مار توما الرسول

مـار تومــــا الرســـــول

 

المقدمة:

رسالة الفداء والرسل الاثنا عشر:

إن رسالة الفداء التي جاء بها الرب يسوع من السماء هي رسالة محبة، محبة اللّـه تعالى لبني البشر كافة. هذه المحبة تجلّت بموت الرب يسوع على الصليب لخلاص البشرية «لأنه هكذا أحب اللّـه العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية» (يو3: 16) ولكي تصل هذه الرسالة إلى أقطار المسكونة قاطبة، اختار الرب اثني عشر رسولاً خرّجهم في مدرسته الإلهية مدة ثلاث سنوات وثلاثة أشهر، علّمهم خلالها بكلامه، وبحياته، الدروس السامية بالمحبة، ونكران الذات والتضحية، فحملوا صليبه، وصلبوا ذواتهم معه على الخشبة، ودفنوا أنانيتهم في القبر الجديد، وقاموا معه في اليوم الثالث في جدة الحياة أناساً جدداً، ليحيوا لا هم، بل المسيح يحيا فيهم، فتلاشت مصالحهم الشخصية، فكانوا يطلبون ليس ما هو لأنفسهم، بل ما هو للـه، ولخلاص الإنسان وإذ حاد واحد منهم عن جادة الحق، حُذف اسمه من سفر الحياة. إنه يهوذا الإسخريوطي ابن الهلاك. أما الأحد عشر فقد استحقوا أن يروا المسيح قائماً من بين الأموات، بل أن يروه أيضاً صاعداً إلى السماء، وقبل صعوده رفع يديه وباركهم، ووضع على عاتقهم مسؤولية نشر البشارة الإنجيلية في أقطار المسكونة قائلاً لهم: «اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها» (مر16: 15) ويوم الخميس حلَّ عليهم الروح القدس حسب وعد الرب لهم، فثبّتهم، وشجّعهم، وعلّمهم، وذكّرهم بكل ما قاله الرب يسوع لهم.

مار توما الرسول

هؤلاء هم سفراء المسيح الأبطال الذين تحمّلوا في سبيل تأدية الشهادة السامية صنوف الاضطهادات، والضيقات، والآلام، والعذابات وحتى الاستشهاد. واعتبروا نشر بشارة الإنجيل رسالة إلهية أنيط بهم القيام بأعبائها، لذلك يقول الرسول بولس: «لأنه إن كنت أبشّر فليس لي فخر إذ الضرورة موضوعة عليَّ. فويلٌ لي إن كنتُ لا أبشّر» (1كو9: 16) والرسولان بطرس ويوحنا يقولان: «لأننا نحن لا يمكننا إلاّ أن نتكلّم بما رأينا وسمعنا» (أع4: 20) وهكذا تمّ قول صاحب المزامير القائل: «في كل الأرض خرج منطِقهم وإلى أقصى المسكونة كلماتهم» (مز19: 4).

 

توما الرسول:

كان توما أحد هؤلاء الرسل، ويُعدُّ السابع بين الاثني عشر (مت10: 3) وبما أنه بشّر في الهند، فإنه يدعى رسول الهند، ولكن معرفتنا بتفاصيل أعماله التبشيرية يسيرة جداً بالمقارنة مع معرفتنا بأعمال مار بطرس ومار بولس وغيرهما من الرسل والمبشرين، ولكننا مع ذلك لا نجهل عنه كل شيء. وبتناولنا ترجمة حياته بالدرس، وحديثنا عنه، نستند إلى الإنجيل المقدس، والتقليد الكنسي السرياني الموثوق به.

 

اسمه:

كان توما من بلاد الجليل، ولد وشقيقه أدى ـ أحد السبعين ـ توأمين ـ فدعي بالسريانية توما، أي التوأم (يو11: 16و21: 2) ويدعى أيضاً يهوذا، وهو غير يهوذا الإسخريوطي الذي أسلم الرب.

 

محبته للرب يسوع:

كانت محبة توما للسيد المسيح عميقة جداً، وخالصة، وصافية، حتى أنه كان مستعداً لأن يموت مع الرب، فقد ذكر الإنجيل المقدس أن الرب يسوع لما عزم على التوجّه إلى بيت عنيا لإقامة لعازر من بين الأموات حذّره تلاميذه مذكّرين إيّاه بمحاولة اليهود قتله، فقال توما لإخوانه التلاميذ: «لنذهب نحن أيضاً لكي نموت معه» (يو11: 16).

وفي العشاء الأخير، لما سمع توما الرب يسوع يتكلّم عن انفصاله عن تلاميذه، بالجسد، وأنّهم سيتبعونه، قال له: «يا سيد لسنا نعلم أين تذهب فكيف نقدر أن نعرف الطريق؟» قال له يسوع: «أنا هو الطريق، والحق، والحياة» (يو1: 5و6) فنحن مدينون لتوما بسؤاله هذا، حيث أن جواب الرب يظهر للعالم حقيقة الدين المسيحي المؤسس على المسيح يسوع الذي هو الطريق، والحق والحياة.

 

تشككه بقيامة الرب يسوع:

وقد اشتهر توما بتشككه بحقيقة قيامة الرب من بين الأموات، وإيمانه بالقيامة بعد رؤيته الرب حياً. كان الرب له المجد، قد أخبر تلاميذه قبل صلبه، أنه سيصلب ويموت، وفي اليوم الثالث يقوم، وذكَّرهم بحادثة النبي يونان، كما كان قد أشار إلى رفع موسى الحية في البرية، واعتبر ذلك رمزاً لصلبه على العود، وقال لهم أن يهدموا الهيكل وهو يقيمه في ثلاثة أيام، هذه الأقوال والتشابيه والرموز وغيرها، فاه بها الرب أمام تلاميذه، ولكنهم لم يدركوها ولم يسبروا غورها، فبعد أن صلب ومات ودفن في القبر الجديد، قام من بين الأموات في فجر الأحد، وظهر يوم قيامته خمس مرات لبعض النسوة والتلاميذ، ولما كانت عشية ذلك اليوم وهو أول الأسبوع، وكانت الأبواب مغلقة، حيث كان التلاميذ مجتمعين بسبب الخوف من اليهود، جاء يسوع ووقف في الوسط وقال لهم سلام لكم، ولما قال هذا أراهم يديه وجنبه ففرح التلاميذ إذ رأوا الرب… أما توما أحد الاثني عشر الذي يُقال له التوأم فلم يكن معهم حين جاء يسوع، فقال له التلاميذ الآخرون قد رأينا الرب، فقال لهم: «إن لم أبصر في يديه أثر المسامير وأضع إصبعي في أثر المسامير، وأضع يديّ في جنبه لا أؤمن» (يو20: 19 ـ 25). وهكذا كان توما يصرّ على طلب البرهان الحسي. ومرّ أسبوع كان عند توما أطول من عام، إنها فترة التجربة، لم يظهر الرب خلالها لأحد «وبعد ثمانية أيام كان التلاميذ داخلاً وتوما معهم، فجاء يسوع والأبواب مغلقة ووقف في الوسط وقال سلام لكم، ثم قال لتوما: هات إصبعك إلى هنا وأبصر يديَّ، وهات يدك وضعها في جنبي، ولا تكن غير مؤمن بل مؤمناً. أجاب توما قائلاً: ربي وإلهي، فقال له يسوع لأنك رأيتني يا توما آمنت طوبى للذين آمنوا ولم يروا» (يو20: 26 ـ 29).

يقال أن إصبعي توما السبّابة والوسطى ملتصقتين منذ ولادته فانفكتا لما وضعهما توما مكان المسامير في كفي الرب. ويقال أيضاً أن توما لم يجرؤ على أن يضع إصبعه موضع المسامير في كفّي السيد المسيح، ويده في جنبه.

وإذا كان توما قد أساء بشكوكه إلى رفاقه التلاميذ بعدم تصديقه كلامهم، وأساء أيضاً إلى الرب بعدم إيمانه بقيامته التي كان الرب قد أعلن عنها قبل آلامه. فإنه يعذر بطلبه البرهان الحسي لشدة شوقه لرؤية الرب قائماً من بين الأموات كما رآه رفقاؤه، وقد استوحى البرهان الحسي من كيفية ظهور الرب للتلاميذ أول مرة، حيث أراهم يديه وجنبه، ولم يكن توما أقل محبة لمعلمه من رفقائه حتى لا يظهر له الرب وقد ظهر لهم. وهو مثلهم سيحمل مشعل الإنجيل المنير إلى العالم، لذلك يود أن يرى المسيح قائماً من بين الأموات ليبشّر بالمسيح الحي. وبعد ظهور الرب للتلاميذ وتوما معهم انقلب الشك لديه إلى إيمان ثابت، بل أن شكوك توما غدت حقاً سبيلاً يؤدّي بالباحث إلى الإيمان وقد أتى بالملايين من الناس إلى الإيمان بالمسيح القائم من بين الأموات، كما صارت سبباً لإعطاء الطوبى للذين آمنوا ولم يروا.

وفي إيمانه، طرح توما نفسه عند قدمي يسوع، ونادى «ربي وإلهي» وبذلك أيّد وحدة المسيح الطبيعية والأقنومية، فهو يرى إنساناً، ويرى جروحاً، وقد يكون لمس هذه الجروح الكريمة، أو لم يلمسها، المهم في الأمر أنه شاهد المسيح الإله المتجسّد الذي صلب، ومات، ودفن، وقام من بين الأموات حياً، ودعاه رباً وإلهاً، وبذلك اعترف بطبيعة واحدة، وأقنوم واحد للسيد المسيح، لأنه لا يصح لنا أن نطلق عليه الصفات الإلهية والبشرية في آن واحد، لولا وحدة الطبيعة، ووحدة الأقنوم فيه.

ورأينا توما بعدئذ مع بعض التلاميذ يتصيّد في بحيرة طبرية بعد قيامة الرب، حيث أظهر لهم الرب نفسه (يو21: 1و2).

 

مار توما في التقليد الكنسي السرياني:

يذكر التاريخ الكنسي أن توما الرسول أرسل إلى الرها أخاه أدى وهو أحد المبشرين السبعين. وأما هو فقد توجه إلى المشرق حيث دعا إلى الإيمان شعوباً مختلفة، وبشّر الحامية الفارسية المجوسية التي كانت في تكريت، وختم أعماله التبشيرية في الهند على عهد كوندفر البرثي أحد ملوكها[1].

قصة ذهاب مار توما إلى الهند:

في التقليد الكنسي السرياني قصة شيقة، يعتبر الرسول توما بطلها، وتبدأ حوادثها بمحاولة الرسل اقتسام مناطق العالم المعروفة عصرئذ بينهم، ليذهب كل منهم إلى منطقة ينشر بشارة الإنجيل فيها. فأصابت القرعة الرسول توما للذهاب إلى الهند، فخاف توما كثيراً وارتعب وتردّد بقبول ذلك، بل كان أقرب للرفض منه إلى القبول، فيظهر له السيد المسيح ويقول له: إذا لم تذهب أنت إلى الهند فسأذهب أنا بنفسي إليها وأموت ثانيةً، فأذعن توما للأمر، بعدما نال وعداً من الرب بألاّ يتخلّى عنه تعالى، بل يكون معه حيثما يذهب. وتقول القصة أن تاجراً هندياً اسمه حابان أرسل إلى سورية في تلك الأيام من قبل أحد ملوك الهند لإيجاد بنّاء ماهر يشيد للملك قصراً منيفاً، فباع الرب يسوع تلميذه توما عبداً للتاجر حابان إلى بلاد المشرق بطريقه إلى الهند. واجتاز بلاد العراق فبشّر أهلها[2].

ويذكر التاريخ أن مار توما وجد في بلاد ما بين النهرين المجوس الذين كانوا قد سجدوا للرب يسوع وهو طفل في بيت لحم، فبشّرهم، معلناً لهم أن الفداء قد تمّ بموت السيد المسيح صلباً ودفنه وقيامته في اليوم الثالث، فآمنوا واعتمدوا، ورسم منهم كهنة وأساقفة، وواصل سفره إلى بلاد الهند فوصل إليها سنة اثنتين وخمسين للميلاد. ويقال أنه بدأ تبشيره بالجنوب ثم واصل العمل إلى الشمال والتقى الملك سيد التاجر حابان، وأخذ منه أموالاً طائلة لتنفق في تشييد القصر المذكور، ولكنه وزّعها على الفقراء والمعوزين. ولما سمع الملك استدعاه إليه وسأله جليّة الأمر، فقال له توما أنه قد بنى له قصراً فخماً في السماء، فغضب الملك كثيراً، وألقاه في سجن عميق وجعله تحت حراسة مشدّدة، وتعذيب مرير، ريثما يردّ إليه المال… وهكذا تحمّل توما الآلام والعذابات وحده… لما كان بطرس في السجن كانت الكنيسة تواصل الصلاة لأجله، فأخرجه ملاك الرب، ولما كان بولس في السجن كان تلاميذه يخدمونه، فكان ذلك عزاء له، أما توما فقد كان وحده في سجنه في بلاد بعيدة اعتبرت في تلك الأيام بلاد الغرائب والعجائب، ولكننا على يقين بأن الرب يسوع كان معه يشجّعه على تحمّل المشقات كجندي صالح. وقد دبّر وسيلة لإنقاذه. ونجاح مهمّته التبشيرية، ذلك أن (جاد) أخا الملك ابتلي بمرض عضال، ومات ونقلت الملائكة روحه إلى السماء حيث شاهد قصراً منيفاً، قيل له أنه القصر الذي شيّده توما لأخيه الملك، ثم أعاد اللّـه (جاد) إلى الحياة، فلما رآه أهله حياً انذهلوا، فقصّ عليهم جاد ما رآه في السماء، وطلب إلى أخيه الملك ليبيعه القصر الذي شيّده له توما في السماء… فصدّق الملك الرؤيا… وأطلق سراح الرسول توما، وآمن بالرب يسوع هو وأهل بيته، وعظماء مملكته، واعتمدوا جميعاً، بل ساعدوا توما في نشر البشارة الإنجيلية فرسم منهم كهنة وأساقفة، وغادرهم ليواصل تبشيره بالإنجيل في مناطق أخرى من بلاد الهند.

 

خطف توما بالروح ورؤيته العذراء مريم:

ويُحكى عن توما قصص أخرى شبيهة بقصة تشييد القصر في السماء، لا مجال لذكرها هنا، ولكن لا بدّ من التنويه في هذه العجالة بحادثة خطف توما بالروح وذهابه من الهند إلى المدينة المقدسة، للاشتراك بتجنيز السيدة العذراء والدة اللّـه مريم، وتأخير وصوله إلى هناك، ورؤيته وهو في الطريق العذراء تصعد إلى السماء بموكب ملائكي عجيب، وطلبه منها علامة يبرهن بها لإخوته التلاميذ عن صدق حديثه عندما يخبرهم عما شاهده، فأعطته زنارها، وبعدما اجتمع توما بالتلاميذ، وطلب إليهم فتح ضريح السيدة العذراء، ففعلوا ولم يجدوا الجثمان الطاهر، أخبرهم بما رأى، وعاد إلى الهند آخذاً معه الزنار المقدس[3].

استشهاده:

تحمّل مار توما الرسول العذاب الأليم من الوثنيين في الهند حتى أنهم سلخوا جلده كما يسلخ جلد الحمل الوديع، فوضع جلده على كتفه بصبر عجيب، وجال بين الناس يبشّر باسم السيد المسيح حتى هجم عليه كهان الوثنيين وهو يصلّي وطعنوه بالرماح في جنبه الأيمن، ففاضت روحه الطاهرة في عام 75م في مدينة ميلابور القريبة من مدراس حيث دفن جثمانه الطاهر، واقترن اسمه ببلاد الهند، فهو رسول الهند. قال كيرلس اليسوعي نقلاً عن حوادث البرتغاليين أنّهم وجدوا عند مرورهم بمسيحيي ميلبار (جنوب الهند) أن هؤلاء يقولون في كتب صلواتهم باللغة السريانية ما ترجمته «إن القديس توما اجتذب إلى الإيمان المسيحي الحبشة والصير والعجم»[4] ويعني بالحبشة بلاد الهند، فقد جرت العادة أن يُطلق على جميع الشعوب السود لوناً، اسم الأحباش أو الكوشيين[5].

 

نقل رفاته إلى الرها:

في 3 تموز من عام 394م نقلت الجالية السريانية الرهاوية[6] رفات مار توما الرسول من الهند إلى الرها فوصل إليها في 22 آب من السنة ذاتها، وأودع في الكاتدرائية الفخمة التي كان قورا أسقفها، قد وضع حجر أساسها وبدأ بتشييدها سنة 313م، وأنجز بناءها بعده الأسقف سعاد. وهي على اسم مار توما الرسول.

 

قداسة سيدنا البطريرك يحمل ذخائر القديس مار توما الرسول

التي اكتشفها في عهد مطرنته على أبرشية الموصل عام 1964

أديرة وكنائس على اسم الرسول توما:

شُيدت على اسم الرسول توما أديرة وكنائس عديدة في أماكن شتى من العالم، فمن الأديرة المشهورة دير قنسرين الذي أنشئ على شاطئ الفرات مقابل بلدة جرابلس، وذلك نحو عام 530، وتخرّج في مدرسته رهبان عديدون، وخمسة عشر أسقفاً، وسبعة بطاركة، وكان عامراً حتى القرن الثالث عشر. أما الكنائس فعديدة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر كاتدرائية مار توما الرسول الفاخرة في الرها، التي مرّ بنا ذكرها. وكنيسة مار توما الرسول في باب المُحوِّل في الكرخ في بغداد، وتسمى أيضاً كنيسة قطيعة الدقيق التي أنجز بناؤها في غضون القرن التاسع للميلاد، وأحرقت عام 1002م وجدّدها المفريان إغناطيوس الأول عام 1004م ثم هدمت في القرون المتأخرة. وفي عام 1978 شيّد المؤمنون في بغداد كنيسة جديدة على اسم مار توما الرسول بالكرخ في بغداد[7] لإحياء ذكرى كاتدرائية مار توما في باب المُحوَّل في الكرخ.

ومن الكنائس القديمة العهد التي شيِّدت على اسم مار توما الرسول كنيسته في الموصل[8] بالعراق التي ذكرت في التاريخ مركزاً للأبرشية منذ بدء القرن السابع للميلاد، ويعتقد أنها كانت داراً لأحد المجوس الذين سجدوا ليسوع وهو طفل في بيت لحم، وبشّرهم الرسول توما، فأمنوا بالرب، وحوَّل هذا المجوسي داره إلى كنيسة وهي لا تزال عامرة[9].

اكتشاف ذخيرة الرسول توما:

عام 1964 بينما كانت أعمال الترميم تجري في كاتدرائية مار توما الرسول في الموصل على عهد مطرانيتنا لتلك الأبرشية، اكتشف في ثغرة في أعلى العمود الأول الواقع عن يسار الشخص المواجه مذبح الكنيسة القديمة[10] جرن حجري من الرخام الصلب، لونه أبيض مائل إلى الحمرة ملفوف بقماش أبيض، بُلي لقدمه، والجرن ذو ستة وجوه مستطيلة الشكل، طول سطحه 5 ,13سم، وعرضه 5 ,8 سم، وارتفاع كل من جوانبه 8سم، وعمقه الداخلي 5 ,14سم، وعرضه الداخلي 5 ,5سم، وطوله الداخلي 9سم. غطاؤه مستدق الأطراف منحوت من الحجر ذاته. كتب على أحد جوانب الجرن الطويلة بالقلم السرياني الإسطرنجيلي (مار توما)، وبالقلم السرياني النسخي الذي بشّر بلاد الهند. وفي الجانب المقابل للكتابة دُقَّ مسمار حديدي لتثبيت الجرن بالبناء. وفي الأول من أيلول 1964 فتحنا الجرن فوجدنا داخله قطعاً صغيرة من العظام والبخور، ملفوفة بقماش أصفر اللون بلي لتقادم عهده، وتناثرت أجزاؤه عند لمسه. وبعد أن درسنا بإمعان وتمحيص مع من لهم إلمام واسع ودراسات قيّمة في علم الآثار والتاريخ، تأكّد لدينا بأننا عثرنا على كنز ثمين هو جزء من رفات القديس مار توما الرسول، فأقمنا الصلاة المناسبة، وتبركنا والمؤمنين من هذه الذخيرة المقدسة. وأعدنا القماش البالي إلى موضعه في الجرن، ثم ختمنا الجرن، وشيّدنا مقاماً لائقاً في الكاتدرائية ذاتها، ووضعنا الذخيرة.

والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المجال هو: كيف وصلت هذه الذخيرة إلى الموصل؟! والجواب على ذلك هو أن رفات مار توما كانت قد نقلت إلى الرها في القرن الرابع كما مرّ بنا، وأن الرها والموصل تخضعان للكرسي الرسولي الأنطاكي، وقد اعتاد السريان لدى تشييدهم الكنائس على اسم أحد القديسين أن يحتفظوا بجزء من رفات هذا القديس للبركة. فلا يستبعد طلب الكنيسة في الموصل جزءاً من رفات القديس توما من الكنيسة في الرها عن طريق الكرسي الرسولي الأنطاكي، خاصة وأن كنيسة الموصل تعتبر من الكنائس القديمة جداً، ويظن أنها كانت بيت مجوسي كما مرّ بنا، وأن القديس توما عندما اجتاز العراق في طريقه إلى الهند قد حلّ في ذلك البيت.

 

الخاتمة:

قال أوسابيوس القيصري المؤرخ (339+): «أن المسيحيين منذ فجر النصرانية كانوا ولا يزالون يجتمعون عند مدافن الشهداء ويقدمون الصلوات والنذور مكرمين رفاتهم». ولا غرو فإن للقديسين كرامة لدى اللّـه تعالى، فقد جاء في سفر التكوين قول الرب الإله لإسحق «لا تخف لأني معك وأباركك وأكثر من نسلك من أجل إبراهيم عبدي» (تك26: 24)[11]. وجاء في ليترجية مار يعقوب أخي الرب دعاء يرفع إلى الرب عن القديسين وهو: «أننا نذكرهم لكي يذكرونا أمامك». وإن لذخائر القديسين كرامة كبرى، وقوة سماوية سامية، فإن موسى حمل عظام يوسف عندما غادر شعب العهد القديم مصر(خر13: 19) ويقول الآباء إن عظام يوسف غدت سوراً للشعب في البرية، ونقرأ في الكتاب المقدس عن عظام إليشاع النبي التي ما إن لامستها جثة الشاب الميت حتى عادت الحياة إلى ذلك الشاب[12].

قال مار يعقوب السروجي الملفان السرياني الكبير (521+) وهو يخاطب الرسول توما على لسان الرب يسوع ما تعريبه: «في ذلك المكان الذي يجثم فيه رفاتك الطاهر إلى يوم النشور هناك تستقر قوة يستشفي بها جميع المنكوبين».

«فلقاء أنك ستطعن بالحربة مثلي لأنك أحببتني كثيراً، ستنساب منك أنهار مياه حية».

«لقاء إرسالي إيّاك بصفة عبد إلى الديار الهندية، سيرسل الملوك في أثر رفاتك احتراماً».

«يكون ضريحك حصن معونات للعظماء والبسطاء، وبه يحتمي جميع الذين عضتهم أنياب الضيق والاضطهاد».

«فجسدك يكون ميناء السلام يقل البشر، ويقصدك الناس زرافات ووحداناً من جميع أنحاء المعمورة إجلالاً لعظامك»[13].

لتكن صلاة الرسول توما معنا جميعاً لننال الطوبى التي أعطاها الرب للذين، وإن لم يروه، آمنوا به مخلصاً ورباً وإلهاً عظيماً، صلب، ومات بالجسد، وقام في اليوم الثالث من القبر حياً ممجَّداً.

مقام ذخائر مار توما الرسول في كنيسة مار توما بالموصل ـ العراق

 

الهوامش

——————————————–

([1])ـ تفصيل ترجمة توما الرسول في التاريخ الكنسي السرياني لابن العبري المجلد الثاني (المفارنة) وفي سيرة الشهداء والقديسين السريان ـ طبعة بيجان، وتاريخ أوسابيوس (1: 13 و3: 1).

([2])ـ الدرر النفيسة للبطريرك أفرام الأول برصوم حمص 1940 ص198.

([3])ـ نقل هذا الزنار المقدس في القرن الرابع من الهند إلى الرها مع رفات القديس مار توما ثم نقل الزنار وحده إلى كنيسة العذراء في حمص التي دعيت بكنيسة أم الزنار، ووضع في مذبحها الوسط واكتشف سنة 1952م ولا يزال هناك يتبرّك به المؤمنون.

([4])ـ الخريدة النفيسة للأسقف أيسيدورس ـ مصر مج1 ص53. ولا يزال السريان في الهند يصلّون بالسريانية، وقد ترجموا بعض الصلوات من السريانية إلى لغتهم المحلية (المليالم) وقد اكتشف صليب من حديد سنة 1625 في بلاد الصين يعود تاريخه إلى عام 239م مكتوب عليه بالسريانية واكتشف أيضاً عمود محفور باللغة السريانية بأيدي أحد الرهبان كا اكتشفت مخطوطات كتبت على (البردي) مكتوب عليها بالسريانية والصينية.

([5])ـ الدرر النفيسة للبطريرك أفرم الأول برصوم حمص عام 1940 ص211و212.

([6])ـ كانت الجالية الرهاوية تتألف من اثنتين وسبعين عائلة تعد أربعمائة نفس فيها قسوس وشمامسة وبرئاسة الأسقف يوسف الرهاوي وتاجر اسمه توما الكنعاني غادرت الرها إلى جنوبي الهند في منتصف القرن الرابع، وحلّت قرب كوجين، وأعطيت امتيازات سامية ولم تمتزج بالمصاهرة مع بقية المسيحيين ونمت وكثرت وهي تؤلف الآن أبرشية الكناعنة التي يبلغ عددها أكثر من ربع مليون نسمة. وهذه الجالية حسّنت حالة المسيحيين الاجتماعية ووطّدت العلاقة بين الكرسي الرسولي الأنطاكي والكنيسة في الهند فأطلق على الكنيسة اسم الكنيسة السريانية وسمي المسيحيون هناك سرياناً منذ ذلك التاريخ، كما استعمل الطقس السرياني الأنطاكي واللغة السريانية بالطقس، ويقول العلامة ابن الصليبي (1171 +) أن الكنيسة في الهند تستعمل في صلواتها عبارة «يا من صلبت من أجلنا» العبارة التي تستعملها الكنيسة السريانية الأرثوذكسية الجامعة ومن هنا نعلم بأن الكنيسة السريانية في الهند هي جزء من الكنيسة السريانية الجامعة عقيدة وطقساً وتاريخاً.

([7])ـ شيدت هذه الكنيسة على عهد مطرانيتنا لبغداد وسنة 1980 على أثر انتخابنا بطريركاً أقمنا فيها مقاماً لائقاً أودعناه جزءاً من ذخيرة مار توما الرسول التي كانت قد اكتشفت في كاتدرائية مار توما في الموصل عام 1964 على عهد مطرانيتنا لأبرشية الموصل.

([8])ـ الموصل وكانت تدعى نورادشير، بنيت سنة 570م على نهر دحلة في الجهة المقابلة لأطلال مدينة نينوى المندثرة، وسمّاها العرب الموصل، وكانت لها أهمية تجارية كبرى. ولها مكانتها في التاريخ الكنسي حيث صارت مركز كرسي مفريانية المشرق قروناً عديدة ففي غضون القرن الثاني عشر نقل كرسي المفريانية إليها وبقي حتى سنة 1859 حيث ألغيت الرتبة المفريانية بقرار مجمعي.

([9])ـ هي كنيسة قديمة لا يعرف تاريخ تأسيسها كأغلب الكنائس القديمة في العالم وهي الكنيسة الأولى التي ذكرت بتاريخ الموصل داخل المدينة. والمعروف لدينا من الوجهة التاريخية أنها كانت عامرة في أوائل القرن السابع على عهد مطرانها كريستوفوروس ويذكر التاريخ أنها كانت عامرة زاهرة على عهد الخليفة المهدي (779م). وقد جدد بناء مذبحها الوسطي وبيت المعمودية وبيت القديسين عام 1744 بعد فشل الحصار الذي ضربه نادرشاه على الموصل بعام واحد وذلك على عهد البطريرك شكر اللّـه والمطران جرجس من عائلة القس عبد الجليل، ولا يزال إطار باب المذبح القديم الواقع في ناحية اليسار يعود إلى هذا التاريخ وهو من طراز البناء المعروف بالجليلي، وفي سنة 1838 (أو 1848) بنيت الكنيسة الجديدة في مستوى أعلى من مستوى الكنيسة القديمة ثم نقلت أبواب المذبح القديمة إلى الوراء… تحتوي الكنيسة على أضرحة العديد من الأحبار يرجع تاريخ أقدمها إلى عام 1724م.

([10])ـ هو أحد أعمدة الكنيسة القديمة، وضع في قسمه السفلي رفات اكتشف في الموضع الذي كانت كنيسة مار ثاودورس مشيدة عليه وهذه الكنيسة كانت للتكريتيين وتسمى كنيسة الصليب وقد شيدت في الموصل في باب العراق أو باب تكريت وكانت عامرة سنة 1245 واندثرت عام 1583 واكتشفت بين أطلالها رفات يظن أنه لمار ثيودورس أو أحد الأحبار فنقل إلى كنيسة مار توما، وكذلك اكتشفت معه ثلاث مخطوطات طقسية مهمة يعود تاريخها إلى القرن الثالث عشر وهي فناقيث القيامة (1245م) والصوم (1246م) والدنح محفوظة في كنيسة مار توما.

([11])ـ انظر أيضاً (2مل 19: 34 و2مل 20: 6 و1مل 11: 12 و1مل 11: 13 و32 و34).

([12])ـ راجع (2مل 13: 21 و2: 13و14 وأع 19: 12).

([13])ـ تاريخ الكنيسة السريانية الهندية للمطران سويريوس يعقوب (البطريرك يعقوب الثالث بعدئذ) بيروت 1951 ص20و21 عن ميامر مار يعقوب مج3 ص760.

للأعلى