا بد أنه قد استمع إلى تعاليمه السامية ورأى معجزاته الباهرات، ولذلك وقد أثرت هذه التعاليم، وهذه الأعمال المجيدة العجيبة به، لذلك فكر أن يأتي إلى الرب يسوع يأتي ليلاً.
+ لماذا ليلاً؟ ربما نظن أنه قد خاف من رفاقه الفريسيين والكتبة، وبقي هو مؤمناً بالرب يسوع سراً، لكن هذا الأمر ولئن كان له اعتبار في هذه الزيارة، لكن في الحقيقة أنه قد جاء إلى المسيح ليلاً لكي يختلي به، لأنه في النهار الرب منهمك جداً بتعاليمه وبشفاء المرضى، بكل ما كان يقوم به من عجائب، لذلك جاء إلى البيت الذي كان فيه الرب يسوع ليلاً.
أين كان هذا البيت؟
هل كان في بيت مريم أم مرقس؟ أي العلية الصهيونية التي هي دير مار مرقس السرياني في القدس الذي فيه أتم الرب يسوع عشائه الأخير وغسل أقدام تلاميذه.
هل كان في بيت عنيا الضيعة القريبة من أورشليم، بيت لعازر ومريم ومرتا؟
ليكن هذا أو ذاك، نحن نتخيل أن الرب يسوع جاء إلى بيت ليرتاح هو وتلاميذه، ونتخيل نيقوديموس ذلك الإنسان الشريف الجنس الذي له المركز السامي والغنى الفاحش، يأتي ويقرع الباب، ويخرج من يفتح الباب ويتعجب، فريسي كنيقوديموس يأتي لزيارة الرب، ولعل التلاميذ فرحوا جداً، أن إنساناً كهذا يأتي ويسلم على الرب يسوع. لم يكونوا يتصوروا مهما كان الإنسان عظيماً فهو لا شيء إلى الرب يسوع الناصري. دخل نيقوديموس إلى البيت، سلم على الرب يسوع، حياهُ قائلاً: «يا معلم، نحن ـ يعني نيقوديموس وغيره من الفريسيين وأصدقاءه ـ نعلم أنك قد أتيتَ من الله معلماً، لماذا؟ لأن المعجزات التي تجترحها لا يمكن أن يقوم بها إلا من كان الله معه». الرب يسوع لا يهمّه في كل فترة تجسده على الأرض أن يتلقى مدحاً كهذا، هو يعرف نفسه، وأنه هو الإله المتجسد، ولذلك يهتم فقط لخلاص الناس، فيغير مجرى الحديث، ويقول لنيقوديموس: «ينبغي أن تولدوا من فوق». لعلَّ التلاميذ استغربوا من عدم انسجام الرب يسوع مع هذا الإنسان، «ينبغي أن تولدوا من فوق»، يقول نيقوديموس: «كيف يمكن الإنسان أن يولد وهو شيخ، ألعله يقدر أن يدخل بطن أمه ثانيةً ويولد»، الرب يسوع يجيبه: «المولود من الجسد جسدٌ هو والمولود من الروح هو روح، من لا يولد من الماء والنار لن يدخل ملكوت الله».
كان لدى اليهود طقس يمارسونه عندما يأتي شخص أجنبي أممي غير يهودي ليتهود، أي ليصبح يهودياً، كانوا يعمدونه، قبل معمودية يوحنا، قبل معمودية المسيح، كانوا يعمدونه دلالة على غسله من الخطايا، وقبوله في عداد ما كانوا يسمونه أولاد إبراهيم، أولاد العهد، لكن لم يسمعوا بمعمودية الماء والروح، والماء والنار، لم يكونوا يدركوا معنى هذه المعمودية. + + متى أدركناها وعرفناها؟ عندما حل الروح القدس على التلاميذ بشبه ألسنة نارية، فاعتبرت معمودية النار والروح، واعتبرت هذه المعمودية الولادة الثانية من السماء.
«ينبغي أن تولدوا من فوق»، نيقوديموس وهو معلم إسرائيل لم يفهم هذه العبارة، فيقول له الرب يسوع: «أنت معلم إسرائيل ولست تعلم هذا، المولد من الجسد جسد هو، ولكن المولود من الروح روح». لم يكتفي الرب يسوع بذلك، بل نسمعه يلخص كل العقيدة، عقيدة التجسد والفداء بذلك الحديث الذي جرى بينه وبين نيقوديموس. يذكر نيقوديموس بالحية البرية، أولاً بالحيات المحرقة التي كانت تلدغ، تلسع بني إسرائيل وتميتهم حالاً، ثم بشفاعة موسى للشعب، وطلبه من الرب أن يخلص الشعب من الحيات المحرقة، وبأمر الرب لموسى أن يصنع حية من نحاس ويعلقها في وسط المحلة، فمن لدغته الحية فقط يتطلع إلى حية النحاس فينال الشفاء.
وحسب ما نفهم من تعاليم آباءنا أن موسى أخذ النحاس ووضعه في النار، ثم أخرجه وإذا به على شكل حية من نحاس، هذه الحية تشبه الحيات المحرقة، تمتاز عنها أنها خالية من السم، ولكن هي شبه الحية، الرب يسوع يوضح لنيقوديموس وللعالم أجمع: «أنه كما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يرفع ابن الإنسان لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية»، هذه عقيدة صلب المسيح، وعقيدة الصليب بالذات الذي كانت الحية رمز له، من كان يلدغ من الحية المحرقة يكفي فقط أن يتطلع إلى حية النحاس فينال الشفاء، وهذا التطلع، هذا النظر يكلف غالياً، لو لم يؤمن الإنسان بقوة هذه الحية لما كلف نفسه أن يتطلع إليها، ولو لم يؤمن موسى نفسه بقوة هذه الحية لما ترك الحية في وسط المحلة وكان هو واقفاً جانباً، فالذي تلدغه الحية يتطلع إلى موسى لا يستفيد شيئاً يموت، لكن الذي يتطلع إلى حية النحاس فذاك يحيا. هذه عبرة لنا جميعاً الذين نؤمن بالرب يسوع، أنه علينا أن نوجه الشعب إلى التطلع إلى المسيح، المسيح المصلوب، المسيح الذي فدانا بصليبه، هذه خلاصة العقيدة، عقيدة الخلاص والفداء التي أعلنها الرب يسوع لنيقوديموس معلم إسرائيل، أن الرب يسوع عندما يصلب على العود، ونحن نؤمن به وبصلبه، حينذاك نستحق أن ننال الخلاص من حيات العالم كلها.
نيقوديموس تذكر الحيات المحرقة، تذكر الحادثة كلها، فآمن أن السيد المسيح سيعلق على الصليب، وآمن أن الذي يُعلق على الصليب كان ملعوناً، لكن عندما عُلق السيد المسيح الخالي من الخطيئة كما كانت حية النحاس خالية من السم، حينذاك أصبح سبب لخلاص العالمين، خلاص العالم الذين يؤمنون به مصلوباً عن البشرية. ويعلل هذه الأمور الرب يسوع لنيقوديموس، أن مصدر ذلك محبة الله للإنسان، فيقول في ذلك الحديث أيضاً: «لأنَّه هكذا أحب الله العالم حتى بذل أبنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية».
هذه النعمة العظيمة التي نلناها من الرب يسوع أيها الأحباء، هذه النعمة التي أظهرها الرب يسوع لنيقوديموس، ونيقوديموس هذا الإنسان العظيم هو المثال لكل الناس، كان الرجل فريسياً، والفريسي له مقام عظيم، أن كان دينياً، وإن لم يكن هو رجل دين، لم يكن في عداد علماء الدين، ولكنه كان رئيساً، رئيس أحد المجامع، وكان أيضاً في الوقت نفسه عالماً، وكان مثلما قلنا رابع أربعة أشخاص أغنياء في أورشليم. كان غنياً، لكن عندما يأتي الإنسان إلى الرب يسوع يحتقر الغنى، يحتقر المركز، مهما كان مركزه سامي، يحتقر الدنيا وأمور الدنيا لأنه يريد أن يكون تابعاً للرب يسوع. لم يفتكر بنفسه وهو ذو مقام سامي. وكان الفريسي إذا مشى يمشي قدامه إنسان أو أكثر من شخص يكنسون الأرض قدامه لئلا يدوس حشرة أو نملة لئلا يرتكب خطيئة بهذا الموضوع. نقياً وخاصة نيقوديموس، اسم على مسمى لأنه كان نقياً واسمه النقي، الطاهر.
ما أعظم تلك اللحظات التي اختلى بها نيقوديموس بالرب يسوع في الليل. كان التقليد اليهودي أن الذي يريد أن يدرس الناموس والشريعة ينتهز هدوء الليل ويجلس إلى التوراة والنبوات لكي يكون ذهنه مستعداً لتقبل الشريعة، ونيقوديموس انتهز الليل أيضاً وهدوءه وجاء إلى رب الشريعة، إلى المسيح يسوع ونال النعمة العظيمة إذ لخص له الرب يسوع عقيدة التجسد والفداء، ووضح له كيف سيكون هذا الخلاص عندما يُعلق السيد المسيح كما رمزت إليه الحية النحاسية، عندما يُعلق على الصليب، ويُصبح الصليب وعلامة الصليب سبب خلاص لكل من يؤمن بالمصلوب.
لا يكفي أن نرى الصليب كذا، لكن نؤمن أن السيد المسيح عُلق على الصليب، وأنه أعطانا الفداء بموته على الصليب.
أحبائي، عندما نقرأ هذه الآيات المقدسة ونتخيل أمامنا كيف أن نيقوديموس احتقر العالم كله وغناه ومركزه، وجاء إلى الرب يسوع ليقرع الباب ويدخل، ويُعلن إيمانه بالرب يسوع أنه قد أتى من الله معلماً، وعندما كان يقال في القديم عند اليهود معلم أي رابي (بالسريانية)، وسيدي رابي، يعني بذلك أن هذا الإنسان قد تخرج في كليات لاهوتية، درس على يدي أعظم عالم في التوراة كان اسمه غمالائيل في أورشليم، والرب يسوع نسب إليه نيقوديموس ليكرمه نسب إليه هذا الشيء، «أتيتَ من الله معلماً»، فهل اعتبرنا من هذه الحادثة، كيف نجلس إلى شريعة الرب، إلى الرب يسوع بالذات ليلاً في سكون الليل ونحن نقرً الإنجيل المقدس، ونتأمل في هذه الحوادث الإلهية، والعجائب الباهرات، والتعاليم السماوية السامية، ونؤمن بأن السيد المسيح قد عُلق على الصليب لأجلنا.
+ هل أتينا إلى السيد المسيح ليلاً لننال النعمة العظيمة، نعمة الخلاص فيه؟
عندما نشرح قصة مجيء نيقوديموس إلى الرب يسوع، نبدأ نسأل أنفسنا، هل أن نيقوديموس بعد تلك الحادثة أصبح تابعاً علناً للرب يسوع؟
أجل، الإنجيل المقدس يوضح لنا أيضاً أن الفريسيين أصدقاء نيقوديموس كانوا دائماً يحاولوا أن يأخذوا الرب يسوع بكلمة، وكانوا ينشرون الجواسيس هنا وهناك ليسمعوه أو يروا أعماله إذا عمل المعجزات في يوم السبت، لكي يدينوه، ومرة في مجلس السنهدريم الذي كان نيقوديموس عضوا فيه، وهذا المجلس كان عدده سبعين شخص من الفريسيين والكتبة والكهنة وعظام الناس الذين كانوا يؤمنون بشريعة موسى، سبعين شخص كانت لهم السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، هم يشرعون القوانين والنظم، وهم ينفذونها أيضاً، حتى إنهم كانوا تحت حكم الاستعمار الروماني، إذا طلبوا من المملكة الرومانية أن يمثلوا الإعدام بشخص، الشريعة تحكم عليه بالإعدام كان لا بد أن يُعدم، مثلما فعلوا بالرب يسوع، فنيقوديموس كان في هذا المجلس.
في أحدى المرات جاء الجواسيس الذين عينهم هذا المجلس ليتجسسوا على الرب يسوع وخبروا عنه، فأصدقاء نيقوديموس في مجلس السنهدريم أرادوا أن يُحكم على الرب يسوع، قال نيقوديموس: انتبهوا، هل شريعتنا تقبل أن تحكم على إنسان دون أن تستجوبه.
أجابوه: طبعاً أنت ستدافع عنه لأن أنت جليلي وذاك جليلي.
رأينا هذا الأمر كيف أن نيقوديموس في حديثه مع الرب يسوع، كان قد تبع الرب يسوع قلبياً وبكل وضوح ودافع عنه، نذكر أيضاً كما يذكر الإنجيل المقدس أنه بعدما صُلب الرب يسوع، لا بد أن نيقوديموس كان أيضاً موجود أمام هؤلاء الناس متأسفاً وباكياً أيضاً على الرب يسوع وهو يحمل صليبه ويذهب إلى الجلجلة، ولكنه لم يستطع أن يخلصه، مثلما قلنا لأنه اتهم بأنه جليلين، وفي نفس الوقت لأنهم شعروا أنه يتبع الرب يسوع ولو بالخفية، لذلك ما كانوا يستمعون إليه.
وبعدما مات الرب يسوع على الصليب كان نيقوديموس أحد اللذين طلبوا من بيلاطس أن يأخذوا الجثة جثة الرب يسوع جثمانه الطاهر، واشترى خمسة عشر رطل من البخور والعطور بحسب عادة اليهود وكفن جسد الرب يسوع، وكان مع يوسف الرامي في تجنيس الرب يسوع وهو مؤمن به وبالخلاص. لا بد وهو يراه على الصليب تذكر كيف أنه قال: «كما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية».
إذن نيقوديموس أصبح أحد المؤمنين بالرب يسوع، ونيقوديموس لا بد أنه كان في عداد أولئك، ولئن كان غنياً، ولئن كان ذا مقام سامي، لكنه أصبح مؤمناً بالرب، ولا بد أنه كان في عداد أولئك الذين ذكروا أنهم كانوا مائة وعشرون شخصاً عندما حل عليهم الروح القدس في العلية، ويقال أيضاً في التاريخ أنه نال رتبة الأسقفية لأنه احتقر العالم كله وتمسك بالرب يسوع وآمن به.
يا ليت أيها الأحباء نقتدي بنيقوديموس، يا ليت نرى أن العالم لا شيء بالنسبة لإيماننا بالرب يسوع، يا ليت نجلس في الليل في هدوء الليل وسكينته لنقرأ الإنجيل المقدس، نشعر بسعادة روحية ونمتلئ من الروح، لكي ننال ما ناله نيقوديموس من نعمة عظيمة، لأنه آمن بالرب يسوع وتبع الرب يسوع، ودافع عن الرب يسوع، بل أيضاً استحق أن يكون أحد اثنين اللذين جنزا جثمان الرب يسوع ودفناه في القبر الجديد، ولا بد أنه رآه أيضاً قائماً من بين الأموات لينال بذلك الطوبى.
إذن قد ولد من فوق، ولد من الروح القدس والنار، ولِدَ ليكون ابن السماء، «لا بمشيئة إنسان، ولا مشيئة رجل، كما ذكر يوحنا في الإنجيل بل من الله». الحالة التي أتمناها لي ولكم أحبائي لنولد جميعاً من فوق، وقد ولدنا بالمعمودية لنكون مستحقين ما استحقه نيقوديموس وغيره من المؤمنين بالرب يسوع. والنعمة تشملكم دائماً أبداً، آمين.
الأحد الخامس بعد الدنح
الأحد الخامس بعد الدنح
الأحد الخامس بعد الدنح (1)†
«وللوقت أخرجه الروح إلى البريّة وكان هناك في البرية مدة أربعين يوماً يجرّب من الشيطان وكان مع الوحوش وصارت الملائكة تخدمه»
(مرقس 1: 12-13)
منذ أن هوى أحد رؤساء الملائكة من رتبته، إذ استولت عليه الكبرياء وأراد أن يصير معادلاً لله تعالى بكبريائه، وبدأ الحرب الضروس بين الشيطان وأتباع الله من الملائكة، وبيد أن خلق الله الإنسان على صورته كمثاله، حسده الشيطان وأغواه وأسقطه بخطيئة الكبرياء، وبدأ الصراع بين إبليس والرب يسوع الإله المتجسد الذي هو فادي البشرية، وبدافع من الروح القدس فقد كان هناك حدث لم يكن مثيله منذ بدء الكون، فالإله المتجسد يعتمد من عبد له وهو يوحنا، ويصل بذلك إلى قمة التواضع، ويجاب عن ذلك بأن يسمع صوت من السماء بعد أن هبط الروح على هامته بشبه حمامة يسمع الصوت قائلاً: أنت هو ابني الحبيب الذي به سررت، هذا حدث مهم جداً أن السماء أعلنت أنها قد أرسلت الابن لخلاص البشرية.
حدث يهمّ إبليس أيضاً لأنه كان في صراع مع الله ومع الإنسان منذ أن خلق الإنسان. فبعد أن يذكر مرقس هذا الحدث يقول وللوقت حالاً بعد ذلك الحدث أخرج الروح يسوع إلى البرية، وكان هناك مدة أربعين يوما يجرّب من إبليس كان لابد أن يدخل الرب هذه التجارب من إبليس نيابة عنّا وقد خسرنا المعركة يوم جرّبنا إبليس، الحيّة خدعتنا بتجارب قاسية جداً، شهوة العيون وشهوة الجسد وتعظّم المعيشة، كما يذكر الرسول يوحنا: لأن كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظّم المعيشة ليس من الآب بل من العالم (1يو2: 16).
هذه الشهوات أرتنا الثمرة فاشتهيناها وضعفت ثقتنا بالله فوضعت أمامنا المجد الباطل وطلبت إلينا أن نكون كالآلهة فسقطنا وكان سقوطنا عظيماً. جاء المسيح ليخلّصنا وقد ضعفنا أمام عدونا وعدوه إبليس وأصبح بإمكانه أن يسقطنا في الخطيئة حينما يريد ولذلك كان لا بد أن ينازله هو بنفسه ليعطينا الغلبة وليعطينا الأسلحة الروحية التي يجب أن نتسلّح بها عندما ننازل إبليس.
إبليس ارتعب عندما سمع السماء تقول عن الرب يسوع أنه ابن الله، هذا ابني الحبيب، هذا ابني الحبيب الذي به سررت، لذلك بإذن وإرادة ومشيئة إلهية أخرج الروح القدس الأقنوم الثالث من الثالوث الأقدس الرب يسوع إلى البرية، كان هناك أربعين يوماً صائماً عن الطعام والشراب ويجرّب من إبليس. إن لوقا ومرقس يذكران أنه كان طيلة هذه المدة أربعين يوماً يجرب من إبليس، متى يقتصر على التجارب الثلاث الشديدة الأخيرة، ويُفصّلها لنا ولكننا نرى أن كتبة الإنجيل المقدس هؤلاء الذين دوّنوا لنا الإنجيل المقدس يريدون بذكر هذه التجارب أن يلفتوا أنظارنا إلى أن المسيح هو آدم الثاني أنه مثل آدم في الصراع مع إبليس فنراه في تلك البرية أربعين يوماً، أي أربعين نهاراًُ و أربعين ليلة لا يأكل ولا يشرب ويحاربه إبليس قد يكون بأفكار عديدة وهو جائع، ومتى يفصل لنا ذلك فيرنا بعد ختام الأربعين يوماً كيف أن الرب يسوع نازل إبليس، إبليس حينذاك إذ ظهر له – قد يكون ظهر له بشبه إنسان، تظاهر بأنه صديق للمسيح ورآه وكأنه يشفق عليه – لماذا أنت جائع؟ إذ كنت حقاً عندما ابن الله – يذكره بما قالت السماء – فقل لهذه الحجارة أن تصير خبزاً. عندما يجوع الإنسان خاصة إذا رأى الحجرة وهي تشبه الخبز، رآه خبزاً ألم يكن بإمكان المسيح أن يحوّل الحجر خبزاً؟ ألم يطعمن بعدئذ بخبزات قليلة خمسة آلاف رجل في البرية أيضاً ما عدا النساء والأطفال؟ ألم يحوّل الماء إلى خمر؟ ولكن الرب يسوع لا يريد أن يعلمنا أن نستعمل مواهبنا الروحية في أمور باطلة، أن نكمل الشهوات التي يريد إبليس أن نكملها، يحارب الرب يسوع الشراهة، هذا الذي صام أربعين يوماً ليس بحاجة أن يحوّل الحجارة خبزاً ليأكل، فيرد إبليس، ويصد إبليس ويقول له: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله، وكلام الله ووصايا الله أن يكمل الإنسان وصايا الله فينال الحياة.
ثم يحمله إبليس إن كنت ابن الله، هذه العقيدة عند إبليس، هل حقاً هذا ابن الله أم هو مجرّد بشراً أرضى الله فدُعي بابن الله، إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل فقد كتب أن يرسل ملائكته فيحملونك على أيديهم، يتطلع به الرب يسوع ويقول له: لا تجرب الرب إلهك، قال له: مكتوب – والمسيح أيضاً يجاوبه من الكتاب – لا تجرّب الرب إلهك، هذه تجربة المجد الباطل، عندما ينتفخ الإنسان يتعجرف يتكبّر يريد أن يظهر أمام الناس بكبريائه كأنه إنسان عظيم خاصة عندما يرى أولئك الكهنة وهم يتطلعون إليه ليبرهن على أنه مرسل من السماء ليطرح نفسه من ذلك الموضع إلى أسفل لتأتي الملائكة وتحمله. كثيراً ما تكون لنا المواهب ولكننا بكبريائنا نسقط، إبليس يغري الإنسان بالمجد الباطل إبليس أيضاً يحارب الإنسان حتى بكلمات الله المدونة في الكتاب المقدس، ولكن الإنسان المتواضع الوديع يرد إبليس ويرى أنّه لم يكتب في الكتاب وعود للإنسان إلا لما فيه خير الإنسانية، ليس بالكبرياء والمجد الباطل.
أخيراً، آخر قنبلة، يريد أن يحارب إبليس بها المسيح، أن يأخذه إلى قمة جبل عالٍ ويريه ممالك الأرض ويكذب لإبليس كذبته التاريخية ويقول: قد وهبت هذه الممالك كلها لي، أعطيها لك إن خررت لي ساجداً. كم نحن نسجد لإبليس دون أن نعترف، العديد منّا يعبدون المادة والرب قد قال: لا تقدرون أن تخدموا سيدين أن تعبدوا ربين الله والمال، عندما بعبد المال نكون قد أنكرنا الله وأصبح اتكالنا لا على الله بل على هذه المادة، نخدع نغش نكذب في سبيل الحصول على هذا المال بدلاً من أن نكون صادقين ومتكلين على الله لنكسب خبزنا بعرق جبيننا وبالحلال.
بذلك أيها الأحباء جرب إبليس الرب يسوع أن يسجد له أي أن يسجد الرب لإبليس والعياذ بالله، له حينذاك يعطيه هذه الممالك. ومن قال لك ذلك يا إبليس أنك قد أعطيت هذه الممالك حقاً، إن العديد من الناس يبيعون أنفسهم لإبليس عندما يتبعون غواية إبليس ولكن الإنسان الذي يعبد الله بالروح والحق يستطيع أن يجاوب إبليس جواباً يدحض به آراءه. وأخيراً يقول له اذهب عني شيطان ليهرب إبليس من التجربة.
أيها الأحباء:
ليست التجربة خطيئة، حتى المسيح جرّب ابراهيم، جرب أيوب، جرب طوبيا أيضاً، جرّب كل هؤلاء الآباء من الكتاب المقدس، وكل الخضوع لإبليس والسماح له أن يغلبنا يجعلنا أن نخطئ، التجربة ليست خطيئة ولكنها درس إغراء الإنسان للتورّط في الخطيئة ونحن لا نجرّب من الله كما يقول الرسول بولس: الله لا يجرّب أحد، لماذا لأن الله يريد جميع الناس يخلصون ولكننا نجرب من أنفسنا، من شهواتنا، من رغباتنا، من طمعنا، من محبتنا للمادة، نجرّب خاصة من إبليس، وإبليس موجود من أنكر وجود إبليس يكون قد خسر المعركة قبل أن ينزلها لأننا إن كنت ننكر وجود إبليس لن نحارب أحداً وهو يحاربنا فينتصر علينا، فالتجربة قاسية جداً، إن داود قال للرب مرة: جرّبني، أراده أن يجرّبه لأي مدى تمسكه بالرب، فسقط داود وفي الخطيئة، فقال : ارحمني يا لله كعظيم رحمتك. قد نجرّب وقد نسقط، شكراً لله تعالى الذي أعطانا سر التوبة والاعتراف لننقي أنفسنا إن سقطنا بالخطيئة، بالاعتراف القانوني وبانسحاق القلب، بتوبة نصوح لنعود إلى الله، بهذا نقول له لإبليس: اذهب عنّي يا شيطان، بذلك أيها الأحباء لا نستطيع أن نغلب إبليس وإلا بالصوم والصلاة نتطلّع إلى الرب يسوع. ما أقدم إلى عمل مهم في تدبيره الإلهي وكل تدبيره الإلهي مهم إلا وكان أولاً فعندما بدأ هذا التدبير العلني بالجسد،ـ صام وصلّى لذلك غلب إبليس في التجارب، علينا أيضاً أن نشعر أن إبليس يحاربنا بتجربة ما أن نختلي بأنفسنا ونصلي إلى الله. هذا هو السلاح الذي أعطانا إياه الله المسيح الإله لكي نحارب به إبليس بصلاتنا إلى الله نكون وضعنا ثقتنا بالله، لا ثقة باطلة كما أراد إبليس من الرب يسوع أن يصنعها عندما قال له: أن يطرح نفسه إلى أسفل، لكن ثقة صادقة كاملة جدية، ثقة تكون في موضعها حينذاك نتخلص من إبليس وقد علمنا الرب الصلاة الربية أن نصلي دائماً قائلين: لا تدخلنا في تجربة، لكن نجنا من الشيطان. نعمة الله تكون معكم وتقيكم من لإبليس آمين.
الأحد الخامس بعد الدنح (2)†
«وللوقت أخرجه الروح إلى البرية وكان يُجرب من الشيطان أربعين يوماً»
المعارك الطاحنة التي دارت رُحاها ما بين الله الخالق وبين أحد مخلوقاته الشيطان الذي كان رئيس الملائكة لكبريائه وبدئه وسعيه ليكون معادلاً لله ، سقط هو ومن تبعه من الملائكة وقُيد ليكون في آخر الأيام مأكلاً للنار والعذاب ، دارت رحى هذه المعارك مابين الله وهذا الروح الذي كانت له مرتبة سامية بل ايضاً بين جنود هذا الروح الذي كان رئيساً للملائكة وبين ملائكة الرب الصالحين نحن لا نتصور هذه الأمور ولا نعلم أنه حتى بالنسبة إلى العالم الذي لا نراه هناك معارك طاحنة ما بين الخير والشر فعندما خلق الله الإنسان ليأخذ مركز ذلك الذي سقط بخطية الكبرياء خلق الله الإنسان على شبهه كمثاله فأكل الحسد أفكار وقلوب اولئك الذين أصبحوا اعداءً لله ولئن كانوا ارواحاً ملتهبة كما يوصفون ولئن كانوا ارواحاً لها قوتها ايضاً التي أعطاها الله إياها ، دبّ الحسد في قلب إبليس ومن تبع إبليس ، استطاع أن يدخل الحية وان يُقنع الأبوين الأولين وأن يُسقطهما في التجارب بل أيضاً أن يسلبهما نعمة التمتع في فردوس النعيم ، هذه هي القصة القديمة جداً وهي حقيقية وواضحة لأنها تعلن لنا كيف أن الإنسان إذا ما ساورته الكبرياء يسقط ويكون سقوطه عظيماً فقصة أبوينا الأولين ، قصة الثمرة المحرمة التي تناولا منها وسقطا هي قصة الكبرياء بالذات ، قصة الإنسان الذي لا يرضى بما اُغدق عليه من نِعم وتساوره أفكار العجرفة والكبرياء ويريد أن يكون مساوياً لله فيسقط وينال العذاب الذي لا نهاية له ، هذه التجارب أيها الأحباء كان لإبليس الحرية أن يقوم بها لا لأن الله يريد أن يسقط ذلك الإنسان بل لأن الله تجاه بقية مخلوقاته الروحية وغير الروحية ، كان لابد أن يظهر عادلاً فإذا كان إبليس وهو احد رؤساء الملائكة العظام بحريته ساورته الكبرياء وأراد أن يكون معادلاً لله فسقط فكم بالحري هذا الإنسان الذي ولئن كانت له روحٌ خالدة، روح هي نسمة من الله ولكنه كان جسداً ايضاً فجعله كما يقول المزامير اقل رتبة من الملائكة لأنه مادة وروح في آنٍ معاً ، فهل يمكن أن الله وقد أعطاه حرية الإرادة أن يراه يكافح ويناضل ويسعى ليكون الإبن المحبوب والمخلوق الأفضل لدى الله ، هل من العدالة أن يتركه دون حرية وأن يصونه من الزلل والخطر لذلك بحريته هذا الإنسان سقط عندما فكر هو الآخر أنه سيكون مثل الله يعرف الخير والشر أسقطه إبليس بحيلته جعل منه مخلوقاً يُدان من الله لأنه ايضاً ساورته الكبرياء وأراد أن يكون مثل رئيس الملائكة معدلاً لله ليس في التجربة أيها الأحباء خطية إنما الانصياع مع الغاية التي تكون معها التجربة قد حصلت من إبليس هذه هي الخطية ، لذلك أخطأ آدم وأخطأت حواء لأنهما انصاعا وراء إبليس ولأنهما لم يصدقا كلام الله بل صدقا غواية إبليس هذه المعارك الطاحنة ما بين الله وبين إبليس وجند إبليس بعدئذٍ أصابت الإنسان ايضاً فصفّ مع اولئك الذين كانوا ضد الله: «آدم آدم أين أنت؟ قال له الرب» بعد أن اخطأ في الفردوس قال له: «سمعت صوتك فخشيتُ، خفتُ واختفيت» لأن الإنسان عندما يخطيء كما يقول النبي اشعياء: «خطاياكم صارت فاصلة بينكم وبين إلهكم» لا يمكن للإنسان عندما يخطئ أن يقف أمام الله هذا كان منذ البدء منذ أن سقط الإنسان في الخطية منذ أن سيطر إبليس على هذا الإنسان فأطاع إبليس وتمرد على الله تعالى ، عبرت ومرت دهور عديدة بعد سقوط الإنسان إلى ارض الشقاء وسعيه إلى أن ينال المغفرة ولم يكن هناك طريقة لينالها ما لم يتجسد الكلمة ابن الله ليكون كالبشر ايضاً ويفدي هذا الإنسان ، جاء المسيح إلى أراضينا متواضعاً لأن التواضع الفضيلة التي بإمكانها أن تعيد للإنسان مجده الأول الذي خسره بكبريائه تواضع فقط ليس بتجسده من العذراء مريم الفتاة اليتيمة ، الفتاة الضعيفة المسكينة الفقيرة لكن كانت الفتاة الطاهرة النقية القديسة ليس هذا فقط وليس بولادته في بيت لحم القرية البسيطة بل خاصة بعماده من عبده يوحنا ما معنى العماد ؟ معنى العماد أن الإنسان الخاطي حينما بإمكانه أن يطلب من الله ليغفر خطية هذا الخاطي وبإمكانه عن طريق العماد لا فقط أن يغسل الجسد من أدران العالم بل ايضاً يُنقّي الروح من كل الخطايا هذا كان الأسمى الحدث الأسمى من عماد الإنسان الخاطي عندما كان يأتي إلى يوحنا . نحن إن كنا ننسب للملائكة شعور العجب لابد أن ننسب إليهم هذا الشعور عندما رأوا المعصوم من الخطأ خالق الكون ومبدعه ، الكلمة الذي كان منذ البدء ، رأوا يسوع الإله الذي ظهر بالجسد يأتي في عداد الخطاة الذين جاؤا إلى يوحنا واعتمد من يوحنا كأحد الخطاة وكما يقول آباؤنا إذا كان الإنسان يأتي إلى يوحنا ليعترف بخطيته ويوحنا يعمده ويغسله بالماء ويُنقيه من الخطايا فالمسيح يسوع وقف أمام يوحنا ويوحنا رفض أن يعمده «أنا احتاج أن اعتمد منك» قال له ، فالمسيح اعترف بخطايا العالم لذلك رأى فيه مسيا أُلهم من الله أن هذا هو مشيحا المسيح المنتظر ولذلك بعدئذٍ قال عنه يوحنا: «هوذا حمل الله الذي رفع خطايا العالم» ويرفعها أيضاً فهو إذن البار أراد أن يمثلنا فأصبح خطية لأجلنا واعترف أمام يوحنا وليس هذا فقط بل بعد أن خرج من الماء وهو يصلي هبط الروح عليه بشبه حمامة حلت على هامته وسمع صوت الآب قائلاً: «أنت ابني الحبيب الذي به سُررتُ» حينذاك ظهر إبليس، إبليس الذي كان منذ البدء عدواً لله ظهر مرتعباً من هذا حتى يدعوه الآب بابني الحبيب؟ هل حقاً إنه ابنه؟ أو هو كسائر أبناء الله بالنعمة الذين بتقواهم وقداستهم أُعتبروا أولاداً لله هنا بدأت المعركة ما بين إبليس الشيطان المحتج وبين الرب يسوع يقول الإنجيل المقدس ، متى يذكر أن الرب مكث أربعين يوماً وأربعين ليلة لا يأكل ولا يشرب وهو في البرية مع الوحوش ولكن يذكر انه في نهاية الأربعين والأربعين ليلة جُرب من إبليس ، مرقس ولوقا يقولان أن الروح ، الروح القدس أخرجه من البرية وكان يُجرب من إبليس أربعين يوماً وأربعين ليلة وكان صائماً بعدئذٍ علمنا الرب يسوع عن الأرواح النجسة التي لا تخرج من الإنسان إلاّ بالصوم والصلاة فالرب أُخرج إلى البرية ليواظب على صلاته وصلاة الرب يسوع هي مناجاة الذات للذات فهو الله بالذات وعندما يناجي أباه يناجي نفسه «أنا والآب واحد، من رآني فقد رأى الآب» لذلك عندما كان يصلي ودائماً كان يصلي خاصة عندما يأخذ قرارات إلهية سامية ، فصلى عندما خرج من الماء فهبط الروح عليه بشبه حمامة وهو والروح واحد لكن ليميزه عن بقية الجمهور وليعرف الناس أن الآب عندما نادى: «أنت ابني الحبيب الذي به سُررتُ» كانت هذه المناداة للرب يسوع وإبليس الذي ارتعب من هذه المناداة وشكّ كيف يكون هذا ابنه الحبيب ! هل هو الاقنوم الثاني من الثالوث الأقدس ، احياناً عديدة أيها الأحباء نظن أن إبليس يعرف كل شيء ويقدر على كل شيء هذا غلط إبليس موجود الذي يُخدع ويظن أن إبليس ليس بموجود ولا يوجد شياطين يكون في حالة إنسانٍ عدو ألد ضده ولكنه يظن انه لا يوجد عدو فيباغته العدو وينتصر عليه لكن هذا العدو بوجود الله الذي هو الرحمة والعدالة في آنٍ معاً لا يستطيع أن يتغلب علينا ، عندما خدعنا في الفردوس في شخص أبوينا الأولين وأسقطنا في الخطية جاء المسيح لكي ينقذنا ، جُرب أبوانا وسقطا جاء المسيح ورأى أننا ضعفاء وهو يعلم ذلك طبعاً لذلك أراد هو وسمح أن يدخل هو في التجربة لكي ينتصر ويعطينا الغلبة كان ذلك بعد أن اعتمد بعد أن نال الشهادة من السماء أخرجه الروح يقول مرقس بحسب الكلمات المقدسة التي تُليت على مسامعكم في بدء القداس أخرجه إلى البرية ، البرية كانت ما بين بحر الأردن وبين البحر الميت ، والبرية قفرٌ هناك وحوش عاش معها الرب يسوع ، لا تستطيع الوحوش أن تؤذيه لأنه الله نرى في العهد القديم كيف أن دانيال أُنزل إلى جب الأسود لكن الأسود لم تستطع أن تؤذيه لأن الله كان معه ، هكذا الرب عاش مع هذه الوحوش في البرية أربعين يوماً وأربعين ليلة صائماً لا يأكل ولا يشرب ، قلنا أن مرقس ولوقا يقولان انه كان يُجرب من إبليس في هذه الفترة ، التجربة هي صراع ، صراع الفكر ايضاً ربما عندما جاع ليبرهن لنا انه قد أخذ جسدنا كاملاً فهو إذن يتعب ، ويجوع ، وهو يبكي وهو يفرح في آنٍ معاً أخذ جسدنا لذلك كان جسداً كاملاً اتحد باللاهوت وأصبح باقنومه الواحد وطبيعته الواحدة يمثل الله والإنسان في آن معاً ، عندما جاع في آخر الأربعين يوم يذكر متى التجارب الثلاث التي دخلها الرب يسوع الأولى ظهر له إبليس ظهر له كما يقول آباؤنا مثل شاب بهي كلمه كصديق وهو عدو أحياناً عديدة يظهر للإنسان كصديق لكن هو عدو يريد أن يُسقطنا في الخطية يجعلنا أعداءً لله ، رآه قد تعب جداً وجاع ، ورآه في البرية ورأى هناك في البرية حجارة عديدة مثل الحصى البيضاء وكانوا في تلك الأيام يخبزون خبزهم مثلما نخبز الصمون مثلاً فيبدو وهو يرى الحصى وكأنه يرى خبزاً وهو جائع ، وفكر إبليس يريد أن يتحقق هل حقاً هذا ابن الله ، يقول له أن كنت ابن الله فقل لهذه الحجارة أن تصير خبزاً أما الرب فقال له: «وليس بالخبز وحده يحيا الإنسان مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان» أربعين سنة بقى بنو إسرائيل في البرية لم يكن هناك خبزٌ بل ايضاً لم يكن هناك لحمٌ فقاتهم الرب بخبز الملائكة بالمن الذي كان يسقط من السماء وطيور السلوى التي كانت تأتي أسراب أسراب ويأخذها بني إسرائيل ويتغذون عليها ، إذن قال له: «مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله»، اندحر إبليس يقول وأخذه وأنا أقول عندما أخذه يجب أن نعرف أن كل شيء يكون بإرادة الله لأنه سمح أن يُجرب عن الإنسان ليرضى عن الإنسان ، أخذه إلى جناح الهيكل وجناح الهيكل كان مرتفع وكان يطل على الفناء الذي كانت تجتمع فيه فرق الكهنة والفريسيين الذين كانوا يتطلعون إلى كل شيء قال له أن كنت ابن الله فاطرح نفسك من هنا لأنه مكتوبٌ لأن الرب قال له مكتوب فهو أيضا قال لأنه مكتوبٌ انه يرسل ملائكته فيحملوك على أجنحتهم قال له الرب: «مكتوب أيضاً لا تجرّب الرب إلهك» واندحر إبليس. ثم أخذه إلى جبل عالي وأراه جميع ممالك الأرض نحن في عصرنا هذا نستطيع أن نتصور كيف أن إبليس اظهر ممالك الأرض للرب يسوع ، فنحن أيضا نجلس أمام التلفاز ونرى ما نرى فهل في تلك الأيام أراد إبليس مجرباً الرب يسوع أراه ممالك وكذب إبليس وقال قد أُعطيت لي وأنا أعطيك أن خررت ساجداً لي.
هذه نعتبرها امراً جداً سمح الرب به بتواضعه أن يسمع هذا من عدوه إبليس فقال له الرب مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد ، إذن العياذ بالله أن الرب يسوع يسجد لإبليس لكن أعطانا مثال أننا احياناً عديدة عندما نرى غرور الدنيا ، الغنى ، الجاه، المراكز نرى وننبهر بالمجد الباطل بدون علمنا وإرادتنا نخضع لإبليس حتى يعطينا هذه الممالك ، هنا يظهر لنا إبليس أن بعض الناس بطرق غير مشروعة ، بالحرام يحاولون أن يربحوا المال يتركون الله لأننا لا نستطيع انم نعبد الله والمال في آنٍ معاً لايعني هذا أن كل غني هو بعيد عن الله كان إبراهيم غنياً فانه خليل وكان هناك أغنياء حتى في العهد الجديد نيقوديموس ويوسف الرامي كان بعدئذٍ من الرسل برنابا كان غنياً باع ضيعة ، قرية كانت له وأتى بدراهمها ، بثمنها ووضعها عند أقدام الرسل لكي يستعملوها لمجد الرب ونشر البشارة ولكن الذي يحصل على المال بطرق غير مشروعة هذا يكون قد ترك الله وعبد إبليس ويكون مجردا عن كل فضيلة لذلك إبليس عندما جرب الرب يسوع والرب يسوع في تلك التجارب كما قلنا كان يمثلنا نحن البشر ، طلب منه فقط أن يسجد له والعياذ بالله ، الله يسجد لإبليس هنا يظن بعض الناس أحيانا عديدة عندما نقرأ عن جسارة إبليس يظن بعض الناس انه يوجد الاهان في الكون اله الشر واله الخير ، لا يوجد الاّ اله واحد هو الله الذي خلقنا وخلق الأكوان ، هو الله الذي تجسد وأنقذنا من إبليس ومن أعدائنا الأبالسة والبشر ايضاً لكن الله يسمح أن يُجرب الإنسان لفائدة الإنسان كما تأخذ الذهب أو الفضة أو احد المعادن وتضعها في كور من النار وتنقيها من الأوساخ التي جاءتها من أمور العالم والدنيا ، فالله سمح لإبليس أن يجربه لكن دحره المسيح يسوع وانتصر للإنسان الذي اندحر في فردوس النعيم فالتجارب كما قلنا أيها الأحباء ليست خطية لكن الانصياع وطاعة إبليس هي الخطية . مثلاً عندما يريدنا إبليس أن نخضع لأمره ونكذب الله وأقواله وأوامره ونرضى بهذا الشيء نكون قد دخلنا في الخطية. ما اشد علينا نحن البشر أن نُجرب ، داؤد مرة قال للرب جربني وعندما جربه انتحب وبكى وقال ارحمني يا الله كعظيم رحمتك ، قلباً نقياً اخلق في يا الله . إذن حتى ينقذنا الرب من التجارب عندما علمنا أن نصلي قال في الصلاة الربيّة أن نقف معه ونقول : لا تدخلنا في تجربة لكن نجنا من الشرير لأن الذي يجرب هو إبليس الشرير ، لا تدخلنا في تجربة لكن نجنا من الشرير نحن دائماً معرضون للتجربة بأنواعها بالفكر،بالقول ، بالعمل بالرغبة مثلما يقول ايضاً الكتاب المقدس أن الإنسان يُجرب بالجسد بشهوات الجسد ، بشهوة العيون وتعظم المعيشة ، مجرد عندما ننساق وراء هذه الشهوات وعندما نرغب بتعظم المعيشة ونفعل كل ما نفعل لأجل هذه الغاية لا لأجل تمجيد اسم الله القدوس ، أيها الأحباء لقد انتصر الرب يسوع على إبليس وآخر الكل قال له: «اذهب عني يا شيطان» وارتعد إبليس لأن الرب سحقه وارتعب لأنه هو ايضاً عرف حقاً أن هذا هو ابن الله لا كسائر أبناء الله الأتقياء القديسين بل هو ابن الله القدوس المولود من الله قبل كل الدهور لذلك علمنا ايضاً هو ابن الله ،انه عندما يسيطر علينا إبليس، يتلبسنا ، يتجسد فينا علينا أن نخرجه منا ونبعده عنا بالصوم والصلاة فإذا واظبنا على الصلاة أيها الأحباء إذا تمسكنا بالأصوام التي اعتبرتها الكنيسة المقدسة كعلاج لأمراضنا الروحية فقد صام الرب يسوع وانتصر على إبليس وقد صام الأتقياء والأبرار وانتصروا على الشيطان واستطاعوا أن يكونوا أتقياء من أتباع الله ولم يرغب أيضا أن يكونوا من أتباع إبليس اسأله تعالى ونحن نصلي الصلاة الربّية قائلين له لا تدخلنا في تجربة لكن نجنا من الشرير أن يخلصنا من إبليس الشيطان أن يجعلنا بعيدين عن كل تجربة ونحن نصلي في القداس نطلب منه أن يجعل لنا في التجربة مخرجاً لكي نستطيع أن نغلب عدونا إبليس اسأله تعالى أن يبعد عنا أحبائي كل التجارب وان يجعلنا حقاً ممن يسمعون أوامره الإلهية ويعملون بها لكي نعود إلى حياة أبدية سعيدة في السماء ونعمته تشملكم دائماً ابداً آمين.
الأحد السادس بعد الدنح
الأحد السادس بعد الدنح
الأحد السادس بعد الدنح (1)†
«قال الرب يسوع: ليس نبيٌّ بلا كرامة إلاّ في وطنه وبين أقربائه وفي بيته»
(مرقس 6: 4)
إن الرب يسوع الذي ولد بالجسد في بيت لحم أفراثة كما تنبّأ عنه النبي ميخا (مي5: 2)، ونما بالقامة والنعمة عند الله والناس (لو1: 80) قد تربّى في الناصرة فاعتُبرَت الناصرة وطناً له. وبعد أن اعتمد من يوحنا المعمدان، وصام أربعين يوماً وأربعين ليلةً، وبعد أن جُرِّب نيابةً عنّا وانتصر على إبليس وأنعم علينا نحن المؤمنين والقابلين الفداء بدمه الكريم، منحنا النصر باسمه على إبليس وجنده حيث قد أمات الموت بموته على الصليب لأجل خلاصنا وقام في اليوم الثالث من بين الأموات وأقامنا معه.
فعندما ابتدأ تدبيره الإلهي العلني بالجسد، جاء إلى الناصرة وطنه ودخل المجمع، وكانت إرادة الله أن يؤسس اليهود مجامع أثناء السبي البابلي للصلاة فيها بدلاًَ من تقديم الصلاة والذبائح والتقدمات في الهيكل في أورشليم، وصارت هذه المجامع مدارس حيث كانت تقرأ أسفار التوراة والنبوات للشعب ليبقى اليهود بلا عذر عن عدم إيمانهم بمشيحا المسيح الذي تنبّأ عنه الأنبياء وحدّدوا موعد مجيئه إلى العالم وزمن ولادته وسموّ رسالته بل أيضاً آلامه وموته وقيامته. نحن نعلم أنّ شعب العهد القديم كانت لهم خيمة الاجتماع على عهد موسى ثم شُيّد لهم هيكل سليمان حيث كانت تُقدّم الصلوات والذبائح والقرابين، ولكن في فترة السبي البابلي ابتدأ نظام المجامع، وفي المجمع كانت تُقرأ التوراة والنبوّات باللغة العبريّة وتُترجم إلى الآرامية لغة البلاد التي سُبي إليها اليهود بعد أن كانوا قد نسوا في السبي البابلي لغتهم الأصلية واستعملوا اللغة الآرامية لغة الشعب الذي سباهم، وهي اللغة التي تكلّم بها الرب يسوع عندما أتمّ تدبيره الإلهي العلني بالجسد. وعندما رجع اليهود من السبي البابلي استمرّوا على تشييد المجامع التي كان يرأسها ويديرها أناس علمانيّون كوكلاء يهمّهم فقط أن يجتمع أكبر عدد من الناس ويسمحون بالتعليم لمن يرون فيه رجلاً يرغب الناس في أن يشاهدوه ويسمعوه مثل الرب يسوع، وهذه نعمة عظيمة أن الرب يسوع كان يدخل المجمع ويعلّم وينشر بشارته الإنجيلية كمن له سلطان وليس كالكتبة والفريسيين. فلو كانت المجامع تحت رعاية رؤساء الكهنة اليهود والكتبة والفريسيين لمنعوا الرب يسوع من الكلام في مجمع يهودي.
جاء الرب يسوع إلى الناصرة وطنه وقد بلغ الثلاثين من عمره، السن التي كان يحق فيها لليهودي أن يخاطب الناس جهراً. ودخل المجمع، وتقدّم ليقرأ فناوله الخادم الدرج (السفر من الكتاب المقدس وكان سفر إشعياء النبي). فتح يسوع السفر فكان الموضع الذي كُتِب فيه ما يأتي: «روح الرب عليَّ لأنه مسحني لأبشّر المساكين أرسلني لأشفي المنكسري القلوب لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر وأُرسل المنسحقين في الحرية وأكرز بسنة الرب المقبولة، ثم طوى السفر وسلّمه إلى الخادم وجلس، وجميع الذين كانوا في المجمع كانت عيونهم شاخصة إليه فابتدأ يقول لهم إنه اليوم قد تمّ هذا المكتوب في مسامعكم، وكان الجميع يشهدون له ويتعجبون من كلمات النعمة الخارجة من فمه» (لو 4: 16ـ22) قال الرب أيضاً: «لأكرز بسنة الرب المقبولة» وسنة الرب المقبولة هي سنة اليوبيل، ويقع مرة كل خمسين سنة وفي هذا اليوبيل كان الإنسان يُحرَّر فيه. بعد أن أتمّ يسوع القراءة جلس، وكان الذي يقرأ ثم يجلس يعني ذلك أنه يريد أن يتكلم، فعندما جلس الرب يسوع بعد أن أكمل القراءة قال: «اليوم قد تمّ هذا المكتوب في مسامعكم» وبذلك أعلن نفسه جهراً أنه حقاً ماشيحا (مشيحا) المسيح الذي انتظرته الشعوب وتنبّأ عنه الأنبياء لأنه قد مُسِح كاهناً ونبيّاً وملكاً، كل واحد من هؤلاء كان عندما يُنتخَب ويُعيَّن يُسكَب على هامته زيتٌ، وكان هذا طقساً لتعيين كل واحد منهم ملكاً أو كاهناً أو نبياً، فالنبي إشعياء تنبّأ على لسان الرب يسوع بقوله: روح الرب عليَّ لأنه مسحني لأبشّر المساكين لأشفي المنكسري القلوب لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر لأفتح عيون العميان، ثم بعد ذلك لأكرز بسنة الرب المقبولة. وهذا الكلام هو نبوّة عن الرب يسوع. وقد أدرك ذلك أولئك الذين كانوا في المجمع ولعدم إيمانهم استشاطوا غضباً وأخذوه إلى حافّة الجبل المبنيّة عليه مدينتهم، أرادوا أن يطرحوه منه، لماذا؟ لأنه خيَّب ظنّهم لأنهم كانوا بحسب تعليم آبائهم يعتقدون بأن المسيح الذي سيأتي سيكون ملكاً كما تنبّأ عنه موسى النبي بقوله: «يقيم لك الرب إلهك نبياً من وسطك من إخوتك مثلي. له تسمعون» (تث 18: 15)، كان اليهود بحسب تعليم آبائهم يريدون قائداً دنيويّاً محارباً لكي يحرّرهم من طغيان الرومان، لا أن يأتي إنسان حليم وديع عرفوه باستقامته وبمحبّته للناس كيسوع يخلّصهم من إبليس عدوّهم وعدوّ البشرية كافة ويحرّرهم من الخطيئة. لا يريدون إنساناً كهذا ليكون نبيّهم لذلك قاموا وأخرجوه خارج المدينة وجاؤوا به إلى حافة الجبل الذي كانت مدينتهم مبنيّة عليه حتى يطرحوه إلى أسفل، أما هو فجاز في وسطهم ومضى، وختم بذلك قوله الإلهي: «ليس نبيّ بلا كرامة إلا في وطنه وبين أقربائه وفي بيته»، ولذلك تركهم يسوع وذهب إلى قرى ودساكر وكان يبشّر، وعُرف بتعاليمه السّامية السماوية حتّى قيل عنه: «إنه كان يعلّمهم كمن له سلطان وليس كالكتبة والفرّيسيين» (مت7: 29) واجترح معجزاته الباهرات. وبعد سنة وربع السنة وقد ذاع صيته بين الناس، عاد إلى مدينته الناصرة ثانيةً، طبعاً كان يعرف كل شيء قبل أن يحدث، ولكن كلّ ما نقوله عنه نقوله بحسب إدراكنا نحن البشر، كان لابدّ أن يعود إلى الناصرة لكي يُدان أولئك الناس الذين يرفضونه والذين رفضوه أيضاً في أماكن كثيرة لأنه كان معروفاً لديهم أنه نجّار، بعدئذ ظنّوا أنه مختل ومن بينهم بعض أقربائه وحاولوا أن يأخذوه إليهم، فتمَّ ما قيل عنه: «إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله أما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاداً لله أي المؤمنون باسمه الذين وُلِدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله» (يو1: 11ـ13).
في هذه المرّة الثانية أيضاً دخل المجمع يوم السبت وطالبه المجتمعون باجتراح المعجزات لأنه كان قد أُذيع عنه أنه اجترح معجزات باهرات في أماكن عديدة. قبل مجيئه ثانيةً إلى الناصرة كان قد أقام ابنة يايرُس من الموت بقوله: «طليثا قومي» (مر5: 41). قالها بلغتنا السريانية الآرامية التي كانت لغتهم وترجمة هذه العبارة «أيتها الصبيّة انهضي»، فرجعت روحها وسلّمها لأبويها حيّةً. ولكن يسوع لم يصنع معجزة واحدة في الناصرة. مرقس الرسول يقول: «إنه لم يقدر أن يصنع معجزةً» (مر6: 5)، المسيح رب المجد، المسيح الإله المتجسّد، «الله ظهر بالجسد» يقال عنه إنه لم يقدر أن يصنع معجزةً، هذا درس مهمّ لنا، فالله يقدر على كل شيء، يعطينا المواهب والنّعَم الإلهيّة العظيمة، ولكننا لن نستحقّها ما لم نؤمن به، ونقتبل هذه العطية. حتّى في الفكر الدنيوي أو النظام الدولي، إذا ملك ما أو رئيس جمهورية ما أعلن براءة إنسان حُكِم عليه بالإعدام، لا يُنفَّذ العفو من الحكم عليه ما لم يقبل هذا الإنسان عفو رئيسه أو ملكه. نحن تُعطى لنا من الله نِعم عظيمة، ما لم نتجاوب مع هذه النّعمة، ما لم نقبلها نكون كأهل الناصرة الذين رفضوا الرب يسوع والذين لم يستحقّوا أن يلبي طلبهم بصنع معجزات في مدينتهم حسب طلبهم، ولكن مع هذا يقول الإنجيل المقدس: «أن مرضى قليلين قصدوه ونالوا الشفاء إذ وضع الرب يسوع يده عليهم» (مر6: 5)، وفي المرة الثانية هذه أيضاً ذكّروه أنه هو نجّار وهو ابن يوسف النجار، لأنه كان يساعد يوسف بحانوت النجارة. ليست حقارةً بالإنسان أن يمتهن مهنةً منذ صباه. فقد كانت العادة لدى اليهود في تلك الأيام لا أن يعلّموا أولادهم في مدارس الناموس فقط، ولكن في الوقت نفسه كانوا يعلّمونهم مهنة ما، مثال ذلك الرسول بولس الذي كان ينسج الخيام، وبولس الرسول عندما كان ينادي بالبشارة بالمسيح يسوع مخلّص العالم، في الوقت نفسه كان يعمل ويُقيت نفسه والذين معه. ولذلك الرب يسوع الإله المتجسّد امتهن النجارة ودعي نجّاراً، فعندما مات يوسف كان يسوع يقيت نفسه وأمه مريم وهو يعمل نجّاراً وسُمِّي النجّار ابن مريم. لذلك ولأنهم عرفوه لم يعترفوا به أنه نبي. علينا نحن أن نحكم على الإنسان بفضائله، بأعماله الصّالحة، بإيمانه لا نحكم عليه لمهنة يمتهنها أو لبساطة في العيش، لا ننظر إلى الإنسان باحترام لغناه أو لمركزه الدنيوي المرموق، بل لنقائه وصفائه وقداسته. هذا ما يجب أن نحكم به على الإنسان. لا نحكم عليه لأنه منّا وفينا، لأنه من بلدنا، لأنه من طائفتنا، لأنه يسير معنا بتواضع ووداعة نحكم عليه بهذه الخصال السّامية أنه حقّاً من أتباع الله، أنه حقّاً ابن الله بالنعمة والمسيح يسوع هو ابن الله بالطبيعة وهو المساوي للآب في الجّوهر. لم يفهم أولئك الناس هذا الأمر أبداً، حتّى الذين كانوا من اليهود بعيدين عن الناصرة وعن الرب يسوع أيضاً، حكموا عليه بأنه ليس النبي ـ وعندما نقول النبي يعني النبي الذي تنبّأ عنه موسى ـ وأنّهم كانوا ينتظرونه وأنه هو ماشيحا مشتهى الدهور والأجيال، ليس هو النبي حسب ظنّهم، ولماذا؟
لأنهم لا يعرفون من أين أتى، لا نعرف أبويه، لا نعرف عنه شيئاً، فاعتبروا ذلك عذراً لهم بعدم الإيمان بالمسيح. أما أهل الناصرة فلأنهم عرفوه لم يؤمنوا به.
ما يفيدنا جدّاً عندما نذكر ما ذكرناه عن وطن الرب يسوع أنه قيل عنه أنه نجّار وابن النجّار، وأن أخواته عندهم في الناصرة. هذا الشيء يُقام برهاناً ساطعاً وحجّة دامغة ضدّ أولئك الذين يتساءلون عن المكان الذي قضى فيه المسيح يسوع السنين التي كانت بين زيارته للهيكل عندما كان عمره اثنتي عشرة سنة، وبين ظهوره للناس في الثلاثين من عمره. إذن المسيح لم يذهب إلى أي مكان خارج وطنه، إنما كان في الناصرة يعيش عيشةً بسيطةً كنجار بسيط، لم يذهب كما تدّعي الصهيونيّة اليوم إلى الهند أو إلى أماكن أخرى ليتعلّم السّحر ويأتي ثانيةً إلى بلده، وإنما عاش المسيح كإنسان بسيط، جاء ليعلّمنا كيف نحيا بالله، كيف نكون أتقياء، كيف نكون مستقيمين، كيف نعيش مع الناس بلطف ومحبّة واستقامة، كيف نضحّي في سبيل الآخرين. لذلك عاش كإنسان بسيط يأكل خبزه بعرق جبينه في الناصرة حتّى ظهر للعالم يوم عماده، وبعد انتصاره على إبليس في التجارب التي دخلها في البرية أتى إلى الناصرة ثانيةً ـ كما قلنا ـ أعلن نفسه أنه ماشيحا ولكنهم لم يقبلوه. هذا درسٌ نفيس لنا نحن الذين نسعى إلى أن نكون للمسيح، حاملين رسالته السّامية، كان هو الرسالة وحمل هذه الرسالة إلى العالم ورُفِض خاصّةً من أقرب أقربائه. نحن نحمل رسالته السامية، رسالة السماء: «ليس عبدٌ أفضل من سيّده» (يو13: 16)، سوف لا نكون دائماً مقبولين من الناس وخاصةً من الذين هم قريبون إلينا جدّاً. نتذكّر أن المسيح قال: «ليس نبيٍّ بلا كرامة إلا في وطنه وبين أقربائه وفي بيته»، حتّى الأنبياء الكذبة الذين قال عنهم الرب: «لم أرسل الأنبياء بل هم جروا، لم أتكلّم معهم بل هم تنبّأوا» (إر23: 21)، حتّى أولئك لا يقولون هذا الكلام، هذه الآية المقدسة التي ذكرها الرب يسوع التي جرت مثلاً أيضاً، ولكن النبي الحقيقي، النبي الصادق عندما يقولها بإلهام ربّاني يعلم أنه قد أُرسل حقّاً من الله والعالم يعرف أنّه نبيّ. بطرس الرسول عندما وبّخ اليهود لأنّهم لم يقبلوا المسيح ذكّرهم أن علامات النبي ظهرت في هذا الإنسان بتقواه، بمحبّته السلام، بنكران الذات، بالتضحية حتّى أنه فدانا بدمه الكريم، علامات النبي ظهرت فيه ولكنهم لم يقبلوه لأنهم كانوا ضالّين ومضلّين.
ليُعطِنا الرب أن نسلك بموجب ناموسه الإلهي ونتبعه حاملين صليبه، وألاّ نهتمّ إن كان الناس يقبلون ما نقوم به أو يرفضون إن كنّا حقّاً متمسّكين بشريعته الإلهية حاملين رسالته السّماوية، لذلك نستحق أن نكون في عِداد أولئك الذين حملوا الرّسالة وجاهدوا واجتهدوا في نشر البشارة الإنجيليّة وكانوا من الظّافرين ليس فقط في هذا العالم، بل أيضاً في العالم الثاني، فنشكر الله تعالى لأننا وُجدنا في عداد الذين آمنوا بالرب يسوع واعترفوا به مسيحاً ورب الأنبياء وملك الملوك الذي فيه تمت نبوات الأنبياء.
الأحد السادس بعد الدنح (2)†
«ليس نبيٌّ بلا كرامة إلاّ في وطنه وبين أقربائه وفي بيته»
(مرقس 6: 4)
هذا مثل كان شائعاً لدى اليهود يوم كان المسيح يجول يصنع خيراً ويجترح معجزات باهرات ويعلّم الناس تعاليم ملكوت السماوات. كان قد غادر وطنه الناصرة، البلدة التي تربّى فيها ونشأ وعمل فيها وعمل فيها أيضاً باستقامة وتقوى وقداسة، غادرها عندما بلغ الثلاثين من عمره ليبدأ تدبيره العلني بالجسد ومكث نحو سنة وربع سنة دون أن يرجع إلى الناصرة، جاء أخيراً وقد تغيّرت هيأته، جاء ومعه تلاميذه وأتباعاً معجبين به بعد أن ذاع صيته في البلاد وعُرف كمعلّم يعلّم الناس كمن له سلطان وليس كالكتبة والفريسيين وكنبيّ وكصانع عجائب، بل أن الناس أخذوا يشيرون إليه بالبنان ويسأل بعضهم بعضاً: هل هذا هو ماسيّا المنتظر. جاء إلى وطنه وأبناء تلك المدينة تطلّعوا إليه باحتقار، قالوا عنه: أليس هذا ابن يوسف؟، أليس هذا النجّار؟. احتقروه لأنه كان عاملاً وكان عاملاً في مدينتهم لأنهم رأوه كسائر الناس عاش بينهم ولم يتذكّروا أنه ولئن كان عائشاً بين الناس إنما كان يختلف عنهم ويتميّز بتقواه، بقداسته، باستقامته، بإجادته مهنته وعدم غشّه للناس كما يفعل أغلب الناس. أليس هذا النجّار؟. كلنا ننظر إلى الناس ونحكم عليهم بناءً على ما نسمع عنهم وما نعرفه إن كان فقيراً أو دون حسب ونسب ومكانة اجتماعيّة، الإنسان لا يُحكَم على شخصيّته إلاّ باستقامته وبما يحتاجه مجتمعه إليه، أما بقيّة الأشياء هي إطار خارجيّ. لم يفهموا ذلك وطلبوا منه أن يجترح معجزات كما فعل، كما قالوا كما سمعنا ما فعلت في كفرناحوم وغيرها، ولكنه جاء ليعلّم الناس طريق الحياة وليأتي بهم إلى الآب السماوي فالتعليم هو الأفضل عنده، لذلك دخل المجمع في يوم السّبت كما فعل في زيارة سابقة لوطنه حيث أنه قام ليقرأ فعلم رئيس المجمع أنه يريد أن يقرأ وتقدّم الخادم فأعطاه السفر وفتح السّفر فوجد الموضع الذي كُتب فيه في سفر إشعياء: روح الرب عليَّ لأنه مسحني لأبشّر المساكين. أرسلني لأشفي منكسريّ القلوب، لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر وأكرز بسنة الرب المقبولة ويوم الجزاء. ودفع السّفر إلى الخادم وجلس وعلم الجميع أنه يريد أن يتكلّم، لأن المعلّم اليهودي في تلك الأيّام يجلس عندما يعلّم. فابتدأ كلامه بعد أن أشار إليه رئيس المجمع، ابتدأ كلامه قائلاً:اليوم قد تمّ هذا المكتوب في مسامعكم، أعلن نفسه أنه هو المسيح المنتظر، أنه هو الكاهن والنبي وهو الملك قد مسحه الرب وأرسله ليبشّر المساكين ويشفي منكسريّ القلوب وينادي للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر، ولكن العميان قادة العميان لم يشاءوا أن ينالوا الشفاء فلم يؤمنوا به أنه ماسيّا وفي ذهنهم أن ماسيّا يأتي ليخلّصهم من حكم الرّومان واستعمارهم لا من طغيان الشيطان وعبوديّته. أمّا هو فإذ رآهم لا يؤمنون به وهم يقولون علناً وفي أنفسهم من أين لهذا هذه الحكمة، أليس هو ابن النجّار يوسف؟، أليس هو النجّار ابن مريم؟، أليست أخواته عندنا؟. قال لهم المثل الذي كان شائعاً بينهم: ليس نبيٌّ بلا كرامة إلاّ في وطنه وعند أقربائه وفي بيته. وضرب لهم أيضاً أمثالاً لذلك ذكّرهم بأنهم كما كان آباؤهم قساة القلوب غلاظ الرّقاب، ذكّرهم بإيليا كيف ترك كل اليهود وذهب عند أرملة في صرفة صيدا وثنيّة، ذكّرهم بأليشع الذي لم يشفق على أولئك القساة، فبرصٌ كثيرون كانوا بين اليهود ولكن أليشع شفى فقط نعمان السرياني رئيس جيش ملك آرام في دمشق. شفاهُ عندما هذا أخذه إلى بلاده وطهّره من برصه. أظهر لهم الرب يسوع أنه لقساوة قلوبهم لا يريدون أن يؤمنوا به فامتلأوا حقداً وأخذوه إلى الجبل الذي بُنيَت مدينتهم عليه وحاولوا أن يطرحوه من هناك ولكنه غاب عنهم فجأة.
من هذا المثل أيها الأحبّاء نتعلّم دروساً عديدة خالدة يجب أن نتذكّرها في حياتنا. قبل كل شيء نرى أن الرب يسوع بعشرته أولئك الناس فقد في قلوبهم مكانته الإلهيّة لأنه متواضع ووديع وطيّب القلب، هكذا الإنسان الشرير يستغل الوداعة والتواضع لدى الناس، والإنسان الذي لا يخاف الله حتّى عندما يقف قدّام الله ليصلّي مرّات عديدة ينسى نفسه أنه عبد لله ولئن نال دالّة البنين بحسب نعمة ربنا يسوع المسيح فيبدأ يلتهي حتّى عند الصّلاة: يكلّم غيره، أفكاره تكون شاردة هنا وهناك بالأمور الدنيويّة لأنه هو دائماً أمام الله وينسى عظمة الإله. الإنسان أيضاً ينسى أهميّة بقية البشر إن كان جاهلاً لكثرة معاشرته إيّاهم ولكن الإنسان الذي يخاف الله ولئن كان الله تعالى قد أنعم عليه وأنعم علينا طبعاً جميعاً بأن نكون أولاده بالنعمة، ولكن علينا أن نعرف أنفسنا أننا لا شيء أمام الله ورحمةً منه اعتُبرنا أولاده بالنعمة، فعندما نناجيه ونناشده ونصلّي أمامه ليكن ذلك بتواضع وتوبة العشّار الذي وقف أمام الله. لم يعرفوا يسوع حتّى التلاميذ الذين كانوا معه واستمعوا إلى تعاليمه الإلهية، بل أيضاً رأوا المعجزات الباهرات التي اجترحها وقد يكونوا سمعوا بآذانهم أو سمعوا من غيرهم كيف أن السماء سمّـته ابن الله بعد العماد وفي التجلّي، حتّى أولئك الناس خرج منهم إنسان لم يعرف مكانة الرب يسوع، يهوذا اجترأ بوقاحة لجشعه، طمعه، تعوّده على سرقة الصندوق اجترأ أن يبيع الرب يسوع بثلاثين من الفضة، فالدرس الذي نأخذه أيها الأحباء من توبيخ الرب يسوع أولئك الذين عاشروه مدّة ثلاثين سنةً وكانوا عمياناً قادة عميان فلم يروا المجد الإلهي فيه، بل مجده الإلهي الذي انحجب في الجسد، لم يعرفوه حقّ المعرفة وحتّى عندما أعلن عن نفسه أنه ماسيّا المنتظر حاولوا قتله.
الدرس الذي نأخذه أيها الأحباء أن نكون قريبين من الرب يسوع وأن نعرفه معرفة حقّة فهو ابن الله وهو المخلص وهو الذي بآلامه فدانا فاستحقّ كل واحد منّا إن كان يؤمن به ويقبله مخلّصاً أن يرث ملكوته السماوي. لنعرف المسيح من خلال القربان المقدس لنتُق ونشتاق إلى المسيح بتنقية قلوبنا وضمائرنا ونفوسنا والتقدّم إلى مذبح الرب لتناول جسد المسيح ودمه الأقدَسَين ليبقى المسيح متّحداً بنا ولنثبت نحن أيضاً به وبذلك ننال الحياة فيه في هذه الحياة وننال الحياة الأبدية، الحالة التي أتمناها لي ولكم بنعمته تعالى آمين.
الأحد السادس بعد الدنح (3)†
«قال الرب يوع ليس لنبي كرامة في وطنه وبين اقربائه وفي بيته»
(مرقس 6: 4)
هذه الحقيقة المريرة أعلنها الرب يسوع نتيجة معرفته الحقّة بالبشر وخبرته بأبناء جلدته انه قد جاءمن السماء وتجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء لأجل فدائنا نحن البشر جاء إلى العالم أجمع وفي خبرته وهو ينشر بشارته الانجيلية بين العالم رأى ان الأمم الغريبة كانت تؤمن به وتتعجب من الآيات التي كان يجترحها أما بنو قومه ومن اعتبروا مواطنين له فكان لا إيمان لهم به ورسالته السماوية بل اتبعوا الأنبياء الكذبة وتقاليد آبائهم الباطلة الأنبياء الكذبة يقول عنهم الأنبياء على لسان الرب «أنا لم أرسلهم يقول الرب جروا من أنفسهم» (أر9:29) دعي الرب يسوع نبياً، كل النبوات تمت فيه موسى قال لبني اسرائيل (ان الرب يقيم لكم نبياً مثلي) لذلك عندما شعروا أو شعر بعضهم ان الزمان قد آن لمجيء مسيا المنتظر ورأوا يوحنا المعمدان يبشر بملكوت الله والناس يتبعونه معترفين بخطاياهم تائبين ومعتمدين منه في نهر الاردن جاء من سأله أأنت النبي الآتي ام ننتظر آخر كانوا ينتظرون هذا النبي والمسيح الذي أخذ جسدنا وبذلك أصبح واحداً منا بتواضعه ووداعته والذي أطاع الآب اطاعه حتى الموت موت الصليب شاء أيضاً أن يدعى نبياً بعد عماده رأيناه يأتي كما يقول الانجيل المقدس وجاء إلى وطنه (إلى الناصرة) وتبعه تلاميذه (مر 6: 1) نحن نعلم انه ولد في بيت لحم ونعلم انه بولادته أتمّ النبوات خاصة نبوة ميخا (بيت لحم ان منها يخرج مخلص يرعى شعبي اسرائيل) على لسان الرب قال ميخا ذلك ولكننا نعلم أيضاً ان الناصرة دُعيت وطناً له فقد تربى في الناصرة ونشأ فيها وكان يعمل نجاراً يساعد خطيب أمه يوسف ثم عمل نجاراً بعد موت يوسف ليعيل نفسه وأمه وكان مستقيماً في عمله لطيفاً مع الناس وخاصة مع البسطاء والفقراء وعندما جاء إلى الناصرة بعد عماده ودخل المجمع يوم السبت حيث كان يجتمعون ومن تدبيرالرب ان المجامع كانت قد انتشرت في تلك البلاد بعد السبي البابلي وانهم مالوا إلى قراءة اسفار النبوات وهم ينتظرون مجيء مسيا وان الحكم في تلك المجامع كان للعلمانيين لا للكهنة والعلماني وكيل المجمع كان يهمه ان يجتمع أكبرعدد من الناس في المجمع ليجمع أكبرعدد من الدراهم طبعاً لذلك كان يهمه أن يأتي معلم كالمسيح يسوع لكي يجتمع الناس ويستمعوا إليه المسيح كان في المجمع مجمع الناصرة هناك دعي لقراءة النبوات أعطاه الخادم الكتاب ففتحه فكانت هناك نبوة أشعياء القائل (روح الرب عليَّ مسحني لأبشر المساكين أرسلني لأشفي المنكسري القلوب لينادي المأسورين بالاطلاق وللعمي بالبصر) أغلق السفر أدرجه أعطاه للخادم وجلس وعندما كان المعلم يجلس يبدأ بالتعليم هكذا كانت العادة لدى الشعب القديم ان المعلم يجلس ثم يعلم وقال لهم اليوم قد تمَّ هذا المكتوب في مسامعكم بذلك أعلن المسيح نفسه انه هو المسيا المنتظر انه النبي الذي جاء لخلاص العالم وفيه تمت النبوات ومن جملة ذلك نبوة موسى ان الله في آخر الأيام قال لبني اسرائيل يقيم لكم نبي مثلي غضب الشعب الذي كان يطيع رعاته الضالين والمضلين أخذوا الرب يسوع إلى حافة الجبل العالي الذي كانت مدينتهم مبنية عليه أرادوا أن يطرحوه من هناك فاختفى عنهم بعد سنة وربع والمسيح أعلن هذه الحقيقة المريرة انه ليس لنبي كرامة في وطنه بين اقربائه وفي بيته بعد سنة وربع من ذلك التاريخ بعد ان جال المسيح في أماكن عديدة وعرف بانه يعلم تعاليم السماء ويعلم بسلطان ليس كالكتبة والفريسيين وعرف بانه أيضاً يصنع الآيات والمعجزات الباهرات بعد هذه المدة جاء ثانية إلى وطنه إلى الناصرة جاء ليعلن نفسه أمام أهله وأقرباءه انه هو المسيا المنتظر ولكن لم نره في هذه المدة مثلما رأيناه فيالقرى والدساكر وبعض المدن ان الجماهير تجتمع حوله ولذلك انتظر إلى ان جاء يوم السبت حيث يجتمعون في المجمع دخل المجمع يوم السبت وبدأ يعلم بعد ان كان قد صنع المعجزات وآحر معجزة صنعها قبل مجيئه إلى الناصرة هي اقامة ابنة يايروس التي قال لها طليثا قومي طليةا قومي في لغتها ولغته الارامية السريانية أي أيتها الصبية انهضي فقامت حية بعد هذه الآية جاء إلى الناصرة لم يجد قلوباً واعية وأذاناً صاغية بل وجد اناساً قساة القلوب غلاض الرقاب لذلك قال لهم ليس لنبي كرامة في وطنه وبين أقرباءه وفي بيته.علامات النبي ظهرت أمامهم هذا ما ذكّرهم به بطرس بعد حلول الروح القدس عليه المسيح يسوع البار الطاهر النقي قدوس القديسين وعلامة النبي ان يكون فاضلاً ليس كل من يدعي النبوة فهو نبي وان يأتي برسالة السماء تعاليمه كلها سامية سماوية ولكنه جاء بتواضع ووداعة لذلك احتقروه أرادوا ضالماً قاسياً سافك دمٍ ليعيد لهم ملكاً أرضياً زائلاً لم يجدوا ذلك في المسيح يسوع علامة النبي ظهرت فيه وتأيدت تعاليمه بمعجزاته فليس لهم عذرٌ بنكرانهم اياه وعدم إيمانهم المسيح يسوع سامح أولئك الناس تركهم لأنهم لم يسمعوا إلى تعاليمه ولكن ترك لنا هذه الحقيقة المريرة انه ليس لنبي كرامة في وطنه وبين اقرباءه وفي بيته فسارت مثلاً سائراً بين الناس يُرددونه في أحاديثهم بعد هذه الحادثة وبعد هذا الكلام يذكر لنا الانجيل المقدس كيف ان الرب ارسل تلاميذه اثنين اثنين إلى القرى والدساكر ليعلموا وينشروا بشارة الانجيل المقدس فلابد انهم استفادوا فهذا درس لهم ولنا جميعاً كثيراً ما نرى كيف ان الناس يتبعون اناساً قد يكونون دجالين كذابين مدّعين بأنهم للمسيح والمسيح براء منهم لأنهم غرباء لأنهم لا يعرفون أهكذا كان أولاد الناصرة قالوا من هذا أليس هذا ابن يوسف النجار ومرة أيضاً أليس هذا ابن مريم أليس اخوته فلان وفلان وفلان وان اخواته أيضاً عندنا فاستغربوا ان واحداً منهم ان يكون نبياً وحقاً قيل أيضاً أمن الناصرة يخرج شيء صالح ولكن قد خرج الصلاح الذي هو من السماء فالمسيح هو ابن الله ولتواضعه ولد انساناً وجال بيننا ليعطينا رسالة الله رسالة الفداء والخلاص حتى لو لم يكن منهم لأنكروه كما أنكره بقية اليهود في أماكن عديدة ان هذا لا نعرف من أين أتى الذين لا يعرفون من أين أتى أنكروه والذين يعرفون من أين أتى أنكروه والذين يعرفون من أين أنكروه أيضاً في هذه الحادثة أيها الأحباء دروس عديدة نأخذها قبل كل شيء الحلقة المفقودة في سلسلة تدبير الرب يسوع المسيح في الجسد منذ فقد في أورشليم وحتى بدأ تبشيره وتدبيره العلني بالجسد ظهرت لنا بأن المسيح كان في الناصرة كان نجاراً كما قال عنه هؤلاء كان يعيش بين الناس لكن كان أفضل من الناس جميعاً باستقامته كان له اخوة ليس من العذراء مريم بل من أقاربه بنو عمومته وخولته إذاً عاش بيننا ليعلن لنا كيف ان نعيش نحن بين الناس والغريب العجيب جداً بقول البشير مرقس بأن الرب لم يقدر أن يصنع معجزة واحدة المسيح لم يقدر أن يصنع معجزة هنا نتعلم ان ما يصنع لنا وما نناله من نعم من فضل الله تعالى يجب أن نشترك نحن في تحصيله حتى في الأمور المدنية إذا اعفي مجرم من رئيسه أو مليكه بعد أن يكون قد حكم عليه بالاعدام لا ينال هذا الاعفاء قوته مالم يقبل المجرم بهذا الاعفاء النعم التي تسبغ علينا من الله هي كثيرة جداً ولكننا لا نستحقها ونتمتع بها ونسعد ما لم نقبلها ما لم نؤمن بالمسيح يسوع ربنا وفادينا ما لم نقبله فادياً لنا ومخلصاً طهرنا بدمه الطاهر النقي حينذاك تحدث الأعجوبة فننال الخلاص وننال المغفرة أيضاً عندما نطلب منه أن يغفر لنا خطايانا ليس لنبي كرامة في وطنه نحن في كنيستنا أحبائي لا نفتش عن كرامة من اخوتنا واعزائنا والمؤمنين أيضاً جميعاً ولكننا علينا أن نكرم بعضنا بعضاً باسم المسيح كذلك علينا أن نؤمن بمن يُرسلون إلينا أحبار معلمين وكهنة يبلغوننا رسالة السماء كهنة يحملون صلواتنا بصلواتهم ليرفعوها إلى الله ويجذبونا إلى الشريعة بهذا نكون قد آمنا ان المسيح رب الأنبياء قد جاء لخلاصنا وآمنا انه نكرم اذ كرم هو أيضاً كهنته نكرمهم باسم المسيح لأنه من كرم من ارسل من المسيح يكرم المسيح ذاته وبهذا أيضاً احبائي نكون قد هيئنا الطريق للرب ان يسكب علينا نعمه وبركاته زان يؤهلنا وقد قبلنا نعمة الفداء باسمه أن نكون معه وله اذ أرسل إلينا ونحن رعيته وبذلك نستحق نعمة السماء التي استحقها لنا بدمه الأقدس فنرث معه ذلك الملكوت الحالة التي أتمناها لي ولكم بنعمته آمين.
الأحد السادس بعد الدنح (4)†
«فقال لهم يسوع ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه وبين أقربائه وفي بيته»
(مرقس6: 4)
إن الرب يسوع ابن الله المساوي للآب في الجوهر نزل من السماء لخلاص البشرية وفيه تمت نبوءات الأنبياء وشروط النبوة وعلامات النبي (أع2: 22)، رب الأنبياء الرب يسوع يعلن حقيقة مجردة هل كانت مثلاً سائراً بين الناس يوردونه في أحاديثهم بين الفينة والفينة، أو أن الرب يسوع قالها مرة فذهبت مثلاً، إن كان هذا أو ذاك فهذه الحقيقة تنطبق على بني إسرائيل أي نبي حقيقي شرعي فاضل قام ببني إسرائيل لم يضطهد من شعبه يا أورشليم يا أورشليم قال الرب مرة يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها فلم تريدوا هوذا بيتكم يُترك لكم خراب حتى تقولوا مبارك الآتي باسم الرب. فليس عبثاً أن يقول الرب: .ليس نبيٌ بلا كرامة إلا في وطنه وبين أقربائه وفي بيته,، فكل الأنبياء اضطُهدوا في العهد القديم والمسيح يسوع نفسه له خبرة مريرة مع أبناء وطنه بعد أن أتم الثلاثين من عمره وكان حينذاك يسكن في الناصرة حيث تربى ودعيت وطنه تلك كانت المرة الأولى بعد بدءه بتدبيره الإلهي العلني بالجسد.
يذكر الإنجيل المقدس أنه دخل المجمع يوم السبت، ومن حسن الحظ هذا ما نقوله كبشر ولكن الإرادة الربانية قد هيأت أن مجامع اليهود في تلك الأيام كانت تدار من العلمانيين لا من الكهنة، وكان وكيل المجمع يهمه أن يحصل على كمية أكبر من المال وعدد أكبر من الناس بمن يُعلم ولا بماذا يُعلم، فالمسيح يسوع الذي لم يتعلم في مدارس اليهود العالية عندما حضر إلى المجمع قام ليقرأ ودُفِع إليه سفر إشعياء النبي، وفتح السفر وبدأ يقرأ: روح الرب علي لأنه مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأشفي منكسري القلوب، لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر، ولأكرز بسنة الرب المقبولة. ثم طوى السفر وجلس وعندما كان المعلم يجلس، يعني ذلك أنه يريد أن يتكلم، وتكلم وقال لهم لقد تم هذا الذي تُلي عليكم، وبذلك أعلن نفسه أنه حقاً هو ماسيا المنتظر، ولكن قوبل بالرفض من المواطنين الذين عرفوه معرفة جيدة، من هذا النجار ابن مريم، أو كانوا يقولون: من هذا ابن النجار يوسف أخو يعقوب ويوسي الذي أخوته أيضاً عندنا، لقد عرفوه منذ كان فتىً صغيراً نجاراً بسيطاً، ولكنه كان مستقيماً، وكان صادقاً، وكان مُحباً للناس، وكان عادلاً، لم يذكروا هذا كله إذ تربى معهم لم يحترموه.
نشكر الله على ذكر مرقس هذه الآية منها نعلم أين قضى المسيح تلك السنين بعد ولادته في بيت لحم بعد ضياعه في الهيكل عندما زاره لأول مرة كفتى يجب أن يزور الهيكل، نعلم أنه عاش في الناصرة حياة متواضعة وكان يساعد الذي اعتبر أباً شرعياً له يوسف خطيب العذراء يُساعده في عمل النجارة، بل أيضاً بعد موت يوسف أخذ على عاتقه إعالة العائلة، لذلك عيروه بأنه النجار ابن مريم. المسيح يُعلمنا أن لا نكون كسالى بل علينا أن نأكل خبزنا بعرق جبيننا وعلمنا أيضاً أن نكون مستقيمين في أعمالنا، لذلك رُفض، فلم يحكم على أولئك الناس ولأنه أعلن نفسه ماسيا أخذوه إلى الجبل الذي بنيت عليه مدينته ومدينتهم الناصرة، ليطرحوه منه، أرادوا قتله فاختفى عن عيونهم تلك كانت المرة الأولى أما المرة الثانية فبعد سنة وربع سنة بعد أن اشتهر اجترح المعجزات، وذاع صيته بين الناس، وعلم أنه يعلم كمن له سلطان وليس كالكتبة والفريسيين بعد أن جلس على ظهر السفينة في البحر والناس أمامه في البر على الساحل، وفاه بأمثاله العظيمة عن الزرع والزارع واللؤلؤة والشبكة بعد كل ذلك جاء إلى الناصرة ثانية دخل المجمع نحن نقرأ عن الرب يسوع أينما وُجد كان الناس يتجمهرون حوله ليسمعوا كلام النعمة الخرج من فيه وليقدموا مرضاهم فيشفيهم الرب، ولكن الناصرة لم تكن لهم فرصة إلا يوم السبت ليدخل إلى المجمع ويلتقي بالناس لأن الناس لم يكرموه لأنه كان واحداً منهم وعاش بينهم، يوم السبت دخل المجمع وقرأ وعلَّم ولكنه رُفض في هذه المرة أيضاًِ من أولئك الناس، في المرة الأولى قال المثل نفسه ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه وبين أقربائه وفي بيته وذكَّر اليهود موبخاً إياهم أنهم يسلكون كما سلك أجدادهم، ذكَّرهم بإيليا كيف أن أيام المجاعة كانت أرامل كثيرة بين اليهود ولكن لم يُرسَل إيليا إلا إلى أرملة صرفة صيدا، وذكرهم بأليشع الذي كان يجترح المعجزات، وكان هناك برص بلا عدد بين اليهود، ولكن لي يُشفِ أليشع إلا نعمان السرياني الذي كان رئيس جيش آرام الذي في دمشق، قصد أليشع فشفاه إذ وبخهم حينذاك أرادوا قتله وفي هذه المرة عيروه أنه النجار بان مريم، إن من يرفض الرب يسوع، ليس عليه أن يأتي بالأعذار، أعذار الرفض هنا لأنهم عرفوه، هذه في الناصرة أما في اليهودية فكانوا يقولون من هذا إننا لا نعرفه أيضاً ما آمنوا فيه لأنهم لم يعرفوه وحتى لو نزل أمامهم من السماء لرفضوه لأن قلوبهم كانت قاسية، كيف قابل الرب يسوع هذا التعيير هذا الاحتقار بتواضعه بوداعته بحلمه بمحبته للناس يقول مرقس ـ ونستغرب كيف يقدر أن يقول ذلك ـ إنه لم يقدر أن يصنع أعجوبة، يا للعجب المسيح يسوع ربنا لا يقدر أن يصنع أعجوبة! المسيح يسوع في خطته أنه يصنع المعجزات، لم يرغب بأن ينال تلك المعجزة أو النعمة من الله، أي مريض لا يؤمن بشفائه لا ينال الشفاء، أي مريض لا يؤمن بقوة المسيح ويأتي إليه لا ينال هذه النعمة أبداً، بحسب إيمانهم لا يعني ذلك أنه «لم يقدر»، قلنا أولاً إن الرب يسوع لم يتجمهر حوله أحد في الناصرة، فإذا كان المرضى قد ابتعدوا عنه كيف يقدر أن يشفيهم، هل يذهب هو إلى واحدٍ واحدٍ منهم ويشفيهم، دون أن يؤمنوا فيه وبمقدرته الإلهية، لماذا ينالون هذه النعمة إذاً، عندما نقول «لم يقدر» لأنهم لم يأتوا إله، لم يتيحوا له هذه الفرصة ليجترح معجزة ما، مع هذا فالإنجيل المقدس يذكر أنه وضع يديه على بعض مرضى قليلين فشفاهم.
أيها الأحباء، إننا عندما نتأمل بهذه الحادثة، نقيس ذلك على أنفسنا، قد نجد أناساً يخافون الله، يعبدونه بالروح والحق، ويكلموه بكلمة روح الله، ولكن لأنهم من كنيستنا ومن أبناء قومنا وبلدنا وطائفتنا لا نرى لهذه الكلمة من معنى أو قيمة، لأننا نعرف هذا من هو، نعرف أهله وأقرباءه، وإنه قد نشأ معنا في بلدتنا، أو في كنيستنا، ولكن نُعجب بالغريب، إن شخصية الإنسان بتواضعها بوداعتها بتكريسها نفسها، تلك الشخصية للمسيح يسوع تعطي ثمار الروح ولكن الإنسان الذي لكبرياءه وعجرفته وحسده خاصة يرى الآخرين يخدمون الله بالروح والحق ليس فقط لا يؤمنون، بل أيضاً يحاولون أن لا يدعوا الآخرين أن يؤمنوا، لا يدخلون إلى الملكوت ولا يدعون الآخرين أن يدخلوا، هوذا المسيح على الباب يقرع كما قرع باب قلوب مواطنيه في الناصرة، إن فتح أحد له الباب إليه يدخل ومعه يتعشى، هو والآب والروح القدس، ولكن إن أوصدنا أبواب قلوبنا ونفوسنا وأذهاننا وأفكارنا أمام المسيح لأننا عرفنا المسيح بتواضعه ووداعته ومحبته للناس فلا يقدر المسيح، نعم لا يعطينا نعمة طالما رفضناها نحن نبتعد عنه فلنأت إلى الرب يسوع أحبائي لنستمع إلى كلمات الروح التي يفوه بها، لنشكر إله السماء أننا نعرف المسيح وأننا نؤمن بالمسيح وأننا نعترف بالمسيح، وليعترف هو بنا أيضاً أمام أبيه السماوي وملائكته القديسين بنعمته تعالى آمين.
تذكار العذراء لبركة الزرع
تذكار العذراء لبركة الزرع
تذكار العذراء مريم لبركة الزرع (1)†
يصادف يوم غد الاثنين الخامس عشر من شهر كانون الثاني الجاري تذكار السيّدة العذراء لبركة الزروع، وقد حوّلناه إلى هذا اليوم لنحتفل به بمخافة الله. ونحن نؤمن بأن العذراء مريم أم الرب يسوع والدة الإله هي أم الكنيسة وأمّنا جميعاً وهي شفيعة الكنيسة، ولذلك بحسب تعليم آبائنا قد خصّصت الكنيسة أياماً تذكر فيها السيّدة العذراء متشفّعة بها، تذكارها لبركة الزروع، تذكارها لبركة السّنابل وتذكارها لبركة الكروم، العيد الذي تحوّل إلى عيد انتقالها إلى السّماء إلى جانب بقيّة أعيادها ونحن بذلك نتشفّع بها لننال نعمة الرب روحيّاً وجسديّاً. ففي هذا اليوم نسأله تعالى بشفاعتها أن يحفظكم جميعاً أحبائي، إذ اجتمعتم لتنالوا بركة المسيح بشفاعة هذه السيّدة العذراء مريم التي هي أمّنا جميعاً. والآيات المقدّسة التي تُليَت على مسامع بعضكم في بدء القداس تمتّ بصلة إلى موضوع الزرع، فسمعنا الرب كما شهد مرقس يتكلّم بأمثال. كان جالساً في السّفينة في بحر طبريّة وكان الجمهور على الأرض في السّاحل وبدأ يتكلّم بأمثال، لعلّه تطلّع فرأى زارعاً يبذر البِذار، فأشار إليه وقال للسامعين ما ملخّصه كما كتب وشهد الإنجيليّون الثلاثة، متّى ومرقس ولوقا.
قال الرب: خرج الزّارع ليزرع, ونحن نتصوّر أمامنا زارعاً خرج ليزرع يبذر البِذار، بعضه سقط على الطّريق – الطريق التي ضمن الحقل يسير الإنسان في تلك الطريق وأيضاً لبهائم- بعضها سقط على الطريق فجاءت طيور السّماء وأكلته. بعضها سقط على أرض محجرة حجريّة فنبت حالاً لأنه لم يكن له عمق تراب وعندما أشرقت الشّمس أحرقته، والبعض الآخر سقط بين الشّوك، نبت الشّوك وخنقه والبعض الآخر سقط في الأرض الجيّدة فنما وأعطى ثمراً ثلاثين وستين ومائة. هذا ملخّص الكلام الذي نقله لنا الإنجيليون الثلاثة والرب ختم كلامه بقوله: من له أذنان سامعتان فليسمع. وقد فسَّر الرب بعدئذٍ لتلاميذه ونحن نرى أن الرب يسوع في بدء تدبيره الإلهي العلني بالجسد بعد أن اعتمد من يوحنا، وبعد أن جُرِّب في البريَّة وخرج إلى العالم ليعلن التوبة: توبوا فقد اقترب منكم ملكوت الله، كان تعليمه واضحاً جدّاً ولكن أولئك النّاس كانوا يسمعون وكأنهم لم يسمعوا، ويرون وكأنّهم لم يروا لأن قلوبهم كانت قاسية ورقابهم غليظة وصمّوا آذانهم عن سماع التوبيخ من الرب فلم يشاءوا أن يعودا إليه تعالى بالتوبة بعد سنة ونصف تقريباً بدأ يحدّثهم بأمثال. هذه الأمثال من واقع الحياة، لم يحدّثهم بأمثال كما فعل بعض الحكماء على لسان البهائم والحيوانات، بل حدّثهم بأمثال واضحة. خرج الزارع ليزرع، هذا المثل الأوّل الذي ضربه لنا الرب يسوع أنه هو الزّارع كما فسّر المثل، ولا نستغرب، ففي سفر التكوين نرى أن أوّل زارع في الكتاب المقدس هو الله الذي غرس وهيّأ فردوساً، فردوس النعيم للإنسان وجاء المسيح الإله المتجسّد فبدأ يزرع لكن بنوع آخر، يزرع كلمة الله. زرع هذه الكلمة وهي جيّدة جدّاً، والزارع الصّالح وما يزال وقد أعطى سلطاناً للرسل وخلفائهم وكهنة الرب والوعّاظ أن يزرعوا هذه الكلمة على الأرض. لم يكن الزّارع سيّئاً حتى اليوم ولم تكن البذرة غير جيّدة، إنها بذرة كلام الله ولكن العيب هو في الأرض ذاتها. سقط بعض البذار على الطّريق، كثيراً مل يكون هذا فالتقطت تلك البذور طيور السّماء التي قال عنها السيّد المسيح أنها الأبالسة، الشياطين. كثيراً ما نسمع كلام الله، تسقط بذار الكلمة بآذاننا ولكن آذاننا صمّاء لا تهتم بأمور الرّوح فتذهب الكلمة عبثاً. كان بإمكاننا أن نحرث تلك الأرض التي ديسَت من أناس كثيرين ومن البهائم أيضاً لأنها في ضمن الحقل كان بإمكاننا أن نهيئها لتنمو فيها البذرة وتعطي ثمر. شبه الآباء ذلك الطريق بكهنة اليهود والفريسيين وبكل إنسان تسير في نفسه ، في قلبه، في فكره أفكار عديدة وتمتلئ قلوب أولئك الناس من مشاغل الحياة، لا مكان للكلمة، لكلمة الله فيها، إن لم نفرّغ قلبنا ونفسنا من أولئك الناس، من مشاغل الحياة، لا يمكن للكلمة أن تثبت فينا فيأتي إبليس ويخطفها. وسقطت بعض البذار على الأرض المحجرة ـــ حجرية ـــ كان هناك تراب كثيراً ما يظهر بعضنا كأنهم أتقياء ولكن لهم صورة التقوى ولا يعرفون قوتها تظهر، الأرض وكأنها أرض صالحة للزارعة ولكن البذرة لا تستطيع أن تنبت فيها لأنها أرض حجرية وإذا ما نبتت بسرعة فإن الشمس إذا ما طلعت تحرقها لأنها ليست لها عمق أرض أولئك الناس السطحيون الذين يتقبلون مع كل حال هم أول من يشجع أي مشروع كان، وأول من يهرب من المسؤولية الروحية هؤلاء العاطفيون، والعاطفي يتقلب كالحرباء، الرسول بولس استغل أهل أثينا عندما رآهم يتقبلون ويقبلون كل شيء جديد وبشرهم بالمسيح، ممكن إن هؤلاء الناس أيضاً يحرثون أرضهم وينقونها من الحجارة بالتوبة، بالعمل الجاد والمجد والمواظبة على الصوم والصلاة لتنمو يلك البذار في تلك الأرض المحجرة، أما البذار التي سقطت بين الشوك، هذه البذار بذار الكلمة، كثيراً ما تسقط بين الشوك، عندنا أرض تريد أن تنبت حنطة جيدة وإلى جانب هذا الشوك نريد أن نتمسّك بالمسيح نريد أن نعبد الله بالروح والحق، نريد أن نواظب على الكنيسة، ولكن إلى جانب ذلك هناك الشوك، هناك رغبات الجسد هناك هموم الفقر والغنى في آن واحد كما فسّر المسيح المثل، فالفقير همّه إن يحصل على لقمة العيش ليعيش، وأحياناً عديدة دون اتكال على الله، والغني يهمه أن يملئ خزانته بالمال غير مبال بكلمة الله وأحياناً عديدة يريد أن يجمع الاثنين، الأمرين الرغبتين أن يكون الله، وأن يكون للعالم، ويفاجئ أن الشوك إذا نما رغبات الجسد هموم الغنى والفقر ولا بد أن يخنق كلمة الله في قلب هذا الإنسان، أما الذي سقط في الأرض الجيدة فيعلمنا الرب أن تلك الأرض التي تقبلت تلك البذرة وكانت الأرض جيدة نبتت البذرة فيها بل البذار وأعطت ثماراً ثلاثين وستين ومائة، من له أذنان سامعتان قال الرب ليسمع.
عزائنا ولئن كانت البقاع الثلاث لم تنجح في إعطاء الثمر ولكن البقعة الرابعة أعطت ثمراً كثيراً، عزائنا بذلك أن الرب ينعم علينا بالنعم العظيمة ما لم نتقبل هذه النعم ونتجاوب مع ما يعطينا الرب من مواهب لا يمكن أن تنمو تلك المواهب بل العالم يخنقها وإبليس يخطفها وهي تحترق أيضاً تحت قوة الشمس عندما تشرق.
أحبائي ضرب لنا الرب يسوع هذا المثل ونحن بإمكاننا أن نتعلم منه أننا حتى لو كنا كالطريق أفكارنا وقلوبنا مداسة من الناس بعيدين عن الله حتى لو نما زرع الكلمة مع الشوك بإمكاننا بقوة الله أن نعطي ثمار الروح ولكن لا يكون ذلك إلا بالتوبة والعودة إليه تعالى، من له أذنان سامعتان فليسمع قال الرب.
قيل عن العذراء مريم في الكتاب المقدس أنها كانت تسمع وكانت تحفظ الكلام في قلبها مفتكرة به أي كانت تهذ بناموس الرب ليلاً ونهاراً، من منّا يستطيع أن يقتدي بالعذراء مريم لا يكفي أن نسمع عظة ما في الكنيسة ونخرج خارج الكنيسة وكأننا لم نسمع، إذن في هذه الحال ولئن كانت لنا أذنان سامعتان ولكنهما لم تسمعا، أما إذا اقتدينا بالعذراء مريم التي نفتكر بها، أن نطبقها على حياتنا حينذاك نستحق حقاً الطوبى التي نعطيها للعذراء مريم التي تنبأت عن نفسها أن الأجيال تطوبها. أسأله بشفاعتها أن يبارك زروعنا وأرزاقنا وأن يؤهلنا جميعاً لنكون ممن يسمعون الكلمة، كلمة الله، ويعملون بها لنثمر بذار الروح في قلوبنا ونفوسنا وأفكارنا ونعمته تشملكم دائماً أبداً آمين.
تذكار العذراء مريم لبركة الزرع (2)†
«فكلمهم كثيراً بأمثال قائلاً هوذا الزارع قد خرج ليزرع»
(مت3:13)
عشرون شهراً انقضت هذه المدة على بدء التدبير الإلهي بالجسد، التدبير العلني حيث كان الرب يسوع قد ابتدأ يجول بين الناس يجترح المعجزات ويلقي العظات عن ملكوت السموات، وينشر تعاليمه الإلهية بين الناس. عشرون شهراً مضت على هذه السيرة العلنية بالجسد، حينما يقول لنا كتبة الإنجيل المقدس، متى ومرقس ولوقا، أن الرب كان في كفرناحوم وخرج إلى سواحل بحيرة طبرية، هناك وجد سفينة ومن على ظهر السفينة خاطب الجموع التي كانت على الساحل، ولأول مرة بعد عشرين شهراً غير أسلوبه في التعليم، ويقول كتبة الإنجيل المقدس الثلاثة الأولون وكلمهم بأمثال قائلاً: «خرج الزارع ليزرع». لا نعلم لماذا خصص آباء الكنيسة هذا الفصل من الإنجيل المقدس في عيد العذراء مريم لبركة الزروع:
+ هل لكي ينقلوا أفكارنا من الزروع الطبيعية، من البذار التي يبذرها الفلاح في أرضه إلى بذرة الإنجيل المقدس إلى تعاليم الرب؟
+ هل يريدون هؤلاء الآباء أن يفكرونا أن زرع الإيمان، زرع كلمة الله تُُشبه أيضاً الزروع الطبيعية؟
عندما غّير الرب يسوع أسلوبه في التعليم، كما قلنا بعد عشرين شهراً من بدء تدبيره الإلهي العلني بالجسد، كانت الغاية ليوصل تعاليمه إلى أولئك الناس الذين كان يعلمهم بوضوح تام، ولكنهم كانت لهم آذان ولم يسمعوا، وكانت لهم أذهان ولم يفهموا، ولذلك غير أسلوبه إلى الأمثال. لم تكن أمثال الرب يسوع كأمثال الفلاسفة والعلماء، لم تكن كأمثال السابقين الذين كانوا بأمثالهم يقولون ما يقولون على لسان البهائم، ولكنها كانت هذه الأمثال أمثال واقعية من صلب الحياة. فعندما يقول كتبة الإنجيل أن الرب كان على ظهر هذه السفينة وأن الشعب كان على الساحل، لا بد أنه رأى أمامه فلاحاً يبذر البذور فأشار إليه قائلاً: «هوذا الزارع قد خرج ليزرع»، يريد أن يوصل تعاليمه إلى أذهان الشعب البسيط فيمثل كلمة الله بالزرع «هوذا الزارع خرج ليزرع»، وعندما زرع هذه البذور بعضها سقط على الطريق، تلك الطريق هي طريق ما بين الحقل والحقل، في الحقل ذاته، ليس طريقاً معبداً، إنما طريقٌ داسه الناس والبهائم ضمن الحقل بالذات. سقطت بعض البذور على هذا الطريق، وديست بعضها من البهائم والناس، ولكن لم تدخل إلى الأرض، فجاءت طيور السماء والتقطتها وزال كل ما فيها من حياة. وسقط البعض الآخر على الأرض المحجرة، لم يكن لها عمق تراب وتراباً كافياً فنمت بسرعة وعندما أشرقت الشمس حرقت تلك النبتات، وسقط البعض الآخر على أماكن لا يمكن أن نتصور أن الزرع ينمو فيها، على أماكن مليئة بالشوك، عندما نما الشوك ونما الزرع أيضاً خنق الشوك الزرع، ولكن سقط الآخر أيضاً في الأرض الجيدة، فنما وأعطى ثماراً بعضُ مئة، وبعض ستين، وبعض ثلاثين، وختم الرب مثله هذا قائلاً: «من له أذنان سامعتان للسمع فليسمع».
عندما سأل التلاميذ الرب يسوع لماذا يكلم الناس لأول مرة بأمثال، وضح لهم أنهم هم قد أُعطوا معرفة أسرار ملكوت الله أما هذا الشعب البسيط فلا بد أن يفهم عن طريق الأمثال، وفسر الرب أيضاً هذا المثل بعدئذ، ومن ذلك نفهم أن الأرض هي السبب في نمو أو إبادة تلك البذور، فلم يكن هناك عيب في البذور، والبذور هي كلمة الله، كلمة الله ينشرها ويبذرها الرب يسوع أولاً في الناس جميعاً، ثم يبذرها الوعاظ والآباء الكهنة الذين يأخذون سلطانهم من الرب يسوع بالذات، إذن لا الزارع فيه عيب، ولا البذرة إنما العيب في الأرض، ولذلك ندعو هذا المثل الذي يدعوه العديدون مثل الزارع، ندعوه مثل البقاع الأربع، كل بقعة هي السبب في نمو الزرع أو إبادته. فالذي سقط في بقعةٍ اُعتبرت طريقاً بين الحقول ديست من البهائم والناس كان سبب إبادة تلك البذور الطريق بالذات، لذلك جاءت طيور السماء، وطيور السماء هنا تمثل إبليس، الذي إذا ما استمعنا إلى كلام الله الكلمة الجيدة الصالحة التي تصلح لبنياننا ولنمونا، بذرها أيضاً الزارع الصالح، بل تلك البذور إذا سقطت على الطريق ديست من الناس وجاء إبليس الذي مُثلَ بطيور السماء وأختطف هذه الكلمة حالاً قبل أن يكون لها قوة لتنمو.
كم من الناس يستمعون إلى كلام الله، الواعظ يريدهم أن يستمعوا وأن تنموا بذار كلمة الله في قلوبهم، ولكن تبقى تلك الكلمات لا تتعدى الأذن أبداً، ويأتي إبليس ويخطفها ويزول كل ما فيها من فائدة.
والبذور التي تسقط على الأرض الحجرية تمثل كلمة الله التي يتقبلها حالاً أي إنسان عاطفي ولكنها ليست لها عمق أرضٍ، ليست لها إيمان لكي تنمو، وهذه أيضاً إذا ما نمت بسرعة فائقة، ليس لها عمق أرضٍ حتى تثبت على الأرض، يأتي إبليس ويُمثل بقوة الشمس وحرارتها فيحرق تلك النبتات.
وتسقط أيضاً بذورٌ بين الشوك، فينمو الشوك مع تلك البذور ويخنقها. كم من أناس يستمعون إلى كلمة الله، ولكن هناك أشواك الحياة، حتى أشواك الغنى أو الفقر، أشواك الشكوك العادية تقتل كلمة الله في قلوب الناس فينكرونها وينكرون قوتها، قد يعرفون قوة التقوى، كما يذكر ذلك الرسول بولس، ولكنهم لا يفهمون عقوبتها.
عندما نقرأ هذا المثل ونتأمله، أحياناً عديدة نيأس أن أغلب البذور لا تنبتُ في قلب الإنسان، أن كلمة الله يحاربها إبليس فبكل وسيلة تزول، حتى العاطفيون الذين يقبلون هذه الكلمة بسرعة أيضاً إذا ما نبتت تلك الكلمة لأن ليس فيها عمق في الإيمان تحرقها شمس النهار وتزيل عنها كل قوة.
إذا ما تأملنا بذلك أيها الأحباء قبل أن ننهي ما علمنا إياه الرب يسوع بالمثل قد نيأس ونقول ما أشقانا لأن كلمة الله لم تنبت فينا، ونحن الأرض التي إذا ديست من شهوات العالم ومن أمورٍ عديدة، نكون كالأرض كالطريق التي ديست من البهائم ومن البشر، فلا تسمح لكلمة الله أن تنمو فيها، بل تكون الفرصة لإبليس ليخطف هذه الكلمة منها.
كذلك عندما نكون عاطفيين نقبل الكلمة بسرعة، ولكن ليس لنا عمق إيمانٍ، لذلك إذا نمت الكلمة أيضاً تحترق بقوة حرارة الشمس. عندما يحدث ضيقٌ واضطهادٌ بدل من أن نثبت بالرب، الكلمة تزول عنا وتحترق، وكذلك الأشواك إذا ما نمت يأتي ضيق الإنسان ويخنقها، يخنق الكلمة في قلوبنا.
لا نيأس أحبائي فالرب يأتي بنا أيضاً إلى الأرض الطيبة، إلى الأرض التي قد حرثها الحارث بالآم وتجارب، بإيمان متين ثخين، حيث تتقبل هذه البذور، بذور الإنجيل المقدس وتعطي ثمار مئة وستين وثلاثين، من له أذنان سامعتان فليسمع. كذلك لا نيأس إذا كانت قلوبنا كالطريق التي ديست من شهوات الجسد من غرور هذه الحياة، من كبريائها، لا نيأس أبداً، فقد أوجد لنا الرب طريقةً لكي نعود إليه إن غبنا عنه، وإذا قلوبنا أيضاً مليئة بالأحجار التي وإن تنمو فيها الكلمة حالاً كذلك أيضاً تيبس، وإذا كانت أيضاً مليئة بالأشواك أعطانا الرب التوبة أن ننقي هذه القلوب، أن نعيد هذه الأرض إلى طبيعتها، إلى قوتها لتنمو فيها كلمة الله، أن نجعل الفرصة للرب يسوع لكي يحرث هذه الأرض، أرض قلوبنا وأفكارنا فتنمو كلمة الله فيها. فما علينا إلا بالتوبة، ولهذا في بدء تبشيره وتعليمه الإلهي العلني بالجسد، سمعنا الرب يسوع يقول توبوا فقد أقترب منكم ملكوت الله. بدون التوبة، بدون العودة إلى الله لا نستطيع أن نعيد قلوبنا وأذهاننا لكي تنمو بذار الإنجيل فيها وتعطي الثمار.
نسأله تعالى أيها الأحباء أن يجعلنا من أولئك الذين قد تابوا إليه توبة نصوح، وتنمو كلمة الله فينا، ونعطي الثمار، مئة وستين وثلاثين، الحالة التي أتمناها لي ولكم أحبائي بنعمته تعالى وبشفاعة السيدة العذراء التي نُعيد لها اليوم عيد بركتها للزرع، آمين.
تذكار مار أنطونيوس
تذكار مار أنطونيوس
تذكــار مـار أنطـونيـوس†
تحتفل الكنيسة المقدسة في هذا اليوم المبارك أيها الأحباء بتذكار القديس انطونيوس. هذا القديس العظيم دُعي كوكب البرية وأبا الرهبان. نرى فيه مثالاً يُحتذى لكل من فاضت فيه محبة الله فأراد لها تنفيساً ولم يجد ذلك إلا في تأمله بذاته، واتحاده بالذات الإلهية بعبادة الله بالروح والحق ليل نهار. هذا ما قاله الكتاب مادحاً الرجل الذي يحمل النير في صباه يجلس وحده ويسكت. نرى في انطونيوس ونحن نتأمل في سيرته إنساناً يهب نفسه لله بالتضحية ونكران الذات غير ملتفت وراءه إلى العالم. إنساناً رائداً والرواد يكونون دائماً عظام. لأنهم يكونون قد أقدموا بشجاعة إلى خطوة تسجل لهم الخلود. ليس في هذه الحياة فقط، إن كانوا أبطال الروح، بل أيضاً في الأبدية. سيرته تنقل أفكارنا إلى مصر. ذلك في القرن الثالث. إنه فتى تربى في بيت مسيحي ورضع لبان التقوى ومخافة الله. وعاش في بحبوحة من العيش. ولما مات والده بل أيضاً أمه، سمع صوت الإنجيل المقدس، وهو يصلي في الكنيسة. سمع الكاهن يقول ما قاله الرب لذلك الشاب الغني: «إن أردت أن تكون كاملاً، فبع كل أموالك، ووزعها للفقراء. وتعال اتبعني». فسّر ذلك حرفياً ورأى أباه جثه هامدة باردة أمامه وتذكر نشاطه وسعيه للحصول على المال فجمع ثروة طائلة ولكنه وقد مات ترك كل شيء وراءه، ليتصرف به ابنه.
ورأى انطونيوس أن العالم زائل. ولابد أن يغادر الإنسان هذه الحياة. وسيغادرها مضطراً، فلماذا لا يغادرها مختاراً. رأى أن المال لا يستطيع أن يخلّص الإنسان من الموت الطبيعي، فكم بالحري بالنسبة للموت الأبدي. رأى أن الحياة شقية مهما ظهرت للإنسان سعيدة وفيها هناء جزئي. لذلك باع أمواله واستودع أخته دار للبتولات، ثم غادر العالم. سكن في قبر فارغ. ثم سكن في قلعة مهجورة سكن مع الوحوش ولم يهب حيواناً، بل لم يهب إنساناً. كان مع الله ليل نهار بالصلاة.
علمه الملائكة كيف يوزع أوقاته بين صلاة وعمل، بهذا بدأت الرهبانية –في مصر على الأقل- لأننا لا ننسى أجدادنا السوريين الذين كانوا قد بدؤوا الرهبانية في هذه البلاد المباركة في الكرسي الإنطاكي الرسولي، فإن يوسطينوس في أواخر القرن الثاني الميلادي يذكر البتولات العديدات بل يدافع عن حقوقهن. ويأتي اوسابيوس في القرن الرابع ليذكر ذلك بالتفصيل. أما تاتيانوس الذي عاش في القرن الثالث –أوائل القرن الثالث – فيذكر ذلك مفتخراً بأن هذه الأرض قد أنشأت رهباناً وراهبات.
ولكن التاريخ أحياناً عديدة يظلم الذين لا تظهر أعمالهم إلا عند الله، لذلك نرى أنطونيوس في مصر وقد انتشر خبره في كل مكان، لأنه عاش في مكان اشتهرت فيه العلوم اليونانية وخاصة في الإسكندرية. فعاشر العلماء والفلاسفة. واختبر الحياة التي يختبرها كل إنسان يؤمن في المسيح يوم ذاك، حياة الاضطهاد والتشرد. ولم يخرج من كهفه ولم يكسر عادة نسكه وزهده إلا مرتين: في المرة الأولى عندما ذهب إلى الإسكندرية ليشجع أولئك الذين كانوا يستشهدون في سبيل الاعتراف بالإيمان. والمرة الثانية عندما خرج أيضاً ليثِّبت صحة الإيمان بالمسيح يسوع ابن الله، الإيمان الذي كان قد أعلنه اثناسيوس بطريرك الإسكندرية. وكان انطونيوس محظوظاً لأن اثناسيوس نفسه ذهب إلى منسكه، وعاش معه فترة، وكتب سيرته، وانتقلت هذه السيرة إلى الغرب أيضاً. فاتخذوا هم كذلك كالشرق حياة الرهبانية.
دُعي كوكب البرية لأن العديد التجؤوا إليه، بعد أن فاح عطر سيرته النقي، وبعد أن انتشرت الرهبانية وفكر الرهبانية بين الشباب والفتيات في آن واحد. فأصبح انطونيوس أباً للرهبان بل للرهبانية. وظهرت الرهبانية أيضاً لدينا. بعد أن تبادل الرهبان أماكنهم ما بين سورية ومصر، وظهرت الأديرة في كل مكان وانتشرت وأصبحت مراكز للعلم والعلماء من السريان آبائنا.
فنحن عندما نعيّد لانطونيوس نعيّد أيضاً لآبائنا الرهبان في كل مكان. ونرى في الرهبانية قوة وراء الكنيسة، لأنه بصلوات رهبانها وراهباتها تظهر رحمة الله على الشعب المسيحي في كل مكان وتتقوى الكنيسة لتبقى ثابتة في المسيح. هذه الرهبانية عندما ظهرت، ظهرت وكأنها ضد الكنيسة، ظهرت وكأنها تريد أن تخالف النظام الكنسي، ولكن لا يوجد عقيدة ولا طقس ولا عادة في كنيستنا ما لم يبن ذلك على أساس إنجيلي. فالرهبانية إذن بنيت على أساس نكران الذات. فالعزوبية فضلت لدى الرب يسوع عندما ذكر أولئك الذين يختارون العزوبية لأجل ملكوت الله. بل أيضاً عندما قال للشاب الغني الذي افتخر أمام الرب أنه أكمل الوصايا. «إن أردت أن تكون كاملاً» هذه الآية التي أثرت في أنطونيوس، فصار راهباً وأنكر العالم. «إن أردت أن تكون كاملاً. فبع كل أموالك ووزعها على المساكين على الفقراء. وتعال اتبعني». فأساس الرهبانية إذن إنجيلي. وعندما عرفت الكنيسة وشعرت بأن هذه الطريقة هي طريقة إنجيلية اعترفت بها، بل أيضاً اختار الرهبانية أناس كانوا مملوئين من الروح القدس. بل فاض فيهم الروح، فكرسوا أنفسهم لله، ولله وحده. لذلك مرت الدهور وإذا بالرهبانية وفيها من فيها من أبطال الروح تكون القائد للكنيسة وإذا بقادة الكنيسة وأساقفتها ينتخبون ويؤخذون من الرهبان لأنهم يكرسون أنفسهم كلياً لله تعالى وخدمة كنيسة الله.
كذلك فالكنيسة تطوّب انطونيوس لأنه صار أبا الرهبان. وتطوّب الرائدين من الرهبان في بلادنا السورية كمار أفرام مثلاً وغيره من أولئك الذين جمعوا حولهم آلاف مؤلفة من الرهبان والراهبات لخدمة كنيسة الله. لا للعبادة فقط في بلادنا هذه بل أيضاً للخدمة. فرهباننا وراهباتنا منذ القديم كانوا يهتمون بتربية الشعب المؤمن تربية مسحية صالحة وكانوا يهتمون بنشر البشارة الإنجيلية، وكانوا بنكران الذات وحمل الصليب صليب المسيح. بالسير في طريق الجلجلة يضاهون الشهداء. لأنهم يكونون قد قدموا أجسادهم لله تعالى وكرسوا أرواحهم ليكونوا كالملائكة على اتصال تام بالعزة الربانية.
ونحن نذكر انطونيوس ونذكر رهباننا ونذكر الآباء النساك الذين كانوا في البرية ككواكب منيرة. الذين أناروا الدرب أمامنا بنسكهم، بتضحيتهم، بنكرانهم ذاتهم وبحفظهم التراث وخاصة عندنا نحن السريان. إذ لم يحفظ التراث السرياني إلا الرهبان والراهبات.
إذ نذكرهم نسأل الله أن يؤهلنا لنقتدي بفضائلهم. ونسأل الله أن يجعلنا مرضيين لديه بقوة صلواتهم. نسأل الله تعالى أن يلهمنا جميعاً لكي نثَّمن حياتهم التي كانت حياة روح أكثر مما هي حياة جسد. ويؤهلنا وإياكم لنكون في عداد أولئك في ملكوت الله. متنعمين بالسماء بعد أن نكون قد رذلنا أموراً دنيوية في سبيل المسيح ربنا. ونعمته تشملكم دائماً أبداً، آمين.
دخول المسيح إلى الهيكل
دخول المسيح إلى الهيكل
عيـد دخول المسيح إلى الهيكل (1)†
«ويأتي بغتةً إلى هيكله السيد الذي تنتظرونه وملاك العهد الذي تُسرون به»
(ملا3: 1)
بشرى الخلاص يُرسلها ملاخي النبي من وراء الدهور والأجيال إلى الجالسين في الظلمة وظلال الموت إلى من تاق إلى الخلاص إلى ألى أولئك الذين كانوا واقفين على أصابع أقدامهم بانتظار يتطلعون إلى السماء لتأتي الرحمة من العناء ليأتي ماسيا المنتظر إلى أولئك أرسل ملاخي آيته هذه بل هذه البشرى العظيمة ومرت الدهور ومرت الأجيال ولما بلغ ملئ الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من أمرأة مولوداً تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني على حسب قول الرسول بولس، فالذي ولد من أمراة تحت الناموس أتم الناموس برمته ليعلم الناس أن المشرع للناموس قد أتمه بنفسه فعلى الناس أن يطيع ناموس الرب، رأيناه في مراحل الناموس وهو طفل يختتن في اليوم الثامن ورأيناه بعد إذن وعمره أربعون يوماً فقط يُقدم إلى الهيكل تقدمه أمه مريم وخطيبها يوسف ليكي يتموا معه وينهوا ما أمر الناموس به فقد كانت هناك فريضتان في اليوم الأربعين من ولادة الابن البكر كانت هناك فريضتان فالمرأة الوالدة كانت تحت حكم نجاسة طقسية مدة أربعين يوماً لأنها ولدت ذكرا وبعد ذلك لا بد أن تأتي إلى الهيكل لتقدم حمل حورياً وإن كانت فقيرة كالعذراء مريم فتقدم يمامتين وزوج حمام كانت الأولى ذبيحة سلامة عن الخطية والثانية محرقة سلام فذبيحتان الأولى عن الخطية والثانية عن السلامة وهكذا فعلت العذراء مريم قدمت يمامتين وزوج حمام كما كانت الفريضة الثانية أن يُقدم عن الطفل الذكر وهو بكر أمه أن يقدم عنه خمسة شواقل فضة ربما ما يعادل نصف دينار هذا اليوم فقدمت أيضاً عن ابنها خمسة شواقل فضة لم تكن بحاجة للطهر لأنها طاهرة وولدت ابنها بطريقة تفوق عقل البشر وهي أم وهي بتول ولكنها تمت الفريضة ولم يكن المسيح إلى أن يقدم عنه خمسة شواقل فضة لأن هذه الفريضة وضعت عن بني اسرائيل حيث إنهم كانوا في القديم كأبكار لعوائلهم يُعتبرون كهنة وعندما أمر الله أن يحصر الكهنة في سبط لاوي فكان على كل بكر من بقية الأسباط أن يقدم لمذبح الرب خمسة شواقل فضة والمسيح هو كاهن الكهنة حبر الأحبار الحبر الأعظم هل كان بحاجة إلى أن يقدم عنه هذه التقدمة ولكنه أتم الناموس أتم الشريعة لأنه ولد من أمرأة تحت الناموس ليفتدي اللذين تحت الناموس لننال التبني جاءت العذراء مريم وخطيبها يوسف والمسيح يسوع قدمت عنه شواقل فضة وقدمت العذراء عنها الذبيحة المحكومة على الفقراء على البسطاء على المساكين على المحتاجين وهي أم خالق الكون ومبدعه وبعد إذٍ جاء حقاً إلى هيكله السيد الذي تنتظرونه كان هناك في الهيكل من ينتظر الرب يسوع كان هناك اناس كثيرون شيوخ ورجال ونساء وكان هناك أطفال ولكن من بين أولئك الأطفال تميز الطفل يسوع كان هناك الشيخ سمعان شمعون العتيق الأيام الانسان الذي كان ينتظر عزاء اسرائيل كان ينتظر مجيء ماسيا كان ينتظر الخلاص كان عمره مايقارب ثلاثمئة وخمسمئة سنة كان عتق الأيام كان كخشبة ولكن الروح دب فيه وأخذه الروح إلى الهيكل يقول الكتاب المقدس أنه كان رجل باراً صديقاً وكان الروح القدس عليه ويخبرنا التاريخ المقدس والتاريخ الكنسي أنه كان بين أولئك السبعين الذين نقلوا التوراة من العبرية إلى اليونانية في عهد بطليموس في الاسكندرية والذين كان قد حتم على كل واحد منهم أن ينفرد بغرفة خاصة وأن يترجم الكتاب المقدس بكل أسفاره من العبرية إلى اليونانية ثم أجتمعوا بعد إذن فرأوا أنهم قد ترجموا الكتاب وكأنهم شخص واحد وكانوا سبعين وكان شمعون بينهم وشمعون هذا الشيخ كان عمره يوما ذاك ما لا يقل عن سبعين سنة وكانت الحادثة سنة مئتين وثمانين قبل المسيح شك شمعون في عبارة ذكرها إشعياء نبوة ذكرت في سفر إشعياء عندما قال: «يعطيكم السيد نفسه آيةً هوذا العذراء تحبل ولداً وتدعو اسمه عمانوئيل» شكوك شمعون أيها الأحباء كانت شكوكاً في طريق الإيمان وفي سبيل الإيمان كيف تلد العذراء وكيف تلد ابناً ويدعى اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا هل يولد الله ويولد من فتاة عذراء ألا يحق لسمعان أن يتساءل بإيمان لا بشكوك فيأتيه الوحي ويلهمه الله بل يكلمه ربنا بطريقة ما لا ندركها إنك لن تذوق الموت حتى تعاين خلاص ويأتي بغةً إلى هيكله السيد الذي تنتظرونه لقد جاء إلى هيكله رب الهيكل إلى هيكل الرب وتلقاه سمعان لأن الروح أعلن له أن الخلاص قد جاء وحمله على ذراعيه مصلوباً وبيديه شمعتان بحسب حالة اليهود يوم ذاك ويناجيه الآن تطلق يا سيد عبدك بسلام لأن عيني قد أبصرتا خلاصك نور إعلانٍ للأمم ومجداً لشعبك إسرائيل ويتطلع سمعان إلى العذراء مريم بشفقة بحنان بمحبة فائقة ويقول لها أن هذا قد وضع لسقوط العديدين وقيام العديدين في اسرائيل وهدفاً للمخالفة وأنت يجوز في سيف في نفسك وتأملت العذراء وتذكرت يوم أتاها الملاك مبشراً وتذكرت يوم ولدته وتذكرت تسبحة الملائكة وسجود الرعاة والمجوس ولكنها رأته أيضاً طفلاً مصلوباً في حضن، لذلك الذي كان خشبة وأصبح خشبة حية وتكلم وتذكرت هذه العبارات عندما رأت إبنها مصلوباً على الخشبة كيف دبت الحياة في الخشبة فسميت الصليب الحي كل هذا تذكرت ودخل سيف الحزن والألم إلى نفسها طيلة حياة الرب بالجسد على هذه الأرض وتمت أقول سمعان فالمسيح وُضِع كالشريعة كالناموس هدفاً للمخالفة فنحن ليس لنا شريعة سوى المسيح، المسيح بالذات هو ناموسنا هو شريعتنا إن كنا نرغب أن نتم الناموس فعلينا أن نقتدي بالمسيح وُضع هدفاً للمخالفة وسقط الساقطين الهاربين من بني اسرائيل وقامت الأمم معلنة للمسيح فسمعان بقول النبوة هذا قد فاق العذراء وزكريا بتسبحتهما لأنه وعد أن المسيح ليس لبني اسرائيل بل نور أعلان للأمم ومجد للشعب الذي خرج منه بالجسد والذي حفظ النبوات شعب اسرائيل هذا النور أيها الأحباء رأته أيضاً أمرأة شيخة أمرأة كانت متعبدة في الهيكل إنها حنة تلك النبية ابنة فنوئيل من سبط آشير التي بعد أن عاشت مع زوجها سبع سنوات بعد بكت الهيكل مدة أربع وثمانين سنة متعبدة بأصوام وصلوات وهي قدوة صالحة للنسوة التقيات الواتي يلازمن الهيكل ويصمن ويواظبن على الصلاة هذه سمعت ما قاله سمعان فأخبرت جميع المنتظرين عزاء اسرائيل أخبرتهم أن المسيا قد جاء أنه قد جاء إلى هيلكه جاء حقاً بغتةً إلى هيكله السيد الذي تنتظرونه، ملاك العهد الذي تسرون به وعادت مريم وعاد يوسف والطفل معهما عاد إلى الناصرة وتربى الطفل وكان ينمو في القامة والنعمة بين الله والناس ونحن سنُعِيد عيد تقدمته إلى الهيكل نرى أمامنا سمعان ونرى أمامنا النبية بل نرى العذراء معها يوسف ونرى الطفل وهو محور الدائرة في عقيدتنا وديننا وإيماننا المسيحي نرى كل هذا أيها الأحباء فنأخذ العبر والدروس علينا أن نكون كسمعان مواظبين على تلاوة الكتاب المقدس متيقنين بالنبوات ومنتظرين الرب فإذا كان سمعان منتظراً الخلاص فقد نلنا نحن الخلاص بالرب يسوع علينا أن ننتظر مجيئه الثاني علينا أن نكون في الهيكل مدفوعين من الروح القدس أن نتعبد كحنة النبية فإننا لا ننال بركة المسيح لا نستطيع أن نرى المسيح إن لم نأتي إلى هيكل الرب فإين نحن من سمعان ومن حنا النبية إن أمور العالم قد أغرقتنا في الخطية هموم العالم الغنى والفقر معاً بل هموم الدنيا وشهواتها كل هذه الأمور أبعدتنا عن بيت الله إن أبناءنا وبناتنا الذين علينا أن نرعاهم روحياً قد ابتعدوا عن هيكل الله ألا نقتدي بيوسف البار وبالعذراء مريم ونقدم هؤلاء الأولاد إلى هيكل الله لقد أخذنا نعمةً الخلاص من بيعة الله من الرب والبيعة واسطة لله وأخذنا نعمة الخلاص ورثناها عن آباءنا ألا نهب هذا الأرث الثمين لأولادنا إنهم قد ابتعدواعنا لماذا، لماذا يتشكى بعض الوالدين أولادهم يتركونهم شيوخاً ويطردونهم لا يعطفون عليهم، عليهم أن يربوهم التربية المسيحية التربية الصالحة لكي إذا ما تربوا يكونون شفوقين يكرمون الوالدين كذلك أيها الأحباء نأخذ درساً قيماً بقول سمعان أن المسيح وُضع هدفاً للمخالفة لسقوط وقيام الكثيرين فعلينا أن نكون في عداد اللذين يقومون في المسيح لا يسقطون وشرط واحد نتمه فنكون في عداد المخلصين أن نؤمن بالمسيح من كل قلبنا ومن كل نفسنا وكل إرادتنا ونحبه ونحب القريب أن نقتدي بالمسيح يسوع في إتمام وصايا الله حينذاك نصبح في عداد أولئك المخلصين ثم علينا أن ننتظر مجيئه واقفين على أصابع أقدام الإنتظار متطلعين إلى السماء ليأتي المسيح ثانيةً وياخذنا المسيح إليه فمثل هذا اليوم هو يوم خلاص لنا أيها الأحباء علينا أن نكون منتبهين عارفين الزمان لأن الرب يأتي بغةً إلى هيكله وإن الزمان قد آن وإذا كان شعب اسرائيل قد انتظر المسيح المسيا فمن انتظره بإيمان نال نعمة رؤياه والخلاص ومن أنكر هذا الإنتظار كان في عداد الهالكين فعلينا أن ننتظر الرب عابدين ليلاً ونهارا بأصوام وصلوات لنستحق أن نكون مع أولئك الذين سيدعوهم إلى ملكوته في اليوم الأخير هذا ما أتمناه لي ولكم أيها الأحباء ونعمة الرب تحرسكم دائماً وأبداً آمين.
عيـد دخول المسيح إلى الهيكل (2)
«الآن تطلق عبدك يا سيد بسلام لأن عيني قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته قدام جميع الشعوب، نور إعلان للأمم ومجداً لشعبك إسرائيل»
(لو2: 29-30)
دعاء رفعه إلى اللّه إنسان اسمه شمعون كان قد عاش حياته بالرب وللرب وكان كما يوصف هو وغيره من المؤمنين الذين عاشوا قبل مجيء الرب يسوع المسيح بالجسد –كانوا ينتظرون عزاء إسرائيل- يرغبون أن ينالوا الخلاص. فهذا الإنسان الذي عاش برجاء نيل الخلاص عندما رأى الخلاص بعينيه تاقت نفسه أن تنطلق من جسدها لأنه بلغ الهدف الأسمى في حياته ونال مأربه، لقد رأى الخلاص فيسأل المخلص المسيح يسوع الذي هو الخلاص، يسأله متضرعاً أن يطلق نفسه بسلام بحسب وعده يقول له: «لأن عيني أبصرتا خلاصك» وهذا الخلاص يصفه بأنه ليس خاصاً بشعب واحد بل هو نور للأمم ولئن كان مجداً للشعب الذي أؤتمن على حفظ النبوات والناموس، هذا هو سمعان الشيخ الذي يذكر لنا التاريخ الكنسي أنه كان عتيق الأيام إنه كان أحد السبعين عالماً الذين اختيروا لينقلوا أسفار التوراة والنبوات من اللغة العبرية إلى اليونانية بناءاً على طلب بطليموس فيلادلفيوس والي الإسكندرية هذا الإنسان بطليموس وهو لقب لكل من صار والياً للإسكندرية في تلك الأيام. كان تواقاً إلى العلم والمعرفة لم يدر أن الله اختاره مع علماء مثله ليهتمّوا بترجمة التوراة وأسفار النبوات إلى اليونانية ليطّلع العالم المتمدّن الذي يعرف اليونانيّة على النبوات التي قيلت عن مجيء ماسيا المنتظر مشتهى الأمم والأجيال ليؤمنوا بعدئذ بالمسيح عندما تتمّ هذه النبوّات في يسوع الناصري بحذافيرها.
وكان بطليموس قد أرسل إلى أورشليم يطلب سبعين شيخاً ممن يجيدون اللغتين العبرية واليونانية ليقوموا بهذه الترجمة كان أحدهم شمعون. يقول التاريخ أن شمعون عندما كان يترجم سفر أشعياء وصل إلى الآية القائلة: «ولكن يعطيكم السيد نفسهُ آيةً ها العذراء تحبل وتلد أبناً وتدعو اسمه عمانوئيل» (اش 7: 14). وترجم كلمة العذراء إلى لفظة «الشابة» ظناً منه بأن من سيقرأ النص سيستهزأ به، متسائلاً عن إمكانية أن تلد الفتاة العذراء وهي عذراء، ولكنه في اليوم التالي رأى الكلمة وقد تغيرت وقرأها: «هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً». وتكرّر ذلك معه ثلاث مرّات فجثا أمام اللّه متعجباً طالباً المعونة الروحية منه تعالى فظهر له ملاك الرب في الحلم قائلاً إنك لا تذوق الموت حتى ترى بأم عينك خلاص الرب وإتمام هذه الآية. مرت الدهور إثر الدهور وكرت الأجيال عقب الأجيال وشمعون برجاء لا يخيب يتطلع إلى السماء ينتظر الخلاص، كانت ترجمة التوراة والنبوات من العبرية إلى اليونانية سنة /280/ ق.م وكان عمر شمعون يوم ذاك كسائر الشيوخ السبعين الذين كلّفوا لمهمّة الترجمة لا يقل عن سبعين سنة فعاش هذه الفترة /280/ سنة وهو ينتظر خلاص الرب ينتظر في أورشليم يتردد إلى الهيكل.
ولكن في يوم من الأيام وقد كلت عيناه وضعف جسده رأى نفسه نشيطاً والروح يسوقه إلى الهيكل في ذلك اليوم جاء إلى هيكل الرب. كان ذلك بعد أربعين يوماً من ميلاد الرب يسوع بالجسد الذي «ولد من امرأة من عذراء ولد تحت الناموس كما يقول لنا الرسول بولس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني» وكمّل معه يوسف البار والعذراء مريم ما فرضه الناموس على أطفال اليهود من طقوس. ففي اليوم الثامن أختتن وفي اليوم الأربعين لميلاد البكر كانت هناك فريضة وطقس على كل بكر من أبكار بني إسرائيل أن يكملها، وهي أن على كل امرأة تلد ابناً أو بنتاً أن تبقى تحت نجاستها ثمانين يوماً إن ولدت بنتاً وأربعين يوماً إن ولدت ابناً ذكراً ففي يوم الأربعين جاءت العذراء مريم، ولم يكن عليها حكم النجاسة ولئن ولدتها أمها كسائر البشر تحت الخطية ولكن الروح القدس عندما حل عليها وطهرها ونقاها واستحقت أن يحل في أحشائها نار اللاهوت ولدت ابنها يسوع وهي عذراء قبل الولادة وفي الولادة وبعد الولادة ولكنها مع هذا أتمت الناموس وعملت بهذه الفريضة، جاءت كسائر بنات بني إسرائيل عندما يلدن ذكراً بكراً يقدم للرب ولتدفع امّه أيضاً كسائر نساء العهد القديم تطهيراً لنجاستها إن كانت غنية فحملاً حولياً وإن كانت فقيرة كالعذراء مريم فرخي حمام أو زوجي يمام، فقدمت العذراء مريم عن ابنها خمس شواقل فضة بحسب الناموس ذلك أن كل بكر كان في القديم يعتبر رئيس العائلة وكان كاهناً للعائلة في آن معاً قبل اختصاص سبط لاوي بالكهنوت على عهد موسى حيث صار كل بكر من غير سبط لاوي يقدم أهله عنه للهيكل فدية مبلغ خمسة شواقل فضّة، فكان يستقبله كاهن في يوم الأربعين من ميلاده من والديه ويقدمه لهيكل الرب فيفديه أهله بخمس شواقل من الفضة، وبعد أن يدفعوا هذه الشواقل الخمس وهي شيء بسيط يأخذون ابنهم لأنهم قد فدوه. أما اللاوييون فهم يخدمون الكهنوت فلا يدفعون شيئاً. إن الرب يسوع المسيح الكاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق المسيح. إنه الإله المتجسد، رب الهيكل جاء ليُقدَّم إلى هيكل الرب. لم يكن هناك من الكهنة من يستحق أن يستقبله. كان هناك شمعون الشيخ جاء بقوة الروح القدس، جاء إلى الهيكل والروح أعلمه أن هذا هو المخلّص، فتلقى الطفل يسوع حمله على ذراعيه جعل ذراعيه على شبه صليب وفي اليدين شمعتان حسب العادة يومذاك، ولذلك نستعمل الشموع في عيد مار شمعون الشيخ أي دخول الرب إلى الهيكل، أخذه والمسيح صلب نفسه على ذراعي هذا الإنسان تطلع شمعون إليه فرأى فيه الخلاص ناجاه كإله: «الآن تطلق يا سيد حيب قولك نفس عبدك بسلام لأن عيني قد أبصرتا خلاصك نور إعلان للأمم ومجداً لشعبك إسرائيل».
أعلن شمعون في هذا القول أن هذا الخلاص هو للأمم كافة وهو مجد لذلك الشعب الذي من نسل آبائه جاء المسيح متجسداً وكانت مريم العذراء أمه وهي تتأمل ابنها وكأنه مصلوب، تسمع باهتمام وقلق شمعون يقول لها أما أنت فيجوز في قلبك سيف، بدأ الحزن لديها في تلك اللحظات وهي المملوءة من الروح القدس والروح اعلمها ما سيكون مستقبل هذا الطفل بالنسبة إلى الخلاص فالخلاص الذي هو زبدة تعاليم الكتاب المقدس هو في المسيح يسوع، الخلاص الذي تنبأ عنه الأنبياء قد تمّ في هذا الطفل بالذات، ولكن الخلاص لم يكن ابن ساعته ولم يكن هيناً وخفيفاً، الخلاص هو الموت بالجسد هو الصلب هو الآلام ولذلك سيف الحزن غاص في قلب العذراء والدة المخلّص من تلك اللحظات ورأت العذراء ابنها وكأنه قد علق على الخشبة فوق أعالي الجلجلة. شمعون حينذاك طلب الخلاص من الحياة الدنيا لأنه رأى خلاص المؤمنين أيضاً، ليس في هذه الحياة الدنيا بل أيضاً في الحياة الأبدية فإذا نظرنا إلى الخطية رأيناها أنها قد حكمت علينا بالموت كما يقول بولس الرسول وبالخطية الموت دخل الموت إلى العالم ولكن المؤمنين الذين يحيون للأبدية ولذلك عندما يؤمن الإنسان أن حياة الإنسان لا تنتهي عند باب لحده بل هناك حياة أبدية يرثها الصالحون المؤمنون الأبرار الذين كان لهم رجاء بمجيء ماسيا المنتظر تكون لهم شجاعة فائقة فيتوقون إلى الانتقال من هذه الحياة كما اشتاق شمعون وقد ملَّ الحياة الدنيا وطلب من الرب أن يطلق عبده كقوله بسلام لأن عينيه قد ابصرتا خلاص الرب.
أحبائي عندما نتأمل بسيرة هذا الرجل الشيخ الذي نعيد له في عيد دخول الرب إلى الهيكل نرى أن علينا أن نتوق إلى الخلاص إلى الحياة الأبدية أن نقتدي به، قبل كل شيء عثر وشك وشكوكه صارت طريقاً له إلى نيل الخلاص رأى أن الحياة لا يمكن أن تنتهي عند باب اللحد رأى أن آيات الكتاب المقدس وخاصة النبوات ولئن لا يفهمها الإنسان ولكنها بإتمامها تبرهن على أنها كانت صادقة وقد قيلت بالوحي الإلهي من السماء وأنها لا بد أن تتم. عثر شمعون أولاً وشك ولكن شكوكه جاءت به إلى الإيمان إلى الإيمان التام بل أيضاً شكوكه أهلته أن يرى الخلاص بأم عينيه ولذلك تاق أن ينطلق من هذه الحياة الزائلة المليئة بالشقاء والحسرات والبكاء والنحيب ليرث الحياة الأبدية التي أعدها الله لكل خائفيه لكل من يؤمن به أنه هو المخلص، وأن نقتدي بشمعون أحبائي أيضاً بنيل العزاء وانتظار الخلاص في الكنيسة المقدسة فلو لم يأت شمعون إلى هيكل الرب في ذلك اليوم بالذات وقد ساقه إلى ذلك الروح القدس لما رأى رب الهيكل المسيح يسوع ولما استحق أن يحمله على ذراعيه ولما استحق أن يتنبأ أيضاً عن وسيلة الخلاص التي هي الآلام والصلب والموت وبعد ذلك القيامة، أحياناً عديدة نبتعد عن هيكل الرب لا نفكر بالصلاة، أفكار تأتينا كتجربة من إبليس حجج عديدة وأسباب واهية تجعلنا أن نقبع في عقر دارنا لا نغادر الدار في يوم أحد أو عيد لا نشترك بالقداس الإلهي لا نتوق نيل إلى بركة الرب إلى الخلاص بالذات، قد يوحي لنا الله عن طريق ملاكنا الحارس ويحثنا أن نأتي إلى الكنيسة أن ننال البركة أن نرى المسيح أن نحمله كشمعون الشيخ لا على ذراعينا بل في قلوبنا وأفكارنا لننال نعمة عظيمة من السماء ولكننا نطفئ الروح ونخضع لمشورة إبليس. علينا أن نقتدي بشمعون الذي يقول الكتاب أن الروح أتى به إلى هيكل الرب في ذلك اليوم.
ليؤهلنا الرب الإله أن نكون كشمعون طالبين الرجاء وأن يمنحنا كشمعون نعمة الخلاص لنرى بأم أعيننا المسيح يسوع بإيمان أنه هو المخلص وإذا ما آن الأوان لنغادر هذه الحياة كسائر البشر نتطلع إلى السماء لنستحق أن ننال الحياة الأبدية السعيدة بل نتوق كشمعون قائلين للرب بعد أن نلنا الخلاص أطلق يا سيد عبدك حسب قولك بسلام لأن عيني قد ابصرتا خلاصك. ونعمة الرب تشملكم دائماً أبداً، آمين.
عيـد دخول المسيح إلى الهيكل (3)†
أيها الأحباء بنعمة ربنا يسوع المسيح احتفلنا في هذا اليوم المبارك بطقس تقدمة الطفل يسوع إلى الهيكل وكذلك بسرور وبهجة روحية احتفلنا برسامة بعض أبناءنا الأحباء شمامسة برتبة قارئ ثم برتبة أفدياقون أي الرسائلي، ففيما نهنئ أبناءنا الروحيين هؤلاء بنيلهم درجة الشماسية الصغرى والوسطى بنعمة ربنا يسوع المسيح نثني على كل من اهتم بتربيتهم قبل ذلك نثني على آبائهم وأمهاتهم الذين ربوهم التربية المسيحية الصالحة وعلى كل من علمهم طقس الكنيسة والترانيم الروحية وكان مثالا لهم بالتمسك بالفضائل السامية سائلين الرب الإله أن يؤهلهم كشمامسة صغار برتب صغيرة أن ينموا بالقامة والنعمة ليس فقط جسديا بل أيضاً روحيا ويجعلهم في عداد أولئك الذين ولئن تسلموا خدمة بسيطة في كنيسة الله أن تكون هذه الخدمة الروحية مقبولة لدى ربنا يسوع المسيح وأن يحفظكم جميعا أحبائي . لابد وأن طالت معنا الصلاة أن نقول كلمة موجزة بموضوع تقدمة الرب يسوع وهو طفل إلى هيكل الرب هذا عيد سيديٌ ولكن من الأعياد السيّدية الصغرى ليس كعيد الميلاد ولا كعيد القيامة، إن العبرة في الاحتفال به هي أن نذكر خاصة العذراء مريم كيف أنها كانت متمسكة ليس فقط بالناموس الأدبي، أي الوصايا العشر، بل أيضاً بالفروض والطقوس الدينية. فالرب يسوع المسيح قد وُلد من امرأة ولد تحت الناموس ليفدي الذين تحت الناموس لننال التبني، على حدّ قول الرسول بولس. والغاية من تجسده أن ننال التبني، أن نتبرر ونتقدس لنصير أولاد لله بالنعمة فالعذراء مريم تمسكت بالناموس والشريعة وتمسكت أيضاً بالفرائض التي فُرضت على بني إسرائيل ومن جملة تلك الفرائض أن المرأة بعد أن تلد ابنا بكرا إن كان ذكرا تبقى تحت النجاسة الطقسية مدة أربعين يوم وبعد ذلك تتقدم إلى هيكل الرب لتقدم هي ومن يُعتبر والد الطفل هذا الطفل إلى هيكل الرب وتقدم عنه كما هو مذكور في الكتاب المقدس خمسة شواقل من الفضة وهذا مبلغ يسير من المال يساوي بضعة ليرات سورية.
لماذا هذه التقدمة؟
سابقاً كان كل بكر في العائلة يُعتبر رئيس العائلة مدنيا وكاهن العائلة روحيا وعندما خُص الكهنوت بسبط لاوي ناب أبكار سبط لاوي عن أبكار الإسرائيليين كافة فكان بقية أبكار الأسباط تقدم عن أبكارها هذه التقدمة خمسة شواقل من الفضة وكانت المرأة الوالدة تقدم عن نفسها إن كانت ميسورة الحال حملا حوليا أي حملاً عمره سنة، وإذا كانت فقيرة مثل العذراء مريم المسكينة تقدم إما فرخي حمام أو زوجي يمام هذه كانت تقدمة العذراء مريم من هنا نعلم أنها كانت فقيرة. طبعاً نعلم هذا الشيء لكن نعلم أنها قدمت ابنها بكرها إلى مذبح الرب إلى هيكل إلهنا، رب الهيكل يُقدم إلى هيكل الرب، ونستنتج من قرائن الحوادث أن ذلك جرى قبل أن جاء المجوس وسجدوا للطفل المولود يسوع وقدّموا له هداياهم، لذلك لم يكن للعذراء مريم ما تشتري به حملاً حوليّاً فقدمت فرخي حمام أو زوجَي يمام. لكن نعلم أيضاً أن هذه التقدمة كانت لكون العذراء مريم كانت متمسكة بالناموس والفروض الدينية، فهي عذراء قبل الولادة وفي الولادة وبعد الولادة وطاهرة نقية، ومع ذلك قدّمت ذبيحة عن نجاسة المرأة. عندما تلد البكر من الذكور، العذراء قدمت أيضاً عن ابنها خمسة شواقل الفضة كما هو مكتوب في الناموس وقدمته لهيكل الرب ، عادة كان الكاهن يتقبل الطفل ويقدمه للرب وعندما يأخذ شواقل الفضة الخمسة كفدية عن هذا الطفل البكر، يعيده إلى والديه كما جرى للرب يسوع.
كان هناك في الهيكل شيخ طاعن في السن كان عمره قد بلغ ما يقارب الثلاثمائة وخمسين سنة كان ضعيف الجسم، كان وقد طعن في سنه يبدو ضعيفا جدا ليس فقط بالجسم بل أيضاً بقوته ولكن أعجوبة حدثت عندما تناول ذلك الطفل شعر بقوة روحية وصرخ مناديا الآن يا سيد تطلق نفس عبدك بسلام لأن عينيّ قد أبصرتا خلاصك نور إعلان للأمم ومجداً لشعبك إسرائيل. وعندما نسمع هذه الكلمات، هذا الدعاء من إنسان عتيق الأيام قد تعب جدا من تكاليف الحياة ويريد أن تنطلق روحه من جسده لينال الحياة الأبدية نعلم أنه إنسان مؤمن في الحياة الأبدية ونرى وراء هذا الكلام سرا لا ندركه ما لم نؤمن بحقائق الإيمان المتضمنة في الكتاب المقدس، نعود بأنفسنا سنين عديدة بل أجيالاً كانت خصبة بتعاليم السماء. نعود إلى ما قبل ذلك التاريخ بمائتين وثمانين سنة يوم دعا فلادفيوس والي الإسكندرية سبعين شيخاً من بني إسرائيل من أورشليم ممّن يجيدون اللغة اليونانية واللغة العبرية لينقلوا التوراة والنبوءات من العبرية إلى اليونانية وهذا أمر الهي كانت الغاية منه حتى يطلع العالم المتمدن العالم الذي كانت لغته اللغة اليونانية، لغة الثقافة في تلك الأيام، يطلع على النبوات التي قيلت عن مجيء ماسيا الذي انتظرته الشعوب.
كانوا سبعين شيخاً عمر كل واحد منهم سبعين سنة وكانوا علماء أحدهم كان شمعون الذي جاء إلى هيكل الرب بعد أن صار عمره ثلاثمائة وخمسين سنة والذي تقبل المسيح في الهيكل، نعمة إلهية نالها هذا الإنسان عندما كان يترجم سفر نبوّة اشعياء، من العبرية إلى اليونانية ووصل إلى الآية القائلة: «هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل» (اش 7: 14) وعندما استشهد متّى الرسول في الإنجيل المقدس بهذه الآية يترجم لفظة عمانوئيل السريانية الآرامية فيقول: «الذي تفسيره الله معنا». وظنّ سمعان أنه إذا ترجم الكلمة العبرية بلفظة عذراء كما هو مكتوب سوف يستهزئ به الوالي والناس جميعاً فترجمها بكلمة الشابة، وفي اليوم التالي رأى أن كلمة شابة قد تحولت إلى لفظة «عذراء». ثلاثة أيام تكرّر معه ذلك الأمر ثم ظهر له ملاك الرب ليقول لا تستغرب من هذا الأمر فإنك ستبقى حياً حتى ترى بأم عينك إتمام هذه النبوّة بل الأعجوبة الباهرة أن العذراء تحبل ـ بدون زرع رجل ـ وتلد ابنا وتدعو اسمه عمانوئيل.
ومرت الدهور إثر الدهور، وكرّت الأجيال بعد الأجيال وشمعون الشيخ يرى أصدقاءه يموتون. بعضهم يرقدون كما رقد الأتقياء على رجاء مجيء ماسيا، أنهوا حياتهم على الأرض ورقدوا وهم ينتظرون ماسيا، وبعضهم كانوا هالكين أيضاً. شمعون بقي حياً، وآن الأوان ليُقدم الطفل يسوع إلى هيكل الرب والروح يأتي بشمعون ذلك الإنسان الضعيف جسديا لكنه كان قوياً روحياً، يأتي به الروح إلى هيكل الرب ليكون هو الكاهن الذي يتقبل هذا الطفل بالهام رباني رأى ذلك الطفل الإلهي رأى مشيحا الماشيحا المنتظر في ذلك الطفل حمله على ذراعيه أخذه من والديه يوسف البار والعذراء مريم وكانت العادة أن الكاهن عندما تقبل ذلك الطفل جعل ذراعَيه الواحد فوق الآخر مثل صليب وأخذ الطفل محتضناً إيّاه بل صلبه على يديه، وتطلع شمعون في العذراء مريم، والعذراء مريم تأمّلت بابنها وقد صُلِب على ذراعي شمعون وتصورت أمامها بإلهام الروح القدس ما سيجري له في المستقبل وشمعون يتطلع إلى الطفل ويناديه يقدم إليه صلاته الآن يقول له:«أطلق يا سيد عبدك حسب قولك بسلام لأن عينيّ قد أبصرتا خلاصك».
ما هو هذا الخلاص يا ترى؟ كان أغلب اليهود يعتقدون عصرئذ أن خلاص إسرائيل هو من الرومان، من استعمار دنيوي. أما شمعون فيقول «خلاصك الذي أعددته لجميع الشعوب نور إعلان للأمم ومجدا لشعبك إسرائيل»، طلب من ذلك الطفل كأنه يطلب من الله لأنه بإلهام الروح القدس آمن أن هذا الطفل هو الإله المتجسد طلب أن ينقذه من مشقات الحياة الدنيا ليغادر هذه الحياة إلى السماء، إلى الحياة الأبديّة. طلب ذلك بإيمان ثم التفت إلى العذراء مريم وهي تتطلع في ابنها مصلوباً على ذراعي ذلك الشيخ الذي أعطاه الله قوة حتى حمل ذلك الطفل الإلهي، يقول لها: «إن هذا قد وُجد لقيام وسقوط كثيرين في إسرائيل وهدفا للمخالفة» هذا الكلام ينبغي أن نفهمه جيداً هدف المخالفة هي الشريعة بالذات، عندما نقيس أعمالنا بمقياس الشريعة نعلم إن كنا نحن أتقياء أو كنا مخالفين للشريعة زالت الشريعة والناموس بالمسيح يسوع أصبح هو الشريعة هو ناموسنا تجسد ليقيم لنا من نفسه قدوة ومثالا فإذا سرنا وراءه وعملنا ما عملنا بشريعته وناموسه ووصاياه لنسمع له كما قال لنا عندما تجلى يسوع في الجبل قال لنا الآب: «هذا ابني الحبيب الذي به سُررت له اسمعوا» لم يبقَ لنا لا نبي ولا تقي ولا شريعة نسمع لها إلا أن نسمع للمسيح يسوع لذلك أصبح هدفاً للمخالفة، من أطاعه، من سار معه، من تبعه فهذا يكون مُخَلَّصاً ووارثاً ملكوته السماوي، وأن لا يكون غريباً عنه ويقول لها أيضاً وهي تتطلع إلى طفلها المصلوب على ذراعيه: «أما أنت فيجوز سيف في قلبك» من ذلك الوقت والعذراء ترى المسيح مصلوباً، من ذلك الوقت والعذراء حزينة لأنها تربي ذلك الطفل فينمو بالقامة والنعمة أمام الله والناس، بعدئذ نرى كيف أن ذلك الطفل أصبح ذبيحةً كفاريةً عن البشرية وصُلب بيد الأثمة، حقا صُلب بديلاً عنّا لذلك فدانا بدمه الكريم.
بعد أن غادر يوسف البار والعذراء مريم الهيكل ورجعا إلى بيتهما حسب قرائن الموضوع نرى أن الرب يسوع كان لابد أن يذهب إلى بيت لحم بعد أن زار الهيكل ليعود إلى البلدة التي ولد فيها هناك كان يوسف والعذراء ويسوع معهم والملائكة لم يروه بأعينهم بل كانوا يحتاطون به جميعا قد وصلوا إلى بيت لحم لا إلى المغارة، بل إلى بيت في بيت لحم حينذاك جاء المجوس وسجدوا له وهم في البيت وقدموا قرابينهم ذهباً ولباناً ومرّاً معترفين به ملكاً ونبياً وكاهناً إلى الأبد على رتبة ملكي صادق. حينذاك كان بإمكان العذراء لو أخذت ذلك الذهب أن تقدم شواقل الفضة للهيكل، ولكن لم يكن المجوس قد جاؤا بعدُ قبل تقدمة الطفل يسوع إلى الهيكل. ما أجمل أن نقتدي بالعذراء مريم، أن نكمّل الناموس، أن نقدم أطفالنا لهيكل الرب. اليوم بعضكم قدموا أطفالهم للمسيح يسوع ربنا إلى هيكل الرب ليخدموا الهيكل كشمامسة. ما أجمل بل ما أحسن أن نكون تابعين الرب يسوع الذي هو هدف المخالفة هو الناموس هو الطريق هو الحياة هو الحق لنتمسك به ونسلك فيه ونرى أنفسنا معه أيضاً منتظرين خلاصه كما انتظره شمعون الشيخ فننال معه ملكوته السماوي، الحالة التي أتمناها لي ولكم أحبائي بنعمته تعالى وكل عام وأنتم بخير .
عيـد دخول المسيح إلى الهيكل (4)†
«لآن تطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام، لأن عيني قد أبصرتا خلاصك نور إعلان للأمم ومجداً لشعبك إسرائيل»
(لو 29:2ـ32)
دعاء رفعه إنسان قديم الأيام، إنه سمعان، واسمه بالسريانية شمعون، يعلمنا الكتاب المقدس أنه كان أحد الشيوخ السبعين الذين جمعهم بطليموس فلادفيوس والي الإسكندرية مدفوعاً من الله لترجمة التوراة وأسفار النبوات من العبرية إلى اليونانية. بطليموس فلادفيوس كان يحب العلم، وكان يريد أن يطلّع الإنسان المثقف في لغة الثقافة اليونانية على المعتقدات الدينية في جميع المناطق القريبة والخاضعة للدولة الرومانية عصرئذٍ. لم يكن يدري أن ما يفعله هو من الله، لأن الأوان قد آن أن يأتي المخلص أن يتجسد الله، ولذلك لا بد أن يعرف العالم النبوات التي قيلت عن الله المتجسد، ويطلعوا على ذلك باللغة اليونانية، لغة الثقافة يومذاك، هذه كانت الغاية الإلهية من نقل أسفار التوراة وأسفار النبوات من العبرية إلى اليونانية.
ويخبرنا التاريخ أن بطليموس أرسل إلى أورشليم ليختاروا سبعين شيخاً ممن يجيدون اللغتين العبرية واليونانية لهذه الغاية السامية، كان أحد السبعين سمعان( شمعون)، فأبتدوا بترجمة هذه الأسفار بهمة عالية وإيمان متين ثقيل، ولما كان شمعون كبقية السبعين شيخ، وكل منهم كان قد بلغ السبعين من عمره أيضاً. لما بلغ إلى الآية التي كتبها إشعياء عن قول الرب «ويعطيكم الرب الإله نفسه آية هوذا العذراء تحبل وتلد أبناً وتدعو اسمه عمانوئيل»، تحير شمعون كيف أن العذراء تحبل وتلد، وتلد مولوداً يدعى عمانوئيل، الذي كما ذكر الرسول متى عندما استشهد بهذه الآية قائلاً: «الذي تفسيره الله معنا»، كلمة عمانوئيل السريانية لغة أولئك القوم يومذاك، تعني أن الله معنا. بتول عذراء تحبل وتلد، وتلد إنساناً يسمى الله معنا، هذا عجب عجاب، وأفتكر شمعون الأنسب أن لا أذكر عذراء لئلا يضحك عليّّ من يقرأ هذه الآية باللغة اليونانية، فكتب الشابة، «هوذا الشابة تحبل وتلد»، وفي اليوم التالي رأى وإلا العبارة قد تغيرت، وذُكرت الكلمة «عذراء»، ثلاثة أيام حدث له ذلك، حينذاك طلب إلى الرب أن يُعلن له السر، فجاءه ملاك الرب في حلم ليقول له، إنّ الرب لإيمانك سمح أن لا ترى الموت حتى تبصر بعينيك إتمام هذه الآية الرب نفسه (هو الرب بالذات) يعطي آية أن العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل.
أجل نعمة عظيمة أنعم الله على شمعون، ومرت الدهور وكرت الأجيال، وشمعون ينتظر إتمام هذا الوعد من الله، أنه لا يرى الموت حتى يرى ما يتم بهذه الآية المقدسة، «أن العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل». كان عمره سبعين سنة، مثلما قلنا هؤلاء الشيوخ كل واحد منهم كان عمره سبعين سنة، وأنتظر مائتين وثمانين سنة، وأصبح عمره ثلاثمائة وخمسين سنة ولم يذق الموت، وهو ينتظر خلاص الرب، وكان دائماً يواظب على الصلاة في هيكل الرب. كلت عيونه ولم يستطع أن يُبصر، ارتخت أعضاء جسمه، وأصبح تقريباً معوقاً، ولكن لم يترك الصلاة، وهو يتأمل بإيمان أن الرب سيتم وعده معه. وعندما آن الأوان وتجسد الإله، عندما ولد الرب من عذراء، ولد جسداً فكان حقاً الله ظهر بالجسد كما قال الرسول بولس: «لما بلغ ملئ الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة مولوداً تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني»، فولد تحت الناموس، والعذراء مريم وخطيبها يوسف أتما كل ما في الشريعة والناموس، وكان بحسب ناموس موسى أن كل ابن ذكر (يقول فاتح رحم)، أول ابن في العائلة يُعتبر بكراً إن كان ولد له أخوة، أو لم يولد أخوة إنما هو أول ولد، فالرب يسوع كان أول ولد للعذراء مريم، وكان ابن الله، ولد من الآب قبل كل الدهور مولود غير مخلوق مساوي للآب في الجوهر، فعندما ولد في الأزل ولد أيضاً بالجسد من العذراء مريم ومن الروح القدس، فأعتبر بكراً للعذراء كما هو بكر الآب السماوي.
عندما ولد كسائر أولاد اليهود أبكارهم، كان يُقدم عن كل واحد منهم أولاً في اليوم الثامن يُختتن، وفي اليوم الأربعين كان يُقدم إلى هيكل الرب.
ما هذه الحادثة؟، لماذا يُقدم إلى هيكل الرب؟
نحن نعلم أيها الأحباء، أنه قبل مجيء موسى كان كل بكر في العائلة هو رئيس العائلة، وهو كاهن العائلة أيضاً، ولكن عندما جاء الناموس الموسوي أختص الكهنوت بسبط لاوي، فبقية الأسباط لكي ينالوا نعمة لدى الرب ويشتركوا في الكهنوت يُعطى عنهم ف دية، ففي يوم الأربعين يؤخذ البكر إلى هيكل الرب، هناك يقدم أهله فدية كانت خمسة شواقل فضة هي جزء بسيط، هناك أيضاً كانت المرأة تبقى بنجاستها إن كانت ولدت ابن بكراً مدة أربعين يوماً، وإن ولدت أنثى مدة ثمانين يوماً، وأيضاً تقدم ذبيحة عن نفسها لتنال التطهير. الذبيحة التي تقدم المرأة حمل حولي عمره سنة، خروف عمره سنة، أما الفقراء الذين لا يتمكنوا من شراء خروف، إما زوج يمام أو فرخي حمام، الحمام أغلى فزوج واحد، أما اليمام فزوجين، يقدموا عن هذه المرأة حتى تنال التطهير. قًدم عن العذراء المسكينة الفقيرة ذبيحة الفقراء، ونحن من هنا نعلم أن المجوس لم يكونوا قد جاءوا إلى الرب يسوع كما يقول بعض آباءنا، بعد أن جاء الرب يسوع وقُدم للهيكل، طبعاً جاءت العذراء مريم وخطيبها يوسف ومعهم الرب يسوع، وبعد تقديم الرب يسوع للهيكل ذهبوا جميعاً ثانية إلى بيت لحم، فجاء المجوس وهم في البيت لم يقل في المغارة، جاءوا إلى البيت وقدموا الهدايا، ولذلك قبل أن قدموا الهدايا لم يكن للعذراء مريم ذهب حتى تُعطي الفدية فقدمت شيء بسيط خمسة شواقل من الفضة، وكانوا أيضاً طبعاً بعد أن قدمت أيضاً ذبيحة ربما زوجي يمام أو فرخي حمام، لا نعلم، وانتهت الأمور، ولكن فوجئ يوسف والعذراء مريم بإنسان شيخ عتيق الأيام، أنه شمعون ذلك الإنسان الذي صار عمره يومذاك ثلاثمائة وخمسين سنة، جاء إلى الهيكل، كان يأتي دائماً لكن كان يأتي وهو في وضع ضعيف جداً، في ذلك اليوم الروح القدس دفعه ليكون في الهيكل، فجاء بقوة ونشاط، وتقدم وحمل الطفل يسوع.
ويُعلمنا آباؤنا أنه الكاهن عندما كان يحمل الطفل كانت بيده شمعتان، لذلك نحن نستعمل الشموع في عيد دخول الرب إلى الهيكل وشمعون الشيخ، ودلالة على نهاية الإنسان وحياة الإنسان التي يجب أن تكون نوراً، فحمل الشمعتين وحمل الطفل وكان يداه على شبه صليب، وصُلب الطفل على يدي شمعون، وابتدأ شمعون بنبوته قال: «الآن تُطلق عبدك يا سيد بحسب وعدك بسلام (لأنه وعده الرب أنه إلى أن يرى خلاص الرب) لأن عيني قد أبصرتا خلاصك».
+ ما هو هذا الخلاص؟
«نور إعلان للأمم»، بني إسرائيل كانوا يظنوا أن الله يخلصهم من الرومان، والخلاص لهم وحدهم وليس للعالم كله، لكن أعلن شمعون أنه، «نور إعلانٍ للأمم»، لكن هناك أيضاً شيء
«مجد لشعبك إسرائيل»، لأن المسيح جاء من هذا الشعب. شمعون لم يكتفي بهذا والعذراء مريم تتطلع إلى طفلها تراه مصلوباً على يدي شمعون، فيقول لها: إن هذا قد وضع لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل ولعلامة تقاوم، يعني نحن نرى الشريعة هي الهدف، نرى الناموس هو الكل في الكل، فكل ما نفعله الهدف هو الناموس، إذا كان ما نفعله موافق للناموس إذن نحن أصبحنا أبراراً، ولكن إذا كان مخالفاً للناموس فجرائمنا كثيرة وخطايانا لا تغفر إلا بالرب يسوع.
عندما جاء السيد المسيح، المسيح هو أصبح ناموساً لنا، المسيح هو قدوة لنا، هو مثالنا، علينا أن نتطلع ماذا عمل المسيح بالجسد أن نقتدي به، ونسعى لأن هذا هو هدف المخالفة. الهدف هو السيد المسيح، إذا سرنا بما سار به السيد المسيح فنحن أبرار، وإذا خالفنا عن ذلك نكون قد تعدينا الوصية، أو الوصايا أو الناموس. أما العذراء مريم لم تكتفِ بهذا وهي مرتعبة ترى ابنها تصور لها تماماً أنه مصلوب وهو طفل، وقال لها: «وأنت أيضاً يجوز في نفسك سيفٌ»، منذ ذلك الحين ونحن نسمي العذراء مريم الدائمة البتولية (الأم الحزينة)، فعاشت حياتها كلها حزينة لأنها رأت ابنها مصلوباً وهو طفل، ورأته بعدئذ بأم عينها عندما صلب على الصليب.
شمعون انتهت مهمته بالحياة وأستحق أن يغادر هذه الحياة، وطلب أن ينطلق منها ليُعلمنا درساً خالداً في الإيمان، فلو لم يطلب من شمعون أن هذه الحياة تنتهي ثم بعدئذ تكون الحياة الأبدية، حياة الإنسان بالسعادة لما طلب أن ينطلق، مهما كانت الحياة شقية الإنسان متعلق فيها، حتى لو كان مريضاً، يكون ما يكون، متعلق بهذه الحياة، لكن عندما يؤمن أن هناك حياة أبدية، هناك سعادة في السماء للأبرار والصديقين يتمنى مثلما تمنى الرسول بولس يقول:
«لي اشتياق أن أنطلق وأكون مع المسيح ذلك أفضل».
فالدروس التي نتعلمها من حادثة تقديم الرب يسوع إلى الهيكل:
أولاً: علينا أن نربي أولادنا تحت الناموس، أن نكون متمسكين بالشريعة، أن نقوم بكل الفروض، الفرائض الموضوعة علينا ليست نقض الشريعة، بل أيضاً الطقوس التي تأمر بها الكنيسة، أن ننال نعمة عظيمة من الرب لنكون مرضيين لديه تعالى، كما ربت العذراء مريم ابنها الرب يسوع، الذي يذكر الإنجيل المقدس «وكان الفتى ينمو بالقامة والنعمة عند الله والناس».
ثانياً: أن نؤمن إيماناً تاماً في الأبدية، ونقتدي بشمعون، لو لم يذهب شمعون إلى الهيكل رغم شيخوخته، رغم تعبه، رغم مرضه، لما نال هذه النعمة العظيمة أن يحمل الرب يسوع ويقدمه إلى الرب، فهو رب الهيكل الذي يُقدم إلى هيكل الرب، وأن نؤمن أن حياتنا فانية ولا بد أن تزول، ولكن هناك حياة أبدية.
في هذا اليوم نسأل الرب يسوع، ونحن نُعيد عيد دخول الرب يسوع إلى الهيكل، إذ كان العيد موعده أمس، إنما حولناه إلى يوم الأحد كقرار مجمعنا المقدس أنه هذه الأعياد تحول إلى الأحد الأقرب، حتى تتاح الفرصة للمؤمنين أن يشتركوا بها، نسأل الرب أن يبارككم جميعاً ونعمته تكون معكم في هذه الأعياد وفي كل عيد، وأن يجعلنا جميعاً مقتدين بشمعون الشيخ، أن لا نضيع فرصة الذهاب إلى الكنيسة، ولا الاهتمام بأن نحمل الرب يسوع ليس على ذراعينا كما فعل شمعون بل في قلوبنا جميعاً، حتى نقدر أن نقول ما قاله بولس الرسول، لا أن نصلب المسيح على ذراعينا بل نُصلب نحن مع المسيح، «مع المسيح صُلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ»، آمين.
عيـد دخول المسيح إلى الهيكل (5)†
«الآن تطلق عبدك حسب قولك بسلام لأن عينَيَّ قد نظرت خلاصك نور إعلان للأمم ومجداً لشعبكَ»
( لو 2: 29- 32 )
تحتفل الكنيسة المقدسة أيها الأحباء في هذا اليوم المبارك بعيدٍ سيديّ من الأعياد السيِّديَّة الصغرى، وهوعيد تقدمة الطفل يسوع إلى هيكل الرب.
عندما نذكر هذه الكلمات أيها الأحباء نتتبَّع سيرة الرب يسوع بالجسد، فالرب الذي لأجلنا ولأجل خلاصنا نزل من السماء ولبِسَ جسدنا وأصبح مثلنا ما عدا الخطيئة، هذا الرب الإله منذ ولادتهِ اهتمَّت والدتهُ وأكملت ما كان يجب أن يتمَّهُ كل من كان في عداد الشعب الذي كان على عهدٍ مع الله، الذي أُعطيَ لهُ الناموس وبواسطتهِ أيضاً تثبَّتت النبوات.
السيد المسيح في اليوم الثامن من ميلادهِ بالجسد اختُتِنَ كسائر بني إسرائيل في تلك الأيام وبختانه أعلِن لنا أنهُ كان حقاً قد أخذ جسدأً كاملاً مثلنا لم يكن بالخيال قد ظهر للعالم إنما كان قد لبس الجسد وبحسب تعاليم اليهود وناموس موسى كانت المرأة التي تلد إبناً ذكراً تبقى تحت النجاسة الطقسية مدة أربعين يوماً بعد ذلك تتقدَّم إلى هيكل الرب وتقدم عن نفسها إن كانت غنية حَمَلاً حولياً – أي حمل عمرهُ سنة – وإن كانت فقيرة تقدم فرخَي حمام أو زوجَي يمام هكذا كانت العذراء مريم كانت في عداد الفقراء فقدَّمت للهيكل ما قدَّمَتهُ حتى تنتهي من نجاسة الولادة، ولكن بالحقيقة لم تكن العذراء كسائر النسوة تحت حكمٍ طقسيّ نجسٍ لأنها ولدت إبنها البكر تحت عناية ربنا وهو الرب بالذات، فولدت إبنها وهي بتول قبل الولادة وفي الولادة وبعد الولادة، مع هذا أتمَّت أيضاً هذا الطقس وقدَّمت عن نفسها الذبيحة التي فُرِضت في ناموس موسى، ليس هذا فقط بل كان هناك تقدِمة عن الطفل في يوم الأربعين من ميلادهِ يُقدَّم إلى هيكل الرب يتسلَّمهُ كاهنٌ ويُقدِّمهُ للرب وبعدئذٍ يُعطى للهيكل بوساطة ذلك الكاهن خمسة شواقل فضة – هذهِ عُملة كانت في تلك الأيام – عن هذا الطفل فيُعيد الطفل إلى أهلهِ، أولاً قُدِّم للرب وعندما أخذ خمسة شواقل الفضة أعاد الطفل لأهلهِ.
ما هذا الطقس أيها الأحباء ؟
كان ناموس موسى أولاً قبل أن بدأ الناموس الكتابي قد مارس ناموس الآباء القدماء أن كل بكر في العائلة كان هو كاهن العائلة وكان أيضاً رئيس العائلة، ولكن عندما خصَّ موسى سبط لاوي لموهبة الكهنوت حينذاك بقية أبكار بني إسرائيل كانت تدفع عِوض ذلك تقدمة للهيكل، فكان كل بكر فاتح رحمٍ يُقدم للهيكل ويُقدَّم عنهُ خمسة شواقل فضة حتى تفديهِ هذه الشواقل ويعود إلى أهله وهو بريء من خدمة الكهنوت.
الرب يسوع كان الكاهن الأعظم كما يقول عنهُ الكتاب على رتبة ملكي صادق وهو كاهن إلى الأبد ومع هذا فإن العذراء مريم ويوسف خطيبها أكملا هذه الشريعة مع أنهُ لم يكُن عليهِ فرض لأنهُ هو كاهنٌ أعظم.
ففي اليوم الأربعين تقدَّما إلى الهيكل ليُقدِّما الطفل يسوع لذلك نسمِّي هذا اليوم يوم تقدمة الطفل يسوع إلى الهيكل، وكانا يوسف ومريم ينتظران الكاهن ليحمل الطفل، وإذا بشيخ جليل عتيق الأيام يتقدم ويحمل الطفل إنه سمعان الشيخ وبالسريانية شمعون. ولكن ما هي قصته ؟
إنهُ إنسانٌ عتيق الأيام كان عمره قد تجاوز ثلاثمئة وخمسين سنة، هذا الإنسان كان أحد العلماء الذين اختارهم بطليموس قبل ذلك التاريخ بمئتين وإثنين وثمانين سنة ليقوموا بترجمة التورات والنبوات من العبراني إلى اليوناني لغة الثقافة في تلك العصور، والغاية ليس فقط ليطَّلع ذلك الوالي والي الإسكندرية الذي كان مثقفاً ثقافة عالية والذي أراد أن يطَّلع على عقيدة اليهود، بل الله كان يُريد أن تُترجم هذه الأسفار حتى العالم يعرف النبوات عن مجيء الرب يسوع، مسيَّا المنتظر الذي انتظرتهُ الأجيال.
شمعون كان في عِداد السبعين شيخ الذين كانوا يُجيدون اللغتين العبرية واليونانية في أنٍ معاً واختارهم فيلادلفيوس بطليموس والي الإسكندرية لهذهِ الغاية.
كان سمعان وهو يُترجم كما يقول لنا التاريخ قد وصل إلى الآية التي تقول في إشعياء «هوذا العذراء تحبل وتلد إبناً وتدعو اسمهُ عمانوئيل» ومتى يُفسِّر ويقول عمانوئيل الذي تفسيرهُ الله معنا. وهذه كلمة سريانية آرامية معناها الله معنا. لكن سمعان ظنَّ أن الناس سيَضحكون عليه إذا قال العذراء تحبل وتلد إبناً، فكتب الشابة بدل العذراء وفي اليوم التالي أعاد قراءة الترجمة ورأى أن الكلمة قد تغيرت إلى لفظة عذراء وحدث لهُ ذلك ثلاث مرات، حينذاك طلب إلى الرب أن يُفسر له هذه الآية المقدسة والرب بحلم أخبره أنه سوف لن يذوق الموت ما لم يرى أن هذا قد جرى أي يرى أن العذراء حقاً ستلد إبناً.
ومرت الدهور وأجيالٌ كانت في الحياة وانتقلت من هذهِ الحياة وسمعان يتطلع إلى السماء ينتظر وعد الرب له أنه سيرى بأم عينهِ هذا الحدَث العجيب.
وعندما أتى يقول الإنجيل المقدس يوسف والعذراء مريم بالطفل يسوع بعد أربعين يوماً من ولادتهِ بالجسد أتيا بهِ إلى الهيكل ليقدِّماه إلى الهيكل الله أعطى قوة لسمعان فجاء إلى الهيكل وكان عمره حينذاك ثلاثمئة وخمسين سنة، استطاع أن يأتي إلى الهيكل وبقوة الرب حمل الطفل يسوع، حملهُ ليقدمه إلى هيكل الرب، ربُّ الهيكل يُقدَّم إلى هيكل الرب بحسب الناموس الذي حتَّم ذلك بواسطة موسى.
كيف كان يُقدِّم الكاهن الطفل؟
كان أولاً يأخذ بيدَيهِ شمعتين ولذلك نحن نستعمل الشموع في عيد دخول الرب إلى الهيكل وكان يجعل يديه على علامة صليب ويضع الطفل كأنه قد صلبهُ وهكذا كان عندما تسلَّم سمعان الطفل يسوع صلبهُ على يدَيه وتطلَّع إلى العذراء مريم وقد جاز سيف الحزن في قلبها وهي ترى طفلها مصلوباً وتُنصت إلى سمعان وهو يقول أن هذا قد وُضع لسقوط وقيام العديد من بني إسرائيل وهدفاً للمخالفة، معنى ذلك نحن عندما نقوم بأي عمل حتى نفهم أن هذا العمل كان من الله أو هذا بحسب الشريعة أم لا، نقيس هذا العمل بشريعة الرب إذا كان موافقاً للشريعة معنى ذلك أن هذا العمل إلهي وإلا فهذا العمل ليس من الله هنا نقول المخالفة، هدفاً للمخالفة. هذا قبل مجيء الرب يسوع بالجسد أما بعد مجيئه وبعد أن أخذ كل شيء من أجلنا ماعدا الخطية أصبح هو ناموسنا، أصبح هو المقياس وأصبح هو كما قال سمعان هدفاً للمخالفة فعلينا نحن المؤمنين إن فعلنا أي عملٍ علينا أن نفتكر لو كان المسيح بمكاننا هل كان يعمل هذا الشيء ؟
فشريعتنا وناموسنا أصبح الرب يسوع، ألغيت كل الشرائع بالنسبة لنا ونحن نطلب الكمال والكمال نطلبه ليس بالشريعة ولا بالناموس الموسوي ولا بناموس الآباء الذين قبل موسى، الشريعة والناموس نحن الذين نؤمن بالرب يسوع الذي تجسد لأجلنا الشريعة والناموس هو المسيح بالذات، هو ناموسنا هو شريعتنا هو قدوتنا هو مثالنا هو الذي بهِ نقيس كل أعمالنا، هذا هو هدف المخالفة كما قال سمعان الشيخ للعذراء مريم، وأنتِ يجوز بقلبكِ سيفٌ، العذراء عندما رأت إبنها مصلوب على يدَي سمعان الشيخ كأن الله أظهر لها أنهُ سيُصلب لأجل البشرية وبقيت الأم الحزينة طول حياتها وهي ترى في كل لحظة من لحظات حياتها مع الرب يسوع وبكل عملٍ يقوم به الرب ترى إبنها المصلوب من أجل البشرية فيجوز الحزن في قلبها.
يقول الإنجيل المقدس أيضاً أنه كان هناك امرأة تقية اسمها حنة إبنت فنوئيل من سبط آشير، هذه كانت أربعة وثمانين سنة أرملة تتعبَّد في الهيكل بمخافة الله بأصوامٍ وصلوات، عندما سمعت ما قالهُ سمعان عن الطفل يسوع بدأت تتنبَّأ أيضاً وتُخبر الناس أن مسيَّا حقاً قد وُلد وجاء من أجل خلاصنا.
أحبائي في عيد تقدمة الرب يسوع إلى الهيكل الذي احتفلنا بهِ في هذا اليوم لنا عِبر ودروس خالدة:
أولاً نرى إيمان سمعان بما أوحاهُ إليه الرب، آمن بكل النبوات وآمن بما قالهُ لهُ الرب أنه لا يموت ما لم يرى هذا الأمر العجيب أن العذراء تحبل وتلد إبناً كما قال إشعياء وتسميه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا.
فلو لم يؤمن سمعان بالكتاب ولو لم يؤمن بالوحي لَما كان لهُ نعمة عظيمة من الرب أنهُ يرى خلاص الرب، وكذلك آمن بالأبدية لذلك رأى أن انتهاء حياته قد دنا طالما وعد الرب قد تم فهو أيضاً ملَّ من الحياة الدنيا فطلب من الرب حسب وعده الآن تُطلق نفس عبدك يا سيد بحسب قولك بسلام لأن عينيَّ قد نظرا خلاصك، نور إعلان للأمم ومجداً لشعبك إسرائيل.
لماذا نال المجد؟ لأنه حفظ النبوات وحفظ الناموس واستحق أن يتمجد بمجيء المسيح إلى العالم لفداء البشرية.
عبرتنا ودرسنا نأخذهُ أحبائي في هذا اليوم أولاً نربِّي أولادنا تربية صالحة بحسب شريعتنا المسيحية ونعلمهم أن يقتدوا بالرب يسوع الإله المتجسد ومثلما قلنا نعتبر الرب يسوع هو ناموسنا وهو شريعتنا وهو هدف المخالفة. ثانياً أن نُتمّ كل ما فرِض علينا بحسب وصية الكنيسة المقدسة ليس فقط من وصايا بل أيضاً فروض، والفروض هي الطقوس التي نقوم بها وخاصةً كما أتمَّت العذراء مريم الختان، ختان الرب ثم تقدمتهُ للهيكل وكل ما كان يجب على شعب العهد القديم أن يقوم به.
أسأل الرب يسوع أن يُلهمنا أن نواظب على القداس الإلهي والحضور للكنيسة فلو لم يأتي سمعان للكنيسة لما التقى بالرب يسوع ولَما نال نعمة عظيمة أن يحمل الرب يسوع ويُقدمه لهيكل الرب وهو رب الهيكل.
ليُؤهلنا الرب الإله أحبائي أن تكون أعيادنا خاصة السيِّديَّة مباركة للجميع وأن نكون ممن يقتدوا بالرب يسوع بكل حياتنا على الأرض ونعمته تشملكم دائماً أبداً آمين.
عيد مار برصوم
عيد مار برصوم
عيـد مــار بـرصـــوم†
تحتفل الكنيسة في هذا اليوم أيها الأحباء بعيد القديس مار برصوم. عندما نتأمّل بسيرة هذا القديس يتصوّر أمامنا موكب الزهّاد والنسّاك والعبّاد عبر الدهور والأجيال الذين كرّسوا نفوسهم لعبادة الله تعالى، كما أنهم عندما كانت الحاجة تقتضي أن يدافعوا عن الإيمان كانوا ينزلون إلى سوح الجهاد معلّمين المؤمنين كيف يجب على المؤمن أن يتمسّك بإيمانه الذي تسلّمه من آبائه الميامين والرّسل الأطهار وكيف يجب أن يتحمّل حتّى العذاب والاضطهاد في سبيل الثّبات على الإيمان.
برصوم هو الذي قام بذلك، برصوم كان سريانياً متمسّكاً بمذهبه الأرثوذكسي غير حائد عنه قيد شعرة. وُلد في أواخر القرن الرابع، والقرن الرابع يُعتبر بدءاً للعصر الذهبي السرياني ونشأ نشأة مسيحيّة صالحة في بيت أبوَيه المؤمنَين وفي مدرسة قريته بقرب سميساط، ثم تتلمذ لناسك شيخ يُسمّى ابراهيم الكبير كان يتنسّك في أعلى الجبل في نواحي سميساط. هذه الحياة الرّهبانيّة في بدئها أن يكرّس الشاب نفسه لله وأن يأخذ الطريقة عن شيخ من الشيوخ من الرهبان القدامى الذين يعبدون الله بالروح والحق. كان يخدم ذلك الشيخ. أول مرحلة في الرّهبانيّة هي الخدمة، الخدمة بتواضع تام والتضحية ونكران الذات عندما يخدموا الأقدمين الذين سلكوا في هذه الطّريق، بذلك يتعلّم كيف يقتدي بأولئك الذين وضعوا نصب أعينهم المسيح يسوع بالذات، يتمثّل به في البتوليّة الطاهرة العفيفة، في الطّاعة لله الآب كما فعل المسيح حتّى الموت موت الصّليب، في الفقر الاختياري، في التجرّد عن كل ما في هذه الدّنيا من أملاك وأموال وملذّات حتى الحلال فيها. كل ذلك يأخذه الرّاهب عن الشيخ معلّمه وهو يخدم. وعندما أصبحت الرهبانيّة ديريّة ودُعي الراهب بالسريانية ديريا أي ديري بعد أن كانت إفراديّة ينفرد بها الإنسان في الكهوف، في أعلى الجبال أصبحت أيضاً قوانين الرّهبنة بنذورها الثلاثة: الطّاعة التامّة للرئيس والخدمة في عِداد هذه الطّاعة ومنها ومن خلالها الخدمة التامّة في الدّير يبدأ بخدمة القسم الخارجي من الدير خدمة الناس الذين يزورون ذلك الدّير، خدمة اخوته الرهبان الذين سبقوه في الخدمة بتواضع تام متشبّهاً بالمسيح يسوع، وبعد الطّاعة يأتي التجرّد التّام عن مقتنيات العالم، لذلك عندما نتأمّل بأقوال الرب. ونحن ندرس الرهبانيّة نقف أمام الرب مع ذلك الشاب الذي طلب الحياة، فأجابه: يا بُني إن كنت تريد أن تكون كاملاً – الكمال في المسيحية ليس فقط أن تكون مؤمناً بل مؤمناً كاملاً – فبِع كل أملاكك ووزِّع للفقراء والمساكين ليكون لك كنزٌ في السماء وتعال اتبعني. هذه طريقة الكمال في الرهبانيّة بالذات. ثم نأتي بعد ذلك إلى العفّة في البتوليّة وهذه هي التجرّد عن كل ملذّات العالم حتّى الحلال فيها ليكون الإنسان لله ولله وحده. هؤلاء النسّاك والزهّاد والرهبان عبر التاريخ أيها الأحباء كانوا قوّة وراء الكنيسة بصلواتهم المستمرّة لأجل الكنيسة وأبناء الكنيسة وخلاص الجميع، وكانوا قوّة أيضاً للدفاع عن الحق لذلك رأينا أنطونيوس في بريّة مصر عندما اكتسحت تلك البلاد البدعة الآريوسيّة يترك منسكه، قرّيته، ديره ويأتي إلى الإسكندريّة ليدافع عن الإيمان ورأينا أفرام العظيم في بلادنا هذه سوريا في نصيبين ثم الرّها كيف أنه يدافع عن إيمان الكنيسة ويبذل قصارى جهذه لتثبيت الإيمان في قلوب المؤمنين، وبرصوم الذي اليوم نعيّد مثلهما كان رجلاً جبّاراً تنسّك بانسحاق تام حتّى أنه ابتدع طريقة للنسك خاصةً به، فيقول التقليد عنه أنه كان لا ينام أبداً على فراش، بل كان في كل حين منتصباً ساجداً عند الصلاة لله وبقي هكذا أكثر من خمسين سنة. هذا الناسك العظيم انتُخب ليكون ممثِّلاً لرؤساء الأديرة في الشرق وكانت تُعَد بالمئات إن لم نقُل بالآلاف، لأن الرهبان كانوا يُعَدُّون بمئات الآلاف، مثّلهم في مجمع إفسس الثاني سنة 449م ودافع عن الإيمان وأصبح مسؤولاً عن نشر تعاليم الرب في تلك الديار الشرقيّة، كما أصبح مسؤولاً عن تطبيق قرارات ذلك المجمع، ولكن عندما انشقّت الكنيسة في مجمع خلقيدونيّة سنة 451م وقف برصوم يدافع عن حياض الكنيسة وعن إيمانها المستقيم واضطُهِد لأجل ذلك كثيراً وأصبح معترفاً، والمعترف بلغة الكنيسة أيها الأحبّاء هو من يعلن إيمانه جهراً ويُضطَهَد لأجل ذلك متحمّلاً صنوف العذاب ولكن لم يستشهد فهو معترف. بهذا صار قدوةً للرهبانيّة السريانية في النّسك والعبادة وتثبيت في الإيمان ليس فقط في النسك والعبادة والأصوام في الأديرة، وخرج برصوم إلى العالم يجاهد في سبيل الإيمان المستقيم الذي تسلّمه من آبائه الذين تسلّموه من الرسل مباشرةً، وبهذا أيها الأحبّاء أصبح مثالاً عبر الدّهور والأجيال وإلى الأبد لكل من يريد أن يكرِّس نفسه لخدمة الله، لعبادته تعالى لكل من يرغب أن يكون كاملاً، لكل من يريد أن يقتدي بالرب يسوع بالعفّة والبتوليّة، بالفقر الاختياري والتجرّد عن العالم والطّاعة التّامة لرئيسه كما أطاع المسيح يسوع الآب السماوي حتّى الموت، موت الصليب.
قيل عن برصوم أنه مرّة كان يصلّي فرآه أحد الرهبان الاخوة وإذا نور من السماء يهبط على هامته شبه لسان ناريّ. تعجّب الرهبان من ذلك وبحال تعجّبهم حدّث الواحد الآخر مذكّراً إيّاه بالعليّة التي حلّ فيها الروح القدس على التلاميذ، فهذا القديس العظيم أيها الأحباء صلّى في حياته لأجل الكنيسة وجاهد في تثبيت الإيمان، وبعد أن انتقل إلى الخدور العلويّة في السماء في الثالث من شهر شباط سنة 457م وأصبح في عِداد القديسين ليصلّي لأجل الكنيسة المقدّسة لتثبت على صخرة الإيمان المستقيم الرأي وتجاهد في سبيل الحفاظ، أبناء المعمودية المقدّسة ثابتين بالإيمان بالمسيح يسوع والسيرة الصالحة ليستحقوا أن ينالوا ملكوت الله مع القديس مار برصوم وجميع النسّاك والرّهبان والآباء والشهداء الذين جاهدوا في سبيل الإيمان وانتصروا واستحقوا أن يملكوا مع الرب الإله بشفاعة مار برصوم أن نكون في عِداد أولئك بعد العمر الطّويل، ونعمته تشملكم دائماً أبداً آمين.
صوم نينوى
صوم نينوى
صـــوم نينــــــوى (1)†
أيها الأحبّاء:
في هذا اليوم المبارك ذكرنا على مذبح الرب جميع الذين صاموا صوم نينوى بكل أشكاله وأنواعه وأساليبه. الذين مزّقوا قلوبهم لا ثيابهم كما يقول النبي يوئيل، مقدِّمين توبةً حقيقية لله. سائلين الرب أن يقبل توبتهم مثلما قبل توبة أهل نينوى وصلواتهم وصدقاتهم ويمتّعهم بحياة التّقوى ومخافة الله.
تعود بنا الذّكرى أحبائي إلى القرن التّاسع قبل الميلاد، حيث كان هناك مدينة مهمّة جدّاً اسمها نينوى عاصمة الإمبراطوريّة الآشوريّة، التي فاقت المدن في عصرها ثقافةً وعمراناً وتقدّماً علميّاً، فإذا كانت الدّول العظيمة في هذه الأيّام تهتمّ بالفضاء فما هذا إلاّ اتّباعاً لخطوات تلك المملكة وتلك المدينة بالذات، نينوى يوم كان علماؤها يدرسون الفَلَك. وإذا كان هناك في عصرنا هذا تمرّغ بالخطايا والذنوب والآثام فما هو أسوء ممّا فعله أهل نينوى في ذلك الزمان. لذلك جاء أمر الرب لإنسان كان يعبد الله. كان يسكن في فلسطين، كان يهوديّاً اسمه يونان ومعنى يونان الكلمة الآرامية السريانية أي حمامة جاء أمر الرب قائلاً له: قم اذهب إلى نينوى ونادي عليها أي ادعوها للتوبة لأن شرورهم قد صعدت أمامي. كان يونان عدواً لتلك المدينة وشعبها. وكان يونان يتمنّى أن تبيد تلك المدينة فكيف يقوم ويذهب إليها ويُنذرها ليتوب شعبها وليعود الرب برحمته على شعبها ولا تبيد. يونان كسائر شعبه اليهوديّ كان متعصِّباً ويبغض سائر الشّعوب وكان يظنّ أن يهوه الله هو لشعبه فقط، والله موجود بينه وخاصّةً في هيكله، لذلك حاول أن يهرب من وجه الله حسب ظنّه، فذهب إلى يافا يقول سفر يونان، وهناك وجد سفينةً ذاهبةً إلى ترشيش الواقعة على ساحل البحر في ضواحي أسبانيا. أخذ السّفينة ومخرت به عباب اليم بهدوء متجهة إلى ترشيش، وإذا بعاصفة شديدة وأمواج عاتية تلاقيها، كادت تحطِّم السّفينة. صلّى النّاس إلى آلهتهم. أمّا يونان فمثّل الخاطئ الذي يموت ضميره وييأس من رحمة الله، فقد نزل إلى قاع السّفينة، هناك نام. ناداه الآخرون ليقوم ويصلّي إلى إلهه وهم لا يعرفون ماذا يعبد ومَنْ يعبد. فنهض وهو يائس وبحسب عادة ذلك الزمان ألقوا القرعة بينهم ليكتشفوا بسبب من منهم يا ترى حصلت هذه الشدة، فوقعت على يونان فانفضح أمره وانكشف سره وأقرّ واعترف أنّ ما يجري هو بسبب خطيّته لأنه تمرّد على أمر إلهه. ألقوني في البحر قال لهم. خافوا من أن يفعلوا ذلك: كيف نلقي رجلاً حيّاً في البحر ونقتله؟ إنّ هؤلاء الذين كانوا يعبدون الأوثان خافوا الله أن يهلكوا نفساً واحدة ويونان الذي كان يعبد الله لم يشأ أن تخلص نفوس أهل نينوى وقد أرسله الله لينذرهم فيتوبوا ويخلصوا، بل تمنّى هلاكهم.
هذه المقارنة بين من يعبد الله في الظّاهر فقط ولكن قلبه مملوء حقداً وبغضاً للبشرية، وبين من كان ناموسه ناموس الضّمير ولم يشأ أن يقتل نفساً واحدة.
لم يكن هناك خيار لركاب السفينة من أن يبقوا يونان في السفينة فالبحر كان هائجاً فألقوا يونان في البحر، فسكنت العاصفة الهوجاء وهدأت أمواج البحر العاتية. أما يونان الذي كان في قلب البحر يدعو الله فقد أرسل إليه الله تعالى حوتاً عظيماً ابتلعه، لكن لم ينل منه أي أذى بقوّة إلهية فائقة الطبيعة. بقي ثلاثة أيّام وثلاث ليالٍ في جوف الحوت، هناك صلّى، عندما كانت العاصفة شديدة والبحر هائجاً، عندما كادت السفينة تتحطم ويغرق كل ركّابها.
في قاع السفينة نام يونان لأنه يئس من رحمة الله، ولكنه في قلب الحوت صلّى إلى إلهه، علم الآن أن الله موجود في كل مكان ليس هو في هيكله اليهوديّ فقط ولا معهم. صلّى فاستجاب الرب صلاته وألقى به الحوت على السّاحل. جاء صوت الله ثانيةً إليه: قم اذهب إلى نينوى وأنذرها ونادي عليها لأن شرورهم قد صعدت أمامي. ذهب ونادى على الناس، توبوا قال لهم، مدينتكم ستهلك وستبيدوا جميعاً بعد أربعين يوماً. ملك البلاد والكبير والصّغير والغني والفقير من سكان المدينة جميعهم تابوا. لبسوا المسوح، رقدوا على الرّماد، بكوا ولم يأكلوا ولم يشربوا. ترحّم الله عليهم وعفا عنهم وقَبِل توبتهم، ولكن يونان تألّم كثيراً وذهب يقول السِّفر إلى شرقي المدينة. هناك صنع له مظلّة ثم أشفق الله عليه فأنبت يقطينة حمتهُ من حرارة الشّمس الحارقة، ثم بعدئذ أرسل دودة فنخرت اليقطينة فيبست وضربته الشّمس، فانزعج وغضب. كان غضباناً لأن الله أشفق على أولئك الناس لأن الله قَبِل توبتهم، وزاد غضبه لأنه قد تألّم جسديّاً أيضاً. ألم أقل لك – يقول للرب – أنّك إله رؤوف رحيم. هذا هو مفتاح سفر يونان كلّه أن الله هو رؤوف ورحيم، الله يقبل توبة التّائبين لذلك كأنّ يونان دافع عن كرامته لأنّ الناس كذّبوه، نينوى لم تسقط. لم يعلم يونان ولم يؤمن أن نينوى قد خلُصَت بتوبة أبنائها، الكبير والصّغير وعلّمت النّاس التّوبة حتّى أن الرب يسوع يقول لأهل جيله: رجال نينوى يقومون في الدِّين ويحكمون على هذا الجّيل لأنهم تابوا بكرازة يونان، وههنا أعظم من يونان، أجل إن الرب يسوع المسيح الإله الذي خلّصنا وأنقذنا ينادينا دائماً: توبوا فقد اقترب منكم ملكوت الله. ألا يحقّ لرجال نينوى أن يحكموا علينا وعلى ذلك الجِّيل إن لم نسمع الذي هو أعظم من يونان، ما لم نُطِع أمره ونتوب ونعود إليه له المجد وهو لا يزال ينادينا قائلاً: توبوا فقد اقترب منكم ملكوت الله. يونان أنهى رسالته ولكن تلك الرّسالة ستبقى إلى الأبد قدوةً وعبرةً للمؤمنين، فقد فرض علينا صوم نينوى عندما أصاب الشّعب مصيبة كبرى، أصيبوا بوباء وبيل في تلك المنطقة، في نينوى. كان ذلك في القرن السادس للميلاد، كان هناك المسيحيون الأتقياء دعاهم رؤساؤهم الروحيّون أن يقتدوا بآبائهم عندما تابوا، وفرضوا عليهم الصوم وأفعال التوبة والعودة إلى الله، فقبل الرب توبتهم وأبعد عنهم الوباء والبلاء.
ولابدّ أن نعلم أن نينوى قد خَرُبَت بعدئذ لأنها رجعت إلى غيِّها وشرورها فأبادها الرب، ولكن أحفادها الذين سكنوا في تلك الأرض عندما آمنوا بالمسيح وأصابتهم التّجارب العديدة دعاهم رؤساؤهم الرّوحيّون ليتوبوا، فصاموا صوم نينوى قبل القرن الرابع، ويذكر لنا القديس مار أفرام في ميامره ومداريشه أموراً عديدة تدعونا لنقتدي بأهل نينوى، ولكن في غضون القرن السادس أصبح صوم نينوى صوماً رسميّاً، وبعد ذلك أي في القرن السابع فرضه القديس ماروثا التكريتي على كنيستنا السريانية الأرثوذكسية، وحدّد أن يصومه المؤمنون فقط ثلاثة أيّام، كان سابقاً أكثر من أسبوع وصامه آباؤنا منذ ذلك التّاريخ وحتّى اليوم هو صوم مُحبَّب على الجميع.
ويونان دُعِي نبيّاً مع أنه لم يتنبّأ، إنما كان رمزاً لموت المسيح وقيامته، المسيح قال عنه: إن ذلك الجّيل الذي يطلب آية لا تُعطى له إلاّ آية يونان النّبي، فكما كان يونان في قلب الحوت ثلاثة أيّام وثلاث ليالٍ هكذا يكون ابن الإنسان أيضاً في جوف الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ. يونان كان حيّاً وكان كأنه في قبر، والمسيح الذي دُفِن بعد أن مات بالجسد كان حيّاً بلاهوته لأن لاهوته لم يفارق جسده ولا نفسه لحظة واحدة كما كان يونان حيّاً في جوف الحوت. وقام المسيح في اليوم الثالث وأقامنا معه، وفي اليوم الثالث أيضاً ألقى الحوت يونان حيّاً على السّاحل لينادي بالتوبة لأهل نينوى ولينادي بالتوبة لنا، وليكون عِبرةً لكل من يتمرّد على أمر الله، فمتى يدعونا الله لننادي بالتوبة، وندعو الخطاة ليتوبوا فيخلصوا علينا أن نفعل بالإيمان.
يونان استاء جدّاً لأن أهل نينوى قد تابوا ورجعوا إلى الله، فهو عبرة لنا أيضاً عندما نرى الآخرين قد رجعوا إلى إلهنا مهما كانت علاقتنا سيّئة – لا سمح الله – بالناس نفرح لأنّهم عادوا إلى الله، ألم يقُل الله: أن ملائكة السّماء أيضاً تفرح بخاطئ واحد يتوب. فلنفرح بتوبتنا أوّلاً أحبّائي ولنثبت على حالة النّعمة التي ننالها عندما نتوب إلى الله ونصوم ونصلّي ونتناول القربان المقدس لنثبت في المسيح بعد أن لبينا دعوته إيانا لنتوب وليثبت المسيح فينا.
تقبّل الله توبتنا جميعاً أحبائي، ومنحنا مغفرة الخطايا وأهّلنا أن نكون في حالة النّعمة دائماً لنستحق بعد العمر الطويل أن نرث ملكوت الله مع ربنا يسوع المسيح في السّماء ونعمته تشملكم دائماً أبداً آمين.
صـــوم نينــــــوى (2)†
«جيل شرير وفاسق يطلب آية ولا تُعطى له آية الاّ آية يونان النبي فكما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال هكذا يكون أيضا ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال»
غداً أن شاء الله أيها الأحباء نبدأ صوم نينوى وهو ثلاثة أيام ، يصومه بعضنا انقطاعاً عن الطعام والشراب هذه الأيام الثلاثة وينتظر إلى يوم الأربعاء حيث يتناول القربان المقدس في القداس الذي يقام في الساعة العاشرة صباحاً ويكون قد أتم الصوم ، و بعضنا يصومه من الصباح إلى المساء أو من الصباح إلى الظهر ثم يتناول طعاماً صيامياً أي انقطاعاً عن الزفرين ، المهم في كل ذلك أيها الأحباء أننا عندما نتمسك بفريضة هذا الصوم نشعر بأنفسنا أن علينا أن نتوب توبة نصوح مقتدين بأهل نينوى وآباؤنا الذين فرضوا علينا هذا الصيام يُرجعونا إلى ما جرى في نينوى في القرن التاسع قبل الميلاد . فنرى مدينة اشتهرت بين مدن ذلك الجيل ، مدينة تقدمت بالنسبة إلى ذلك الجيل بالحضارة والمدنية وكانت عاصمة المملكة الآشورية ارتقت جداً بعلوم الفلك وحتى الآن ما قام به علماء ذلك الجيل في نينوى بالذات من دراسات تعتبر من الدراسات المحترمة في هذا الميدان ، واشتهرت ايضاً بشرورها ، بفسقها ، بابتعادها عن شريعة الضمير والإنسانية ، هذه نينوى ، صراخها وصل إلى السماء إلى عرش الله ، لذلك أرسل الرب إليها النبي يونان لينادي بالتوبة لعلها تعود إليه تعالى ، لم يكن يعرف شعبها الإله الحقيقي وكان يعبد الأصنام ولكن ليس هذا فقط بل حاد عن شريعة الضمير وتمرغ بالآثام والخطايا التي لا تُحصى . الرب نادى يونان النبي وكان يونان في أورشليم ، كان هو وشعبه يعتقدون أن يهوه الإله الحقيقي هو لهم فقط وانه يسكن الهيكل ولا تتعدى عنايته العناية بذلك الشعب والوجود لا وجود له خارج تلك البلاد ومع ذلك الشعب تقاليد سخيفة جداً جعلت يونان الذي يعتبر أهل نينوى وكل الدولة الآشورية يومذاك اعداءً لشعبه ويتمنى إبادتها وهو في هذا الحال يُستدعى من الله : «قم قال له الله واذهب إلى نينوى ونادي ليعود شعبها إلى التوبة» كيف يذهب يونان إلى تلك البلاد الغريبة إلى شعب عدو له ولشعبه يريد أن يهلك ذلك الشعب أيذهب لينادي لهم وعليهم ليكونوا تائبين وعائدين إلى الله هذا أمر بالنسبة إلى عقلية يونان وبالنسبة إلى عقلية اليهود في تلك الأيام لتعصبهم ضد كل الشعوب ، لا يمكن أن يقوم يونان به . يقول سفر يونان أن يونان ذهب إلى يافا وهناك وجد سفينة تذهب إلى ترشيش وترشيش كانت ميناءً لعله كان في اسبانيا أو كان قريباً من اسبانيا ، اخذ السفينة ظناً منه انه يهرب من أمر الله وان الله لا يوجد إلا في هيكل سليمان أو في الهيكل لدى اليهود ومعهم فقط لا وجود لله خارج تلك المنطقة ، بخرت السفينة عُباب اليم ويونان مفتكر في نفسه قد تخلص من الأمر فهو لا يذهب إلى نينوى ولا ينادي عليها بالتوبة ولكن الله أراد أن يجعله آية كما ذكر الرب يسوع ، آية ليس فقط لأهل نينوى بل للعالم كله ، فهبت الراح العاصفة وعلت الموجات في البحر وكادت السفينة أن تتحطم وينان كسائر الذين يعصون أمر الله ينام اولاً ضميرهم ثم يموت نزل إلى قاع السفينة ونام لم يبال بشيء ، ركاب السفينة كلٌ يدعو إلى إلهه لينجيه ووجدوا أن يونان قد نام في قاع السفينة ، أيقظوه قم إلا تبالي إننا نغرق ، قم ادعُ إلى إلهك ثم بحسب تلك العادة الموجودة لديهم القوا قرعة ليجدوا على من تق القرعة ليكن هو سبب هذا الاضطراب في البحر ، وقعت على يونان فاعترف لهم انه يعبد الإله يهوه في أورشليم في الهيكل ولم يكن يعرف أن الإله سيتبعه إلى هنا وانه قد تمرد ولا يريد أن يقوم بأمر الله لذلك قال لهم القوني في البحر لكي تهدا العاصفة ، اولئك الوثنيون الذين لم يؤمنوا بالإله الحق كانوا أصحاب ضمائر حية ، لم يريدوا أن يلقوا يونان في البحر كيف يلقون انساناً ، يُهلكونه ، أما يونان الذي كان حسب ظنه يعبد الله لم يعبده عبادة حقة لم يبالِ حتى أن يهلك شعب نينوى كله وهو لا يريد أن يذهب إلى نينوى ، احياناً عديدة نرى هذه المفارقات حتى في العالم يظن الإنسان الفلاني بأنه يواظب على الطقوس والفروض ونظن انه يريد خلاص الناس ولكنه ليس كضمير حي يسعى إلى خلاص الناس ، والرب يوصي كل إنسان ٍ يرسله إلى العالم أن ينبه الخاطي ويموت الخاطي بخطيته دمه يطلبه الله من ذلك الإنسان ، أُلقي يونان في البحر بإرادته ما أجمل التشبيه الذي جعله الرب ما بين يونا وبينه هو ، أُلقي يونان في البحر بإرادته مات المسيح أيضا بيد اولئك اليهود الأشرار بإرادته لو لم يرد ، لو لم يأت ِ لهذه الغاية لفداء الناس ، فداء البشرية ما كان احد يقدر أن يلقي القبض على الرب يسوع لذلك عندما يشبه وجود يونان في قلب الحوت في جوفها لأن الحوت أ ُمرت من الله أن تبلع يونان وشاء الله أن يبقى يونان حياً في قلب الحوت في جوفها وعلمياً حتى في جيلنا هذا وقبله اُبتلع أكثر من واحد من حوت ثم اصطيد ذلك الحوت ووجدوا الإنسان حياً في تجويف في فم الحوت فلا نستغرب نحن نؤمن أن الله وراء كل حدث من هذه الأحداث المهمة و نؤمن أن الله كان مع يونان وهو في قلب الحوت نؤمن أن يونان آمن أن الله ليس فقط في الهيكل في أورشليم بل في كل مكان حتى في جوف الحوت ، صلى يونان ونحن احياناً عندما نصلي في كتاب الصلوات الفرضية اليومية نقول عن يونان أن الله استجابه في بطن الحوت ، استجابه الله بعد ثلاثة أيام وثلاث ليالي حسب قول الرب يسوع ، قذفه الحوت على الساحل قال يونان مفتكراً في نفسه إذن الله موجود في كل مكان ليس فقط في بلاده التي اعتبرها مقدسة ، وسمع المناداة ثانيةً: «قم واذهب إلى نينوى وبشر أهلها ليتوبوا هذا معنى المناداة ويونان اضطر أن يذهب إلى نينوى ، نادى بأهلها بالتوبة والعودة إلى الله منذراً إياهم انه بعد أربعين يوما إذا بقوا متوغلين بخطاياهم ستُهلك أنفسهم وتُهدم مدينتهم ويكونون أمواتا هم وحتى البهائم التي تسكن في تلك المنطقة، ملك آشور، عظماؤه، الكبير والصغير، الأمير والحقير، حتى الحيوانات، صاموا عن الطعام، لبسوا المشوح، وفرشوا الأرض وجعلوا الرماد على رؤوسهم منتحبين باكين أمام الله فتحنن الرب عليهم ولم يهلكهم ولم يهلك مدينتهم ولكن يونان أصبح في موقف حرج ، إذن كُذبت نبوته ،الرب لم يهلك هذه المدينة اتخذ شرق المدينة مكاناً جلس هناك وهو يتطلع إلى السماء يناجي الله : عرفت انك رؤوف ورحيم لذلك لم اُرد أن آتي إلى هذه المدينة وابشرها ، هُدرت كرامته بحسب ظنه بل أيضا تألم جدا لأن ذلك الشعب نال الخلاص ، كان يتمنى أن كل الشعوب تباد من الأرض لأنهم أعداء اليهود ، جلس هناك وصنع له مظلة تقيه حرارة الشمس بل أيضا الله ساعده على ذلك أنبت يقطينة وتحت ظلها جلس يونان ولكن جاءته التجربة ،دودة نخرت اليقطينة فيبست والشمس ضربت يونان فانتحب وبكى ونادى الله أنا عرفت انك رحيم ، هذا مفتاح كل سفر يونان ، إن الله رحيم ، الله يقبل التائبين ولذلك لا يُلك من يُقبل إليه بل إن كما قال ربنا يسوع المسيح أن ملائكة الله تفرح بخاطيء واحد يتوب . حزن يونان فناداه الله أنت تحزن على يقطينة بنت ليلة ونهار ولم تتعب حتى في إنمائها ، أنا ألا احزن على نينوى عشرات الألوف من الناس ومن الأطفال الذين لا يعرفون يمينهم من يسارهم يبادوا كلهم ألا احزن على هذه المدينة ، انظروا إلى عناية الله ن إلى رحمته إلى دعوته لنا لنتوب لنعود إليه حتى لأولئك الذين لم يكونوا يؤمنون به ، الرب يسوع اثبت لنا أن حادثة يونان حادثة جرت حقاً وأنها أعجوبة باهرة بل أيضا دعا يونان نبيا ويونان لم يتنبأ ولم يكتب سفر نبوة لماذا لأنه أصبح رمزاً لموت المسيح ودفنه وقيامته ، يونان كان في بطن الحوت ، في جوف الحوت كما كان المسيح في بطن الأرض ، كما دُفن المسيح في الأرض ولكن يونان كان حياً وهو في بطن الحوت والمسيح كان حياً وهو في القبر مات جسده ، انفصلت نفسه عن جسده ، مات الموت الطبيعي ولكن لاهوته لم يفارق لحظة واحدة لا جسده ولا نفسه فهذا حي وهذا حي بل هذا أبو الحياة المسيح يسوع لذلك الرب الذي صنع آيات عديدة عندما سأله الكتبة والفريسيون أن يجترح أمامهم آية قال: «هذا جيل شرير وفاسق يطلب آية ولا تُعطى له آية الاّ آية يونان النبي ـ سماه نبياً ـ فكما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال هكذا يكون أيضا ابن الإنسان في جوف الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال»، فالرب إذن اثبت آية يونان واثبت هذه الحادثة التي جرت في القرن التاسع قبل الميلاد واعتبرها رمزاً إلى موته ودفنه وقيامته لتكون آية للعالمين فيؤمنوا أن المسيح يسوع الذي جاء إلى أرضنا هذه والذي بإرادته قدم نفسه للصلب والموت وقام من بين الأموات ليبقى آية لكل من آمن به ، إننا أحبائي ننتهز فرصة أن نصوم ومع الصوم نقرن صومنا بالصلاة وبالصدقات التي نقدمها ايضاً . ليغفر الرب خطايانا ، صوم نينوى كان منذ بدء المسيحية قد فُرض على المسيحيين ولا غرّ فنحن ما حدث من حوادث تمت إلى الاعتراف باله الكون في العهد القديم نؤمن به جميعاً ولكن في صوم نينوى بدأ في نينوى بالذات ، شدائد عديدة ، اضطهادات طرأت على المؤمنين بالرب يسوع فآباء الكنيسة فرضوا على الشعب ليصوم ، كان الصوم سبعة أيام أو أكثر أيضا ثم في عهد المفريان ماروثا التكريتي حُدد فقط ليكون ثلاثة أيام وكان قبل القرن الرابع أيضا صوماً قد فُرض على الشعب المسيحي ومما يدل على ذلك أن ملفاننا العظيم كنارة الروح القدس مار أفرام الذي عاش في القرن الرابع نظّم أناشيد عديدة عن صوم نينوى وفي صوم نينوى ونحن نرتلها عادة في أيام الصيام وفي أيام أخرى دينية ، روحية خاصة للتوبة فما أجمل أن نتمسك بفرض الصيام أحبائي ونذكر آباءنا آباءنا أولاً الذين كانوا في العهد القديم في القرن التاسع قبل الميلاد ثم آباءنا الذين في العهد الجديد قبل القرن الرابع ثم خاصة في القرن السابع كيف أنهم كانوا يصومون كلما دخلوا في تجربة وكلما رأوا أنفسهم أن شدة قد طرأت عليهم فالرب كان يخلصهم كما نطلب منه تعالى خاصة في هذه الأيام أن ينقذ شعبنا في كل مكان ، أن ينقذ هذا الشعب المؤمن بالرب يسوع أن يأتِ به إلى التوبة ليتوب ويعود إلى الله لكي يعود الله إليه فالله رؤوف رحيم كما علمنا سفر يونان وكما علمنا الرب أيضا فهو يفرح بكل خاطيء يتوب ويعود إليه بل ايضاً ملائكة السماء تفرح بهذا الإنسان ليلهمنا الله أحبائي بأن نتمسك بهذا الصوم المقدس ونحضر القداس الإلهي أيضا يوم الأربعاء في الساعة العاشرة ونتناول القربان المقدس ليثبت المسيح فينا ونثبت نحن في المسيح ويغفر خطايانا وذنوبنا الحالة التي أتمناها لي ولكم بنعمته آمين . تقبل الله صومكم وصلواتكم وصدقاتكم .
صـــوم نينــــــوى (3)†
كما سبق أن أخبركم أحد الآباء الكهنة على أن الكنيسة المقدسة غداً تبدأ صوم الباعوثة، صوم نينوى الصوم الذي اقتبسته الكنيسة من آبائها منذ أجيال، ويُسمى صوم الباعوثة وهذه الكلمة سريانية تعني الطلبة والصلاة، ليس هذا الصوم هو انقطاعاً عن الطعام والشراب فقط بل مواصلة الصلاة والدعاء إلى الله بتوبةٍ صالحةٍ نصوح كما نقول دائماً.
هذا الصوم أيها الأحباء قبل كل شيء يذكِّرنا بيونان النبي وسفر يونان أحد أسفار العهد القديم ودُعيَ سفر النبوَة ذلك لأن ما حدث ليونان كان رمزاً إلى موت الرب يسوع ودفنه لمدة ثلاثة أيام في الأرض ثم إلى قيامته ولذلك اعتُبر سفره سفر نبوّة. أحياناً عديدة ما يحدث من عجائب ذكرت في الكتاب المقدس، الناس يستغربون ولا عجبَ فنحن ندعو تلك الحوادث عجائب فما جرى ليونان بعض الناس لقلَّة إيمانهم بل أيضاً لنكرانهم الأمور الإلهيّة يستغربون جداً وينكرون حادثة كهذه غير مؤمنين بقوة الله تعالى على كل شيء فنظام الكون كل الكون في الأرض والسماء إنما يجري بإرادة الله وبحسب ناموس وشريعة وضعها الله تعالى لهذا الكون ليسير عليها، وإذا ما حدث أعجوبة ضد ما سنَّه الله في الكون فهذا ليس عجباً علينا نحن المؤمنين بالله الذي خلق الأكوان والذي يدبّرها ويسوسها جميعاً.
الذين ينكرون حادثة يونان التي سنقصّها عليكم من المؤمنين يجب أن يعلموا بأنه ينكرون حتى أقوال المسيح، فالمسيح بالذات ذكر يونان وذكر حادثة يونان والمسيح ربنا نفسه عندما ذكر عن موته وقيامته شبّه ذلك بحادثة يونان بالذات، وكلمة يونان بالسريانية والعبرية تعني الحمامة، ويونان كان عبرانياً يهودياً، يُقال أنه من سلالة الغلام الذي هو ابن أرملة صرفة صيدا الذي مات وأقامه إيليا من الموت، هذا يونان اختاره الله من بين كل الناس و جاءه كلام الله قائلاً: قم انطلق إلى نينوى ونادي عليها لأن صوت آثامها قد وصل إليّ.
هذه رسالة عظيمة لشخصٍ نعتبره شخصاً عادياً وقد اختير ليكون أحد الأنبياء أحد الذين يحملون رسالة الله إلى العالم وخاصةً إلى الخطاة ليتوبوا.
قم انطلق إلى نينوى ونادي عليها بالهلاك والثبور نادي عليها بأن تعود إلى التوبة وإذا لم تعد فبعد أربعين يوماً تباد هي ومن سكنها ومن هو عليها.
كانت نينوى في تلك الأيام تقريباً في الجيل التاسع قبل مجيء السيد المسيح مدينة عظيمة جداً من أهم المدن في العالم حضارةً وثقافةً وعمراناً، وهي لا تزال هي هي كآثار باقية تدلّ على عظمتها في الساحل الأيسر من مدينة الموصل، هذه هي نينوى كانت أيضاً إلى جانب تقدمها المدني وتقدمها الحضاري كانت متمرّغة بالآثام والخطايا، فارتفع صوت الآثام إلى الله لذلك اختار يونان ليذهب وينادي عليها بالويل والثبور وعظائم الأمور.
يونان يهودي ونينوى وثنية، ونينوى كانت في عداء مع اليهود فكيف إذا يهودي متدين ويعلم أن نينوى عدوّة له ولدينه ويسمع من الله أن الله سيهلك كل من فيها ويبيدها إذا لم ترجع وتتوب كيف يذهب وينبّهها لتتوب «لا لتبقى بشرورها وتهلك فهي عدوّة لنا» هذا كان فكر اليهودي المتعصب الذي يظنّ أن الله خلق العالم كلّه ليكون خادماً لليهود، يونان عندما دعاه الله ليذهب إلى نينوى بدلاً من أن يذهب إلى نينوى أخذ مركباً وذهب إلى ترشيش- إلى اسبانيا- في طريقه إلى هناك ظنّ أنه قد تخلّص من أمر الله وكان يظنّ مثلما كان يظنّ أغلب اليهود أن الله موجود فقط في الهيكل في أورشليم وأنه ليس موجود في كل مكان لذلك أراد أن يهرب لذلك أراد يونان أن يهرب من الله ويذهب إلى ترشيش، فهاج البحر وعصفت العواصف والرياح الشديدة وتعبت جداً السفينة التي كانت تمخر به عباب اليمّ، وبدأ الناس يصلون أما يونان ككلّ خاطئ يموت ضميره لا يهمّه ما يحدث للناس، نزل إلى أسفل السفينة ونام دون أن يهمّه وليحدث ما يحدث.
الناس كلّها تعبد أيضاً آلهة عديدة كلّ واحد منهم بدأ ينادي إلهه ويصلّي، فنظروا وإذا يونان نائم في أسفل السفينة فأيقظوه، ألا تبالي إننا نغرق، قم وصلّي إلى إلهك قام يونان وهو يعرف ماذا يحدث، ثم ألقوا قرعة بينهم ليروا بسبب مَن حدث هذا الأمر. كان أمراً غريباً ومفاجئاً بالنسبة لأولئك الناس لم تكن علامات تُظهر أن هناك عاصفة قوية وأن هناك أيضاً في البحر أمواجاً عالية.
ألقوا القرعة فوقعت على يونان فقالوا له أخبرنا ما هي قصتك، فقال لهم :
بالحقيقة إن لم تلقوني في البحر فلن يهدأ أبداً هذا الجوّ، هؤلاء كانوا وثنيين وليس يهوداً لا يؤمنون بالله مع هذا كانوا أصحاب ضمير، كيف يخطئوا إلى إنسان، كيف يرمونه في البحر والبحر هائج، مع هذا أكَّد عليهم «إن لم ترموني في البحر لا يهدأ البحر أبداً» وقصّ قصته أنه دُعي من الله لكنه لم يستجيب للدعوة ولا طاع الله.
كثيراً ما يحدث معنا أيها الأحباء أن الله يدعينا لنقوم بمهمة لخلاص الناس لكنّا لا نلبّي هذه الدعوة، فيغضب الله على هذا الإنسان الذي لا يلبّي دعوته.
أخيراً اضطروا أن يطرحوه في البحر فهدأ البحر، لكن الله موجود في كل مكان ليعلم ذلك يونان وغير يونان الذين يؤمنون بأن الله موجود فقط في هيكل سليمان أو هيكل اليهود أو مكان عبادتهم.
أرسل الله ـ وكل الكائنات هي تحت حكم الله ـ أرسل حوتاً عظيماً ابتلع يونان.
من يفتكر بنفسه بأن هذا عقاب كبير ليونان ويظنّ أن يونان هلك طالما ابتلعه الحوت، إذا افتكرنا بالقصة نرى أن الله صان يونان من كل ما جرى و يجري إن كان بالبحر أو كان في البر أو كان حتى في الهواء، صانه في جوف الحوت.
عندما ندرس أيها الأحباء ما هو الحوت… هو أعظم وأضخم حيوان في البحر، لكن نعلم أيضاً أن الحوت إذا فتح فاه تدخل حيوانات عديدة من البحر إليه، ولا يستطيع أن يبتلع إلا صغار السمك، وأن رأسه وداخل فمه كأنه غرفة لكن غرفة مصونة من كل الحيوانات ومن كل الكائنات الموجودة في البحر، فيونان إذاً صانه الله في تلك الغرفةً، الحوت ما كان يستطيع أن يبتلعه. يبتلع الحوت حيوانات صغيرة ولكن حيوانات كبيرة وإنسان خاصة لا يستطيع أن يبتلعه، فصانه الله في جوف الحوت، يسمونه جوف لكن الحقيقة في رأسه.
بعد ثلاثة أيام وثلاث ليالي يطرح الحوت يونان في الساحل، فقام يونان حياً وجاءه صوت من الله ثانيةً : قم انطلق واذهب إلى نينوى ونادي عليها لكي يتوبوا، في هذه المرة لم يستطع أن يخالف أمر الله فقام وذهب إلى نينوى ونادى عليها في شوارعها، في طرقها أنه إن لم يصوموا، إن لم يعودوا إلى الله فسوف يهلك أهل نينوى ونينوى أيضاً تباد، فتاب أهل نينوى من الكبير إلى الصغير.
كيف سمعوا هذه البشارة من إنسان يهودي غريب عن جنسهم، هذه إرادة الله، تابوا وعادوا إلى الله، صاموا جميعاً تلك المدة التي حددها يونان النبي وعندما انتهت والناس قد نجوا، يونان خرج خارج المدينة وجلس على هضبة وهو يتطلع إلى السماء ويقول لله: أنا عرفت أنك رحيم أنك غفور ولذلك لم أرد أن أجيء إلى نينوى حتى لا أكون كاذباً، قلتَ أنك ستبيدهم ولكن لم تبدهم، فالله حتى يعطيه درس أشرقت الشمس وكانت حارة والحقيقة عندما في الصيف الحنّان نحن نسميه، عندما تشرق الشمس في تلك البلاد تكون حارة جداً وحرقت رأس يونان- صار ما نسميه ضربة الشمس برأسه- الله أشفق عليه أيضاً وأنبت يقطينة- نبات موجود ومعروف- ظلل يونان ووقاه من الشمس أيضاً حتى يرتاح، فارتاح يونان لكن أيضاً حتى يعطيه الرب درساً بعث دودة فدخلت بتلك اليقطينة ويبّستها واشتدّ الحر على يونان فطلب من الرب أن يُميته لأنه وقع في ضيق جاءه صوت من الرب قائلاً له: أنت أشفقت على اليقطينة بنت نهار وليلة لأنها ماتت لأنك تأذيت من الحرّ، فكيف لا أشفق أنا على هذا الشعب الذي فيه اثني عشر ربوة من الناس الذين لا يعرفوا يمينهم من شمالهم يعني من الأطفال وغير ناس الذين لا يعرفوا يمينهم من شمالهم، أأُبيدهم كلهم ولا أُشفق عليهم.
أخذ الدرس يونان على كلٍ، وهذه البلاد أخذت عبرة من يونان . عندما كانوا يدخلون في تجربة وهم مسيحيون ويؤمنون في الكتاب المقدس كانوا يصومون عادةً ستة أيام. كانوا بأمر الأسقف، المطران يدخلون الكنيسة ويصومون ستة أيام وكان الرب يُشفق عليهم كلما وقعوا في ضيق.
أخيراً إلى أيام ماروثا التكريتي مفريان المشرق حدّد المدة ثلاثة أيام، بعضنا يصوم الثلاثة أيام انقطاعاً عن الطعام والشراب وثم بعدئذ يذهبون لتناول القربان المقدس وبالتوبة، وسموها الباعوثة لأن هذه الأيام كلها كانت في دعاء وطلبة وتوبة إلى الله وعودة إليه . وكانت الشدة تُرفع عنهم والشرور، خاصة البنات البتولات لأن الذي يظهر أنه في التاريخ أنه مرة طُلبت بنات المسيحيين لذلك أُعلن الصوم، وصاموا حتى الله أنقذهم من ذلك الإنسان المتسلط الذي كان كملك في تلك البلاد فمات وهلك والله أنقذ البنات المسيحيات، لذلك البنات أكثر من غيرهم يصومون وأخذ هذا الصيام عنا الأقباط أخذوا الصيام يصومونه والأحباش ثم حتى أخذه الروم الأرثوذكس أيضاً عنا، وما يرى من المسيحيين يصومون هذا الصوم وهو صوم توبة ولكن يكفي المرضى والمرضعات أن ينقطعوا عن الطعام الذي هو طعام إفطار ويتمسكوا بالطعام الصيامي، ينقطعوا عن الزفرين مثلما نقول دائماً، يكفي لهم أن ينقطعوا بذلك لان ليس بإمكانهم، الرب لا يضع علينا أشياء ثقيلة أكثر من طاقتنا، أما البقية فيصوموا إما الثلاثة أيام أو بالثلاثة أيام إلى المساء أو إلى الظهر ثم يأكلوا طعاماً صيامياً أيضاً، وقد اعتدنا على هذا الشيء والحمد لله وكنائسنا كلها تحتفل بهذا الشيء، وإن شاء الله الرب يقبل صومكم وصلواتكم وطلباتكم وكما قلنا أن آباءنا قلّدونا هذا الشيء وعلمونا أن نسمي هذا الصوم صوم الباعوثة صوم الطلبة صوم الدعاء صوم الصلاة لذلك يجب أن نقرن هذا الصوم بالصلاة وكلنا يقرأ ويكتب والحمد لله فعلى الأقل خلال هذا الصوم نقرأ سفر يونان حتى نأخذ عِبر من ذلك أنه إذا جاءتنا رسالة من الله لخلاص إنسان ما أن نلبي هذه الرسالة، أن نهتم مع الله وبأمر الله بخلاص الآخرين أيضاً وأن نعتبر أن الله هو إله للعالم كله هو خالق العالم وهو مدبر العالم ونعتبر أن تجربة يونان هي لصالح البشرية كلها ليست فقط لصالح يونان.
تقبل الله صومكم وصلواتكم أيها الأحباء وأعاد عليكم هذه المناسبات بالخير و البركة.
أحد الكهنة
أحد الكهنة
أحــد الكهنـــــة (1)†
يوم مجيد تذكر فيه الكنيسة المقدّسة أحبارها وكهنتها الذين خدموا مذابحها وقاموا برعاية شعبها رعاية صالحة، وانتقلوا من البيعة المجاهدة إلى بيعة الأبكار المكتوبة أسماؤهم في السماوات لينالوا المكافأة عن أتعابهم في هذه الحياة الدنيا، وينالوا إكليل المجد عن جهادهم في خدمة الله والحفاظ على الإيمان المستقيم والفضائل السّامية التي مارسوها، فكانوا فيها قدوة صالحة للمؤمنين. نذكرهم كما ذكرناهم على مذبح الرب، هؤلاء الآباء الميامين بدءاً من الرّسل الأطهار وآباء المجامع المسكونيّة الثلاثة التي حدّدت لنا دستور الإيمان ووضعت قواعد الآداب المسيحية. نذكر الأقربين منّا: المثلّث الرحمة القديس البطريرك الياس الثالث والمثلّث الرحمة العلاّمة البطريرك أفرام الأوّل برصوم، والمثلث الرحمة سلفنا البطريرك يعقوب الثالث. كما أذكر جميع الأساقفة والمطارنة الذين خدموا بيعة الله بأمانة وإخلاص ونكران ذات. الأقربين من هؤلاء إلى عهدنا المثلّث الرحمة المطران يوليوس الياس قورو القاصد الرسولي في الهند، المثلث الرحمة المطران اسطاثيوس قرياقس مطران الجزيرة والفرات، المثلّث الرحمة مار ديونيسيوس جرجس بهنام. كما نذكر وذكرنا على مذبح الرب الكهنة الذين خدموا مذابح إلهنا في كل مكان وخاصةً في هذه الكنيسة وبعد الانتهاء من كلامنا سنزيّح ضريح الطيّب الذكر البطريرك يعقوب الثالث لأننا بذلك نكون قد أكملنا وصيّة الرسول بولس أن نتأمّل في سيرة الذين أرشدونا وعلّمونا، الذين أعلنوا لنا الحقّ المسيحي وكانوا مثالاً لنا في خدمة الرب.
إن هؤلاء الآباء الروحيين أيها الأحباء كانوا في عِداد الشّعب، ولكن الله اختارهم من الشعب ليخدموا الشعب وليقدموا عن أنفسهم وعن الشعب المبارك قرابين وضحايا لمغفرة الخطايا. هذا النهج نتعلّمه من الرسول بولس الذي قال في الإصحاح الخامس الآية الرابعة من رسالته إلى العبرانيين عن وظيفة الكهنوت: «ولا يأخذ أحد هذه الوظيفة بنفسه بل المدعو من الله كما هرون أيضاً» (عب 5: 4). فهذه وظيفة سامية جدّاً، إذا كانت رسالة النبوّة هي أن يأتي النبي بشريعة الله من الرب ليبلغها إلى الشعب، فرسالة الكهنوت أن يأتي الكاهن بالشعب إلى الله بعد أن يعلّمه الشريعة ويدرّبه على الأعمال الصالحة والتمسّك بالإيمان، لكي ينال الكاهن والشعب الخلاص بالمسيح يسوع، وأن يرفع الكاهن صلاة الشعب إلى الله.
لا ينال هذه الوظيفة أحد بنفسه. قد يدّعي الكهنوت أناس كثيرون، ولكنهم ينالون دينونة عظمى من ربنا لأن الرب لم يدعه كما ادّعى لخدمة الكهنوت وممارسة تلك الخدمة. في العهد القديم عوقب عوزيّا الملك عقاباً صارماً من الله لأنه تجاسر وقدّم البخور وهو ليس بكاهن، ولكن الذي يدعوه الله للخدمة ينال نعمة عظيمة من ربنا كما هرون. هرون مثال لذلك. نحن نقرأ في أسفار العهد القديم كيف أن الله اختار هرون ليكون كاهناً: جُمعَت عصي أسباط إسرائيل وعصا هرون وجدها أفرخت لوزاً، وهذه كانت العلامة أن الله قد اختاره للكهنوت، ولكن عندنا كهنوت أفضل وعندنا ذبيحة أسمى هي كهنوت الرب يسوع الحبر الأعظم الذي جاء على رتبة ملكيصادق وملكيصادق هذا ترجمة اسمه: ملك السلام، الذي كان ملك أورشليم الذي أدّى له ابراهيم الخليل العشور مبرهناً على أن الكهنوت أسمى من النبوّة وكان ملكيصادق يقدّم تقدمة خبزاً وخمراً ليس كسائر الكهنة في العهد القديم الذين كانوا يقدمون الذبائح الدّموية، والخبز والخمر كانا إشارة ورمزاً إلى قربان المسيحية الذي أعطاه المسيح يسوع لتلاميذه، حيث أنه رسم هذه الذبيحة غير الدمويّة قبل أن يسلّم جسده للموت بيد أعدائه. فهذه الذبيحة هي استمرار نِعَم وبركات ذبيحة الصليب. وهذا الكهنوت أبدي لأنه إنّما أعطي بوساطة الرب يسوع المسيح الذي اختار له كهنة، اختار رسله ودعاهم فلبّوا لدّعوة وأرسلهم لكي يبشّروا وأخيراً ليعلّموا الأمم ويعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وقال لهم: «من آمن واعتمد خلص ومن لم يؤمن يُدَن». هؤلاء الذين اختارهم ليكونوا مثالاً للرعيّة وأوصانا في كل أجيالنا المسيحية أن نكرّمهم، ومن كرّمهم فقد كرّم المسيح بالذات وقال أيضاً: من أصابهم فقد أصاب حدقة عين المسيح. ولكن لهم امتيازات عظيمة أيضاً وواجباتهم فإذا سلكوا بموجب شريعة الرب نالوا مكافأة عظيمة. عندما ضرب لنا الرب يسوع مثلاً عن الوزنات التي أعطاها السيّد لعبيده ليتاجروا بها وعاد بعد أن سافر. فالذين تاجروا وربحوا كافأهم مكافأة عظيمة، أما العبد الكسلان الذي طمر فضّة سيده بالتراب فقد عوقب عقاباً أبديّاً أليماً.
نعم. يُدعى الكاهن من الله وقد يلبّي الدّعوة، ولكن عليه أن يكون حذراً لأن الكهنوت موهبة سماوية يدعوها آباؤنا: «التشبّه بالله»، وهذه الموهبة السّامية هي نور ونار في آن واحد، فالذي يُدعى من الله ويسلك كأنه سالك مع المسيح كما كان يهوذا الإسخريوطي ولكن لا يكون أميناً في القليل، الذي يعبد المادّة، الذي إن يبيع سيّده بثلاثين من الفضّة عقابه أبدي أليم، يشنق نفسه ويهلك هلاكاً أبدياً. لِمَ نستغرب فقد نجد عديدين من الناس يحوّلون الموهبة السّامية إلى استغلال مادّي دنيوي، لمكسب محبّة المال أو الجاه أو المركز فيهلكون بأفكارهم الشريرة، وإبليس يحتاط بمن يقيمه الله قدوة للناس فيحاول إسقاطه في التجربة، التجربة ليست خطيّة عندما تعرض على الإنسان ليتغلّب الإنسان عليها بقوّة الرب، يكون قد نال أجراً عظيماً، ولكنه إذا ما رافق إبليس وتبع غوايته حينذاك يكون عقابه العذاب الأبدي كالذي أخذ الوزنة، وزنة سيّده وطمرها وجاء سيّده ووجده أنه لم يتاجر ولم يربح، والربح روحاني سلّمه إلى المعذّبين، إلى النار الأبديّة حيث البكاء وصريف وصرير الأسنان. فهذه الموهبة السّامية إذا ما نالها الإنسان عليه أن يكون حذراً كما يوصيه الرسول بولس قائلاً: «من ظنّ أنه قائم فليحذر لئلاّ يسقط». ولئن كان قائماً وقد أعطاه الله موهبة سامية فليحذر من السّقوط. كيف يكون الحذر؟. الحذر يكون بتعاون الشعب مع الرعاة الذين أوكلَت إليهم رعاية ذلك الشعب، يكون الاحترام متبادلاً، يكون الراعي أميناً في كل شيء كما يكون الشعب أميناً في خدمة ربنا وبهذا فقط أيها الأحباء يربح الشعب ويربح الكاهن والراعي أرباحاً طائلة روحيّة هي ملكوت الله، لأن الراعي هذا الذي يخدم شعبه يريد خلاص نفسه كما يريد خلاص الشعب كما قيل عن هرون وخلاص الشعب أن يقدّم الذبائح عن خطاياه وعن خطايا شعبه لينال التبرير.
ليعطِ إلهنا مكافأة لأحبار الكنيسة وكهنتها الذين خدموا الشعب بإخلاص وتمسّكوا بإيمان الآباء، الإيمان المسلّم إلينا من الرسل الأطهار والذين كانوا مثالاً طيّباً للشعب. ليعطهم من شعبنا جميعاً أن يكونوا في كنيسة الأبكار أنواراً لا تُطفأ أبداً ليتنعّموا مع مسيحنا ويقدّموا عنّا صلوات هي بخور أمام ذبح إلهنا لنحيا حياة طهر وقداسة على هذه الأرض ولنلتحق بهم أيضاً في الآخرة في السّماء الحالة التي أتمناها لي ولكم بشفاعة الآباء القديسين ونعمة الرب تشملكم دائماً أبداً آمين.
أحــد الكهنـــــة (2)†
«ولا يأخذ أحد هذه الوظيفة بنفسه بل المدعو من الله كما هرون أيضاً»
(عبرانيين 5: 4)
بعد أن يشرح الرّسول بولس الوظيفة السّامية التي يقوم بها رئيس الكهنة وخاصةً طلب المغفرة للخطاة وتقديم القرابين، ليس عن الشّعب فقط بل عن نفسه أيضاً لأنه هو من الشعب ومعرض للتجارب، بعد أن يعلن هذا الإنسان أنه هو إنسان كسائر الناس، ولكنه يُدعى من الناس، الله يدعوه ن بين النّاس ليتقدّمهم ويقدّم القرابين عن نفسه وعن الشّعب أيضاً، ويأتي بمثلٍ عن انتخاب هذا الإنسان من الله فيقول: كما هرون أيضاً، ونحن نعلم كيف أن هرون انتخبه الله عندما أمر موسى أن تؤخَذ من كل سبطٍ عصا، وأن توضع هذه العصي أمام ربّنا، ثم أن عصا هرون أفرخت وأعطت لوزاً. هذه الآية برهنت على أن الله قد اختار هرون ليكون رئيس كهنته، لذلك يأتي الرسول بولس بهذا المثل.
أما في العهد الجديد فمهمّة الكاهن كما هي في العهد القديم بالنسبة إلى تقديم القرابين ولكن في الوقت نفسه نطلب المغفرة لأبناء الشعب.
كيف كانت القرابين تُقدَّم في العهد القديم؟
كان الخاطئ التائب يأتي بحمل وديع حَوْليّ أمام الكاهن ويضع يده على رأس الحمل ويعترف أمام الكاهن بخطاياه، فتنتقل هذه الخطايا من هذا الخاطئ إلى الحمل الوديع، ثم يؤخذ الحمل ويُقدَّم للرب ويُحرَق أيضاً. وهذا برهان على أن عقاب الخطيّة هو الموت، ولكن الموت قد انتقل إلى هذا الحمل. هكذا كانت مشيئة الله وهذا الحمل وكل الحملان التي قُدِّمَت كانت ترمز إلى المسيح حمل الله الذي رفع خطايا العالم أجمع. والكاهن كانت له سلطة ليغفر تلك الخطايا لأن الله قد أعطاه ذلك، انتقاهُ وانتخبه من بين الناس ليتقدّم الناس كما يقول الرسول بولس، ويقدّم القرابين عن نفسه وعن الناس كافةً.
أما كهنوت العهد الجديد، فبعد أن زال كهنوت العهد القديم عندما قدّم المسيح نفسه ذبيحة عن الخطاة، أراد بعد أن أسّس كنيسته على صخرة الإيمان به أنه ابن الله الحي، وأخيراً هو الفادي المخلّص الذي بذبيحته نلنا الفداء ومغفرة الخطايا. أعطى هذه السلطان بعد أن أسّس الكنيسة وقال لبطرس: أنت بطرس وعلى هذه الصّخرة، صخرة الإيمان به أنه ابن الله، أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها. حالاً أعطى بطرس سلطاناً لمغفرة الخطايا، هذه هي سلطة رئاسة الكهنوت كما كان هرون رمزاً لهذه السلطة فقال له: ما تحلّه على الأرض يكون محلولاً في السّماء، وما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السّماء، بل قال له أيضاً: أعطيك مفاتيح ملكوت السّماء، أي مفاتيح الغفران، مفاتيح الحلّ والربط أي السّلطة والقوّة الإلهيّة. بعدئذٍ أعطى هذه السّلطة للرسل مجتمعين عندما ظهر لهم في عشيّة يوم قيامته من بين الأموات في العليّة والأبواب مغلقة ونفخ في وجوههم وقال لهم: اقبلوا الروح القدس، من غفرتم خطاياه غُفرَت ومن أمسكتم خطاياه أُمسكَت. يقول آباؤنا أن الرب يسوع في ذلك الحين رسم رسله كهنةً، وبعدئذ قبل صعوده إلى السّماء أخذهم إلى بيت عنيا ورفع يديه وباركهم، حينذاك انفرد عنهم وصعد إلى السّماء فسجدوا له معترفين بأنه هو الإله الحق، لأنه لا يمكن أن يسجدوا لإنسان وعادوا إلى أورشليم فرحين، حينذاك يقول آباؤنا أن الرب أعطاهم سلطان رئاسة الكهنوت ورسمهم أساقفة. هذا السلطان بالذات تسلسل في كنيستنا، منذ بدء هذه الكنيسة التي أسّسها على صخرة الإيمان به وبقيت متمسّكة لا بالعقيدة فقط، بل أيضاً بفروض الكنيسة وطقوسها وأحكامها سائرة وراء الرّسل الأطهار مقدّمة الشّهداء في سبيل تثبيت الإيمان.
وكهنتها يهتمّون بإكمال واجبهم بتقديم الذبائح. لم يكن الرسول بولس ليقول ذلك لو كان للكهنوت اللاّوي كمالٌ لما كانت حاجة إلى كهنوت آخر. أن يُقام المسيح يسوع عظيم الكهنة والحبر الأعظم على رتبة ملكيصادق وليس على رتبة هرون. رتبة ملكيصادق أن تُقدَّم القرابين بالخمر والخبز، كما كان ملكيصادق قد انفرد عن كل الذين كانوا يقدّمون القرابين، كانوا يقدمون القرابين الحيوانية، أما هو فكان يقدّم الخبز والخمر. فكهنوت العهد الجديد، كهنوت المسيح يسوع اختلفت قرابينه عن سائر قرابين كهنوت هرون، فصار قرباننا الخبز والخمر اللذين أعطاهما الرب ليلة آلامه ويُدعَى سرّ جسده ودمه الأقدسَين، لذلك يقدّم كاهن العهد الجديد هذا القربان لمغفرة خطايا من يتوب عن خطاياه مؤمناً بالمسيح يسوع فادياً ومخلّصاً للبشرية، الكاهن له هذا السلطان لأنه أُعطي من الله.
العديد من الناس في أيامنا هذه يظنّون أن ذلك أمرٌ يسيرٌ وبسيط، والذين حادوا عن الإيمان لا يعترفون بسلطان الكهنوت، لا نستغرب، فحتى في عهد موسى جاء قورح وقال: طالما الشعب والأمّة مقدسة فكلّنا كهنة، هذا ما قاله لموسى وهرون فضربه الله ومن لف حوله حينذاك. حتّى اليوم يعتقدون أن الكهنوت عام لكل الناس لأنَّ، الرسول بطرس بالذات قد قال: نحن شعب ملوكيّ وكهنوت مقدّس. فظنّ هؤلاء الضّالّون والمضلّون أن كل الشعب كهنة. هل يعقل أن يكون كل الشّعب أيضاً ملوكاً، ولماذا إذن الرسول بولس يقول عن رئيس الكهنة أنه يؤخَذ من الناس، من الناس لأنه من الشعب، يحق له الآن لا سبط لاوي ولا نسل هرون، بل كل من يؤمن بالمسيح من الذكور، يحق له أن يصبح كاهناً إذا انتخبه الله. يؤخَذ من الناس لكي يتقدّم الناس لتقديم القرابين غير الدمويّة. القربان المقدّس الذي يقدّمه على المذبح يمثّل ذبيحة السيّد المسيح بالذات، الكاهن إلى الأبد كما قال عنه العهد القديم: على رتبة ملكيصادق، وهذه العبارة ذكرها داود في مزاميره، وذكرها أيضاً الرسول بولس مستشهداً بداود أن المسيح هو كاهن إلى الأبد على رتبة ملكيصادق.
هذا هو الكهنوت المسيحي أيّها الأحبّاء: الله ينتخب الإنسان ويدعوه، فإذا لبّى الدعوة يرسله كما أرسل رسله وكما قال لهم: كما أرسلني الآب أرسلكم أنا، ويمنحهم سلطان الروح القدس، والسلطان ليدير الكنيسة ويرعاها وليكون أيضاً ممثّلاً للمسيح وسفيراً له، ثم ليغفر الخطايا ويمسكها وتغفر الخطايا التائبين الذين يعودون إلى الله، وتُمسَك خطايا المتمرّدين كقورح الذي تمرّد على موسى وهرون وظنّ أن سلطان الكهنوت هو للشعب عامة دون أن يُدعى أحد من الشعب من الله. الدّعوة القديمة كانت كما هرون أيضاً، والدعوة في العهد الجديد يقوم بها الروح القدس بالذات. يُذكَر في سفر أعمال الرسل أن الرسل كانوا والتلاميذ يصومون ويصلّون فناداهم الروح القدس قائلاً: افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي اخترته لهما. هذا الصّوت يأتي إلى رؤساء الكهنة اليوم، فينادون بأن يُفرَز فلان وفلان لعمل الكهنوت ولئن كانوا هم يقومون بذلك، إنما وراء ذلك الروح القدس بالذات. يأتي الإنسان ليخدم كنيسة الله، لا ينال الرّاحة والهناء في هذه الحياة، بل بالعكس يُدعى للشقاء بالجسد ولكن مكافأته من الله. الرّسول بولس يقول عن نفسه: جاهدتُ الجهاد الحسن، أكملتُ السّعي، حفظتُ الإيمان وأخيراً قد وُضِع لي إكليل البر الذي أعدّه لي الرب الديّان العادل في ذلك اليوم. إذن مكافأة من يخدم الكهنوت من السّماء، أما في الحياة فوظيفة الكهنوت هي وظيفة الأتعاب الجمّة. نرى آباءنا منذ بدء المسيحية، منذ أن تأسّست الكنيسة وإلى اليوم يجاهدون الجهاد الحسن ويحفظون الإيمان ويكملون السّعي كما قال الرسول بولس عن نفسه.
يوم الخميس عادةً بعد صوم نينوى نعيّد لمار سويريوس، وفي طقسنا الشرقي نعيّد لمار اغناطيوس. نرى آباءنا ونحن نعيّد لهم، نكمّل ما أمرنا به الرسول بولس به أن نذكر مرشدينا الذين بشّرونا بكلمة الله، أنن نظر إلى نهاية سيرتهم ونتمثّل بإيمانهم لذلك نعيّد لآبائنا القدّيسين. نرى مثلاً اغناطيوس النوراني البطريرك الثالث للكرسي الرّسولي الأنطاكي، الذي اعتُبرَت رسائله السّبع كرسائل الرّسل وهو من تلاميذ الرّسل الذي استشهد في سبيل التمسّك بالإيمان. ونرى مار سويريوس في القرن السّادس كيف ثبّت إيمان الكنيسة واضطُهِد ولم يستشهد فدُعي معترفاً ودُعي معلّم الكنيسة عامةً. نرى مار يعقوب البرادعي الذي ثبّت إيماننا الذي تسلّمناه من الرسل وجاهد الجهاد الحسن فدُعي المجاهد الرّسولي. نرى آباءنا في هذا الجيل أيّها الأحبّاء، البطاركة العِظام والمطارنة الميامين الذين خدموا بيت الله بتقوى الله ومخافته. أذكر منهم مثلّث الرّحمة البطريرك الياس الثالث الذي أعلنّاه قدّيساً في الهند وللهند، لأنه جاهد الجهاد الحسن في تلك البلاد وثبّت الإيمان ومات من كثرة المتاعب التي لا نزال إلى الآن باستمرار ننال من ذلك القسم الكنسي في تلك البلاد. نرى البطريرك أفرام الأول الذي كان في هذا الجّيل بادئاً بالنهضة الثّقافيّة والروحيّة والرعويّة في كنيستنا بعد سنين عديدة، بعد ابن العبري في القرن الثالث عشر، لم يقم لنا مثل البطريرك أفرام الذي نهض بالكنيسة حقّاً في ميادين شتّى. نرى البطريرك يعقوب الثالث الذي أحبّ هذه المدينة بالذات بعد أن كان مطراناً على بيروت ودمشق وبهمّته وبقرار المجمع المقدّس انتقل الكرسي البطريركي إلى دمشق، وبذلك رفع مستوى هذه الأبرشيّة من أبرشية مطرانيّة إلى أبرشيّة بطريركية، وسنزيّح ضريحه بعد الانتهاء من كلامي.
في هذا اليوم الذي نسمّيه (أحد الكهنة)، الذي فيه نذكر كل الكهنة الذين خدموا هذا المذبح المقدس بدرجاتهم ورتبهم كهنةً ومطارنةً وبطاركة وحتّى شمامسة الذين اشتركوا بتقديم الذبائح الإلهيّة على هذا المذبح المقدس. نرى آباءنا أيّها الأحبّاء ونتشفّع بهم لأنهم قد جاهدوا الجهاد الحسن، وقد اختارهم الله وأرسلهم، فبشّروا حاملين مشعل الإنجيل إلى أماكن عديدة وأيضاً ساعين إلى إرشاد المؤمنين إلى طريق الحق والحياة، طريق المحبة، طريق المسيح، طريق الفداء لينالوا نعمة ربنا وإلهنا يسوع المسيح، نعمة الخلاص والتبنّي ليكونوا أبناء الله وأخيراً ورَثة ملكوته السّماوي. ليعطهم الرب نصيب الأبرار الصّالحين، الوكلاء الأمناء الحكماء الذين تاجروا بالوزنات وربحوا وسيقيمهم الرب في ملكوته عند مجيئه الثاني على مناطق عديدة، بل على شعبهم المبارك في السّماء.
ليعطنا الرب جميعاً نصيب الأبرار والصّالحين بشفاعتهم، ونعمته تشملكم دائماً أبداً آمين.
أحد الموتى
أحد الموتى
أحـــد الموتــــــى (1)†
«وسمعت صوتاً من السماء قائلاً لي: أكتب طوبى للأموات الذين يموتون في الرب منذ الآن نعم يقول الروح لكي يستريحوا من أتعابهم وأعمالهم تتبعهم»
(رؤيا 14: 13)
ما أسعد الذين يعيشون للرب وفي الرب لأنهم أيضاً يموتون في الرب مسترحين من أتعابهم وأعمالهم الصالحة تتبعهم فيكافأون على إيمانهم ومحبتهم ورجائهم ولكن أيضاً ما أشقى الذين يعيشون بعيدين عن الله لأنهم يشقون في حياتهم متمرغين في خطاياهم يائسين من المغفرة كما أنهم إذ يموتون يلاقون العذاب الأبدي أما الذين يرقدون في الرب فإن يوم الموت لديهم خير من يوم الولادة فالإنسان عندما يولد تبدأ لديه حياة الشقاء على هذه الأرض كما أن كل إنسان مثله ولكنه بإمكانه أن يحول الشقاء إلى هناء بالرب فيفرح بإلهنا الذي يعمر قلبه والذي يرافقه طيلة أيام حياته على الأرض لذلك إن كان الحكيم قد قال إن الإنسان مولود المرأة قليل الأيام وشبعان تعباً فإن هذا الإنسان بالذات مهما كانت أيامه قليلة ومهما كانت أتعابه كثيرة فإن تلك الأتعاب خفيفة جداً لأنه يعتبرها نير المسيح الذي قال أن نحمل نيره علينا لأن نيره خفيف وحمله هين فالإنسان الحكيم هو الذي يربح السماء بدنياه ويكنز له كنوز بالسماء بأعمال الإيمان والرجاء والمحبة فيموت بالرب ويستحق الطوبى التي أعطتها السّماء بوساطة يوحنّا الرّائي الذي لأعلن له الروح أن يكتب: طوبى للأموات الذين يموتون بالرب منذ الآن يقول الروح لكي يستريحوا من أتعابهم وأعمالهم تتبعهم (رؤ 14: 13). الإنسان المؤمن الذي يستحقّ الطّوبى يكون قد وضع رجاءه بالرب، أما البائس الذي يخشى الموت لأنه عمّر دنياه على حساب خراب آخرته، فهذا الإنسان يبقى شقيّاً في الأرض كما يبقى شقيّاً بعد الموت لأنه يجهل ما وراء القبر. لقد وضع الله في قلب الإنسان أمرين لابدّ أن يعتقد بهما فهو فطريّاً لابدّ أن يعتقد بقوّة فائقة الطبيعة قد يدعوها مثلنا إلهاً يعبد، كما أنه فطرياً لابدّ أن يعتقد أن حياته على الأرض ليست هي فقط الحياة لديه، بل هناك أبديّة. إننا نقرأ في التاريخ عن الأمم الوثنيّة أنها كانت تصنع لها آلهة تعبدها لأنها فطريّاً لابدّ أن تعبد إلهاً، فنقرأ أيضاً عن هذه الأمم أنها كانت تدفن مع موتاها المأكل والمشرب، كما تدفن أسلحة. وبعض الأمم تعتقد أيضاً ولئن لم تكن تدفن مع موتاها شيئاً أن هؤلاء الموتى سيقومون ثانيةً، بل لهم حياةً ثانيةً ولكن لا يستطيع الإنسان أن يدرك ما وراء القبر لأن عقله محدود جدّاً، أمّا المؤمن فيلتجئ إلى الوحي الإلهي، الوحي وحده هو الصّادق بإعلان هذه الحقائق السّماويّة. نرى أن الوحي الذي أعلن لنا في الكتاب المقدس في نظام العهد القديم على يد موسى يعلن لنا أننا تراب الأرض، فقد جبلنا الله بشخص آدم من التراب ونفخ في أنف آدم نسمة الحياة فصار آدم نفساً حيّاً، ونرى أيضاً أن الوحي الإلهي على لسان صاحب الجامعة الحكيم سليمان يصف لنا الموت إذ يقول: ويرجع التراب إلى الأرض كما كان وتعود الروح إلى الله باريها، فنحن إذن نعلم ما وراء القبر لأننا مؤمنون. إذا كان الفلاسفة قد عجزوا عن إدراك ذلك والمفكّرون وقفوا حاسريّ الرأس عاجزين أيضاً عن تفسير هذه الظّاهرة، ظاهرة الموت فإن الكتاب المقدّس يعلن بكل وضوح أن جسدنا سيكون للتراب لأنه أخذ من التراب، ولكن نفوسنا حيّة وستعود إلى باريها ستعود إلى الله باريها. هذه النفوس هي التي خُلقَت على شبه الله كمثاله ولذلك قيل في التوراة أننا خُلقنا على شبه الله لأن نفوسنا ناطقة أي عاقلة فكّر تختلف عن نفوس البهائم وسائر المخلوقات لأنها تدرك الماضي والحاضر والمستقبل ولذلك تطمح إلى معرفة ما وراء القبر، إلى معرفة الأبديّة. وفي العهد القديم أيها الأحبّاء نرى أن الله سبحانه وتعالى قد أظهر لذلك الشّعب القديم آيات كثيرة على يد أنبيائه ليعلّمهم أن قدرة الله على قيامة الموتى ظاهرة لابدّ أن تمون في الأبديّة، ولهذا قد أظهر لحزقيال البقعة المليئة بالعِظام النخرة وأمره أن يتنبّأ عن تلك العظام، فاجتمعت إلى بعضها وكوّنت أجساداً ربطتها أعصاب وامتلأت باللحم وكُسيَت في جلد، ثم قال له أن يتنبّأ عن الرّوح فتنبّأ، فحلّت الروح على تلك الأجساد فقامت جيشاً جرّاراً. هذه الآية التي أعلنها الله لحزقيال تبرهن لنا عن قدرة الله على إقامة الموتى، ولكن من أوضح لنا هذه العقيدة هو المسيح يسوع ربنا الذي هو ابن السّماء وابن البشر في آن واحد، فقد أقام الموتى بقوّته الإلهيّة الذاتيّة، بل أيضاً مات لأجلنا وبذلك دحر الموت إذ قام في اليوم الثالث منتصراً وحقَّ له أن يقول ما قاله على لسان النبيّ: أين شوكتك يا موت وأين غلبتكِ يا هاوية، ونِعم ما قالته السّماء على لسان صاحب الرؤيا: طوبى للذين يموتون في الرب منذ الآن، منذ الآن، منذ أن تمّ الفداء بالمسيح يسوع، منذ أن انتصر المسيح على الموت، منذ أن حوّل المسيح القبر المظلم إلى غرفة مضيئة يسكنها المسيح بالذات مع هذا الإنسان الذي عاش بالمسيح وللمسيح، فلا يخشى المؤمن بالمسيح الموت ولا الهاوية ويرى في الموت المرحلة التي ينتقل فيها من شقاء الحياة، حياة الدنيا إلى السّعادة الأبديّة لتنضمّ روحه إلى أرواح الأبرار والأتقياء. إلى القدّيسين، إلى أرواح الملائكة في الفردوس منتظرة بسعادة يوم الدّين لكي تكافأ مع الجسد المكافأة التي يتمنّاها كل مؤمن بالمسيح، السعادة الأبديّة مع ربّنا.
طوبى لموتى الذين يموتون في الرب منذ الآن لكن يستريحوا من أتعابهم وأعمالهم تتبعهم. ما أسعدنا إن عشنا للرب أيها الأحبّاء لكي ننظر الرب في مجيئه الثاني، فقد وعدنا أن سيقيمنا عندما يعلن رئيس الملائكة ببوق، بل عندما نسمع صوته لنقوم قيامة الأحياء إن كنّا صالحين، وهذا ما نتمنّاه. كما يقوم الأشقياء قيامة الشّقاء والعذاب، قيامة الدينونة ولكننا إذ نؤمن بالمسيح الذي وعدنا أن يؤهّلنا لنملك معه إلى الأبد ونحن نؤمن بقوّته الإلهيّة وهو صادق إذ قال أنه هو القيامة والحياة ومن آمن به وإن مات فسيحيا.
فلنبقَ أحياء به هو في هذه الحياة وحياتنا به أيها الأحباء هي حياة الإيمان به والطّاعة لشريعته الإلهية. حياة المؤمنين الذين لهم رجاء في المسيح في هذه الحياة وفي الأبديّة ولذلك يقول الرسول بولس: أمّا الآن فالمسيح قد قام وصار باكورة الرّاقدين والباكورة هي أوّل الحصاد وأفضله، والموتى يسمّيهم الرسول بولس: الراقدين الذين ناموا ليستيقظوا يوم القيامة على صوت المسيح كما قال، ستأتي ساعة يسمع فيها جميع الذين في القبور صوت ابن الله، ومن الذي يسمع إذا كان ميّتاً فهؤلاء أحياء وسيسمعون صوت الرب في مجيئه الثاني فيقومون قيامة الحياة، والرسول بولس أيضاً أيها الأحباء يوصينا ألاّ نحزن كثيراً على الرّاقدين النائمين بالرب كم لا رجاء لهم. فأمس احتفلت الكنيسة بسبت الأموات وذهب أغلبكم إلى المقبرة والمقبرة مقدّسة كالكنيسة لدينا، واحتفلت الكنيسة بالقداس الإلهي في المقبرة لأنها تؤمن أنها بالصلاة فقط تستطيع أن تتّصل بأرواح الذين ماتوا وهم أحياء، أحياء بالروح يؤلّفون كنيسة الأبكار في السّماء، ونحن في القداس الإلهي عندما نصلّي أمام ربّنا نقول له: إننا نذكرهم، نذكر أولئك الموتى الأحياء لكي يذكرونا أمامك فهم أيضاً يواصلون الصّلاة معنا، يحضرون أيضاً القداس الإلهي كأرواح معنا. لذلك عندما يصرف الكاهن الشّعب يقول: اذهبوا بالسلام الأحياء منكم والأموات هؤلاء الذين انتقلوا إلى السماء وهم أحياء وهم معنا أيضاً.
أيها الأحباء:
عندما نكون نحن مع الرب بصلواتنا وخاصّةً بصلاة القداس فخير عزاء لنا عند ذكر موتانا أن نصلّي لأجلهم ليرحمهم الرب وإيانا في يوم الدّين. فليرحم إلهنا موتاكم وموتانا ويؤهّلنا وإيّانا لنكون معهم أرواحاً طاهرة نقيّة في فردوس النّعيم ونكون معهم مع المسيح الذات متنعّمين على مائدته السّماويّة إلى الأبد ونعمته تشملكم دائماً أبداً آمين.
أحـــد الموتــــــى (2)†
«وكما وُضع للناس أن يموتوا مرّةً ثم بعد ذلك الدينونة هكذا المسيح بعد أن قُدِّم مرّة لكي يحمل خطايا كثيرين سيظهر ثانيةً بلا خطيّة للخلاص للذين ينتظرونه»
(عبرانيين 9: 27 و28)
الموت وُضع على الناس. كيف دخل الموت إلى عالم الإنسان؟
من الكتاب المقدّس نعلم ونتعلّم أن الموت دخل عالمنا بدخول الخطيّة والخطيّة إذا تمخّضت ولدت موتاً، والموت عدوّ لنا ومن الحكمة أن نعرف عدوّنا وقوّته لأنه لابدّ لنا أن ننازله في سوح قتال روحي، فإمّا يهيمن علينا وينتصر، وإمّا نفوز به لنتخلّص من قوّته وظلمه. دخل الموت عالمنا، ولكننا ولئن كنّا نخضع له قهراً، فإن كنّا نؤمن بقوّة إلهنا الذي خلّصنا نستطيع أن نغلب الموت إذ غلب ربنا الموت وأعطانا النصر عليه. الموت عدلٌ وحقّ، لا يستطيع أن يتخلّص منه الإنسان ولا يستطيع إنسان أن يفدي نفسه بمال أو جاه أو مركز مرموق، ولذلك أيضاً نتعزّى لأن الموت يساوي بين البشر كافةً.
وُضع الناس أن يموتوا أوّلاً، كيف نعرف هذا؟
العدوّ دخل عالمنا بوساطة الخطيّة ولا يستطيع أن يتخلّص منه إلاّ بالإيمان بالرب يسوع وقبول الخلاص الذي تحمله عنا على الصليب حيث أمات الموت ودفنه حيث هدم الهاوية وقام حيث أقامنا معه، فعلينا أن نبرهن على تقبلنا الخلاص بالمسيح بالبر والتّقوى ومخافة الله. حُكِم علينا بالموت يوم خضعنا لإبليس ولم نُطِع إلهنا وشككنا في قوله لنا. حُكِم علينا بالموت الطّبيعي لأننا خضعنا للموت الأدبي، وإن بقينا خاضعين له سننال أيضاً الموت الأبدي. هذا هو الموت أيها الأحبّاء، ولكن ما هو وكيف يحدث لا نفهم هذه الحقيقة الإلهية ما لن نعُد لنعرف ما نحن، ما هو الإنسان. إننا أيضاً استناداً إلى كتاب الله العزيز نعرف الحقائق الإلهيّة من مصدرها الذي هو الوحي الإلهي، فنعلم أن الله خلق الإنسان من تراب الأرض ونعلم أن الله نفخ في الإنسان نسمة الحياة، فصار آدم نفساً حيّة ومن ذلك نعلم أن الإنسان مركَّب من روح وجسد، جسد ترابيّ وروح هي هبة من الله، وإن هذه النفس تملأ هذا الجسد وتفيض عليه وهي موجودة في كلّ عضو من أعضائه ولئن وُجدَت في القلب والعقل خاصةً، لأنهما قد وُجدا لاستمراريّة الحياة في جسد الإنسان. من هنا نعلم أيضاً ما هو الموت، وصاحب الجامعة يقول إن الجسد الذي هو التراب يعود إلى الأرض كما كان، أمّا الروح فترجع إلى الله واهبها وباريها وخالقها. إذن نحن نعلم أن الإنسان نفسٌ وجسد، وإن الإنسان إذا ما فارقت نفسه جسده ولئن مات الجسد وعاد إلى التراب فالنفس تعود إلى الله، تبقى حيّة خالدة. والكتاب يوضّح لنا ذلك، بل المسيح يسوع نفسه الذي يريدنا أن نعلم أن النفس أفضل من الجسد، المسيح عندما مات على الصليب سلّم روحه بيد أبيه قائلاً: يا أبتاه في يديك أستودع روحي. ألهم يسوع تلاميذه لكي يعرفوا ما هي النفس، فاسطيفانوس مثلاً عند استشهاده طلب إلى المسيح أن يقبل روحه، فالروح غير الجسد، فالإنسان إذا انفصلت روحه عن جسده ولئن مات بالجسد، ولكنه خالد بالروح لأن الروح هي نسمة الله ولن تموت أبداً. وُضع للناس أن يموتوا أوّلاً وبعد ذلك الدينونة، وما بين الموت والدّينونة لابدّ أن نعرف ما مصير الإنسان، هل هو الجسد الذي يُدفَن في الثّرى وننتحب ونبكي عليه؟، هل هو الجسد الذي نزوره عندما نزور القبور، وهذه عادةٌ جميلة جدّاً لأنها تبرهن عن محبّة عميقة لأولئك الذين رحلوا عنّا ولئن رأينا أجسادهم قد تحوّلت رميماً أو عظاماً نخرة، ولكننا نشعر بأن أرواحهم معنا تشعر بنا وتلمس محبّتنا وتكون معنا أثناء تقديمنا القرابين الإلهيّة في الكنيسة دائماً، ولذلك عندما يصرف الكاهن الشّعب يقول لهم: اذهبوا بسلام الأحياء فيكم والموتى، فالموتى الذين نراهم كأنهم موتى لأن أجسادهم تعود إلى التراب كما كانت فهي حيّة لأن أرواحهم حيّة. في هذه الفترة الأبرار والصدّيقون الأتقياء، الأتقياء والقدّيسون أرواحهم تتنعّم في الفردوس لا في الملكوت السّماوي، في الفرودس مع أرواح الآباء والأتقياء. تكون يف الفردوس تنتظر يوم القيامة العامّة لتتّحد بأجسادها وترث ملكوت الله، تلك الأرواح تكون مع روح اللّص التّائب الذي صُلب مع المسيح وآمن بالرب يسوع وطلب منه أن يذكره في ملكوته عند مجيئه، فقال له الرب: الحقّ أقول إنّك اليوم تكون معي في الفردوس. ولكن أرواح الأشرار تبقى في الهاوية تتعذّب أيضاً مع الأبالسة، تنتظر بخوف ورعب اليوم الأخير، يوم العقاب، يوم المجازاة على الآثام والخطايا التي ارتكبوها في هذه الحياة.
في هذه الفترة نرى أنفسنا أيها الأحبّاء ونحن نقدّم الصّلوات عن أنفسنا وعن أحبّائنا الرّاقدين، نطلب الرّحمة من الرب لكي يغفر لنا ولهم في يوم الدّين وننتظر مجيء المسيح كما ينتظرونه هم أيضاً. الرسول بولس يصف ذلك بوضوح: يرانا إن جاء المسيح ونحن أحياء تتغيّر أجسادنا إلى أجساد روحانيّة ونختطف معه في الجوّ وأرواح الأبرار والأتقياء، وحتّى أرواح الأشرار تتّحد بأجسادها تستعد لتقف أمام منبر المسيح، هناك دينونة واحدة يقف فيها الناس جميعاً ليحاكموا من المسيح الذي هو الديّان العادل ولينال الأبرار المكافأة ليرثوا ملكوته السماوي الذي أُعِدّ لهم قبل إنشاء العالم، الحالة التي أتمناها لي ولكم بنعمته تعالى آمين.
أحـــد الموتــــــى (3)†
«قال الحكيم ابن سيراخ: اذكر أواخرك في جميع أفعالك فلن تخطئ أبداً»
(سيراخ7: 40)
بحكمة إلهية نظم آباء الكنيسة القديسون الطقس الكنسي بحسب الأعياد والآحاد، وصادف الأحد الماضي أحد الكهنة، وقد ذكرنا فيه الكهنة الذين خدموا مذابح الرب، ثم في هذا الأحد نذكر الموتى المؤمنين كافة وكأننا بذلك نريد ويريد آباؤنا أن يذكرونا بأن الحياة على الأرض بالنسبة لكل إنسان تبدأ وتنتهي، ولهذا ففي هذا اليوم أحد الموتى يذكرنا الآباء بالموتى لنذكر أولاً أمواتنا الراقدين بالرب ونبدي شعور المحبة لهم وإن غادرونا إلى العالم الثاني. وفي الوقت نفسه ننصت جيداً إلى وصية الحكيم ابن سيراخ في سفره في العهد القديم أن نذكر عواقبنا وأولى تلك العواقب الموت أن نذكر ذلك في جميع أعمالنا لكي لا نخطئ.
ففي غمرة الحياة في الفترة الزمنية ما بين مهد الإنسان ولحده تراود الإنسان أفكار عديدة وتصادفه أسئلة شتى إذا ما حاول أن يجيب عليها من عندياته أو اعتمد على العقل والمعرفة الإنسانية هوى في وهدة الإلحاد والضلالة والابتعاد عن الله. فليس له إلا أن يلتجئ إلى الوحي الإلهي ليأخذ الأجوبة الصحيحة السليمة، فما هو السؤال الأهم في حياتنا، نحن نرى كل يوم مواكب الموت تسير هنا وهناك ونظن أن الموت يصيب البشر كافة ولكن لن يصيبنا، وبذلك لا نتذكر عواقبنا ثم نتساءل ما وراء الموت وما هذه المهزلة، أيخلقنا الله للسخرية والمزاح لنسعى شاقين في هذه الحياة ثم نموت جسداً ونفساً ونتلاشى؟ أين العدالة؟ أيذهب الظالم بظلمه إلى لحده وليس هناك من يحاسبه عما اقترفه من الظلم والطغيان؟ أيذهب المظلوم بعذابه وشقائه وليس هناك من ينصفه؟ ماذا وراء القبر؟ عندما نريد أن نعرف ما هو الموت علينا أن نعرف أولاً كيف نلنا الحياة، والكتاب المقدس يظهر لنا كيف أن الله سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان الأول آدم جبله من تراب الأرض ونفخ فيه نسمة الحياة فكان حياً. مهما سما عقل الإنسان ومهما بدت التكنولوجيا راقية جداً فلن تستطيع أن تصنع إلا جسد إنسان حتى لو كان من لحم ودم ولكن هل تستطيع أن تمنحه الحياة، فهناك سر إلهي تذكره أسفار الكتاب المقدس أن الله نفخ في آدم نسمة الحياة فصار آدم نفساً حية، هذا هو السر في خلقة الإنسان، عقلاً مدركاً، وقابلية الإبداع، ونفس ناطقة، إن فينا نسمة الله فينا حياة فينا روح هي غير الجسد وهي التي تهيمن على الجسد وهي التي تعطي الجسد قوته وأفكاره وهي التي لن تموت أبداً ولئن مات الجسد بحسب تعبير الكتاب أيضاً، وهو يصف الموت يعود الجسد إلى التراب كما كان وتعود الروح إلى الله باريها إذن إذا ما مات الإنسان لا يموت نفساً وجسداً إنما يموت الجسد ويتلاشى ويعود إلى التراب كما كان أما الروح فنعود إلى الله باريها.
المسيح يسوع أوضح لنا أن الإنسان مهما كان مغروراً لا يظن نفسه جباراً لا يستطيع وهو يضطهدنا أن يقتل الروح، لذلك شجعنا الرب: لا تخافوا ممن يقتل الجسد لكن الروح لن يستطيع أن يقتلها خافوا بالحري ممن يستطيع أن يجعل النفس والجسد كليهما في جهنم. إذن ما وراء القبر حياة ثانية تبدأ بموت الإنسان جسدياً إي بمغادرة الروح جسدها، ولكن الرسول بولس يوضح لنا أنه قد وضع للناس أن يموتوا مرة وبعد ذلك الدينونة فماذا عن الدينونة وأين تقضي الروح فترتها الزمنية وهي تنتظر الدينونة؟ إننا نحتاط بالملائكة الأبرار والأشرار فالذين منا قد نالوا الخلاص بالمسيح ربنا وآمنوا بالفداء بدمه الكريم الذين يقتفون أثر المسيح سيرة وسريرة براً وقداسة الذين وضعت الأبدية في قلوبهم فيفتكرون في الحياة الخالدة بملكوت الله في السماء هؤلاء هم أصدقاء الملائكة الأخيار هؤلاء إذا ما غادرت نفوسهم أجسادهم يحمل الملائكة الأخيار أرواحهم إلى فردوس النعيم حيث يكونون مع المسيح، ألم نسمع المسيح يعد اللص الذي آمن به وهو على الصليب قائلاً له: الحق أقول لك أنك اليوم تكون معي في الفردوس. فأرواح الأبرار إذن تكون في الفردوس مع الملائكة مع يسوع المسيح ربنا تنتظر يوم القيامة العامة يوم الدينونة.
أما الأشرار فأرواحهم يهيمن عليها الملائكة الأشرار الذي هم الشياطين ويذهبون بهم إلى الهاوية لينتظروا بحزن يوم القيامة فعاقبة الإنسان الأولى هي الموت وهو انفصال النفس عن الجسد وتكون هذه هي العاقبة أليمة جداً لكل من لم يؤمن بالحياة الأبدية ولم يستعد لهذه العاقبة لذلك اليوم الرهيب. وفي حياتنا الأبدية ونحن ننتظر الدينونة لنا في الحياة الدنيا فرصة لكي نعبر عن إيماننا بالله تذكر عاقبتنا فنحيا حياة بالإيمان والإعمال الصالحة، ولنا فرصة نحن الأحياء أيضاً إذا أخطأنا نتوب، والبشر معرضون للخطأ ففي وجودهم مع الملائكة وهم ينتظرون يوم الدينونة في تلك الفترة الزمنية نبدي شعورنا نحو أعزاءنا الموتى الذين سبقونا إلى دار الخلود والنعيم في الخلود وإن كانت النفس في النعيم أو كانت في الملكوت بعد مجيء الرب يسوع وقيامتنا معه وصعودنا جميعاً إلى السماء كنا أحياء كما يقول الرسول بولس أو بعد أن يقيم الرب الأموات لتتحد أجسادهم بأرواحهم وأرواحهم بأجسادهم وينالوا الجسد الروحاني ونحن نتغير أيضاً كما يقول الرسول بولس حينذاك تبدأ الدينونة وفي الدينونة عندما ننال ملكوت الله عندما نكون عن الجانب الأيمن مع الصالحين مع الأبرار مع القديسين حينذاك أيضاً تكون هناك درجات لأولئك الناس، نجم عن نجم يمتاز في المجد.
والصلاة لأجل الأموات، حتى الذين يكونوا قد أضاءوا بشعاعهم بالبر والتقوى بالخلاص بالمسيح يسوع، أولئك الذين يكونون بعيدين عن عرش الرب لنعضدهم بصلواتنا ننتفع نحن أيضاً من الصلاة وينتفعون هم أيضاً فدرجاتهم تترقى ويكونوا بقرب المسيح.
أحبائي لنذكر عواقبنا، نصلي لأجل موتانا وهم أيضاً الأبرار يصلّون معنا في كنائسنا أرواحهم تنتقل وتأتي إلى كنيسة الله وتشاركنا بالصلاة ولذلك الكاهن الذي يقوم بالقداس الإلهي يختمه بصرف الجمهور إلى دورهم وصرف الأرواح الطاهرة النقية إلى مكانها، إلى فردوسها عندما نذكر عواقبنا الموت الفردوس الذي نتوق كالأرواح أن نسكن فيه لنكون مع لص اليمين ومع المسيح بالذات ونذكر القيامة ويوم النشور يوم تتحد أرواحنا بأجسادنا نلبس الجسد الروحاني على شبه جسد المسيح بعد قيامته يوم نصعد مع المسيح إلى السماء يوم نقف يوم الدينونة عن جانبه الأيمن يوم الذي نبدأ يوم الذي لا نهاية له يوم السعادة بعمل الخير بتجنب الشر والخطايا لننتظر مجيء المسيح وننتظر يوم مع المسيح ونرث معه ملكوته السماوي الحالة التي أتمناها لي ولكم بنعمته تعالى آمين.
أحـــد الموتــــــى (4)†
«قال الرب يسوع: لا تتعجبوا من هذا فإنه تأتي ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته، فيخرج الذين عملوا الصالحات إلى قيامة الحياة والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة»
(يو5: 28- 29)
هذه الساعة الرهيبة التي لابد أن تأتي على الناس لأن الرب يسوع قد ذكرها، هذه الساعة التي سيهتف فيها بالبوق ويُسمع صوت ابن الله ليقوم الموتى جميعاً أولئك الذين عملوا الصالحات يقومون قيامة الحياة، وأولئك الذين عملوا السيئات يقومون قيامة الدينونة.
ما أرهب ساعة الموت أيها الأحباء، وما أحوجنا إلى أن نعرف عنها كل شيء وأن نستعد لها فإننا جميعاً لا نختلف على حقيقة الموت كلنا يرى مواكب الموت تسير، ترى يراها الإنسان كل يوم ولكنه يظن أنه لا يموت هذه خدعة إبليس ألم يقل إبليس الذي تلبس الحية لحواء لن تموتا ولكنكما تصيران كالآلهة فمن يظن أنه لن يموت يفتكر في قلبه أنه قد صار إلهاً فيسقط في الكبائر ويكون سقوطه عظيماً.
حقيقة الموت لا بد أن يسلم بها الإنسان ولا يختلف بها اثنان ولكن الدينونة كما يقول الرسول بولس في الرسالة إلى العبرانيين: وُضع للناس أن يموتوا أولاً وبعد ذلك الدينونة، ولكنهم يختلفون بحقيقة الدينونة والموت بالذات إن سلمنا نختلف في تعريفه. ما هو الموت يا ترى ما هو الموت بالنسبة إلى الإنسان الذي خلق على صورة الله كشبهه أنه بحسب تعليم الكتاب المقدس انفصال النفس عن الجسد لأن الإنسان خلق نفساً وجسداً جبله الله من تراب الأرض ونفخ في أنفه نسمة الحياة فصار حياً. والموت وهو انفصال نفس الإنسان عن جسده لتعود النفس أي الروح إلى الله خالقها كما يقول صاحب الجامعة وليعود الجسد إلى التراب كما أن هذا ما نعرفه عن حقيقة الموت وماهيته ولكن القيامة هذه التي تعد أعجوبة العجائب لا يمكن أن يقوم بها إلا من أعطى النفس للجسد الترابي إلا الخالق بالذات وهي عودة الروح إلى الجسد ليقوم قيامة الحياة إن كان من الصديقين أو قيامة أولئك الأشرار إن كان من الأشرار قيامة الموت قيامة العذاب قيامة الدينونة أي جهنم وبئس المصير. ألا نرتعد من هذه الحقيقة؟ هل نحن مستعدون لنتقبل حقيقة الموت هل نؤمن إن ساعتنا ستأتي حتماً وأننا كما ودعنا الآخرين سيودعنا الآخرون استعد للقاء إلهك يقول عاموس النبي. والرب يسوع المسيح أيضاً يقول لنا عن مجيئه الثاني لدينونة العالمين: أننا يجب أن نكون مستعدين ساهرين لأننا لا نعلم في أي ساعة يأتي الرب وهذا ينطبق أيضاً على ذهابنا إليه فالموت هو المرحلة التي نقطعها بعد أن نغادر هذه الحياة لنرحل إلى السماء إن كنا مؤمنين بالرب كما قال إن من يؤمن به وإن مات فسيحيا، وكما قال أيضاً بما ذكره يوحنا في الإصحاح الخامس من الإنجيل الذي دونه: أن المسيح يقول عن الرب أن له أن يميت وأن يحيي كذلك أعطى هذا السلطان أيضاً للابن بل أعطى الابن أيضاً أن يكون ديان العالمين لأنه قد جرب مثلنا مثل البشر كافة بكل شيء ما عدا الخطيئة فهو ديان رحيم لأنه يعرف أن البشر ضعفاء، هذه الحقيقة الإلهية أيها الأحباء تريدنا الكنيسة المقدسة التي هي أمنا ومعلمتنا أن نتذكر في هذا اليوم الذي هو أحد الموتى المؤمنين وفي كل يوم وكل ساعة لنكون مستعدين لملاقاة الرب في الجو عند مجيئه أو لملاقاته عند مغادرتنا هذه الحياة بالموت.
فالموت هو انفصال الروح عن الجسد، العديد من الناس الذين يقول عنهم النبي داود في مزاميره: قال الجاهل في قلبه ليس إله، منهم ينكرون وجود الله لينكروا الأبدية يظنون أنه في ذلك يتخلصون من تلك الساعة الرهيبة عندما ينادي ابن الله فيقوم الذين في القبور، يظنون أنهم إن قالوا إن الإنسان إذا مات فقد مات نفساً وجسداً وإن حياته تنتهي عند باب لحده أنه لذلك يشرعون لأنفسهم شريعة باطلة فيفعلون بحسب شهواتهم الدنيئة ما يشاءون في هذه الحياة لأن الموت بحسب ظنهم هو النهاية للإنسان ولكن نعلم بحسب الوحي الإلهي وما وضعه الله في ضمائرنا أن هناك إله فنؤمن في وجوده ونعبده ونستمع إليه أي نطيع أوامره ونتجنب نواهيه أن هناك إله قد جعل الأبدية أيضاً نتأمل بالروح الروح الخالدة الروح التي لا تموت أبداً التي يقول عنها الرب يسوع أن الناس بإمكانهم أن يقتلوا الجسد ولكن الروح لا يستطيعون أن يقتلوها، ويقول لنا علينا أن نخاف من الذي بإمكانه أن يهلك النفس والجسد كلاهما في جهنم هذه الروح الخالدة هي التي تجعلنا نؤمن بالأبدية وننتظر الساعة التي سينادينا فيها الرب إن كنا ضمن الأموات لنقوم قيامة الأحياء يقول الرب: إنه ينادي أنه يصرخ بصوته إذ يسمع هذا الصوت الأموات إن كانوا أمواتاً ليسوا أحياء بالروح كيف يستطيعون أن يسمعوا ولكنهم أمواتاً ليسوا أحياء بالروح كيف يستطيعون أن يسمعوا ولكنهم بما أن أرواحهم حية بإمكانهم أن يسمعوا صوت ابن الله فتذهب الروح وتتحد بذلك الجسد مهما كان ذلك الجسد قد تبدد وصار رميماً باتحادها تستطيع أن تقوم.
المسيح لم يقل فقط بل فعل أيضاً فقد أقام الموتى بكلمة من فيه وبذلك برهن على أنه حقاً هو القيامة والحياة بل أنه قام من بين الأموات بقوته الإلهية بعد صلبه وموته ودفنه، فقام من بين الأموات بجسده الممجد ورأينا بشخص الرسل والتلاميذ وآمنا أنه حقاَ هو القيامة والحياة وأن كان له سلطان أن يقول لنا لا تتعجبوا من هذا لأنه تأتي ساعة يسمع فيها جميع الذين في القبور صوت ابن الله فيقوم الذين عملوا الصالحات إلى قيامة الحياة والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة، لذلك أيها الأحباء الرسول بولس عندما يتكلم عن الموتى ويريدنا أن نتعزى لفراقهم وابتعادهم عنا، يأتي بحقيقة قيامة المسيح من بين الأموات ويعتبر تلك القيامة باكورة فالمسيح هو باكورة الراقدين بل أيضاً نرى تلك الحقيقة التي تعلمنا إياها الكنيسة المقدسة التي سلمتها للرسل أننا عندما نقوم سنقوم على ملء قامة المسيح الذي قام من بين الأموات بجسده الممجد وعمره ثلاثة وثلاثين سنة فما نزرعه يزرع بفساد جسد الإنسان يصبح فاسداً ولكن يقوم وإن فسد يزرع جسداً دنيوياً مادياً حيوانياً ليقوم جسداً روحانياً لذلك يوصينا الرسول بولس: يجب أن لا نحزن كثيراً على الراقدين بالرب كمن لا رجاء لهم لأنهم أحياء في الروح لأنهم سيقومون في اليوم الأخير عندما يستمعون إلى صوت ابن الله.
عقيدتنا إن هذه الأرواح الحية هي في الفردوس تنعم مع الأبرار الصالحين والملائكة القديسين وتنتظر يوم القيامة العامة لتقوم قيامة الأحياء مع أجسادهم لأن لا يمكن أن الروح وحدها أن تنال المكافأة أو العقاب إن ما فعلته في هذه الحياة من أعمال صالحة أو أعمال طالحة إنما كانت مشتركة بها مع جسدها ولا بد أن تكون المكافأة في يوم الدين بعد أن نقف أمام منبر المسيح بعد القيامة العامة لينال كل إنسان مكافأته ولكن ما هي القداديس التي نحتفل بها ونذكر فيها أمواتنا ونترحم على أرواحهم؟ عند باب القبر تنتهي مدة توبة الإنسان يجب أن يتوب الإنسان قبل أن يموت، ولا نخدع بقول بعضهم إن الخلاص في لحظات، فالخلاص هذا يكون قبل أن ينال الإنسان سر المعمودية فيكون خلاصه بالإيمان لكن بعد ذلك يجب أن يقترن الإيمان بالأعمال الصالحة، فاللص آمن بعد أن كان ملحداً ولم يكن له الفرصة ليعتمد فاستحق نعمة الخلاص بوعد الرب أنه يكون معه في الفردوس فنال نعمة الخلاص. ولكن هل نعلم متى نموت بأي لحظة نغادر هذه الحياة لذلك علينا أن نكون في حالة النعمة في حالة البر في حالة التوبة دائماً لكي نستحق ملكوت الله. أما القداديس فهي الصلوات التي نقدمها لله لكي يرحمنا ويرحم موتانا في يوم الدين نقوم وندان نطلب من الرب الرحمة في تلك الساعة، هذه القداديس أخذناها من تعاليم الكتاب بالذات ففي سفر المكابيين مثلاً يذكر أن يهوذا أرسل إلى المدينة المقدسة مالاً لكي تقدم الذبائح عن أرواح القتلى من جنده الذين وجدت معهم أصنام في جيوبهم كأنهم كانوا يتشفعون بها فأرسلت القرابين والذبائح والمحرقات لتقدم في أورشليم عن أرواح هؤلاء الموتى لكي يغفر لهم الرب والصلوات إنما ترفع لكنيسة الأبكار من الكنيسة المجاهدة منا نحن الذين ما نزال نجاهد لنثبت بنعمة البر بالمسيح يسوع التي نلناها مجاناً ويحاول إبليس أن يسلبها منا فالرب يسوع قد فدانا بصليبه المقدس ويريدنا أن نكون له بأقوالنا وأفعالنا وأفكارنا فعلينا أن نجاهد ضد إبليس هذه الكنيسة المجاهدة تتشفع بالكنيسة المنتصرة كنيسة الأبكار المكتوبة في السماء وأيضاً تشفع بها في صلواتها هذه علامة محبة لأمواتنا الذين غادرونا عندما نصلي لأجلهم وفي الوقت نفسه نصلي لأجل أنفسنا لكي يرحمنا الرب في يوم القيامة يوم الدينونة نحن وهم ليرحم الرب موتاكم أيها الأحباء ويسكب على قلوب جميع الحزانى نعمة العزاء والصبر والسلوان ليكن رجاؤنا بالمسيح قوياً أننا سنسمع صوته في اليوم الأخير لنقوم قيامة الأحياء وبنعمته تعالى آمين.
أحـــد الموتــــــى (5)†
تحتفل الكنيسة المقدسة بطقسها السرياني المبارك لهذا اليوم بأحد الموتى المؤمنين كافّةً. فهذا اليوم وهذا الطقس وهذا القدّاس وهذه الصّلاة كلّها محبّة وإيمان ورجاء. إيمان بما أوحاه الله تعالى إلى أنبيائه ورسله الأطهار في العهدين، القديم والجديد. ورجاء لا يخيب بوعد الرب يسوع للمؤمنين به الذي ولئن ماتوا فسيحيون. ومحبّة، محبّة لله الذي خلقنا ويعتني بنا، الذي بيده مفاتيح الهاوية، مفاتيح الموت والحياة. ومحبة للقريب لأحبّائنا وأقربائنا وأعزّائنا وأصدقائنا إن كانوا أحياء معنا على هذه الأرض، وإن غادروا هذه البسيطة إلى السّماء.
ففي هذا الطّقس المقدس نقرأ كيف أن الله خلق الإنسان من تراب الأرض، ونستند إلى الكتاب المقدّس، والطّقس يردّد ذلك كيف أن الله نفخ في آدم نسمة حيّة فصار آدم نفساً حيّة. ونقرأ أيضاً ما علّمنا إيّاه آباؤنا القدّيسون كيف أن عندما يغادر هذه الحياة بما نسمّيه الموت، تنفصل روحه عن جسده ويعود الجّسد إلى التراب كما كان كما يصف ذلك صاحب الجامعة: وترجع الروح إلى الله الذي أعطاها. ونتأمّل في كل ذلك بإيمان متين ثخين فنرى كيف أن الإنسان الذي خُلِق ليكون خالداً عندما هوى في وهدة الخطيّة الأبويّة الجدّية استحق الموت، الموت الجسدي كما استحق الموت الأدبي والموت الأبدي، ولكن نعمة الله هي التي افتقدته، وابن الله الذي جاء من السماء وفدى هذا الإنسان بدمه الكريم وغفر له الخطيّة الجديّة والخطايا التي يقترفها بإرادة وبغير إرادة ويتوب إلى الله نادماً عمّا فعله. ابن الله هو الذي أعاد للإنسان الرّجاء بحياة أبديّة. هكذا أيها الأحباء بإيمان ورجاء وبمحبة نرى كيف أن الله قد أحبّنا وأرسل ابنه الحبيب الوحيد وافتدانا وثبّت الإيمان في قلوبنا ووطّد الرجاء في حياة أبديّة خالدة لكل من يؤمن به.
في العهد القديم كانت هناك صورة غير واضحة للحياة بعد الموت، لما وراء القبر. ولكن الإنسان كان يائساً ما خلا أولئك الذين كانوا ينتظرون الخلاص، الذين يقول عنهم الرسول بولس بعد أن يكتب أسماءهم معلناً أن أولئك الذين لم ينالوا المواعيد أي لم يستحقّوا أن يبلغوا عهد الفداء ولكن نظروه من بعيد، نظروا هذه المواعيد من بعيد وآمنوا أنهم كانوا غرباء على هذه الأرض. أولئك عندما جاء المسيح خلّصهم أيضاً وأنقذهم عندما نزلت نفسه إلى الهاوية وانتشلهم، بدأ ن آدم وحوّاء إلى آخر من آمن به وانتظر مجيئه، أما نحن الذين أنعم علينا أن نلنا الفداء بدم المسيح كما يقول صاحب الرؤياعن الذين يرقدون بالرب، قال له الروح أنهم يستريحون من أتعابهم وأعمالهم تبعهم، الراقدون بالرب منذ الآن يقول الروح أي منذ أن نلنا الخلاص بالمسيح يسوع. لذلك أيها الأحباء عندما نرى أمامنا مواكب الموتتسير، فنرى موكباً يتبع موكباً ونحن نظنّ أن الموت سيصيب كل إنسان ما عدانا ولا نعلم أن الموت هو حقّ لا يميّز بين واحد وآخر، بين كبير وصغير، بين غنيّ وفقير، بين عظيم وحقير هو عدلٌ وقد وُضع للناس يقول الرّسول بولس أن يموتوا مرّةً وبعد ذلك الدينونة، وبهذا يعلن الرسول بولس أن الإنسان يموت موتاً جسديّاً ويعقب ذلك الدينونة في اليوم الأخير عند مجيء الرب ثانيةً. وآباؤنا القديسون منذ فجر المسيحيّة استناداً إلى تعاليم الكتاب المقدّس يوضّحون لنا أن النفوس إذا ما غادرت أجسادها إذا ما كانت بارّة تقيّة ومؤمنة بالمسيح يسوع الذي هو القيامة والحياة ومن آمن به حسب وعده، وإن مات فسيحيا. هذه النفوس تكون مع نفس اللّص الذي وعده الله وهو على الصّليب يتألّم أن يكون معه في الفردوس في ذلك اليوم بالذات. تكون هذه النفوس في افردوس منتظرةً يوم القيامة العامّة، أمّا نفوس الأشرار فتذهب إلى مكان الظّلمة مع الأبالسة تنتظر بخوف ورعدة يوم الجزاء، يوم القيامة العامّة لتكون معذَّبة مع إبليس وجنده في جهنّم النار وبئس المصير، فقرار ذلك هو نؤمن بالمسيح يسوع الذي هو ابن السماء وهو الذي أعلن الحقيقة التّامة عمّا وراء القبر، وبرهن على صدق قوله وهيمنته على الموت بالذات بإقامته لموتى بكلمة من فيه. المسيح يسوع الذي مات أيضاً وقام بسلطانه الإلهي الذّاتي من بين الأموات في اليوم الثالث وهو القيامة وهو الحياة، وإذا ما آمنّا به وإذا ما سلكنا في شريعته وإذا ما تمسّكنا بالرجاء الذي لا يخيب الذي وضعه في عقولنا وقلوبنا ألاّ نرهب الموت ولا نرتعد من الهاوية، فقد حوّل الرب يسوع الموت إلى نوم ورقاد، نستيقظ في صباح القيامة ليوم منير لا نهاية له وحوّل الهاوية إلى غرفة يضيؤها الإيمان والرجاء وننتظر بذلك يوم القيامة لتتّحد الأرواح بالأجساد عند مجيئه ثانيةً، عندما ينادي جميع الذين في القبور فيسمعون صوته ويقوم الذين عملوا الحسنات إلى قيامة الحياة والذين عملوا السيّئات إلى قيامة الدينونة. فالكنيسة إذ تحتفل في هذا اليوم بذكرى الموتى المؤمنين كافّةً وتصلّي لأجل راحة نفوسهم إنّما هي تنطلق من محبّتها لأولئك الذين غادروها إلى السماء، الذين كانوا معنا في الكنيسة المجاهدة ضدّ إبليس وجنوده على الأرض وانضمّوا إلى الكنيسة المنتصرة التي انتصرت على الخطيّة بالمسيح يسوع ربّنا وهي تنتظر السعادة الأبديّة، أولئك نصلّي لأجلهم. والصلاة لأجل الموتى عقيدة مسيحيّة تسلّمناها من الرسل الأطهار، فالقدّيس يعقوب أخو الرب الذي كتب أوّل كتاب للقدّاس الذي نسمّيه ليتورجيّة أو نافورة يعلّمنا أن نذكر أمام الله عن أولئك الذين نذكرهم على مذبح الرب لكي يذكرونا في السّماء نصلي لأجلهم وهم أيضاً يصلّون لأجلنا بل يشاركوننا أيضاً القداس الإلهي، لا نراهم ولكنهم يرونا، نتشفّع بالقديسين منهم وهم ينتظرون الصّلاة لأجلهم. هذه العقيدة ولئن لم تكن واضحة في الكتاب المقدس ولكن لم يكن ولن يكون في تعاليم أي اعتراض ضدّ هذه العقيدة المقدّسة، فنحن نصلّي لأجل الموتى ليغفر الله لهم ما تابوا عنه من الخطايا ولكن فاجأهم الموت فلم يستطيعوا أن يعطوا ثماراً تليق بتلك التوبة.
هذا هو عمل المحبّة، محبّتنا لأولئك الذين غادرونا إلى السّماء. نقدّم عنهم الصّدقات كما يذكر الكتاب المقدس عن طوبيّا البار وغيره من الصدّيقين ونذكرهم ليذكرونا، فهذا اليوم إذن هو يوم المحبّة، محبّتنا لمن غادرونا من أحبائنا إلى السّماء، وفي الوقت نفسه هذه الصّلاة تنفعنا وتنفعهم في يوم الدّين يوم سنقف جميعاً أمام منبر المسيح لأنه قد وُضِع للناس أن يموتوا مرّةً واحدة وبعد ذلك الدينونة يوم تًعلَن الأسرار، يوم يُحكَم على الناس بحسب أعمالهم إن كانت صالحة أم شريرة. في ذلك اليوم سنقف مع أحبّائنا الذين غادرونا إلى السّماء، نعرفهم ويعرفونا، نخاطبهم ويخاطبوننا، وفي هذا اليوم وفي كلّ يوم نقدّم فيه القداس الإلهي عندما نذركهم يشعرون براحة تامّة لأنهم يرون فينا أصدقاء وأحبّاء وأقرباء مخلصين. والصلاة لأجل الموتى تنفعنا نحن أيضاً بالذات ونحن نتشفّع بالقديسين الذين غادرونا إلى السّماء، والشفاعة عقيدة مسيحية ظهرت عندما جاءت تلك المرأة الكنعانيّة تتشفّع لابنتها، تطلب من المسيح متشفّعة لابنتها المجنونة، وعندما جاء أولئك الأربعة حاملين صديقهم المخلّع أمام الرب يسوع، فرأى المسيح إيمانهم، إيمان أولئك الأربعة وشفى ذلك الإنسان، غفر خطاياه وشفاه وأنقذه من مرضه مرض الروح والجسد في آن واحد.
فلنصلِّ دائماً أحبّائي لأجل موتانا ولنتشفّع بالقديسين لأجل أنفسنا وأنفسهم لنعلن إيماننا المتين ورجاءنا الذي لا يخيب بالمسيح يسوع ربنا الذي هو القيامة والحياة، ومحبتنا لله وللقريب لننال المكافأة معه في السماء يوم الدّين. رحم الله موتاكم المؤمنين كافّةً وأهّلكم وإيّانا وإيّاهم في يوم الدّين لنكون مع أولئك الذين سيدعوهم الرب إلى ملكوته السّماوي ليرثوا ذلك الملكوت مع القدّيسين، ونعمته تشملكم دائماً أبداً آمين.
أحـــد الموتــــــى (6)†
«لا تتعجبوا من هذا فإنه تأتي ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة والذين عملوا السيِّئات إلى قيامة الدينونة»
(يو5: 28 و29)
«لا تتعجّبوا من هذا»، كان الرب قد أعلن نفسه أنه القيامة والحياة، أعلن نفسه أيضاً كما هو، أنه يعطي الحياة للذين ماتوا أدبياً بارتكاب الآثام، وقال: تأتي ساعة وهي الآن التي يسمع فيها جميع الأموات ـ أموات الخطية ـ صوت ابن اللّه كي ينالوا الحياة أي تُغفر خطاياهم، وقال: «لا تتعجبوا من هذا»، ثم أعلن حقيقة إلهية هي معجزة المعجزات ولا يمكن أن تكون معجزة في الكون منذ بدئه وحتى في هذه الأيام معجزة تشبهها هي قيامة الموتى.
في عبارته يوضّح لنا عن الموت وعن القيامة في آن واحد «تأتي ساعة يسمع فيها جميع الذين في القبور»، عجبي كيف يسمع أولئك الذين ماتوا ولم يموتوا فقط بل أصبح أغلبهم رميماً، كيف يسمعون صوت ابن اللّه؟ في هذا اليوم الذي تذكر فيها الكنيسة المقدسة الموتى المؤمنين كافة وتصلي لأجلهم كما تسلّمت من آبائها، في هذا اليوم المبارك نتأمل بالموت ونتأمل أيضاً بالقيامة العامة.
ما هو الموت يا ترى؟ لن نستطيع أن نعرف الموت ما لم نعرف من هو الإنسان وكيف خُلق الإنسان لكي نتمكن من معرفة كيفية موته ولماذا مات؟ ولماذا يموت البشر كافة؟
الفلاسفة وجميع الذين ادعوا بأن لهم مقدرة على إعلان الحقائق الإلهية قبل مجيء الرب يسوع بالجسد، قد حارت عقولهم وارتبكوا في فهم هذه الحقائق الإلهية. نحن ليس لنا إلا أن نلتفت إلى الوحي الإلهي، إلى الكتاب المقدس الموحى به من اللّه لنتعلّم الحقائق الإلهية. لنأتِ إلى سفر التكوين ونتعلّم كيف خلق اللّه الإنسان. هذه الحقائق البسيطة المفهومة من كل من يريد أن يفهمها تدلنا على أن اللّه سبحانه وتعالى قد جبل الإنسان من تراب الأرض، ثم نفخ في أنفه نسمة الحياة فصار الإنسان حيّاً. نرى كيف أن هذا الإنسان أحبّه اللّه كثيراً فخلقه على شبهه كمثاله بنفس ناطقة. عندما نقول ناطقة ـ الذي لا يفهم المنطق لا يفهم المعنى الحقيقي لكلمة ناطقة ـ التي معناها عاقلة، هي حقيقة! عندما نقول ناطقة يعني أنها عاقلة بكل شيء، ليس النطق هو الكلام فقط، النطق هو العقل بالذات. هذه النفس الناطقة هي بشبه اللّه تعالى بما وُهبت من برّ وقداسة بل أيضاً من قابلية الاختراع والإبداع، والأهم من ذلك الخلود، فهذه النفس هي خالدة لا تموت ولذلك عندما نأتي إلى تعريف الموت نستند إلى ما قاله فيه صاحب الجامعة: يرجع الجسد إلى التراب كما كان وتعود الروح إلى اللّه باريها ومعطيها وواهبها. هذا هو الموت إذاً! والنفس خالدة رغم أن الإنسان عندما سقط في الخطية فَقَدَ نِعم اللّه ومواهب عديدة سامية حتى في نفسه فَقَدَ القداسة، فَقَدَ نسبياً قصّة أن يكون شبيهاً باللّه في موته إذاً يفقد الإنسان هذه النعم العظيمة.
والروح تبقى خالدة على الرغم من سقوط الإنسان في الخطيّة، ولكن هناك خلود لحياة أبدية سعيدة وهناك خلود لشقاء أبدي ولذلك فالرب يسوع يقول في آية موضوعنا «لا تتعجّبوا من هذا» لا نتعجب لأنه هو القيامة والحياة، لا نتعجب أن يُحيي الموتى أدبياً الذين ماتوا في الخطية، لا نتعجب من هذا كله أنه قد نال من الآب أن يُحيي الموتى بل أيضاً قد نال من الآب أن يدين الأحياء والأموات، لا نتعجب من هذا لأنه تأتي ساعة وهي عجب العُجاب يسمع فيها جميع الذين في القبور صوته.
إذن الذين في القبور ولئن كانت أجسادهم قد صارت رميماً ولكن أرواحهم حيّة ولذلك يسمعون صوت ابن اللّه، ويقوم الذين فعلوا الصالحات قيامة الحياة والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة.
في مجيء الرب يسوع لم يستطِع الإنسان أن يفهم معنى القيامة. الموت لا يختلف فيه اثنان. مواكب الموت تسير كثرة يتبع أحدها الآخر هذا الموت الذي يتبع الجاني، نرى الناس يودعون أحباءهم وأصدقاءهم إلى مقامهم الأخير إلى قبورهم والعديد منهم إن كانوا مؤمنين باللّه يعرفون أن ساعتهم ستأتي كما أتت الساعة على الآخرين لأن الرسول بولس يقول لنا: «وُضع للناس أن يموتوا مرّة ثم بعد ذلك الدينونة». الجميع يؤمنون بالموت ولا يستطيع أحد أن ينكر الموت، ولئن فكّر بنفسه، بكبريائه، أن الموت سيصيب كل إنسان ولكن لا يصيبه، هوذا اللّه سيعاقب كل إنسان على خطيته، والخطية التي ورثناها من آدم عندما قال له الرب إن أكلت من الثمرة موتاً تموت، وآدم خُدع بحواء من إبليس الذي تلبّس الحية في ناحية مهمّة جداً. تقول الحيّة لحواء: إنكما لا تموتان بل تصيران كالآلهة تعرفان الخير والشر. قصة أنه لا تموت هذا شيء يتلبّس الإنسان ويتبعه دائماً، الإنسان المتكبّر المتعجرف الذي قال في نفسه: «ليس إله» كما يقول صاحب المزامير فيظن أنه لن يموت أبداً، فالموت يصيب الناس جميعاً، والإنسان المؤمن يعرف أنه سيموت لأنه يؤمن بالكتاب المقدس، ويرى أمامه الناس يغادرون هذه الحياة، ولكن يؤمن أيضاً أنّ نفسه خالدة ولا يخاف من الذين يقتلون الجسد ولكن لا يستطيعون أن يقتلوا النفس، بل يخاف خاصة من اللّه الذي بإمكانه أن يهلك الجسد والروح ويهلكهما في جهنم وبئس المصير إن هو أنكر وجود اللّه تعالى وعنايته بالإنسان، وتمرّغ بالشهوات والخطايا، وابتعد عنه تعالى، «خطاياكم صارت فاصلة بينكم وبين إلهكم» كما قيل في النبوات. لذلك نرى أيها الأحباء أن الإنسان يؤمن بالموت لأن الموت حق ويعرف أنه لا بدّ أن يموت ولئن فكّر في نفسه بكبرياء أنه أقوى من الموت، ولكن المؤمن الذي يطمح إلى الحياة الأبدية يرى هذه الحياة مهما كانت شقية ومهما كانت مريحة ومهما كانت طويلة فهي قصيرة. «الإنسان قليل الأيام وشبعان تعباً» وهي حياة يتعذب فيها الإنسان على هذه الأرض لذلك يطمح إلى أن يرث ملكوت اللّه ويتأمل بالرب يسوع فادينا العظيم كيف أنه لأجلنا وعوضاً عنّا مات وقام بقوته الذاتية وأقامنا معه بل أعطانا أيضاً أن نرث ملكوت اللّه إن كنّا نخضع لشرائعه الإلهية متمسكين بالصالحات ولدينا ذلك الإيمان أي أن نؤمن به مخلصاً ونقبله ونرضى أن نموت أيضاً لأجله وقد مات عوضاً عنا ومن أجلنا حينذاك هذا الإنسان يؤمن بما قاله الرب عن أعجوبة الأعاجيب «ستأتي ساعة يسمع فيها جميع الذين في القبور صوت ابن اللّه فيقوم الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة».
أيها الأحباء: إن كان لنا المحبة للّه وللقريب نفعل الصالحات في هذه الحياة ونستحق بعد أن نموت أيضاً أن تكون نفسنا أولاً في الفردوس حيث دعا الرب اللص اليمين، وندعوه لص اليمين اللص الذي استحق الثواب لإيمانه بالرب وتوبته في اللحظات الأخيرة من حياته، حيث قال له الرب: «اليوم تكون معي في الفردوس»، هذه النفس تكون في الفردوس إلى يوم القيامة ولئن كانت الأجساد قد عادت إلى التراب أينما كانت وحيثما تكون تتحد بها أرواحها لتكون على قيد الحياة إن كانت صالحة. لا نستغرب من هذا المثل الذي ضربه لنا اللّه تعالى في العهد القديم عندما أظهر رؤيا حزقيال النبي كيف أنه رأى البقعة القديمة ذات العظام النخرة وأمره أن يتنبأ على تلك العظام فتجمّعت إلى بعضها، وتنبّأ عليها أيضاً فصارت أعصاباً ثم صارت أجساداً، وقال له تنبّأ عن الروح ليأتي الروح من الرياح الأربعة فجاءت أرواح أولئك الذين كانوا قتلى لتحلّ بالأجساد ثم لتقوم جيشاً جراراً ليثبّت بني إسرائيل في ذلك الوقت على الإيمان باللّه فإنّ اللّه لا يترك من يؤمن به ويتمسك بشريعته بل ينصره على أعدائه الروحيين والجسديين في آن واحد. هذا المثل وهذه الأعجوبة يعطياننا قوة وإلهاماً لنؤمن بما قاله الرب يسوع: إن الأموات يسمعون صوته في اليوم الأخير، ونتصور أمامنا البقعة التي رآها حزقيال، ونتصور أمامنا القبور واللحود التي انتشرت في كل مكان، وكما قال أحد الشعراء ذلك الرميم هو من هذه الأجساد، حتى الأرض كلها نراها هي من أجساد الموتى، من أجساد الذين سبقونا بأجيال عديدة، ولكن اللّه سيجمع هذه الأجساد لأنه هو قدير، هو خلقها، هو نفخ فيها نسمة الحياة، يجمعها لتكون أجساداً ويستدعي الروح بل الأرواح كلها لتحلّ في هذه الأجساد «فيقوم الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة»، وقد «وُضع للناس أن يموتوا مرة ثم بعد ذلك الدينونة» (عب 9: 27)، ولكن أيضاً لا دينونة على الذين يؤمنون بالمسيح ويتمسكون بشريعته لأنهم يستحقون وقد فداهم الرب يسوع أن ينالوا الحياة الأبدية معه. نفوسهم حتى يوم القيامة تكون مع الرب في الفردوس، ثم النفوس والأجساد التي ستنال المكافأة معاً لأنها عملت أعمال البر معاً وآمنت معاً، النفوس والأجساد ولأن أيضاً الأشرار سينالون العقاب نفساً وجسداً معاً يوم القيامة العامة وأن اللّه لا يترك حتى الأشرار في قبورهم. يقول: إن كل من يسمع اسم الرب، صوت الرب، الكل يقومون هؤلاء للحياة الأبدية السعيدة وأولئك للحياة الأبدية الشقية في جهنم وبئس المصير.
نحن نؤمن أحبائي ويجب أن نذكر هذا في هذا اليوم خاصة أننا عند باب اللحد، عند باب القبر، وما وراء القبر ليس هناك مغفرة. مَن كان دائماً حتى آخر لحظة من حياته مؤمناً كانت نفسه مستحقّة أن تكون في الفردوس مع الملائكة تنتظر بسعادة يوم القيامة، ومَن كان شريراً في لحظة مغادرة هذه الحياة نفسه تكون مع الأبالسة تتوقع في كل لحظة مجيء الرب يسوع لتكون أيضاً مع الأبالسة في جهنم وبئس المصير تتعذّب إلى الأبد.
فهذه عبرة لنا أن لا نعرف متى نغادر هذه الحياة. في آخر نسمة من حياتنا إذا تبنا فننال السعادة الأبدية، ولكن بما أننا لا نعرف متى نغادر هذه الحياة علينا أن نكون دائماً في حالة توبة، في حالة نعمة، في حالة استعداد لمجيء ربنا، والرب قال: يجب أن تكونوا مستعدين، وأعطانا أمثالاً عديدة في هذا الموضوع أن نستيقظ روحياً وأن نستعد لملاقاة الرب. إن كنا أحياء عندما يأتي نلاقيه في الجو، وإن كنا قد متنا سنقوم إن كنا مثلما قلنا أبراراً في هذه الحياة، وإلا ـ أبعد اللّه عنا وعن أمواتنا هذه الحالة ـ إن كنا أشراراً أن نقوم قيامة الدينونة.
ما أجمل ما يقول مار أفرام وهو يطلب من الرب أنه هو يدينه، المسيح يدينه وليس أحد ثانٍ، لأنه حتى الرسل سيجلسون على الكراسي ويدينون. لماذا يطلب هذا الطلب؟ لأن المسيح جُرّب مثلنا في كل شيء ما عدا الخطية، ويعرف أننا ضعفاء وأننا نخطئ، ولذلك عندما نطلب منه المغفرة يغفر لنا، لأنه يعرف أننا ضعفاء فإذا داننا فسيديننا بالرحمة أما إذا غيره داننا فيديننا بالقسوة ونكون بالعدل ليس فقط بالرحمة، لذلك نطلب أيضاً أن الرب يديننا وقد جعل الآب الدينونة للابن ليرحم هؤلاء البشر الذين تجسّد وأنقذهم وفداهم بدمه الكريم.
ونحن نحتفل بالقداس الإلهي أيضاً ذاكرين موتانا، هذا التعليم أخذناه أيضاً من أسفار العهد القديم. فقبل الميلاد بنحو قرنين كان هناك المكابيون هؤلاء كانوا يحاربون من أجل التمسك بعقيدتهم الدينية بقيادة يهوذا المكابي وبعد أن قُتل العديد من أتباعه فتشوا ثيابهم أثناء دفنهم فوجدوا بين ثيابهم بعض التماثيل التي كان الوثنيون يستعملونها لعبادتهم، فعلم أن اللّه ضرب أولئك الجنود لأنهم تركوا الرب واتكلوا على هذه التماثيل التي وضعوها في جيوبهم أثناء الحرب خاصة، فيهوذا عرف أن هؤلاء قد أخطؤوا تجاه الرب وأراد أن يستغفر عنهم فجمع ما يكفي لذبائح في أورشليم وأرسلها إلى هناك لتُقدم هذه الذبائح عن هؤلاء الموتى ليغفر لهم اللّه خطيتهم هذه، وليس هذه فقط بل تسلّمنا نحن أيضاً طقس القداس الإلهي وفيه علّمنا يعقوب الرسول الذي أعطانا نافورته يعني طقس القداس أن نصلي لأجل الموتى نقول: «نذكرهم ليذكرونا هم أيضاً» فهنا يُظهر العلاقة، علاقة المحبة الخالصة النقية المتبادلة ما بين الكنيسة المنتصرة والكنيسة المجاهدة التي نحن الآن فيها وهي تجاهد ضد إبليس وجنده الذين يريدون أن يخدعوا الإنسان خاصة المؤمن فيجتمع العديد من الأبالسة حوله كما نقرأ في بستان الرهبان عن أولئك الرهبان الأتقياء كيف أن الأبالسة تحتاط بقلاياتهم وتريد أن تُخطئهم، ولكن إن كانوا يصلّون بإيمان قوي يطلبون المعونة من الرب فيستطيعون أن يسيطروا على أولئك الأبالسة. فنحن نتعرض دائماً للتجارب وليس لنا إلاّ أن نلتجئ إلى الرب لينقذنا من هؤلاء ونصلّي لأجل موتانا لكي إذا كانوا قد أخطؤوا خطايا ليست للموت هذه لغة الكتاب يعني ليست خطايا من الكبائر بل زلات التي لا نشعر فيها كما يقول صاحب المزامير إن كانوا قد أخطؤوا هذه الخطايا البسيطة يغفر اللّه لهم ولنا أيضاً. عندما نطلب هذا الشيء نطلبه لنا ولهم «نذكرهم ليذكرونا هم أيضاً» يصلّون لأجلنا ويحضرون القداس الإلهي معنا أيضاً. الأبرار والأتقياء يحضرون معنا القداس لذلك الكاهن عندما يصرف المؤمنين يقول الأموات منكم والأحياء، ولذلك عندما ترون الكهنة الذين يعرفون طقس القداس الإلهي جيداً لا يقومون بالطقوس على أنها أشياء روتينية فقط بل يعرفون أنه عندما يبخّرون نحو إحدى الجهات مثلاً وليس هناك أحد، إنّما يبخرون لأرواح الموتى، التي تصلي معنا، لكي هي أيضاً تنتعش ولكي عن طريق البخور ترفع الصلوات إلى ربنا، الصلاة لأجلنا نحن الذين لا نزال في بيعة المسيح المجاهدة وهم في بيعة المسيح المنتصرة، انتصروا على إبليس وصاروا في السماء، أرواحهم في الفردوس، وتصلّي معنا.
هذه أعجوبة الأعاجيب أيضاً أن اللّه سمح أن تكون أرواحهم في كل مكان وتصلي معنا في الكنيسة خاصة عندما نحتفل بالقداس الإلهي لذلك نذكر موتانا ونطلب من الرب أن يغفر لهم ولنا هذه الزلات وليؤهلنا وإياهم مع أولئك الذين يسمعون صوته في اليوم الأخير إن كنا أحياء وجاء المسيح نصعد معه في الجو وإن كنا أمواتاً تتحد أجسادنا بأرواحنا وأرواحنا بأجسادنا ثم نقوم قيامة الحياة مع الرب يسوع المسيح ونرث ملكوته السماوي.
رحم اللّه موتاكم جميعاً أيها الأحباء وقد ذُكروا على مذبح الرب، وأهّلنا وإياكم وهم معنا أيضاً أن نرث ملكوت اللّه في اليوم الأخير حيث يسمع الأموات صوت الرب ويقوم الأحياء الصالحون قيامة الحياة لنرث معه ملكوته السماوي بنعمته تعالى آمين.
أحـــد الموتــــــى (7)†
أيها الأحباء تحتفل الكنيسة المقدسة في هذا اليوم المبارك بما ندعوهُ أحد الموتى، في هذا الأحد وفي طقسنا الشرقي يوم الجمعة أي قبل يومين، جمعة الموتى ما بين الجمعة والأحد أي يوم السبت يذهب المؤمنين يزورون أحباءهم الذين رقدوا بالرب وهم لا يزالون بالنفس لا بالجسد أحياء ونحن عندما نحتفل بيوم مبارك كهذا إنما نُظهر محبتنا وإيماننا بالذين رقدوا بالرب وسبقونا إلى الحياة الأبدية، ولابد أن نتأمل وقبل كل شيء بالإنسان بالذات، ما هو الإنسان وكيف خُلق الإنسان حتى نتأمل بموت الإنسان بالجسد.
سفر الجامعة يُعلمنا عن هذا الإنسان الذي يذكره سفر التكوين بأن الله جبله من تراب الأرض ونفخ بأنفه نسمة الحياة فكان آدم إنساناً حياً.
وسفر الجامعة يقول لنا عن الموت أن التراب يعود إلى الأرض كما كان لأن الرب جبلنا من تراب الأرض والروح نسمة الله فينا التي هي تعطينا الحياة بقوة الله، وترجع الروح إلى الله خالقها وباريها.
هذا هو الموت، فنحنُ نستنكر تعليم كل مَن يدَّعي بأن النفس تموت مع الجسد، ونرى أن الله أرسل ابنه الحبيب وفدانا ونقرأ الإنجيل المقدس أن الرب وهو على الصليب آمن به أحد اللصَين فوعده قائلاً اليوم تكون معي في الفردوس، هذا يعني أن نفس ذلك اللص ذهبت مع الرب يسوع إلى الفردوس، حيث نفوس الأبرار والصالحين بعد مجيء الرب بالجسد تجتمع في ذلك المكان الذي هو عربون النعيم، المكان الذي بهِ تنتظر نفوسنا يوم القيامة العامة لتتَّحد مع أجسادها مهما كانت هذه الأجساد قد صارت رميماً، حينذاك بحسب عقيدتنا يكون المسيح قد جاء ثانية ويأتي ملاك وينفخ بالبوق فيقوم الموتى الذين عملوا الصالحات في حياتهم قيامة الحياة والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة.
هذا هو الموت وهذه هي القيامة، إذاً نحن نؤمن أن الإنسان ولئن مات بالجسد فنفسه حية لا تموت لأنها نسمة من الله.
الفترة التي فيها يستطيع الإنسان أن يتوب وأن يستغفر الله ويُرحم في هذه الحياة هي قبل انفصال النفس عن الجسد، لكن أيضاً هناك خطايا كما قال الرب لا تُغفر وهي التجديف على الروح القدس لا في هذه الحياة ولا في الحياة الثانية، هذا يعني أن هناك خطايا تُغفر في الحياة الثانية، هذه عقيدة الصلاة لأجل الموتى، أخذناها من العهد القديم فقبل التجسد بقرنَين تقريباً كان المكابيون يُحاربون عن شعب الله واستطاعوا أن يغلبوا أعداءهم، لكن واأسفاه، فعندما تنكَّروا للرب وتبعوا الأصنام خسروا المعركة، يقول الكتاب في سفر المكابيين أنهُ بعد أن جاؤوا ليجمعوا جثث القتلى فتَّشوا هؤلاء القتلى ورأوا أصنام قد اتخذوها شفعاء لهم لكي تقيهم حسب ظنهم الوثني من الموت فكانت سبباً لموتهم وخسارة معركتهم، رأوا هذه الأصنام بجيوبهم لذلك يهوذا المكابي جَمَع فضةً، اثناعشر وزنة من الفضة وأرسلها إلى أورشليم لكي يشتروا بها ذبائح تُقدم عن هؤلاء الموتى الذين أخطئوا لعل الله يغفر لهم خطاياهم.
هذا يُعلمنا أنه حتى بعد الموت الصلاة لأجل الموتى مفيدة وتنفع هؤلاء الذين رقدوا بالرب دون أن يستطيعوا أن يُكفِّروا عن خطاياهم، من هنا أيضاً نرى أن الكنيسة المقدسة عندما مار يعقوب أسقف أورشليم ألَّف ما نسميه النافورة أي طقس القداس يذكر أنه بالصلاة يطلب من الرب أن يرحم هؤلاء الموتى ويذكر أيضاً أنه نذكر موتانا ليذكرونا، نحن بحاجة لصلاتهم كما أنهم بحاجة إلى صلاتنا، ليس هذا فقط بل نحن نؤمن أن أرواح الموتى أي بعد انفصال الروح عن الجسد تنال قوة ومواهب عديدة أكثر بكثير مما كانت عليه عندما كانت في سجن الجسد ولذلك الكنيسة المقدسة في القداس الإلهي تحاول أن تقتدي بالآباء القديسين، وعندما يصرف الكاهن –وهذا يجب أن ننتبه إليه جيداً – أن ننتظر حتى آخر القداس لنسمع الكاهن يصرفنا بعد انتهاء القداس الإلهي يقول الأحياء منكم والأموات، أي أموات الجسد لكنهم أحياء بالروح، اذهبوا بسلام أي أرواح القديسين، أرواح الأبرار، أرواح المؤمنين تُصلي معنا أيضاً عندما نحن نحتفل بالقداس الإلهي فإذا كانت تشعر هذا الشعور معنى ذلك أنها تنال رحمة في يوم الدين كما يذكر الرسول بولس، الرحمة يوم الدين تنال من الله لأنها تستمر على الصلاة، الذي اعتاد أن يُصلي ويحضر القداس الإلهي في حياته أيضاً بعد انتقال الروح وانفصالها عن الجسد يبقى مستمراً على ذلك.
وعلامة المحبة ما بيننا نحن الكنيسة المجاهدة والكنيسة المنتصرة التي في السماء مَن أرواح القديسين علامة المحبة هي أننا نذكرهم ليذكرونا، الأبرار يُصلون لأجلنا ونحن نصلي لأجلهم ولأجل الجميع نذكر آباءنا، نذكر إخوتنا، نذكر معلمينا، نذكر أولئك الذي أتوا بنا إلى الإيمان المسيحي، نذكر جميعهم بالصلاة.
ليرحم الرب موتاكم جميعاً أيها الأحباء ويُعيد عليكم هذا الأحد باليُمن والبركة آمين.
† ـ نص المقدمة التي صدّر بها المؤلف الجزء الأول من كتابه «من بيدر المواعظ» والذي طبع عام 1997.
([1]) ـ كتاب الهدايات بالسريانية لابن العبري، باب 5 ف 3، طبعة بيجان العازاري سنة 1898 ص 60 (لا شليطين مؤيمنًا دنِزبنون وَنزَبنون مدم بيوم حدبشبا قديشا وبعادًا مإنيا).
([3]) ـ وهو الكتاب الذي كتب باليونانية ولا نعرف بالضبط إلى أي عهد يرجع، والغالب على الظن أن وضعه يعود إلى منتصف القرن الثاني للميلاد، كما يرجح ببعض معلوماته إلى عهد أكثر قدماً. وهو يشتمل على إرشادات أخلاقية، وأنظمة كنسية مع بعض صلوات شكر كانت تقال عند ممارسة سرّي العماد والعشاء السري، وما اقتبسناه ههنا من ترجمة عن الأصل اليوناني للقس الدكتور موريس سيد ـ بيروت 1968.
([12]) ـ المجلة البطريركية السريانية الأرثوذكسية دمشق عددا نيسان وأيار 1989 وعددا كانون الثاني وشباط 1991 ص78.
[13]) ـ الدرر النفيسة ص 576.
([14]) ـ اللؤلؤ المنثور في تاريخ العلوم والآداب السريانية للبطريرك أفرام الأول برصوم طبعة بغداد 1976 ص 301 والحاشية ص 302.
([15]) ـ اللؤلؤ المنثور في تاريخ العلوم والآداب السريانية للبطريرك أفرام الأول برصوم طبعة بغداد 1976 ص 301 والحاشية ص 302.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1993.
† ـ كنيسة القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1994.
† ـ كنيسة القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1995.
† ـ كنيسة القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1996.
† ـ كنيسة القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 2000.
† ـ كنيسة القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 2003.
† ـ كنيسة القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 2004.
† ـ كنيسة القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1991.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1993.
† ـ دير مار أفرام السرياني ـ معرة صيدنايا ـ دمشق، سنة 1996.
† ـ كنيسة السيدة العذراء للسريان الأرثوذكس في القاهرة ـ مصر، سنة 2001.
† ـ دير مار أفرام السرياني ـ معرة صيدنايا ـ دمشق، سنة 2002.
† ـ دير مار أفرام السرياني ـ معرة صيدنايا ـ دمشق، سنة 2003.
† ـ دير مار أفرام السرياني في معرة صيدنايا ـ دمشق، سنة 2004.
† ـ دير مار أفرام السرياني في معرة صيدنايا ـ دمشق، سنة 2007.
† ـ دير مار أفرام السرياني في معرة صيدنايا ـ دمشق، سنة 2008.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1991.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1996.
† ـ دير مار أفرام السرياني ـ معرة صيدنايا ـ دمشق، سنة 2003.
† ـ دير مار أفرام السرياني ـ معرة صيدنايا ـ دمشق، سنة 2007.
† ـ دير مار أفرام السرياني ـ معرة صيدنايا ـ دمشق، سنة 2008.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1995.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1995.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1991.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1994.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1995.
† ـ دير مار أفرام السرياني ـ معرة صيدنايا ـ دمشق، سنة 2004.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1989.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1991.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1992.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1994.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1996.
† ـ دير مار أفرام السرياني ـ معرة صيدنايا ـ دمشق، سنة 2004.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1996.
† ـ دير مار أفرام السرياني ـ معرة صيدنايا ـ دمشق، سنة 2008.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1989.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1990.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1991.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق، سنة 1995.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق، سنة 2001.
† ـ دير مار أفرام السرياني ـ معرة صيدنايا ـ دمشق، سنة 2004.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1980.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1981.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1982.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1983.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1984.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1985.
([23]) ـ قد يكون رأي بعض المعاصرين صائبا بقولهم ان الكوكب الذي يدعى اليوم بمذنب هالي، قد ظهر زمن ولادة السيد المسيح، ولكن هذا لا يعني أن مذنب هالي هو نفس النجم المذكور في الإنجيل المقدس وتعاليم الآباء تدل على أن النجم الذي ظهر للمجوس كان كائناً روحياً، أرشد المجوس إلى الرب يسوع حتى أنه وقف فوق البيت الذي كان الرب حالاًّ فيه. ولا يمكن أن يميّز مذنب هالي بيتاً صغيراً من سائر بيوت بيت لحم (المؤلف).
([24]) ـ كان الرب يسوع قد ولد في مغارة بيت لحم افراثة. واختتن هناك في اليوم الثامن، ثم اصعد إلى الهيكل بعد أربعين يوما، وحمله الشيخ شمعون، ثم مضى به يوسف والعذراء مريم إلى الناصرة وفي نهاية السنتين جاء المجوس ووجدوا الصبي وأمه في أحد بيوت بيت لحم أثناء زيارة ليسوع وأمه وخطيبها لبلدة بيت لحم ولم المجوس الطفل المضجع في المذود (المؤلف).
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1987.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1988.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1989.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1990.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1991.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1992.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1994.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 2007.
† ـ كنيسة القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1993.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1997.
† ـ دير مار أفرام السرياني ـ معرة صيدنايا ـ دمشق، سنة 2008.
† ـ دير مار أفرام السرياني ـ معرة صيدنايا ـ دمشق، سنة 2009.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1994.
† ـ دير مار أفرام السرياني ـ معرة صيدنايا ـ دمشق، سنة 2004.
† ـ دير مار أفرام السرياني ـ معرة صيدنايا ـ دمشق، سنة 2008.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1991.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1993.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1997.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 2004.
† ـ دير مار أفرام السرياني ـ معرة صيدنايا ـ دمشق، سنة 2009.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1993.
† ـ دير مار أفرام السرياني ـ معرة صيدنايا ـ دمشق، سنة 2004.
† ـ دير مار أفرام السرياني ـ معرة صيدنايا ـ دمشق، سنة 2006.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1995.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1997.
† ـ دير مار أفرام السرياني ـ معرة صيدنايا ـ دمشق، سنة 2004.
† ـ دير مار أفرام السرياني ـ معرة صيدنايا ـ دمشق، سنة 2008.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1994.
† ـ دير مار أفرام السرياني ـ معرة صيدنايا ـ دمشق، سنة 2005.
† ـ كنيسة القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1992.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1994.
† ـ كنيسة القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1994.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 2000.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1996.
† ـ دير مار أفرام السرياني ـ معرة صيدنايا ـ دمشق، سنة 2008.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1993.
† ـ بغداد 1977.
† ـ بغداد 1977.
† ـ دير مار أفرام السرياني ـ معرة صيدنايا ـ دمشق، سنة 2008.
† ـ دير مار أفرام السرياني ـ معرة صيدنايا ـ دمشق، سنة 2008.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1994.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1997.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 2005.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 2008.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1993.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 2001.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1993.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1994.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1995.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1996.
† ـ كاتدرائية القديس مار جرجس البطريركية في دمشق سنة 1997.
† ـ دير مار أفرام السرياني ـ معرة صيدنايا ـ دمشق، سنة 2004.
† ـ دير مار أفرام السرياني ـ معرة صيدنايا ـ دمشق، سنة 2009.