مار جاورجي الأول بطريرك أنطاكية

مار جاورجي الأول بطريرك أنطاكية (790+)

 

في «بعلتان»[1] إحدى قرى حمص، وفي أوائل القرن الثامن للميلاد، ولد جاورجي من أبوين فاضلين، وتربَّى تربية خالصة، مرتشفاً مبادئ الدين القويم من ينبوع مدرسة قريته وكنيستها. فشبّ وهو بأهداب الفضيلة متمسك، وفي حياة التقى راغب، وفي نفسه الكريمة ميل إلى عيشة الأديار. فانضوى إلى دير قنسرين[2] الشهير، مثوى الأتقياء ومنبت أشهر رجالات الكنيسة السريانية، حيث عكف على الدرس والمطالعة، فملك ناصية السريانية، وتمكن من اليونانية، وتعمّق في الفلسفة والفقه البيعي، وتبحّر في علم اللاهوت وتفسير الكتاب العزيز. ثم توشّح بالإسكيم الرهباني المقدس، ورسم شماساً. وإذ كان مثالاً صالحاً لإخوته الرهبان نسكاً وعلماً وتقى، ذاع صيت فضائله في الآفاق.

وفي كانون الأول سنة 758 عقد الأساقفة مجمعاً في منبج[3] لانتخاب خلف للبطريرك إيوانيس الأول (754+) فوقع اختيارهم على المترجَم، فرسموه بطريركاً للكرسي الرسولي الأنطاكي.

غير أن هذا العمل لم يرق ليوحنا أسقف الرقة وداود أسقف دارا، وكان كل منهما يطمح إلى التربّع على السدة البطرسية، بحجة أنه لا يسوغ أن ينصب بطريركاً من كان بعد في رتبة الشماسية كجاورجي. وأدّى بهم الأمر إلى عصيان سافر، حسداً من مناقبه ـ وصاحب الفضل محسود ـ وأشعلا فتنة عمياء في بيعة اللّـه، وعملا على تفكيكها. فاغتصب الأول اسم البطريركية. ولما هلك بعد أربع سنوات، خلفه زميله سنة 766 وشخص إلى بغداد حيث وشى بالبطريرك مار جاورجي لدى الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور قائلاً: إنه صار بطريركاً بدون إذن منك، وأخذ من ثم يضايقنا بالضرائب. وكلما سألناه السبب في عدم حصوله على براءة منك، أجاب أنه لا يجوز أن يلج متاعه اسم نبي المسلمين. فوقعت الوشاية من الخليفة موقعاً حسناً، فاستشاط غضباً وأمر فقبضوا على البطريرك القديس، وعروه من ثيابه، وبسطوا ذراعيه. فصرخ باللغة اليونانية قائلاً: «يا والدة الإله أعينيني». فسأل الخليفة عما يقول، فأجابه أحد اللؤماء أنه يكفر. فأمر بضربه بالسياط. فلما ضرب ثلاثاً، سال دمه الزكي على الأرض. ثم سأله الخليفة: لمَ لم تأخذ براءة منا؟ فأجاب القديس: «لأني لا أريد إكراه أحد». وسأله أيضاً ولماذا تأبى حمل اسم نبينا؟ فذهل القديس لهذا السؤال وقال: «هوذا اسم نبيكم في جميع أمتعتنا، فضلاً عن طبعه على دراهمنا ومسكوكاتنا». وهكذا أخرس الحق الصريح الخليفة، الذي أعجب بذكاء القديس وشجاعته، وأيقن أنه بريء مما ألصق به من التهم. غير أن محبته للمال دفعته إلى سجنه وتعذيبه. فأمر كاتبه بنقله إلى داره واستجوابه عن معرفته بصناعة الكيمياء الكاذبة، طامعاً منه بكشف كنوز ذهبية. فمكث في داره ثلاثة أيام، لا يأكل ولا يشرب. وأخيراً طرح في السجن مع الأسرى.

ومنح الخليفة، داود الخائن، براءة بطريركية، وأكره الشعب السرياني على الخضوع له كبطريرك. فكان بعض أتباعه يستلون السيوف ويحيطون بالمذبح ويضطرون الرجال والنساء إلى الاشتراك معه في تناول القربان المقدس.

أما فضلاء المؤمنين فظلوا مخلصين لجاورجي المعترف، رغم ما ذاقوه من أمر العذابات وأقسى الإهانات في سبيل ذلك، حتى أن الأساقفة لبسوا ثياباً بيضاء كالعلمانيين، وأخذوا يجوبون القرى والدساكر متنكرين، يسوسون الكنائس، ويقومون بالخدم الدينية لمن ظل من المؤمنين أميناً لربه ولكنيسته، ومخلصاً لسيده البطريرك جاورجي، ويكفونهم حاجاتهم الروحية.

فلو تخيلنا أنفسنا من زائري سجن بغداد يومذاك، لرأينا في زاوية من زواياه المظلمات، شيخاً جليلاً قد أنهكت السياط قواه، فيما أن الابتسامة الملائكية لم تفارق ثغره. إنه الرجل الإلهي مار جاورجي. وكأني به يسخر من الآلام التي تقبّلها بصدر رحب منشرح حباً بسيده المسيح ليس إلاّ وينطق بصمته الرهيب إن «هذا ما أصابني من إخوتي ومن بني أمتي». إنها «الجراح التي أثخنتني في بيت أحبائي». كلا يا سيدي الجليل، إن الذين ظلموك وظلموا الرعية، هم أجراء دخلاء وذئاب خاطفة متلبسة بثياب الحملان، بل لصوص وسراق، لذلك لم ولن تسمع لهم الرعية لأنها لا تعرف صوت الغريب.

وتحدّثنا نظرات جاورجي العميقة عما كان يجيش في خاطره ويكنه قلبه الأبوي الكبير من العطف والاهتمام بأمور كنيسة اللّه. وكأني به يقول: أخبروني يا أحبائي، كيف حال كنيسة اللّـه السريانية، وإلى أي مدى بلغ الدخلاء اللؤماء من تمزيق شملها؟

ـ إنه قد تمّ فينا قول القائل: «ضرب الراعي فتشتتت الخراف»! فالكنيسة في حالة يرثى لها: أساقفتها مبددون، أغنامها الوديعة مشرّدة، وهي أحوج ما تكون إليك يا راعيها الصالح لتجمع شملها وتداوي جرحها.

ونراه يرنو إلى الأرض بكآبة وهو يستمع إلينا ونحن نحدّثه عن حالة الكنيسة السيئة، فيتأوه طويلاً، ثم يستعيد جأشه غير ناسٍ واجبه الأبوي بإرشاد تلاميذه، وإن كان في أشد الضيقات. لذلك نسمعه يقول: تشجعوا يا بنيَّ ولا تضطرب قلوبكم هلعاً، فاللّـه مع كنيسته إلى منتهى الدهر، وإن أبواب الجحيم لن تقوى عليها بحسب وعده الإلهي الصادق. أجل، إنه يكلأها بعينه اليقظى ولئن زجّ جاورجي في غياهب السجون، ويقيم لها عشرات الرجال أمثال جاورجي، يحيطون بأسوارها كالحراس الأمناء. فاذهبوا وثبّتوا إخوانكم وعلّموهم أن يصبروا ويصابروا على هذه التجربة، واثقين من أن الفرج على الأبواب.

هذا ما ترجمته آلام القديس جاورجي المريرة في سجن المنصور، في تلك الفترة العصيبة من الزمن، وهي التي أوحت إليه بمدراشه السرياني الفريد الذي رثى به نفسه. ومما قاله في أحد أبياته: «طوبى لي حين أنبأ بسقوط بابل مدينة الجبابرة، وفتح أبواب السجون، فأخرج كالرسول بطرس ظافراً، وأنشد طرباً نشيد زكريا «هوذا الشمس تشرق على العميان من العلى. لقد بكت يوماً بنات صهيون دانيال، فابكي أنت أيتها الأديار جاورجي».

ويطوي الزمان صفحته، ويقضي البطريرك جاورجي في السجن تسع سنوات، ويعتقل معه ثاودوريط بطريرك الروم الملكيين (الأرثوذكس) ويعقوب جاثليق النساطرة بوشاية من الظالمين. ولم يطلق سراحهم إلاّ بموت أبي جعفر المنصور سنة 775. بيد أن الخليفة المهدي أشار إلى صاحب الترجمة ألاّ يسمي نفسه بطريركاً عملاً بأمر أبيه المجحف.

غادر القديس بغداد، وزار تكريت[4] فالموصل فما بين النهرين العليا، «فتلقته الكنيسة كملاك نزل من السماء»، وذلك في الاستقبالات الفخمة والحفلات المهيبة التي أقيمت تكريماً له حيثما يمّم. ثم وصل إلى أنطاكية حيث رسم عشرة أساقفة، وأقصى عن الأبرشيات أولئك الذين سمّاهم داود الدخيل. وأخذ يطوف البلاد، متفقّداً شؤون المؤمنين، بانياً النفوس والكنائس، بهمة لم تعرف الكلل وغيرة لم يشبها الملل. فلا عجب بعد هذا إذا ما أنهك الجهد المتواصل قواه، فما أن وصل إلى قلوديا[5] حتى شعر بدنو أجله، فقصد دير مار برصوم القريب من ملطية، حيث انتقل إلى جوار ربه في اليوم الأول من شهر كانون الأول سنة 790 بعد أن «جاهد الجهاد الحسن وأكمل السعي وحفظ الإيمان» واستحق أن يتجرّع في سبيل الحق كؤوساً مترعة من الآلام المريرة، صابراً عليها صبر القديسين. فدفن في الدير نفسه، وعيَّدت له الكنيسة في السابع من الشهر المذكور.

وعلاوة على أعماله الرعوية، وتحمّله المشاق من أجل الإيمان مدة مديدة، فقد ترك لنا شرحاً وافياً لإنجيل متى، ورسالة لاهوتية أنفذها إلى كوريا شماس بيت نعر من قرى الرها، في عبارة «نكسر الخبز السماوي». كما أنه نظم في السجن ميامر[6] ومداريش[7]، ضمّ بعضها إلى الفرض الكنسي.

 

المصادر:

1 ـ التاريخ الكنسي لابن العبري ثلاثة مجلدات.

2 ـ اللؤلؤ المنثور للعلامة البطريرك أفرام الأول برصوم.

3 ـ ذخيرة الأذهان للقس بطرس نصري الكلداني مج1.

4 ـ الخريدة النفيسة في تاريخ الكنيسة للأسقف إيسيدورس ج2.

5 ـ رغبة الأحداث للقس أسحق أرملة ج2.

 

الهوامش

—————————————————-

([1])ـ قرية مندثرة كانت في جنوبي حمص.

([2])ـ أسس سنة 530 على شاطئ الفرات مقابل بلدة جرابلس وخرب في القرن الثالث عشر.

([3])ـ تقع في شمال شرقي حلب. كانت مدينة كبيرة، أما اليوم فهي بلدة صغيرة.

([4])ـ تقع غربي دجلة بين بغداد والموصل. كانت في الماضي مقراً لكرسي مفارنة المشرق لمدة ستة قرون تقريباً.

([5])ـ بلدة بقرب ملطية، خربت بعد القرن الثالث عشر.

([6])ـ مفردها ميمر، وهو قصيدة سريانية. وتطلق أيضاً على المقالة أو الخطبة.

([7])ـ واحدها مدراش، وهو شعر يصاغ على أوزان مختلفة ويرتل بألحان شتى.

 

للأعلى